الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَيَتَّصِلُ بِهَذَا الْأَصْلِ مَسْأَلَةُ تَخْصِيصِ الْعِلَلِ وَهَذَا.
(بَابُ فَسَادِ تَخْصِيصِ الْعِلَلِ)
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رضي الله عنه مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَجَازَ تَخْصِيصَ الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ كَانَتْ عِلَّتِي تُوجِبُ ذَلِكَ لَكِنَّهُ لَمْ تُوجِبْ لِمَانِعٍ فَصَارَ مَخْصُوصًا مِنْ الْعِلَّةِ بِهَذَا الدَّلِيلِ
ــ
[كشف الأسرار]
عَلَيْهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ فَنَظَرُوا إلَى الْفِقْهِ، وَمَعَانِيهِ بِأَفْهَامٍ كَلِيلَةٍ وَعُقُولٍ حَسِيرَةٍ فَعَدُّوا ذَلِكَ ظَاهِرًا مِنْ الْأَمْرِ، وَلَمْ يُعْتَقَدْ لَهَا كَثِيرُ مَعَانٍ يَلْزَمُ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا، وَقَالُوا لَمْ يُكَلَّفْ الْمُجْتَهِدُ إلَّا فِي مَحْضِ ظَنٍّ يَعْثِرُ عَلَيْهِ بِنَوْعِ أَمَارَةٍ، وَلَا يَسْتَقِيمُ تَكْلِيفُهُ سِوَى ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ حَقٌّ وَاحِدٌ مَطْلُوبٌ بَلْ مَطْلُوبُ الْمُجْتَهِدِ هُوَ الظَّنُّ لِيَعْمَلَ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَطْلُوبُ الْمُجْتَهِدِ مُجَرَّدَ ظَنٍّ، وَالظَّنُّ قَدْ يَسْتَوِي فِيهِ الْعَالِمُ وَالْعَامِّيُّ، وَقَدْ يَكُونُ بِدَلِيلٍ.
وَقَدْ يَكُونُ بِلَا دَلِيلٍ بَلْ الْمَطْلُوبُ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَادِثَةِ بِالْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ، وَلَا يَقِفُ عَلَيْهَا إلَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ الَّذِينَ عَرَفُوا مَعَانِيَ الشَّرْعِ وَطَلَبُوهَا بِالْجَهْدِ الشَّدِيدِ وَالْكَدِّ الْعَظِيمِ حَتَّى أَصَابُوهَا فَأَمَّا مَنْ يَنْظُرُ إلَيْهِ مِنْ بُعْدٍ وَيَظُنُّهُ سَهْلًا مِنْ الْأَمْرِ، وَلَا يَعْرِفُ إلَّا مُجَرَّدَ ظَنٍّ يَظُنُّهُ الْإِنْسَانُ فَيَعْثِرُ هَذِهِ الْعَثْرَةَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي لَا انْتِعَاشَ عَنْهَا وَيَعْتَقِدُ تَصْوِيبَ كُلِّ الْمُجْتَهِدِينَ بِمُجَرَّدِ ظُنُونِهِمْ فَيُؤَدِّي قَوْلُهُ إلَى اعْتِقَادِ الْأَقْوَالِ الْمُتَنَاقِضَةِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَإِلَى خَرْقِ الْإِجْمَاعِ وَالْخُرُوجِ عَلَى الْأُمَّةِ وَحَمْلِ أَمْرِهِمْ عَلَى الْجَهْلِ، وَقِلَّةِ الْعِلْمِ وَتَرْكِ الْمُبَالَاةِ فِيمَا نَصَبُوا مِنْ الْأَدِلَّةِ، وَأَسْهَرُوا لَيَالِيَهُمْ، وَأَتْعَبُوا فِكْرَهُمْ فِي اسْتِخْرَاجِهَا، وَإِظْهَارِ تَأْثِيرَاتِ مَا ادَّعَوْهَا مِنْ الْعِلَلِ ثُمَّ نِهَايَةُ أَمْرِهِمْ عِنْدَ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ وَصَلُوا إلَى مِثْلِ مَا وَصَلَ مُخَالِفُوهُمْ، وَأَنَّ مَا وَصَلُوا إلَيْهِ عِنْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَضِدُّهُ حَقٌّ، وَقَوْلُهُمْ وَقَوْلُ مُخَالِفِيهِمْ سَوَاءٌ فَيَكُونُ سَعْيُهُمْ شِبْهَ ضَائِعٍ وَثَمَرَتُهُ كَلَا ثَمَرَةٍ، وَبُطْلَانُ مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرٌ، وَلَعَلَّ حِكَايَتَهُ تُغْنِي كَثِيرًا مِنْ الْعُقَلَاءِ عَنْ إقَامَةِ الْبُرْهَانِ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَتَّصِلُ بِهَذَا الْأَصْلِ أَيْ بِبَيَانِ أَحْكَامِ الْعِلَّةِ مَسْأَلَةُ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ. أَوْ يَتَّصِلُ بِمَسْأَلَةِ تَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ وَتَخْطِئَتِهِمْ مَسْأَلَةُ تَخْصِيصِ الْعِلَلِ كَمَا سَيَأْتِيك بَيَانُهُ، وَهَذَا أَيْ مَا نَشْرَعُ فِيهِ.
[بَابُ فَسَادِ تَخْصِيصِ الْعِلَلِ]
(بَابُ فَسَادِ تَخْصِيصِ الْعِلَلِ) تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ عِبَارَةٌ عَنْ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ عَنْ الْوَصْفِ الْمُدَّعَى عِلَّةً لِمَانِعٍ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ تَخْصِيصًا؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ، وَإِنْ كَانَتْ مَعْنًى، وَلَا عُمُومَ لِلْمَعْنَى حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَلَكِنَّهُ بِاعْتِبَارِ حُلُولِهِ فِي مَحَالَّ مُتَعَدِّدَةٍ يُوصَفُ بِالْعُمُومِ فَإِخْرَاجُ بَعْضِ الْمَحَالِّ الَّتِي تُوجَدُ فِيهَا الْعِلَّةُ عَنْ تَأْثِيرِ الْعِلَّةِ فِيهِ، وَقَصْرُ عَمَلِ الْعِلَّةِ عَلَى الْبَاقِي يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ التَّخْصِيصِ كَمَا أَنَّ إخْرَاجَ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ عَنْ تَنَاوُلِ لَفْظِ الْعَامِّ إيَّاهُ، وَقَصْرِهِ عَلَى الْبَاقِي تَخْصِيصٌ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ مَتَى وَرَدَ عَلَيْهَا نَقْضٌ تَبْطُلُ؛ لِأَنَّ الْمُنْتَقِضَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً شَرْعِيَّةً. وَاخْتَلَفُوا فِي تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ فَقَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ وَالشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ إنَّ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ جَائِزٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَعَامَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَذَهَبَ مَشَايِخُ دِيَارِنَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ أَظْهَرُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ. هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ فَأَمَّا فِي الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ فَاتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ عَلَى الْجَوَازِ فِيهَا. وَمَنْ لَمْ يُجَوِّزْ التَّخْصِيصَ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ فَأَكْثَرُهُمْ جَوَّزَهُ فِي الْمَنْصُوصَةِ وَبَعْضُهُمْ مَنَعَهُ فِي الْمَنْصُوصَةِ أَيْضًا، وَهُوَ مُخْتَارُ عَبْدِ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيِّ وَأَبِي إِسْحَاقَ الإِسْفِرايِينِي، وَقِيلَ إنَّهُ مَنْقُولٌ عَنْ الشَّافِعِيِّ رحمه الله.
احْتَجَّ الْمُجَوِّزُونَ بِأَنَّ الْعِلَّةَ
وَاحْتَجَّ بِأَنَّ التَّخْصِيصَ غَيْرُ الْمُنَاقَضَةِ لُغَةً، وَهَذَا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ بَيَانُ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ لَا نَقْضٌ وَلَا إبْطَالٌ، وَقَدْ صَحَّ الْخُصُوصُ عَلَى: الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دُونَ الْمُنَاقَضَةِ قَالَ وَلِأَنَّ الْعُدُولَ عَنْ الْقِيَاسِ بِسُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ ضَرُورَةٍ أَوْ اسْتِحْسَانٍ مَخْصُوصٍ مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ وَلِأَنَّ الْخَصْمَ ادَّعَى أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ عِلَّةٌ فَإِذَا وُجِدَ وَلَا حُكْمَ لَهُ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْعَدَمُ لِفَسَادِ الْعِلَّةِ فَيَتَنَاقَضُ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْعَدَمُ لِمَانِعٍ فَوَجَبَ أَنْ يُقْبَلَ بَيَانُهُ
ــ
[كشف الأسرار]
الشَّرْعِيَّةَ أَمَارَةٌ عَلَى الْحُكْمِ، وَلَيْسَتْ بِمُوجِبَةٍ بِنَفْسِهَا، وَإِنَّمَا صَارَتْ أَمَارَةً بِجَعْلِ جَاعِلٍ فَجَازَ أَنْ تُجْعَلَ أَمَارَةً لِلْحُكْمِ فِي مَحَلٍّ، وَلَمْ تُجْعَلْ أَمَارَةً فِي مَحَلٍّ كَمَا جَازَ أَنْ تُجْعَلَ أَمَارَةً فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ وَبِتَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا أَمَارَةً؛ لِأَنَّ الْأَمَارَةَ لَا تَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْحُكْمِ فِي كُلِّ الْمَوَاضِعِ بَلْ الشَّرْطُ فِيهَا غَلَبَةُ وُجُودِ الْحُكْمِ عِنْدَهَا كَالْغَيْمِ الرَّطْبِ فِي الشِّتَاءِ أَمَارَةٌ لِلْمَطَرِ قَدْ يَتَخَلَّفُ فِي بَعْضِ الْأَحَايِينِ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِأَمَارَةٍ. وَبِأَنَّ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ جَائِزٌ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ السَّرِقَةَ وَالزِّنَا عِلَّتَيْنِ لِلْقَطْعِ وَالْحَدِّ، وَقَدْ يُوجَدُ سَارِقٌ لَا يُقْطَعُ وَزَانٍ لَا يُحَدُّ وَجَعَلَ الْمُشَاقَّةَ عِلَّةً لِقَتْلِ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 13] بَعْدَ قَوْلِهِ {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12]، وَقَدْ وُجِدَتْ الْعِلَّةُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ بِدُونِ الْقَتْلِ وَجَعَلَ وُقُوعَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ عِلَّةً لِحُرْمَةِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة: 91] وَالْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي حَالَةِ الْإِكْرَاهِ مَعَ تَخَلُّفِ حُكْمِهَا عَنْهَا، وَلَمَّا جَازَ تَخْصِيصُ الْمَنْصُوصَةِ جَازَ تَخْصِيصُ الْمُسْتَنْبَطَةِ؛ لِأَنَّ مَا يَجُوزُ عَلَى الشَّيْءِ أَوْ مَا يَسْتَحِيلُ جَوَازُهُ عَلَيْهِ لَا يَخْتَلِفُ لِاخْتِلَافِ طُرُقِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْعِلَّتَيْنِ اخْتِلَافُ الطَّرِيقِ فَإِنَّهُ فِي أَحَدَيْهِمَا النَّصُّ، وَفِي الْأُخْرَى الِاسْتِنْبَاطُ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الِاخْتِلَافَ فِيهِمَا بَعْدَمَا ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِلَّةٌ.
أَلَا تَرَى أَنَّ دَلَالَةَ الْعِلَّةِ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي مَحَالِّهَا كَدَلَالَةِ الْعَامِّ عَلَى أَفْرَادِهِ فَلَمَّا جَازَ تَخْصِيصُ الْعَامِّ جَازَ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ. وَبِأَنَّ خُصُوصَ الْعِلَّةِ لَيْسَ إلَّا امْتِنَاعَ ثُبُوتِ مُوجِبِ الدَّلِيلِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لِمَانِعٍ يَمْنَعُ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَرُدُّهُ الْعَقْلُ، وَلَا يَكُونُ دَلِيلَ الْفَسَادِ كَمَا فِي الْعِلَّةِ الْمَحْسُوسَةِ فَإِنَّ النَّارَ عِلَّةٌ لِلْإِحْرَاقِ ثُمَّ إنَّهَا لَمْ تُؤَثِّرْ فِي إبْرَاهِيمَ عليه السلام، وَلَا فِي الطَّلْقِ لِمَانِعٍ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّارَ لَيْسَتْ بِمُحْرِقَةٍ. وَبِمَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ التَّخْصِيصَ غَيْرُ الْمُنَاقَضَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا؛ لِأَنَّ مَنْ أَنْكَرَ التَّخْصِيصَ جَعَلَهُ مِنْ بَابِ الْمُنَاقَضَةِ إذْ يَلْزَمُ مِنْهُ الْقَوْلُ بِتَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ اعْتِقَادَ حَقِّيَّةَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ وَالْجَوَازِ وَالْفَسَادِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ تَنَاقُضٌ فَقَالَ التَّخْصِيصُ غَيْرُ الْمُنَاقَضَةِ. وَتَقْرِيرُهُ مَا ذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِمَا أَنَّ التَّخْصِيصَ غَيْرُ الْمُنَاقَضَةِ لُغَةً وَشَرْعًا، وَإِجْمَاعًا، وَفِقْهًا. أَمَّا اللُّغَةُ فَلِأَنَّ النَّقْضَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَرِدُ فِعْلًا سَبَقَ عَلَى سَبِيلِ الْمُضَادَّةِ كَنَقْضِ الْبُنْيَانِ وَنَقْضِ كُلِّ مُؤَلَّفٍ وَالْخُصُوصُ بَيَانُ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْجُمْلَةِ لَا أَنَّهُ رَفَعَ الثُّبُوتَ أَلَا تَرَى أَنَّ ضِدَّ الْخُصُوصِ الْعُمُومُ، وَضِدَّ النَّقْضِ الْبِنَاءُ وَالتَّأْلِيفُ.
وَأَمَّا الشَّرْعُ فَلِأَنَّ التَّخْصِيصَ جَائِزٌ فِي النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالتَّنَاقُضُ لَا يَجُوزُ فِيهَا أَصْلًا فَيَتَغَايَرَانِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ لِقَوْلِهِ، وَقَدْ صَحَّ الْخُصُوصُ إلَى آخِرِهِ.
، وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلِأَنَّ الْقَائِسِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأَحْكَامَ قَدْ تَثْبُتُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِدَلِيلٍ أَقْوَى مِنْهُ مِنْ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ ضَرُورَةٍ وَذَلِكَ يَكُونُ تَخْصِيصًا لَا مُنَاقَضَةً وَلِهَذَا سَمَّاهَا الشَّافِعِيُّ مَخْصُوصَةً عَنْ الْقِيَاسِ، وَنَحْنُ نُسَمِّيهَا مَعْدُولًا بِهَا عَنْ الْقِيَاسِ أَلَا تَرَى أَنَّ ذَلِكَ الْقِيَاسَ بَقِيَ مَعْمُولًا بِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَالْقِيَاسُ الْمُنْتَقَضُ فَاسِدٌ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ فِي مَوْضِعٍ
إنْ أَبْرَزَ مَانِعًا، وَإِلَّا فَقَدْ تَنَاقَضَ وَلِذَلِكَ لَا يُقْبَلُ مُجَرَّدُ قَوْلِهِ خُصَّ بِدَلِيلِ الِاحْتِمَالِ الْفَسَادَ بِخِلَافِ النُّصُوصِ؛ لِأَنَّهَا لَا يَحْتَمِلُ فَسَادًا وَبُنِيَ عَلَى هَذَا تَقْسِيمُ الْمَوَانِعِ، وَهِيَ خَمْسَةٌ حِسًّا وَحُكْمًا مَانِعٌ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعِلَّةِ، وَمَانِعٌ يَمْنَعُ تَمَامَ الْعِلَّةِ، وَمَانِعٌ يَمْنَعُ حُكْمَ الْعِلَّةِ، وَمَانِعٌ يَمْنَعُ تَمَامَ الْحُكْمِ، وَمَانِعٌ يَمْنَعُ لُزُومَ الْحُكْمِ وَذَلِكَ فِي الرَّامِي إذَا انْقَطَعَ وَتَرَاهُ أَوْ انْكَسَرَ فَوْقَ سَهْمِهِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ عِلَّةً، وَإِذَا حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَقْصِدِهِ حَائِطٌ مَنَعَ تَمَامَ الْعِلَّةِ حَتَّى لَمْ يَصِلْ إلَى الْمَحَلِّ، وَمَانِعٌ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْحُكْمِ، وَهُوَ أَنْ يُصِيبَهُ
ــ
[كشف الأسرار]
وَأَمَّا الْفِقْهُ فَلِأَنَّ الْخَصْمَ أَيْ الْمُعَلِّلَ ادَّعَى أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ عِلَّةٌ فَلَمَّا أُورِدَ عَلَيْهِ مَا وُجِدَ فِيهِ ذَلِكَ الْوَصْفُ بِدُونِ ذَلِكَ الْحُكْمِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ الْحُكْمِ لِفَسَادٍ فِي أَصْلِ عِلَّتِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ تَنَاقُضًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ الْحُكْمِ لِمَانِعٍ مَنَعَ ثُبُوتَ الْحُكْمِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ عِلَّةٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ بِلَا شُبْهَةٍ ثُمَّ إذَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ بِهِ فِي صُورَةِ خِيَارِ الشَّرْطِ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى فَسَادِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ لِمَانِعٍ، وَهُوَ الْخِيَارُ الْمَشْرُوطُ فِي الْعَقْدِ فَإِذَا ادَّعَى الْمُعَلِّلُ أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ صَارَ مَخْصُوصًا مِنْ عِلَّتَيْنِ لِمَانِعٍ فَقَدْ ادَّعَى أَمْرًا مُحْتَمَلًا فَيَكُونُ مُطَالَبًا بِالْحُجَّةِ. فَإِنْ أَبْرَزَ مَانِعًا صَالِحًا يُقْبَلُ بَيَانُهُ أَيْ بَيَانُ الْمُعَلِّلِ؛ لِأَنَّهُ بَيَانُ أَحَدِ الْمُحْتَمَلَيْنِ.
وَإِلَّا فَقَدْ تَنَاقَضَ أَيْ ظَهَرَ أَنَّهُ مُتَنَاقِضٌ فِي جَعْلِ هَذَا الْوَصْفِ عِلَّةً حَيْثُ لَمْ يَجْعَلْهُ عِلَّةً فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. أَوْ ظَهَرَ أَنَّ وَصْفَهُ مُتَنَاقِضٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَظْهَرْ لِامْتِنَاعِ الْحُكْمِ عَنْهُ مَانِعٌ كَانَ مُوجِبًا وَغَيْرَ مُوجِبٍ، وَهُوَ تَنَاقُضٌ.
، وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْعَدَمُ لِفَسَادِ الْعِلَّةِ وَلِلْمَانِعِ لَا يُقْبَلُ مِنْ الْمُعَلِّلِ مُجَرَّدُ قَوْلِهِ خُصَّ بِدَلِيلٍ لِاحْتِمَالِ الْفَسَادِ أَيْ لِاحْتِمَالِ تَعَيُّنِ جِهَةِ فَسَادِ الْعِلَّةِ بِأَنْ يَعْجِزَ عَنْ إبْرَازِ الْمَانِعِ أَصْلًا وَيُبَيِّنَ مَا لَا يَصْلُحُ مَانِعًا إذْ لَا بُدَّ لِلْمَانِعِ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى مِنْهُ أَوْ مِثْلَهُ بِخِلَافِ النُّصُوصِ يَعْنِي إذَا تَمَسَّكَ فِي حَادِثَةٍ بِعُمُومِ نَصٍّ فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ حُكْمَ هَذَا الْعَامِّ لَمْ يَثْبُتْ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَدَلَّ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْمُولٍ فَأَجَابَ بِأَنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ خُصَّ مِنْ هَذَا الْعَامِّ بِدَلِيلٍ يُقْبَلُ، وَلَا يُطْلَبُ مِنْهُ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّصَّ الْعَامَّ لَيْسَ فِيهِ احْتِمَالُ الْفَسَادِ وَالْغَلَطِ بِوَجْهٍ فَلَا يَبْقَى لِعَدَمِ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ وَجْهٌ إلَّا الْخُصُوصَ الَّذِي يَلِيقُ بِكَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى إثْبَاتِهِ بِدَلِيلٍ. فَأَمَّا احْتِمَالُ الْفَسَادِ فِي الْعِلَّةِ فَقَائِمٌ فَمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ دَلِيلُ الْخُصُوصِ فِيمَا ادَّعَى أَنَّهُ مَخْصُوصٌ مِنْ عِلَّتِهِ لَا يَنْتَفِي جِهَةُ الْفَسَادِ فَلَا يَصْلُحُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ. وَلَا يُقَالُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَانِعٌ، وَلَا يُمْكِنُهُ إبْرَازُهُ فَلَا يَثْبُتُ فَسَادُ الْوَصْفِ بِالِاحْتِمَالِ أَيْضًا؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْأَصْلُ فِي التَّخَلُّفِ هُوَ التَّنَاقُضُ. قَوْلُهُ:(وَبَنَى) أَيْ مَنْ أَجَازَ التَّخْصِيصَ عَلَى هَذَا أَيْ عَلَى جَوَازِ التَّخْصِيصِ تَقْسِيمَ الْمَوَانِعِ أَيْ مَوَانِعِ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ. وَهِيَ خَمْسَةٌ حِسًّا وَحُكْمًا أَيْ فِي الْحِسِّيَّاتِ وَالشَّرْعِيَّاتِ عُرِفَ ذَلِكَ بِالِاسْتِقْرَاءِ.
وَذَلِكَ أَيْ مَا قُلْنَا مِنْ الْمَوَانِعِ حِسًّا يَتَبَيَّنُ فِي الرَّمْيِ فَإِنَّهُ قَتَلَ أَوْ أَصَابَ وَيَلْزَمُ الرَّامِيَ أَحْكَامُ الْقَتْلِ وَالرَّمْيُ عِبَارَةٌ عَنْ فِعْلٍ مَعْلُومٍ، وَهُوَ إغْرَاقُ الْقَوْسِ بِالسَّهْمِ، وَإِرْسَالُهُ. فَالرَّامِي إذَا انْقَطَعَ وَتَرُهُ أَيْ وَتَرُ قَوْسِهِ أَوْ انْكَسَرَ فَوْقَ سَهْمِهِ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْوَتَرِ مِنْ السَّهْمِ يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ انْعِقَادِ الرَّمْيِ عِلَّةً بَعْدَ تَمَامِ قَصْدِ الرَّامِي إلَى مُبَاشَرَةٍ حَتَّى أَنَّ شَيْئًا مِنْ حُكْمِ الرَّمْي لَا يَظْهَرُ مَعَ هَذَا الْمَانِعِ مِنْ مُضِيِّ السَّهْمِ أَوْ إصَابَتِهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ: وَإِذَا حَالَ بَيْنَ الرَّامِي وَبَيْنَ مَقْصِدِهِ حَائِطٌ فِي مَسَافَةِ مُرُورِ السَّهْمِ يُعَارِضُ السَّهْمَ فَيَمْنَعُهُ مِنْ الْمُرُورِ وَيَرُدُّهُ عَنْ سُنَنِهِ فَهُوَ مَانِعٌ يَمْنَعُ تَمَامَ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ انْعَقَدَ رَمْيًا لَكِنَّ الرَّمْيَ إنَّمَا يَصِيرُ قَتْلًا إذَا أَصَابَ الْمُرْمَى بِامْتِدَادِ السَّهْمِ إلَى الْمُرْمَى بِقُوَّتِهِ، وَهَذَا الْمَانِعُ مَنَعَ تَمَامَ الِامْتِدَادِ إلَيْهِ فَمَنَعَ تَمَامَ الْعِلَّةِ.
وَهَذَانِ لَيْسَا مِنْ أَقْسَامِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّخْصِيصِ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ لِمَانِعٍ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ، وَقَدْ عُدِمَتْ الْعِلَّةُ فِي هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ أَصْلًا فَيَكُونُ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ فِيهِمَا لِعَدَمِ الْعِلَّةِ لَا لِمَانِعٍ مَنَعَ وُجُودَ الْعِلَّةِ فَلَا يَسْتَقِيمُ بِنَاؤُهُمَا عَلَيْهِ وَجَعْلُهُمَا مِنْ أَقْسَامِهِ إلَّا أَنَّ
فَيَدْفَعُهُ بِتُرْسٍ أَوْ غَيْرِهِ وَاَلَّذِي يَمْنَعُ تَمَامَ الْحُكْمِ أَنْ يَجْرَحَهُ ثُمَّ يُدَاوِيَهُ فَيَنْدَمِلَ، وَاَلَّذِي يَمْنَعُ لُزُومَهُ أَنْ يُصِيبَهُ فَيَمْرَضَ بِهِ وَيَصِيرَ صَاحِبَ فِرَاشٍ ثُمَّ يَصِيرَ لَهُ كَطَبْعٍ خَامِسٍ فَيَأْمَنُ مِنْهُ غَالِبًا بِمَنْزِلَةِ مَنْ ضَرَبَهُ الْفَالِجُ فَيَصِيرُ مَفْلُوجًا كَانَ مَرِيضًا فَإِنْ امْتَدَّ فَصَارَ طَبْعًا صَارَ فِي حُكْمِ الصَّحِيحِ.
وَمِثَالُهُ مِنْ الشَّرْعِيَّاتِ الْبَيْعُ إذَا أُضِيفَ إلَى حُرٍّ لَمْ يَنْعَقِدْ، وَإِذَا أُضِيفَ إلَى مَالٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ لِلْبَائِعِ مَنَعَ تَمَامَ الِانْعِقَادِ فِي حَقِّ الْمَالِكِ، وَخِيَارُ الشَّرْطِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْحُكْمِ، وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ يَمْنَعُ تَمَامَ الْحُكْمِ، وَخِيَارُ الْعَيْبِ يَمْنَعُ لُزُومَ الْحُكْمِ
ــ
[كشف الأسرار]
هَذَا الْقَائِلَ لَمَّا شَرَعَ فِي بَيَانِ الْمَوَانِعِ ذَكَرَهُمَا تَتْمِيمًا لِلتَّقْسِيمِ لَا أَنَّهُ بَنَاهُمَا عَلَى التَّخْصِيصِ.
وَمَانِعٌ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْحُكْمِ هُوَ أَنْ يُصِيبَهُ أَيْ يُصِيبَ السَّهْمُ الْمُرْمَى. فَيَدْفَعُهُ أَيْ الْمُرْمَى السَّهْمَ بِتُرْسٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ دِرْعٍ أَوْ جَوْشَنٍ أَوْ قَبَاءٍ؛ لِأَنَّ السَّهْمَ لَمَّا امْتَدَّ إلَيْهِ وَاتَّصَلَ بِهِ فَقَدْ تَمَّتْ الْعِلَّةُ فَكَانَ مِنْ حُكْمِهِ الْجَرْحُ الَّذِي هُوَ قَتْلٌ، وَهَذَا الْمَانِعُ أَعْنِي التُّرْسَ وَنَحْوَهُ مِنْهُ أَصْلُ الْحُكْمِ. وَلَا يُقَالُ التُّرْسُ مَانِعٌ مِنْ الِاتِّصَالِ كَالْحَائِطِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كِلَاهُمَا مِنْ قَبِيلِ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّا نَقُولُ التُّرْسُ أَوْ الدِّرْعُ مُتَّصِلٌ بِالْمُرْمَى فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ بَدَنِهِ فَكَانَ اتِّصَالُ السَّهْمِ بِهِ بِمَنْزِلَةِ اتِّصَالِهِ بِبَدَنِهِ بِخِلَافِ الْحَائِطِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِهِ فَلَا يَكُونُ اتِّصَالُ السَّهْمِ بِالْحَائِطِ بِمَنْزِلَةِ اتِّصَالِ السَّهْمِ بِالْمُرْمَى فَكَانَ قِسْمًا آخَرَ. وَاَلَّذِي يَمْنَعُ تَمَامَ الْحُكْمِ أَنْ يَجْرَحَهُ أَيْ السَّهْمُ الْمُرْمَى ثُمَّ يُدَاوِيهِ أَيْ الْمُرْمَى الْجُرْحَ فَيَنْدَمِلُ فَالْمُدَاوَاةُ مَعَ الِانْدِمَالِ أَوْ الِانْدِمَالُ بِنَفْسِهِ مَانِعٌ مِنْ تَمَامِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْجُرْحَ إنَّمَا يُتِمُّ قَتْلًا إذَا سَرَى أَلَمُهُ إلَى الْمَوْتِ فَمَا يَقْطَعُ السِّرَايَةَ يَكُونُ مَانِعًا تَمَامَ حُكْمِ الْعِلَّةِ.
وَاَلَّذِي يَمْنَعُ لُزُومَ الْحُكْمِ أَنْ يُصِيبَ السَّهْمُ الْمُرْمَى فَيَمْرَضُ بِهِ وَيَصِيرُ صَاحِبَ فِرَاشٍ ثُمَّ يَصِيرُ ذَلِكَ الْمَرَضُ وَالْجُرْحُ لَهُ كَطَبْعٍ خَامِسٍ أَيْ زَائِدٍ عَلَى الطِّبَاعِ الْأَرْبَعَةِ فَيَأْمَنُ أَيْ الْمُرْمَى الْمُصَابُ مِنْهُ أَيْ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ فِي الْغَالِبِ أَيْ يَأْمَنُ الْمُصَابُ مِنْ أَنْ يَقْضِيَ ذَلِكَ الْجُرْحُ إلَى الْهَلَاكِ، وَإِنْ لَمْ يَنْدَمِلْ.
فَصَيْرُورَتُهُ طَبْعًا خَامِسًا مَنَعَ لُزُومَ الْحُكْمِ أَيْ مَنَعَ الْجُرْحَ أَنْ يَصِيرَ قَتْلًا إذْ مَعْنَى لُزُومِهِ صَيْرُورَتُهُ قَتْلًا، وَهُوَ كَالِانْدِمَالِ فِي التَّحْقِيقِ؛ لِأَنَّهُ مَانِعٌ مِنْ زُهُوقِ الرُّوحِ كَالِانْدِمَالِ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ الْقَاضِي الْإِمَامُ هَذَا الْقِسْمَ فِي أَقْسَامِ الْمَوَانِعِ. إلَّا أَنَّ الْجُرْحَ الَّذِي هُوَ أَثَرُ الرَّمْيِ لَمَّا بَقِيَ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ طَبْعًا فَلَمْ يَنْدَمِلْ لَمْ يَنْدَفِعْ الْحُكْمُ بِهَذَا الْمَانِعِ بِالْكُلِّيَّةِ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَصِيرَ قَتْلًا فِي الْعَاقِبَةِ، وَلَكِنَّ الدَّفْعَ بِصَيْرُورَتِهِ طَبْعًا إفْضَاؤُهُ إلَى الْقَتْلِ فِي الْحَالِ فَكَانَ مَانِعًا لُزُومَ الْحُكْمِ، وَفِي أَصْلِهِ لِبَقَائِهِ بَعْدَ وُجُودِهِ وَبِالِانْدِمَالِ قَدْ انْدَفَعَ الْجُرْحُ الْحَاصِلُ بِالرَّمْيِ بِالْكُلِّيَّةِ فَكَانَ الِانْدِمَالُ أَقْوَى مَنْعًا لِلْحُكْمِ مِنْ صَيْرُورَةِ الْجُرْحِ طَبْعًا، وَلِذَلِكَ جَعَلَهُمَا الشَّيْخُ قِسْمَيْنِ. وَفِي الْجُمْلَةِ جَعْلُ صَيْرُورَتِهِ طَبْعًا مَانِعَةً مِنْ لُزُومِ الْحُكْمِ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ نَفْسُ الْحُكْمِ ثَابِتًا، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْمَانِعِ ثُمَّ الْمُرَادُ مِنْ الْحُكْمِ إنْ كَانَ هُوَ الْقَتْلَ فَنَفْسُهُ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ كَمَا فِي الِانْدِمَالِ فَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يُجْعَلَ ثَابِتًا غَيْرَ لَازِمٍ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْجُرْحَ فَهُوَ لَازِمٌ بَعْدَمَا صَارَ طَبْعًا فَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يُجْعَلَ كَوْنُهُ طَبْعًا مَانِعًا مِنْ اللُّزُومِ أَيْضًا وَذَكَرَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ أَنَّ حُكْمَ الرَّمْيِ الْجُرْحُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُقَاوِمُهُ الْمُرْمَى فَيُفْضِي إلَى الْقَتْلِ فَإِذَا انْدَمَلَ لَمْ يَتِمَّ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّ الْمُرْمَى يَصْلُحُ مُقَاوِمًا لَهُ فَيَكُونُ الِانْدِمَالُ مَانِعًا تَمَامَ الْحُكْمِ، وَإِذَا لَمْ يَنْدَمِلْ وَصَارَ صَاحِبَ فِرَاشٍ فَقَدْ تَحَقَّقَ عَدَمُ الْمُقَاوَمَةِ إلَّا أَنَّهُ مَا دَامَ حَيًّا يَحْتَمِلُ أَنْ يَزُولَ عَدَمُ الْمُقَاوَمَةِ بِالِانْدِمَالِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِيرَ لَازِمًا بِإِفْضَائِهِ إلَى الْقَتْلِ فَإِذَا صَارَ طَبْعًا فَقَدْ مَنَعَ ذَلِكَ إفْضَاءَهُ إلَى الْقَتْلِ فَكَانَ صَيْرُورَتُهُ طَبْعًا مَانِعَةً لُزُومَ الْحُكْمِ، وَهُوَ لَا يَخْلُو عَنْ تَكَلُّفٍ كَمَا تَرَى.
قَوْلُهُ (وَمِثَالُهُ) أَيْ مِثَالُ مَا تَحَقَّقَ مِنْهُ الْمَوَانِعُ الْخَمْسَةُ مِنْ الشَّرْعِيَّاتِ الْبَيْعُ فَإِنَّهُ عِلَّةٌ لِمِلْكِ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ جَمِيعًا ثُمَّ إذَا أُضِيفَ إلَى حُرٍّ أَوْ مَيِّتَةٍ يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ أَصْلِ الِانْعِقَادِ لِعَدَمِ الْمَحَلِّ. وَإِذَا أُضِيفَ إلَى مَالٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ لِلْبَائِعِ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ مَنَعَ يَعْنِي كَوْنَهُ غَيْرَ مَمْلُوكٍ لِلْبَائِعِ تَمَامَ الِانْعِقَادِ فِي حَقِّ الْمِلْكِ، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ أَصْلِ الِانْعِقَادِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ لِلْمَالِكِ فِيهِ.
وَالدَّلِيلُ
وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ادَّعَيْنَا مِنْ إبْطَالِ خُصُوصِ الْعِلَلِ أَنَّ تَفْسِيرَ الْخُصُوصِ مَا مَرَّ ذِكْرُهُ أَنَّ دَلِيلَ الْخُصُوصِ يُشْبِهُ النَّاسِخَ بِصِيغَتِهِ
ــ
[كشف الأسرار]
عَلَى الِانْعِقَادِ أَنَّهُ يَلْزَمُ بِإِجَازَتِهِ وَغَيْرُ الْمُنْعَقِدِ لَا يَصِيرُ لَازِمًا، وَمُنْعَقِدًا بِالْإِجَازَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ تَامٍّ أَنَّهُ يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَارِثِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ فِي حَقِّ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ الْبَائِعِ تَامٌّ حَتَّى لَمْ يَكُنْ لَهُ وِلَايَةُ إبْطَالِهِ وَذَكَرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ بَائِعَ مَالِ الْغَيْرِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِلتَّصَرُّفِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ الْمِلْكِ وَجَبَ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ الْبَيْعُ أَصْلًا، وَلَمَّا كَانَ رُكْنُ الْبَيْعِ صَادِرًا مِنْ الْأَهْلِ فِي مَحَلٍّ صَالِحٍ لِلتَّصَرُّفِ وَجَبَ أَنْ يَنْعَقِدَ تَامًّا مُعْلِنًا أَنَّهُ انْعَقَدَ غَيْرَ تَامٍّ فِي حَقِّ الْمَالِكِ حَمْلًا بِالشَّبَهَيْنِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَنَّ إضَافَةَ الْبَيْعِ إلَى مَالِ الْغَيْرِ تَمْنَعُ التَّامَّ فَإِنَّهُ فِي حَقِّ الْمَالِكِ كَأَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ لِعَدَمِ وِلَايَةِ الْعَاقِدِ عَلَيْهِ. وَخِيَارُ الشَّرْطِ أَيْ الْخِيَارُ الثَّابِتُ بِالشَّرْطِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْحُكْمِ، وَهُوَ الْمِلْكُ حَتَّى لَا يَخْرُجَ الْبَدَلُ الَّذِي فِي جَانِبِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ عَنْ مِلْكِهِ إلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ، وَإِنْ انْعَقَدَ الْبَيْعُ فِي حَقِّهِمَا عَلَى التَّمَامِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ الْحُكْمُ بِالْخِيَارِ لِتَعَلُّقِ الثُّبُوتِ بِسُقُوطِهِ. وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ يَمْنَعُ تَمَامَ الْحُكْمِ دُونَ أَصْلِهِ حَتَّى لَا يَمْنَعَ ثُبُوتَ الْمِلْكِ، وَلَكِنْ لَا يَتِمُّ الصِّفَةُ بِالْقَبْضِ مَعَهُ وَيَتَمَكَّنُ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ مِنْ الْفَسْخِ بِدُونِ قَضَاءٍ، وَلَا رِضَاءٍ لِعَدَمِ التَّمَامِ.
وَصَارَ الْعَيْبُ يَمْنَعُ لُزُومَ الْحُكْمِ يَعْنِي ثَبَتَ الْحُكْمُ مَعَهُ تَامًّا حَتَّى كَانَ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي الْبَيْعِ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الْفَسْخِ بِدُونِ رِضَاءٍ، وَلَا قَضَاءٍ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ حَيْثُ ثَبَتَ لَهُ وِلَايَةُ الرَّدِّ فَثَبَتَ أَنَّهُ مَانِعٌ مِنْ اللُّزُومِ.
وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ مَرَاتِبُ هَذِهِ الْخِيَارَاتِ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ يَثْبُتُ بِالشَّرْطِ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ الشَّرْطَ فِيهِ دَاخِلٌ عَلَى الْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ فَصَارَ الْحُكْمُ مُعَلَّقًا بِالشَّرْطِ فَعَدِمَ قَبْلَ وُجُودِهِ. وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ يَثْبُتُ بِنَاءً عَلَى فَوَاتِ تَمَامِ الرِّضَاءِ؛ لِأَنَّ الرِّضَاءَ يَحْصُلُ بِالْعِلْمِ وَأَصْلِهِ، وَإِنْ كَانَ يَحْصُلُ بِالْوَصْفِ وَالْإِشَارَةِ، وَلَكِنْ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالرُّؤْيَةِ فَقَبْلَ الرُّؤْيَةِ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ مُوجِبًا لِلْمِلْكِ لِوُجُودِ أَصْلِ الرِّضَاءِ، وَلَكِنْ لَا يَتِمُّ مَا لَمْ يَتِمَّ الرِّضَاءُ بِالرُّؤْيَةِ. وَخِيَارُ الْعَيْبِ يَثْبُتُ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ لَهُ بِتَسْلِيمِ الْجُزْءِ الْفَائِتِ لَا عَلَى فَوَاتِ الرِّضَاءِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْأَوْصَافِ قَبْلَ رُؤْيَةِ مَوْضِعِ الْعَيْبِ يَثْبُتُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ، وَهُوَ صِفَةُ السَّلَامَةِ لَكِنْ لَمَّا اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِ مَا فَاتَ فَإِذَا عَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِهِ، وَلَا يُمْكِنُ إسْقَاطُ بَعْضِ الثَّمَنِ بِمُقَابَلَتِهِ؛ لِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ ثَبَتَ لَهُ وِلَايَةُ الرَّدِّ وَالْفَسْخِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ.
قَوْلُهُ (وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ادَّعَيْنَا مِنْ إبْطَالِ تَخْصِيصِ الْعِلَلِ) أَرَادَ بِهِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي قَوْلِهِ بَابُ فَسَادِ تَخْصِيصِ الْعِلَلِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَذْهَبَهُ صَرِيحًا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَانِعِينَ مِنْ التَّخْصِيصِ تَمَسَّكُوا بِوُجُوهٍ مِنْهَا أَنَّ وُجُودَ الْعِلَّةِ مَعَ تَخَلُّفِ حُكْمِهَا مُنَاقَضَةٌ وَالْمُنَاقَضَةُ مِنْ آكَدِ مَا تَفْسُدُ بِهِ الْعِلَّةُ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى الْعَبَثِ وَالسَّفَهِ وَنِسْبَةُ ذَلِكَ إلَى الشَّرْعِ لَا يَجُوزُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي جَعَلَهُ الْمُعَلِّلُ عِلَّةً إذَا وُجِدَ مُتَعَرِّيًا عَنْ الْحُكْمِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَقُولَ امْتِنَاعُ الْحُكْمِ لِمَانِعٍ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ أَوَّلًا لِمَانِعٍ، وَالثَّانِي ظَاهِرُ الْفَسَادِ؛ لِأَنَّ تَخَلُّفَ الْحُكْمِ بِدُونِ الْمَانِعِ دَلِيلُ الْفَسَادِ وَالْمُنَاقَضَةِ.
وَكَذَا الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ أَمَارَاتٌ، وَأَدِلَّةٌ عَلَى أَحْكَامِ الشَّارِعِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ نَصَّ الشَّارِعُ فِي كُلِّ وَصْفٍ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ دَلِيلٌ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ أَيْنَمَا وُجِدَ فَإِذَا خَلَا الدَّلِيلُ عَنْ الْمَدْلُولِ كَانَ مُنَاقَضَةً. وَمِنْهَا أَنَّ مَعْنَى التَّخْصِيصِ قِيَامُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَدُلُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَا يَجُوزُ
وَيُشْبِهُ الِاسْتِثْنَاءَ بِحُكْمِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَقَعَ التَّعَرُّضُ بَيْنَ النَّصَّيْنِ فَلَمْ يَفْسُدْ أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ وَلَكِنَّ النَّصَّ الْعَامَّ لَحِقَهُ ضَرْبٌ مِنْ الِاسْتِعَارَةِ بِأَنْ أُرِيدَ بِهِ بَعْضُهُ مَعَ بَقَائِهِ حُجَّةً عَلَى مَا مَرَّ
ــ
[كشف الأسرار]
قِيَامُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الدَّلِيلَ لَا يَدُلُّ أَنَّ فِي ذَلِكَ عَزْلُ الدَّلِيلِ عَنْ دَلَالَتِهِ، وَهُوَ بَاطِلٌ. فَإِنْ دَلَّ ذَلِكَ الدَّلِيلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ دَلِيلٌ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ. فَنَقُولُ لَهُ لِأَيِّ مَعْنًى صَارَ عِلَّةً فِي تِلْكَ الْحَالَةِ إنْ قَالَ بِالْأَثَرِ أَوْ بِالْإِحَالَةِ أَوْ بِغَيْرِهِمَا فَنَقُولُ ذَلِكَ الْمَعْنَى يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ دَلِيلًا عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَإِلَّا فَلَا يَكُونُ عِلَّةً. فَإِنْ قَالَ هَذَا الْوَصْفُ عِلَّةٌ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَمْنَعَهُ مَانِعٌ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا ذِكْرَهُ، وَأَضْمَرْنَاهُ كَمَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ الْعَمَلُ بِالْعُمُومِ وَاجِبٌ وَتَعْنُونَ بِهِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ الْمَنْعِ مِنْ إجْرَائِهِ عَلَى عُمُومِهِ. فَنَقُولُ إنْ كَانَ هَذَا الشَّرْطُ مَقْرُونًا بِالْعِلَّةِ لَمْ يَكُنْ تَخْصِيصًا لِلْعِلَّةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ اسْتِيفَاءً لِإِجْرَائِهَا فَزَالَتْ الْمُنَازَعَةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْرُونًا بِهَا كَانَ ذَلِكَ نَقْضًا، وَمِنْهَا مَا ذَكَرَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ أَنَّ أَقْوَى مَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْتَجَّ بِهِ الْمَانِعُونَ مِنْ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ أَنْ يُقَالَ مَعْنَى قَوْلِنَا إنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ هُوَ أَنَّ تَخْصِيصَهَا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهَا أَمَارَةً وَطَرِيقًا إلَى الْوُقُوفِ عَلَى الْحُكْمِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْفُرُوعِ، وَإِذَا مَنَعَ تَخْصِيصُهَا مِنْ كَوْنِهَا طَرِيقًا إلَى الْحُكْمِ فَقَدْ تَمَّ مَا أَرَدْنَاهُ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّا إذَا عَلِمْنَا أَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ مُتَفَاضِلًا هِيَ كَوْنُهُ مَوْزُونًا ثُمَّ عَلِمْنَا مَثَلًا إبَاحَةَ بَيْعِ الرَّصَاصِ بِالرَّصَاصِ مُتَفَاضِلًا مَعَ أَنَّهُ مَوْزُونٌ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَعْلَمَ ذَلِكَ بِعِلَّةٍ أُخْرَى تَقْتَضِي إبَاحَتَهُ، وَهِيَ أَقْوَى مِنْ عِلَّةِ تَحْرِيمِ الذَّهَبِ أَوْ أَنْ يَعْلَمَ ذَلِكَ بِنَصٍّ. فَإِنْ دَلَّ عَلَى إبَاحَتِهِ عِلَّةٌ يُقَاسُ بِهَا الرَّصَاصُ عَلَى أَصْلٍ مُبَاحٍ فَحِينَئِذٍ يَعْلَمُ أَنَّ حُرْمَةَ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ مُتَفَاضِلًا بِالْوَزْنِ وَبِعَدَمِ ذَلِكَ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ الْإِبَاحَةِ فَيَتَبَيَّنُ بَعْدَ التَّحْقِيقِ أَنَّ الْعِلَّةَ لَمْ تَكُنْ كَوْنَهُ مَوْزُونًا فَقَطْ وَأَنْتَ جَعَلْت الْوَزْنَ هُوَ الْعِلَّةُ.
وَإِنْ دَلَّ عَلَى إبَاحَةِ بَيْعِ الرَّصَاصِ بِالرَّصَاصِ نَصَّ، وَقَدْ عَلِمْنَا عِلَّةَ إبَاحَتِهِ فَالْكَلَامُ فِيهِ مِثْلُ الْكَلَامِ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ عِلَّةَ إبَاحَتِهِ كَانَتْ الْعِلَّةُ مَقْصُورَةً عَلَى الرَّصَاصِ غَيْرَ مُتَعَدِّيَةٍ عَنْهُ؛ لِأَنَّهَا لَوْ تَعَدَّتْ لَوَجَبَ فِي الْحِكْمَةِ أَنْ يُثْبِتَ الشَّارِعُ عِلْمًا عَلَى ذَلِكَ لِيَعْلَمَ ثُبُوتَ حُكْمِهَا فِيمَا عَدَا الرَّصَاصَ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ بِالْوَزْنِ فَقَطْ بَلْ؛ لِأَنَّهُ مَوْزُونٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِرَصَاصٍ فَيَبْطُلُ بِهَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْعِلَّةُ هِيَ الْوَزْنَ فَقَطْ فَثَبَتَ أَنَّ التَّخْصِيصَ يُخْرِجُ الْعِلَّةَ مِنْ كَوْنِهَا أَمَارَةً.
قَالَ وَاَلَّذِي تَبَيَّنَ مَا قُلْنَا مِنْ اشْتِرَاطِ نَفْيِ الْمُخَصِّصِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ اسْتَدَلَّ عَلَى طَرِيقِهِ فِي بَرِّيَّةٍ بِأَمْيَالٍ مَنْصُوبَةٍ ثُمَّ رَأَى مِيلًا لَا يَدُلُّ عَلَى طَرِيقِهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّهُ أَسْوَدُ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَدِلُّ فِيمَا بَعْدُ عَلَى طَرِيقِهِ بِوُجُودِ مِيلٍ دُونَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ غَيْرُ أَسْوَدَ فَقَدْ صَحَّ مَا أَرَدْنَاهُ أَنَّ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ يُخْرِجُهَا عَنْ كَوْنِهَا أَمَارَةً عَلَى الْحُكْمِ.
وَمِنْهَا مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ رحمه الله فِي الْكِتَابِ: أَنَّ تَفْسِيرَ الْخُصُوصِ أَيْ تَخْصِيصَ الْعَامِّ مَا مَرَّ ذِكْرُهُ فِي أَبْوَابِ الْعَامِّ أَنَّ دَلِيلَ الْخُصُوصِ شَبَّهُ النَّاسِخَ بِصِيغَتِهِ لِاسْتِقْلَالِهِ بِنَفْسِهِ وَيُشَبِّهُ الِاسْتِثْنَاءَ بِحُكْمِهِ؛ لِأَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ الْخُصُوصَ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعُمُومِ كَالِاسْتِثْنَاءِ، وَلِهَذَا شَرَطَ أَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا لِيُمْكِنَ أَنْ يُجْعَلَ الْعَامُّ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمَخْصُوصِ كَمَا شَرَطَ ذَلِكَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ لِيُمْكِنَ جَعْلُهُ تَكَلُّمًا بِالْبَاقِي بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَيْ إذَا كَانَ دَلِيلُ الْخُصُوصِ كَمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُشْبِهُ الْأَمْرَيْنِ، وَمَعَ التَّعَارُضِ ظَاهِرًا بَيْنَ النَّصَّيْنِ، وَهُمَا صِيغَةُ الْعَامِّ وَدَلِيلُ الْخُصُوصِ. فَلَمْ يَفْسُدْ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ أَيْ لَمْ يَبْطُلْ النَّصُّ الْعَامُّ بِلُحُوقِ دَلِيلِ الْخُصُوصِ بِهِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ
وَهَذَا لَا يَكُونُ فِي الْعِلَلِ أَبَدًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ وَيُوجِبُ عِصْمَةَ الِاجْتِهَادِ عَنْ الْخَطَأِ وَالْمُنَاقَضَةِ، وَفِي ذَلِكَ قَوْلٌ بِالْأَصْلَحِ لَكِنَّ الْحُكْمَ إنَّمَا يَمْتَنِعُ لِزِيَادَةِ وَصْفٍ أَوْ نُقْصَانِهِ الَّذِي تُسَمِّيهِ مَانِعًا مُخَصِّصًا وَبِزِيَادَتِهِ أَوْ نُقْصَانِهِ يَتَبَدَّلُ الْعِلَّةُ فَيَجِبُ أَنْ يُضَافَ الْعَدَمُ إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ لَا إلَى مَانِعٍ أَوْجَبَ الْخُصُوصَ مَعَ قِيَامِ الْعِلَّةِ
ــ
[كشف الأسرار]
الْبَعْضُ، وَلَمْ يَبْطُلْ دَلِيلُ الْخُصُوصِ إذَا كَانَ مَجْهُولًا بِالْعَامِّ أَيْضًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ آخَرِينَ بَلْ صَارَ النَّصُّ الْعَامُّ مُسْتَعَارًا لِمَا بَقِيَ بَعْدَ التَّخْصِيصِ وَقَعَ حُجَّةً فِيهِ.
وَهَذَا أَيْ التَّخْصِيصُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ أَنْ يُبْقِيَ الْعِلَّةَ حُجَّةً فِيمَا وَرَاءَ مَوْضِعِ التَّخْصِيصِ لَا يَكُونُ فِي الْعِلَلِ أَبَدًا أَيْ لَا يَسْتَقِيمُ فِيهَا بِوَجْهٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْ التَّخْصِيصَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يُؤَدِّي إلَى تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الِاجْتِهَادِ إنَّمَا تَثْبُتُ بَعْدَ تَأْثِيرِهِ بِسَلَامَتِهِ عَنْ الْمُنَاقَضَةِ وَيَظْهَرُ فَسَادُهُ وَخَطَؤُهُ بِانْتِقَاضِهِ فَإِذَا جَازَ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ أَمْكَنَ لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ إذَا وَرَدَ عَلَيْهِ نَقْضٌ فِي عِلَّتِهِ أَنْ يَقُولَ خَصَّصْت عِلَّتِي بِدَلِيلٍ وَيَتَخَلَّصُ عَنْ النَّقْضِ فَسَلِمَ اجْتِهَادُهُ عَنْ الْخَطَأِ وَالْمُنَاقَضَةِ فَيَكُونُ اجْتِهَادُ كُلِّ مُجْتَهِدٍ صَوَابًا، وَلَمْ يُوجَدْ فِي الدُّنْيَا مُنَاقِضٌ. وَفِي ذَلِكَ أَيْ فِي تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ وَعِصْمَةِ الِاجْتِهَادِ قَوْلٌ بِوُجُوبِ الْأَصْلَحِ. لَكِنَّ الْمُجَوَّزِينَ يَقُولُونَ إنَّمَا يَلْزَمُ مِنْ التَّخْصِيصِ تَصْوِيبُ كُلِّ مُجْتَهِدٍ إذَا قُبِلَ مِنْهُ مُجَرَّدُ قَوْلِهِ خُصَّ لِمَانِعٍ أَمَّا إذَا اشْتَرَطَ بَيَانَ مَانِعٍ صَالِحٍ لِلتَّخْصِيصِ فَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ إذْ لَا يَتَيَسَّرُ لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ أَنْ يُبَيِّنَ عِلَّةً مُؤَثِّرَةً فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ ثُمَّ يُبَيِّنَ عِنْدَ وُرُودِ النَّقْضِ عَلَيْهَا مَانِعًا صَالِحًا. وَلَئِنْ كَانَ التَّخْصِيصُ بِهَذَا الشَّرْطِ مُؤَدِّيًا إلَى التَّصْوِيبِ لَكَانَ مَا ذَهَبْتُمْ إلَيْهِ مِنْ إضَافَةِ عَدَمِ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ التَّخْصِيصِ إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ مُؤَدِّيًا إلَى التَّصْوِيبِ أَيْضًا وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ عِلَّةٍ مُؤَثِّرَةٍ ثَبَتَ تَخْصِيصُهَا عِنْدَنَا بِدَلِيلٍ فَهِيَ عِنْدَكُمْ صَحِيحَةٌ غَيْرُ مُنْتَقَضَةٍ أَيْضًا لَكِنَّكُمْ تَنْسُبُونَ عَدَمَ الْحُكْم إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ بِاعْتِبَارِ فَوَاتِ وَصْفٍ وَنَحْنُ نَنْسُبُ إلَى الْمَانِعِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يُمْكِنُ لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ إذَا وَرَدَ عَلَيْهِ نَقْضٌ أَنْ يَقُولَ قَدْ عَدِمْت عِلَّتِي فِي صُورَةِ النَّقْضِ لِزِيَادَةِ وَصْفٍ أَوْ نُقْصَانِهِ وَيَتَخَلَّصُ عَنْ النَّقْضِ بِذَلِكَ كَمَا يَتَخَلَّصُ بِالتَّخْصِيصِ فَتَبْقَى عِلَّتُهُ عَلَى الصِّحَّةِ فَيَكُونُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا.
وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ التَّخْصِيصَ يُؤَدِّي إلَى تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ وُجُوبُ الْقَوْلِ بِالْأَصْلَحِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَّجِرِينَ فِي الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ ذَهَبُوا إلَى التَّصْوِيبِ مَعَ إنْكَارِهِمْ الْقَوْلَ بِالْأَصْلَحِ غَايَةَ الْإِنْكَارِ، وَبَنَوْا ذَلِكَ عَلَى الِاسْتِحَالَةِ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ.
قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ مَوْلَانَا حُمَيْدٍ الدِّينِ رحمه الله فِي فَوَائِدِهِ وَالْقَوْلُ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ يُؤَدِّي إلَى تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ إذْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَرْعُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فَمَنْ قَالَ بِتَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ يَحْتَاجُ إلَى الْقَوْلِ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ إذَا وُجِدَتْ، وَلَا حُكْمَ تَكُونُ مَنْقُوضَةً فَيَكُونُ الْمُعَلِّلُ مُخْطِئًا ضَرُورَةً، وَهُوَ خِلَافُ مَا اعْتَقَدُوا فَدَعَاهُمْ ذَلِكَ إلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِجَوَازِ التَّخْصِيصِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ الْمُجْتَهِدِ مَنْقُوضَةً ضَرُورَةَ كَوْنِ الْمُجْتَهِدِ مُصِيبًا؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلَحُ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ وَعِنْدَنَا لَمَّا جَازَ الْخَطَأُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ جَازَ انْتِقَاضُ الْعِلَّةِ فَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ يُؤَدِّي إلَى تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ فَعِنْدَهُمْ كَمَا لَا يَجُوزُ الْفَسَادُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا يَجُوزُ عَلَى الْعِلَلِ أَيْضًا فَصَارَ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ نَظِيرَ تَخْصِيصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَعِنْدَنَا لَمَّا جَازَ فَسَادُ الْعِلَّةِ لَمْ يَكُنْ نَظِيرَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَمَّا ذَكَرَ الشَّيْخُ مِنْ لُزُومِ تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ بِأَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّخْصِيصِ يُؤَدِّي إلَى تَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ، وَأَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ حُكْمَانِ مُتَضَادَّانِ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا وُجِدَتْ الْعِلَّةُ فِي أَصْلَيْنِ وَاقْتَضَتْ التَّحْلِيلَ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَنْفَصِلْ مَنْ عَلَّقَ عَلَيْهَا التَّحْلِيلَ فِي الْفَرْعِ اعْتِبَارًا بِأَحَدِ الْأَصْلَيْنِ مِمَّنْ عَلَّقَ عَلَيْهَا التَّحْرِيمَ
وَفَرْقٌ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ أَنَّهُمْ يَنْسُبُونَ عَدَمَ الْحُكْمِ إلَى مَانِعٍ مَعَ قِيَامِ الْعِلَّةِ فَصَارَ كَدَلِيلِ الْخُصُوصِ فِي بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَامُّ مَعَ قِيَامِ دَلِيلِ الْعُمُومِ وَنَحْنُ نَنْسُبُ الْعَدَمَ إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ يَنْعَدِمُ وَصْفُ الْعِلَّةِ أَوْ زِيَادَتُهَا، وَالْعَدَمُ بِالْعَدَمِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْخُصُوصِ
ــ
[كشف الأسرار]
فِي ذَلِكَ الْفَرْعِ اعْتِبَارًا بِالْأَصْلِ الْآخَرِ فَيَتَكَافَأُ الدَّلِيلَانِ وَيَسْتَوِي الْقَوْلَانِ. مِثَالُهُ مِنْ عَلَّلَ عَدَمَ وُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِ السَّبُعِ بِأَنَّهُ سَبُعٌ فَلَا يَجِبُ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِ قِيَاسًا عَلَى الْكَلْبِ فَإِذَا نُقِضَتْ عَلَيْهِ الْعِلَّةُ بِالضَّبُعِ أَجَابَ بِأَنَّهُ خَصَّهَا فَيَصِيرُ هَذِهِ الْوَصْفُ، وَهُوَ السَّبُعِيَّةُ عِلَّةً لِحُكْمَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ بِالْقِيَاسِ عَلَى أَصْلَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَّفِقٌ عَلَى كَلِمَةٍ. وَلَيْسَ لِمَنْ أَجَازَ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ أَنْ يَنْفَصِلَ عَنْ هَذَا بِدَعْوَاهُ التَّرْجِيحَ فِي أَحَدِ وَجْهِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْحُكْمَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ تَرْجِيحُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ فِي تَخْصِيصِهِ بِأَحَدِ حُكْمَيْهِ، وَإِذَا اسْتَحَالَ ذَلِكَ تَبَيَّنَ أَنَّ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ يُؤَدِّي إلَى تَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ، وَهُوَ بَاطِلٌ كَذَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيُّ وَصَاحِبُ الْقَوَاطِعِ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّخْصِيصِ يَجُرُّ إلَى مَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ بَعْضَ الْمُعْتَزِلَةِ يَقُولُونَ إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مَشِيئَةً، وَهِيَ عِلَّةُ حُدُوثِ كُلِّ شَيْءٍ ثُمَّ الْمَشِيئَةُ تُوجَدُ، وَلَا حَادِثَ عِنْدَهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَاءَ مِنْ الْكُفَّارِ الْإِيمَانَ، وَلَمْ يَحْدُثْ الْإِيمَانُ مِنْهُمْ فَكَانَتْ عِلَّةُ الْحُدُوثِ مَوْجُودَةً، وَلَكِنْ امْتَنَعَ حُكْمُهَا لِمَانِعٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْكُفْرِ.
قَالَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ هَذَا غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّ مَنْ قَالَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَائِلًا بِتَخْصِيصِ الْمَشِيئَةِ كَمَا أَنَّ الْقَائِلَ بِتَخْصِيصِ الْكِتَابِ لَا يَكُونُ قَائِلًا بِتَخْصِيصِ الْمَشِيئَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا مُوجِبَةٌ بِذَاتِهَا فَلَأَنْ لَا يَقُولُوا بِتَخْصِيصِ الْمَشِيئَةِ أَوْلَى عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَ أَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى عِلَّةُ كُلِّ حَادِثٍ لَيْسَ بِثَابِتٍ عِنْدَهُمْ. وَلَئِنْ كَانَ ثَابِتًا فَإِنَّمَا يَلْزَمُ تَخْصِيصُ الْمَشِيئَةِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ دُونَ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ فَإِنَّهُمْ قَائِلُونَ بِأَنَّ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ كُلَّهَا بِمَشِيئَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَقَضَائِهِ. فَلَا يَلْزَمُ عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ التَّخْصِيصِ تَخْصِيصُ الْمَشِيئَةِ عِنْدَهُمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنَّهُ يُؤَدِّي إلَى مَذْهَبِهِمْ فِي الِاسْتِطَاعَةِ قَبْلَ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ قُوَّةَ الْفِعْلِ عِلَّةُ الْفِعْلِ وَعِنْدَهُمْ الْقُوَّةُ مَوْجُودَةٌ، وَلَا فِعْلَ لِمَانِعٍ مَنَعَ الْمُسْتَطِيعَ مِنْ الْفِعْلِ حَتَّى إنَّ عِنْدَهُمْ لِلْمُقَيَّدِ قُوَّةَ الْفِرَارِ، وَلَكِنْ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَفِرَّ لِمَانِعِ الْقَيْدِ فَإِذَا جَازَ وُجُودُ عِلَّةِ الْفِعْلِ، وَلَا فِعْلَ لِمَانِعٍ جَازَ أَنْ تُوجَدَ الْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ، وَلَا حُكْمَ لَهَا كَالْإِيمَانِ وَالطَّاعَاتِ لِمَانِعٍ. وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ نَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ الْقَوْلَ بِالِاسْتِطَاعَةِ قَبْلَ الْفِعْلِ يَسْتَلْزِمُ جَوَازَ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَجْوِيزَ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ يَسْتَلْزِمُ الْقَوْلَ بِالِاسْتِطَاعَةِ قَبْلَ الْفِعْلِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ أَمَارَاتٌ فِي الْحَقِيقَةِ فَيَجُوزُ مَدْلُولَاتُهَا عَنْهَا فَأَمَّا الْعِلَلُ الْعَقْلِيَّةُ فَمُوجِبَةٌ بِذَوَاتِهَا فَلَا يُتَصَوَّرُ انْفِكَاكُ مَعْلُولَاتِهَا عَنْهَا كَالْكَسْرِ مَعَ الِانْكِسَارِ، وَمَسْأَلَةُ الِاسْتِطَاعَةِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.
قَالَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ أَنَا لَا أَنْسُبُ مَنْ ذَهَبَ إلَى جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ إلَى الِاعْتِزَالِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تَتَّصِلُ بِتِلْكَ الْمَسْأَلَةِ يَعْنِي مَسْأَلَةَ الِاسْتِطَاعَةِ، وَلَكِنْ لَمَّا صَارَ الْقَوْلُ بِهِ فِي دِيَارِنَا مِنْ شِعَارِ الْمُعْتَزِلَةِ وَجَبَ التَّحَرُّزُ عَنْهُ كَمَا وَجَبَ التَّحَرُّزُ عَنْ التَّخَتُّمِ بِالْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ شِعَارِ الرَّوَافِضِ، وَكَمَا وَجَبَ التَّحَرُّزُ عَنْ التَّزَيِّي بِزِيِّ الْكَفَرَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ شِعَارِهِمْ.
1 -
قَوْلُهُ: (لَكِنَّ الْحُكْمَ) اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ فِي الْعِلَلِ أَبَدًا يَعْنِي لَا يَقَعُ التَّخْصِيصُ فِي الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ بِوَجْهٍ لَكِنَّ الْحُكْمَ قَدْ يَمْتَنِعُ بَعْدَ وُجُودِ رُكْنِ الْعِلَّةِ بِزِيَادَةِ وَصْفٍ أَوْ نُقْصَانِهِ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ أَهْلُ التَّخْصِيصِ مَانِعًا مُخَصِّصًا وَبِزِيَادَةِ وَصْفٍ فِي الْعِلَّةِ أَوْ نُقْصَانِهِ مِنْهَا تَتَبَدَّلُ الْعِلَّةُ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّ بِالزِّيَادَةِ يَصِيرُ مَا هُوَ كُلُّ الْعِلَّةِ قَبْلَ الزِّيَادَةِ بَعْضَ
وَهَذَا طَرِيقُ أَصْحَابِنَا فِي الِاسْتِحْسَانِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ إنْ تُرِكَ بِالنَّصِّ قَدْ عُدِمَ حُكْمُ الْعِلَّةِ لِعَدَمِهَا؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَمْ تُجْعَلْ عِلَّةً فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَبَطَلَ حُكْمُهَا لِعَدَمِهَا لَا مَعَ قِيَامِهَا بِدَلِيلِ الْخُصُوصِ بِخِلَافِ النَّصَّيْنِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يُفْسِدُ صَاحِبَهُ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِالْخُصُوصِ، وَكَذَلِكَ إذَا عَارَضَهُ إجْمَاعٌ أَوْ ضَرُورَةٌ لَمْ يَبْقَ الْوَصْفُ عِلَّةً؛ لِأَنَّ فِي الضَّرُورَةِ إجْمَاعًا أَيْضًا وَالْإِجْمَاعُ مِثْلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَأَمَّا إذَا عَارَضَهُ اسْتِحْسَانٌ أَوْجَبَ عَدَمَ الْأَوَّلِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي بَابِ الِاسْتِحْسَانِ فَصَارَ عَدَمُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ الْخُصُوصِ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي سَائِرِ الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي قَوْلِنَا فِي الصَّائِمِ إذَا صَبَّ الْمَاءَ فِي حَلْقِهِ يَفْسُدُ الصَّوْمُ؛ لِأَنَّهُ فَاتَ رُكْنُهُ وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ النَّاسِي فَمَنْ أَجَازَ الْخُصُوصَ قَالَ امْتَنَعَ حُكْمُ هَذَا التَّعْلِيلِ ثَمَّةَ لِمَانِعٍ، وَهُوَ الْأَثَرُ
ــ
[كشف الأسرار]
الْعِلَّةِ بَعْدَهَا وَبِالنُّقْصَانِ يَفُوتُ بَعْضُ الْعِلَّةِ، وَالْكُلُّ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ بَعْضِهِ فَيَحْصُلُ التَّغَيُّرُ ضَرُورَةً، وَإِذَا تَغَيَّرَتْ الْعِلَّةُ صَارَتْ مَعْدُومَةً حُكْمًا فَيُنْسَبُ عَدَمُ الْحُكْمِ إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ لَا إلَى مَانِعٍ أَوْجَبَ التَّخْصِيصَ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّاهِدَ مَعَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْأَدَاءِ إذَا تَرَكَ لَفْظَةَ الشَّهَادَةِ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ فِيمَا أَعْلَمُ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِشَهَادَتِهِ لِانْعِدَامِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْعَمَلِ بِشَهَادَتِهِ مَعْنًى. وَنَظِيرُ زِيَادَةِ الْوَصْفِ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنَّ الْبَيْعَ الْمُطْلَقَ سَبَبٌ لِلْمِلْكِ شَرْعًا، وَمَعَ شَرْطِ الْخِيَارِ لَا يَبْقَى مُطْلَقًا بَلْ يَصِيرُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ كَالْمُتَعَلِّقِ بِالشَّرْطِ، وَالْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ غَيْرُ الْمُطْلَقِ فَيَكُونُ مَا هُوَ الْعِلَّةُ مَعْدُومًا كَذَا قِيلَ. وَنَظِيرُ النُّقْصَانِ الزِّنَا حَالَةَ الْإِحْصَانِ فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِلرَّجْمِ فَإِذَا فَاتَ الْإِحْصَانُ لَمْ يَبْقَ الزِّنَا بِدُونِ هَذَا الْوَصْفِ عِلَّةً لِلرَّجْمِ. قَوْلُهُ:(وَهَذَا طَرِيقُ أَصْحَابِنَا فِي الِاسْتِحْسَانِ) ذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ رحمه الله إلَى أَنَّ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ جَائِزٌ وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا بِالِاسْتِحْسَانِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ فَإِنَّ مَعْنَى التَّخْصِيصِ وُجُودُ الْعِلَّةِ مَعَ عَدَمِ الْحُكْمِ لِمَانِعٍ وَالِاسْتِحْسَانِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَإِنَّ حُكْمَ الْقِيَاسِ قَدْ امْتَنَعَ فِي صُورَةِ الِاسْتِحْسَانِ لِمَانِعٍ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُمْ قَائِلُونَ بِالتَّخْصِيصِ.
فَرَدَّ الشَّيْخُ ذَلِكَ، وَقَالَ: وَهَذَا أَيْ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ إضَافَةِ عَدَمِ الْحُكْمِ إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ هُوَ طَرِيقُ أَصْحَابِنَا فِي الِاسْتِحْسَانِ لَا طَرِيقُ التَّخْصِيصِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْسَانَ إذَا عَارَضَ الْقِيَاسَ لَمْ يَبْقَ الْقِيَاسُ عِلَّةً؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الِاسْتِحْسَانِ سَوَاءٌ كَانَ نَصًّا أَوْ إجْمَاعًا أَوْ ضَرُورَةً أَوْ قِيَاسًا أَقْوَى مِنْ الْأَوَّلِ يُوجِبُ عَدَمَ الْقِيَاسِ الْمُعَارِضِ لَهُ فِي نَفْسِهِ إذًا مِنْ شَرْطِهِ عَدَمُ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ لِمَا مَرَّ فَكَانَ عَدَمُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ عِلَّةِ الْمَانِعِ أَوْجَبَ الْخُصُوصَ. بِخِلَافِ النَّصَّيْنِ أَيْ النَّصِّ الْعَامِّ وَالنَّصِّ الْخَاصِّ إذَا تَعَارَضَا حَيْثُ يَكُونُ الْخَاصُّ مُخَصِّصًا لِلْعَامِّ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يُفْسِدُ الْآخَرَ لِمَا بَيَّنَّا فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِالتَّخْصِيصِ ضَرُورَةً.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْفَرْقِ: إنَّ النَّصَّيْنِ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا عَامًّا وَالْآخَرُ خَاصًّا فَالْعَامُّ لَا يَنْعَدِمُ بِالْخَاصِّ حَقِيقَةً، وَلَا حُكْمًا، وَلَيْسَ فِي وَاحِدٍ مِنْ النَّصَّيْنِ تَوَهُّمُ الْفَسَادِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْخَاصَّ كَانَ مُخَصِّصًا لِلْمَوْضِعِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ مِنْ حُكْمِ الْعَامِّ مَعَ بَقَاءِ الْعَامِّ حُجَّةً فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَإِنْ تَمَكَّنَ فِيهِ نَوْعُ شُبْهَةٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ صَارَ كَالْمُسْتَعَارِ فِيمَا هُوَ حَقِيقَةُ حُكْمِ الْعَامِّ فَأَمَّا الْعِلَّةُ، وَإِنْ كَانَتْ مُؤَثِّرَةً فَفِيهَا احْتِمَالُ الْخَطَأِ وَالْفَسَادِ، وَهِيَ تَحْتَمِلُ الْإِعْدَامَ حُكْمًا فَإِذَا جَاءَ مَا يُغَيِّرُهَا جَعَلْنَاهَا مَعْدُومَةً حُكْمًا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ثُمَّ انْعِدَامُ الْحُكْمِ لِانْعِدَامِ الْعِلَّةِ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ أَيْ مِثْلَ مَا قُلْنَا فِي الْقِيَاسِ مَعَ الِاسْتِحْسَانِ مِنْ عَدَمِ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ نَقُولُ فِي سَائِرِ الْعِلَلِ إذَا تَخَلَّفَ أَحْكَامُهَا عَنْهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ يَعْنِي الْعَدَمَ مُضَافٌ إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ لَا إلَى الْمَانِعِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَيْ بَيَانُ مَا قُلْنَا مِنْ عَدَمِ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ قَوْلُنَا فِي الصَّائِمِ إذَا صَبَّ الْمَاءَ فِي حَلْقِهِ، وَهُوَ ذَاكِرٌ لِصَوْمِهِ بِطَرِيقِ الْإِكْرَاهِ إنَّ صَوْمَهُ يَفْسُدُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله؛ لِأَنَّ رُكْنَ الصَّوْمِ، وَهُوَ الْإِمْسَاكُ قَدْ فَاتَ لِوُصُولِ الْمُغَذِّي إلَى جَوْفِهِ، وَهَذَا تَعْلِيلٌ بِوَصْفٍ مُؤَثِّرٍ. وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ النَّاسِي فَإِنَّ صَوْمَهُ لَا يَفْسُدُ مَعَ فَوَاتِ الرُّكْنِ حَقِيقَةً. فَمَنْ أَجَازَ الْخُصُوصَ أَيْ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ قَالَ امْتَنَعَ حُكْمُ هَذَا التَّعْلِيلِ فِي صُورَةِ النِّسْيَانِ لِمَانِعٍ، وَهُوَ الْأَثَرُ مَعَ قِيَامِ الْعِلَّةِ. وَنَحْنُ نَقُولُ عَدَمُ الْحُكْمِ فِي النَّاسِي لِعَدَمِ هَذِهِ الْعِلَّةِ
وَقُلْنَا نَحْنُ: الْعَدَمُ لِعَدَمِ هَذِهِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ النَّاسِي مَنْسُوبٌ إلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ فَسَقَطَ عَنْهُ مَعْنَى الْجِنَايَةِ، وَصَارَ الْفِعْلُ عَفْوًا فَفِي الصَّوْمِ لِبَقَاءِ رُكْنِهِ لَا لِمَانِعٍ مَعَ فَوَاتِ رُكْنِهِ، وَمِثْلُ قَوْلِنَا فِي الْغَصْبِ إنَّهُ لَمَّا صَارَ سَبَبَ مِلْكٍ بَدَلَ الْمَالِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ سَبَبَ مِلْكِ الْمُبْدَلِ.
وَأَمَّا الْمُدَبَّرُ فَإِنَّمَا امْتَنَعَ حُكْمُ هَذِهِ الْعِلَّةِ فِيهِ لِمَانِعٍ، وَهُوَ أَنَّ الْمَغْصُوبَ لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَالَ فَكَانَ هَذَا تَخْصِيصًا، وَهَذَا بَاطِلٌ.
وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ مَا قُلْنَا إنَّ الْحُكْمَ عَدَمٌ لِعَدَمِ هَذِهِ الْعِلَّةِ، وَهُوَ كَوْنُ الْغَصْبِ سَبَبًا لِمِلْكِ بَدَلِ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْمُدَبَّرِ لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ لَكِنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الْيَدِ الْفَائِتَةِ لِمَا قُلْنَا إنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلِّ النَّقْلِ فَاَلَّذِي جُعِلَ عِنْدَهُمْ دَلِيلَ الْخُصُوصِ جَعَلْنَاهُ دَلِيلَ الْعَدَمِ، وَهَذَا أَصْلُ هَذَا الْفَصْلِ احْفَظْهُ، وَأَحْكِمْهُ فَفِيهِ فِقْهٌ كَثِيرٌ، وَمُخَلِّصٌ كَبِيرٌ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْخُصُوصُ عَلَى الْعِلَلِ الطَّرْدِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا كَشْفُ قَائِمَةٍ بِصِيغَتِهَا، وَالْخُصُوصُ يَرِدُ عَلَى الْعِبَارَاتِ دُونَ الْمَعَانِي الْخَالِصَةِ
ــ
[كشف الأسرار]
فَإِنَّهَا عُدِمَتْ بِسَبَبِ زِيَادَةٍ الْتَحَقَتْ بِهَا، وَهِيَ أَنَّ فِعْلَ النَّاسِي نُسِبَ إلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ الَّذِي هُوَ صَاحِبُ الْحَقِّ بِقَوْلِهِ:«إنَّمَا أَطْعَمَك اللَّهُ وَسَقَاك» فَصَارَ فِعْلُهُ بِهَذِهِ النِّسْبَةِ سَاقِطَ الِاعْتِبَارِ، وَإِذَا لَمْ يَبْقَ فِعْلُهُ مُعْتَبَرًا شَرْعًا كَانَ رُكْنُ الصَّوْمِ بَاقِيًا فَكَانَ عَدَمُ الْحُكْمِ، وَهُوَ الْفِطْرُ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْفِطْرِ لَا لِمَانِعٍ مَنَعَ مِنْ الْفِطْرِ مَعَ قِيَامِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لَهُ.
قَالُوا فِيهِ إنْكَارُ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ وَانْقِلَابُ الْحَقِيقَةِ. أَمَّا الْحِسُّ فَلِأَنَّ الْأَكْلَ قَدْ وُجِدَ حِسًّا وَالْفِعْلُ الْحِسِّيُّ لَا يَقْبَلُ الِارْتِفَاعَ حَقِيقَةً، وَلَا حُكْمًا إذْ الْأَصْلُ هُوَ الْمُطَابَقَةُ. وَأَمَّا الْعَقْلُ فَلِأَنَّ الْمُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَكْلِ وَالْكَفِّ مُتَحَقِّقَةٌ عَقْلًا، وَقَدْ حَكَمَ صَرِيحُ الْعَقْلِ بِوُقُوعِ أَحَدِ الْمُتَنَافِيَيْنِ بِلَا رَيْبٍ فَانْتَفَى الْآخَرُ ضَرُورَةً. وَأَمَّا الشَّرْعُ فَلِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يُفْطِرُ فَأَكَلَ نَاسِيًا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ. وَأَمَّا انْقِلَابُ الْحَقِيقَةِ فَلِوُجُودِ الْأَكْلِ حَقِيقَةً فَلَوْ قُلْنَا بِعَدَمِهِ يُؤَدِّي إلَى مَا ذَكَرْنَا.
وَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نَجْعَلُ الْأَكْلَ غَيْرَ أَكْلٍ حَقِيقَةً، وَلَكِنْ لَا نَجْعَلُهُ سَبَبًا لِلْفِطْرِ بِنِسْبَتِهِ إلَى صَاحِبِ الْحَقِّ مِنْ حَيْثُ التَّسْبِيبُ، وَمَسْأَلَةُ الْفِطْرِ مَمْنُوعَةٌ. وَمِثْلُ قَوْلِنَا فِي الْغَصْبِ إنَّهُ لَمَّا صَارَ سَبَبَ مِلْكِ بَدَلِ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ، وَهُوَ ضَمَانُ الْقِيمَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ سَبَبَ مِلْكِ الْبَدَلِ، وَهُوَ الْمَغْصُوبُ تَحْقِيقًا لِلتَّسَاوِي وَاحْتِرَازًا عَنْ اجْتِمَاعِ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ فِي مِلْكٍ وَاحِدٍ.
وَأَمَّا الْمُدَبَّرُ يَعْنِي يَلْزَمُ عَلَيْهِ الْمُدَبَّرُ فَإِنَّ غَصْبَهُ يُوجِبُ تَقَرُّرَ الْمِلْكِ فِي قِيمَتِهِ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِدُونِ أَنْ يَثْبُتَ الْمِلْكُ لِلْغَاصِبِ فِيهِ فَلَوْ قِيلَ إنَّمَا امْتَنَعَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي الْمُدَبَّرِ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ لِمَانِعٍ، وَهُوَ أَنَّ الْمُدَبَّرَ لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَالَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ كَانَ ذَلِكَ تَخْصِيصًا، وَهُوَ بَاطِلٌ. وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ مَا قُلْنَا إنَّ الْحُكْمَ عَدَمٌ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ لِانْتِقَاصِ وَصْفٍ مِنْهَا، وَهُوَ كَوْنُ الْغَصْبِ سَبَبَ مِلْكِ بَدَلِ الْيَدِ لَا سَبَبَ مِلْكِ بَدَلِ الْعَيْنِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ تَقَرُّرُ الْمِلْكِ فِي ضَمَانٍ هُوَ بَدَلٌ عَنْ الْعَيْنِ وَضَمَانُ الْمُدَبَّرِ لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ عَيْنِهِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ كَوْنِ الضَّمَانِ بَدَلًا عَنْ الْعَيْنِ أَنْ يَكُونَ الْعَيْنُ مُحْتَمِلَةً لِلتَّمْلِيكِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي الْمُدَبَّرِ بَلْ هُوَ بَدَلٌ عَنْ الْيَدِ الْفَائِتَةِ لِلْمَالِكِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ مَعَ جَرَيَانِ الْعِتْقِ فِيهِ مِنْ وَجْهٍ مَمْلُوكٌ لِلْمَالِكِ، وَمَالِيَّتُهُ مُسْتَحَقَّةٌ لَهُ، وَلَهُ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ كَمَا فِي الْقِنِّ وَالْغَاصِبِ قَدْ فَوَّتَهَا عَلَيْهِ فَكَانَ الضَّمَانُ بِمُقَابَلَتِهَا لِتَعَذُّرِ إيجَابِهِ بِمُقَابَلَةِ الْعَيْنِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْعِلَّةَ قَدْ عُدِمَتْ؛ لِأَنَّا جَعَلْنَا الْغَصْبَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ مِلْكِ بَدَلِ الْعَيْنِ سَبَبًا لِمِلْكِ الْمُبْدَلِ وَالْغَصْبُ فِي الْمُدَبَّرِ لَيْسَ سَبَبَ مِلْكِ بَدَلِ الْعَيْنِ فَكَيْفَ يَكُونُ سَبَبًا لِمِلْكِ الْمُبْدَلِ فَكَانَ عَدَمُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ لَا لِلْمَانِعِ. فَاَلَّذِي جَعَلَ عِنْدَهُمْ دَلِيلَ الْخُصُوصِ أَيْ جُعِلَ مَانِعًا لِلْحُكْمِ مَعَ قِيَامِ الْعِلَّةِ مِنْ نَصٍّ أَوْ غَيْرِهِ. جَعَلْنَاهُ أَيْ ذَلِكَ الدَّلِيلَ دَلِيلَ عَدَمِ الْعِلَّةِ، وَهَذَا أَيْ جَعْلُ دَلِيلِ الْخُصُوصِ دَلِيلَ الْعَدَمِ. أَصْلُ هَذَا الْفَصْلِ، وَهُوَ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ فَاحْفَظْ هَذَا الْأَصْلَ، وَأَحْكِمْهُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ فِقْهًا كَثِيرًا، وَمُخَلِّصًا كَبِيرًا.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْمُعَلِّلَ يَحْتَاجُ فِي رِعَايَةِ هَذَا الْأَصْلِ إلَى ضَبْطِ جَمِيعِ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ فِي كُلِّ صُورَةٍ لِيُمْكِنَهُ رَدُّ مَا يَرِدُ نَقْضًا عَلَيْهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ جَمِيعَ صُوَرِ التَّخْصِيصِ يَبْطُلُ بِهَذَا الْأَصْلِ فَكَانَتْ رِعَايَتُهُ وَاجِبَةً. قَوْلُهُ: (وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْخُصُوصُ عَلَى الْعِلَلِ الطَّرْدِيَّةِ) أَيْ يَلْزَمُ الْقَوْلُ بِالتَّخْصِيصِ فِي الْعِلَلِ الطَّرْدِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا قَائِمَةٌ بِصِيَغِهَا أَيْ بِصُوَرِهَا لَا بِمَعَانِيهَا؛ لِأَنَّ أَهْلَ الطَّرْدِ جَعَلُوا نَفْسَ الْوَصْفِ عِلَّةً مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى تَأْثِيرٍ فَكَانَ مُوجِبًا بِصِيغَتِهِ كَالنَّصِّ فَإِذَا تَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنْهُ يَلْزَمُ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُنَا فِي الزِّنَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ إنَّهُ حَرْثٌ لِلْوَلَدِ فَأُقِيمَ مَقَامَهُ، وَلَمَّا خُلِقَ الْوَلَدُ مِنْ مَائِهِمَا أَوْ اجْتَمَعَا عَلَى الْوَطْءِ جَاءَتْ بَيْنَهُمَا شُبْهَةُ الْبَعْضِيَّةِ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ صَارَتْ بَنَاتُهَا وَأُمَّهَاتُهَا كَبَنَاتِهِ وَأُمَّهَاتِهِ وَآبَاؤُهُ كَآبَائِهَا، وَأَبْنَائِهَا فَلَزِمَ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَحْرُمْ الْأَخَوَاتُ وَالْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ فَقَالَ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الْأُولَى: إنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالنَّصِّ مَعَ قِيَامِ الْعِلَّةِ، وَقُلْنَا نَحْنُ بَلْ الْعِلَلُ صَارَتْ عِلَلًا شَرْعًا لَا بِذَوَاتِهَا، وَهِيَ لَمْ تُجْعَلْ عِلَّةً عِنْدَ مُعَارَضَةِ النَّصِّ، وَفِي هَذَا مُعَارَضَةٌ؛ لِأَنَّ حُكْمَ النَّصِّ يَزْدَادُ بِامْتِدَادِ الْحُرْمَةِ إلَى الْأَخَوَاتِ وَغَيْرِهِنَّ فَلَا يَبْقَى عِلَّةٌ عِنْدَ مُعَارَضَةِ النَّصِّ فَيَكُونُ عَدَمُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْخُصُوصِ فِي شَيْءٍ، وَهَذَا وَاضِحٌ جِدًّا، وَمَنْ أَحْكَمَ الْمَعْرِفَةَ، وَأَحْسَنَ الطَّوِيَّةَ سَهُلَ عَلَيْهِ تَخْرِيجُ الْجُمَلِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ــ
[كشف الأسرار]
التَّخْصِيصِ كَمَا فِي النَّصِّ، وَإِلَّا يَلْزَمُ التَّنَاقُضُ بِخِلَافِ الْمَعَانِي الْخَالِصَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ وَظَائِفِ اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى فَيُحْمَلُ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ فِيهَا عَلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ إنْ أَمْكَنَ، وَإِلَّا يَكُونُ تَنَاقُصًا.، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالْمَعَانِي الْخَالِصَةِ؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ قَدْ يَجْرِي فِي الْمَعَانِي تَبَعًا لِلْأَلْفَاظِ إذْ الْمَعَانِي لَازِمَةٌ لِلْأَلْفَاظِ فَإِذَا خُصِّصَتْ الْأَلْفَاظُ فَقَدْ خُصِّصَتْ مَعَانِيهَا أَيْضًا لَكِنَّهُ لَا يَجْرِي فِي الْمَعَانِي الْمُجَرَّدَةِ قَصْدًا فَلِهَذَا قَالَ دُونَ الْمَعَانِي الْخَالِصَةِ.
ثُمَّ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّخْصِيصَ عِنْدَ أَهْلِ الطَّرْدِ جَائِزٌ، وَلَكِنْ ذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَنَّ أَهْلَ الطَّرْدِ زَعَمُوا أَنَّ الْعِلَلَ قِيَاسِيَّةٌ لَا تَقْبَلُ الْخُصُوصَ وَسَمَّوْا الْخُصُوصَ نَقْضًا لِزَعْمِهِمْ أَنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِعَيْنِ الْوَصْفِ فَلَمْ يَجُزْ وُجُودُهُ بِلَا مَانِعٍ، وَلَا حُكْمٍ لَهُ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَشَدُّ إنْكَارًا لِلتَّخْصِيصِ مِنْ أَهْلِ التَّأْثِيرِ ثُمَّ إذَا تَأَمَّلْت فِيمَا ذَكَرَ الْفَرِيقَانِ عَرَفْت أَنَّ الْخِلَافَ رَاجِعٌ إلَى الْعِبَارَةِ فِي التَّحْقِيقِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْهَا صَحِيحَةٌ عِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ، وَفِي مَوْضِعِ التَّخَلُّفِ الْحُكْمُ مَعْدُومٌ بِلَا شُبْهَةٍ إلَّا أَنَّ الْعَدَمَ مُضَافٌ إلَى مَانِعٍ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَنَا إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ.
قَوْلُهُ: (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ، وَمِمَّا يُضَافُ فِيهِ عَدَمُ الْحُكْمِ إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ قَوْلُنَا فِي الزِّنَا كَذَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ فَأُقِيمَ أَيْ الزِّنَا مَقَامَ الْوَلَدِ. فَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ الضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ أَيْ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ عَدَمُ تَحْرِيمِ أَخَوَاتِ الْمُزَنِيَّةِ بِهَا وَعَمَّاتِهَا وَخَالَاتِهَا حَيْثُ لَمْ يَصِرْنَ كَأَخَوَاتِهِ وَعَمَّاتِهِ وَخَالَاتِهِ حَتَّى حَلَّ لَهُ التَّزَوُّجُ بِهِنَّ. أَنَّهُ أَيْ عَدَمَ تَحْرِيمِهِنَّ مَخْصُوصٌ بِالنَّصِّ يَعْنِي أَنَّهُمْ يَقُولُونَ الْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ لِلْحُرْمَةِ الْمُؤَبَّدَةِ، وَهِيَ شُبْهَةُ الْبَعْضِيَّةِ مَوْجُودَةٌ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ، وَلَكِنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَثْبُتْ لِمَانِعٍ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] فَإِنَّهُ يُوجِبُ إبَاحَةَ غَيْرِ الْمَذْكُورَاتِ. أَوْ قَوْلُهُ عَزَّ ذِكْرُهُ: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23]، وَقَوْلُهُ عليه السلام:«لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا» الْحَدِيثَ فَإِنَّهُمَا يُوجِبَانِ حُرْمَةَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ هَؤُلَاءِ نِكَاحًا أَوْ وَطْئًا بِمِلْكِ الْيَمِينِ لَا حُرْمَةَ الذَّوَاتِ فَخُصَّتْ تِلْكَ الْعِلَّةُ بِهَذَيْنِ النَّصَّيْنِ.
، وَقُلْنَا فِي هَذَا أَيْ فِي تَحْرِيمِهِنَّ عَلَى سَبِيلِ التَّأْبِيدِ مُعَارَضَةُ النَّصِّ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ الْمُوجِبَةَ لِحُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23] {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} [النساء: 23]{وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22]{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31] تُوجِبُ حُرْمَةَ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَالْآبَاءِ وَالْبَنِينَ خَاصَّةً فَلَوْ أَثْبَتْنَا حُرْمَةَ الْأَخَوَاتِ وَغَيْرِهِنَّ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ، وَهُوَ الزِّنَا لَازْدَادَ حُكْمُ النَّصِّ فِي الْفَرْعِ عَلَى حُكْمِهِ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ النِّكَاحُ فَيَكُونُ هَذَا تَغْيِيرًا لِلنَّصِّ، وَإِثْبَاتًا لِحُرْمَةٍ أُخْرَى بِالْعِلَّةِ فِي مُعَارَضَةِ النَّصِّ إذْ الْحُرْمَةُ الثَّابِتَةُ فِي الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ الْمُمْتَدَّةُ إلَى الْأَخَوَاتِ وَالْعَمَّاتِ غَيْرُ الْحُرْمَةِ الْمُقْتَصِرَةِ عَلَى الْبَنَاتِ وَالْأُمَّهَاتِ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَصْلُحُ مُعَارِضَةً لِلنَّصِّ بِوَجْهٍ بَلْ تَعْدَمُ فِي مُقَابَلَتِهِ فَيَكُونُ عَدَمُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ لَا لِمَانِعٍ مَعَ قِيَامِ الْعِلَّةِ.
وَهَذَا مِنْ أَمْثِلَةِ عَدَمِ الْعِلَّةِ لِفَوَاتِ وَصْفٍ مِنْهَا، وَهُوَ عَدَمُ تَحَقُّقِ شَرْطِهَا إذْ مِنْ شَرْطِهَا عَدَمُ النَّصِّ عَلَى مَا مَرَّ. وَمَنْ أَحْكَمَ الْمَعْرِفَةَ، وَأَحْسَنَ الطَّوِيَّةَ أَيْ الْعَقِيدَةَ يَعْنِي تَرَكَ التَّعَنُّتَ وَتَأَمَّلَ عَنْ إنْصَافٍ سَهُلَ عَلَيْهِ تَخْرِيجُ الْجُمَلِ الَّتِي لَمْ نَذْكُرْهَا وَيَتَرَاءَى أَنَّهَا تَخْصِيصٌ. عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَهُوَ إضَافَةُ عَدَمِ الْحُكْمِ إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرُوا أَنَّ عِلَلَ