المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَقَّ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ وَاحِدٌ أَوْ مُتَعَدِّدٌ فَعِنْدَنَا - كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي - جـ ٤

[علاء الدين عبد العزيز البخاري - فخر الإسلام البزدوي]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ الِاسْتِحْسَانِ]

- ‌[أَقْسَامُ الِاسْتِحْسَانِ]

- ‌[بَابُ أَحْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الِاجْتِهَادِ وَالْكَلَامُ فِي شَرْطِهِ وَحُكْمِهِ]

- ‌[شَرْطُ الِاجْتِهَادِ]

- ‌[حُكْمُ الِاجْتِهَاد]

- ‌(بَابُ فَسَادِ تَخْصِيصِ الْعِلَلِ)

- ‌(بَابُ وُجُوهِ دَفْعِ الْعِلَلِ)

- ‌[أَقْسَام الْعِلَل]

- ‌[الْعِلَل الْمُؤْثَرَة وَطُرُق دُفَعهَا]

- ‌[دَفْعِ الْعِلَل الْمُؤْثَرَة بِطَرِيقِ فاسد وَطَرِيق صَحِيح]

- ‌(بَابُ الْمُمَانَعَةِ)

- ‌بَابُ الْمُعَارَضَةِ)

- ‌[النَّوْعُ الْأَوَّلِ الْمُعَارَضَةُ الَّتِي فِيهَا مُنَاقَضَةٌ]

- ‌[النَّوْعُ الثَّانِي الْمُعَارَضَة الْخَالِصَة]

- ‌بَابُ بَيَانِ وُجُوهِ دَفْعِ الْمُنَاقَضَةِ) :

- ‌بَابُ التَّرْجِيحِ) :

- ‌[الْقِسْمُ الْأَوَّل تَفْسِيرِ التَّرْجِيحِ وَمَعْنَاهُ]

- ‌[الْقِسْمُ الثَّانِي التَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ الْأَثَرِ]

- ‌[الْقِسْمُ الثَّالِثُ بَيَانُ الْمُخَلِّصِ فِي تَعَارُضِ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ]

- ‌[الْقِسْمُ الرَّابِعِ بَيَانُ الْفَاسِدِ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ تَرْجِيحُ الْقِيَاسِ بِقِيَاسٍ آخَرَ]

- ‌(بَابُ وُجُوهِ دَفْعِ الْعِلَلِ الطَّرْدِيَّةِ)

- ‌ الْقَوْلُ بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ

- ‌ الْمُمَانَعَةُ

- ‌ فَسَادُ الْوَضْعِ

- ‌ الْمُنَاقَضَةُ

- ‌ بَابُ وُجُوهِ الِانْتِقَالِ) :

- ‌بَابُ مَعْرِفَةِ أَقْسَامِ الْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ وَالشُّرُوطِ

- ‌(بَابُ تَقْسِيمِ السَّبَبِ)

- ‌بَابُ تَقْسِيمِ الْعِلَّةِ)

- ‌(بَابُ تَقْسِيمِ الشَّرْطِ)

- ‌بَابُ تَقْسِيمِ الْعَلَامَةِ) :

- ‌(بَابُ بَيَانِ الْعَقْلِ) :

- ‌(بَابُ بَيَانِ الْأَهْلِيَّةِ) :

- ‌[أضرب الْأَهْلِيَّة]

- ‌(بَابُ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ)

- ‌(بَابُ الْأُمُورِ الْمُعْتَرِضَةِ عَلَى الْأَهْلِيَّةِ) :

- ‌بَابُ الْعَوَارِضِ) (الْمُكْتَسَبَةِ) :وَهِيَ نَوْعَانِ

- ‌[النَّوْع الْأَوَّل مِنْ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ]

- ‌جَهْلُ صَاحِبِ الْهَوَى فِي صِفَاتِ اللَّهِ عز وجل وَأَحْكَامِ الْآخِرَةِ

- ‌ الْجَهْلُ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ الصَّحِيحِ أَوْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ

- ‌ الْجَهْلُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ مُسْلِمٍ لَمْ يُهَاجِرْ

- ‌[فَصْلٌ السُّكْر قسمان] [

- ‌الْقَسْم الْأَوَّل السُّكْر بِطَرِيقِ مُبَاح]

- ‌[الْقَسْم الثَّانِي السُّكْر بِطَرِيقِ غَيْر مُبَاح]

- ‌[فَصْلُ الْهَزْلِ مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ]

- ‌[السَّفَه مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ]

- ‌[السَّفَر مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ]

- ‌[الْخَطَأُ مِنْ الْعَوَارِض الْمُكْتَسِبَة]

الفصل: فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَقَّ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ وَاحِدٌ أَوْ مُتَعَدِّدٌ فَعِنْدَنَا

فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَقَّ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ وَاحِدٌ أَوْ مُتَعَدِّدٌ فَعِنْدَنَا الْحَقُّ وَاحِدٌ

ــ

[كشف الأسرار]

إنَّمَا يَحْصُلُ مَنْصِبُ الِاجْتِهَادِ فِي زَمَانِنَا بِمُمَارَسَتِهَا فَهِيَ طَرِيقُ تَحْصِيلِ الدِّرَايَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَلَمْ يَكُنْ الطَّرِيقُ فِي زَمَانِ الصَّحَابَةِ ذَلِكَ وَيُمْكِنُ الْآنَ سُلُوكُ طَرِيقِ الصَّحَابَةِ أَيْضًا. وَاعْلَمْ أَنَّ اجْتِمَاعَ هَذِهِ الْعُلُومِ إنَّمَا يُشْتَرَطُ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ الَّذِي يُفْتِي فِي جَمِيعِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَلَيْسَ الِاجْتِهَادُ عِنْدَ الْعَامَّةِ مَنْصِبًا لَا يَتَجَزَّأُ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَفُوزَ الْعَالِمُ بِمَنْصِبِ الِاجْتِهَادِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ دُونَ بَعْضٍ. فَمَنْ عَرَفَ طَرَفَ النَّظَرِ فِي الْقِيَاسِ فَلَهُ أَنْ يُفْتِيَ فِي مَسْأَلَةٍ قِيَاسِيَّةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَاهِرًا فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ. وَمَنْ نَظَرَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُشْتَرَكَةِ أَوْ مَسْأَلَةِ الْعَوْلِ يَكْفِيهِ أَنْ يَكُونَ فَقِيهَ النَّفْسِ عَارِفًا بِأُصُولِ الْفَرَائِضِ وَمَعَانِيهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَصَّلَ الْأَخْبَارَ الَّتِي وَرَدَتْ فِي بَابِ الرِّبَا وَالْبُيُوعِ فَلَا اسْتِمْدَادَ لِنَظَرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْهَا، وَلَا تَعَلُّقَ لِتِلْكَ الْأَحَادِيثِ بِهَا فَمِنْ أَيْنَ تَضُرُّ الْغَفْلَةُ عَنْهَا وَالْقُصُورُ عَنْ مَعْرِفَتِهَا.

وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْمُفْتِي أَنْ يُجِيبَ عَنْ كُلِّ مَسْأَلَةٍ بِجَوَابٍ فَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ رحمه الله عَنْ أَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً فَقَالَ فِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ لَا أَدْرِي وَتَوَقَّفَتْ الصَّحَابَةُ وَعَامَّةُ الْمُجْتَهِدِينَ رضي الله عنهم فِي الْمَسَائِلِ. فَإِذَنْ لَا يُشْتَرَطُ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِيمَا يُفْتِي فَيُفْتِي فِيمَا يَدْرِي وَيَدْرِي أَنَّهُ يَدْرِي وَيُمَيِّزُ بَيْنَ مَا يَدْرِي وَبَيْنَ مَا لَا يَدْرِي فَيَتَوَقَّفُ فِيمَا لَا يَدْرِي وَيُفْتِي فِيمَا يَدْرِي. هَذَا كُلُّهُ مِنْ كَلَامِهِ.

[حُكْمُ الِاجْتِهَاد]

قَوْلُهُ: (فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَقَّ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ وَاحِدٌ) أَرَادَ بِمَوْضِعِ الْخِلَافِ الْمَسَائِلَ الَّتِي اخْتَلَفُوا فِيهَا، وَكَلَّمُوا بِالِاجْتِهَادِ يَعْنِي مَحَلَّ النِّزَاعِ الْحَوَادِثُ الْفِقْهِيَّةُ الْمُجْتَهَدُ فِيهَا لَا الْمَسَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ الَّتِي هِيَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ فَإِنَّ الْحَقَّ فِيهَا وَاحِدٌ بِالْإِجْمَاعِ وَالْمُخْطِئُ فِيهَا كَافِرٌ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ إنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس. وَمُضَلَّلٌ مُبْتَدِعٌ إنْ لَمْ يَكُنْ كَأَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وَذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ الْعَنْبَرِيُّ إلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِي الْمَسَائِلِ الْكَلَامِيَّةِ الَّتِي لَا يَلْزَمُ مِنْهَا كُفْرٌ كَمَسْأَلَةِ خَلْقِ الْقُرْآنِ وَالْإِرَادَةِ وَخَلْقِ الْأَفْعَالِ مُصِيبٌ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّ مَا اعْتَقَدَهُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي الْمَسَائِلِ الْكَلَامِيَّةِ مُطَابِقٌ لِلْحَقِّ إذْ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقًا وَغَيْرَ مَخْلُوقٍ وَالْمَعَاصِي دَاخِلَةٌ تَحْتَ إرَادَةِ اللَّهِ وَخَارِجَةٌ عَنْ إرَادَتِهِ، وَالرُّؤْيَةُ مُمْكِنَةٌ وَغَيْرُ مُمْكِنَةٍ، وَفَسَادُ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ نَفْيَ الْإِثْمِ وَالْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ. وَزَادَ الْجَاحِظُ أَنَّ مُخَالِفَ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس إنْ نَظَرَ فَعَجَزَ عَنْ دَرْكِ الْحَقِّ فَهُوَ مَعْذُورٌ غَيْرُ آثِمٍ، وَإِنْ لَمْ يَنْظُرْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ وُجُوبَ النَّظَرِ فَهُوَ مَعْذُورٌ أَيْضًا، وَإِنْ عَانَدَ عَلَى خِلَافِ اعْتِقَادِهِ فَهُوَ آثِمٌ مُعَذَّبٌ، وَاحْتَجَّا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا، وَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ، وَأَهْلُ الْأَهْوَاءِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ قَدْ عَجَزُوا عَنْ دَرْكِ الْحَقِّ، وَلَازَمُوا عَقَائِدَهُمْ خَوْفًا مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إذَا انْسَدَّ عَلَيْهِمْ طَرِيقُ الْمَعْرِفَةِ فَلَا يَلِيقُ بِكَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ تَعْذِيبُهُمْ عَلَى مَا لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ وَلِهَذَا كَانَ الْإِثْمُ مُرْتَفِعًا عَنْ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.

قَالَ الْعَنْبَرِيُّ الْآيَاتُ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ مُتَشَابِهَةٌ، وَأَدِلَّةُ الشَّرْعِ فِيهَا مُتَعَارِضَةٌ وَكُلُّ فَرِيقٍ ذَهَبَ إلَى أَنَّ آرَاءَهُ أَوْفَقُ بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَلَامِ رَسُولِهِ، وَأَلْيَقُ بِعَظَمَةِ اللَّهِ، وَإِثْبَاتِ دِينِهِ فَكَانُوا مَعْذُورِينَ. وَكَانَ يَقُولُ فِي مُثْبِتِي الْقَدَرِ هَؤُلَاءِ عَظَّمُوا اللَّهَ، وَفِي نُفَاةِ الْقَدَرِ هَؤُلَاءِ نَزَّهُوا اللَّهَ. وَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ بِأَدِلَّةٍ سَمْعِيَّةٍ ضَرُورِيَّةٍ فَإِنَّا كَمَا نَعْلَمُ أَنَّ الرَّسُولَ عليه السلام أَمَرَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ نَعْلَمُ ضَرُورَةً أَنَّهُ أَمَرَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالْإِيمَانِ بِهِ وَاتِّبَاعِهِ وَذَمَّهُمْ

ص: 17

وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ، وَهُمْ الْمُعْتَزِلَةُ: الْحُقُوقُ مُتَعَدِّدَةٌ وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فِيمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ثُمَّ اخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِالْحُقُوقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِاسْتِوَائِهَا فِي الْمَنْزِلَةِ، وَقَالَ عَامَّتُهُمْ: بَلْ وَاحِدٌ مِنْ الْجُمْلَةِ أَحَقُّ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الصَّحِيحَةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا أَخْطَأَ كَانَ مُخْطِئًا ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ هُوَ مُصِيبٌ فِي ابْتِدَاءِ اجْتِهَادِهِ لَكِنَّهُ مُخْطِئٌ انْتِهَاءً فِيمَا طَلَبَهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ الْآخَرُ هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَالْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدٌ، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ مَا قُلْنَا

ــ

[كشف الأسرار]

عَلَى إصْرَارِهِمْ عَلَى عَقَائِدِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَاتَلَ جَمِيعَهُمْ، وَكَانَ يَكْشِفُ عَنْ عَوْرَةِ مَنْ بَلَغَ مِنْهُمْ لِيَقْتُلَهُ وَيُعَذِّبَهُ وَنَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ الْمُعَانِدَ الْعَارِفَ مِمَّا يَقِلُّ، وَإِنَّمَا الْأَكْثَرُ مُقَلِّدُهُ اعْتَقَدُوا دِينَ آبَائِهِمْ، وَلَمْ يَعْرِفُوا مُعْجِزَةَ الرَّسُولِ وَصِدْقَهُ. وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا مِمَّا لَا يُحْصَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [ص: 27] {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [ص: 27]{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت: 23]{إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24]{وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} [المجادلة: 18]{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10] وَعَلَى الْجُمْلَةِ ذَمُّ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ الْكُفَّارِ مِمَّا لَا يَنْحَصِرُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقَوْلُهُمْ إنَّهُ تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ أَقْدَرُهُمْ عَلَى إصَابَةِ الْحَقِّ بِمَا رَزَقَهُمْ مِنْ الْعَقْلِ وَنَصَبَ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَبَعَثَ مِنْ الرُّسُلِ الْمُؤَيَّدِينَ بِالْمُعْجِزَاتِ الَّذِينَ نَبَّهُوا الْغُفُولَ وَحَرَّكُوا دَوَاعِيَ النَّظَرِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ.، وَمَا قَالَهُ الْعَنْبَرِيُّ يَبْطُلُ بِإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ قَبْلَ حُدُوثِ الْمُخَالِفِينَ عَلَى ذَمِّ الْمُبْتَدِعَةِ، وَمُهَاجَرَتِهِمْ، وَقَطْعِ الصُّحْبَةِ مَعَهُمْ وَتَشْدِيدِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ مَعَ تَرْكِ التَّشْدِيدِ عَلَى الْمُخْتَلِفِينَ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ. وَرَفْعِ الْإِثْمِ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ الْفِقْهِيَّةِ إنَّمَا كَانَ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ مِنْهَا هُوَ الظَّنُّ بِهَا، وَقَدْ حَصَلَ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ هُوَ الْعِلْمُ، وَلَمْ يَحْصُلْ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَدِلَّةَ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ وَكُلَّ مَا كَانَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ ظَاهِرَةٌ مُتَوَافِرَةٌ فَلَا يُعْذَرُ أَحَدٌ فِيهَا بِالْجَهْلِ وَالْغَفْلَةِ.

1 -

قَوْلُهُ: (وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ) إلَى آخِرِهِ. اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَكُونُ لِلَّهِ تَعَالَى حُكْمٌ مُعَيَّنٌ فِي الْمَسْأَلَةِ الِاجْتِهَادِيَّةِ قَبْلَ الِاجْتِهَادِ أَمْ لَا. فَذَهَبَ كُلُّ مَنْ قَالَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ مِثْلُ عَامَّةِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيِّ وَالْغَزَالِيِّ وَالْمُزَنِيِّ وَبَعْضِ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَكَثِيرٍ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ كَأَبِي هُذَيْلٍ وَالْجُبَّائِيِّ، وَأَبِي هَاشِمٍ، وَأَتْبَاعِهِمْ إلَى أَنَّهُ لَا حُكْمَ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهَا قَبْلَ الِاجْتِهَادِ بَلْ الْحُكْمُ فِيهَا تَابِعٌ لِظَنِّ الْمُجْتَهِدِ حَتَّى كَانَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّ كُلِّ مُجْتَهِدٍ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِتَعَدُّدِ الْحُقُوقِ، وَهَؤُلَاءِ يُسَمَّوْنَ الْمُصَوِّبَةَ.

وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حُكْمٌ مُتَعَيَّنٌ فِي الْحَادِثَةِ قَدْ وُجِدَ مِنْهَا مَا لَوْ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا بِحُكْمٍ لَمَّا حَكَمَ إلَّا بِهِ، وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ بِالْأَشْبَهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ بَلْ وَاحِدٌ مِنْ الْجُمْلَةِ أَحَقُّ. وَفَسَّرَ الْغَزَالِيُّ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْحَادِثَةِ حُكْمًا مُعَيَّنًا عِنْدَهُمْ إلَيْهِ يَتَوَجَّهُ الطَّلَبُ إذْ لَا بُدَّ لِلطَّلَبِ مِنْ مَطْلُوبٍ لَكِنْ لَمْ يُكَلَّفْ الْمُجْتَهِدُ إصَابَتَهُ فَلِذَلِكَ كَانَ مُصِيبًا، وَإِنْ أَخْطَأَ ذَلِكَ الْحُكْمَ الَّذِي لَمْ يُؤْمَرْ بِإِصَابَتِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ أَتَى مَا كُلِّفَ بِهِ فَأَصَابَ مَا عَلَيْهِ. وَذَهَبَ كُلُّ مَنْ قَالَ الْمُجْتَهِدُ يُخْطِئُ أَوْ يُصِيبُ مِثْلُ أَصْحَابِنَا وَعَامَّةِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَبَعْضِ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ الْحَدِيثِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ وَالْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيِّ وَعَبْدِ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَإِلَيْهِمْ أَشَارَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ: وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الصَّحِيحَةِ إلَى أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى حُكْمًا مُعَيَّنًا فِي الْحَادِثَةِ الْمُجْتَهَدِ فِيهَا. ثُمَّ اخْتَلَفُوا عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ لَيْسَ عَلَى الْحُكْمِ دَلِيلٌ، وَإِنَّمَا هُوَ مِثْلُ دَفِينٍ يَعْثِرُ الطَّالِبُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الِاتِّفَاقِ فَلِمَنْ عَثَرَ عَلَيْهِ أَجْرَانِ وَلِمَنْ اجْتَهَدَ، وَلَمْ يَعْثِرْ أَجْرٌ وَاحِدٌ لِأَجْلِ سَعْيِهِ وَطَلَبِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ عَلَيْهِ دَلِيلٌ ظَنِّيٌّ إلَّا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَمْ يُكَلَّفْ بِإِصَابَتِهِ لِخَفَائِهِ وَغُمُوضِهِ فَلِذَلِكَ كَانَ مَعْذُورًا وَمَأْجُورًا، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ إلَى أَنَّ عَلَيْهِ دَلِيلًا ظَنِّيًّا أُمِرَ الْمُجْتَهِدُ بِطَلَبِهِ فَإِذَا أَخْطَأَ لَمْ يَكُنْ مَأْجُورًا لَكِنْ حُطَّ عَنْهُ الْإِثْمُ تَخْفِيفًا

ص: 18

احْتَجَّ مَنْ ادَّعَى الْحُقُوقَ بِأَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ جَمِيعًا لَمَّا كُلِّفُوا إصَابَةَ الْحَقِّ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ عَلَى مَا فِي وُسْعِهِمْ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ الْحَقُّ مُتَعَدِّدًا وَجَبَ الْقَوْلُ بِتَعَدُّدِهِ تَحْقِيقًا لِشَرْطِ التَّكْلِيفِ كَمَا قِيلَ فِي الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْقِبْلَةِ إنَّهُمْ جُعِلُوا مُصِيبِينَ حَتَّى تَأَدَّى الْفَرْضُ عَنْهُمْ جَمِيعًا وَلَا يَتَأَدَّى الْفَرْضُ عَنْهُمْ إلَّا بِإِصَابَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ مَعَ إحَاطَةِ الْعِلْمِ بِخَطَأِ مَنْ اسْتَدْبَرَ الْكَعْبَةَ وَجَائِزٌ تَعَدُّدُ الْحُقُوقِ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ كَمَا صَحَّ ذَلِكَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الرُّسُلِ وَعَلَى اخْتِلَافِ الزَّمَانِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُكَلَّفِينَ، وَمَنْ قَالَ بِاسْتِوَاءِ الْحُقُوقِ قَالَ: لِأَنَّ دَلِيلَ التَّعَدُّدِ لَمْ يُوجِبْ التَّفَاوُتَ

ــ

[كشف الأسرار]

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إنَّ عَلَيْهِ دَلِيلًا قَطْعِيًّا أُمِرَ الْمُجْتَهِدُ بِطَلَبِهِ فَإِذَا أَخْطَأَ لَا يَصِحُّ عَمَلُهُ وَيَنْقُضُ قَضَاءُ الْقَاضِي فِيهِ، وَلَكِنْ يَحُطُّ عَنْهُ الْإِثْمَ لِغُمُوضِ الدَّلِيلِ وَخَفَائِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ وَابْنِ عُلَيَّةَ، وَإِلَيْهِ مَالَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ. وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ مَالَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيِّ إلَّا أَنَّهُ قَالَ الْمُخْطِئُ فِيهِ آثِمٌ غَيْرُ مَعْذُورٍ كَمَا فِي سَائِرِ الْقَطْعِيَّاتِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْخَامِسُ هَذَا تَفْصِيلُ الْمَذَاهِبِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي عَامَّةِ نُسَخِ الْأُصُولِ فَالشَّيْخُ بِقَوْلِهِ إذَا أَخْطَأَ كَانَ مُخْطِئًا ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً يَعْنِي كَانَ مُخْطِئًا فِي اجْتِهَادِهِ، وَمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ أَشَارَ إلَى الْقَوْلِ الرَّابِعِ. وَبِقَوْلِهِ هُوَ مُصِيبٌ فِي ابْتِدَاءِ اجْتِهَادِهِ يَعْنِي فِي نَفْسِ الِاجْتِهَادِ، وَلَكِنَّهُ مُخْطِئٌ فِيمَا طَلَبَهُ، وَهُوَ الْحُكْمُ فِي الْحَادِثَةِ أَشَارَ إلَى الْقَوْلِ الثَّانِي وَاخْتَارَهُ.

قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ رحمه الله قَالَ قَوْمٌ إذَا لَمْ يُصِبْ الْمُجْتَهِدُ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ مُخْطِئًا ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً حَتَّى أَنَّ عَمَلَهُ لَا يَصِحُّ، وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا كَانَ مُخْطِئًا لِلْحَقِّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مُصِيبًا فِي حَقِّ عَمَلِهِ حَتَّى أَنَّ عَمَلَهُ بِهِ يَقَعُ صَحِيحًا شَرْعًا كَأَنَّهُ أَصَابَ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ بَلَغَنَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ قَالَ لِيُوسُفَ بْنِ خَالِدٍ السَّمْتِيِّ وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَالْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ فَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِي أَخْطَأَ مَا عِنْدَ اللَّهِ مُصِيبٌ فِي حَقِّ عَمَلِهِ. ثُمَّ قَالَ فَصَارَ قَوْلُنَا هَذَا الْقَوْلُ الْوَسَطُ بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالتَّقْصِيرِ.

قَوْلُهُ: (احْتَجَّ مَنْ ادَّعَى الْحُقُوقَ) وَهُمْ الْمُصَوِّبَةُ بِأَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ قَدْ كُلِّفُوا إصَابَةَ الْحَقِّ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا كُلِّفُوا الْفَتْوَى بِغَالِبِ الرَّأْيِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] كَانَ ذَلِكَ تَكْلِيفًا بِإِصَابَةِ الْحَقِّ إذْ لَيْسَ بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ، وَالشَّرْعُ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يُكَلِّفَ بِالضَّلَالِ وَالْخَطَأِ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ فِي تَكْلِيفِهِمْ بِالْفَتْوَى بِغَالِبِ الرَّأْيِ مُكَلَّفُونَ بِإِصَابَةِ الْحَقِّ. وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ أَيْ التَّكْلِيفُ بِالْإِصَابَةِ بِالنَّظَرِ إلَى وُسْعِهِمْ إلَّا بِأَنْ يُجْعَلَ الْحَقُّ مُتَعَدِّدًا إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّدًا، وَكَانَ وَاحِدًا لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِ كُلِّ وَاحِدٍ إصَابَتُهُ لِغُمُوضِ طَرِيقِهِ وَخَفَاءِ دَلِيلِهِ فَكَانَ التَّكْلِيفُ بِالْإِصَابَةِ حِينَئِذٍ تَكْلِيفَ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ الْقَوْلُ بِتَعَدُّدِ الْحَقِّ. تَحْقِيقًا بِشَرْطِ التَّكْلِيفِ بِإِصَابَةِ الْحَقِّ أَوْ الْقُدْرَةُ عَلَيْهَا تَثْبُتُ بِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّكْلِيفُ بِدُونِهِ. كَمَا قِيلَ فِي الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْقِبْلَةِ إنَّهُمْ جُعِلُوا مُصِيبِينَ لِلْقِبْلَةِ حَالَةَ الِاشْتِبَاهِ وَجُعِلَتْ الْجِهَاتُ كُلُّهَا قِبْلَةً فِي حَقِّهِمْ عَلَى مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] حَتَّى لَوْ صَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ إلَى جِهَةٍ تَأَدَّى عَنْهُمْ الْفَرْضُ جَمِيعًا. وَلَا يَتَأَدَّى الْفَرْضُ عَنْهُمْ أَيْ لَا يَسْقُطُ إلَّا بِإِصَابَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَهُوَ التَّوَجُّهُ إلَى الْكَعْبَةِ فَلَوْ لَمْ يَصِرْ كُلُّ الْجِهَاتِ بِمَنْزِلَةِ الْكَعْبَةِ فِي حَقِّهِمْ لَمَا تَأَدَّى فَرْضُ مَنْ اسْتَدْبَرَ الْكَعْبَةَ مِنْهُمْ لِظُهُورِ خَطَئِهِ بِيَقِينٍ، وَإِنَّمَا عَيَّنَ هَذَا الْوَجْهَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَتَوَجَّهُ إلَى الْكَعْبَةِ بِوَجْهٍ فَكَانَ خَطَؤُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَأَمَّا مَنْ وَقَعَ يَمِينُهُ أَوْ يَسَارُهُ إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ فِي تَحَرِّيهِ فَلَيْسَ بِمُخْطِئٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِوُجُودِ تَوَجُّهِ الْكَعْبَةِ مِنْهُ بِجُزْءٍ مِنْ وَجْهِهِ، وَهُوَ الْعِذَارُ وَلِهَذَا أَمَرَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله بِإِعَادَةِ صَلَاةِ مَنْ اسْتَدْبَرَ الْكَعْبَةَ فِي تَحَرِّيهِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِإِعَادَةِ صَلَاةِ مَنْ تَوَجَّهَ إلَى جِهَةٍ أُخْرَى. وَقَوْلُهُ وَجَائِزٌ تَعَدُّدُ الْحُقُوقِ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ يَرِدُ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ أَنَّ الْقَوْلَ بِتَعَدُّدِ الْحُقُوقِ يُؤَدِّي إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُتَنَافِيَيْنِ، وَهُمَا الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ وَالصِّحَّةُ وَالْفَسَادُ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ إذْ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا حَلَالًا وَحَرَامًا، وَقَلِيلُ النَّبِيذِ حَلَالًا وَحَرَامًا، وَالنِّكَاحُ الْأَوْلَى صَحِيحًا

ص: 19

وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ اسْتِوَاءَهَا يَقْطَعُ التَّكْلِيفَ؛ لِأَنَّهَا إذَا اسْتَوَتْ أُصِيبَتْ بِمُجَرَّدِ الِاخْتِيَارِ مِنْ غَيْرِ امْتِحَانٍ وَسَقَطَتْ دَرَجَةُ الْعُلَمَاءِ وَبَطَلَتْ الدَّعْوَةُ وَسَقَطَتْ وُجُوهُ النَّظَرِ أَلَا تَرَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي اخْتِيَارِ وُجُوهِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بَاطِلٌ، وَأَنَّ اخْتِيَارَهُ بِمُجَرَّدِ الْعَزِيمَةِ صَحِيحٌ بِلَا تَأَمُّلٍ فَلِذَلِكَ وَجَبَ الْقَوْلُ بِأَنَّ بَعْضَهَا أَحَقُّ وَوَجْهُ قَوْلِنَا: إنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُصِيبُ مَرَّةً وَيُخْطِئُ أُخْرَى

ــ

[كشف الأسرار]

وَفَاسِدًا وَذَلِكَ مُحَالٌ.

فَقَالَ وَجَائِزٌ تَعَدُّدُ الْحُقُوقِ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ يَعْنِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ مُتَعَدِّدًا بِأَنْ كَانَ الْحَظْرُ حَقًّا وَالْإِبَاحَةُ حَقًّا أَيْضًا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ. عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى التَّعَدُّدِ. كَمَا صَحَّ ذَلِكَ أَيْ التَّعَدُّدُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الرُّسُلِ بِأَنْ بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَيْنِ فِي قَوْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ عَلَى اقْتِصَارِ رِسَالَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى قَوْمِهِ. وَعَلَى اخْتِلَافِ الزَّمَانِ كَمَا إذَا نُسِخَ الْحَظْرُ بِالْإِبَاحَةِ بِالْحَظْرِ فِي شَرِيعَةِ رَسُولٍ وَاحِدٍ فِي زَمَانَيْنِ. فَكَذَلِكَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُكَلَّفِينَ أَيْ فَكَمَا جَازَ التَّعَدُّدُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ جَازَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُكَلَّفِينَ فَيَثْبُتُ الْحَظْرُ فِي حَقِّ شَخْصٍ وَالْإِبَاحَةُ فِي حَقِّ آخَرَ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَيْتَةَ أُبِيحَتْ فِي حَقِّ الْمُضْطَرِّ وَحَرُمَتْ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَالْمَنْكُوحَةَ أُحِلَّتْ لِلزَّوْجِ وَحَرُمَتْ عَلَى غَيْرِهِ. وَالْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا حَرُمَتْ عَلَى الزَّوْجِ وَأُحِلَّتْ لِغَيْرِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ إبَاحَةُ النَّبِيذِ فِي حَقِّ مُجْتَهِدٍ وَحُرْمَتُهُ فِي حَقِّ آخَرَ وَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقًّا وَيَلْزَمُ قَوْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اتِّبَاعُ إمَامِهِ كَمَا فِي الرَّسُولَيْنِ. وَهَذَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ابْتَلَى عِبَادَهُ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ لِيَمْتَازَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ، وَقَدْ يَخْتَلِفُ الِابْتِلَاءُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فَيَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ الطَّبَقَاتِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ دَلِيلَ التَّعَدُّدِ، وَهُوَ التَّكْلِيفُ بِإِصَابَةِ الْحَقِّ لِلْكُلِّ لَمْ يُوجِبْ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْحُقُوقِ بَلْ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُ كُلِّ مُجْتَهِدٍ حَقًّا فِي حَقِّهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ تَرْجِيحُ الْبَعْضِ بِلَا مُرَجِّحٍ.

قَوْلُهُ: (وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ) وَهُوَ أَنَّ وَاحِدًا مِنْ الْجُمْلَةِ أَحَقُّ، وَهُوَ الْقَوْلُ بِالْأَشْبَهِ أَنَّ اسْتِوَاءَ الْحُقُوقِ يَقْطَعُ التَّكْلِيفَ أَيْ يُؤَدِّي إلَى سُقُوطِ التَّكْلِيفِ بِبَذْلِ الْمَجْهُودِ فِي الطَّلَبِ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ لَمَّا كَانَ حَقًّا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى السَّوَاءِ لَمْ يَكُنْ فِي إتْعَابِ النَّفْسِ، وَإِعْمَالِ الْفِكْرِ فِي الطَّلَبِ فَائِدَةٌ بَلْ يَخْتَارُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ مِنْ غَيْرِ امْتِحَانٍ كَالْمُصَلِّي فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ يَخْتَارُ أَيَّ جِهَةٍ شَاءَ مِنْ غَيْرِ بَذْلِ مَجْهُودٍ، وَإِجَالَةِ تَفَكُّرٍ لَكِنَّ الْفَرِيقَ الْأَوَّلَ يَقُولُونَ إنَّمَا يَلْزَمُ هَذَا لَوْ كَانَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ كُلُّ وَاحِدٍ حَقًّا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ الِاجْتِهَادِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْحُكْمُ بِحَقِّيَّةِ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُ كُلِّ وَاحِدٍ تَابِعٌ لِاجْتِهَادِهِ فَقَبْلَ الِاجْتِهَادِ لَا يُمْكِنُ إصَابَةُ الْحَقِّ بِمُجَرَّدِ الِاخْتِيَارِ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الِاخْتِيَارِ وَبَعْدَمَا اجْتَهَدَ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاخْتِيَارُ أَيْضًا لَازِمًا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ هُوَ الْحَقُّ فِي حَقِّهِ دُونَ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُ غَيْرِهِ. وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي التَّقْوِيمِ وَعِبَارَتُهُ فِيهِ وَاَلَّذِينَ قَالُوا إنَّ الْوَاحِدَ حَقٌّ ذَهَبُوا إلَى أَنَّا لَوْ سَوَّيْنَا بَيْنَهُمَا لَبَطَلَتْ مَرَاتِبُ الْفُقَهَاءِ وَسَاوَى الْبَاذِلُ كُلَّ جُهْدِهِ فِي الطَّلَبِ الْمُبْلِي عُذْرَهُ بِأَدْنَى طَلَبٍ.

قَوْلُهُ: (وَبَطَلَتْ الدَّعْوَةُ وَسَقَطَتْ وُجُوهُ النَّظَرِ) يَعْنِي لَوْ ثَبَتَ اسْتِوَاؤُهَا فِي الْحَقِّيَّةِ بَطَلَتْ دَعْوَةُ الْمُجْتَهِدِ غَيْرَهُ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ إلَى مَذْهَبِهِ وَسَقَطَتْ الْمُنَاظَرَةُ وَطُوِيَ بِسَاطُهَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا إظْهَارُ الصَّوَابِ بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ وَدَعْوَةِ الْمُخَالِفِ إلَيْهِ عِنْدَ ظُهُورِهِ بِالدَّلِيلِ فَإِذَا كَانَ الْكُلُّ عَلَى السَّوَاءِ فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يَسْتَقِمْ دَعْوَةُ الْغَيْرِ إلَى مَذْهَبِهِ فَلَمْ يَبْقَ لِلْمُنَاظَرَةِ فَائِدَةٌ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لِصَاحِبِهِ إنَّ مَا اعْتَقَدْته حَقٌّ فَلَازِمْهُ إذْ لَا فَضْلَ لِمَذْهَبِي عَلَى مَذْهَبِك. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا مُنَاظَرَةَ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ فِي أَعْدَادِ رَكَعَاتِ صَلَاتَيْهِمَا لَمَّا ثَبَتَ الْحَقِّيَّةُ عَلَى السَّوَاءِ. وَلَكِنْ مَنْ قَالَ بِالِاسْتِوَاءِ يَقُولُ لَيْسَتْ فَائِدَةُ الْمُنَاظَرَةِ مُنْحَصِرَةً فِيمَا ذَكَرْتُمْ بَلْ لَهَا فَوَائِدُ أُخَرُ كَتَبَيُّنِ التَّرْجِيحِ عِنْدَ تَسَاوِي الدَّلِيلَيْنِ فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ حَتَّى يَجْزِمَ بِالنَّفْيِ أَوْ بِالْإِثْبَاتِ. أَوْ تَبَيُّنِ التَّسَاوِي حَتَّى يَثْبُتَ لَهُ الْوَقْفُ

ص: 20

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] ، وَإِذَا اخْتَصَّ سُلَيْمَانَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - بِالْفَهْمِ، وَهُوَ إصَابَةُ الْحَقِّ بِالنَّظَرِ فِيهِ كَانَ الْآخَرُ خَطَأً «، وَقَالَ النَّبِيُّ عليه السلام لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ اُحْكُمْ عَلَى أَنَّك إنْ أَصَبْت فَلَكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَإِنْ أَخْطَأْت فَلَكَ حَسَنَةٌ» ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ إنْ أَصَبْتُ فَمِنْ اللَّهِ، وَإِنْ أَخْطَأْتُ فَمِنِّي، وَمِنْ الشَّيْطَانِ وَاَللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ مِنْهُ بَرِيئَانِ، وَقَالَ النَّبِيُّ عليه السلام «إذَا حَاصَرْتُمْ حِصْنًا فَأَرَادُوكُمْ أَنْ تُنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلُوهُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ» ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى احْتِمَالِ الْخَطَأِ وَلِأَنَّ تَعَدُّدَ الْحُقُوقِ مُمْتَنِعٌ اسْتِدْلَالًا بِنَفْسِ الْحُكْمِ وَسَبَبِهِ أَمَّا السَّبَبُ فَلِأَنَّا قُلْنَا إنَّ الْقِيَاسَ تَعْدِيَةُ وَضْعٍ لِدَرْكِ الْحُكْمِ

ــ

[كشف الأسرار]

أَوْ التَّخْيِيرُ لِكَوْنِهِ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ التَّرْجِيحِ، وَكَالتَّمْرِينِ فِي الِاجْتِهَادِ وَاكْتِسَابِ الْمَلَكَةِ عَلَى اسْتِثْمَارِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَتَشْحِيذِ الْخَاطِرِ وَتَنْبِيهِ الْمُسْتَمِعِينَ عَلَى مَدَارِك الْأَحْكَامِ لِتَحْرِيكِ دَوَاعِيهِمْ إلَى طَلَبِ مَرْتَبَةِ الِاجْتِهَادِ وَنَيْلِ الثَّوَابِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِ فَائِدَةِ الدَّعْوَةِ سُقُوطُ الْمُنَاظَرَةِ لِبَقَاءِ هَذِهِ الْفَوَائِدِ ثُمَّ اسْتَوْضَحَ مَا ذَكَرَ مِنْ سُقُوطِ فَائِدَةِ الْمُنَاظَرَةِ وَسُقُوطِ التَّكْلِيفِ عِنْدَ اسْتِوَاءِ الْكُلِّ فِي الْحَقِيقَةِ بِقَوْلِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ أَيْ الْمُنَاظَرَةَ. فِي اخْتِيَارِ وُجُوهِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَيْ اخْتِيَارِ أَحَدِ أَنْوَاعِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا حَقٌّ، وَلَيْسَ أَحَدُهَا أَحَقَّ مِنْ الْبَاقِي فَلَمْ يَكُنْ لِلِاخْتِلَافِ وَالِاجْتِهَادِ فِيهِ فَائِدَةٌ. وَإِنْ اخْتَارَهُ أَيْ اخْتِيَارُ أَحَدِ الْوُجُوهِ بِمُجَرَّدِ الْقَصْدِ الَّذِي انْضَمَّ إلَيْهِ الْفِعْلُ صَحِيحٌ بِلَا تَأَمُّلٍ أَيْ بِلَا اجْتِهَادٍ فِيهِ.

وَاحْتَجَّ الْقَاضِي الْإِمَامُ لِهَؤُلَاءِ بِأَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ مَا اجْتَهَدُوا إلَّا لِإِصَابَةِ مَا يَشْهَدُ النُّصُوصَ بِالْحَقِّيَّةِ خَلَفًا عَنْ شَهَادَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعَا النَّاسَ كُلَّهُمْ إلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ مَا تَرَى بَيْنَ أَعْدَادِهِمْ اخْتِلَافًا إلَّا بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ كَالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ وَالْغَنَاءِ وَالْفَقْرِ وَنَحْوِهَا، فَالِاجْتِهَادُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، وَكَانَ يَقْتَضِي هَذَا أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ وَاحِدًا فِي حَقِّ الْكُلِّ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقَوْلَ بِهِ ضَرُورَةَ أَنْ لَا يَصِيرُوا مُكَلَّفِينَ بِمَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِمْ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ تَرْتَفِعُ بِإِثْبَاتِ نَفْسِ الْحَقِّيَّةِ لِفَتْوَاهُمْ فَيَبْقَى الْوَاحِدُ أَحَقَّ بِنَاءً عَلَى أَصْلِ الشَّرِيعَةِ الثَّابِتَةِ بِالْوَحْيِ قَوْله تَعَالَى {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] دَخَلَ رَجُلَانِ عَلَى دَاوُد وَعِنْدَهُ ابْنُهُ سُلَيْمَانُ عليهما السلام أَحَدُهُمَا صَاحِبُ حَرْثٍ، وَقِيلَ كَانَ كَرْمًا قَدْ تَدَلَّتْ عَنَاقِيدُهُ وَالْآخَرُ صَاحِبُ غَنَمٍ فَقَالَ صَاحِبُ الْحَرْثِ إنَّ هَذَا انْفَلَتَتْ غَنَمُهُ فَوَقَعَتْ فِي حَرْثِي فَلَمْ تُبْقِ مِنْهُ شَيْئًا فَقَالَ لَك رِقَابُ الْغَنَمِ، وَقَدْ كَانَتْ قِيمَتَاهُمَا مُسْتَوِيَتَيْنِ فَقَالَ سُلَيْمَانُ عليه السلام غَيْرُ هَذَا أَوْفَقُ لِلْفَرِيقَيْنِ يَنْطَلِقُ أَهْلُ الْحَرْثِ بِالْغَنَمِ فَيُصِيبُونَ مِنْ أَلْبَانِهَا، وَمَنَافِعِهَا وَيَقُومُ أَصْحَابُ الْغَنَمِ عَلَى الْكَرْمِ حَتَّى إذَا كَانَتْ كَلَيْلَةِ نَفَشَتْ فِيهِ دَفَعَ هَؤُلَاءِ إلَى هَؤُلَاءِ غَنَمَهُمْ، وَهَؤُلَاءِ إلَى هَؤُلَاءِ كَرْمَهُمْ فَقَالَ دَاوُد عليه السلام الْقَضَاءُ مَا قَضَيْت فَأَخَذَ اللَّهُ عز وجل عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 78] أَيْ وَاذْكُرْهُمَا إذْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْهُمَا {يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء: 78] النَّفَشُ أَنْ يَنْتَشِرَ الْغَنَمُ بِاللَّيْلِ تَرْعَى بِلَا رَاعٍ مِنْ حَدٍّ دَخَلَ وَضَرَبَ جَمِيعًا {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] لَمْ يَفُتْ عَنَّا مِنْ أَمْرِهِمْ شَيْءٌ وَجَمَعَ الضَّمِيرَ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَهُمَا وَالْمُتَحَاكِمِينَ إلَيْهِمَا أَوْ أُرِيدَ بِهِ التَّثْنِيَةُ. فَفَهَّمْنَاهَا الْهَاءُ ضَمِيرُ الْحُكُومَةِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء: 78] وَكُلًّا أَيْ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا آتَيْنَا حُكْمًا فَصْلًا بَيْنَ الْخُصُومِ، وَعِلْمًا بِأُمُورِ الدِّينِ.

وَوَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهِ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ كَانَ بِالِاجْتِهَادِ إذْ لَوْ كَانَ بِالْوَحْيِ لَمَا جَازَ لِسُلَيْمَانَ خِلَافُهُ، وَلَمَا جَازَ لِدَاوُدَ الرُّجُوعُ إلَى قَوْلِهِ ثُمَّ إنَّهُ تَعَالَى خَصَّ سُلَيْمَانَ بِالْفَهْمِ فِي الْقَضِيَّةِ، وَمَنَّ عَلَيْهِ، وَكَمَالُ الْمِنَّةِ فِي إصَابَةِ الْحَقِّ حَقِيقَةً فَلَوْ كَانَا مُصِيبَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ سُلَيْمَانَ بِالْفَهْمِ فَائِدَةٌ؛ لِأَنَّ دَاوُد قَدْ فَهِمَ مِنْ الْحُكْمِ الصَّوَابَ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ مَا فَهِمَ سُلَيْمَانُ عليهما السلام. وَلَا يُقَالُ كَانَ مَا قَضَى بِهِ دَاوُد جَائِزًا، وَمَا قَضَى بِهِ سُلَيْمَانُ أَفْضَلَ فَلِذَلِكَ اخْتَصَّهُ بِالْفَهْمِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ دَاوُد تَرْكَ الْأَفْضَلِ لَمَا وَسِعَ سُلَيْمَانَ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الِافْتِيَاتَ عَلَى رَأْيِ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ

ص: 21

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[كشف الأسرار]

إذَا كَانَ صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ خُصُوصًا عَلَى الْأَبِ النَّبِيِّ كَذَا قِيلَ.

وَاعْتَرَضَ الْغَزَالِيُّ عَلَى التَّمَسُّكِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ كَيْفَ يَصِحُّ أَنَّهُمَا حَكَمَا بِالِاجْتِهَادِ، وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَمْنَعُ اجْتِهَادَ الْأَنْبِيَاءِ عَقْلًا، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ سَمْعًا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازُوا حَالَ الْخَطَأِ عَلَيْهِمْ فَكَيْفَ يُنْسَبُ الْخَطَأُ إلَى دَاوُد عليه السلام، وَمِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ أَنَّهُ قَالَ مَا قَالَ عَنْ اجْتِهَادٍ. وَالْآيَةُ عَلَى نَقِيضِ مَذْهَبِكُمْ أَدَلُّ؛ لِأَنَّهُ قَالَ {وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] وَالْخَطَأُ يَكُونُ ظُلْمًا وَجَهْلًا لَا حُكْمًا وَعِلْمًا، وَمَنْ قَضَى بِخِلَافِ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ حَكَمَ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ الْحُكْمَ وَالْعِلْمَ الَّذِي آتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا سِيَّمَا فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ.

وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّا قَدْ دَلَلْنَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ بِالِاجْتِهَادِ وَثَبَتَ ذَلِكَ بِالنَّقْلِ أَيْضًا، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْخَطَأَ عَلَيْهِمْ فِي اجْتِهَادِهِمْ جَائِزَانِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ تَقْرِيرُهُمْ عَلَى الْخَطَأِ. وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ عز وجل {وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] أَنَّهُ آتَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمًا وَعِلْمًا فِيمَا حَكَمَا بِهِ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ إيتَاءَ الْعِلْمِ بِوُجُوهِ الِاجْتِهَادِ وَطُرُقِ الْأَحْكَامِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَالْخَطَأُ فِي مَسْأَلَةٍ لَا يَمْنَعُ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ أُوتِيَ حُكْمًا وَعِلْمًا فَلَا نُبْقِي لِلْخَصْمِ حُجَّةً. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ اقْضِ بَيْنَ هَذَيْنِ قَالَ أَقْضِي، وَأَنْتَ حَاضِرٌ قَالَ نَعَمْ قَالَ عَلَى مَاذَا أَقْضِي قَالَ عَلَى أَنَّك إنْ اجْتَهَدْت فَأَصَبْت فَلَكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَإِنْ أَخْطَأْت فَلَكَ حَسَنَةٌ» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ» فَفِيهِمَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِي الِاجْتِهَادِ خَطَأً وَصَوَابًا حَيْثُ صَرَّحَ بِذِكْرِ الْخَطَأِ وَبِتَفَاوُتِ الْأَجْرِ، وَفِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ رَوَاهُ مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «وَإِذَا حَاصَرْتُمْ أَهْلَ حِصْنٍ أَوْ مَدِينَةٍ فَأَرَادُوكُمْ أَنْ تُنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ» الْحَدِيثَ.

قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ، وَفِي هَذَا اللَّفْظِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ فَإِنَّهُ قَالَ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ؟ . وَلَوْ كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا لَكَانَ يَعْلَمُ حُكْمَ اللَّهِ بِالِاجْتِهَادِ لَا مَحَالَةَ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ «، وَلَكِنْ أَنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمٍ ثُمَّ اُحْكُمُوا فِيهِمْ بِمَا رَأَيْتُمْ» ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمُجْتَهِدُ مُصِيبًا لِلْحَقِّ لَمَا أَمَرَ بِإِنْزَالِهِمْ عَلَى حُكْمِنَا فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَأْمُرُ بِالْإِنْزَالِ عَلَى الْخَطَأِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَأْمُرُ بِالْإِنْزَالِ عَلَى الصَّوَابِ.

قُلْنَا: نَحْنُ لَا نَقُولُ الْمُجْتَهِدُ يَكُونُ مُخْطِئًا لَا مَحَالَةَ، وَلَكِنَّهُ عَلَى رَجَاءٍ مِنْ الْإِصَابَةِ، وَهُوَ أَتَى بِمَا فِي وُسْعِهِ فَلِهَذَا أُمِرْنَا بِالْإِنْزَالِ عَلَى ذَلِكَ لَا؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُصِيبًا بِالِاجْتِهَادِ لَا مَحَالَةَ، وَفَائِدَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ فِيهِ شُبْهَةُ الْخِلَافِ إذَا أُنْزِلُوا عَلَى حُكْمِنَا وَحَكَمْنَا فِيهِمْ بِمَا رَأَيْنَا وَيَتَمَكَّنُ إذَا أُنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ. وَالدَّلِيلُ الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُمْ أَطْلَقُوا الْخَطَأَ فِي الِاجْتِهَادِ كَثُرَ أَوْ شَاعَ وَتَكَرَّرَ، وَلَمْ يُنْكِرْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي التَّخْطِئَةِ فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ لَيْسَ إلَّا وَاحِدٌ فَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ خَطَّئُوا ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم فِي تَرْكِ الْقَوْلِ بِالْعَوْلِ وَخَطَّأَهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْقَوْلِ بِهِ، وَقَالَ مَنْ بَاهَلَنِي بَاهَلْته إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ، وَفِي رِوَايَةٍ إنَّ الَّذِي أَحْصَى رَمْلَ عَالِجٍ عَدَدًا لَمْ يَجْعَلْ فِي مَالٍ وَاحِدٍ نِصْفَيْنِ وَثَلَاثًا. وَمِنْهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ أَقُولُ فِي الْكَلَالَةِ بِرَأْيِي فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ، وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي، وَمِنْ الشَّيْطَانِ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْهُ بَرِيئَانِ وَعَنْ عُمَرَ

ص: 22

فَمَا لَيْسَ بِمُتَعَدِّدٍ لَا يَتَعَدَّى مُتَعَدِّدًا؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ تَغْيِيرًا حِينَئِذٍ فَيُوجِبُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ مُتَعَدِّدًا بِالنَّصِّ بِعَيْنِهِ، وَهَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ أَلَا تَرَى لَوْ تَوَهَّمْنَا غَيْرَ مَعْلُومٍ لَمْ يَكُنْ حُكْمُهُ مُتَعَدِّدًا وَذَلِكَ مِمَّا يَحْتَمِلُهُ صِيغَتُهُ بِيَقِينٍ فَلَا يَتَعَدَّدُ بِالتَّعْلِيلِ، وَفِيهِ تَغْيِيرٌ وَيَصِيرُ الْفَرْعُ بِهِ مُخَالِفًا لِلْأَصْلِ.

وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِنَفْسِ الْحُكْمِ فَهُوَ أَنَّ الْفِطْرَ وَالصَّوْمَ، وَفَسَادَ الصَّلَاةِ وَصِحَّتَهَا، وَفَسَادَ النِّكَاحِ وَصِحَّتَهُ وَوُجُودَ الشَّيْءِ وَعَدَمَهُ، وَقِيَامَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ تَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهُ، وَلَا يَصْلُحُ الْمُسْتَحِيلُ حُكْمًا شَرْعِيًّا

ــ

[كشف الأسرار]

رضي الله عنه أَنَّهُ حَكَمَ بِحُكْمٍ فَقَالَ رَجُلٌ هَذَا وَاَللَّهِ الْحَقُّ فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه إنَّ عُمَرَ لَا يَدْرِي أَنَّهُ أَصَابَ الْحَقَّ لَكِنَّهُ لَمْ يَأْلُ جَهْدًا. وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِكَاتِبِهِ اُكْتُبْ هَذَا مَا رَأَى عُمَرُ فَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنْهُ، وَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ. وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي اسْتَحْضَرَهَا عُمَرُ فَأُجْهِضَتْ، وَقَدْ قَالَ لَهُ عُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ إنَّمَا أَنْتَ مُؤَدَّبٌ لَا نَرَى عَلَيْك شَيْئًا فَقَالَ عَلِيٌّ إنْ كَانَا قَدْ اجْتَهَدَا فَقَدْ أَخْطَأَ، وَإِنْ لَمْ يَجْتَهِدَا فَقَدْ غَشَّاكِ أَرَى عَلَيْك الدِّيَةَ يَعْنِي الْغُرَّةَ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُفَوَّضَةِ أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي، وَمِنْ الشَّيْطَانِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ أَلَا يَتَّقِي اللَّهَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ يَجْعَلُ ابْنَ الِابْنِ ابْنًا، وَلَا يَجْعَلُ أَبَا الْأَبِ أَبًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْوَقَائِعِ.

وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذِهِ الْحُجَّةِ بِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ التَّخْطِئَةُ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ التَّقْصِيرُ مِنْ الْمُجْتَهِدِ أَوْ فِيمَا خَالَفَ فِيهِ نَصًّا أَوْ إجْمَاعًا وَحِينَئِذٍ لَا يَنْتَهِضُ حُجَّةً. وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّخْطِئَةَ، وَقَعَتْ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الَّتِي لَا نَصَّ، وَلَا إجْمَاعَ فِيهَا، وَلَا تَقْصِيرَ فِي مُجْتَهِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَإِلَّا وَجَبَ التَّأْثِيمُ، وَهُوَ بَاطِلٌ.

1 -

ثُمَّ اسْتَدَلَّ الشَّيْخُ رحمه الله عَلَى امْتِنَاعِ تَعَدُّدِ الْحُقُوقِ بِنَفْسِ الْحُكْمِ وَسَبَبِهِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ الثَّابِتُ بِالِاجْتِهَادِ. أَمَّا السَّبَبُ فَلِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقِيَاسَ تَعْدِيَةٌ، وُضِعَ لِدَرْكِ الْحُكْمِ فَقَوْلُهُ وُضِعَ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ أَيْ الْقِيَاسُ لِتَعْدِيَةِ حُكْمِ النَّصِّ إلَى مَا لَا نَصَّ فِيهِ، وَإِنَّهُ وُضِعَ مُدْرِكًا لِحُكْمِ النَّصِّ لَا مُثْبِتًا لِلْحُكْمِ ابْتِدَاءً وَلِهَذَا حُدَّ بِأَنَّهُ إبَانَةُ مِثْلِ الْحُكْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْفَرْعِ. فَمَا لَيْسَ بِمُتَعَدِّدٍ لَا يَتَعَدَّى مُتَعَدِّدًا يَعْنِي حُكْمَ النَّصِّ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّدًا فِي نَفْسِهِ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَتَعَدَّى مُتَعَدِّدًا؛ لِأَنَّهُ أَيْ التَّعْدِيَةَ بِصِفَةِ التَّعَدُّدِ يَصِيرُ تَغْيِيرًا لِحُكْمِ النَّصِّ إذَا لَمْ يَكُنْ حُكْمُهُ مُتَعَدِّدًا.

فَيُوجِبُ ذَلِكَ أَيْ تَعَدُّدُ الْحَقِّ فِي الْفَرْعِ أَوْ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ مُتَعَدِّدًا أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ مُتَعَدِّدًا بِالنَّصِّ بِعَيْنِهِ لِيَثْبُتَ تَعَدُّدُهُ فِي الْفَرْعِ بِالتَّعْدِيَةِ. وَهَذَا أَيْ كَوْنُ الْحَقِّ مُتَعَدِّدًا فِي النَّصِّ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عِنْدَ تَعَارُضِ النَّصَّيْنِ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ أَوْ النَّفْيِ وَالْإِيجَابِ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَأَنَّ الْعَمَلَ لَا يَجِبُ بِهِمَا جَمِيعًا بَلْ يَجِبُ الْوَقْفُ إلَى أَنْ يَظْهَرَ الرُّجْحَانُ لِأَحَدِهِمَا أَوْ يُعْرَفُ التَّارِيخُ فَيَكُونُ الْآخَرُ نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ، وَإِذَا تَعَذَّرَ تَعَدُّدُ الْحَقِّ فِي الْأُصُولِ بَطَلَ الْقَوْلُ بِتَعَدُّدِهِ فِي الْفُرُوعِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَيْهَا. ثُمَّ اسْتَوْضَحَ مَا ذَكَرَ أَنَّهُ تَغْيِيرٌ بِقَوْلِهِ أَلَا تَرَى أَنَّا لَوْ تَوَهَّمْنَاهُ أَيْ النَّصَّ. غَيْرُ مَعْلُولٍ أَيْ غَيْرُ مُعَلَّلٍ، وَذَلِكَ أَيْ التَّعَدُّدُ. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ غَيْرُ لَازِمٍ فَإِنَّ الْحُكْمَ يَتَعَدَّى إلَى الْفَرْعِ مِنْ الْأَصْلِ مُتَّحِدًا غَيْرَ مُتَعَدِّدٍ، وَلَكِنَّ التَّعَدُّدَ فِيهِ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْأَصْلِ فَإِنَّ أَصْلَ كُلِّ مُجْتَهِدٍ فِي الْفَرْعِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ غَيْرُ أَصْلِ خَصْمِهِ فَإِنَّ مَنْ جَوَّزَ بَيْعَ الْجِصِّ مُتَفَاضِلًا اعْتَبَرَهُ بِالْمَذْرُوعِ، وَمَنْ لَمْ يُجَوِّزْهُ اعْتَبَرَ بِالْحِنْطَةِ وَالْجَوَازُ وَعَدَمُ الْجَوَازِ فِي الْأَصْلَيْنِ ثَابِتَانِ بِلَا خِلَافٍ وَتَعَدَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْحُكْمَيْنِ إلَى الْفَرْعِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِيرٍ وَتَعَدُّدٍ فِيهِ، وَلَكِنَّ التَّعَدُّدَ حَصَلَ بِتَعَدُّدِ الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرْتُمْ أَنْ لَوْ اعْتَبَرَ الْفَرْعُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَصْمَيْنِ بِأَصْلٍ وَاحِدٍ بِأَنْ اعْتَبَرَهُ الْمُجَوَّزَ بِالْحِنْطَةِ كَمَا اعْتَبَرَ غَيْرَ الْمُجَوَّزِ بِهَا أَوْ اعْتَبَرَهُ غَيْرَ الْمُجَوَّزِ بِالْمَذْرُوعِ كَمَا اعْتَبَرَهُ الْمُجَوَّزَ بِهِ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا

ص: 23

وَصِحَّةُ التَّكْلِيفِ يَحْصُلُ بِمَا قُلْنَا مِنْ صِحَّةِ الِاجْتِهَادِ، وَإِصَابَتِهِ ابْتِدَاءً.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله فِي مُدَّعِي الْمِيرَاثِ إذَا لَمْ يُشْهِدْ شُهُودَهُ أَنَّا لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ؛ لِأَنِّي لَا أَكْفُلُ الْمُدَّعِيَ، وَهَذَا شَيْءٌ احْتَاطَ بِهِ الْقُضَاةُ، وَهُوَ جَوْرٌ سَمَّاهُ جَوْرًا، وَهُوَ اجْتِهَادٌ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ الْمَطْلُوبِ مَائِلٌ عَنْ الْحَقِّ، وَهُوَ مَعْنَى الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا إذَا فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا نَفَذَ الْحُكْمُ، وَقَدْ أَخْطَأَ السُّنَّةَ

ــ

[كشف الأسرار]

أَنَّ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ اشْتِبَاهًا.

وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِنَفْسِ الْحُكْمِ فَظَاهِرٌ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهُ أَيْ اجْتِمَاعُ الْمَذْكُورِ يَعْنِي فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ فِي حَقِّ شَخْصٍ وَاحِدٍ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ كَالنَّصِّ؛ لِأَنَّهُ خَلَفُ النَّصِّ، وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالنَّصِّ لَا يَخْتَصُّ بِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ فَكَذَا الثَّابِتُ بِالْقِيَاسِ فَكَانَ حُكْمُهُ شَامِلًا لِلْجَمِيعِ كَحُكْمِ النَّصِّ فَيَجْتَمِعُ الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ.

أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُقَلِّدَ لَوْ اسْتَفْتَى أَحَدَ الْمُجْتَهِدِينَ لَأَفْتَاهُ بِالْحَظْرِ الَّذِي ثَبَتَ عِنْدَهُ عَلَى أَنَّهُ حُكْمُ الشَّرْعِ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ، وَلَوْ اسْتَفْتَى الْآخَرَ لَأَفْتَاهُ بِالْإِبَاحَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا فَكَانَ الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ مُجْتَمِعَيْنِ فِي حَقِّ شَخْصٍ وَاحِدٍ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ. بِخِلَافِ اجْتِمَاعِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فِي الْمَيْتَةِ؛ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُضْطَرِّ لَا يَتَعَدَّاهُ وَالْحُرْمَةُ مُخْتَصَّةٌ بِغَيْرِ الْمُضْطَرِّ فَلَا يَكُونُ اجْتِمَاعًا فِي حَقِّ شَخْصٍ وَاحِدٍ.

قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ رحمه الله لَوْ كَانَ الْحَقُّ مُتَعَدِّدًا لَجَازَ لِلَّذِي يَعْمَلُ بِاتِّبَاعِ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَخْتَارَ مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ مَا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَثْبَتَ الْكَفَّارَةَ فِي بَابِ الْيَمِينِ أَنْوَاعًا كَانَ لِلْعَبْدِ الْخِيَارُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا يَهْوَاهُ بِلَا دَلِيلٍ، وَمَنْ أَبَاحَ هَذَا فَقَدْ أَبْطَلَ الْحُدُودَ وَشَرَعَ طَرِيقَ الْإِبَاحَةِ وَبَنَى الدِّينَ عَلَى الْهَوَى وَاَللَّهُ تَعَالَى مَا نَهَجَ الدِّينَ إلَّا عَلَى دَلِيلٍ غَيْرِ الْهَوَى مِنْ نَصٍّ ثَابِتٍ بِوَحْيٍ أَوْ قِيَاسٍ شَرْعِيٍّ فَمَنْ جَعَلَ الْحَقَّ حُقُوقًا أَثْبَتَ الْخِيَارَ لِلْعَامِّيِّ بِهَوَاهُ، وَمَنْ قَالَ الْحَقُّ فِي وَاحِدٍ أَلْزَمَ الْعَامِّيَّ أَنْ يَتَّبِعَ إمَامًا وَاحِدًا، وَقَعَ عِنْدَهُ بِدَلِيلِ النَّظَرِ أَنَّهُ أَعْلَمُ، وَلَا يُخَالِفُهُ فِي شَيْءٍ بِهَوَى نَفْسِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ الْقِيَاسَانِ إذَا تَعَارَضَا ثَابِتٌ لِلْمُجْتَهِدِ الْخِيَارُ يَعْمَلُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ قُلْنَا نَعَمْ، وَلَكِنْ لَا بِهَوَى نَفْسِهِ بَلْ بِالضَّرُورَةِ فَإِنَّ الْحَقَّ فِي أَحَدِهِمَا وَيَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِهِ، وَلَمْ يَبْقَ قِبَلَهُ لِلَّهِ تَعَالَى دَلِيلٌ يُوَصِّلُهُ إلَيْهِ سِوَى شَهَادَةِ قَلْبِهِ فَلَزِمَهُ الْعَمَلُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ حُجَجِ الشَّرْعِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِذَا عَمِلَ بِأَحَدِهِمَا لَزِمَهُ الْإِعْرَاضُ عَنْ الْآخَرِ إلَّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ الْحَقُّ وَاحِدًا لَوَجَبَ اتِّبَاعُ الْخَطَأِ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الِاجْتِهَادِ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِاسْتِحَالَةِ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ الْخَطَأِ.

قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ اسْتِحَالَةَ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ الْخَطَأِ عِنْدَ تَعَذُّرِ إصَابَةِ الْحَقِّ فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ إذَا كَانَ فِيهَا نَصٌّ أَوْ إجْمَاعٌ، وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ اجْتَهَدَ بَعْدَ اسْتِفْرَاغِ وُسْعِهِ فِي الطَّلَبِ كَانَ مَأْمُورًا بِاتِّبَاعِ ظَنِّهِ مَعَ أَنَّهُ خَطَأٌ حَقِيقَةً لِوُجُودِ نَصٍّ عَلَى خِلَافِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْخَطَأَ جَائِزُ الِاتِّبَاعِ فِي الْفُرُوعِ عِنْدَ ظَنِّ الْإِصَابَةِ وَتَعَذُّرِ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَقِّ.

قَوْلُهُ: (وَصِحَّةُ التَّكْلِيفِ تَحْصِيلٌ بِمَا قُلْنَا) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ لَا بُدَّ لِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِالِاجْتِهَادِ مِنْ تَعَدُّدِ الْحَقِّ إذْ لَوْ كَانَ وَاحِدًا لَزِمَ تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ. فَقَالَ صِحَّةُ التَّكْلِيفِ يَحْصُلُ بِمَا قُلْنَا مِنْ صِحَّةِ الِاجْتِهَادِ، وَإِصَابَتِهِ ابْتِدَاءً يَعْنِي إنَّمَا لَمْ يَصِحَّ التَّكْلِيفُ إذَا كُلِّفُوا بِإِصَابَةِ مَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْحَقِّ، وَلَمْ يُكَلَّفُوا بِهَا إمَّا لِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ أَوْ لِخَفَائِهِ بِحَيْثُ لَا يَصِلُ إلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ بَلْ كُلِّفُوا الِاجْتِهَادَ لِلْإِصَابَةِ فَإِنْ أَصَابُوا أُجِرُوا، وَإِنْ أَخْطَئُوا عُذِرُوا وَأُجِرُوا عَلَى الطَّلَبِ فَكَانُوا مُصِيبِينَ فِي الِاجْتِهَادِ، وَإِنْ أَخْطَأَ بَعْضُهُمْ الْحَقَّ فَلَمْ يَلْزَمْ تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ. وَهَذَا كَمَنْ أَمَرَ خُدَّامَهُ بِطَلَبِ فَرَسٍ ضَلَّ عَنْهُ فَخَرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ إلَى جَانِبٍ فِي طَلَبِهِ صَحَّ هَذَا الْأَمْرُ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مُصِيبًا فِي الطَّلَبِ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ، وَلَكِنْ مَنْ وَجَدَ الْفَرَسَ مُصِيبٌ ابْتِدَاءً لِصِحَّةِ طَلَبِهِ وَانْتِهَاءً لِظَفَرِهِ بِالْفَرَسِ وَالْبَاقُونَ مُصِيبُونَ ابْتِدَاءً لِبَذْلِ

ص: 24

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[كشف الأسرار]

جُهْدِهِمْ فِي الطَّلَبِ وَامْتِثَالِ الْأَمْرِ لَا انْتِهَاءً لِحِرْمَانِهِمْ عَنْ إصَابَةِ الْفَرَسِ فَكَذَا هَاهُنَا. قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ) إلَى آخِرِهِ لَمَّا زَعَمَتْ الْمُعْتَزِلَةُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله كَانَ عَلَى مَذْهَبِهِمْ اسْتِدْلَالًا بِمَا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ أَنْكَرَ الشَّيْخُ رحمه الله أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَذْهَبًا لَهُ، وَأَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَهُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ.

فَقَالَ: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي مُدَّعِي الْمِيرَاثِ إذَا لَمْ يَشْهَدْ شُهُودُهُ أَنَّا لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ يَعْنِي شَهِدُوا أَنَّ الْمُدَّعِيَ هَذَا وَارِثُ فُلَانٍ الْمَيِّتِ، وَلَمْ يَقُولُوا لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ. إنِّي لَا أُكَفِّلُ الْمُدَّعِيَ يَعْنِي لَا أُكَلِّفُهُ بِإِعْطَاءِ الْكَفِيلِ إذَا سَلَّمْت الْمَالَ إلَيْهِ، وَهَذَا أَيْ أَخْذُ الْكَفِيلِ شَيْءٌ احْتَاطَ بِهِ الْقُضَاةُ، وَهُوَ جَوْرٌ، سَمَّاهُ أَيْ أَخَذَ الْكَفِيلُ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ جَوْرًا، وَهُوَ اجْتِهَادٌ. الْوَاوُ لِلْحَالِ أَيْ مَعَ أَنَّ أَخْذَ الْكَفِيلِ ثَبَتَ عِنْدَهُ بِالِاجْتِهَادِ، وَهُوَ أَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ وَرُبَّمَا يَظْهَرُ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ آخَرُ فَيَأْخُذُ كَفِيلًا مِنْ الْحَاضِرِ نَظَرًا لِلْغَائِبِ كَالْمُلْتَقِطِ إذَا رَدَّ اللُّقَطَةَ عَلَى صَاحِبِهَا يَأْخُذُ كَفِيلًا مِنْهُ احْتِيَاطًا فَلَوْ كَانَ الْحَقُّ مُتَعَدِّدًا عِنْدَهُ لَمْ يَكُنْ لِتَسْمِيَتِهِ الْحُكْمَ الثَّابِتَ بِالِاجْتِهَادِ جَوْرًا مَعْنًى فَثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ عِنْدَهُ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ وَاحِدٌ.

وَلَمَّا كَانَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْحَقُّ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فِي الْمُجْتَهَدَاتِ لَكِنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فِي حَقِّ الْعَمَلِ مَأْمُورٌ بِالْعَمَلِ بِاجْتِهَادِهِ فَلَا يَجُوزُ تَسْمِيَةُ مَا ثَبَتَ بِالِاجْتِهَادِ جَوْرًا أَشَارَ الشَّيْخُ إلَى الْجَوَابِ فِي الدَّلِيلِ فَقَالَ إنَّمَا سَمَّاهُ جَوْرًا؛ لِأَنَّهُ أَيْ الْقَاضِيَ الَّذِي أَمَرَ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ احْتِيَاطًا فِي حَقِّ الْمَطْلُوبِ، وَهُوَ أَخْذُ الْكَفِيلِ مَائِلٌ عَنْ الْحَقِّ، وَهُوَ عَدَمُ تَكْلِيفِ الْمُدَّعِي بِإِعْطَاءِ الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحَاضِرِ مَعْلُومٌ قَدْ ثَبَتَ بِالْحُجَّةِ وَحَقَّ الْآخَرِ مَوْهُومٌ فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ حَقِّ الْحَاضِرِ لِآخَرَ مَوْهُومٍ لَا أَمَارَةَ عَلَيْهِ.

وَمَسْأَلَةُ اللُّقَطَةِ فِيمَا إذَا دَفَعَهَا بِالْعَلَامَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحَاضِرِ لَيْسَ بِثَابِتٍ وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ لَا يَدْفَعَهَا إلَيْهِ فَأَمَّا إذَا دَفَعَهَا بِالْبَيِّنَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى أَخْذِ الْكَفِيلِ عِنْدَهُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الرِّوَايَةِ. وَهُوَ مَعْنَى الْجَوْرِ يُقَالُ جَارَ عَنْ الطَّرِيقِ إذَا مَالَ عَنْ قَصْدِهِ. وَالظُّلْمُ يَعْنِي إنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ الْجَوْرِ الظُّلْمَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَأْخُذُ الْكَفِيلَ عَنْ الْمُدَّعِي ظَالِمٌ فِي حَقِّهِ فَهُوَ بِمَعْنَى الْمَيْلِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَإِذَا كَلَّفَهُ الْقَاضِي بِإِعْطَاءِ الْكَفِيلِ جَبْرًا، وَالْحَقُّ عَلَى خِلَافِهِ كَانَ ذَلِكَ وَضْعًا لِلشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَكَانَ مَيْلًا عَنْ الْحَقِّ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَعْنِي ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي الْمَبْسُوطِ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ إذَا الْتَعَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا أَنَّ الْفُرْقَةَ جَائِزَةٌ، وَأَنَّ حُكْمَهُ يَنْفُذُ عِنْدَنَا، وَقَدْ أَخْطَأَ السُّنَّةَ أَيْ الطَّرِيقَةَ الْمَسْلُوكَةَ فِي الشَّرْعِ فِي هَذَا الْبَابِ فَقَدْ حَكَمَ أَصْحَابُنَا بِصِحَّةِ الِاجْتِهَادِ حَيْثُ نَفَّذُوا قَضَاءَ الْقَاضِي ثُمَّ أَطْلَقُوا اسْمَ الْخَطَأِ عَلَيْهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الِاجْتِهَادَ قَدْ يَقَعُ خَطَأً عِنْدَهُمْ، وَإِنْ كَانَ جَائِزَ الْعَمَلِ بِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْفُذَ حُكْمُهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ كَمَا قَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ حَكَمَ بِخِلَافِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّ اللِّعَانَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَالْحُكْمَ بِخِلَافِ النَّصِّ بَاطِلٌ كَمَا لَوْ حَكَمَ بِشَهَادَةِ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ فِي حَدِّ الزِّنَا.

قُلْنَا هَذَا حُكْمٌ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ فَيَنْفُذُ كَمَا لَوْ حَكَمَ بِشَهَادَةِ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَكْرَارَ اللِّعَانِ لِلتَّغْلِيظِ، وَمَعْنَى التَّغْلِيظِ يَحْصُلُ بِأَكْثَرِ كَلِمَاتِ اللِّعَانِ؛ لِأَنَّهُ جَمْعٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَأَدْنَى الْجَمْعِ كَأَعْلَاهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَإِذَا اجْتَهَدَ الْقَاضِي، وَأَدَّى

ص: 25

وَدَلِيلُ مَا قُلْنَا مِنْ الْمَذْهَبِ لِأَصْحَابِنَا فِي أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ فِي كُتُبِ أَصْحَابِنَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى، وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْقِبْلَةِ فَإِنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُتَحَرِّيَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ أَيْضًا كَغَيْرِهِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ فِي قَوْمٍ صَلَّوْا جَمَاعَةً وَتَحَرُّوا الْقِبْلَةَ وَاخْتَلِفُوا فَمَنْ عَلِمَ مِنْهُمْ حَالَ إمَامِهِ، وَهُوَ مُخَالِفُهُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ مُخْطِئٌ لِلْقِبْلَةِ عِنْدَهُ وَلَوْ كَانَ الْكُلُّ صَوَابًا وَالْجِهَاتُ قِبْلَةً لَمَا فَسَدَتْ وَلَمَا كُلِّفُوا التَّحَرِّيَ وَالطَّلَبَ كَالْجَمَاعَةِ إذَا صَلَّوْا فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الْمُخْطِئَ لِلْقِبْلَةِ لَا يُعِيدُ صَلَاتَهُ فَلِأَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ إصَابَةَ الْكَعْبَةِ يَقِينًا بَلْ كُلِّفَ طَلَبَهُ عَلَى رَجَاءِ الْإِصَابَةِ لَكِنَّ الْكَعْبَةَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ بِعَيْنِهَا، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ ابْتِلَاءٌ فَإِذَا حَصَلَ الِابْتِلَاءُ بِمَا فِي قَلْبِهِ مِنْ رَجَاءِ الْإِصَابَةِ وَحَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ طَلَبُ وَجْهِ اللَّهِ سَقَطَتْ حَقِيقَتُهُ أَلَا تَرَى أَنَّ جَوَازَ الصَّلَاةِ، وَفَسَادَهَا مِنْ صِفَاتِ الْعَمَلِ، وَالْمُخْطِئُ فِي حَقِّ نَفْسِ الْعَمَلِ مُصِيبٌ فَثَبَتَ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْقِبْلَةِ، وَمَسْأَلَتَنَا سَوَاءٌ

ــ

[كشف الأسرار]

اجْتِهَادُهُ إلَى هَذَا الطَّرِيقِ نَفَذَ حُكْمُهُ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَضَاءَهُ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْفُرْقَةِ، وَمَحَلَّهَا غَيْرُ مَذْكُورَيْنِ فِي النَّصِّ، وَهَذَا الِاجْتِهَادُ فِي مَحَلِّ الْفُرْقَةِ فَإِنَّ مَنْ أَبْطَلَ هَذَا الْقَضَاءَ يَقُولُ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ، وَإِنْ أَتَمَّتْ الْمَرْأَةُ اللِّعَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ، وَإِنْ تَمَّ الزَّوْجُ اللِّعَانَ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الْفُرْقَةُ عِنْدَهُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. قَوْلُهُ:(وَدَلِيلُ مَا قُلْنَا مِنْ الْمَذْهَبِ) يَعْنِي الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ أَصْحَابِنَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ كَثِيرٌ فِي كُتُبِهِمْ سِوَى هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ مِثْلُ مَسْأَلَةِ التَّحَرِّي، وَمِثْلُ مَا قَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كُتُبِهِ إذَا قَضَى الْقَاضِي بِرَأْيِ نَفْسِهِ فِي حَادِثَةٍ اخْتَلَفَ فِيهَا الْفُقَهَاءُ نَفَذَ عَلَى الْكُلِّ وَثَبَتَ صِحَّتُهُ فِي حَقِّ مَنْ يُخَالِفُهُ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْمُخَالِفِ هَذَا الْقَاضِي مُخْطِئًا لِلْحَقِّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ إنَّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَصْحَابُنَا مِنْ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ كَثِيرٌ فِي كُتُبِهِمْ سِوَى الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.

ثُمَّ أَجَابَ عَنْ مَسْأَلَةِ الِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ الَّتِي اسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ. فَقَالَ فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْقِبْلَةِ إلَى آخِرِهِ يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ فِي الْقِبْلَةِ مُصِيبٌ لَا مَحَالَةَ بَلْ الْمُجْتَهِدُ فِيهَا يُخْطِئُ وَيُصِيبُ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ اسْتِدْلَالًا بِالْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ. وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْمُجْتَهِدُ فِي الْقِبْلَةِ مُصِيبًا لَا مَحَالَةَ لَوَجَبَ عَلَى الْمُخْطِئِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ كَمَا لَوْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ نَجِسٍ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ طَاهِرٌ. فَتَعَرَّضَ لِلْجَوَابِ بِقَوْلِهِ: وَأَمَّا قَوْلُهُ أَيْ قَوْلُ مَنْ ادَّعَى الْحُقُوقَ إنَّ الْمُخْطِئَ لِلْقِبْلَةِ لَا يُعِيدُ صَلَاتَهُ وَجَوَابُ أَمَّا مَحْذُوفٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَالتَّقْدِيرُ أَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الْمُخْطِئَ لَا يُعِيدُ صَلَاتَهُ فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى مَا ادَّعَاهُ؛ لِأَنَّهُ أَيْ الْمُجْتَهِدَ فِي الْقِبْلَةِ أَوْ الْمَأْمُورَ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ لَمْ يُكَلَّفْ إصَابَةَ حَقِيقَةِ الْكَعْبَةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي وُسْعِهِ لِانْقِطَاعِ الْأَدِلَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ. بَلْ كُلِّفَ طَلَبَهُ أَيْ طَلَبَ الْكَعْبَةِ بِتَأْوِيلِ الْبَيْتِ عَلَى رَجَاءِ الْإِصَابَةِ.، وَلَكِنْ الْكَعْبَةُ اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ بَلْ كُلِّفَ طَلَبَهُ يَعْنِي التَّكْلِيفَ بِطَلَبِ الْكَعْبَةِ، وَإِنْ تَحَقَّقَ لَكِنَّ الْكَعْبَةَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ بِعَيْنِهَا فِي هَذَا التَّكْلِيفِ وَلِهَذَا لَوْ قَصَدَ بِالتَّوَجُّهِ التَّعْظِيمَ لِلْكَعْبَةِ وَالْعِبَادَةَ لَهَا يُكَفَّرُ، أَلَا تَرَى أَنَّ عَيْنَهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ الشَّرْعِ، وَلَمْ تَكُنْ قَبْلَهُ.

وَقَدْ يَنْتَقِلُ وُجُوبُ التَّوَجُّهِ مِنْ عَيْنِهَا إلَى جِهَتِهَا عِنْدَ الْغَيْبَةِ، وَمِنْ جِهَتِهَا إلَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ التَّحَرِّي عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَإِلَى أَيِّ جِهَةٍ تَوَجَّهَتْ الدَّابَّةُ أَوْ السَّفِينَةُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الدَّابَّةِ وَالسَّفِينَةِ فَثَبَتَ أَنَّ عَيْنَهَا لَيْسَتْ بِمَقْصُودَةٍ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ رِضَاهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] وَاسْتِقْبَالُ الْكَعْبَةِ ابْتِدَاءٌ كَمَا كَانَ اسْتِقْبَالُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ابْتِدَاءً. فَإِذَا حَصَلَ الِابْتِدَاءُ فِي حَالَةِ الِاشْتِبَاهِ بِالتَّوَجُّهِ إلَى مَا شَهِدَ قَلْبُهُ أَنَّهُ جِهَةُ الْكَعْبَةِ وَحَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ طَلَبُ وَجْهِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي هَذَا التَّوَجُّهِ. سَقَطَتْ حَقِيقَتُهُ أَيْ حَقِيقَةُ التَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ لَا يُبَالِي بِفَوَاتِ الْوَسِيلَةِ وَصَارَ التَّوَجُّهُ إلَى جِهَةِ التَّحَرِّي عِنْدَ الِاضْطِرَارِ كَالتَّوَجُّهِ إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ بِاعْتِبَارِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجِبْ الْإِعَادَةُ. ثُمَّ اسْتَوْضَحَ فَسَادَ اسْتِدْلَالِهِمْ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ أَلَا تَرَى أَنَّ جَوَازَ الْعِبَادَةِ، وَفَسَادَهَا مِنْ صِفَاتِ الْعَمَلِ يُقَالُ عَمَلٌ جَائِزٌ وَعَمَلٌ فَاسِدٌ لَا مِنْ صِفَاتِ مَا هُوَ الْحَقُّ حَقِيقَةً، وَنَحْنُ نُسَاعِدُكُمْ

ص: 26

وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله كُلِّفَ الْمُتَحَرِّي إصَابَةَ حَقِيقَةِ الْكَعْبَةِ حَتَّى إذَا أَخْطَأَ أَعَادَ صَلَاتَهُ

ــ

[كشف الأسرار]

عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ فِي حَقِّ نَفْسِ الْعَمَلِ مُصِيبٌ فَكَانَ الِاجْتِهَادُ فِي الْقِبْلَةِ وَالِاجْتِهَادُ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ سَوَاءً فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ لِلْحَقِّ حَقِيقَةً.

قَوْلُهُ: (وَهَذَا عِنْدَنَا) أَيْ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُتَحَرِّيَ لَمْ يُكَلَّفْ إصَابَةَ الْكَعْبَةِ، وَإِنَّمَا كُلِّفَ طَلَبَهُ عَلَى رَجَاءِ الْإِصَابَةِ مَذْهَبُنَا. فَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَالْمُتَحَرِّي كُلِّفَ إصَابَةَ حَقِيقَةِ الْكَعْبَةِ حَتَّى إذَا أَخْطَأَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِأَنْ اسْتَدْبَرَ الْكَعْبَةَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ إذَا عَلِمَ بِهِ فَعَلَى قَوْلِهِ لَا يَصِحُّ اسْتِدْلَالُهُمْ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَصْلًا. احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ فِي حَقِّ الْغَائِبِينَ عَنْهَا، وَانْقِطَاعُ دَلِيلِ الْعِيَانِ ثَابِتٌ عَلَى تَحْقِيقِ الْإِصَابَةِ يَقِينًا بِأَنَّ طَرِيقَ الْإِصَابَةِ مِمَّا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ لَوْ تَكَلَّفَ الْعَبْدُ لِمَعْرِفَةِ تَرْكِيبِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَكَيْفِيَّةِ جِهَاتِ الْأَقَالِيمِ إلَّا أَنَّهُ عُذِرَ دُونَهُ بِسَبَبِ الْحَرَجِ فَكَانَ مُبِيحًا لَا مُسْقِطًا أَصْلًا فَبَقِيَ أَصْلُ الْأَمْرِ مُتَعَلِّقًا بِالْإِصَابَةِ حَقِيقَةً فَمَتَى ظَهَرَ الْخَطَأُ يَقِينًا لَزِمَتْ الْإِعَادَةُ كَالْعَمَلِ بِالرَّأْيِ أُبِيحَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُخَالِفَ النَّصَّ وَعُذِرَ فِي الْعَمَلِ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ عَدَمُ النَّصِّ، وَلَمْ يَتَكَلَّفْ كُلَّ التَّكْلِيفِ فِي طَلَبِ النَّصِّ، وَلَكِنْ لَمْ يَسْقُطْ بِهِ أَصْلُ الْخِطَابِ فَأُبِيحَ لَهُ الْعَمَلُ بِشَرْطِ أَنَّهُ إنْ ظَهَرَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ فَسَدَ عَمَلُهُ.

وَأَصْحَابُنَا رحمهم الله بَنَوْا وُجُوبَ طَلَبِ الْكَعْبَةِ بَعْدَ الْغَيْبَةِ عَنْهَا عَلَى الدَّلَائِلِ الْمُعْتَادَةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا كَثِيرُ حَرَجٍ لَا عَلَى مَا لَيْسَ بِمُعْتَادٍ، وَلَا مَأْمُورٍ بِهِ بِالشَّرْعِ مِنْ عِلْمِ الْهَنْدَسَةِ، وَكَيْفِيَّةِ تَرْكِيبِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالدَّلَائِلِ الْمُعْتَادَةِ مِنْ الشَّمْسِ وَالنُّجُومِ لَا تُوَصِّلُنَا إلَى حَقِيقَةِ الْكَعْبَةِ بَلْ هِيَ مُطْمِعَةٌ فَسَقَطَ الْخِطَابُ بِإِصَابَةِ الْحَقِيقَةِ لِقُصُورِ الْحُجَّةِ، وَلَزِمَهُ الْعَمَلُ بِالتَّوَجُّهِ إلَى جِهَةٍ فِيهَا رَجَاءُ إصَابَةِ الْكَعْبَةِ فَإِذَا فُقِدَتْ النُّجُومُ وَالْمَحَارِيبُ الْمَنْصُوبَةُ، وَأَخْبَارُ النَّاسِ عَنْ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ وَوَجَبَ الْعَمَلُ بِرَأْيِ الْقَلْبِ، وَهَذَا الرَّأْيُ لَا يُوَصِّلُهُ إلَى الْجِهَةِ الظَّاهِرَةِ حَالَ ظُهُورِ الشَّمْسِ وَالْمَحَارِيبِ سَقَطَ إصَابَةُ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَلَزِمَهُ التَّوَجُّهُ إلَى جِهَةٍ فِيهَا رَجَاءُ إصَابَةِ الْمِحْرَابِ الظَّاهِرِ فَإِذَا عَمِلَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ صَارَ مُؤْتَمِرًا بِالْأَمْرِ فَلَا يَقَعُ عَمَلُهُ فَاسِدًا بِتَرْكِ مَا تَرَكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ بِخِلَافِ حَادِثَةٍ فِيهَا نَصٌّ، وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ وَعَمِلَ بِالرَّأْيِ بِخِلَافِهِ؛ لِأَنَّهُ كُلِّفَ الْعَمَلَ بِالرَّأْيِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُخَالِفَهُ نَصٌّ، وَالنَّصُّ الَّذِي يُخَالِفُهُ مِمَّا يَنَالُهُ حَالَةَ الْحَاجَةِ إلَى الْعَمَلِ بِهِ لَوْلَا تَقْصِيرٌ مِنْهُ فِي الطَّلَبِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ طَلَبَهُ مِنْ قَبْلُ أَمْكَنَهُ الْعَمَلُ بِهِ حَالَ حَاجَتِهِ هَذِهِ.

أَلَا تَرَى أَنَّ زَوَالَ هَذَا الْجَهْلِ مَقْرُونٌ بِمَعْنًى يُوجَدُ مِنْهُ لَا يَتَبَدَّلُ حَالَ الدَّلِيلِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا الْخَطَأُ فِي بَابِ الْقِبْلَةِ فَيَتَبَدَّلُ بِهِ حَالَ الدَّلِيلِ بِزَوَالِ الْغَيْمِ وَظُهُورِ النَّجْمِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ سَمَاوِيٌّ تَبَدَّلَ بِهِ حَالُ الدَّلِيلِ فَكَانَ وَرَاءَهُ نُزُولُ نَصٍّ بَعْدَمَا عَمِلَ بِالِاجْتِهَادِ بِخِلَافِهِ وَلِهَذَا الْمَعْنَى نَقُولُ فِيمَنْ اجْتَهَدَ وَتَوَضَّأَ بِمَاءٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ نَجِسٌ أَنَّهُ يُعِيدُ الصَّلَاةَ، وَكَذَلِكَ الثَّوْبُ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ الْعِلْمِ بِتِلْكَ النَّجَاسَةِ الْخَبَرُ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَلِقُصُورٍ مِنْهُ فِي طَلَبِهِ وَقَعَ الْجَهْلُ، وَالْخَبَرُ عَنْ الْقِبْلَةِ، وَإِنْ بَلَغَهُ فِي مَوْضِعِهِ لَا يَنْفَعُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَلَا يَبْقَى إلَّا النَّجْمُ كَذَا فِي التَّقْوِيمِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الدَّلِيلِ مُعَارَضٌ بِأَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام جَعَلَ الِاقْتِدَاءَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ هُدًى بِقَوْلِهِ: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَحْكَامٍ نَفْيًا، وَإِثْبَاتًا فَلَوْ كَانَ الْحَقُّ وَاحِدًا لَمْ يَكُنْ الِاقْتِدَاءُ بِالْكُلِّ هُدًى. وَبِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي الْمَسَائِلِ، وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ قَوْلًا وَصَوَّبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا

ص: 27

فَأَمَّا مَنْ جَعَلَهُ مُخْطِئًا ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً فَقَدْ احْتَجَّ بِمَا رَوَيْنَا مِنْ إطْلَاقِ الْخَطَأِ فِي الْحَدِيثِ «وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أُسَارَى بَدْرٍ حِينَ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ} [الأنفال: 68] الْآيَةَ لَوْ نَزَلَ بِنَا عَذَابٌ مَا نَجَا إلَّا عُمَرَ»

ــ

[كشف الأسرار]

بِدَلِيلِ أَنَّهُ بَقِيَ بَيْنَهُمْ تَعْظِيمُ بَعْضِهِمْ لِلْبَعْضِ وَتَرْكُ إنْكَارِ بَعْضِهِمْ قَوْلَ الْبَعْضِ، وَلَوْ اعْتَقَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّ صَاحِبَهُ مُخْطِئٌ لَأَنْكَرَهُ؛ لِأَنَّ إنْكَارَ الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ. وَبِأَنَّ الْحَقَّ لَوْ كَانَ وَاحِدًا لَنُصِبَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ لِإِزَاحَةِ الْإِشْكَالِ، وَلَوَجَبَ نَقْضُ كُلِّ حُكْمٍ خَالَفَهُ كَمَا قَالَهُ الْمَرِيسِيِّ وَالْأَصَمُّ وَابْنُ عُلَيَّةَ.

قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحَقَّ لَوْ كَانَ وَاحِدًا لَمْ يَكُنْ الِاقْتِدَاءُ بِالْكُلِّ هُدًى بَلْ هُوَ هُدًى؛ لِأَنَّهُ كَمَا صَحَّ أَنْ يُقَالَ لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ فِي اتِّبَاعِ ظَنِّهِ مُهْتَدٍ صَحَّ لِلْعَامِّيِّ إذَا قَلَّدَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ إجْمَاعًا مُقَلِّدًا كَانَ أَوْ مُجْتَهِدًا إذْ الْمُرَادُ مِنْ الِاهْتِدَاءِ هُوَ الْإِتْيَانُ بِمَا يَجِبُ؛ وَلِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِآحَادِهِمْ إذَا كَانَ اهْتِدَاءً كَانَ الِاقْتِدَاءُ بِجَمِيعِهِمْ أَوْلَى بِالِاهْتِدَاءِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُمْ أَطْبَقُوا عَلَى تَخْطِئَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ الْحَقَّ وَاحِدًا فَكَانَ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي هَذَا اهْتِدَاءً. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ صَوَّبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَإِنَّمَا بَقِيَ التَّعْظِيمُ وَتَرْكُ الْإِنْكَارِ؛ لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ ظَنَّهُ وَالْمُخْطِئُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ حَتَّى لَوْ كَانَ مُعَيَّنًا يَجِبُ الْإِنْكَارُ حِينَئِذٍ. وَقَوْلُهُمْ لَوْ كَانَ الْحَقُّ وَاحِدًا لَنُصِبَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ فَاسِدٌ إذْ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمَصْلَحَةُ طَلَبَ الظَّنِّ بِالْحُكْمِ بِالْأَدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ لِنَيْلِ ثَوَابِ الِاجْتِهَادِ لَا طَلَبِ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِنَصْبِ الْأَدِلَّةِ الظَّاهِرَةِ مَعَ إمْكَانِ نَصْبِ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ. وَإِنَّمَا امْتَنَعَ نَقْضُ مَا خَالَفَ الصَّوَابَ لِعَدَمِ مَعْرِفَةِ الْخَطَأِ مِنْ الصَّوَابِ.

1 -

قَوْلُهُ: (فَأَمَّا مَنْ جَعَلَهُ) أَيْ الْمُجْتَهِدَ إذَا أَخْطَأَ مُخْطِئًا ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً أَيْ مُخْطِئًا مِنْ الْأَصْلِ فِي نَفْسِ الِاجْتِهَادِ، وَفِيمَا هُوَ الْحَقُّ حَقِيقَةً فَقَدْ احْتَجَّ بِمَا رَوَيْنَا مِنْ إطْلَاقِ الْخَطَأِ فِي الْحَدِيثِ فَإِنَّ النَّبِيَّ عليه السلام قَالَ «وَإِنْ أَخْطَأْت فَلَكَ حَسَنَةٌ» ذَكَرَ الْخَطَأَ مُطْلَقًا وَالْخَطَأُ الْمُطْلَقُ مَا هُوَ الْخَطَأُ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً. قَالُوا وَالِاجْتِهَادُ الْمُؤَدِّي إلَى الْخَطَأِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ كَالرَّجُلِ الْمَأْمُورِ بِدُخُولِ بَلَدٍ إذَا سَلَكَ طَرِيقًا لَا يُوَصِّلُهُ إلَيْهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ إنَّهُ مُصِيبٌ فِي قَطْعِ الْمَسَافَةِ الَّتِي قَطَعَهَا، وَلَا إنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِقَطْعِهَا. قَالُوا: وَإِنَّمَا أَلْزَمْنَا الْمُجْتَهِدَ الْعَمَلَ بِقِيَاسِهِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ صَوَابٌ كَمَا يَلْزَمُنَا الْعَمَلُ بِالنَّصِّ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ، وَمَتَى ظَهَرَ انْتِسَاخُهُ بَطَلَ الْعَمَلُ بِهِ فَكَذَلِكَ مَتَى عَمِلَ بِالْقِيَاسِ ثُمَّ رُوِيَ لَهُ نَصٌّ بِخِلَافِهِ حَتَّى تَبَيَّنَ خَطَؤُهُ يَقِينًا بَطَلَ مَا أَمْضَى بِقِيَاسِهِ.

وَكَذَلِكَ مَنْ حَضَرَتْهُ الصَّلَاةُ، وَمَعَهُ ثَوْبٌ أَوْ مَاءٌ شَكَّ فِي طَهَارَتِهِمَا فَإِنَّهُ يَسْتَعْمِلُهُمَا عَلَى تَقْدِيرِ الطَّهَارَةِ بِحُكْمِ الِاسْتِصْحَابِ فَإِذَا تَبَيَّنَ نَجَاسَتُهُمَا فَسَدَ عَمَلُهُ مِنْ الْأَصْلِ، وَمَا رُوِيَ مِنْ إطْلَاقِ الْإِصَابَةِ عَلَى الْمُجْتَهِدِينَ جَمِيعًا فَعَلَى مَا إذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ وَجْهُ الْخَطَأِ وَاشْتَبَهَ فَإِنَّ الْوَاجِبَ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ الْعَمَلُ بِأَيِّ قِيَاسٍ كَانَ فَيَكُونُ الْعَمَلُ مِنْ كُلِّ مُجْتَهِدٍ بِقِيَاسِهِ صَوَابًا ظَاهِرًا مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ خَطَؤُهُ. قَالُوا: وَهَكَذَا تَقُولُ فِي قَوْمٍ اخْتَلَفُوا فِي جِهَةِ الْكَعْبَةِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ وَصَلَّوْا إنَّ صَلَاةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَائِزٌ حَتَّى يَتَبَيَّنَ عَلَيْهِ خَطَؤُهُ فَحِينَئِذٍ نَأْمُرُهُ بِالْإِعَادَةِ.

قَوْلُهُ: «وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ عليه السلام فِي أُسَارَى بَدْرٍ اسْتَشَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما فِي أُسَارَى بَدْرٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه قَوْمُك، وَأَهْلُك اسْتَانَّ بِهِمْ لَعَلَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَخُذْ مِنْهُمْ فِدْيَةً تَتَقَوَّى بِهَا عَلَى الْكُفَّارِ، وَقَالَ عُمَرُ: رضي الله عنه كَذَّبُوك، وَأَخْرَجُوك قَدِّمْهُمْ وَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْنَاك عَنْ الْفِدَاءِ فَمَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى رَأْيِ

ص: 28

وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه وَبِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] وَالْحُكْمُ وَالْعِلْمُ إنَّمَا أُرِيدَ بِهِ الْعَمَلُ فَأَمَّا إصَابَةُ الْمَطْلُوبِ فَمِنْ أَحَدِهِمَا، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه لِمَسْرُوقٍ وَالْأَسْوَدُ كِلَاكُمَا أَصَابَ وَصَنِيعُ مَسْرُوقٍ أَحَبُّ إِلَيَّ فِيمَا سُبِقَا مِنْ رَكْعَتَيْ

ــ

[كشف الأسرار]

أَبِي بَكْرٍ فَنَزَلَ قَوْلُهُ عز وجل {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67] إلَى آخِرِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ فَقَالَ النَّبِيُّ عليه السلام لَوْ نَزَلَ بِنَا عَذَابٌ مَا نَجَا إلَّا عُمَرَ» . فَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ اجْتِهَادَ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ صَوَابًا، وَأَنَّ الِاجْتِهَادَ الْآخَرَ كَانَ خَطَأً مِنْ الْأَصْلِ لِاسْتِيجَابِهِ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ لَوْلَا الْمَانِعُ، وَهُوَ الْكِتَابُ السَّابِقُ، وَلَوْ كَانَ صَوَابًا فِي حَقِّ الْعَمَلِ لَمَا اسْتَوْجَبَ بِهِ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ لِوُجُودِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْ الْكِتَابِ السَّابِقِ مَا كَتَبَ اللَّهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ أَهْلَ بَدْرٍ.

وَقِيلَ أَنْ يُحِلَّ لَهُمْ الْغَنَائِمَ وَالْفِدَاءَ، وَقِيلَ أَنْ لَا يُعَذِّبَ قَوْمًا إلَّا بَعْدَ تَأْكِيدِ الْحُجَّةِ وَتَقْدِيمِ النَّهْيِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ. ثُمَّ بِظَاهِرِ هَذَا النَّصِّ تَمَسَّكَ الْمَرِيسِيِّ، وَمَنْ تَابَعَهُ، وَقَالَ الْمُجْتَهِدُ يَأْثَمُ بِالْخَطَأِ وَيُعَاتَبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ دَلِيلُ الْإِثْمِ؛ وَلِأَنَّ الْخَطَأَ إنَّمَا يَقَعُ لِتَقْصِيرٍ فِي الطَّلَبِ، وَالتَّقْصِيرُ فِي طَلَبِ الْوَاجِبِ دَلِيلُ الْإِثْمِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْخَطَأَ فِي أُصُولِ الدِّينِ مُوجِبٌ لِلْإِثْمِ لِقُصُورٍ فِي الطَّلَبِ وَالتَّأَمُّلِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالْمُجْتَهِدِينَ عَلَى سَبِيلِ الشُّهْرَةِ تَشْنِيعُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَلَا يَتَّقِي اللَّهَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ.، وَقَوْلِهِ مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ.، وَقَوْلِ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَبْلِغْ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبْطَلَ حَجَّهُ وَجِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ إنْ لَمْ يَتُبْ. وَقَوْلِ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله هَذَا شَيْءٌ احْتَاطَهُ بَعْضُ الْقُضَاةِ، وَهُوَ جَوْرٌ، وَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله مَنْ اسْتَحْسَنَ فَقَدْ شَرَّعَ فَدَلَّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْخَطَأَ يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْعِتَابِ وَالْإِثْمِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلتَّشْنِيعِ وَجْهٌ.

قَوْلُهُ: (وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) فَإِنَّهُ عليه السلام لَمَّا قَالَ لَهُ، وَإِنْ أَخْطَأْت فَلَكَ حَسَنَةٌ، وَقَالَ فِي آخَرَ «، وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ» وَالْخَطَأُ الْمُطْلَقُ لَا يَكُونُ حَسَنَةً، وَلَا سَبَبًا لِلْأَجْرِ بِوَجْهٍ عَرَفْنَا أَنَّهُ مُصِيبٌ فِي نَفْسِ الِاجْتِهَادِ، وَمُسْتَحِقٌّ لِلْأَجْرِ بِهِ، وَإِنْ أَخْطَأَ الْحَقَّ الْحَقِيقِيَّ. وَبِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ {وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] أَخْبَرَ أَنَّهُمَا جَمِيعًا أُوتِيَا مِنْ اللَّهِ عِلْمًا وَحُكْمًا بَعْدَمَا بَيَّنَ أَنَّ سُلَيْمَانَ اخْتَصَّ بِفَهْمِ مَا هُوَ الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ عز وجل، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَطَأَ الْمَحْضَ لَا يَكُونُ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَيَثْبُتُ أَنَّ تَأْوِيلَهُ أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ إنَّهُ صَوَابٌ فِي حَقِّ الْعَمَلِ.

وَهَذَا التَّمَسُّكُ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا سَلَّمَ الْخَصْمُ أَنَّ الْمُرَادَ إتْيَانُ الْعِلْمِ وَالْحُكْمِ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ، وَلَكِنَّهُ لَا يُسَلِّمُ بَلْ يَقُولُ الْمُرَادُ إتْيَانُ الْعِلْمِ وَالْحُكْمِ فِي غَيْرِهِمَا كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ كَذَا رُوِيَ أَنَّ مَسْرُوقًا وَعَلْقَمَةَ أَوْ الْأَسْوَدَ سُبِقَا بِرَكْعَتَيْنِ مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَلَمَّا قَامَا إلَى الْقَضَاءِ صَلَّى مَسْرُوقٌ رَكْعَةً وَجَلَسَ ثُمَّ رَكْعَةً وَجَلَسَ وَسَلَّمَ وَصَلَّى الْآخَرُ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ فَذَكَرَا ذَلِكَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فَقَالَ كِلَاكُمَا أَصَابَ، وَلَكِنَّ صَنِيعَ مَسْرُوقٍ أَحَبُّ إلَيَّ فَنَظَرَ أَحَدُهُمَا إلَى الْفَائِتِ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا قَعْدَةٌ وَالْآخَرُ إلَى الْبَاقِي فَقَوْلُهُ كِلَاكُمَا أَصَابَ دَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُصِيبٌ، وَقَوْلُهُ صَنِيعُ مَسْرُوقٍ أَحَبُّ إلَيَّ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَقُلْنَا أَرَادَ بِأَوَّلِ الْكَلَامِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُصِيبٌ فِيمَا عَمِلَ بِاجْتِهَادِهِ، وَمِنْ آخِرِهِ أَنَّ الْحَقَّ الْحَقِيقِيَّ مَعَ مَسْرُوقٍ عِنْدَهُ.

فَإِنْ قِيلَ: هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ بَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كِلَا الِاجْتِهَادَيْنِ حَقٌّ، وَلَكِنَّ الْعَمَلَ بِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَسْرُوقٌ أَفْضَلُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْقَائِلِينَ بِالْأَشْبَهِ.

قُلْنَا: هَبْ أَنَّهُ كَذَلِكَ لَكِنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ

ص: 29

وَلِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ يُكَلَّفُ بِمَا فِي وُسْعِهِ فَاسْتَوْجَبَ الْأَجْرَ عَلَى ابْتِدَاءِ فِعْلِهِ وَحَرُمَ الصَّوَابُ وَالثَّوَابُ فِي آخِرِهِ إمَّا بِتَقْصِيرٍ مِنْهُ أَوْ حِرْمَانًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً.

وَأَمَّا قِصَّةُ بَدْرٍ فَقَدْ عَمِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِإِشَارَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه فَكَيْفَ يَكُونُ خَطَأً إلَّا أَنَّ هَذَا كَانَ رُخْصَةً.

وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ عَلَى حُكْمِ الْعَزِيمَةِ لَوْلَا الرُّخْصَةُ

ــ

[كشف الأسرار]

أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُصِيبٌ فِي حَقِّ الْعَمَلِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ، وَأَنَّ مَذْهَبَ عَبْدِ اللَّهِ حَيْثُ قَالَ، وَإِنْ أَخْطَأْتُ فَمِنِّي، وَمِنْ الشَّيْطَانِ عَرَفْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّ كِلَيْهِمَا أَصَابَ الْحَقَّ حَقِيقَةً، وَأَنَّ أَحَدَهُمَا أَحَقُّ بَلْ أَرَادَ مَا ذَكَرْنَا أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ مُخْطِئٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً سَاعَدَنَا فِي أَنَّهُ مُخْطِئٌ لِلْحُكْمِ فَلَا يُمْكِنُهُ حَمْلُ قَوْلِهِ كِلَاكُمَا قَدْ أَصَابَ عَلَى أَنَّهُمَا أَصَابَا الْحُكْمَ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُمَا أَصَابَا فِي الِاجْتِهَادِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُكَلَّفٌ بِمَا فِي وُسْعِهِ، وَفِي وُسْعِ كُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ طَلَبُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْحَقِّ دُونَ إصَابَتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ أُمِرَ بِالْقِيَاسِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ، وَأَنَّهُ لَا يُوَصِّلُهُ إلَى الْحَقِّ الَّذِي هُوَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى قَطْعًا بِلَا خِلَافٍ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِالْعَمَلِ بِهِ عَلَى شَرْطِ إصَابَةِ الْحَقِّ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يُوَصِّلُهُ إلَيْهِ، وَلَكِنْ عَلَى تَحَرِّي الْإِصَابَةِ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ مُطْمِعٌ فِي الْإِصَابَةِ فَاسْتَوْجَبَ الْأَجْرَ عَلَى ابْتِدَاءِ فِعْلِهِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا كُلِّفَ بِهِ وَحُرِمَ الصَّوَابَ، وَالثَّوَابُ فِي آخِرِهِ أَيْ ثَوَابُ إصَابَةِ الْحَقِّ إمَّا بِسَبَبِ تَقْصِيرٍ مِنْهُ أَوْ بِابْتِدَاءِ حِرْمَانٍ مِنْ اللَّهِ عز وجل.

وَهَذَا كَمَنْ قَاتَلَ الْكُفَّارَ عَلَى تَحَرِّي النُّصْرَةِ كَانَ مُصِيبًا فِي قِتَالِهِ مُمْتَثِلًا أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِي إعْلَاءِ كَلِمَتِهِ قَتَلَ أَمْ قُتِلَ مُسْتَحِقًّا لِلْأَجْرِ الْعَظِيمِ؛ لِأَنَّهُ مُصِيبٌ لَمَّا قَاتَلَ عَلَى تَحَرِّي إصَابَةِ النُّصْرَةِ أَصَابَ أَوْ لَمْ يُصِبْ، وَكَالرُّمَاةِ إذَا نَصَبُوا غَرَضًا فَرَمَوْا عَلَى تَحَرِّي الْإِصَابَةِ كَانُوا مُصِيبِينَ فِي تَحَرِّيهِمْ الْإِصَابَةَ، وَإِذَا أَخْطَأَ بَعْضُهُمْ الْغَرَضَ، وَأَصَابَ الْبَعْضُ لَمْ يَصِرْ وَاحِدٌ مُخْطِئًا فِي تَحَرِّيهِ الْإِصَابَةَ بِطَرِيقِهِ (فَإِنْ قِيلَ) خَطَؤُهُ فِي تَقْصِيرِهِ فِي طَلَبِ طَرِيقِ الْإِصَابَةِ لَا فِي قَصْدِ الْإِصَابَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَاهُ مِنْ الرَّأْيِ مَا لَوْ بَذَلَ مَجْهُودَهُ كُلَّ الْبَذْلِ لَأَصَابَ الْحَقَّ عَلَى الْحَقِيقَةِ.

(قُلْنَا) إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا لَمْ يُكَلِّفْ بِمَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ لَمْ يُكَلِّفْ بِمَا فِيهِ الْحَرَجُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، وَفِي بِنَاءِ الْخِطَابِ عَلَى هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ فِي اسْتِعْمَالِ الرَّأْيِ حَرَجٌ عَظِيمٌ فَيَصِيرُ عَفْوًا وَيَجِبُ بِنَاءُ الْخِطَابِ عَلَى الْمُعْتَادِ مِنْ الِاسْتِعْمَالِ وَذَلِكَ لَا يُوَصِّلُنَا إلَى حَقِيقَةِ الْعِلْمِ بِلَا خِلَافٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ الِاجْتِهَادِ فِي أُصُولِ الدِّينِ فَإِنَّ الْمُخْطِئَ لِمَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مُخْطِئٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى دَلَائِلَ عَلَيْهَا يُوجِبُ الْعِلْمُ يَقِينًا فِي أَصْلِ الْوَضْعِ فَلَمْ يَجِبْ الْخَطَأُ إلَّا بِقِلَّةِ التَّأَمُّلِ.

فَأَمَّا قِصَّةُ بَدْرٍ فَقَدْ عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِإِشَارَةِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه أَيْ بِاجْتِهَادِهِ وَرَأْيِهِ يَعْنِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ اجْتِهَادُهُ عَلَى الْخَطَأِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَمِلَ بِرَأْيِهِ، وَأُقِرَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا} [الأنفال: 69] ، وَلَمَّا أُقِرَّ عَلَيْهِ لَمْ يَحْتَمِلْ الْخَطَأَ بِوَجْهٍ. إلَّا أَنَّ هَذَا أَيْ أَخْذَ الْفِدَاءِ كَانَ رُخْصَةً.

وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ عَلَى حُكْمِ الْعَزِيمَةِ لَوْلَا الرُّخْصَةُ أَيْ الْعِتَابُ بِنَاءً عَلَى تَقْدِيرِ بَقَاءِ الْعَزِيمَةِ. قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ وَتَأْوِيلُ الْعِتَابِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] وَكَانَ ذَلِكَ كَرَامَةً خُصِّصَتْ بِهَا رُخْصَةُ {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] بِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ لَمَسَّكُمْ الْعَذَابُ بِحُكْمِ الْعَزِيمَةِ عَلَى مَا قَالَهُ عُمَرُ.

وَالْوَجْهُ الْآخَرُ {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67] قَبْلَ الْإِثْخَانِ، وَقَدْ أَثْخَنْت يَوْمَ بَدْرٍ فَكَانَ لَك الْأَسْرَى كَمَا كَانَ لِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام، وَلَكِنْ كَانَ الْحُكْمُ فِي الْأَسْرَى الْمَنَّ أَوْ الْقَتْلَ دُونَ الْمُفَادَاةِ فَلَوْلَا الْكِتَابُ السَّابِقُ فِي إبَاحَةِ الْفِدَاءِ لَك لَمَسَّكُمْ الْعَذَابُ كَذَا فِي التَّقْوِيمِ

ص: 30

فَالْمُخْطِئُ فِي هَذَا الْبَابِ لَا يُضَلَّلُ وَلَا يُعَاتَبُ إلَّا أَنْ يَكُونَ طَرِيقُ الصَّوَابِ بَيِّنًا فَيُعَاتَبُ، وَإِنَّمَا نَسَبْنَا الْقَوْلَ بِتَعَدُّدِ الْحُقُوقِ إلَى الْمُعْتَزِلَةِ لِقَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ الْأَصْلَحِ، وَفِي تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ وُجُوبُ الْقَوْلِ بِالْأَصْلَحِ وَبِأَنْ يَلْحَقَ الْوَلِيُّ بِالنَّبِيِّ، وَهَذَا عَيْنُ مَذْهَبِهِمْ وَالْمُخْتَارُ مِنْ الْعِبَارَاتِ عِنْدَنَا أَنْ يُقَالَ إنَّ الْمُجْتَهِدَ يُصِيبُ وَيُخْطِئُ عَلَى تَحْقِيقِ الْمُرَادِ بِهِ احْتِرَازًا عَنْ الِاعْتِزَالِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَعَلَى هَذَا أَدْرَكْنَا مَشَايِخَنَا وَعَلَيْهِ مَضَى أَصْحَابُنَا الْمُتَقَدِّمُونَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَوْ كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا لَسَقَطَتْ الْمِحْنَةُ وَبَطَلَ الِاجْتِهَادُ

ــ

[كشف الأسرار]

قَوْلُهُ: (فَالْمُخْطِئُ فِي هَذَا الْبَابِ) أَيْ فِي الْفُرُوعِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا لَا يُضَلَّلُ، وَاحْتَرَزَ بِهِ عَنْ الْمُخْطِئِ فِي الْأُصُولِ فَإِنَّهُ مُضَلَّلٌ، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي الْمُخْطِئِ فِي الْفُرُوعِ فَقِيلَ هُوَ مَأْجُورٌ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ. وَقِيلَ هُوَ مَعْذُورٌ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ ضِدُّ الصَّوَابِ، وَهُوَ مَحْظُورٌ فِي الْأَصْلِ إلَّا أَنَّ حُكْمَ الْحَظْرِ يَزُولُ بِعُذْرِ الْخَطَأِ فَأَمَّا أَنْ يَنَالَ أَجْرَ الصَّوَابِ، وَلَا صَوَابَ فَلَا كَالنَّائِمِ لَا يَأْثَمُ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ، وَلَكِنْ لَا يَنَالُ ثَوَابَ الْمُصَلِّي. وَقِيلَ هُوَ مُعَاقَبٌ مُخَطَّأٌ لِمَا ذَكَرْنَا، وَقُلْنَا إذَا كَانَ طَرِيقُ الْإِصَابَةِ بَيِّنًا فَهُوَ مُعَاتَبٌ لِعِلْمِنَا أَنَّهُ مَا أَخْطَأَ إلَّا بِتَقْصِيرِ مَنْ قَبْلَهُ فَأَمَّا إذَا كَانَ خَفِيًّا فَلَيْسَ بِمُعَاتَبٍ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ إنَّمَا وَقَعَ لِخَفَاءِ دَلِيلِ الْإِصَابَةِ وَذَلِكَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْخَفِيُّ مِمَّا لَا يُدْرِكُهُ كُلُّ فَهْمٍ وَكُلُّ قَلْبٍ فَإِنَّ إدْرَاكَ الْبَصَائِرِ عَلَى التَّفَاوُتِ كَإِدْرَاكِ الْأَبْصَارِ بِحُكْمِ الْخِلْقَةِ فَلَا يَجُوزُ الْعِتَابُ عَلَى فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَصِيرُ مَعْذُورًا فِيمَا لَمْ يُدْرِكْ مُصِيبًا فِيمَا اسْتَعْمَلَ مِنْ الِاجْتِهَادِ مَأْجُورًا.

وَمَا رُوِيَ مِنْ التَّخْطِئَةِ وَالتَّشْنِيعِ فَعَلَى النَّوْعِ الَّذِي طَرِيقُهُ عِنْدَ الَّذِي خَطَّأَ وَشَنَّعَ، وَفِي تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ وُجُوبُ الْقَوْلِ بِالْأَصْلَحِ فَإِنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ الْأَصْلَحَ لِلْعَبْدِ إصَابَةُ الْحَقِّ وَاسْتِحْقَاقُ الثَّوَابِ عَلَيْهِ فَإِذَا حُرِمَ مِنْ الْإِصَابَةِ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ أَصْلَحَ لَهُ، وَهُوَ وَاجِبٌ لَهُ عِنْدَهُمْ فَلِذَلِكَ وَجَبَ الْقَوْلُ بِإِصَابَةِ الْكُلِّ. وَبِأَنْ يَلْحَقَ الْوَلِيُّ بِالنَّبِيِّ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ نَبِيٍّ مِنْ الْإِكْرَامِ وَالْإِفْضَالِ مَا لَا يَفْعَلُهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ إلَّا أَنَّ الْعَبْدَ يُبْطِلُ ذَلِكَ بِفِعْلِهِ وَاجْتِسَارِهِ فَالْوَلِيُّ مُلْحَقٌ بِالنَّبِيِّ عِنْدَهُمْ فِي حَقِّ الْإِفْضَالِ وَالْإِنْعَامِ عَلَيْهِ، وَفِي تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ إلْحَاقُ الْوَلِيِّ بِالنَّبِيِّ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ مُصِيبًا لِلْحَقِّ فِي اجْتِهَادِهِ لَا مَحَالَةَ كَانَ قَوْلُهُ فِي الْحَقِّيَّةِ مِثْلَ قَوْلِ النَّبِيِّ فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّصْوِيبِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِهِمْ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّصْوِيبِ لَا يُؤَدِّي إلَى الْقَوْلِ بِالْأَصْلَحِ لَا مَحَالَةَ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ ذَهَبُوا إلَيْهِ مَعَ إنْكَارِهِمْ الْقَوْلَ بِالْأَصْلَحِ، وَلَكِنَّ مَبْنَى التَّصْوِيبِ عَلَى أَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا وُجُوبُ الْأَصْلَحِ كَمَا ذَكَرَ الشَّيْخُ رحمه الله.

وَالثَّانِي امْتِنَاعُ تَكْلِيفِ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ أَوْ مَا فِيهِ حَرَجٌ فَمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الِاعْتِزَالِ بِالتَّصْوِيبِ بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ الْأَصْلَحِ، وَمَنْ قَالَ بِهِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ بِنَاءً عَلَى امْتِنَاعِ تَكْلِيفِ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ أَوْ مَا فِيهِ حَرَجٌ. قَوْلُهُ:(عَلَى تَحْقِيقِ الْمُرَادِ بِهِ) أَيْ بِهَذَا الْقَوْلِ بِأَنْ يُرَادَ إصَابَةُ الْحَقِّ الْحَقِيقِيِّ، وَإِخْطَاءِ الْحَقِّ الْحَقِيقِيِّ لِيَحْصُلَ الِاحْتِرَازُ عَنْ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِالْأَحَقِّ مِنْهُمْ قَدْ يَقُولُونَ إنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ وَيُرِيدُونَ بِذَلِكَ إصَابَةَ الْأَحَقِّ وَإِخْطَاءَهُ، وَلَكِنَّ الْمُخْطِئَ لِلْأَحَقِّ مُصِيبٌ لِلْحَقِّ حَقِيقَةً عِنْدَهُمْ فَإِذَا لَمْ نُرِدْ بِقَوْلِنَا يُخْطِئُ وَيُصِيبُ حَقِيقَةً كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَا يَكُونُ هَذَا احْتِرَازًا عَنْ الِاعْتِزَالِ ظَاهِرًا حَيْثُ حَصَلَ بِهِ الِاحْتِرَازُ عَنْ مَذْهَبِ مَنْ قَالَ بِاسْتِوَاءِ الْحُقُوقِ مِنْهُمْ لَا بَاطِنًا حَيْثُ لَمْ يَحْصُلْ الِاحْتِرَازُ عَنْ مَذْهَبِ الْقَائِلِينَ بِالْأَحَقِّ فَأَمَّا إذَا أَرَدْنَا بِهِمَا إصَابَةَ الْحَقِّ الْحَقِيقِيِّ، وَإِخْطَاءَهُ فَقَدْ حَصَلَ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْمَذْهَبَيْنِ فَكَانَ ذَلِكَ احْتِرَازًا عَنْ مَذْهَبِهِمْ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.

قَالَ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ: وَلَقَدْ تَدَبَّرْتُ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ مَنْ يَقُولُ بِالتَّصْوِيبِ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْفِقْهِ، وَمَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ كَثِيرُ حَظٍّ، وَلَمْ يَقِفُوا عَلَى شَرَفِ هَذَا الْعِلْمِ، وَمَنْصِبِهِ فِي الدِّينِ، وَمَرْتَبَتِهِ فِي مَسَالِكِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِنَّمَا نِهَايَةُ رَأْسِ مَالِهِمْ الْمُجَادَلَاتُ الْمُوحِشَةُ، وَإِلْزَامُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فِي مَنْصُوبَاتٍ، وَمَوْضُوعَاتٍ اتَّفَقُوا

ص: 31