الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-6-
فاعل في حشو الخبب:
المعروف أن تفعيلة الخبب "فعلن" ليست إلا زحافًا يعتري تفعيلة المتدارك الأصلية "فاعلن". وبتكرار فعلن هذه ينشأ وزن الخبب أو "ركض الخيل" كما يسمونه أحيانًا. والمعروف أيضًا أن العرب لم يستعملوا هذا الوزن إلا نادرًا. ولعل ذلك هو الذي جعل الخليل ينساه فلا يحصيه في بحوره الخمسة عشر، وإنما استدرك به الأخفش وسماه لذلك "المتدارك".
ويتميز هذا الوزن بخفته وسرعة تلاحق أنغامه، كما نرى من نموذجه التالي المشهور:
يا ليل الصب متى غده؟
…
أقيام الساعة موعده
رقد السمار وأرقه
…
أسف للبين يردده
فبكاه النجم ورق له
…
مما يرعاه ويرصده
كلف بغزال ذي هيف
…
خوف الواشين يشرده
نصبت عيناي له شركًا
…
في النوم فعز تصيده
صنم للفتنة منتصب
…
أهواه ولا أتعبده
صاح والخمر جنى فمه
…
سكران اللحظ معربده1
وهذه الخفة وتلك السرعة تجعلانه لا يصلح إلا للأغراض الخفيفة الظريفة، وإلا للأجواء التصويرية التي صح فيها أن يكون النغم غالبًا. وإنما يثبت فيه هذه الصفة ما نراه من تقطع أنغامه، فكأن النغم يقفز من وحدة إلى وحدة. وسبب ذلك أن "فعلن" تتألف من ثلاث حركات متوالية يليها ساكن "وهو ما يسمى بالفاصلة الصغرى" وهذا التوالي الذي يعقبه سكون في كل تفعيلة يُسبغ على الوزن صفته الملحوظة فكأنه يقفز. وذلك هو الذي جعلهم يسمونه "ركض الخيل" أحيانًا.
والظاهر أن الشاعر العربي كان يضيق بهذا التقطع في وزن الخبب فيعمد إلى التخفيف منه بإسكان العين في "فعلن" بين الحين والحين وبذلك يتحول السبب الثقيل إلى سبب خفيف ويزول العناء. وذلك واضح في قصائد الخبب كلها ومنها قصيدة الحصري السابقة:
1 من شعر الحصري القيرواني المتوفى سنة 488هـ.
ينضو من مقلته سيفًا
…
وكأن نعاسًا يغمده
إن في هذا البيت أربع تفعيلات مخففة وأربعًا على الأصل وذلك يكبح جماح الحركة ويخفف منها. فضلًا عن أنه يضيف تنويعًا وتلوينًا إلى تفعيلات البحر الرتيبة.
ثم جاء العصر الحديث فإذا نحن نحدث تنويعًا جديدًا لم يقع فيه أسلافنا. ذلك أننا نحول "فعلن" إلى "فاعل". وليس في الشعراء، فيما أعلم، من يرتكب هذا سواي، بدأت فيه منذ أول قصيدة حرة كتبتها سنة 1947 ومضيت فيه حتى الآن. هذا مثلًا مطلع قصيدتي "لعنة الزمن"1 من الخبب:
كان المغرب لون ذبيح
والأفق كآبة مجروح
ووزن الشطر الأول فيه هو:
فعلن فاعل فاعل فعل
وقد جرت أشطر كثيرة في القصيدة على هذا النسق، خلافًا للقاعدة العروضية في الخبب. وأنا اقر بأنني وقعت في هذا الخروج من غير تعمد. وقد ألفت أن أنظم الشعر بوحي السليقة، لا جريًا على مقياس عروضي، تحملني خلال عملية النظم موجة الصور وللشاعر والمعاني والأنغام، دون أن أستذكر العروض والتفعيلات. وإنما تتدفق المعاني موزونة على ذهني ومن ثم فإن "فاعل" قد تسربت إلى تفعيلاتي "الخببية" وأنا غافلة. وحين انتهيت من القصيدة كان نغمها يبدو لي من الصحة والانثيال الطبيعي بحيث لم أنتبه إلى ما فيه من خروج عن تفعيلة الخبب.
1 قصيدة "لعنة الزمن" من ديوان قرارة الموجة لمؤلفة الكتاب. بيروت 1960.
وسرعان ما احتج علي الدكتور جميل الملائكة1 منبهًا إلى خروجي عن تفعيلة الخبب. وقد أدركت فورًا أنه على حق وأن تفعيلتي دخيلة. وجلست أفكر، مندهشة، في سبب هذا الذي وقع لي. فكيف ولماذا جاز أن تقبل أذني الممرنة خروجًا على الوزن مثل هذا؟
وجاء الجواب بعد قليل من التأمل، وكان جوابًا بسيطًا واضحًا: أن أذني، على ما مر بها من تمرين تقبل هذا الخروج ولا ترى فيه شذوذًا، فليس هو خطأ وقعت فيه، وإنما هو تطوير سرت إليه وأنا غافلة. ومعنى ذلك أن "فاعل" لا تمتنع في بحر الخبب، لأن الأذن العربية تقبلها فيه. وإذن فلماذا لم يقرها العروضيون؟ وهل من حقي أنا أن أثبت تفعيلة جديدة في بحر عربي ضبط منذ عصور طويلة؟
الواقع أنه ليس من حقي، كما أنه ليس من حق أي شاعر أن يفعل ذلك. إنما يقرر القواعد القبول العام. نعم، لقد قرر الخليل قواعد جديدة، غير أن تقريره ذلك لم يكن هو الذي ثبتها، وإنما ثبتت حين قبلها الشعراء المتمكنون والعارفون في عصره. وكذلك لن تثبت تفعيلتي الجديدة إلا إذا لقيت موافقة العروضيين.
والحق أن قليلًا من التأمل في التفعيلتين "فَعِلن" و"فاعلُ" لا بد أن يقودنا إلى أنهما متساويتان من ناحية الزمن تساويًا تامًّا لأن طولهما واحد. وفي وسعنا التأكد من ذلك بأسلوب العروضيين.
ف ع ل ن – ف اع ل
- - - 5 - 5 - -
1 جميل الملائكة، خالي. وقد كان منذ الطفولة صديقي الحميم، فتحنا أعيننا على الشعر وأنغامه وقرأنا العروض معًا، وعشنا صبانا نتبادل قصائد الدعابة وننظم الأهاجي الفكاهية والألغاز والتاريخ والتشطير والتخميس والموشح والدوبيت. وما زلنا حتى الآن نجتمع لنظم القصائد المشتركة بيت منه وبيت مني، وأحيانًا نتبادل رسائل منظومة من أولها إلى آخرها. ولجميل في الشعر ذوق مرهف. وقد نشرت له، منذ سنوات، ترجمة شعرية لطيفة لرباعيات الخيام.
فإن بين أيدينا هنا تفعيلتين تحتوي كل منهما على ثلاثة متحركات وساكن واحد. وإنما الفرق بينهما في مواضع المتحركات والساكن. ويظهر ذلك واضحًا حين نكتب التفعيلتين بلغة الموسيقى:
ومعنى ذلك أن كلتا الوحدتين مكونة من ضربتين قصيرتين وضربة طويلة. وإنما تقع الطويلة في مطلع "فاعلُ" وفي آخر "فعلن".
ومن الناحية الموسيقية يستوي عدد الأجزاء في التفعيلتين فكلاهما يتألف من أربعة أجزاء.
وكل هذا يجعل ورود "فاعلُ" في الخبب سائغًا مقبولًا حتى ليصح، في عقيدتي، أن نكتب قصيدة خببية وزنها كما يلي:
فاعلُ فاعلُ مفتعلن
أقبل فجرك يا وطني
إن الأذن العريبة تقبل هذا، فكيف بها وهو يرد، على وجه التنويع غير وزن الخبب؟
هذا إذن هو السبب الذي جعلني أتمسك بتفعيلتي الدخيلة، والواقع أنني لم أزل أستعملها في حشو الخبب ومنه في آخر قصيدة كتبتها منه:
وعد في شفة الزنبق غطى المرج شذاه
وتألق فجر منبثق فوق مسافات مبهوره
ونسائم تعبر في وديان مسحورهْ
إن شاء الله رؤى أغنية طافحة وندى وصلاهْ
ورأيي أن إقرار ذلك قاعدة في بحر الخبب يضيف سعة وليونة إلى هذا البحر يضيق بفواصله الصغرى كما بيَّنا
والرأي الأخيرة لأغلبية العروضيين والشعراء المتمكنين في الوطن العربي1.
1 أرجو أن يلاحظ القارئ أن "فاعل" بضم اللام في وزن الخبب، "فعلن فعلن فعلن
…
إلخ" حين تقع تعيد هذا الوزن المخبون التفعيلة إلى أصله غير المخبون في المتدارك "فاعلن فاعلن" فكأننا عندما نستعملها نزاوج بين الخبب والمتدارك الأصلي مع حذف النون من "فاعلن" فالتفعيلة الجديدة إذن ليست غريبة تمام الغربة عن وزن الخبب. ومن الممكن إقراراها مع شيء من التجوز نتمنى أن يسامحنا عليه الخليل.