الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(بَابُ الْقِيَاسِ)(وَالِاسْتِحْسَانِ)
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رضي الله عنه: وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ أَمَّا أَحَدُ نَوْعَيْ الْقِيَاسِ فَمَا ضَعُفَ أَثَرُهُ
ــ
[كشف الأسرار]
[بَابُ الِاسْتِحْسَانِ]
(بَابُ بَيَانِ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ) :
الِاسْتِحْسَانُ فِي اللُّغَةِ اسْتِفْعَالٌ مِنْ الْحُسْنِ، وَهُوَ عَدُّ الشَّيْءِ وَاعْتِقَادُهُ حَسَنًا تَقُولُ اسْتَحْسَنْت كَذَا أَيْ اعْتَقَدْته حَسَنًا، وَفِي الِاصْطِلَاحِ مَا سَنُبَيِّنُهُ. قَوْلُهُ:(وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نَوْعَيْنِ) وَلَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ حُجَّةً بِاعْتِبَارِ الْأَثَرِ، وَالْأَثَرُ قَدْ يَكُونُ قَوِيًّا وَغَيْرَ قَوِيٍّ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى وَجْهَيْنِ بِاعْتِبَارِ ضَعْفِ الْأَثَرِ، وَقُوَّتِهِ. وَهَذِهِ تَقْسِيمُ الْقِيَاسِ الَّذِي قَابَلَهُ اسْتِحْسَانٌ مَعْنَوِيٌّ وَتَقْسِيمُ هَذَا الِاسْتِحْسَانِ الْمُعَارِضِ لَا تَقْسِيمُ نَفْسِ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِمَا فَإِنَّ الْقِيَاسَ الْخَالِيَ عَنْ مُعَارَضَةِ الِاسْتِحْسَانِ خَارِجٌ عَنْ هَذَا التَّقْسِيمِ.
وَكَذَا الِاسْتِحْسَانُ الثَّابِتُ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالضَّرُورَةِ خَارِجٌ عَنْهُ أَيْضًا فَكَانَ مَعْنَاهُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مُقَابَلَةِ الْآخَرِ عَلَى وَجْهَيْنِ فَمَا ضَعُفَ أَثَرُهُ أَيْ بِالنِّسْبَةِ إلَى قُوَّةِ أَثَرِ مُقَابِلِهِ، وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ. وَالثَّانِي مَا ظَهَرَ فَسَادُهُ أَيْ ضَعْفُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا ضَعُفَ بِمُقَابَلَةِ الْآخَرِ فَسَدَ.
وَالْمُرَادُ فِي الضَّعْفِ وَالْفَسَادِ هَاهُنَا وَاحِدٌ. وَاسْتَتَرَتْ صِحَّتُهُ، وَأَثَرُهُ أَيْ انْضَمَّ إلَيْهِ مَعْنًى خَفِيٌّ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ فِي التَّحْقِيقِ فَانْدَفَعَ بِهِ فَسَادُ ظَاهِرِهِ وَصَارَ رَاجِحًا عَلَى مُقَابِلِهِ، وَنَوْعَا الِاسْتِحْسَانِ عَلَى عَكْسِ نَوْعَيْ الْقِيَاسِ كَمَا ذَكَرَ.
فَإِنْ قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الْقِيَاسِ اسْتِحْسَانًا لِخَفَاءِ أَثَرِهِ وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الِاسْتِحْسَانِ قِيَاسًا لِظُهُورِ أَثَرِهِ فَإِنَّ الِاسْتِحْسَانَ هُوَ الْقِيَاسُ الْخَفِيُّ لَا الظَّاهِرُ قُلْنَا ظُهُورُ أَثَرِ الِاسْتِحْسَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَى خَفَاءِ فَسَادِهِ، وَلَكِنَّهُ خَفِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَجْهِ الْقِيَاسِ الَّذِي ظَهَرَ فَسَادُهُ كَمَا فِي سَائِرِ صُوَرِ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ أَلَا تَرَى أَنَّ وَجْهَ الِاسْتِحْسَانِ فِي مَسْأَلَةِ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ أَخْفَى، وَأَقْوَى مِنْ وَجْهِ الْقِيَاسِ بِالنَّظَرِ إلَى نَفْسِهِمَا إلَّا أَنَّهُ انْضَمَّ إلَى وَجْهِ الْقِيَاسِ مَعْنًى أَدَقُّ مِنْ وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ فَقَوِيَ بِهِ
وَالنَّوْعُ الثَّانِي مَا ظَهَرَ فَسَادُهُ وَاسْتَتَرَتْ صِحَّتُهُ وَأَثَرُهُ وَأَحَدُ نَوْعَيْ الِاسْتِحْسَانِ مَا قَوِيَ أَثَرُهُ، وَإِنْ كَانَ خَفِيًّا، وَالثَّانِي مَا ظَهَرَ أَثَرُهُ وَخَفِيَ فَسَادُهُ، وَإِنَّمَا الِاسْتِحْسَانُ عِنْدَنَا أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ لَكِنَّهُ يُسَمَّى بِهِ
ــ
[كشف الأسرار]
وَجْهُ الْقِيَاسِ وَضَعُفَ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ وَفَسَدَ. فَبِالنَّظَرِ إلَى وَجْهَيْ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ أَوَّلًا كَانَ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَخْفَى، وَأَقْوَى مِنْ وَجْهِ الْقِيَاسِ فَصَحَّ تَسْمِيَتُهُ اسْتِحْسَانًا كَمَا فِي سَائِرِ صُوَرِ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَعْنَى الْخَفِيِّ اللَّاحِقِ بِالْقِيَاسِ ثَانِيًا كَانَ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَقْوَى فَتَرَجَّحَ وَجْهُ الْقِيَاسِ وَضَعُفَ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ فَهَذَا مَعْنًى دَقِيقٌ يَنْدَفِعُ بِهِ سُؤَالَاتُ الْخُصُومِ فَافْهَمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ الْقَادِحِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ طَعَنَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ رحمهم الله فِي تَرْكِهِمْ الْقِيَاسَ بِالِاسْتِحْسَانِ، وَقَالَ: حُجَجُ الشَّرْعِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ، وَالِاسْتِحْسَانُ قِسْمٌ خَامِسٌ لَمْ يَعْرِفْ أَحَدٌ مِنْ حَمَلَةِ الشَّرْعِ سِوَى أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُ مِنْ دَلَائِلِ الشَّرْعِ، وَلَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ بَلْ هُوَ قَوْلٌ بِالتَّشَهِّي فَكَانَ تَرْكُ الْقِيَاسِ بِهِ تَرْكًا لِلْحُجَّةِ لِاتِّبَاعِ هِيَ أَوْ شَهْوَةِ نَفْسٍ فَكَانَ بَاطِلًا ثُمَّ قَالَ إنَّ الْقِيَاسَ الَّذِي تَرَكُوهُ بِالِاسْتِحْسَانِ إنْ كَانَ حُجَّةً شَرْعِيَّةً فَالْحُجَّةُ الشَّرْعِيَّةُ حَقٌّ، وَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا فَالْبَاطِلُ وَاجِبُ التَّرْكِ، وَمِمَّا لَا يُشْتَغَلُ بِذِكْرِهِ، وَإِنَّهُمْ قَدْ ذَكَرُوا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَنَّا نَأْخُذُ بِالْقِيَاسِ وَنَتْرُكُ الِاسْتِحْسَانَ بِهِ فَكَيْفَ يُجَوِّزُونَ الْأَخْذَ بِالْبَاطِلِ وَالْعَمَلَ بِهِ، وَذَكَرَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ مَا يَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ الْوَرَعِ، وَكَثْرَةِ التَّحَيُّزِ وَالْعَدَاوَةِ.
وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا أَنَّهُ بَالَغَ فِي إنْكَارِ الِاسْتِحْسَانِ، وَقَالَ مَنْ اسْتَحْسَنَ فَقَدْ شَرَّعَ وَكُلُّ ذَلِكَ طَعْنٌ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ، وَقَدْحٌ مِنْ غَيْرِ وُقُوفٍ عَلَى الْمُرَادِ فَأَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله أَجَلُّ قَدْرًا، وَأَشَدُّ وَرَعًا مِنْ أَنْ يَقُولَ فِي الدِّينِ بِالتَّشَهِّي أَوْ عَمِلَ بِمَا اسْتَحْسَنَهُ مِنْ دَلِيلٍ قَامَ عَلَيْهِ شَرْعًا فَالشَّيْخُ رحمه الله عَقَدَ الْبَابَ لِبَيَانِ الْمُرَادِ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ وَالْكَشْفِ عَنْ حَقِيقَتِهِ دَفْعًا لِهَذَا الطَّعْنِ فَقَالَ: بَعْدَمَا قَسَّمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ عَلَى نَوْعَيْنِ، وَإِنَّمَا الِاسْتِحْسَانُ عِنْدَنَا أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ وَاخْتَلَفَ عِبَارَاتُ أَصْحَابِنَا فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي قَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله قَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ الْعُدُولُ عَنْ مُوجِبِ قِيَاسٍ إلَى قِيَاسٍ أَقْوَى مِنْهُ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الشَّيْخُ، وَلَكِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي هَذَا التَّعْرِيفِ الِاسْتِحْسَانُ الثَّابِتُ بِدَلِيلٍ آخَرَ غَيْرِ الْقِيَاسِ مِثْلُ مَا ثَبَتَ بِالْأَثَرِ أَوْ الْإِجْمَاعِ وَالضَّرُورَةِ إلَّا أَنَّ مَقْصُودَ الشَّيْخِ مَا سَنَذْكُرُهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ تَخْصِيصُ قِيَاسٍ بِدَلِيلٍ أَقْوَى مِنْهُ، وَهَذَا اللَّفْظُ، وَإِنْ عَمَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ، وَلَكِنَّهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ، وَإِنَّهُ لَيْسَ بِتَخْصِيصٍ وَعَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ رحمه الله أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ هُوَ أَنْ يَعْدِلَ الْإِنْسَانُ عَنْ أَنْ يَحْكُمَ فِي الْمَسْأَلَةِ بِمِثْلِ مَا حَكَمَ بِهِ فِي نَظَائِرِهَا إلَى خِلَافِهِ لِوَجْهٍ أَقْوَى يَقْتَضِي الْعُدُولَ عَنْ الْأَوَّلِ وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْعُدُولُ عَنْ الْعُمُومِ إلَى التَّخْصِيصِ وَعَنْ الْمَنْسُوخِ إلَى النَّاسِخِ اسْتِحْسَانًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَيَلْزَمُ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ تَرَكْت الِاسْتِحْسَانَ بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ حِينَئِذٍ كَأَنَّهُ، قَالَ تَرَكْت الْقِيَاسَ الْأَقْوَى أَوْ الدَّلِيلَ الْأَقْوَى بِالْأَضْعَفِ، وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَتْرُوكَ سُمِّيَ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنْ الْقِيَاسِ وَحْدَهُ، وَلَكِنْ اتَّصَلَ بِالْقِيَاسِ مَعْنًى آخَرُ صَارَ ذَلِكَ الْمَجْمُوعُ أَقْوَى مِنْ الِاسْتِحْسَانِ فَلِذَلِكَ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ، وَأَخَذَ بِالْقِيَاسِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الِاسْتِحْسَانُ هُوَ الْقِيَاسُ الْخَفِيُّ، وَإِنَّمَا سَمِعَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْأَكْثَرِ الْأَغْلَبِ يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الْقِيَاسِ الظَّاهِرِ فَيَكُونُ الْآخِذُ بِهِ مُسْتَحْسِنًا، وَلَمَّا صَارَ اسْمًا لِهَذَا النَّوْعِ
إشَارَةً إلَى أَنَّهُ الْوَجْهُ الْأَوْلَى فِي الْعَمَلِ بِهِ، وَأَنَّ الْعَمَلَ بِالْآخَرِ جَائِزٌ كَمَا جَازَ الْعَمَلُ بِالطَّرْدِ، وَإِنْ كَانَ الْأَثَرُ أَوْلَى مِنْهُ.
ــ
[كشف الأسرار]
مِنْ الْقِيَاسِ، وَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ ضَعِيفًا أَيْضًا بَقِيَ الِاسْمُ، وَإِنْ صَارَ مَرْجُوحًا فَإِذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله تَرَكْت الِاسْتِحْسَانَ أَرَادَ بِذَلِكَ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ فِيهِ عِلَّةً سِوَى عِلَّةِ الْأَصْلِ أَوْ مَعْنًى آخَرَ يُوجِبُ ذَلِكَ الْحُكْمَ، وَأَنَّ الْأَحَبَّ أَنْ يَذْهَبَ إلَيْهِ لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَتَرَجَّحْ عِنْدِي مَا أَخَذْت بِهِ وَذَكَرَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ إذَا كَانَ أَكْثَرَ تَأْثِيرًا كَانَ اسْتِحْسَانًا تَسْمِيَةً وَمَعْنًى، وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ أَكْثَرَ تَأْثِيرًا كَانَ الِاسْتِحْسَانُ اسْتِحْسَانًا تَسْمِيَةً لَا مَعْنًى، وَالِاسْتِحْسَانُ مَعْنًى هُوَ الْقِيَاسُ.
وَاعْلَمْ أَيْضًا أَنَّ الْمُخَالِفِينَ لَمْ يُنْكِرُوا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله الِاسْتِحْسَانَ بِالْأَثَرِ وَالْإِجْمَاعِ أَوْ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْقِيَاسِ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ مُسْتَحْسَنٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِ الِاسْتِحْسَانَ بِالرَّأْيِ فَإِنَّ تَرْكَ الْقِيَاسِ بِالتَّشَهِّي عَلَى زَعْمٍ فَأَشَارَ الشَّيْخُ إلَى دَفْعِ طَعْنِهِمْ بِقَوْلِهِ إنَّمَا الِاسْتِحْسَانُ أَيْ الِاسْتِحْسَانُ الَّذِي وَقَعَ التَّنَازُعُ فِيهِ عِنْدَنَا أَيْ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ لَا أَنْ يَكُونَ قِسْمًا آخَرَ اخْتَرَعُوهُ بِالتَّشَهِّي مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقِيَاسَيْنِ إذَا تَعَارَضَا فِي حَادِثَةٍ وَجَبَ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ لِيُعْمَلَ بِهِ إذَا أَمْكَنَ لَكِنَّهُ سُمِّيَ بِهِ أَيْ لَكِنَّ أَحَدَ الْقِيَاسَيْنِ سُمِّيَ بِالِاسْتِحْسَانِ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ الْوَجْهُ الْأَوْلَى فِي الْعَمَلِ بِهِ لِتَرَجُّحِهِ عَلَى الْآخَرِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله سَمَّوْهُ اسْتِحْسَانًا لِلتَّمَيُّزِ بَيْنَ الْقِيَاسِ الظَّاهِرِ الَّذِي تَذْهَبُ إلَيْهِ الْأَوْهَامُ، وَبَيْنَ الدَّلِيلِ الْمُعَارِضِ لَهُ، وَهُوَ نَظِيرُ عِبَارَاتِ أَهْلِ الصِّنَاعَاتِ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ الطُّرُقِ لِمَعْرِفَةِ الْمُرَادِ فَإِنَّ أَهْلَ النَّحْوِ يَقُولُونَ هَذَا نَصْبٌ عَلَى التَّفْسِيرِ، وَهَذَا نَصْبٌ عَلَى الظَّرْفِ، وَهَذَا نَصْبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمَعَانِي النَّاصِبَةِ، وَأَهْلُ الْعَرُوضِ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ الْبَحْرِ الطَّوِيلِ، وَهَذَا مِنْ الْبَحْرِ الْمُتَقَارِبِ، وَهَذَا مِنْ الْبَحْرِ الْمَدِيدِ فَكَذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا اسْتَعْمَلُوا عِبَارَةَ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ وَخَصَّصُوا أَحَدَهُمَا بِالِاسْتِحْسَانِ لِكَوْنِ الْعَمَلِ بِهِ مُسْتَحْسَنًا، وَلِكَوْنِهِ مَائِلًا عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ الظَّاهِرِ فَسَمَّوْهُ بِهَذَا الِاسْمِ لِوُجُودِ مَعْنَى الِاسْمِ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا اسْمٌ لِلدُّعَاءِ ثُمَّ أُطْلِقَتْ عَلَى الْعِبَادَةِ الْمَعْهُودَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ الدُّعَاءِ عَادَةً.
فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَقْصُودَ الشَّيْخِ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ دَفْعُ الطَّعْنِ، وَإِبَانَةُ الْمُرَادِ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ لَا تَعْرِيفُ الِاسْتِحْسَانِ عَلَى وَجْهٍ يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ أَقْسَامِهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ كَلَامِهِ فَإِنَّهُ قَالَ: وَإِنَّمَا غَرَضُنَا هَاهُنَا أَيْ فِي هَذَا الْبَابِ تَقْسِيمُ وُجُوهِ الْعِلَلِ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ لَا بَيَانُ جَمِيعِ أَقْسَامِ الِاسْتِحْسَانِ. قَوْلُهُ: (إنَّهُ الْوَجْهُ الْأَوْلَى فِي الْعَمَلِ) ظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يُوهِمُ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ الَّذِي عَارَضَهُ اسْتِحْسَانٌ جَائِزٌ لَكِنَّ الْعَمَلَ بِالِاسْتِحْسَانِ أَوْلَى، وَأَنَّ الْعَمَلَ بِالطَّرْدِ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ الْأَثَرُ أَيْ الْعَمَلُ بِالْمُؤَثِّرِ أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِالطَّرْدِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ رحمه الله ذَكَرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا ظَنَّ أَنَّ الْعَمَلَ بِالِاسْتِحْسَانِ أَوْلَى مَعَ جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ فِي مَوْضِعِ الِاسْتِحْسَانِ وَشَبَّهَ ذَلِكَ بِالطَّرْدِ مَعَ الْمُؤَثِّرِ، وَقَالَ الْعَمَلُ بِالْمُؤَثِّرِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ بِالطَّرْدِ جَائِزًا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ، وَهَذَا وَهْمٌ عِنْدِي فَإِنَّ اللَّفْظَ الْمَذْكُورَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ، وَالْمَتْرُوكُ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ وَرُبَّمَا قِيلَ إلَّا أَنِّي أَسْتَقْبِحُ ذَلِكَ، وَمَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ مِنْ الدَّلِيلِ شَرْعًا فَاسْتِقْبَاحُهُ يَكُونُ كُفْرًا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْقِيَاسَ مَتْرُوكٌ فِي مُعَارَضَةِ الِاسْتِحْسَانِ أَصْلًا، وَأَنَّ الْأَضْعَفَ يَسْقُطُ فِي مُقَابَلَةِ الْأَقْوَى. وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ بَعْدَهُ بِأَسْطُرٍ مَا يُوَافِقُ هَذَا حَيْثُ قَالَ فَسَقَطَ حُكْمُ الْقِيَاسِ بِمُعَارَضَةِ الِاسْتِحْسَانِ لِعَدَمِهِ فِي التَّقْدِيرِ، وَقَالَ فَصَارَ هَذَا بَاطِنًا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ الظَّاهِرُ فِي مُقَابَلَتِهِ فَسَقَطَ حُكْمُ الظَّاهِرِ لِعَدَمِهِ