المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ الِاسْتِحْسَانِ]

- ‌[أَقْسَامُ الِاسْتِحْسَانِ]

- ‌[بَابُ أَحْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الِاجْتِهَادِ وَالْكَلَامُ فِي شَرْطِهِ وَحُكْمِهِ]

- ‌[شَرْطُ الِاجْتِهَادِ]

- ‌[حُكْمُ الِاجْتِهَاد]

- ‌(بَابُ فَسَادِ تَخْصِيصِ الْعِلَلِ)

- ‌(بَابُ وُجُوهِ دَفْعِ الْعِلَلِ)

- ‌[أَقْسَام الْعِلَل]

- ‌[الْعِلَل الْمُؤْثَرَة وَطُرُق دُفَعهَا]

- ‌[دَفْعِ الْعِلَل الْمُؤْثَرَة بِطَرِيقِ فاسد وَطَرِيق صَحِيح]

- ‌(بَابُ الْمُمَانَعَةِ)

- ‌بَابُ الْمُعَارَضَةِ)

- ‌[النَّوْعُ الْأَوَّلِ الْمُعَارَضَةُ الَّتِي فِيهَا مُنَاقَضَةٌ]

- ‌[النَّوْعُ الثَّانِي الْمُعَارَضَة الْخَالِصَة]

- ‌بَابُ بَيَانِ وُجُوهِ دَفْعِ الْمُنَاقَضَةِ) :

- ‌بَابُ التَّرْجِيحِ) :

- ‌[الْقِسْمُ الْأَوَّل تَفْسِيرِ التَّرْجِيحِ وَمَعْنَاهُ]

- ‌[الْقِسْمُ الثَّانِي التَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ الْأَثَرِ]

- ‌[الْقِسْمُ الثَّالِثُ بَيَانُ الْمُخَلِّصِ فِي تَعَارُضِ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ]

- ‌[الْقِسْمُ الرَّابِعِ بَيَانُ الْفَاسِدِ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ تَرْجِيحُ الْقِيَاسِ بِقِيَاسٍ آخَرَ]

- ‌(بَابُ وُجُوهِ دَفْعِ الْعِلَلِ الطَّرْدِيَّةِ)

- ‌ الْقَوْلُ بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ

- ‌ الْمُمَانَعَةُ

- ‌ فَسَادُ الْوَضْعِ

- ‌ الْمُنَاقَضَةُ

- ‌ بَابُ وُجُوهِ الِانْتِقَالِ) :

- ‌بَابُ مَعْرِفَةِ أَقْسَامِ الْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ وَالشُّرُوطِ

- ‌(بَابُ تَقْسِيمِ السَّبَبِ)

- ‌بَابُ تَقْسِيمِ الْعِلَّةِ)

- ‌(بَابُ تَقْسِيمِ الشَّرْطِ)

- ‌بَابُ تَقْسِيمِ الْعَلَامَةِ) :

- ‌(بَابُ بَيَانِ الْعَقْلِ) :

- ‌(بَابُ بَيَانِ الْأَهْلِيَّةِ) :

- ‌[أضرب الْأَهْلِيَّة]

- ‌(بَابُ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ)

- ‌(بَابُ الْأُمُورِ الْمُعْتَرِضَةِ عَلَى الْأَهْلِيَّةِ) :

- ‌بَابُ الْعَوَارِضِ) (الْمُكْتَسَبَةِ) :وَهِيَ نَوْعَانِ

- ‌[النَّوْع الْأَوَّل مِنْ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ]

- ‌جَهْلُ صَاحِبِ الْهَوَى فِي صِفَاتِ اللَّهِ عز وجل وَأَحْكَامِ الْآخِرَةِ

- ‌ الْجَهْلُ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ الصَّحِيحِ أَوْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ

- ‌ الْجَهْلُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ مُسْلِمٍ لَمْ يُهَاجِرْ

- ‌[فَصْلٌ السُّكْر قسمان] [

- ‌الْقَسْم الْأَوَّل السُّكْر بِطَرِيقِ مُبَاح]

- ‌[الْقَسْم الثَّانِي السُّكْر بِطَرِيقِ غَيْر مُبَاح]

- ‌[فَصْلُ الْهَزْلِ مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ]

- ‌[السَّفَه مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ]

- ‌[السَّفَر مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ]

- ‌[الْخَطَأُ مِنْ الْعَوَارِض الْمُكْتَسِبَة]

الفصل: ‌ فساد الوضع

وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ فِي الْأَخِ إنَّهُ لَا يُعْتَقُ عَلَى أَخِيهِ لِعَدَمِ الْبَعْضِيَّةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ لَمْ يَثْبُتْ لِعَدَمِ الْبَعْضِيَّةِ وَكَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ النِّكَاحُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ كَالْحَدِّ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ عِنْدَنَا لَا يَثْبُتُ بِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ وَكَذَلِكَ كُلُّ نَفْيٍ وَعَدَمٍ جُعِلَ وَصْفًا لَزِمَهُ هَذَا الِاعْتِرَاضُ؛ لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يَصْلُحُ وَصْفًا مُوجَبًا وَنَفْسُ الْوُجُودِ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً؛ لِأَنَّهُمْ يُسَلِّمُونَ شَرْطَ الصَّلَاحِ فَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى نِسْبَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ.

النَّوْعُ الثَّالِثُ وَهُوَ‌

‌ فَسَادُ الْوَضْعِ

وَهَذَا يَنْقُضُ الْقَاعِدَةَ أَصْلًا وَهُوَ فَوْقَ الْمُنَاقَضَةِ؛ لِأَنَّهَا خَجْلَةُ مَجْلِسٍ يَحْتَمِلُ الِاحْتِرَازَ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ.

ــ

[كشف الأسرار]

فِي صِحَّةِ إضَافَةِ الْحُكْمِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الِاتِّفَاقِ فَإِنَّ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ قَدْ يَكُونُ أَوْصَافٌ يُوجَدُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهَا وَلَا تَكُونُ مَنَاطَ الْحُكْمِ بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا الْعَدَمُ لَا يَصْلُحُ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ يُوجِبُ نِسْبَةَ الْحُكْمِ إلَى الْوَصْفِ فَمَتَى أَضَافَهُ الْمُعَلِّلُ إلَى وَصْفٍ مِنْ غَيْرِ دَلِيلِ صِحَّةِ مُمَانَعَةِ السَّائِلِ نِسْبَةَ الْحُكْمِ إلَيْهِ كَمَا صَحَّ الْقَوْلُ بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ فَإِنَّهُ فِي التَّحْقِيقِ مَنَعَ إضَافَةَ الْحُكْمِ إلَى الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ وَهَذِهِ الْمُمَانَعَةُ مُخْتَصَّةٌ بِالْأَصْلِ فَإِنْ قَالَ: لَا أَعْرِفُ فِي الْأَصْلِ مَعْنَى آخَرَ سِوَى مَا ذَكَرْتُهُ قُلْنَا لَهُ: هَذَا جَهْلٌ مِنْك فَلَا يَصْلُحُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِك.

عَلَى أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَصْلِ مَعْنًى آخَرُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحُكْمَ ثَابِتٌ بِهِ لِجَوَازِ ثُبُوتِهِ بِالْإِجْمَاعِ أَوْ بِالنَّصِّ وَذَكَر الْغَزَالِيُّ رحمه الله فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ إنْ كَانَ مُجْتَهِدًا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِمَا ظَهَرَ عِنْدَهُ مَتَى عَجَزَ عَنْ إبْرَازِ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ مُنَاظِرًا يَكْفِيه أَنْ يَقُولَ هَذَا مُنْتَهَى قُدْرَتِي فِي اسْتِخْرَاجِ الْوَصْفِ فَإِنْ شَارَكَتْنِي فِي الْجَهْلِ بِغَيْرِ مُلْزَمِك مَا لَزِمَنِي وَإِنْ طَلَعْت عَلَى غَيْرِهِ لَزِمَك التَّنْبِيهُ حَتَّى أَنْظُرَ فِيهِ فَإِنْ قَالَ: لَا يَلْزَمُنِي ذَلِكَ وَلَا أُظْهِرُهُ وَإِنْ كُنْت أَعْرِفُهُ فَهَذَا عِنَادٌ مُحَرَّمٌ وَصَاحِبُهُ إمَّا كَاذِبٌ أَوْ فَاسِقٌ بِكِتْمَانِ حُكْمٍ مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى إظْهَارِهِ وَمِثْلُ هَذَا الْجَدَلِ حَرَامٌ وَلَيْسَ مِنْ الدِّينِ.

قَوْلُهُ (وَذَلِكَ) أَيْ مَنْعٌ مَعَ نِسْبَةِ الْحُكْمِ إلَى الْوَصْفِ يَتَحَقَّقُ فِي قَوْلِهِمْ فِي الْأَخِ أَنَّهُ يُعْتَقُ عَلَى أَخِيهِ عِنْدَ الدُّخُولِ فِي مِلْكِهِ لِعَدَمِ الْبَعْضِيَّةِ كَابْنِ الْعَمّ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ وَهُوَ عَدَمُ الْعِتْقِ فِي ابْنِ الْعَمِّ لَمْ يَثْبُتْ لِعَدَمِ الْبَعْضِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا حُكْمًا بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ وَهُوَ بَعْدَ الْقَرَابَةِ وَكَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ النِّكَاحُ أَيْ وَمِثْلُ قَوْلِهِمْ فِي الْأَخِ كَذَا قَوْلُهُمْ لَا يَثْبُتُ النِّكَاحُ لَمْ يَثْبُتْ بِهَا أَيْ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ لَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ لَيْسَ بِمَالٍ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً لِامْتِنَاعِ ثُبُوتِهِ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ بَلْ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ شُبْهَةٌ زَائِدَةٌ وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ فَكَيْفَ يَثْبُتُ بِمَا فِيهِ شُبْهَةٌ وَكَذَلِكَ أَيْ وَمِثْلُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمِثَالَيْنِ كُلُّ نَفْيٍ وَعَدَمِ تَرَادُفٍ أَوْ النَّفْيُ تَعَرُّضٌ لِجَانِبِ الْمُعَلِّلِ وَالْعَدَمُ تَعَرُّضٌ لِجَانِبِ الْوَصْفِ مِثْلُ قَوْلِهِمْ الْمَبْتُوتَةُ لَا يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَنْكُوحَةٍ؛ لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يَصْلُحُ وَصْفًا مُوجِبًا لِلْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ.

وَنَفْسُ الْوُجُودِ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً مُتَعَلِّقٌ بِأَوَّلِ الْكَلَامِ أَيْ نَفْسُ وُجُودِ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِ الْوَصْفِ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ حُجَّةً بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْنِي أَصْحَابَ الطَّرْدِ يُسَلِّمُونَ أَنَّ صَلَاحَ الْوَصْفِ شَرْطٌ لِيَكُونَ حُجَّةً مَعَ أَنَّ الْوُجُودَ يَتَحَقَّقُ بِدُونِهِ فَثَبَتَ أَنَّ نَفْسَ الْوُجُودِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ بِالْإِجْمَاعِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ دَلِيلٍ عَلَى نِسْبَةِ الْحُكْمِ إلَى الْوَصْفِ وَمِثَالُهُ تَعْلِيقُ كَفَّارَةِ الصَّوْمِ بِوَصْفِ الْجِمَاعِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا تُوجَدُ عِنْدَ وُجُودِهِ لِتَعَدِّي الْحُكْمِ بِهِ إلَى جِمَاعِ الْمَيْتَةِ وَالْبَهِيمَةِ أَوْ لَتَمَنَّعَ عَنْ تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ إلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لَا يَكُونُ حُجَّةً؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحُكْمَ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ بَلْ إلَى الْفِطْرِ الْكَامِلِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ.

[فَسَادُ الْوَضْعِ]

قَوْلُهُ (وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ) يَعْنِي مِنْ أَقْسَامِ أَوَّلِ الْبَابِ هُوَ فَسَادُ الْوَضْعِ وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ فِي بَابِ بَيَانِ دَفْعِ الْعِلَلِ وَهَذَا يَنْقُضُ الْقَاعِدَةَ أَصْلًا أَيْ الْقَاعِدَةَ الَّتِي بَنَى عَلَيْهَا الْمُجِيبُ كَلَامَهُ وَهُوَ فَوْقَ الْمُنَاقَضَةِ فِي الدَّفْعِ؛ لِأَنَّ الْمُنَاقَضَةَ خَجَلُ مَجْلِسٍ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ بِالتَّقَصِّي عَنْ عُهْدَةِ النَّقْضِ بِالْجَوَابِ أَوْ بِزِيَادَةِ قَيْدٍ يَنْدَفِعُ بِهِ النَّقْضُ فَأَمَّا فَسَادُ الْوَضْعِ فَيُفْسِدُ الْقَاعِدَةَ أَصْلًا.

ص: 118

وَأَمَّا فَسَادُ الْوَضْعِ فَيُفْسِدُ الْقَاعِدَةَ أَصْلًا مِثَالُهُ تَعْلِيلُهُمْ لِإِيجَابِ الْفُرْقَةِ بِإِسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ وَلَا بَقَاءَ النِّكَاحِ مَعَ ارْتِدَادِ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ فِي الْوَضْعِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَصْلُحُ قَاطِعًا لِلْحُقُوقِ وَالرِّدَّةُ لَا يَصْلُحُ عَفْوًا.

ــ

[كشف الأسرار]

لِأَنَّ بَعْدَ ظُهُورِهِ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ وَلَا فِي مَجْلِسٍ آخَرَ وَلَا وَجْهَ سِوَى الِانْتِقَالِ إلَى عِلَّةٍ أُخْرَى وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ الْمُنَاقَضَةَ بَيَانُ أَنَّ الْمُجِيبَ بَنَى الْكَلَامَ فِي مَحَلِّهِ لَكِنْ غَيْرَ مُحَكَّمٍ حَتَّى قَبْلَ النَّقْضِ وَفَسَادُ الْوَضْعِ بَيَانُ أَنَّهُ وَضَعَ الْكَلَامَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَكَانَ أَقْوَى فِي الدَّفْعِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله فَسَادُ الْوَضْعِ فِي الْعِلَلِ بِمَنْزِلَةِ فَسَادِ الْأَدَاءِ فِي الشَّهَادَةِ وَأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّقْضِ؛ لِأَنَّ الِاطِّرَادَ إنَّمَا يُطْلَبُ بَعْدَ صِحَّةِ الْعِلَّةِ كَمَا أَنَّ الشَّاهِدَ إنَّمَا يَسْتَقِلُّ لِتَعْدِيلِهِ بَعْدَ صِحَّةِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ مِنْهُ فَأَمَّا مَعَ فَسَادٍ فِي الْأَدَاءِ فَلَا يُصَارُ إلَى التَّعْدِيلِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُفِيدٍ وَرَأَيْت فِي بَعْضِ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ حَاصِلَ الْقَوْلِ فِي فَسَادِ الْوَضْعِ يَحْصُرُهُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُبَيِّنَ الْمُعْتَرِضُ أَنَّ الْقِيَاسَ مَوْضُوعٌ عَلَى خِلَافِ مَا يَقْتَضِيهِ تَرْتِيبُ الْأَدِلَّةِ.

وَمِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: إنَّ التَّعْلِيلَ عَلَى خِلَافِ الْكِتَابِ أَوْ عَلَى خِلَافِ السُّنَّةِ أَوْ يَقُولَ: إنَّهُ بِالْقِيَاسِ حَاوَلَ الْجَمْعَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَرَّقَ الشَّرْعُ بَيْنَهُمَا أَوْ حَاوَلَ التَّفْرِيقَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ جَمَعَ الشَّرْعُ بَيْنَهُمَا وَمُلَخَّصُ هَذَا النَّوْعِ أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ يُخَالِفُ وَضْعَهُ مُوجِبٌ مُتَمَسَّكٌ فِي الشَّرْعِ هُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْقِيَاسُ فَاسِدَ الْوَضْعِ مَرْدُودًا.

وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ مُشْعِرًا بِخِلَافِ الْحُكْمِ الَّذِي رُبِطَ بِهِ وَهَذَا زَائِدٌ فِي الْفَسَادِ عَلَى فَسَادِ الطَّرْدِ؛ لِأَنَّ الطَّرْدَ مَرْدُودٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ الْحُكْمَ وَلَا يُشْعِرُ بِهِ فَاَلَّذِي لَا يُشْعِرُ بِهِ وَيُخَيَّلُ خِلَافُهُ يَكُونُ أَوْلَى بِالرَّدِّ وَمِثَالُهُ ذِكْرُ وَصْفٍ يُشْعِرُ بِالْغَلِيظِ فِي رُومِ تَخْفِيفٍ أَوْ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ فَإِذَا اعْتَبَرَ الْقَايِسُ الْحَدَّ عَلَى الْمَهْرِ فِي طَلَبِ الثَّوْبِ أَوْ الْمَهْرِ عَلَى الْحَدِّ فِي مُحَاوَلَةِ السُّقُوطِ يَكُونُ فَاسِدًا فِي الْوَضْعِ؛ لِأَنَّ الْعُقُوبَاتِ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ وَالْأَمْوَالُ تَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ فَاعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فِي الثُّبُوتِ أَوْ السُّقُوطِ يَكُونُ فَاسِدًا فِي الْوَضْعِ وَدَفْعُ هَذَا السُّؤَالِ بِإِظْهَارِ الْمُلَاءَمَةِ وَالتَّأْثِيرِ فِي الْقِيَاسِ وَبَيَانُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ فَإِنْ تَيَسَّرَ وَإِلَّا صَارَ مُنْقَطِعًا.

مِثَالُهُ أَيْ مِثَالُ فَسَادِ الْوَضْعِ تَعْلِيلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لِإِيجَابِ الْفُرْقَةِ بِإِسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ أَيْ بِسَبَبِ إسْلَامِ أَحَدِهِمَا أَوْ الْبَاءُ صِلَةُ التَّعْلِيلِ أَيْ جَعَلُوا نَفْسَ الْإِسْلَامِ عِلَّةً لِإِيجَابِ الْفُرْقَةِ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا حَيْثُ قَالُوا: إسْلَامُ أَحَدِهِمَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الدِّينِ فَوَجَبَ الْفُرْقَةُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي وَعَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا كَرِدَّةِ أَحَدِهِمَا وَلِإِبْقَاءِ النِّكَاحِ أَيْ وَتَعْلِيلُهُمْ لِإِبْقَاءِ النِّكَاحِ مَعَ ارْتِدَادِ أَحَدِهِمَا إلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا حَيْثُ قَالُوا: هَذِهِ فُرْقَةٌ وَجَبَتْ بِسَبَبٍ طَارِئٍ عَلَى النِّكَاحِ غَيْرِ مُنَافٍ إيَّاهُ فَوَجَبَ أَنْ يَتَأَجَّلَ إلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا كَالطَّلَاقِ.

فَأَوْجَبُوا الْفُرْقَةَ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَحَكَمُوا بِبَقَاءِ النِّكَاحِ مَعَ الرِّدَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ فَاسِدٌ أَيْ تَعْلِيلُهُمْ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَاسِدٌ فِي وَضْعِهِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ حَصَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِإِسْلَامِ أَحَدِهِمَا وَبَقَاءِ الْآخَرِ عَلَى الْكُفْرِ وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ حَصَلَ بِرِدَّةِ أَحَدِهِمَا وَبَقَاءِ الْآخَرِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى الْحَادِثِ أَبَدًا أَوْ إلَى آخِرِ الْأَوْصَافِ وُجُودًا وَالْحَادِثُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى هُوَ الْإِسْلَامُ وَكَذَا آخِرُ الْوَصْفَيْنِ وُجُودًا هُوَ الْإِسْلَامُ لَا غَيْرُ فَلَوْ أَثْبَتْنَا الْفُرْقَةَ لَوَجَبَتْ إضَافَتُهَا إلَى الْإِسْلَامِ الَّذِي حَدَثَ الِاخْتِلَافُ بِهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ شُرِعَ عَاصِمًا لِلْحُقُوقِ وَالْأَمْلَاكِ لَا قَاطِعًا لَهَا وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ الْحَادِثُ هُوَ الِارْتِدَادُ وَهُوَ آخِرُ الْوَصْفَيْنِ وُجُودًا فَوَجَبَ إضَافَةُ الْفُرْقَةِ إلَيْهِ.

ص: 119

وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ فِي الصَّرُورَةِ إذَا حَجَّ بِنِيَّةِ النَّفْلِ أَنَّهُ جَائِزٌ عَنْ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَدَّى بِإِطْلَاقِ النِّيَّةِ فَكَذَلِكَ نِيَّةُ النَّفْلِ وَهَذَا فَاسِدٌ فِي الْوَضْعِ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ إنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَاعْتِبَارِهِ بِهِ وَهَذَا حَمْلُ الْمُقَيَّدِ عَلَى الْمُطْلَقِ وَاعْتِبَارُهُ بِهِ وَهُوَ فَاسِدٌ فِي وَضْعِ الشَّرْعِ وَمِثْلُهُ التَّعْلِيلُ بِالطُّعْمِ لِتَحْرِيمِ الرِّبَا اعْتِبَارًا بِالنِّكَاحِ فَاسِدٌ فِي الْوَضْعِ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ يَقَعُ بِهِ الْقِوَامُ فَلَا يَصْلُحُ لِلتَّحْرِيمِ وَالْحُرِّيَّةُ عِبَارَةٌ عَنْ الْخُلُوصِ فَصَلَحَ لِلتَّحْرِيمِ إلَّا بِعَارِضٍ.

ــ

[كشف الأسرار]

وَهُوَ مُنَافٍ لِلنِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ يُبْطِلُ عِصْمَةَ النَّفْسِ وَالْمَالِ جَمِيعًا وَالنِّكَاحُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعِصْمَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ التَّعْلِيلُ لِإِبْقَاءِ النِّكَاحِ إلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الِارْتِدَادِ فَاسِدًا فِي وَضْعِهِ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِإِبْقَاءِ الشَّيْءِ مَعَ مَا يُنَافِيهِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَالرِّدَّةُ لَا يَصْلُحُ عَفْوًا يَعْنِي لَوْ بَقَّيْنَا النِّكَاحَ مَعَ الرِّدَّةِ الَّتِي هِيَ مُنَافِيَةٌ لَهُ لَزِمَ أَنْ يَجْعَلَ الرِّدَّةَ عَفْوًا أَيْ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومِ لِيُمْكِنَ الْحُكْمُ بِبَقَاءِ النِّكَاحِ كَمَا جُعِلَ الْأَكْلُ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ النَّاسِي وَهُوَ لَا يَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مَعْفُوَّةً لِكَوْنِهَا فِي نِهَايَةِ الْقُبْحِ.

قَوْلُهُ (وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ فِي الضَّرُورَةِ) الضَّرُورَةُ وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ إذَا حَجَّ عَنْ نَفْلٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ عَنْ الْغَيْرِ فَإِنَّهُ يَقَعُ عَمَّا نَوَى عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ يَتَأَدَّى بِإِطْلَاقِ النِّيَّةِ فَكَذَا يَتَأَدَّى بِنِيَّةِ النَّفْلِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ النِّيَّةِ لِلْعِبَادَةِ الَّتِي تَتَنَوَّعُ إلَى نَفْلٍ وَفَرْضٍ يَكُونُ نِيَّةَ النَّقْلِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ فَإِذَا اسْتَحَقَّ الْمُطْلَقُ لِلْفَرْضِ دَلَّ عَلَى اسْتِحْقَاقِ نِيَّةِ النَّفْلِ لِلْفَرْضِ.

أَلَا تَرَى أَنَّ الزَّكَاةَ لَمَّا تَأَدَّتْ بِتَصَدُّقِ النِّصَابِ عَلَى الْفَقِيرِ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ تَأَدَّتْ بِنِيَّةِ النَّفْلِ أَيْضًا وَهَذَا فَاسِدٌ أَيْ اعْتِبَارُهُمْ نِيَّةَ النَّفْلِ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ فَاسِدٌ فِي الْوَضْعِ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ إنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّد وَاعْتِبَارُ الْمُطْلَقِ بِالْمُقَيَّدِ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي حَادِثَتَيْنِ أَوْ فِي حُكْمَيْنِ وَعِنْدَنَا فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ حَمَلْنَا مُطْلَقَ الْكِتَابِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِالتَّتَابُعِ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه وَاحِدٌ لَمْ يَقُلْ بِأَنَّ الْمُقَيَّدَ يُحْمَلُ عَلَى الْمُطْلَقِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إلْغَاءَ صِفَةٍ زَائِدَةٍ مَنْصُوصَةٍ فَكَانَ نَسْخًا وَمَا ذَهَبُوا إلَيْهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَكَانَ فَاسِدًا فِي وَضْعِهِ لِمُخَالَفَتِهِ وَضْعَ الشَّرْعِ يُوَضِّحُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ مُطْلَقَ النَّقْدِ يَنْصَرِفُ إلَى نَقْدِ الْبَلَدِ الْمَعْرُوفِ لِدَلَالَةِ الْعُرْفِ فَأَمَّا الْمُقَيَّدُ بِنَقْدٍ آخَرَ فَإِنَّهُ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُطْلَقِ لِيَنْصَرِفَ إلَى نَقْدِ الْبَلَدِ.

وَمِثْلُهُ أَيْ مِثْلُ التَّعْلِيلِ الْمُتَقَدِّمِ التَّعْلِيلُ بِالطَّعْمِ لِتَحْرِيمِ الرِّبَا فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ الطَّعْمَ فِي الْمَطْعُومَاتِ بِمَعْنَى لَهُ خَطَرٌ لِتَعَلُّقِ بَقَاءِ النَّفْسِ وَقِوَامِهَا بِهِ فَيُوجِبُ ذَلِكَ حُرْمَةَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَحَلِّ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهِ إلَّا بِشَرْطٍ زَائِدٍ وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمِعْيَارِ إظْهَارُ الْخَطَرِ كَالنِّكَاحِ لَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ بَقَاءُ الْجِنْسِ شُرِطَ فِيهِ مِنْ الشُّرُوطِ مَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْعُقُودِ مِنْ الشُّهُودِ وَالْوَلِيِّ وَغَيْرِهِمَا إظْهَارُ الْخَطَرِ الْمَحَلِّ وَهَذَا فَاسِدٌ فِي الْوَضْعِ؛ لِأَنَّ الطُّعْمَ لَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ قِوَامُ النَّفْسِ كَانَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْحَاجَةِ وَلِمَسَاسِ الْحَاجَةِ أَثَرٌ فِي الْإِطْلَاقِ وَالتَّوْسِعَةِ دُونَ التَّحْرِيمِ وَالتَّضْيِيقِ كَمَا فِي إبَاحَةِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَاعْتُبِرَ هَذَا بِالْهَوَاءِ وَالْمَاءِ وَالطَّعَامِ وَالدَّوَاءِ فَإِنْ تَيَسَّرَ الْوُصُولُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَلِهَذَا حَلَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَانِمِينَ تَنَاوُلُ مِقْدَارِ الْحَاجَةِ مِنْ الطَّعَامِ الَّذِي يَكُونُ فِي الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَكَانَتْ الْعِلَّةُ فَاسِدَةً وَضْعًا مَعَ أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي إثْبَاتِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ الْعِوَضَيْنِ الَّتِي هِيَ شَرْطُ جَوَازِ الْعَقْدِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ يَرُدُّ عَلَى الْحُرَّةِ وَالْحُرِّيَّةُ تُنْبِئُ عَنْ الْخُلُوصِ يُقَالُ: طِينٌ حُرٌّ أَيْ خَالِصٌ وَفِي التَّنْزِيلِ {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران: 35] أَيْ مُخَلَّصًا مِنْ أَعْمَالِ الدُّنْيَا وَالْخُلُوصُ يَمْنَعُ وُرُودَ الْمِلْكِ عَلَيْهَا فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ فِيهِ التَّحْرِيمَ فَيَثْبُتُ الْحِلُّ بِعَارِضِ الْحَاجَةِ إلَى بَقَاءِ الْجِنْسِ وَمَا ثَبَتَ بِالْعَارِضِ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَى أَشْيَاءَ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْأَصْلِ وَالطَّعْمُ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ مَصْدَرُ طَعِمَ الشَّيْءَ أَكَلَهُ.

ص: 120

وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ فِي الْجُنُونِ لَمَّا نَافَى تَكْلِيفَ الْأَدَاءِ نَافَى تَكْلِيفَ الْقَضَاءِ وَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي كُلِّ الشَّرَائِعِ بِطَرِيقِ الْجَبْرِ وَالْأَدَاءُ بِطَرِيقِ الِاخْتِيَارِ كَمَا قِيلَ فِي النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالْقَضَاءُ الَّذِي هُوَ بَدَلٌ يَعْتَمِدُ انْعِقَادَ السَّبَبِ لِلْأَدَاءِ عَلَى الِاحْتِمَالِ فَصَارَ هَذَا التَّعْلِيلُ مُخَالِفًا لِلْأُصُولِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ مَا يَمْنَعُ الْقَضَاءَ إذَا اسْتَغْرَقَ شَهْرَ رَمَضَانَ يَمْنَعُ بِقَدْرِ مَا يُوجَدُ هَذَا فَاسِدٌ أَيْضًا فِي الْوَضْعِ؛ لِأَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَ الْيُسْرِ وَالْحَرَجِ فِي حُقُوقِ صَاحِبِ الشَّرْعِ مُسْتَمِرٌّ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ كَالْحَيْضِ أَسْقَطَ الصَّلَاةَ دُونَ الصَّوْمِ وَالسَّفَرُ أَثَّرَ فِي الظُّهْرِ دُونَ الْفَجْرِ وَكَالْحَيْضِ إذَا تَخَلَّلَ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ لَا يُوجِبُ الِاسْتِقْبَالَ بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ عِنْدَنَا وَبِخِلَافِ مَا إذَا نَذَرَتْ أَنْ تَصُومَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةً.

ــ

[كشف الأسرار]

وَذَاتُهُ إلَّا أَنَّ الْجَارِيَ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ فِي عِلَّةِ الرِّبَا الْفَتْحُ وَمُرَادُهُمْ كَوْنُ الشَّيْءِ مَطْعُومًا أَوْ مِمَّا يُطْعَمُ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ.

1 -

قَوْلُهُ (وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ فِي الْجُنُونِ) الْجُنُونُ يُنَافِي وُجُوبَ الْأَدَاءِ بِالِاتِّفَاقِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ حَتَّى لَا يَأْثَمَ بِتَرْكِ الْأَدَاءِ فِي حَالَةِ الْجُنُونِ وَيُنَافِي وُجُوبَ الْقَضَاءِ أَيْضًا بِالِاتِّفَاقِ إذَا كَثُرَ بِأَنْ زَادَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ أَوْ اسْتَغْرَقَ الشَّهْرَ فِي حَقِّ الصَّوْمِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي الصَّلَاةِ أَوْ مَا دُونَ الشَّهْرِ فِي الصَّوْمِ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ عِنْدَنَا إذَا أَفَاقَ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ الْجُنُونَ يُنَافِي تَكْلِيفَ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِالْخِطَابِ سَاقِطٌ عَنْ الْمَجْنُونِ أَصْلًا فَيُنَافِي وُجُوبَ الْقَضَاءِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَبْتَنِي عَلَى وُجُوبِ الْأَدَاءِ وَهُوَ أَيْ اعْتِبَارُهُمْ انْتِفَاءَ الْقَضَاءِ بِانْتِفَاءِ الْأَدَاءِ فَاسِدٌ فِي الْوَضْعِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ أَيْ نَفْسَ الْوُجُوبِ فِي كُلِّ الشَّرَائِعِ أَيْ الْمَشْرُوعَاتِ ثَابِتٌ بِطَرِيقِ الْخَبَرِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى قُدْرَةِ الْعَبْدِ وَاخْتِيَارِهِ وَالْأَدَاءُ بِطَرِيقِ الِاخْتِيَارِ يَعْنِي وُجُوبَ الْأَدَاءِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَالٍ يُمْكِنُ لِلْعَبْدِ اخْتِيَارُ الْفِعْلِ وَتَرْكُهُ وَهِيَ حَالَةُ الْقُدْرَةِ فَإِنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ وَإِنْ كَانَ بِطَرِيقِ الْخَبَرِ أَيْضًا، لَكِنَّهُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْقُدْرَةِ بِخِلَافِ نَفْسِ الْوُجُوبِ كَمَا قِيلَ فِي النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ فَإِنَّ أَصْلَ الْوُجُوبِ ثَابِتٌ فِي حَقِّهِمَا وَإِنْ كَانَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ مُتَرَاخِيًا عَنْهُمَا إلَى حَالَتَيْ الِانْتِبَاهِ وَالْإِفَاقَةِ.

وَالْقَضَاءُ الَّذِي هُوَ بَدَلُ الْأَدَاءِ يَعْتَمِدُ انْعِقَادَ السَّبَبِ لِلْأَدَاءِ عَلَى الِاحْتِمَالِ أَيْ عَلَى احْتِمَالِ الْأَدَاءِ يَعْنِي لَيْسَ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ أَنْ يَثْبُتَ وُجُودُ الْأَدَاءِ حَقِيقَةً، ثُمَّ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ عِنْدَ فَوَاتِهِ بَلْ الشَّرْطُ فِيهِ أَنْ يَنْعَقِدَ السَّبَبُ مُوجِبًا لِلْأَدَاءِ عَلَى وَجْهٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يُفْضِيَ إلَى الْأَدَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَأَمَسَّنَّ السَّمَاءَ تَنْعَقِدُ مُوجِبَةً لِلْبِرِّ بِطَرِيقِ الِاحْتِمَالِ فَيَكْفِي ذَلِكَ وُجُوبُ الْخَلْفِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْأَصْلُ ثَابِتًا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَصْلُ الْوُجُوبِ ثَابِتٌ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُ تَحَقُّقَ السَّبَبِ وَقِيَامُ الْأَهْلِيَّةِ وَبِالْجُنُونِ لَا تَزُولُ الْأَهْلِيَّةُ؛ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الْعِبَادَةِ تَبْتَنِي عَلَى كَوْنِهِ أَهْلًا لِثَوَابِهَا وَأَهْلِيَّةُ الثَّوَابِ بِكَوْنِهِ مُؤْمِنًا وَبِالْجُنُونِ لَا يَبْطُلُ الْإِيمَانُ وَلِهَذَا يَرِثُ قَرِيبُهُ الْمُسْلِمُ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَجْنُونَةِ وَزَوْجِهَا الْمُسْلِمِ وَلَا يَبْطُلُ صَوْمُهُ بِهِ حَتَّى لَوْ جُنَّ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ بَقِيَ صَائِمًا فَثَبَتَ أَنَّ الْوُجُوبَ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْمَجْنُونِ وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ بِالْأَدَاءِ سَاقِطًا عَنْهُ لِعَجْزِهِ عَنْ فَهْمِ الْخِطَابِ كَمَا فِي حَقِّ النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَاحْتِمَالُ الْأَدَاءِ قَائِمٌ فِي حَقِّهِ أَيْضًا بِزَوَالِ الْجُنُونِ سَاعَةً فَسَاعَةً كَمَا فِي النَّوْمِ وَالْإِغْمَاءِ فَيَكْفِي ذَلِكَ وُجُوبُ الْقَضَاءِ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ مُنَافَاةِ الْجُنُونِ وُجُوبَ الْأَدَاءِ مُنَافَاتُهُ وُجُوبَ الْقَضَاءِ عِنْدَ الْإِفَاقَةِ فَصَارَ هَذَا التَّعْلِيلُ مُخَالِفًا لِلْأُصُولِ وَهِيَ أَنَّ الْوُجُوبَ بِطَرِيقِ الْخَبَرِ أَصْلٌ وَأَنَّ الْجُنُونَ لَا يُنَافِي أَصْلَ الْوُجُوبِ وَأَنَّ الْقَضَاءَ يَعْتَمِدُ انْعِقَادَ السَّبَبِ لِلْوُجُوبِ عَلَى احْتِمَالِ الْأَدَاءِ لَا حَقِيقَةَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ فَكَانَ فَاسِدًا فِي الْوَضْعِ.

وَأَشَارَ الْقَاضِي الْإِمَامُ رحمه الله إلَى أَنَّ أَثَرَ الْجُنُونِ فِي تَأْخِيرِ لُزُومِ الْفِعْلِ حَتَّى لَا يَأْثَمَ دُونَ أَصْلِ الْإِيجَابِ كَالنَّوْمِ فَجُعِلَ مَا يَسْقُطُ الْخِطَابُ بِالْفِعْلِ عِلَّةً لِإِسْقَاطِ أَصْلِ الْإِيجَابِ حُكِمَ بِخِلَافِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فَيَكُونُ فَاسِدًا وَأَرَادَ بِالنَّصِّ قَوْلَهُ عليه السلام «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا» الْحَدِيثُ وَبِالْإِجْمَاعِ اتِّفَاقُ الْعُلَمَاءِ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى النَّائِمِ كَمَا هُوَ مُوجِبُ الْحَدِيثِ قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَمِثْلُ قَوْلِهِمْ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُهُمْ فِيهَا أَيْضًا مَا يَمْنَعُ الْقَضَاءَ إلَى آخِرِهِ يَعْنِي لَوْ عَلَّلُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

ص: 121

لِمَا ذَكَرْنَا فَكَذَلِكَ هَا هُنَا فِي الِاسْتِغْرَاقِ حَرَجٌ وَلَيْسَ فِي الْقَلِيلِ حَرَجٌ مِثْلُهُ وَلَا كَلَامَ فِي الْحُدُودِ الْفَاصِلَةِ وَلَا حَرَجَ فِي اسْتِغْرَاقِ الْإِغْمَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَلَّمَا يَمْتَدُّ شَهْرًا وَفِي الصَّلَوَاتِ اسْتَوَى الْإِغْمَاءُ وَالْجُنُونُ فِي الْفَتْوَى وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْأَصْلِ فَكَانَ الْقِيَاسُ فِي الْإِغْمَاءِ أَنْ لَا يَسْقُطَ وَاسْتَحْسَنَّا فِي الْكَثِيرِ وَكَانَ الْقِيَاسُ فِي الْجُنُونِ أَنْ يَسْقُطَ وَاسْتَحْسَنَّا فِي الْقَلِيلِ

ــ

[كشف الأسرار]

بِأَنَّ مَا يَمْنَعُ الْقَضَاءَ إذَا اسْتَغْرَقَ شَهْرَ رَمَضَانَ مَنَعَهُ بِقَدْرِ مَا يُوجَدُ كَمَا فِي الصِّبَاءِ وَالْكُفْرِ لِشُمُولِ الْعِلَّةِ وَهِيَ عَدَمُ الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ كَانَ فَاسِدًا فِي الْوَضْعِ أَيْضًا مِثْلُ التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَ الْيُسْرِ وَالْحَرَجِ أَيْ بَيْنَ مَا تَيَسَّرَ أَدَاؤُهُ مِنْ حُقُوقِ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَبَيْنَ مَا يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ أَصْلٌ مُسْتَمِرٌّ أَيْ جَارٍ مُطَّرِدٌ فِي قَوَاعِدِ الشَّرْعِ حَتَّى سَقَطَ مَا أَدَّى إلَى الْحَرَجِ وَلَمْ يَسْقُطْ مَا لَمْ يُؤَدِّ إلَيْهِ كَالْحَيْضِ أَسْقَطَ الصَّلَاةَ دُونَ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّهَا تُبْتَلَى بِالْحَيْضِ فِي كُلِّ شَهْرٍ فِي الْغَالِبِ وَالصَّلَاةُ تَلْزَمُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَمْسُ مَرَّاتٍ فَلَوْ أَوْجَبْنَا الْقَضَاءَ لَأَدَّى إلَى الْحَرَجِ بِتَضَاعُفِ الْوَاجِبِ عَلَيْهَا فِي زَمَانِ الطُّهْرِ وَلَمْ يَسْقُطْ بِالْحَيْضِ قَضَاءُ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّ فَرْضِيَّةَ الصَّوْمِ فِي السَّنَةِ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ وَأَكْثَرُ الْحَيْضِ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ عَشْرَةُ أَيَّامٍ فَإِيجَابُ قَضَاءِ عَشْرَةِ أَيَّامٍ أَوْ دُونَهَا فِي أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا لَا يَكُونُ فِيهِ كَثِيرُ حَرَجٍ وَلَا يُؤَدِّي إلَى تَضَاعُفِ الْوَاجِبِ فِي وَقْتِهِ وَالسَّفَرُ أَثَرٌ فِي الظُّهْرِ دُونَ الْفَجْرِ؛ لِأَنَّ فِي أَدَاءِ الْأَرْبَعِ حَالَةَ السَّيْرِ مِنْ حَرَجِ الِانْقِطَاعِ عَنْ الرُّفْقَةِ مَا لَيْسَ فِي أَدَاءِ الرَّكْعَتَيْنِ.

وَكَالْحَيْضِ أَدَاءٌ يَمْلِكُ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ الْوَاجِبِ بِصِفَةِ التَّتَابُعِ لَمْ يُوجِبْ الِاسْتِقْبَالَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَجِدُ شَهْرَيْنِ خَالِيَيْنِ عَنْ الْحَيْضِ فِي الْعَادَةِ الْغَالِبَةِ فَلَوْ أَلْزَمْنَاهَا الِاسْتِقْبَالَ رِعَايَةً لِلتَّتَابُعِ لَوَقَعَتْ فِي الْحَرَجِ بِخِلَافِ كَفَّارَاتِ الْيَمِينِ عِنْدَنَا وَبِخِلَافِ مَا إذَا أَنْذَرَتْ أَنْ تَصُومَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةً؛ لِأَنَّهَا تَجِدُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ عَشْرَةَ أَيَّامٍ خَالِيَةً عَنْ الْحَيْضِ فَلَا تَخْرُجُ فِي الِاسْتِقْبَالِ وَإِنَّمَا قَالَ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ التَّتَابُعَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله وَلِهَذَا ضُمَّ إلَيْهَا مَسْأَلَةُ الْبَذْرِ بِعَشْرَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ؛ لِأَنَّهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا قَوْلُهُ (لِمَا ذَكَرْنَا) دَلِيلُ الْمَجْمُوعِ أَيْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ ثَابِتَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَ الْيُسْرِ وَالْحَرَجِ ثَابِتٌ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا فِي الِاسْتِغْرَاقِ حَرَجٌ أَيْ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ فِيمَا إذَا اسْتَغْرَقَ الْجُنُونُ الشَّهْرَ حَرَجٌ بِتَضَاعُفِ الْعِبَادَةِ الْمَشْرُوعَةِ فِي وَقْتِهَا فَإِنَّ وَظِيفَةَ السَّنَةِ صَوْمُ شَهْرٍ وَاحِدٍ فَلَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الْقَضَاءَ صَارَ فَرْضُ السَّنَةِ شَهْرَيْنِ وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي التَّضَاعُفِ حَرَجًا فَيَسْقُطُ بِعُذْرِ الْحَرَجِ وَلَيْسَ فِي الْقَضَاءِ أَيْ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ فِي الْجُنُونِ الْقَلِيلِ وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَوْعِبًا حَرَجٌ مِثْلُ الْحَرَجِ الثَّابِتِ فِي الِاسْتِغْرَاقِ فَلَمْ يَسْقُطْ فَثَبَتَ أَنَّ سُقُوطَ الْقَضَاءِ فِي الْكَثِيرِ لِلْحَرَجِ لَا لِلْجُنُونِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِهِ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ حَرَجٌ.

وَلَا كَلَامَ فِي الْحُدُودِ الْفَاصِلَةِ يَعْنِي لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَ الْيُسْرِ وَالْحَرَجِ ثَابِتٌ عَلَى حُدُودٍ اعْتَبَرَهَا الشَّرْعُ إنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ الْجُنُونِ لَيْسَ مِثْلَ الْكَثِيرِ فِي سُقُوطِ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْكَثِيرَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحَرَجِ دُونَ الْقَلِيلِ فَكَانَ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخِرِ فَاسِدًا فِي الْوَضْعِ.

وَقَوْلُهُ وَلَا حَرَجَ فِي اسْتِغْرَاقِ الْإِغْمَاءِ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ سُقُوطُ الْقَضَاءِ الْمُسْتَغْرِقِ لِلْحَرَجِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ إذْ لَوْ كَانَ لِلْحَرَجِ لَسَقَطَ فِي اسْتِغْرَاقِ الْإِغْمَاءِ أَيْضًا لِاسْتِلْزَامِهِ تَضَاعُفَ الْوَاجِبِ كَالْجُنُونِ وَحَيْثُ لَمْ يَسْقُطْ فِيهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ السُّقُوطَ لِلْجُنُونِ لَا لِلْحَرَجِ فَيَلْزَمُ مِنْهُ السُّقُوطُ فِي الْقَلِيلِ أَيْضًا فَقَالَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اسْتِغْرَاقَ الْإِغْمَاءِ لِلشَّهْرِ مُوجِبٌ لِلْحَرَجِ؛ لِأَنَّ الْحَرَجَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا هُوَ غَالِبُ الْوُجُودِ وَامْتِدَادُ الْإِغْمَاءِ شَهْرًا قَلَّمَا يَقَعُ إذْ الْإِنْسَانُ لَا يَعِيشُ فِي الْغَالِبِ شَهْرًا مُغْمَى عَلَيْهِ بِدُونِ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَلَوْ وَقَعَ كَانَ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ فَيَلْحَقُ بِالْعَدَمِ بِخِلَافِ الْجُنُونِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَمْتَدُّ شَهْرًا أَوْ سَنَةً وَسِنِينَ وَإِلَى آخِرِ الْعُمْرِ فَيَصْلُحُ عُذْرًا مُسْقِطًا وَفِي الصَّلَوَاتِ اسْتَوَى الْإِغْمَاءُ وَالْجُنُونُ فِي الْفَتْوَى أَيْ فِي الْحُكْمِ حَتَّى كَانَ الْإِغْمَاءُ الزَّائِدُ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مُسْقِطًا.

ص: 122

لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الطُّولِ وَالِامْتِدَادِ الدَّاعِي إلَى الْحَرَجِ وَالصِّبَا مُمْتَدٌّ أَيْضًا وَبِخِلَافِ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي الْأَهْلِيَّةَ وَيُنَافِي اسْتِحْقَاقَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ بِخِلَافِ الْجُنُونِ وَكَذَلِكَ التَّعْلِيلُ لِتَعْيِينِ النُّقُودِ اعْتِبَارًا بِالسِّلَعِ وَلِفَسْخِ الْبَيْعِ بِإِفْلَاسِ الْمُشْتَرِي اعْتِبَارًا بِالْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ فَاسِدًا فِي الْوَضْعِ.

ــ

[كشف الأسرار]

لِقَضَائِهَا كَالْجُنُونِ الزَّائِدِ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ؛ لِأَنَّ الْإِغْمَاءَ يُوجَدُ غَالِبًا فِي هَذَا الْمِقْدَارِ مِنْ الزَّمَانِ كَالْجُنُونِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْأَصْلِ فَإِنَّ الْجُنُونَ مِمَّا يَمْتَدُّ غَالِبًا كَالصَّبِيِّ وَالْإِغْمَاءُ مِمَّا لَا يَمْتَدُّ، وَلَكِنَّهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ فِي غَلَبَةِ الْوُجُودِ أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي ذَاتَيْهِمَا فَإِنَّ بِالْجُنُونِ يَزُولُ الْعَقْلُ وَبِالْإِغْمَاءِ لَا يَزُولُ بَلْ هُوَ فَتْرَةٌ وَمَرَضٌ يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ وَيَمْنَعُهُ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْقُدْرَةِ وَلِهَذَا اُبْتُلِيَ الْأَنْبِيَاءُ عليهم السلام بِالْإِغْمَاءِ دُونَ الْجُنُونِ.

فَكَانَ الْقِيَاسُ فِي الْإِغْمَاءِ فِي الصَّلَاةِ أَنْ لَا يُسْقِطَ وَإِنْ كَثُرَ لِوُجُودِ أَصْلِ الْعَقْلِ فِيهِ كَمَا فِي النَّوْمِ وَاسْتَحْسَنَّا فِي الْكَثِيرِ وَهُوَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ فَجَعَلْنَاهُ مُسْقِطًا لِلْحَرَجِ وَكَانَ الْقِيَاسُ فِي الْجُنُونِ أَنْ يُسْقِطَ الْوَاجِبَ قَلَّ الْجُنُونُ أَوْ كَثُرَ لِزَوَالِ الْعَقْلِ فِيهِ وَاسْتَحْسَنَّا فِي الْقَلِيلِ فَلَمْ نَجْعَلْهُ مُسْقِطًا لِعَدَمِ الْحَرَجِ وَأَلْحَقْنَاهُ بِالْعَدَمِ فَحَصَلَ مِنْ هَذَا اسْتِوَاءُ الْإِغْمَاءِ وَالْجُنُونِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ حَتَّى كَانَ قَلِيلُ الْجُنُونِ فِيهَا كَقَلِيلِ الْإِغْمَاءِ وَكَثِيرُ الْإِغْمَاءِ فِيهَا كَكَثِيرِ الْجُنُونِ وَقَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ اسْتَوَى الْإِغْمَاءُ وَالْجُنُونُ فِي الْفَتْوَى أَيْ هُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي الِامْتِدَادِ فِي الصَّلَاةِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّ الْجُنُونَ فِيهِ مُمْتَدٌّ دُونَ الْإِغْمَاءِ وَقَوْلُهُ وَالصِّبَا مُمْتَدٌّ أَيْضًا إلَى آخِرِهِ جَوَابٌ عَنْ اعْتِبَارِهِمْ الْجُنُونَ بِالصِّبَا وَالْكُفْرِ حَيْثُ قَالُوا: الصَّبِيُّ إذَا بَلَغَ فِي خِلَالِ الشَّهْرِ أَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ لَمْ يَلْزَمْهُمَا قَضَاءُ مَا مَضَى فَكَذَا الْمَجْنُونُ إذَا أَفَاقَ فَقَالَ الصَّبِيُّ لَيْسَ بِمُتَنَوِّعٍ إلَى مُمْتَدٍّ وَغَيْرِ مُمْتَدٍّ بَلْ هُوَ مُمْتَدٌّ فِي نَفْسِهِ كَالْجُنُونِ فِي حَقِّ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْإِغْمَاءُ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ أَيْضًا فَلَا يُمْكِنُ إلْحَاقُهُ بِالْعَدَمِ بِوَجْهٍ وَيَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الْحَرَجِ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ فَكَانَ اسْتِغْرَاقُهُ لِلشَّهْرِ وَعَدَمُ اسْتِغْرَاقِهِ بِمَنْزِلَةٍ وَبِخِلَافِ الْكُفْرِ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ وَالصِّبَا مُمْتَدٌّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إذْ مَعْنَاهُ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ فَإِنَّهُ مُمْتَدٌّ لَيْسَ إلَّا وَبِخِلَافِ الْكُفْرِ حَيْثُ لَا يَجِبُ فِيهِ الْقَضَاءُ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي الْأَهْلِيَّةَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ أَهْلِيَّةَ الْعِبَادَةِ بِأَهْلِيَّةِ ثَوَابِهَا وَالْكُفْرُ يُنَافِي اسْتِحْقَاقَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ فَيَنْتَفِي عَنْهُ أَصْلُ الْوُجُوبِ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْجُنُونِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْعِبَادَةِ لِعَدَمِ مُنَافَاتِهِ اسْتِحْقَاقَ الثَّوَابِ وَلِهَذَا بَقِيَتْ عِبَادَاتُهُ الَّتِي أَدَّاهَا فِي حَالِ الْإِفَاقَةِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةُ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ.

قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَكَالتَّعْلِيلِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ التَّعْلِيلُ لِكَذَا وَلِكَذَا.

جَمَعَ الشَّيْخُ رحمه الله بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ لِابْتِنَائِهِمَا عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ وَنَحْنُ نُبَيِّنُ كُلَّ مَسْأَلَةٍ عَلَى حِدَةٍ.

أَمَّا بَيَانُ الْأُولَى فَهُوَ أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ تَتَعَيَّنَانِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ بِالتَّعْيِينِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله؛ لِأَنَّ هَذَا تَعْيِينٌ مُقَيَّدٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ فَيَصِحُّ كَمَا فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَسَائِرِ السِّلَعِ وَكَمَا فِي عَقْدِ الْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالْمُضَارَبَةِ أَمَّا الْأَهْلِيَّةُ فَظَاهِرَةٌ وَلِهَذَا لَوْ عَيَّنَ عَرَضًا يَتَعَيَّنُ.

وَأَمَّا الْمَحَلِّيَّةُ فَلِأَنَّهَا أَعْيَانٌ مَوْجُودَةٌ بِذَوَاتِهَا قَابِلَةٌ لِلتَّعْيِينِ حَتَّى تَعَيَّنَتْ فِي الْعُقُودِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَهُوَ مُفِيدٌ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْمِلْكُ فِي الْعَيْنِ وَمِلْكُ الْعَيْنِ أَكْمَلُ مِنْ مِلْكِ الدَّيْنِ وَنَحْنُ نَقُولُ هَذَا التَّعْلِيلُ فَاسِدٌ فِي الْوَضْعِ؛ لِأَنَّهُ اعْتِبَارُ الثَّمَنِ بِالثَّمَنِ وَتَسْوِيَةٌ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ وَالشَّرْعُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَجَعَلَ حُكْمَ الْعَقْدِ فِي جَانِبِ الْمَبِيعِ ثُبُوتَ الْمِلْكِ وَاسْتِحْقَاقَ الْيَدِ لَا غَيْرُ وَهَذَا بِلَا خِلَافٍ فَكَانَ وُجُودُهُ شَرْطًا لِجَوَازِ الْعَقْدِ إلَّا فِي مَوْضِعٍ سَقَطَ ضَرُورَةً وَهُوَ الْمُسَلَّمُ فِيهِ بِحُكْمِ النَّصِّ وَجُعِلَ حُكْمُ الْعَقْدِ فِي جَانِبِ الثَّمَنِ

ص: 123

لِمَا عُرِفَ مِنْ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ فِي أَصْلِ وَضْعِ الشَّرْعِ وَالْبَيَّاعَاتُ تُخَالِفُ التَّبَرُّعَاتِ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ هَذِهِ لِلْإِيثَارِ بِالْأَعْيَانِ وَهَذِهِ لِالْتِزَامِ الدُّيُونِ قَالَ اللَّهُ عز وجل {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة: 282] أَيْ تَبَايَعْتُمْ بِنَسِيئَةٍ.

ــ

[كشف الأسرار]

وُجُودَهُ وَوُجُوبَهُ فَإِنَّهُ إذَا اشْتَرَى شَيْئًا يَجِبُ الثَّمَنُ فِي الذِّمَّةِ وَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا قَبْلَ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا صَارَ مَوْجُودًا بِالْعَقْدِ وَمَمْلُوكًا بِهِ وَهَذَا حُكْمٌ أَصْلِيٌّ فِي جَانِبِ الثَّمَنِ لَا يَتَغَيَّرُ إلَّا لِضَرُورَةٍ كَمَا فِي السَّلَمِ بِدَلِيلِ جَوَازِ الشِّرَاءِ بِدَرَاهِمَ فِي الذِّمَّةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّعَيُّنِ وَبِدَلِيلِ جَوَازِ الِاسْتِبْدَالِ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَمَا فِي سَائِرِ الدُّيُونِ وَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ فِي جَانِبِ الثَّمَنِ ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي مَوْجُودٍ وَكَانَ ثُبُوتُهُ دَيْنًا بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ لَبَقِيَ مُلْحَقًا بِالْأَعْيَانِ فِيمَا وَرَاءَ تِلْكَ الضَّرُورَةِ وَهُوَ حُكْمُ الِاسْتِبْدَالِ كَمَا فِي السَّلَمِ وَلَمَّا ثَبَتَتْ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا فِي وَضْعِ الشَّرْعِ كَانَ التَّعْلِيلُ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ فَاسِدًا فِي الْوَضْعِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَغْيِيرَ حُكْمِ الشَّرْعِ بِجَعْلِ مَا هُوَ حُكْمُ الْعَقْدِ وَهُوَ صَيْرُورَةُ الثَّمَنِ مَوْجُودًا بِهِ شَرْطٌ لَهُ.

وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ لِمَا عُرِفَ أَيْ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي بَابِ شُرُوطِ الْقِيَاسِ أَوْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ هَذَا إذَا اعْتَبَرُوا النُّقُودَ بِالسِّلَعِ فَإِنْ اعْتَبَرُوهَا بِالتَّبَرُّعَاتِ مَشْرُوعَةً لِلْإِيثَارِ بِالْعَيْنِ لَا لِإِيجَابِ شَيْءٍ مِنْهَا فِي الذِّمَّةِ فَلَا يَكُونُ التَّعْيِينُ فِيهَا تَغْيِيرًا لِحُكْمِ الْعَقْدِ وَالْمُعَاوَضَاتِ لِإِيجَابِ بَدَلٍ بِهَا فِي الذِّمَّةِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ عَقْدُهَا بِلَا إشَارَةٍ إلَى الْأَثْمَانِ بَلْ تَسْمِيَةٌ مُطْلَقَةٌ وَأَنَّهَا تُوجَبُ فِي الذِّمَّةِ ابْتِدَاءً فَكَانَ اعْتِبَارُ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ لِنَقْلِ الْمِلْكِ وَالْيَدِ فِي الْعَيْنِ مِنْ شَخْصٍ إلَى شَخْصٍ فِي صِحَّةِ التَّعْيِينِ فَاسِدًا وَضْعًا لِعَدَمِ مُصَادَفَةِ التَّعْيِينِ مَحَلَّهُ وَمَا كَانَ تَعْيِينُ النَّقْدِ فِي الْمُعَاوَضَةِ إلَّا نَظِيرَ الْإِيجَابِ فِي الذِّمَّةِ ابْتِدَاءً بِعَقْدِ الْهِبَةِ فَكَمَا أَنَّ ذَلِكَ يُنَافِي صِحَّةَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُ نَقْلُ الْمِلْكِ وَالْيَدِ فِي الْعَيْنِ فَبِدُونِ مُوجِبِهِ لَا يَكُونُ صَحِيحًا كَذَا التَّعْيِينُ هَاهُنَا يُنَافِي صِحَّةَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ يَفُوتُ بِهِ مَا هُوَ مُوجِبُ هَذَا الْعَقْدِ فِي الثَّمَنِ وَهُوَ الْإِلْزَامُ فِي الذِّمَّةِ ابْتِدَاءً وَأَمَّا بَيَانُ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ فَهُوَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا أَفْلَسَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ لَمْ يَثْبُتْ لِلْبَائِعِ حَقٌّ بِقَبْضِ الْبَيْعِ وَاسْتِرْدَادِ السِّلْعَةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَنَا الشَّافِعِيُّ رحمه الله عَلَيْهِ يُثْبِتُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ أَحَدُ عِوَضَيْ الْعَقْدِ فَالْعَجْزُ عَنْ تَسْلِيمِهِ يُوجِبُ حَقَّ الْفَسْخِ لِلْبَائِعِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ كَالْعِوَضِ الْآخَرِ وَهُوَ الْمَبِيعُ إذَا كَانَ عَيْنًا فَعَجَزَ الْبَائِعُ عَنْ تَسْلِيمِهِ بِالْإِبَاقِ وَنَحْوِهِ أَوْ كَانَ دَيْنًا كَالسَّلَمِ فَعَجَزَ الْمُسَلَّمُ إلَيْهِ عَنْ تَسْلِيمِهِ بِانْقِطَاعِهِ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ.

وَنَحْنُ نَقُولُ هَذَا التَّعْلِيلُ فَاسِدٌ وَضْعًا؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ فِي الْمَبِيعِ اسْتِحْقَاقُ مِلْكِ الْعَيْنِ وَالْيَدِ عَلَى الْبَائِعِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ثَابِتًا لَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ وَكَذَا فِي الْمَبِيعِ الدَّيْنُ بِشَرْطِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ حُكْمًا بِاشْتِرَاطِ الْأَجَلِ الَّذِي هُوَ مُؤَثِّرٌ فِي قُدْرَتِهِ عَلَى التَّسْلِيمِ بِاكْتِسَابِهِ أَوْ إدْرَاكِ غَلَّاتِهِ وَبِاشْتِرَاطِ عَدَمِ انْقِطَاعِهِ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ أَمَّا الْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِ الثَّمَنِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِمَا قُلْنَا: إنَّ الثَّمَنَ يَصِيرُ مَوْجُودًا بِالْعَقْدِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ قَبْلَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَا يُتَصَوَّرُ تَسْلِيمُهُ.

وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ الْقُدْرَةَ عَلَى الثَّمَنِ بَعْدَ الْعَقْدِ شَرْطًا لِجَوَازِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ أَبَدًا يَكُونُ سَابِقًا عَلَى الْأَصْلِ كَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ وَلِأَنَّ الثَّمَنَ وَصْفٌ وَالْأَوْصَافُ لَا تَقْبَلُ التَّسْلِيمَ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ بِالْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ يَتَمَكَّنُ خَلَلٌ فِيمَا هُوَ مُوجِبُ الْعَقْدِ فِيهِ وَبِسَبَبِ الْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ لَا يَتَمَكَّنُ خَلَلٌ فِيمَا هُوَ مُوجِبُ الْعَقْدِ فِيهِ وَلِهَذَا جَازَ إسْقَاطُ حَقِّ قَبْضِ الثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِالْإِبْرَاءِ وَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي الْمَبِيعِ الْمُعَيَّنِ قَبْلَ الْقَبْضِ حَتَّى إذَا وَهَبَهُ مِنْ الْبَائِعِ وَقَبِلَهُ كَانَ فَسْخًا لِلْبَيْعِ بَيْنَهُمَا فَإِثْبَاتُ حَقِّ الْفَسْخِ مِنْ غَيْرِ تَمَكُّنِ خَلَلٍ فِي مُوجِبِ الْعَقْدِ اعْتِبَارًا بِثُبُوتِهِ عِنْدَ تَمَكُّنِ الْخَلَلِ فِي

ص: 124