المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب معرفة أقسام الأسباب والعلل والشروط - كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي - جـ ٤

[علاء الدين عبد العزيز البخاري - فخر الإسلام البزدوي]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ الِاسْتِحْسَانِ]

- ‌[أَقْسَامُ الِاسْتِحْسَانِ]

- ‌[بَابُ أَحْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الِاجْتِهَادِ وَالْكَلَامُ فِي شَرْطِهِ وَحُكْمِهِ]

- ‌[شَرْطُ الِاجْتِهَادِ]

- ‌[حُكْمُ الِاجْتِهَاد]

- ‌(بَابُ فَسَادِ تَخْصِيصِ الْعِلَلِ)

- ‌(بَابُ وُجُوهِ دَفْعِ الْعِلَلِ)

- ‌[أَقْسَام الْعِلَل]

- ‌[الْعِلَل الْمُؤْثَرَة وَطُرُق دُفَعهَا]

- ‌[دَفْعِ الْعِلَل الْمُؤْثَرَة بِطَرِيقِ فاسد وَطَرِيق صَحِيح]

- ‌(بَابُ الْمُمَانَعَةِ)

- ‌بَابُ الْمُعَارَضَةِ)

- ‌[النَّوْعُ الْأَوَّلِ الْمُعَارَضَةُ الَّتِي فِيهَا مُنَاقَضَةٌ]

- ‌[النَّوْعُ الثَّانِي الْمُعَارَضَة الْخَالِصَة]

- ‌بَابُ بَيَانِ وُجُوهِ دَفْعِ الْمُنَاقَضَةِ) :

- ‌بَابُ التَّرْجِيحِ) :

- ‌[الْقِسْمُ الْأَوَّل تَفْسِيرِ التَّرْجِيحِ وَمَعْنَاهُ]

- ‌[الْقِسْمُ الثَّانِي التَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ الْأَثَرِ]

- ‌[الْقِسْمُ الثَّالِثُ بَيَانُ الْمُخَلِّصِ فِي تَعَارُضِ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ]

- ‌[الْقِسْمُ الرَّابِعِ بَيَانُ الْفَاسِدِ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ تَرْجِيحُ الْقِيَاسِ بِقِيَاسٍ آخَرَ]

- ‌(بَابُ وُجُوهِ دَفْعِ الْعِلَلِ الطَّرْدِيَّةِ)

- ‌ الْقَوْلُ بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ

- ‌ الْمُمَانَعَةُ

- ‌ فَسَادُ الْوَضْعِ

- ‌ الْمُنَاقَضَةُ

- ‌ بَابُ وُجُوهِ الِانْتِقَالِ) :

- ‌بَابُ مَعْرِفَةِ أَقْسَامِ الْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ وَالشُّرُوطِ

- ‌(بَابُ تَقْسِيمِ السَّبَبِ)

- ‌بَابُ تَقْسِيمِ الْعِلَّةِ)

- ‌(بَابُ تَقْسِيمِ الشَّرْطِ)

- ‌بَابُ تَقْسِيمِ الْعَلَامَةِ) :

- ‌(بَابُ بَيَانِ الْعَقْلِ) :

- ‌(بَابُ بَيَانِ الْأَهْلِيَّةِ) :

- ‌[أضرب الْأَهْلِيَّة]

- ‌(بَابُ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ)

- ‌(بَابُ الْأُمُورِ الْمُعْتَرِضَةِ عَلَى الْأَهْلِيَّةِ) :

- ‌بَابُ الْعَوَارِضِ) (الْمُكْتَسَبَةِ) :وَهِيَ نَوْعَانِ

- ‌[النَّوْع الْأَوَّل مِنْ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ]

- ‌جَهْلُ صَاحِبِ الْهَوَى فِي صِفَاتِ اللَّهِ عز وجل وَأَحْكَامِ الْآخِرَةِ

- ‌ الْجَهْلُ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ الصَّحِيحِ أَوْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ

- ‌ الْجَهْلُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ مُسْلِمٍ لَمْ يُهَاجِرْ

- ‌[فَصْلٌ السُّكْر قسمان] [

- ‌الْقَسْم الْأَوَّل السُّكْر بِطَرِيقِ مُبَاح]

- ‌[الْقَسْم الثَّانِي السُّكْر بِطَرِيقِ غَيْر مُبَاح]

- ‌[فَصْلُ الْهَزْلِ مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ]

- ‌[السَّفَه مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ]

- ‌[السَّفَر مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ]

- ‌[الْخَطَأُ مِنْ الْعَوَارِض الْمُكْتَسِبَة]

الفصل: ‌باب معرفة أقسام الأسباب والعلل والشروط

‌بَابُ مَعْرِفَةِ أَقْسَامِ الْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ وَالشُّرُوطِ

جُمْلَةِ مَا يَثْبُتُ بِالْحُجَجِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا سَابِقًا عَلَى بَابِ الْقِيَاسِ شَيْئَانِ الْأَحْكَامُ الْمَشْرُوعَةُ وَالثَّانِي مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ الْمَشْرُوعَةُ وَإِنَّمَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ لِلْقِيَاسِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَأَلْحَقْنَاهَا بِهَذَا الْبَابِ لِيَكُونَ وَسِيلَةً بَعْدَ أَحْكَامِ طُرُقِ التَّعْلِيلِ أَمَّا الْأَحْكَامُ فَأَنْوَاعٌ حُقُوقُ اللَّهِ عز وجل: خَالِصَةً وَحُقُوقُ الْعِبَادِ خَالِصَةً وَالثَّالِثُ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ الْحَقَّانِ وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى غَالِبٌ وَالرَّابِعُ مَا اجْتَمَعَا وَحَقُّ الْعَبْدِ فِيهِ غَالِبٌ.

وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى ثَمَانِيَةُ أَنْوَاعٍ.

عِبَادَاتٌ خَالِصَةٌ، وَعُقُوبَاتٌ خَالِصَةٌ، وَعُقُوبَاتٌ قَاصِرَةٌ وَحُقُوقٌ دَائِرَةٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَعِبَادَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْمُؤْنَةِ وَمُؤْنَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَمُؤْنَةٌ فِيهَا شُبْهَةُ الْعُقُوبَةِ وَحَقٌّ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ.

وَالْعِبَادَاتُ نَوْعَانِ الْإِيمَانُ وَفُرُوعُهُ.

ــ

[كشف الأسرار]

فِي التَّعْلِيلِ أَوْ الْمَنْعِ فَقَدْ أَظْهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ تَصْحِيحَهُ فَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ فَقَدْ انْقَطَعَ وَأَنَّهُ أَنْوَاعٌ أَرْبَعَةٌ عَلَى مَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله: أَحَدُهُمَا وَهُوَ أَظْهَرُهَا السُّكُوتُ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَنْ اللَّعِينِ عِنْدَ إظْهَارِ الْخَلِيلِ عليه السلام حُجَّتَهُ بِقَوْلِهِ {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258] .

وَالثَّانِي جَحْدُ مَا يُعْلَمُ ضَرُورَةً أَوْ بِطَرِيقِ الْمُشَاهَدَةِ جَحْدُ مِثْلِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا عَجْزُهُ عَنْ دَفْعِ عِلَّةِ الْمُعَلِّلِ فَكَانَ انْقِطَاعًا.

وَالثَّالِثُ الْمَنْعُ بَعْدَ تَسْلِيمٍ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَحْمِلُهُ عَلَى الْمَنْعِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَتَنَاقُضِ الْكَلَامِ إلَّا عَجْزُهُ عَنْ الدَّفْعِ لِمَا اسْتَدَلَّ بِهِ خَصْمُهُ وَلَا يُقَالُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَسْلِيمُهُ عَنْ سَهْوٍ أَوْ غَفْلَةٍ؛ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ تَبَيَّنَ وَجْهُ الدَّفْعِ بِطَرِيقِ التَّسْلِيمِ، ثُمَّ يَبْتَنِي عَلَيْهِ اسْتِدْرَاكُ مَا سَهَا فِيهِ فَأَمَّا أَنْ يَرْجِعَ عَنْ التَّسْلِيمِ إلَى الْمَنْعِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الدَّفْعِ بِطَرِيقِ التَّسْلِيمِ فَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا لِلْعَجْزِ.

وَالرَّابِعُ عَجْزُ الْمُعَلِّلِ عَنْ تَصْحِيحِ الْعِلَّةِ الَّتِي قَصَدَ إثْبَاتَ الْحُكْمِ بِهَا حَتَّى انْتَقَلَ مِنْهَا إلَى عِلَّةٍ أُخْرَى لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ انْقِطَاعٌ؛ لِأَنَّهُ عَجْزٌ عَنْ إظْهَارِ مُرَادِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعَجْزِ ابْتِدَاءً عَنْ إقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الْحُكْمِ الَّذِي ادَّعَاهُ، ثُمَّ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الِانْتِقَالِ إنَّمَا يَكُونُ انْقِطَاعًا فِي حَقِّ الْمُعَلِّلِ دُونَ السَّائِلِ فَإِنَّهُ لَوْ انْتَقَلَ مِنْ دَلِيلٍ إلَى دَلِيلٍ لَا يَكُونُ بِهِ بَأْسٌ؛ لِأَنَّهُ مُعَارِضٌ لِكَلَامِ الْمُجِيبِ فَمَا دَامَ فِي الْمُعَارَضَةِ بِدَلِيلٍ يَصْلُحُ مُعَارِضًا لَا يَكُونُ مُنْقَطِعًا بِخِلَافِ الْمُجِيبِ إلَيْهِ أُشِيرُ فِي الْمِيزَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[بَابُ مَعْرِفَةِ أَقْسَامِ الْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ وَالشُّرُوطِ]

(بَابُ مَعْرِفَةِ أَقْسَامِ الْإِثْبَاتِ وَالْعِلَلِ وَالشُّرُوطِ)

لَمْ يَذْكُرْ الشَّيْخُ رحمه الله الْأَحْكَامَ فِي تَلْقِيبِ الْبَابِ كَمَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَ الْأَحْكَامَ فِي هَذَا الْبَابِ؛ لِأَنَّ عَرْضَهُ مِنْ عَقْدِ الْبَابِ بَيَانُ الْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ وَالشُّرُوطِ دُونَ الْأَحْكَامِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي التَّقْوِيمِ بِالْحُجَجِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا سَابِقًا أَيْ مَرَّ ذِكْرُهَا قَبْلَ بَابِ الْقِيَاسِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَوْ هُوَ سِيقَ مِنْ السَّوْقِ لَا مِنْ السَّبْقِ وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِقَوْلِهِ سَابِقًا عَلَى بَابِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ بِالْقِيَاسِ لَا يَثْبُتُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ عِنْدَ الشَّيْخِ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي بَابِ حُكْمِ الْعِلَّةِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ لِلْقِيَاسِ أَيْ لِأَجْلِ الْقِيَاسِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَهِيَ الْأَحْكَامُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لِتَعْدِيَةِ حُكْمٍ مَعْلُومٍ بِسَبَبِهِ وَشَرْطِهِ بِوَصْفٍ مَعْلُومٍ عَلَى مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي أَوَّلِ بَابِ حُكْمِ الْعِلَّةِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَأَلْحَقْنَاهَا أَيْ تِلْكَ الْجُمْلَةَ يَعْنِي بَيَانَهَا بِهَذَا الْبَابِ وَهُوَ بَابُ الْقِيَاسِ لِيَكُونَ مَعْرِفَتُهَا وَسِيلَةً إلَيْهِ أَيْ إلَى الْقِيَاسِ بَعْدَ أَحْكَامِ طَرَفِ التَّعْلِيلِ وَالْوَسِيلَةُ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى الْغَيْرِ وَالْجَمْعُ الْوُسُلُ وَالْوَسَائِلُ.

وَلَا يُقَالُ لَمَّا كَانَتْ مَعْرِفَةُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَسِيلَةً إلَى الْقِيَاسِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُذْكَرَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ قَبْلَ الْقِيَاسِ إذْ الْوَسَائِلُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَقَاصِدِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ كَوْنُ الْقِيَاسِ أَصْلًا مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ وَحُجَّةً مِنْ حُجَجِهِ أَوْجَبَ وَصْلَهُ بِالْحُجَجِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَتَرْتِيبَهُ عَلَيْهَا فَلِذَلِكَ لَزِمَ تَأْخِيرُ بَيَانِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إلَى الْفَرَاغِ وَإِلْحَاقُهُ بِهِ قَوْلُهُ (حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى خَالِصَةً) بِالنَّصْبِ عَلَى التَّمْيِيزِ قَالَ السَّيِّدُ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ رحمه الله فِي أُصُولِ الْفِقْهِ: الْحَقُّ الْمَوْجُودُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ فِي وُجُودِهِ وَمِنْهُ السِّحْرُ حَقٌّ وَالْعَيْنُ حَقٌّ أَيْ مَوْجُودٌ بِأَثَرِهِ وَهَذَا الدَّيْنُ حَقٌّ أَيْ مَوْجُودٌ صُورَةً وَمَعْنًى وَلِفُلَانِ حَقٌّ فِي ذِمَّةِ فُلَانٍ أَيْ شَيْءٌ مَوْجُودٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ قَالَ: وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النَّفْعُ الْعَامُّ لِلْعَالَمِ فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ أَحَدٌ وَيُنْسَبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا أَوْ لِئَلَّا يَخْتَصَّ بِهِ أَحَدٌ

ص: 134

وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ أَصْلٌ وَمُلْحَقٌ بِهِ وَزَوَائِدُ أَمَّا الْأَصْلُ فَالتَّصْدِيقُ فِي الْإِيمَانِ أَصْلٌ مُحْكَمٌ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِحَالٍ بِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ وَبِغَيْرِهِ مِنْ الْأَعْذَارِ وَلَا يَبْقَى مَعَ التَّبْدِيلِ بِحَالٍ وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ رُكْنٌ فِي الْإِيمَانِ مُلْحَقٌ بِالتَّصْدِيقِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ دَلِيلٌ عَلَى التَّصْدِيقِ فَانْقَلَبَ رُكْنًا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُوَ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا أَيْضًا حَتَّى إذَا أُكْرِهَ الْكَافِرُ عَلَى الْإِيمَانِ فَآمَنَ صَحَّ إيمَانُهُ بِنَاءً عَلَى وُجُودِ أَحَدِ الرُّكْنَيْنِ بِخِلَافِ الرِّدَّةِ فِي الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ فِي الرِّدَّةِ دَلِيلٌ مَحْضٌ لَا رُكْنٌ.

ــ

[كشف الأسرار]

مِنْ الْجَبَابِرَةِ لِحُرْمَةِ الْبَيْتِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةُ الْعَالَمِ بِاتِّحَادِهِ قِبْلَةً لِصَلَوَاتِهِمْ وَمَثَابَةً لِاعْتِذَارِ أَجْرَامِهِمْ وَكَحُرْمَةِ الزِّنَا لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ عُمُومِ النَّفْعِ فِي سَلَامَةِ الْإِنْسَانِ وَصِيَانَةِ الْفُرُشِ وَارْتِفَاعِ السَّيْفِ بَيْنَ الْعَشَائِرِ بِسَبَبِ التَّنَازُعِ بَيْنَ الزُّنَاةِ وَإِنَّمَا يُنْسَبُ إلَيْهِ تَعْظِيمًا؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَتَعَالَى عَنْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِشَيْءٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ حَقًّا لَهُ بِهَذَا الْوَجْهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا لَهُ بِجِهَةِ التَّخْلِيقِ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ بَلْ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ لِتَشْرِيفِ مَا عَظُمَ خَطَرُهُ وَقَوِيَ نَفْعُهُ وَشَاعَ فَضْلُهُ بِأَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ النَّاسُ كَافَّةً وَحَقُّ الْعَبْدِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةٌ خَاصَّةٌ كَحُرْمَةِ مَالِ الْغَيْرِ فَإِنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ لِيَتَعَلَّقَ صِيَانَةُ مَالِهِ بِهَا فَلِهَذَا يُبَاحُ مَالُ الْغَيْرِ بِإِبَاحَةِ الْمِلْكِ وَلَا يُبَاحُ الزِّنَا بِإِبَاحَتِهَا وَلِإِبَاحَةِ أَهْلِهَا.

وَعُقُوبَاتٌ قَاصِرَةُ الْمُرَادِ بِالْوَاحِدَةِ إذْ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ إلَّا حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ وَلِهَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: وَعُقُوبَةٌ قَاصِرَةٌ وَكَذَا فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمُنْتَخَبِ أَيْضًا وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ يَعْنِي هَذِهِ الْأَنْوَاعُ الثَّلَاثَةُ مَوْجُودَةٌ فِي مَجْمُوعِ النَّوْعَيْنِ لَا أَنَّ كُلَّ نَوْعٍ مُنْقَسِمٌ إلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ لَا يُحْتَمَلُ السُّقُوطُ بِحَالٍ كَمَا يَحْتَمِلُهُ الْإِقْرَارُ بِعُذْرِ الْكُرْهِ وَبِغَيْرِهِ مِنْ الْأَعْذَارِ مِثْلُ إنْ صَارَ مُثْقَلَ اللِّسَانِ.

وَلَا يَبْقَى أَيْ الْإِيمَانُ مَعَ تَبْدِيلِ التَّصْدِيقِ بَعْدَهُ بِحَالٍ سَوَاءٌ كَانَ بِالْإِكْرَاهِ أَوْ بِغَيْرِهِ وَالْإِقْرَارُ مُلْحَقٌ بِالتَّصْدِيقِ وَالزَّوَائِدُ فِي الْإِيمَانِ تَكْرَارُ الشَّهَادَةِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى كَذَا قِيلَ وَهُوَ أَيْ الْإِقْرَارُ فِي الْأُصُولِ دَلِيلٌ عَلَى التَّصْدِيقِ؛ لِأَنَّ اللِّسَانَ مُعَبِّرٌ عَمَّا فِي الضَّمِيرِ فَانْقَلَبَ أَيْ الْإِقْرَارُ مُنْضَمًّا إلَى التَّصْدِيقِ رُكْنًا مِنْ الْإِيمَانِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِمَنْزِلَةِ عِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ حَتَّى لَوْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يُقِرَّ بِلِسَانِهِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ فَيَكُونُ مُؤْمِنًا فِي الْحُكْمِ وَلَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَوْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَعِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ الْإِقْرَارُ شَرْطُ إجْرَاءِ الْأَحْكَامِ وَرُكْنُ الْإِيمَانِ هُوَ التَّصْدِيقُ لَا غَيْرُ وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ فِي بَابِ بَيَانِ حُسْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَهُوَ أَصْلٌ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا يَعْنِي التَّصْدِيقَ وَالْإِقْرَارَ وَإِنْ كَانَا رُكْنَيْنِ فِي مُطْلَقِ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الْكَيْلِ وَالْجِنْسِ فِي بَابِ الرِّبَا، لَكِنَّ الْإِقْرَارَ صَارَ أَصْلًا بِنَفْسِهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا بِمَنْزِلَةِ التَّصْدِيقِ إعْلَاءً لِلْإِسْلَامِ كَمَا جُعِلَ أَحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ الرِّبَا عِلَّةَ الْحُرْمَةِ رِبَا النَّسِيئَةِ وَلِهَذَا حَكَمْنَا بِالْإِيمَانِ بِوُجُودِ الْإِقْرَارِ وَإِنْ فَاتَ التَّصْدِيقُ حَتَّى لَوْ أُكْرِهَ الْحَرْبِيُّ أَوْ الذِّمِّيُّ عَلَى الْإِيمَانِ فَإِنْ صَحَّ إيمَانُهُ بِنَاءً عَلَى وُجُودِ الْإِقْرَارِ مَعَ أَنَّ قِيَامَ السَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى عَدَمِ التَّصْدِيقِ كَمَا حَكَمْنَا بِبَقَاءِ الْإِيمَانِ بِنَاءً عَلَى بَقَاءِ التَّصْدِيقِ مَعَ فَوَاتِ الْإِقْرَارِ بِالْإِكْرَاهِ إعْلَاءً لِلْإِسْلَامِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الدُّنْيَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الظَّوَاهِرِ وَالْإِقْرَارُ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى مَا فِي الضَّمِيرِ وَالضَّمِيرُ أَمْرٌ بَاطِنٌ فَبُنِيَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَجُعِلَ هُوَ أَصْلًا فِيهِ وَفِي اعْتِبَارِ مُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ إعْلَاءُ الْإِسْلَامِ وَتَكْثِيرُ سَوَادِ الْمُسْلِمِينَ وَتَحْمِيلٌ لِلْكَافِرِ عَلَى الْإِيمَانِ الْحَقِيقِيِّ فَإِنَّهُ لَمَّا مُنِعَ عَنْ إظْهَارِ الْكُفْرِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِطَرِيقِ الْخَبَرِ رُبَّمَا يَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى الْإِيمَانِ بِطَرِيقِ الْإِخْلَاصِ كَمَا أَنَّ الْجِزْيَةَ وُضِعَتْ عَلَيْهِ لِتَحْمِلَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ إذَا عَايَنَ عِزَّةَ الْإِسْلَامِ وَمَذَلَّةَ الْكُفْرِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ بِمُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ يَثْبُتُ الْإِيمَانُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْرِفُ الْمُنَافِقِينَ بِالْوَحْيِ كَمَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ وَالْخَبَرُ ثُمَّ كَانَ يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا بِنَاءً عَلَى الْإِقْرَارِ الْمُجَرَّدِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا بِخِلَافِ الرِّدَّةِ حَيْثُ لَمْ يَثْبُتْ بِمُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ حَتَّى لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَيَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ بِلِسَانِهِ لَا يَصِيرُ مُرْتَدًّا؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ أَيْ الْإِقْرَارَ بِاللِّسَانِ فِي الرِّدَّةِ دَلِيلٌ مَحْضٌ عَلَى مَا فِي الضَّمِيرِ

ص: 135

وَالْأَصْلُ فِي فُرُوعِ الْإِيمَانِ هِيَ الصَّلَاةُ وَهِيَ عِمَادُ الدِّينِ شُرِعَتْ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْبَدَنِ الَّذِي يَشْمَلُ ظَاهِرَ الْإِنْسَانِ وَبَاطِنَهُ إلَّا أَنَّهَا لَمَّا صَارَتْ أَصْلًا بِوَاسِطَةِ الْكَعْبَةِ كَانَتْ دُونَ الْإِيمَانِ الَّذِي صَارَ قُرْبَةً بِلَا وَاسِطَةٍ، ثُمَّ الزَّكَاةُ الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِأَحَدِ ضَرْبَيْ النِّعْمَةِ وَهُوَ الْمَالُ وَهِيَ دُونَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ نِعْمَةَ الْبَدَنِ أَصْلٌ وَنِعْمَةُ الْمَالِ فَرْعٌ وَالْأُولَى صَارَتْ قُرْبَةً هِيَ بِوَاسِطَةِ الْقِبْلَةِ الَّتِي هِيَ جَمَادٌ وَهَذِهِ صَارَتْ قُرْبَةً بِوَاسِطَةِ الْفَقِيرِ الَّذِي لَهُ ضَرْبُ اسْتِحْقَاقٍ فِي الصَّرْفِ.

ــ

[كشف الأسرار]

مِنْ الِاعْتِقَادِ كَمَا هُوَ الْأَصْلُ فِي التَّكَلُّمِ لَا رُكْنٌ فَإِنَّ الرُّكْنَ فِي الرِّدَّةِ تَبْدِيلُ الِاعْتِقَادِ لَا غَيْرُ وَهَذَا لَوْ اعْتَقَدَ الْكُفْرَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يُقِرَّ بِلِسَانِهِ يَكْفُرُ وَتَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَلَوْ جَعَلْنَا الْإِقْرَارَ فِي الرِّدَّةِ رُكْنًا لَكَانَ ذَلِكَ سَعْيًا مِنَّا فِي إثْبَاتِ الْكُفْرِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ كَمَا كَانَ جَعْلُ الْإِقْرَارِ فِي الْإِيمَانِ رُكْنًا سَعْيًا فِي إعْلَاءِ الْإِسْلَامِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ دَلِيلٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ كَانَ قِيَامُ السَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ دَلِيلًا مُعَارِضًا لَهُ فَلَمْ يُثْبِتْ الرِّدَّةَ.

قَوْلُهُ (وَالْأَصْلُ فِي فُرُوعِ الْإِيمَانِ) الَّتِي هِيَ النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الْعِبَادَاتِ الصَّلَاةُ وَهَذَا لَمْ تَخْلُ عَنْهَا شَرِيعَةٌ مِنْ شَرَائِعِ الْمُرْسَلِينَ وَهِيَ عِمَادُ الدِّينِ كَمَا وَقَعَتْ إلَيْهِ الْإِشَارَةُ النَّبَوِيَّةُ فِي قَوْلِهِ عليه السلام «الصَّلَاةُ عِمَادُ الدِّينِ مَنْ أَقَامَهَا فَقَدْ أَقَامَ الدِّينَ وَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ هَدَمَ الدِّينَ» شُرِعَتْ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْبَدَنِ الَّذِي يَشْمَلُ ظَاهِرَ الْإِنْسَانِ وَبَاطِنَهُ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ دَرَجَاتِ الشُّكْرِ أَنْ يَعْرِفَ النِّعْمَةَ، ثُمَّ لَا يَسْتَعْمِلَهَا بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ فِي عِصْيَانِ النِّعَمِ، ثُمَّ يُظْهِرَهَا بِمَقَالِهِ وَأَفْعَالِهِ لِكَوْنِ كِتْمَانِهَا كُفْرَانًا لَهَا.

، ثُمَّ أَوَّلُ دَرَجَاتِ الشُّكْرِ الَّذِي هُوَ الْعِلْمُ بِالنِّعْمَةِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِكَوْنِ الشُّكْرِ مِنْ جِنْسِ النِّعَمِ وَنِعْمَةُ الْبَدَنِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى نِعَمٍ ظَاهِرَةٍ مِنْ الْأَعْضَاءِ السَّلِيمَةِ وَمَا يَحْصُلُ لَهُ بِهَا مِنْ التَّقَلُّبِ مِنْ حَالَةٍ إلَى حَالَةٍ مِنْ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالِانْحِنَاءِ وَعَلَى نِعَمٍ بَاطِنَةٍ مِنْ الْقُوَى النَّفْسَانِيَّةِ الْمُدْرِكَةِ لِلْمَعَانِي فَشُرِعَتْ الصَّلَاةُ شُكْرًا لِنِعَمِ ظَاهِرِ الْبَدَنِ وَبَاطِنِهِ فَأَرْكَانُ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ بِمَنْزِلَةِ الصُّورَةِ لَهَا تَعَلُّقٌ بِظَاهِرِ الْبَدَنِ وَجُعِلَ أَفْضَلَ أَرْكَانِهَا طُولُ الْقُنُوتِ لِيُعْرَفَ مِمَّا يَلْحَقُهُ مِنْ الْمَشَقَّةِ قَدْرُ الرَّاحَةِ الَّتِي يَنَالُهَا بِالتَّقَلُّبِ عَلَى حَسَبِ الْإِرَادَةِ وَمُوَافَقَةِ مَا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ وَالنِّيَّةُ وَالْإِخْلَاصُ وَالْخُضُوعُ وَالْخُشُوعُ الَّتِي هِيَ رُوحُ الصَّلَاةِ وَمَعْنَاهَا تَتَعَلَّقُ بِالْبَاطِنِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا شُرِعَتْ بِطَرِيقِ الشُّكْرِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ فَقِيلَ لَهُ: إنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ: أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» أَخْبَرَ أَنَّهُ يُصَلِّي لِلَّهِ تَعَالَى شُكْرًا عَلَى مَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهَا أَيْ، لَكِنَّهَا كَذَا وَتَقْرِيرُهُ مَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله أَنَّ الصَّلَاةَ صَارَتْ قُرْبَةً بِوَاسِطَةِ الْبَيْتِ الَّذِي عَظَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأُمِرْنَا بِتَعْظِيمِهِ لِإِضَافَتِهِ إلَى نَفْسِهِ فَقَالَ {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} [البقرة: 125] الْآيَةَ حَتَّى لَا تَتَأَدَّى هَذِهِ الْقُرْبَةُ إلَّا بِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي حَالَةِ الْإِمْكَانِ وَفِي ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى التَّعْظِيمِ مَا أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] لِيَعْلَمَ بِهِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ وَجْهُ اللَّهِ عز وجل وَوَجْهُ اللَّهِ لَا جِهَةَ لَهُ فَجَعَلَ الشَّرْعُ اسْتِقْبَالَ جِهَةِ الْكَعْبَةِ فَإِنَّمَا مَقَامُ مَا هُوَ الْمَطْلُوبُ لِأَدَاءِ هَذِهِ الْقُرْبَةِ وَأَصْلُ الْإِيمَانِ فِيهِ تَقَرُّبٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِلَا وَاسِطَةٍ وَفِي الصَّلَاةِ تَقَرُّبٌ بِوَاسِطَةِ الْبَيْتِ فَكَانَتْ مِنْ شَرَائِعِ الْإِيمَانِ لَا مِنْ نَفْسِ الْإِيمَانِ.

قَوْلُهُ (ثُمَّ الزَّكَاةُ) أَيْ بَعْدَ الصَّلَاةِ فِي الرُّتْبَةِ الزَّكَاةُ الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِأَحَدِ ضَرْبَيْ النِّعْمَةِ وَهُوَ الْمَالُ فَإِنَّ الْعِبَادَاتِ مَشْرُوعَةٌ لِإِظْهَارِ شُكْرِ النِّعْمَةِ بِهَا فِي الدِّينَا وَنَيْلِ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ فَكَمَا أَنَّ شُكْرَ نِعْمَةِ الْبَدَنِ بِعِبَادَةٍ تُؤَدَّى بِجَمِيعِ الْبَدَنِ وَهِيَ الصَّلَاةُ فَشُكْرُ نِعْمَةِ الْمَالِ بِعِبَادَةٍ مُؤَدَّاةٍ بِجِنْسِ تِلْكَ النِّعْمَةِ لِيَعْرِفَ بِزَوَالِ الْمَحْبُوبِ مِنْ الْمَالِ الْمَرْغُوبِ فِي اقْتِنَائِهِ إلَى مَنْ لَا يَصِلُ إلَيْهِ مِنْهُ نَفْعٌ وَبِمَا يَلْحَقُ طَبِيعَةٌ مِنْ الْمَشَقَّةِ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَ بَعْضُ الْأَجْوَادِ إنَّا نَجِدُ فِي بَذْلِ الْمَالِ مَا يَجِدُهُ الْبُخَلَاءُ، وَلَكِنَّا نَتَصَبَّرُ وَلِهَذَا كَانَ الْجُودُ قَرِينَ الشُّجَاعَةِ وَقَلَّمَا يَفْتَرِقَانِ لِتَوَلُّدِهِمَا مِنْ قُوَّةِ الْقَلْبِ قَدْرَ مَا أَزَالَ إلَيْهِ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ وَأَتَى مِنْ الْبَسِيطَةِ فِي فَنُونِهَا إلَّا أَنَّ الزَّكَاةَ دُونَ الصَّلَاةِ فِي الرُّتْبَةِ؛ لِأَنَّ نِعْمَةَ الْبَدَنِ أَصْلٌ.

ص: 136

ثُمَّ الصَّوْمُ قُرْبَةٌ تَتَعَلَّقُ بِنِعْمَةِ الْبَدَنِ مُلْحَقَةٌ بِالْأَصْلِ كَأَنَّهَا وَسِيلَةٌ إلَى الْأَصْلِ وَهُوَ لَا يَصِيرُ قُرْبَةً إلَّا بِوَاسِطَةِ النَّفْسِ وَهِيَ دُونَ الْوَاسِطَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ حَتَّى صَارَتْ مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ.

ــ

[كشف الأسرار]

وَنِعْمَةُ الْمَالِ فَرْعٌ؛ لِأَنَّ الْمَالَ وِقَايَةُ النَّفْسِ وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ بِدُونِهَا وَيُنْتَفَعُ بِالنَّفْسِ بِدُونِ الْمَالِ فَكَانَ الْمُتَعَلِّقُ بِالنِّعْمَةِ الَّتِي هِيَ أَصْلٌ أَعْلَى رُتْبَةً مِمَّا تَعَلَّقَ بِالنِّعْمَةِ الَّتِي هِيَ فَرْعٌ وَقَوْلُهُ وَالْأَوْلَى صَارَتْ قُرْبَةً دَلِيلٌ آخَرُ أَيْ وَلِأَنَّ الْأُولَى صَارَتْ قُرْبَةً بِوَاسِطَةِ الْقِبْلَةِ الَّتِي هِيَ جَمَادٌ لَا اسْتِحْقَاقَ لَهَا فِي التَّوَجُّهِ إلَيْهَا بِوَجْهٍ وَقَدْ يَسْقُطُ التَّوَجُّهُ إلَيْهَا عِنْدَ خَوْفِ الْعَدُوِّ وَالسَّبُعِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الدَّابَّةِ.

وَهَذِهِ أَيْ الزَّكَاةُ صَارَتْ قُرْبَةً بِوَاسِطَةِ الْفَقِيرِ الَّذِي لَهُ ضَرْبُ اسْتِحْقَاقٍ فِي الصَّرْفِ إلَيْهِ فَإِنَّ الْمُؤَدِّيَ يَجْعَلُ الْمَالَ الْمُؤَدَّى خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي ضِمْنِ صَرْفِهِ إلَى الْمُحْتَاجِ لِيَكُونَ كِفَايَةً لَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَتْ الزَّكَاةُ دُونَ الصَّلَاةِ بِدَرَجَةٍ؛ لِأَنَّ الْخُلُوصَ فِي الْأُولَى أَزْيَدُ مِنْهُ فِي الثَّانِيَةِ فَكَانَ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهَا أَكْمَلَ؛ لِأَنَّهَا بِهِ صَارَتْ عِبَادَةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] وَفِي قَوْلِهِ ضَرْبُ اسْتِحْقَاقٍ فِي الصَّرْفِ إشَارَةٌ إلَى نَفْيِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله فَإِنَّ عِنْدَهُ لِلْفَقِيرِ حَقِيقَةَ اسْتِحْقَاقِ الْمَالِ حَتَّى صَارَ الْمَالُ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَقِيرِ وَلِهَذَا كَانَ لِلْفَقِيرِ عِنْدَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِقْدَارَ الزَّكَاةِ مِنْ الْمَالِ إذَا ظَفِرَ بِهِ فَأَشَارَ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَحِقٍّ لَهُ حَقِيقَةً وَلَكِنْ لَهُ صَلَاحِيَّةُ أَنْ يَصْرِفَ إلَيْهِ وَيَسْتَحِقَّ هَذَا الْقَدْرَ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إذَا أَرَادَ الْأَدَاءَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى الْفَقِيرِ دَفْعًا لِحَاجَتِهِ وَلَا يُقَالُ لِمَا وَجَبَ الصَّرْفُ إلَيْهِ لِفَقْرِهِ كَانَ الْمَالُ حَقَّهُ فَيَكُونُ هُوَ مُسْتَحِقًّا لَهُ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّا نَقُولُ مَا يَجِبُ لِفَقْرِهِ يَجِبُ رِزْقًا لَهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الضَّامِنُ لِلرِّزْقِ دُونَ الْعَبِيدِ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِصَرْفِ هَذَا الْوَاجِبِ إلَيْهِ فَلَا يَصِيرُ الْمَالُ حَقَّهُ قَبْلَ الصَّرْفِ إلَيْهِ وَلَا يَخْرُجُ الزَّكَاةُ بِهِ عَنْ كَوْنِهَا عِبَادَةً خَالِصَةً قَوْلُهُ (ثُمَّ الصَّوْمُ قُرْبَةٌ) يَعْنِي بَعْدَ هَاتَيْنِ الْعِبَادَتَيْنِ فِي الرُّتْبَةِ الصَّوْمُ فَإِنَّهُ قُرْبَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْبَدَنِ كَالصَّلَاةِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالصَّلَاةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بَدَنِيٌّ خَالِصٌ، لَكِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ بِطَرِيقِ الرِّيَاضَةِ لِلرُّكُوبِ لَا مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ وَلَا يَشْتَمِلُ أَيْضًا عَلَى أَفْعَالٍ مُتَفَرِّقَةٍ عَلَى أَعْضَاءِ الْبَدَنِ بَلْ يَتَأَدَّى بِرُكْنٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْكَفُّ عَنْ اقْتِضَاءِ الشَّهْوَتَيْنِ فَكَانَ دُونَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَرْكَانٍ تَتَأَدَّى بِجَمِيعِ الْبَدَنِ.

وَدُونَ الزَّكَاةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ قُرْبَةً إلَّا بِوَاسِطَةِ النَّفْسِ وَهِيَ دُونَ الْوَاسِطَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ يَعْنِي فِي الْمَنْزِلَةِ لَا فِي كَوْنِهَا وَاسِطَةً فَإِنَّ الْبَيْتَ مُعَظَّمٌ بِتَعْظِيمِ صَاحِبِ الشَّرْعِ إيَّاهُ وَالْفَقِيرُ مُسْتَحِقٌّ لِلصَّرْفِ إلَيْهِ بِفَقْرِهِ وَلَا قُبْحَ فِي صِفَةِ الْفَقْرِ، لَكِنَّ النَّفْسَ تَسْتَحِقُّ الْقَهْرَ لِمَيْلِهَا إلَى الشَّهَوَاتِ وَمُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ جل جلاله وَكَوْنِهَا أَمَّارَةً بِالسُّوءِ وَهَذِهِ صِفَةُ قُبْحٍ فَيَكُونُ هَذِهِ الْوَاسِطَةُ دُونَ الْأُولَيَيْنِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَكَانَتْ أَقْوَى فِي كَوْنِهَا وَاسِطَةً وَأَقْرَبَ إلَى كَوْنِهَا مَقْصُودَةً وَلِهَذَا صَارَتْ هَذِهِ الْقُرْبَةُ مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ؛ لِأَنَّهُ قَهْرُ عَدُوِّ اللَّهِ وَعَدُوِّهِ الْبَاطِنِ كَمَا أَنَّ الْجِهَادَ قَهْرُ عَدُوِّ اللَّهِ وَعَدُوِّهِ الظَّاهِرِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ عليه السلام «أَعْدَى عَدُوِّك نَفْسُك الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْك» .

وَقَوْلُهُ عليه السلام «أَفْضَلُ الْجِهَادِ أَنْ تُجَاهِدَ نَفْسَك وَهَوَاك» وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ وَهِيَ دُونَ الْوَاسِطَتَيْنِ أَنَّهَا دُونَهُمَا فِي كَوْنِهَا وَاسِطَةً؛ لِأَنَّ الْوَاسِطَةَ هَاهُنَا ذَاتُ الْفَاعِلِ وَفِي الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ الْوَاسِطَةُ غَيْرُهُمَا وَخَارِجَةٌ عَنْ ذَاتِهِمَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ ذَاتُهُ وَاسِطَةً؛ لِأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْإِيمَانِ أَيْضًا إذْ الْإِيمَانُ لَا يُوجَدُ بِدُونِ الذَّاتِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ هَذِهِ الْوَاسِطَةُ دُونَ الْأُولَيَيْنِ لِكَوْنِهَا فِي حُكْمِ الْعَدَمِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الصَّوْمُ أَعْلَى رُتْبَةً مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةُ مِثْلُ الْإِيمَانِ، لَكِنَّ الصَّوْمَ شُرِعَ وَسِيلَةً إلَى الصَّلَاةِ كَمَا بَيَّنَّا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ التَّبَعِ لَهَا فَكَانَ دُونَهَا وَكَذَا الزَّكَاةُ أَصْلٌ بِنَفْسِهَا لَيْسَتْ بِتَبَعٍ.

ص: 137

ثُمَّ الْحَجُّ عِبَادَةُ هِجْرَةٍ وَسَفَرٍ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِأَفْعَالٍ تَقُومُ بِبِقَاعٍ مُعَظَّمَةٍ فَكَانَتْ دُونَ الصَّوْمِ كَأَنَّهَا وَسِيلَةٌ إلَيْهِ وَالْعُمْرَةُ سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ تَابِعَةٌ لِلْحَجِّ، ثُمَّ الْجِهَادُ شُرِعَ لِإِعْلَاءِ الدِّينِ فَرْضٌ فِي الْأَصْلِ لَكِنَّ الْوَاسِطَةَ هَا هُنَا هِيَ الْمَقْصُودَةُ فَصَارَتْ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَاسِطَةَ كُفْرُ الْكَافِرِ وَذَلِكَ جِنَايَةٌ قَائِمَةٌ بِالْكَافِرِ مَقْصُودَةٌ بِالرَّدِّ وَالْمَحْوِ وَالِاعْتِكَافُ شُرِعَ لِإِدَامَةِ الصَّلَاةِ عَلَى مِقْدَارِ الْإِمْكَانِ فَكَانَ مِنْ التَّوَابِعِ وَلِذَلِكَ اُخْتُصَّ بِالْمَسَاجِدِ.

ــ

[كشف الأسرار]

لِشَيْءٍ فَكَانَتْ فَوْقَ الصَّوْمِ فِي الرُّتْبَةِ، وَلَكِنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ أَوْجَهُ وَأَوْفَقُ لِسِيَاقِ الْكَلَامِ قَوْلُهُ (ثُمَّ الْحَجُّ عِبَادَةُ هِجْرَةٍ) أَيْ عَنْ الْأَوْلَادِ وَالْأَوْطَانِ وَالْأَقْرَانِ وَالْإِخْوَانِ وَسَفَرٌ إلَى زِيَارَةِ بَيْتِ الرَّحْمَنِ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِأَفْعَالٍ تَقُومُ أَيْ تَخْتَصُّ بِبِقَاعٍ أَوْ تَقَعُ فِي بِقَاعٍ مُعَظَّمَةٍ وَأَوْقَاتٍ شَرِيفَةٍ مِنْ الطَّوَافِ وَالْوُقُوفِ وَالسَّعْيِ وَالرَّمْيِ وَغَيْرِهَا فَكَانَ الْحَجُّ دُونَ الصَّوْمِ فِي الرُّتْبَةِ كَأَنَّهَا أَيْ كَأَنَّ عِبَادَةَ الْحَجِّ وَسِيلَةٌ إلَى الصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا هَجَرَ الْأَوْطَانَ وَجَانَبَ الْأَهْلَ وَالْأَوْلَادَ وَانْقَطَعَ عَنْهُ مَوَادُّ الشَّهَوَاتِ فِي الْبَوَادِي وَانْسَدَّ عَلَيْهِ طَرِيقُ الْوُصُولِ إلَيْهَا فِي الْفَيَافِي ضَعَّفَ نَفْسَهُ وَزَالَ عَنْهَا الْجَمُوحَةَ وَقَدَرَ عَلَى قَهْرِهَا بِالصَّوْمِ فَكَانَ الْحَجُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَسِيلَةِ إلَى الصَّوْمِ فَكَانَ دُونَهُ (فَإِنْ قِيلَ) الْوَسَائِطُ فِي الْحَجُّ جَمَادَاتٌ لَيْسَتْ لَهَا صَلَاحِيَّةُ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْوَاسِطَةُ فِي الصَّوْمِ مُسْتَحَقَّةٌ لِلْقَهْرِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحَجُّ فَوْقَ الصَّوْمِ وَمِثْلَ الصَّلَاةِ قُلْنَا: الْوَسَائِطُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَالِحَةً لِلِاسْتِحْقَاقِ، لَكِنَّ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ مَعْنَى التَّعْظِيمِ لِتِلْكَ الْبِقَاعِ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي الصَّلَاةِ لِلْكَعْبَةِ إذْ التَّوَجُّهُ إلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ لَيْسَ لِتَعْظِيمِهَا وَكَذَا مَعْنَى قَهْرِ النَّفْسِ الَّذِي فِي الصَّوْمِ مَوْجُودٌ فِي الْحَجِّ مَعَ هَذِهِ الْوَسَائِطِ فَلِذَلِكَ كَانَ دُونَ الصَّوْمِ وَالْعُمْرَةُ سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ أَيْ قُرْبَةٌ مُؤَكَّدَةٌ فَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَ بِهَا تَابِعَةٌ لِلْحَجِّ كَسُنَنِ الصَّلَاةِ لِلصَّلَاةِ وَلَيْسَتْ بِفَرِيضَةٍ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله؛ لِأَنَّ أَفْعَالَهَا مِنْ جِنْسِ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَمَا بَيَّنَّا مِنْ الْوَسِيلَةِ لَا يُوجِبُ عَدَدًا مِنْ الْقُرْبَةِ وَلِهَذَا لَا يَتَكَرَّرُ فَرْضِيَّةُ الْحَجِّ فِي الْعُمْرِ فَعَرَفْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِفَرِيضَةٍ، ثُمَّ الْجِهَادُ يَعْنِي بَعْدَ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ فِي الرُّتْبَةِ الْجِهَادُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ.

فَرْضٌ فِي الْأَصْلِ أَيْ أَصْلُهُ فَرْضٌ عَلَى الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ إعْلَاءَ الدِّينِ فَرْضٌ عَلَى الْكُلِّ، لَكِنَّ الْوَاسِطَةَ هَاهُنَا وَهِيَ كَسْرُ شَوْكَةِ الْمُشْرِكِينَ وَدَفْعُ شَرِّهِمْ هِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالرَّدِّ وَالْإِعْدَامِ؛ لِأَنَّ شَرْعِيَّةَ الْجِهَادِ لِإِزَالَةِ الْكُفْرِ وَإِعْدَامِهِ فَصَارَتْ هَذِهِ الْعِبَادَةُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ بِمَنْزِلَةِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَحْصُلْ كَمَا فِي التَّغَيُّرِ الْعَامِّ يَجِبُ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَذَلِكَ أَيْ الْكُفْرُ جِنَايَةٌ قَائِمَةٌ بِالْكَافِرِ ثَابِتَةٌ بِاخْتِيَارِهِ فَكَانَ أَمْرًا عَارِضًا فِيهِ فَالْجِهَادُ الَّذِي شُرِعَ لِأَجْلِهِ لَمْ يَكُنْ عِبَادَةً أَصْلِيَّةً بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ فَإِنَّ الْوَسَائِطَ فِيهَا أَصْلِيَّةٌ ثَابِتَةٌ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَا اخْتِيَارَ لِلْعَبْدِ فِيهَا فَكَانَتْ تِلْكَ الْعِبَادَاتُ أَصْلِيَّةً وَالِاعْتِكَافُ أَخَّرَ الِاعْتِكَافَ عَنْ الْجِهَادِ؛ لِأَنَّ الْجِهَادَ مِنْ الْفُرُوضِ وَالِاعْتِكَافُ مِنْ السُّنَنِ وَهُوَ مَشْرُوعٌ لِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ عَلَى مِقْدَارِ الْإِمْكَانِ إذْ الْعَزِيمَةُ هِيَ الِاشْتِغَالُ بِالْعِبَادَةِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ لِتَوَاتُرِ النِّعَمِ عَلَى الْعَبْدِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَفَضَّلَ عَلَى عِبَادِهِ بِإِسْقَاطِهَا عَنْهُ فِي عَامَّةِ الْأَوْقَاتِ وَرَضِيَ بِأَدَائِهَا فِي أَزْمِنَةٍ قَلِيلَةٍ بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ فَكَانَ الِاعْتِكَافُ أَخْذًا بِالْعَزِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ إدَامَةُ الصَّلَاةِ إمَّا بِالِاشْتِغَالِ بِحَقِيقَةِ الْأَدَاءِ وَبِالِانْتِظَارِ لِلصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ لَهُ حُكْمَ الصَّلَاةِ وَلِذَلِكَ صَحَّ النَّذْرُ بِالِاعْتِكَافِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الشَّرْعِ وَاجِبٌ مِنْ جِنْسهِ؛ لِأَنَّهُ نَذْرٌ بِالصَّلَاةِ مَعْنًى وَالتَّابِعُ لِلشَّيْءِ لَهُ حُكْمُ الْأَصْلِ وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إدَامَةُ الصَّلَاةِ اُخْتُصَّ الِاعْتِكَافُ بِالْمَسَاجِدِ الَّتِي هِيَ أَمْكِنَةُ الصَّلَاةِ وَالْمُعَدَّةُ لَهَا.

قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله: الِاعْتِكَافُ قُرْبَةٌ زَائِدَةٌ يَعْنِي عَلَى الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ لِمَا فِيهَا مِنْ تَعْظِيمِ الْمَكَانِ الْمُعَظَّمِ بِالْمُقَامِ فِيهِ وَهُوَ الْمَسْجِدُ

ص: 138

وَالْعِبَادَةُ الَّتِي فِيهَا مَعْنَى الْمُؤْنَةِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ فَلَمْ تَكُنْ خَالِصَةً حَتَّى لَمْ يُشْتَرَطْ لَهَا كَمَالُ الْأَهْلِيَّةِ.

وَالْمُؤْنَةُ الَّتِي فِيهَا مَعْنَى الْقُرْبَةِ هِيَ الْعُشْرُ حَتَّى لَا يُبْتَدَأَ عَلَى الْكَافِرِ وَأَجَازَ مُحَمَّدٌ رحمه الله بَقَاءَهُ عَلَى الْكَافِرِ وَالْخَرَاجُ مُؤْنَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ الِاشْتِغَالُ بِالزِّرَاعَةِ وَهِيَ الذُّلُّ فِي الشَّرِيعَةِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شُرِعَ مُؤْنَةً لِحِفْظِ الْأَرْضِ وَإِنْزَالِهَا وَلِذَلِكَ لَا يُبْتَدَأُ عَلَى الْمُسْلِمِ وَجَازَ الْبَقَاءُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا لِمَا تَرَدَّدَ لَا يَجِبُ بِالشَّكِّ وَلَمْ يَبْطُلْ بِهِ

ــ

[كشف الأسرار]

وَلِمَا فِي شَرْطِهَا مِنْ مَنْعِ النَّفْسِ عَنْ اقْتِضَاءِ الشَّهْوَتَيْنِ وَهُوَ الصَّوْمُ وَالْمَقْصُودُ بِهَا تَكْثِيرُ الصَّلَوَاتِ إمَّا حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا بِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ فِي مَكَانِهَا عَلَى صِفَةِ الِاسْتِعْدَادِ بِالطَّهَارَةِ.

قَوْلُهُ (وَالْعِبَادَةُ الَّتِي فِيهَا مَعْنَى الْمُؤْنَةِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ) الْمَئُونَةُ الثِّقَلُ فَعُولَةٌ مِنْ مَأَنْت الْقَوْمَ أَمْأَنُهُمْ إذَا احْتَمَلْت مَئُونَتَهُمْ وَقِيلَ: الْعُدَّةُ مِنْ قَوْلِهِمْ أَتَانِي فُلَانٌ وَمَا مَأَنْتُ لَهُ مَأْنًا إذَا لَمْ يَسْتَعِدَّ لَهُ وَقِيلَ: إنَّهَا مِنْ مِنْت الرَّجُلَ أَمُونُهُ وَالْهَمْزَةُ فِيهَا كَهِيَ فِي أَدْؤُرٍ وَقِيلَ: هِيَ مُفْعَلَةٌ مِنْ الْأَوْنِ وَهُوَ الْخَرْجُ وَالْعَدْلُ؛ لِأَنَّهُ ثِقَلٌ عَلَى الْإِنْسَانِ أَوْ مِنْ الْأَيْنِ وَهُوَ التَّعَبُ وَالشِّدَّةُ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ وَالصِّحَاحِ.

وَهَذَا الْوَاجِبُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالْمَئُونَةِ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَتَهُ فِي الشَّرْعِ صَدَقَةٌ وَكَوْنُهُ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ عَنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَاعْتِبَارُ صِفَةِ الْغِنَاءِ فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ كَمَا فِي الزَّكَاةِ وَاشْتِرَاطُ النِّيَّةِ فِي أَدَائِهِ حَتَّى لَا يَتَأَدَّى بِدُونِ النِّيَّةِ بِحَالٍ وَعَدَمُ صِحَّةِ أَدَائِهِ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ حَتَّى لَوْ أَدَّى الْمُكَاتَبُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ نَفْسِهِ لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ زَكَّى مَالَهُ وَتَعَلَّقَ وُجُوبُهُ بِالْوَقْتِ وَوُجُوبُ صَرْفِهِ إلَى مَصَارِفِ الصَّدَقَاتِ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ عِبَادَةً.

وَوُجُوبُهُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِسَبَبِ رَأْسِ الْغَيْرِ وَكَوْنُ الرَّأْسِ فِيهِ سَبَبًا يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْمَئُونَةِ كَالنَّفَقَةِ وَإِلَى مَعْنَى الْمَئُونَةِ أَشَارَ النَّبِيُّ عليه السلام فِي قَوْلِهِ «أَدُّوا عَمَّنْ تَمُونُونِ» إلَّا أَنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ لَمَّا كَانَ رَاجِحًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعَانِي قُلْنَا هَذَا الْوَاجِبُ عِبَادَةٌ فِيهِ مَعْنَى الْمَئُونَةِ وَلَمَّا قَصَرَ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ عِبَادَةً خَالِصَةً لَمْ يُشْتَرَطْ لَهُ كَمَالُ الْأَهْلِيَّةِ كَمَا شُرِطَ لِلْعِبَادَاتِ الْخَالِصَةِ حَتَّى وَجَبَ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ الْغَنِيَّيْنِ فِي مَالِهِمَا كَنَفَقَةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَإِنَّ عِنْدَهُمَا تَجِبُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ فِي مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِأَنْفُسِهِمَا وَرَقِيقُهُمَا يَتَوَلَّى أَدَاءَ ذَلِكَ عَنْ مَالِهِمَا الْأَبُ أَوْ وَصِيُّ الْأَبِ أَوْ الْجَدُّ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا أَبٌ وَلَا وَصِيُّ أَبٍ أَوْ وَصِيُّ الْجَدِّ بَعْدَ الْجَدِّ أَوْ وَصِيٌّ نَصَّبَهُ الْقَاضِي لَهُمَا وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا تَجِبُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَلَيْهِمَا فِي مَالِهِمَا فَإِنْ كَانَ الْأَبُ غَنِيًّا يَجِبُ عَلَيْهِ وَلَوْ أَدَّاهَا مِنْ مَالِهِمَا ضَمِنَ وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْأَبِ بِسَبَبِ رَأْسِ الْوَلَدِ كَمَا يَجِبُ بِسَبَبِ رَأْسِ الْعَبْدِ الْكَافِرِ فَإِذَا أَدَّى مَا عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ ضَمِنَ كَمَا إذَا أَدَّى صَدَقَةً وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ عِنْدَهُ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ أَوْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهَا رَاجِحٌ فَلَا تَجِبُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ لِسُقُوطِ الْخِطَابِ عَنْهُمَا وَعَلَيْهِ يُبْنَى الْوُجُوبُ وَاسْتَحْسَنَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَقَالَا: فِي هَذِهِ الصَّدَقَةِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَمَعْنَى الْمَئُونَةِ كَمَا بَيَّنَّا فَبِاعْتِبَارِ مَعْنَى الصَّدَقَةِ لَمْ تَجِبْ مَعَ الْفَقْرِ كَالزَّكَاةِ وَبِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْمَئُونَةِ صَحَّ الْإِيجَابُ عَلَى الصَّغِيرِ كَالْعُشْرِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَعْنَى الصَّدَقَةِ إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْأَسْرَارِ وَكَلَامُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَوْضَحُ.

قَوْلُهُ (وَالْمَئُونَةُ الَّتِي فِيهَا مَعْنَى الْقُرْبَةِ هِيَ الْعُشْرُ) .

لِأَنَّ سَبَبَهُ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ فَبِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهِ بِالْأَرْضِ هُوَ مَئُونَةٌ؛ لِأَنَّ مَئُونَةَ الشَّيْءِ سَبَبُ بَقَائِهِ وَالْعُشْرُ سَبَبُ بَقَاءِ الْأَرْضِ وَبِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهِ بِالنَّمَاءِ وَهُوَ الْخَارِجُ كَتَعَلُّقِ الزَّكَاةِ بِهِ أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَصْرِفَهُ الْفُقَرَاءُ كَمَصْرِفِ الزَّكَاةِ تَحَقَّقَ فِيهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَأَخَذَ شَبَهًا بِالزَّكَاةِ إلَّا أَنَّ الْأَرْضَ أَصْلٌ وَالنَّمَاءُ وَصْفٌ تَابِعٌ وَكَذَا الْمَحَلُّ شَرْطٌ وَالشَّرْطُ تَابِعٌ فَكَانَ مَعْنَى الْمَئُونَةِ فِيهِ أَصْلًا وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ تَبَعًا حَتَّى لَا يُبْتَدَأَ عَلَى الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ وَإِنْ كَانَ تَابِعًا، لَكِنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْقُرْبَةِ بِوَجْهٍ وَأَجَازَ مُحَمَّدٌ رحمه الله بَقَاءَهُ عَلَى الْكَافِرِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْمَئُونَةِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ وَالْخَرَاجُ

ص: 139

وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي الْعُشْرِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَنْقَلِبُ خَرَاجِيًّا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: يَجِبُ تَضْعِيفُهُ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ يُنَافِي صِفَةَ الْقُرْبَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يَبْقَى الْعُشْرُ؛ لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ مِنْ وَجْهٍ فَلِهَذَا يَبْقَى الْخَرَاجُ وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله رِوَايَتَانِ فِي صَرْفِ الْعُشْرِ الْبَاقِي عَلَى الْكَافِرِ كَأَنَّهُ جَعَلَهُ خَرَاجِيًّا فِي رِوَايَةٍ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ إلَّا بِشَرْطِ التَّضْعِيفِ لَكِنَّ التَّضْعِيفَ ضَرُورِيٌّ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ مَعَ إمْكَانِ الْأَصْلِ وَهُوَ الْخَرَاجُ فَصَارَ الصَّحِيحُ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله.

ــ

[كشف الأسرار]

مَئُونَةٌ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ بَقَاءِ الْأَرْضِ كَالْعُشْرِ فِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ أَيْ سَبَبَ شَرْعِيَّتِهِ فِي الْأَصْلِ أَوْ سَبَبُ وَضْعِهِ عَلَى الْأَرْضِ لَا سَبَبُ وُجُوبِهِ فَإِنَّهُ هُوَ الْأَرْضُ عَلَى مَا مَرَّ الِاشْتِغَالُ بِالزِّرَاعَةِ فَإِنَّ الْإِمَامَ إذَا فَتَحَ بَلْدَةً عَنْوَةً وَأَقَرَّ أَهْلَهَا فَلَمْ يُسَلِّمُوا وَاشْتَغَلُوا بِالزِّرَاعَةِ وَضَعَ عَلَى جَمَاجِمِهِمْ الْجِزْيَةَ وَعَلَى أُرَاضِيهِمْ الْخَرَاجَ فَكَانَ سَبَبُ وَضْعِهِ الِاشْتِغَالَ بِالزِّرَاعَةِ وَهُوَ سَبَبُ الذُّلِّ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى مَا «قَالَ عليه السلام حِينَ رَأَى آلَةَ الزِّرَاعَةِ فِي دَارِ قَوْمٍ مَا دَخَلَ هَذَا دَارَ قَوْمٍ إلَّا ذُلُّوا» وَذَلِكَ لِمَا فِي الِاشْتِغَالِ بِالزِّرَاعَةِ عِمَارَةُ الدُّنْيَا وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الْجِهَادِ وَهُمَا مِنْ عَادَةِ الْكُفَّارِ فَكَانَ وُجُوبُ الْخَرَاجِ بِاعْتِبَارِ الْأَرْضِ مَئُونَةً وَبِاعْتِبَارِ الِاشْتِغَالِ بِالزِّرَاعَةِ عُقُوبَةً.

وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ شُرِعَ مَئُونَةً لِحِفْظِ الْأَرْضِ وَإِنْزَالِهَا كَمَا بَيَّنَّاهُ مُشْبَعًا فِي بَابِ بَيَانِ أَسْبَابِ الشَّرَائِعِ إلَّا أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ جَعَلَ فِي الْعُشْرِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ كَرَامَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَجَعَلَ فِي الْخَرَاجِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ إهَانَةً لِلْكَافِرِينَ وَإِنْزَالُ الْأَرْضِ رِيعَهَا وَمَا يَحْصُلُ مِنْهَا جَمْعٌ نَزَلَ وَهُوَ الزِّيَادَةُ وَالْفَضْلُ وَذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ أَنَّ الْخَرَاجَ فِي الْأَرَاضِي أَصْلٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ الْإِسْلَامِ، لَكِنَّ الشَّرْعَ نَقَلَ عَنْهُ إلَى الْعُشْرِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ وَأَوْجَبَ الصَّرْفَ إلَى مَصَارِفِ الزَّكَاةِ لِيَصِيرَ بِهِ نَوْعَ عِبَادَةٍ تَكْرِمَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِكَوْنِ الْخَرَاجِ مُتَضَمِّنًا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَالذُّلِّ لَا يُبْتَدَأُ الْخَرَاجُ عَلَى الْمُسْلِمِ حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ طَوْعًا أَوْ قُسِّمَتْ الْأَرَاضِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُوضَعْ الْخَرَاجُ عَلَى أَرَاضِيهمْ وَجَازَ الْبَقَاءُ أَيْ بَقَاءُ الْخَرَاجِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَتَّى لَوْ اشْتَرَى مِنْ كَافِرٍ أَرْضَ خَرَاجٍ أَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ وَلَهُ أَرْضُ خَرَاجٍ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْخَرَاجُ دُونَ الْعُشْرِ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ لَمَّا تَرَدَّدَ بَيْنَ الْمَئُونَةِ وَالْعُقُوبَةِ لَمْ يَجِبْ بِالشَّكِّ أَيْ لَمْ يُمْكِنُ إيجَابُهُ عَلَى الْمُسْلِمِ ابْتِدَاءً بِمَعْنَى الْمَئُونَةِ لِمُعَارَضَةِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ إيَّاهُ وَلَمْ يَبْطُلْ بِهِ يَعْنِي لَا يَسْقُطُ بَعْدَ الْوُجُوبُ بِالشَّكِّ أَيْضًا فَإِنَّهُ لَوْ سَقَطَ لَسَقَطَ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَقَدْ عَارَضَهُ مَعْنَى الْمَئُونَةِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْبَقَاءَ فَلَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ.

وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي الْعُشْرِ أَيْ وَكَمَا قَالُوا جَمِيعًا فِي الْخَرَاجِ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْعُشْرِ يَعْنِي لَا يُبْتَدَأُ الْعُشْرُ عَلَى الْكَافِرِ وَلَكِنْ يَجُوزُ الْبَقَاءُ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ مَلَكَ الذِّمِّيُّ أَرْضًا عُشْرِيَّةً تَبْقَى عُشْرِيَّةً كَمَا كَانَتْ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ يَجِبُ مَئُونَةً لِلْأَرْضِ النَّامِيَةِ كَالْخَرَاجِ فَيَكُونُ الْكَافِرُ أَهْلًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ تَحَمُّلِ الْمُؤَنِ إلَّا أَنَّ فِي أَدَاءِ الْعُشْرِ لِلْمُؤْمِنِ قُرْبَةً وَثَوَابًا؛ لِأَنَّهُ يُصْرَفُ إلَى مَصَارِفِ الزَّكَاةِ وَيُقْضَى بِهِ رِزْقُ عَبِيدِ اللَّهِ تَعَالَى مِثْلُ مَا يَكُونُ فِي نَفَقَةِ الْأَبَوَيْنِ وَالْأَوْلَادِ وَإِذَا كَانَ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي الْأَدَاءِ تَابِعًا أَمْكَنَ الْإِيجَابُ عَلَى الْكَافِرِ بِلَا تَضْمِينِ قُرْبَةٍ فِي أَدَائِهَا كَمَا فِي النَّفَقَاتِ وَلِأَنَّا نُوجِبُ الْعُشْرَ وَنَصْرِفُهُ إلَى مَصَارِفِ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجُ كَصَدَقَاتِ بَنِي ثَعْلَبٍ وَهَذَا بِخِلَافِ ابْتِدَاءِ إيجَابِ الْعُشْرِ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ مَانِعٌ مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَرْبِ كَرَامَةٍ مَعَ إمْكَانِ وَضْعِ الْخَرَاجِ كَمَا أَنَّ الْإِسْلَامَ مَانِعٌ مِنْ وَضْعِ الْخَرَاجِ مَعَ إمْكَانِ وَضْعِ الْعُشْرِ فَأَمَّا بَعْدَمَا صَارَتْ عُشْرِيَّةً فَيَسْتَقِيمُ إيجَابُهُ عَلَى الْكَافِرِ فَلَا تَصِيرُ خَرَاجِيَّةً بِكُفْرِهِ كَالْخَرَاجِيَّةِ لَا تَصِيرُ عُشْرِيَّةً بِإِسْلَامِ الْمَالِكِ وَحَاصِلُ مَذْهَبِهِ أَنَّ مَا صَارَ وَظِيفَةً لِلْأَرْضِ لَا تَتَغَيَّرُ بِتَبَدُّلِ الْمَالِكِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: يَجِبُ تَضْعِيفُهُ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مَأْخُوذًا مِنْ الْمُسْلِمِ يَجِبُ تَضْعِيفُهُ إذَا وَجَبَ أَخْذُهُ مِنْ الْكَافِرِ كَصَدَقَاتِ بَنِي ثَعْلَبٍ وَمَا يَمُرُّ بِهِ الذِّمِّيُّ عَلَى الْعَاشِرِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: يَنْقَلِبُ خَرَاجًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ لَا يُمْكِنُ إلْغَاؤُهُ مِنْ الْعُشْرِ؛ لِأَنَّ.

ص: 140

وَأَمَّا الْحَقُّ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ فَخُمُسُ الْمَغَانِمِ وَالْمَعَادِنِ حَقٌّ وَجَبَ لِلَّهِ تَعَالَى ثَابِتًا بِنَفْسِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ حَقُّهُ فَصَارَ الْمُصَابُ بِهِ لَهُ كُلُّهُ لَكِنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ لِلْغَانِمَيْنِ مِنَّةً مِنْهُ فَلَمْ يَكُنْ حَقًّا لَزِمَنَا أَدَاؤُهُ طَاعَةً لَهُ بَلْ هُوَ حَقٌّ اسْتَبَقَاهُ لِنَفْسِهِ فَتَوَلَّى السُّلْطَانُ أَخْذَهُ وَقِسْمَتَهُ وَلِهَذَا جَوَّزْنَا صَرْفَ الْخُمُسِ إلَى مَنْ اسْتَحَقَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ بِخِلَافِ الطَّاعَاتِ مِثْلِ الزَّكَوَاتِ وَالصَّدَقَاتِ فَإِنَّهَا لَا تُرَدُّ إلَى الْمُلَّاكِ بَعْدَ الْأَخْذِ مِنْهُمْ وَلِهَذَا حَلَّ الْخُمُسُ لِبَنِي هَاشِمٍ؛ لِأَنَّهُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ مِنْ التَّحْقِيق لَمْ يَصِرْ مِنْ الْأَوْسَاخِ

ــ

[كشف الأسرار]

مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي صَرْفِهِ إلَى مَصَارِفِ الزَّكَاةِ الَّتِي هِيَ عِبَادَةٌ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ فَلَمْ يَجِبْ بِحَيْثُ يَصْرِفُ إلَى الْفُقَرَاءِ فَإِنْ قَالَا: يَصْرِفُهُ إلَى الْمُقَاتِلَةِ فَهُوَ أَدَاءُ حَقٍّ آخَرَ لِمَا تَبَدَّلَ مُسْتَحِقُّهُ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ إنَّمَا عُرِفَ بِوَصْفِ الْعِبَادَةِ فَإِذَا سُلِبَ عَنْهُ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَبْقَ عُشْرًا؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوعَ يُعْرَفْ بِوَصْفِهِ وَإِذَا سَقَطَ الْأَوَّلُ وَوَجَبَ الْآخَرُ كَانَ الْخَرَاجُ بِهِ أَوْلَى مِنْ الْغَيْرِ تَسْمِيَةً كَمَا فِي ابْتِدَاءِ الْمَنِّ عَلَيْهِمْ بِخِلَافِ الْخَرَاجِ يَبْقَى عَلَى الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ مَئُونَةٌ مَالِيَّةٌ بِلَا ثَوَابٍ كَنَفَقَةِ دَابَّتِهِ وَمَا يَجِبُ صَرْفُهُ إلَى الْمُقَاتِلَةِ مِنْ الْجُعَلَاتِ عِنْدَ الْحَاجَةِ.

وَلِأَنَّ اسْتِبْقَاءَهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ كَاسْتِبْقَاءِ الْآخِرَةِ بِاعْتِبَارِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاع وَمَالُ الْمُسْلِمِ يَصْلُحُ لِذَلِكَ وَقَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ يُنَافِي صِفَةَ الْقُرْبَةِ يَصْلُحُ دَلِيلًا لِكِلَا الْقَوْلَيْنِ يَعْنِي لَمَّا كَانَ الْكُفْرُ يُنَافِي الْقُرْبَةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِمُنَافَاتِهِ حُكْمَهَا وَهُوَ الثَّوَابُ يَجِبُ الْخَرَاجُ الَّذِي هُوَ أَخْذُ مُؤْنَتَيْ الْأَرْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لِتَعَذُّرِ إيجَابِ الْآخَرِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجِبُ التَّضْعِيفُ الَّذِي هُوَ فِي حُكْمِ الْخَرَاجِ وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ بِوَجْهٍ؛ لِأَنَّ التَّغْيِيرَ فِي الْمَصِيرِ إلَى التَّضْعِيفِ أَقَلُّ مِنْهُ فِي الْمَصِيرِ إلَى الْخَرَاجِ؛ لِأَنَّ فِي الْخَرَاجِ تَغْيِيرَ الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ جَمِيعًا وَفِي التَّضْعِيفِ تَغْيِيرُ الْوَصْفِ لَا غَيْرُ وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلَا يُنَافِي الْعُقُوبَةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَيْ لَا يُنَافِي مَا هُوَ عُقُوبَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَالرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ فَلَا يُنَافِي الْمَئُونَةَ الَّتِي فِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّ الْإِسْلَامَ يُنَافِي الْعُقُوبَةَ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ أَنَّهُ سَبَبٌ فِي الْعِزِّ وَالْكَرَامَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْعُقُوبَةِ الَّتِي هِيَ ذُلٌّ وَهَوَانٌ وَلَا يُنَافِيهَا مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ شَرَعَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ وَهِيَ عُقُوبَاتٌ مَحْضَةٌ فَيَجُوزُ أَنْ يُثْبِتَ فِي حَقِّهِ مَا هُوَ مَئُونَةٌ فِيهِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ قُلْنَا: لَا يُبْتَدَأُ الْخَرَاجُ عَلَى الْمُسْلِمِ عَمَلًا بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَيَجُوزُ أَنْ يَبْقَى عَلَيْهِ عَمَلًا بِالْوَجْهِ الثَّانِي فَأَمَّا الْكُفْرُ فَيُنَافَى الْقُرْبَةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يُمْكِنُ شُرُوعُ الْعُشْرِ فِي حَقِّ الْكَافِرِ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله رِوَايَتَانِ فِي الْعُشْرِ الْبَاقِي عَلَى الْكَافِر بَعْدِ تَمَلُّكِهِ لِلْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ فَفِي رِوَايَةِ السِّيَرِ يُوضَعُ مَوْضِعَ الصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْفُقَرَاءِ تَعَلَّقَ بِهِ فَهُوَ كَتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُقَاتِلَة بِالْأَرَاضِيِ الْخَرَاجِيَّةِ.

وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْهُ يُوضَعُ فِي بَيْتِ مَالِ الْخَرَاجِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُصْرَفُ إلَى الْفُقَرَاءِ مَا صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى بِطَرِيقِ الْعِبَادَةِ وَمَالُ الْكَافِرِ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ فَيُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ كَالْمَالِ الَّذِي يَأْخُذُهُ الْعَاشِرُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْجَوَابُ يَعْنِي لِأَبِي حَنِيفَةَ عَمَّا ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رحمهم الله أَنَّ الْعُشْرَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي حَقِّ الْكَافِرِ إلَّا بِشَرْطِ التَّضْعِيفِ فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ عُشْرٍ وَاحِدٍ عَلَيْهِ فَهَذَا رَدٌّ لِكَلَامِ مُحَمَّدٍ.

وَقَوْلُهُ: لَكِنَّ التَّضْعِيفَ إلَى آخِرِهِ رَدٌّ لِكَلَامِ أَبِي يُوسُفَ يَعْنِي أَنَّهُ ضَرُورِيٌّ ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِي قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ عِنْدَ تَعَذُّرِ إيجَابِ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ عَلَيْهِمْ خَوْفًا مِنْ الْفِتْنَةِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَبَوْا قَبُولَ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ وَمَالُوا إلَى التَّضْعِيفِ وَقَدْ كَانُوا ذَوِي سَعَةٍ وَمَنَعَةٍ حَتَّى قِيلَ: إنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَعِينَ أَلْفًا وَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ أَرْضِ الرُّومِ قَبِلُوا ذَلِكَ مِنْهُمْ خَوْفًا مِنْ الْتِحَاقِهِمْ بِالرُّومِ وَصَيْرُورَتِهِمْ حَرْبًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِنْ الْكُفَّارِ فَلَيْسُوا بِمَنْزِلَتِهِمْ لِإِمْكَانِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ مِنْهُمْ فَلَا يُصَارُ إلَى التَّضْعِيفِ فِي حَقِّهِمْ مَعَ إمْكَانِ إيجَابِ الْأَصْلِ وَهُوَ الْخَرَاجُ فَثَبَتَ أَنَّ الصَّحِيحَ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله.

قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْحَقُّ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ) أَيْ الْحَقُّ الثَّابِتُ بِذَاتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِذِمَّةِ الْعَبْدِ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ

ص: 141

غَيْرَ أَنَّا جَعَلْنَا النُّصْرَةَ عِلَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْأَفْعَالِ وَالطَّاعَاتِ فَكَانَ أَوْلَى بِالْكَرَامَةِ وَاعْتِبَارًا بِالْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ فَإِنَّهَا بِالنُّصْرَةِ بِالْإِجْمَاعِ.

ــ

[كشف الأسرار]

يَكُونَ لَهُ سَبَبٌ يَجِبُ بِاعْتِبَارِهِ عَلَى الْعَبْدِ أَدَاؤُهُ بِطَرِيقِ الطَّاعَةِ أَوْ بِغَيْرِهَا مِثْلُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَسَائِرِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْعِبَادِ فَخُمُسُ الْمَغَانِمِ وَالْمَعَادِنِ وَالْمَغْنَمُ وَالْغَنِيمَةُ مَا يَأْخُذُهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ وَالْمَعْدِنُ اسْمٌ لِمَا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ سُمِّيَ بِهِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يُقِيمُونَ بِهِ الصَّيْفَ وَالشِّتَاءَ مِنْ عَدَنَ بِالْمَكَانِ أَقَامَ بِهِ وَقِيلَ لِإِثْبَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ جَوْهَرَهُمَا وَإِثْبَاتُهُ إيَّاهُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى عَدَنَ فِيهَا أَيْ يَثْبُتُ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ حَقٌّ وَجَبَ أَيْ هُوَ حَقٌّ ثَبَتَ لِلَّهِ تَعَالَى بِحُكْمِ أُلُوهِيَّتِهِ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ حَقُّهُ؛ لِأَنَّهُ إعْزَازُ دِينِهِ وَإِعْلَاءُ كَلِمَتِهِ فَصَارَ الْمُصَابُ بِهِ لَهُ كُلُّهُ أَيْ صَارَ الْمُصَابُ بِالْجِهَادِ كُلُّهُ لِلَّهِ عز وجل كَمَا أَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] .

وَمَعْنَى الْجَمْعِ بَيْنَ ذِكْرِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ أَنَّ الْحُكْمَ وَالْأَمْرَ فِيهَا لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهِ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ وَالرَّسُولُ يُنَفِّذُهُ فِيمَا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ فَثَبَتَ أَنَّ مَجْمُوعَ الْمُصَابِ حَقُّهُ عَلَى الْخُلُوصِ، لَكِنَّهُ جل جلاله أَوْجَبَ أَيْ أَثْبَتَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْمُصَابِ لِلْغَانِمِينَ مِنَّةً مِنْهُ أَيْ بِطَرِيقِ الْمِنَّةِ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَوْجِبَهَا بِالْجِهَادِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَعْمَلُهُ لِمَوْلَاهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى مَوْلَاهُ شَيْئًا، لَكِنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَهَا لِلْغَانِمِينَ جَزَاءً مُعَجَّلًا فِي الدُّنْيَا فَضْلًا مِنْهُ وَرَحْمَةً فَلَمْ يَكُنْ الْخُمُسُ حَقًّا لَزِمَنَا أَدَاؤُهُ بِطَرِيقِ الطَّاعَةِ بَلْ هُوَ حَقُّ اسْتِبْقَاءٍ لِنَفْسِهِ مِنْ الْمَالِ الَّذِي هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ وَأَمْرٌ بِالصَّرْفِ إلَى مَنْ سَمَّاهُمْ فِي كِتَابِهِ فَتَوَلَّى السُّلْطَانُ أَخْذَهُ وَقِسْمَتَهُ بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُ الشَّرْعِ وَلِهَذَا أَيْ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْنَا عَلَى سَبِيلِ الطَّاعَةِ جَوَّزْنَا صَرْفَ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ إلَى مَنْ اسْتَحَقَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهَا مِنْ الْغَانِمِينَ وَإِلَى آبَائِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَكَذَا جَازَ صَرْفُ خُمُسِ الْمَعْدِنِ إلَى الْوَاحِدِ عِنْدَ حَاجَتِهِ أَيْضًا بِخِلَافِ مَا وَجَبَ عَلَى سَبِيلِ الطَّاعَةِ مِثْلُ الزَّكَوَاتِ وَالصَّدَقَاتِ فَإِنَّ صَرْفَهَا لَا يَجُوزُ إلَى مَنْ أَدَّاهَا وَإِنْ افْتَقَرَ حَتَّى لَوْ سَلَّمَ الزَّكَاةَ إلَى السَّاعِي بَعْدَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ فَافْتَقَرَ قَبْلَ صَرْفِهَا إلَى الْفَقِيرِ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا مِنْ السَّاعِي وَيَصْرِفَهَا إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ وَكَذَا لَوْ لَزِمَهُ كَفَّارَةٌ وَهُوَ فَقِيرٌ فَمَلَكَ مِنْ الطَّعَامِ مِقْدَارَ مَا يُؤَدِّي بِهِ الْكَفَّارَةَ مَثَلًا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى نَفْسِهِ أَوْ إلَى أَبَوَيْهِ أَوْ أَوْلَادِهِ.

وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا وَجَبَتْ عَلَى سَبِيلِ الطَّاعَةِ كَانَ فِعْلُ الْإِيتَاءِ هُوَ الْمَقْصُودَ وَلَا يَحْصُلُ الْإِيتَاءُ أَوْ لَا يَتِمُّ بِالصَّرْفِ إلَى نَفْسِهِ وَإِلَى وَلَدِهِ وَأَبَوَيْهِ فَأَمَّا هَاهُنَا فَالْفِعْلُ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَى سَبِيلِ الطَّاعَةِ بَلْ هُوَ مَالُ اللَّهِ تَعَالَى أَمَرَ بِصَرْفِهِ إلَى جِهَةٍ فَإِذَا وُجِدَتْ تِلْكَ الْجِهَةُ فِي الْغَانِمِ كَانَ هُوَ وَغَيْرُهُ سَوَاءً وَلِهَذَا أَيْ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ لَزِمَنَا أَدَاؤُهُ بِطَرِيقِ الطَّاعَةِ حَلَّ خُمُسُ الْخُمُسِ لِبَنِي هَاشِمٍ؛ لِأَنَّهُ أَيْ خُمُسَ الْخَمْسِ عَلَى مَا قُلْنَا مِنْ التَّحْقِيقِ أَيْ أَثْبَتْنَا أَنَّهُ حَقٌّ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يَصِرْ مِنْ الْأَوْسَاخِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ إنَّمَا يَصِيرُ وَسَخًا بِصَيْرُورَتِهِ آلَةً لِأَدَاءِ الْوَاجِبِ وَمَحَلًّا لِانْتِقَالِ الْآثَامِ الَّتِي هِيَ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَنِ فِي الْبَدَنِ إلَيْهِ فَيَصِيرُ خَبِيثًا كَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْبَدَنِ يَصِيرُ خَبِيثًا طَبْعًا بِانْتِقَالِ الْأَوْسَاخِ إلَيْهِ أَوْ شَرْعًا بِانْتِقَالِ الْحَدَثِ أَوْ الْآثَامِ إلَيْهِ وَهَذَا الْمَالُ لَمْ يُؤَدِّ بِهِ وَاجِبٌ فَبَقِيَ طَيِّبًا كَمَا كَانَ فَحَلَّ لِبَنِي هَاشِمٍ بِخِلَافِ مَالِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ صَارَ خَبِيثًا لِمَا ذَكَرْنَا فَلَمْ يَحِلَّ لِبَنِي هَاشِمٍ لِفَضِيلَتِهِمْ قَوْلُهُ (غَيْرَ أَنَّا) أَيْ، لَكِنَّا جَعَلْنَا النُّصْرَةَ عِلَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ فِي حَقِّ بَنِي هَاشِمٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: عِلَّةُ الِاسْتِحْقَاقِ الْقَرَابَةُ فِي حَقِّهِمْ وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ فِي سُقُوطِ سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى فَعِنْدَنَا يَسْقُطُ بِوَفَاةِ الرَّسُولِ عليه السلام لِانْتِهَاءِ الْعِلَّةِ وَهِيَ

ص: 142

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[كشف الأسرار]

النُّصْرَةُ بِوَفَاتِهِ كَمَا سَقَطَ نَصِيبُ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ الزَّكَاةِ لِانْتِهَاءِ عِلَّةِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهِيَ ضَعْفُ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ مِنْ مَشَايِخِنَا سَقَطَ هَذَا السَّهْمُ بِمَوْتِهِ فِي حَقِّ الْأَغْنِيَاءِ مِنْهُمْ دُونَ الْفُقَرَاءِ وَهُوَ مُخْتَارُ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ فِي الْأَسْرَارِ وَعِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيِّ سَقَطَ فِي حَقِّ الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ جَمِيعًا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله هُوَ ثَابِتٌ لِبَقَاءِ الْعِلَّةِ وَهِيَ الْقَرَابَةُ فَيُقَسَّمُ عِنْدَنَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ وَيَدْخُلُ مَنْ اتَّصَفَ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى بِهَذِهِ الصِّفَاتِ فِيهِمْ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَسَهْمُ الرَّسُولِ عليه السلام سَاقِطٌ عِنْدَنَا بِوَفَاتِهِ أَيْضًا كَسَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى.

وَعِنْدَهُ يُقَسَّمُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ كَمَا كَانَ يُقَسَّمُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَهْمٌ لِلْإِمَامِ يَصْرِفُهُ إلَى مَصَالِحِ الدِّينِ وَسَهْمٌ لِذَوِي الْقُرْبَى يُقَسَّمُ بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ لِمَا ذَكَرْنَاهُمْ قَالَ: وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْقَرَابَةُ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] وَالْمُرَادُ قَرَابَةُ الرَّسُولِ عليه السلام كَمَا فَسَّرَهُ أَهْلُ التَّفْسِيرِ وَهِيَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ الْقَرَابَةِ فَيَكُونُ مَأْخَذُ الِاشْتِقَاقِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2]{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] وَلِأَنَّهُ عليه السلام قَالَ «يَا بَنِي هَاشِمٍ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِهَ لَكُمْ غُسَالَةَ النَّاسِ وَعَوَّضَكُمْ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُوَ خُمُسُ الْخُمُسِ» سُمِّيَ حَقُّهُمْ فِي الْخُمُسِ عِوَضًا عَنْ حِرْمَانِ الصَّدَقَةِ وَالْعِوَضِيَّةُ إنَّمَا تَثْبُتُ إذَا جَمَعَتْهُمَا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ خَلَفٌ عَنْ الْمُعَوَّضِ فَيَثْبُتُ بِمَا ثَبَتَ بِهِ الْأَصْلُ وَعِلَّةُ حِرْمَانِ الصَّدَقَةِ هِيَ الْقَرَابَةُ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْقَرَابَةُ عِلَّةً لِاسْتِحْقَاقِ خُمُسِ الْخُمُسِ الَّذِي هُوَ عِوَضٌ أَيْضًا يُوَضِّحُهُ أَنَّ حِرْمَانَهُمْ عَنْ الصَّدَقَةِ كَانَ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الْكَرَامَةُ إذَا حُرِمُوا عَنْ الصَّدَقَةِ الَّتِي هِيَ مَالٌ خَبِيثٌ وَأُعْطُوا مِنْ مَالٍ طَيِّبٍ فَأَمَّا الْحِرْمَانُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَخَلَّفَهُ شَيْءٌ آخَرُ يَكُونُ إهَانَةً لَا كَرَامَةً وَمَا ذَكَرْتُمْ مُؤَدٍّ إلَيْهِ إذْ الْحِرْمَانُ ثَابِتٌ مِنْ غَيْرِ خَلَفٍ عَلَى أَصْلِكُمْ.

وَالدَّلِيلُ لَنَا عَلَى أَنَّ النُّصْرَةَ عِلَّةُ الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ النَّصِّ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَسَمَ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى يَوْمَ خَيْبَرَ بَيْنَ بَنِي هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ فَجَاءَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَجُبَيْرُ بْنِ مُطْعِمٍ وَهُوَ مِنْ بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ فَقَالَا: إنَّا لَا نُنْكِرُ فَضْلَ بَنِي هَاشِمٍ لِمَكَانِك الَّذِي وَضَعَك اللَّهُ فِيهِمْ وَلَكِنْ نَحْنُ وَبَنُو مُطَّلِبٍ إلَيْك سَوَاءٌ فِي النَّسَبِ فَمَا بَالُك أَعْطَيْتَهُمْ وَحَرَمْتَنَا فَقَالَ: إنَّهُمْ لَنْ يَزَالُوا مَعِي هَكَذَا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَإِسْلَامٍ وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ» فَهُمَا سَأَلَا عَنْ تَخْصِيصِ بَنِي الْمُطَّلِبِ مَعَ اسْتِوَائِهِمْ فِي الْقَرَابَةِ وَقِيلَ بَنُو نَوْفَلٍ وَبَنُو عَبْدِ شَمْسٍ كَانُوا أَقْرَبَ إلَيْهِ مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ؛ لِأَنَّ نَوْفَلًا وَعَبْدَ شَمْسٍ كَانَا أَخَوَيْ هَاشِمٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَالْمُطَّلِبُ كَانَ أَخَا هَاشِمٍ لِأَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ، ثُمَّ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام بَنِي الْمُطَّلِبِ وَلَمْ يُعْطِ بَنِي نَوْفَلٍ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ فَأُشْكِلَ عَلَيْهِمَا فَلِهَذَا سَأَلَاهُ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ عليه السلام أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالنُّصْرَةِ وَالِانْضِمَامِ إلَيْهِ صُحْبَةٌ لَا بِالْقَرَابَةِ وَالصُّحْبَةُ مُنْقَطِعَةٌ بِوَفَاتِهِ عليه السلام فَبَطَلَ الِاسْتِحْقَاقُ وَلَا يُقَالُ: الْكِتَابُ يَقْتَضِي الِاسْتِحْقَاقَ بِالْقَرَابَةِ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُ مَا ثَبَتَ بِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مِنْ الْآحَادِ بَلْ هُوَ خَبَرٌ مَشْهُورٌ عَمِلَ بِهِ الْأُمَّةُ فَإِنَّ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى عِنْدَ مَنْ قَالَ بِبَقَائِهِ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ عليه السلام مَقْسُومٌ بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَ غَيْرِهِمْ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْخَبَرِ فَيَجُوزُ الزِّيَادَةُ بِهِ عَلَى الْكِتَابِ، ثُمَّ أَمَّا أَنْ يُقَالَ: ثَبَتَ أَنَّ النُّصْرَةَ عِلَّةٌ بِهَذَا الْخَبَرِ فَتُضَمُّ إلَى الْقَرَابَةِ الثَّابِتَةِ عِلَّةً بِالْكِتَابِ وَصَارَتَا عِلَّةً وَاحِدَةً.

ص: 143

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[كشف الأسرار]

وَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَى آخِرِهِمَا وُجُودًا كَمَا هُوَ طَرِيقُ بَعْضِ مَشَايِخِنَا أَوْ يُقَالُ: لَفْظُ الْقُرْبَى مُطْلَقٌ فَيَتَقَيَّدُ بِالنُّصْرَةِ كَتَقَيُّدِ الْأَيَّامِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِالتَّتَابُعِ أَوْ هُوَ مُجْمَلٌ فَيَلْتَحِقُ الْخَبَرُ بَيَانًا بِهِ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ الْبَيَانِ وَمِنْ الْمَعْقُولِ أُشِيرَ إلَيْهِ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ أَنَّ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى ثَبَتَ لَهُمْ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ فَتَعْلِيقُ هَذِهِ الْكَرَامَةِ بِنُصْرَةِ الرَّسُولِ عليه السلام عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وُجِدَ مِنْهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ أَوْلَى مِنْ تَعْلِيقِهِ بِالنَّسَبِ؛ لِأَنَّ النُّصْرَةَ فِعْلٌ هُوَ طَاعَةٌ فِي الْأَصْلِ وَالْقَرَابَةُ أَمْرٌ ثَبَتَ خِلْقَةً لَا صُنْعَ فِيهِ لِأَحَدٍ وَتَعَلُّقُ الْكَرَامَاتِ بِالطَّاعَاتِ أَكْثَرُ مِنْ تَعَلُّقِهَا بِمَا ثَبَتَ خِلْقَةً وَاعْتِبَارٌ بِالْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ فَإِنَّهَا لَمْ تُسْتَحَقَّ إلَّا بِالنُّصْرَةِ حَتَّى لَا يَمْلِكَهَا مَنْ دَخَلَ تَاجِرًا أَوْ يَمْلِكُهَا مَنْ دَخَلَ غَازِيًا وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى قَصْدِ النُّصْرَةِ وَإِنَّهَا تَحْصُلُ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ فَثَبَتَ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا تَعْلِيلٌ بِوَصْفٍ ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ فِي الشَّرْعِ وَلَا يُقَالُ لَوْ كَانَ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِالنُّصْرَةِ لَمَا ثَبَتَ الِاسْتِحْقَاقُ لِلنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ كَمَا فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْمُرَادُ مِنْ النُّصْرَةِ الِاجْتِمَاعُ إلَيْهِ فِي الشِّعْبِ وَالْوَادِي لَا نُصْرَةُ الْقِتَالِ وَمِثْلُهَا يَكُونُ مِنْ النِّسْوَانِ وَالْوِلْدَانِ وَإِلَيْهَا أُشِيرَ فِي قَوْلِهِ عليه السلام «إنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونِي فِي جَاهِلِيَّةٍ وَإِسْلَامٍ» .

وَقِصَّةُ ذَلِكَ «أَنَّ قُرَيْشًا حِينَ أَرَادُوا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سُوءًا قَامَ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ بِالذَّبِّ عَنْهُ فَتَضَافَرَتْ قُرَيْشٌ عَلَى نَصْبِ الْعَدَاوَةِ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ وَكَتَبُوا صَحِيفَةً تَعَاقَدُوا فِيهَا عَلَى قَطْعِ الرَّحِمِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ وَأَنْ لَا يُصَاهِرُوهُمْ وَلَا يُبَايِعُوهُمْ وَلَا يُخَالِطُوهُمْ حَتَّى تُسَلِّمُوا رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام إلَيْهِمْ لِيَقْتُلُوهُ وَعَلَّقُوهَا فِي الْكَعْبَةِ فَلَمَّا رَأَى أَبُو طَالِبٍ ذَلِكَ دَخَلَ شِعْبَهُ الَّذِي كَانَ لَهُ بِأَسْفَلِ مَكَّةَ بِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ غَيْرَ أَبِي لَهَبٍ فَإِنَّهُ دَخَلَ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ فَتَحَصَّنُوا بِالشِّعْبِ وَبَقُوا فِيهِ ثَلَاثَ سِنِينَ مَقْطُوعًا عَنْهُمْ الْمِيرَةُ وَالتَّفَقُّدُ حَتَّى ضَاقَتْ بِهِمْ الْحَالُ وَجَعَلَ صِبْيَانُهُمْ يَتَضَاغَوْنَ مِنْ الْجُوعِ، ثُمَّ سَلَّطَ اللَّهُ الْأَرَضَةَ عَلَى الصَّحِيفَةِ فَأَكَلَتْ مِنْهَا كُلَّ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ ذِكْرِ جَوْرٍ وَقَطِيعَةٍ وَتَرَكَتْ مَا كَانَ مِنْ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَأُوحِيَ بِذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَهُ لِعَمِّهِ فَاجْتَمَعُوا وَلَبِسُوا أَحْسَنَ ثِيَابِهِمْ وَخَرَجُوا إلَى الْحِجْرِ فَجَلَسُوا مَجَالِسَ ذَوِي الْأَقْدَارِ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ قَالَ أَبُو طَالِبٍ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إنَّا قَدْ جَاءَكُمْ لِأَمْرٍ فَأَجِيبُوا فِيهِ بِالْمَعْرُوفِ فَقَالُوا مَرْحَبًا بِك فَقُلْ مَا تُحِبُّ فَعِنْدَنَا مَا يَسُرُّك فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: إنَّ مُحَمَّدًا أَخْبَرَنِي وَلَمْ يَكْذِبْنِي قَطُّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَلَّطَ عَلَى صَحِيفَتِكُمْ الْأَرَضَةَ فَلَحِسَتْ كُلَّ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ جَوْرٍ وَقَطِيعَةٍ وَتَرَكَتْ مَا كَانَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ صَادِقًا نَزَعْتُمْ عَنْ سُوءِ رَأْيِكُمْ وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا دَفَعْتُهُ إلَيْكُمْ فَقَتَلْتُمُوهُ أَوْ اسْتَبْقَيْتُمُوهُ فَقَالُوا: قَدْ أَنْصَفْتَنَا، ثُمَّ تَمَالَأَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِي تَقَصِّي شَأْنِ الصَّحِيفَةِ فَلَمَّا أُحْضِرَتْ وَنُشِرَتْ إذْ هِيَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعِنْدَ ذَلِكَ سُقِطَ فِي أَيْدِيهمْ وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا ظَالِمِينَ، ثُمَّ مُزِّقَتْ الصَّحِيفَةُ وَخَرَجَ النَّاسُ مِنْ الشِّعْبِ وَأَمِنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا» .

وَفِي رِوَايَةٍ «أَنَّهُمْ لَمَّا جَهَدُوا جَهْدًا شَدِيدًا رَقَّ لَهُمْ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْهُمْ مُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ وَأَظْهَرُوا الْكَرَاهَةَ لِمَا نَالَهُمْ مِنْ الضُّرِّ وَالْبُؤْسِ فَأَجْمَعُوا عَلَى نَقْضِ تِلْكَ الصَّحِيفَةِ الْقَاطِعَةِ الظَّالِمَةِ فَقَامَ مُطْعِمٌ إلَى الصَّحِيفَةِ فَوَجَدَ الْأَرَضَةَ قَدْ أَكَلَتْهَا إلَّا بِاسْمِك اللَّهُمَّ فَلَمَّا مُزِّقَتْ وَبَطَلَ مَا فِيهَا فَرَّجَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ فَخَرَجُوا مِنْ الشِّعْبِ فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ عليه السلام إنَّهُمْ لَنْ يَزَالُوا مَعِي فِي جَاهِلِيَّةٍ وَإِسْلَامٍ» فَإِنْ قِيلَ فَإِذًا هَذِهِ.

ص: 144

فَأَمَّا قَرَابَةُ النَّبِيِّ فَخِلْقَةٌ وَلِتَكُونَ لَهَا صِيَانَةٌ عَنْ أَعْوَاضِ الدُّنْيَا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ النُّصْرَةُ وَصْفًا يَتِمُّ بِهَا الْقَرَابَةُ عِلَّةُ مَا سَبَقَ فِي بَابِ التَّرْجِيحِ أَنَّ مَا يَصْلُحُ عِلَّةً بِنَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ وَلِأَنَّهَا تُخَالِفُ جِنْسَ الْقَرَابَةِ فَلَمْ يَصْلُحْ وَصْفًا لَهَا

ــ

[كشف الأسرار]

النُّصْرَةُ الَّتِي هِيَ الْعِلَّةُ عِنْدَكُمْ لَا تَكُونُ مِنْ الطَّاعَاتِ؛ لِأَنَّهَا وُجِدَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْكُفْرُ مُنَافٍ لِجَمِيعِ الطَّاعَاتِ فَلَا تَصْلُحُ سَبَبًا لِلْكَرَامَةِ قُلْنَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْفِعْلُ مِنْهُمْ مَخْصُوصًا بِالصِّيَانَةِ عَنْ الْفَسَادِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لِتَعَلُّقِهِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا رُوِيَ «أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَلْ نَفَعْت عَمَّك أَبَا طَالِبٍ فَقَالَ عليه السلام كَانَ فِي طَمْطَامٍ مِنْ النَّارِ فَأَخْرَجْتُهُ إلَى ضَحْضَاحٍ مِنْهَا» وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ التَّخْفِيفُ إلَّا بِإِحْسَانِهِ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنُصْرَتِهِ لَهُ وَلَمْ يَبْطُلْ بِسَبَبِ الْكُفْرِ وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ الْعَذَابَ يُخَفَّفُ عَنْ أَبِي لَهَبٍ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ بِذَبْحِهِ نَسِيكَةً اسْتِبْشَارًا بِمَوْلِدِ النَّبِيِّ عليه السلام وَكَانَ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ فَلَمَّا صَلَحَ مِثْلُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ مَعَ الْكُفْرِ سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ فِي الْآخِرَةِ لَأَنْ يَصْلُحَ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ سَهْمِ الْغَنِيمَةِ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَانَ أَوْلَى.

قَوْلُهُ (وَلِيَكُونَ) عُطِفَ عَلَى الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ أَيْ جَعَلْنَا النُّصْرَةَ عِلَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ دُونَ الْقَرَابَةِ لِكَذَا وَلِيَكُونَ جَعَلْنَا النُّصْرَةَ عِلَّةَ صِيَانَةٍ لِقَرَابَةِ الرَّسُولِ عَنْ أَعْوَاضِ الدُّنْيَا أَصْلًا؛ لِأَنَّ دَرَجَةَ قَرَابَتِهِ أَعْلَى مِنْ أَنْ تُجْعَلَ عِلَّةً لِاسْتِحْقَاقِ شَيْءٍ مِنْ الدُّنْيَا وَلِهَذَا صَارَتْ سَبَبًا لِلْحِرْمَانِ عَنْ الزَّكَاةِ وَلَمْ تَصْلُحْ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ حَتَّى لَمْ يَرِثْ أَقْرِبَاءُ الرَّسُولِ عليه السلام عَنْهُ فَثَبَتَ أَنَّ جَعْلَ النُّصْرَةِ عِلَّةً أَوْلَى قَوْلُهُ (وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ النُّصْرَةُ وَصْفًا يَتِمُّ بِهَا الْقَرَابَةُ عِلَّةً) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَمَّا قَالَ الْخَصْمُ أَنَا لَا أَهْدِرُ وَصْفَ النُّصْرَةِ وَلَكِنْ أَجْعَلُ الْقَرَابَةَ عِلَّةً كَمَا اقْتَضَاهُ النَّصُّ وَأَجْعَلُ النُّصْرَةَ وَصْفًا يَتِمُّ بِهَا الْقَرَابَةُ عِلَّةً وَيَتَرَجَّحُ بِهَا عَلَى الْقَرَابَةِ الَّتِي لَمْ يُوجَدْ فِيهَا وَصْفُ النُّصْرَةِ كَالْعَدَالَةِ فِي الشَّاهِدِ وَالنَّمَاءِ فِي النِّصَابِ وَالتَّأْثِيرِ فِي الْوَصْفِ الْمُلَائِمِ فَإِنَّ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ تَتِمُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ عِلَّةً تَتَرَجَّحُ عَلَى مَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ هَذِهِ الْأَوْصَافُ وَلِهَذَا أَعْطَيْنَا بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَ غَيْرِهِمْ لِوُجُودِ هَذَا الْوَصْفِ فِي قَرَابَتِهِمْ دُونَ قَرَابَةٍ مِنْ سِوَاهُمْ.

فَقَالَ الشَّيْخُ رحمه الله: لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ النُّصْرَةَ وَصْفًا مُتَمِّمًا لِلْقَرَابَةِ عِلَّةً وَمُرَجِّحًا لَهَا لِمَا مَرَّ أَنَّ مَا يَصْلُحُ عِلَّةً بِنَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ وَالنُّصْرَةُ بِنَفْسِهَا تَصْلُحُ عِلَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ كَمَا فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ فَلَا يَصْلُحُ وَصْفًا مُرَجِّحًا لِلْقَرَابَةِ؛ لِأَنَّهَا أَيْ وَلِأَنَّ النُّصْرَةَ تُخَالِفُ جِنْسَ الْقَرَابَةِ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ ذَاتٌ لَيْسَ فِيهَا صُنْعٌ لِأَحَدٍ وَالنُّصْرَةُ فِعْلٌ مِنْ جِنْسِ الطَّاعَاتِ فِي الْأَصْلِ.

وَأَثَرُهُمَا مُخْتَلِفٌ أَيْضًا فَإِنَّ الْقَرَابَةَ سَبَبٌ لِإِيجَابِ الصِّلَةِ فِي مَالِ الْقَرِيبِ دُونَ غَيْرِهِ وَالنُّصْرَةُ سَبَبٌ لِإِيجَابِ الصِّلَةِ فِي مَالِ الْغَيْرِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَصْلُحْ النُّصْرَةُ وَصْفًا لِلْقَرَابَةِ لِتَتَرَجَّحَ الْقَرَابَةُ بِهِ كَمَا فِي ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ أَوْ زَوْجٌ لَا يَصْلُحُ الزَّوْجِيَّةُ أَوْ الْأُخُوَّةُ وَصْفًا مُرَجِّحًا لِقَرَابَةِ الْعُمُومَةِ لِلِاخْتِلَافِ بِخِلَافِ أَخَوَيْنِ لِأَبٍ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ حَيْثُ يَصْلُحُ الْأُخُوَّةُ لِأُمٍّ وَصْفًا مُرَجِّحًا لِلْإِخْوَةِ لِأَبٍ لِاتِّحَادِ جِنْسِ الْقَرَابَةِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ عَلَى أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ النُّصْرَةَ تَصْلُحُ مُرَجِّحَةً لِلْقَرَابَةِ فَإِنَّمَا تَصْلُحُ فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ عليه السلام لَا بَعْدَ وَفَاتِهِ لِفَوَاتِ هَذَا الْوَصْفِ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَكَانَتْ الْقَرَابَةُ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ عليه السلام بِمَنْزِلَةِ نِصَابٍ لَمْ يَبْقَ نَمَاؤُهُ وَبِمَنْزِلَةِ شَاهِدٍ لَمْ تَبْقَ عَدَالَتُهُ فَسَارَتْ قَرَابَةُ بَنِي نَوْفَلٍ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تُجْعَلَ النُّصْرَةُ وَصْفًا لِلْقَرَابَةِ نَجْعَلُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عِلَّةً عَلَى حِدَةٍ فَإِنَّ الْحُكْمَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّلًا بِعِلَّتَيْنِ.

قُلْنَا: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ بِانْفِرَادِهَا لَا تَصْلُحُ عِلَّةً بِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّ بَنِي نَوْفَلٍ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ لَا يَسْتَحِقُّونَ شَيْئًا وَإِذَا لَمْ تَصْلُحْ الْقَرَابَةُ عِلَّةً وَلَمْ يَصْلُحْ النُّصْرَةُ وَصْفًا لَهَا كَانَتْ الْعِلَّةُ هِيَ النُّصْرَةَ لَا غَيْرُ كَمَا بَيَّنَّا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَدًّا لِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ

ص: 145

وَعَلَى مَسَائِلِ أَصْحَابِنَا رحمهم الله فِي أَنَّ الْغَنِيمَةَ تُمْلَكُ عِنْدَ تَمَامِ الْجِهَادِ حُكْمًا بِالْأَخْذِ مَقْصُودًا وَيُبْتَنَى عَلَيْهِ مَسَائِلُ لَا تُحْصَى.

ــ

[كشف الأسرار]

بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْقُرْبَى وَحَقِيقَتِهَا لِلْقَرَابَةِ وَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالنُّصْرَةِ فَصَارَ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِعِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا تَابِعًا لِلْآخَرِ وَقَدْ عُدِمَ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ وَهُوَ النُّصْرَةُ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ عليه السلام فَلَا يَبْقَى الْحُكْمُ كَمَا أَنَّهُ لَمَّا عُدِمَ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ فِي حَقِّ بَنِي نَوْفَلٍ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ فِي حَيَاتِهِ لَمْ يَثْبُتْ الِاسْتِحْقَاقُ فَبَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِمَنْزِلَةِ بَنِي نَوْفَلٍ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ فِي حَيَاتِهِ.

فَقَالَ: لَمَّا صَلَحَتْ النُّصْرَةُ عِلَّةً بِنَفْسِهَا لِمَا بَيَّنَّا لَا يَصْلُحُ قَرِينَةً لِلْقَرَابَةِ مُتَمِّمَةً لِكَوْنِهَا عِلَّةً لِمَا سَبَقَ أَنَّ مَا يَصْلُحُ عِلَّةً بِنَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ تَابِعًا لِعِلَّةٍ أُخْرَى فَلَأَنْ لَا يَصْلُحَ جُزْءَ الْعِلَّةِ أَوْلَى كَانَ؛ لِأَنَّ فِي جُزْءِ الْعِلَّةِ إبْطَالَ كَوْنِهِ عِلَّةً وَلَيْسَ فِي التَّرْجِيحِ بِهِ ذَلِكَ وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَلِأَنَّهَا يُخَالِفُ جِنْسَ الْقَرَابَةِ فَلَمْ يَصْلُحْ وَصْفًا لَا يُلَائِمُ هَذَا الْوَجْهَ.

وَأَمَّا تَمَسُّكُ الْخَصْمِ بِخَبَرِ التَّعْوِيضِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الصَّدَقَةِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ لِكَرَامَتِهِمْ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا عَلَيْهِمْ نُقْصَانٌ يَحْتَاجُ إلَى جَبْرِهِ بِالتَّعْوِيضِ وَلَوْ كَانَ هَذَا السَّهْمُ ثَبَتَ لَهُمْ عِوَضًا عَنْ حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَحِقَّ مَنْ يَسْتَحِقُّ الصَّدَقَةَ لَوْلَا قَرَابَةُ الرَّسُولِ عليه السلام وَهُمْ الْفُقَرَاءُ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْتَحِقَّهُ بَنُو الْمُطَّلِبِ لِعَدَمِ الْحُرْمَةِ فِي حَقِّهِمْ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يُرِدْ بِهِ حَقِيقَةَ التَّعْوِيضِ عَنْ الصَّدَقَةِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ تَطْيِيبَ قُلُوبِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنْ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الصَّدَقَةَ كَرَامَةً فَقَدْ أَعْطَاكُمْ مَالًا آخَرَ أَطْيَبَ مِنْهُ إلَّا أَنَّهُ عليه السلام سَمَّاهُ تَعْوِيضًا مَجَازًا بِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ فَقَدْ ذَهَبَ مَالٌ وَحَضَرَ آخَرُ كَمَا سُمِّيَ بَيْعُ الْحُرِّ بَيْعًا بِحُكْمِ الصُّورَةِ عَلَى أَنَّ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا الِاسْتِحْقَاقُ فِي حَقِّ مَنْ ثَبَتَ التَّعْوِيضُ فِي حَقِّهِمْ وَهُمْ الْفُقَرَاءُ بَاقٍ وَالْخِلَافُ فِي الْأَغْنِيَاءِ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إنَّ حَدِيثَ التَّعْوِيضِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَهُمْ هَذَا السَّهْمَ عَلَى نَحْوِ اسْتِحْقَاقِ الصَّدَقَةِ لَوْلَا الْقَرَابَةُ وَاسْتِحْقَاقُهُمْ لِلصَّدَقَةِ لَوْلَا الْقَرَابَةُ كَانَ عَلَى وَجْهِ جَوَازِ الصَّرْفِ إلَيْهِمْ لَا وُجُوبِ الصَّرْفِ إلَيْهِمْ فَكَذَلِكَ هَذَا السَّهْمُ وَنَحْنُ نُجَوِّزُ صَرْفَ بَعْضِ الْخُمُسِ إلَيْهِمْ وَإِنَّمَا نُنْكِرُ وُجُوبَ الصَّرْفِ إلَيْهِمْ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا مُتَمَسَّكَ لِلْخَصْمِ فِي حَدِيثِ التَّعْوِيضِ وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْأَسْرَارِ أَنَّ مُحَمَّدًا رحمه الله احْتَجَّ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا رضي الله عنهم قَسَّمُوا الْخُمُسَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ وَلَا مُعَدَّلَ عَنْ إجْمَاعِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ غَيْرِ إنْكَارِ أَحَدٍ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا مَسَائِلُ أَصْحَابِنَا) أَيْ عَلَى أَنَّ الْغَنَائِمَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ لِابْتِنَائِهَا عَلَى الْجِهَادِ الَّذِي هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ بُنِيَتْ مَسَائِلُ أَصْحَابِنَا فِي أَنَّ الْغَنِيمَةَ تُمْلَكُ عِنْدَ تَمَامِ الْجِهَادِ حُكْمًا يَعْنِي يُبْتَنَى عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْغَنِيمَةَ تُمْلَكُ عِنْدَ تَمَامِ الْجِهَادِ حُكْمًا وَذَلِكَ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ.

وَيُبْتَنَى عَلَى أَنَّ الْغَنِيمَةَ تُمْلَكُ بِكَذَا مَسَائِلُ أَصْحَابِنَا فَكَانَتْ الْمَسَائِلُ مَبْنِيَّةً عَلَى الْأَصْلِ الْأَوَّلِ بِوَاسِطَةِ الْأَصْلِ الثَّانِي وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْغَنَائِمِ لَا يَتِمُّ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله يَتِمُّ بِنَفْسِ الْأَخْذِ إذَا اسْتَقَرَّتْ الْهَزِيمَةُ وَمِمَّا يَبْتَنِي عَلَيْهِ أَنَّ قِسْمَةَ الْغَنَائِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا تَجُوزُ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ وَإِنْ وَاحِدًا مِنْ الْغَانِمِينَ لَوْ مَاتَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْهَزِيمَة قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يُوَرِّثْ نَصِيبَهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ وَإِنَّ الْمَدَدَ إذَا لَحِقَ الْجَيْشَ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ قَرَارِ الْهَزِيمَةِ شَارَكُوهُمْ فِي الْغَنَائِمِ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ وَإِنَّ الْإِمَامَ إذَا نَقَلَ جَارِيَةً لَمْ يَحِلَّ

ص: 146

وَأَمَّا الزَّوَائِدُ فَالنَّوَافِلُ كُلُّهَا وَالسُّنَنُ وَالْآدَابُ. .

وَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ الْكَامِلَةُ فَمِثْلُ الْحُدُودِ وَأَمَّا الْقَاصِرَةُ فَنُسَمِّيهَا أَجْزِيَةً.

ــ

[كشف الأسرار]

لِلْمُنْقِلِ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا مَا لَمْ يُحْرِزْهَا بِدَارِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رحمهم الله وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَيَبْتَنِي عَلَيْهِ مَسَائِلُ لَا تُحْصَى أَيْ كَثِيرَةٌ هُوَ يَقُولُ: الِاسْتِيلَاءُ سَبَبُ الْمِلْكِ فِي الْمَالِ الْمُبَاحِ بِلَا خِلَافٍ وَالْعَاصِمُ مَفْقُودٌ فِي أَمْوَالِهِمْ وَقَدْ سَلَّطْنَا الشَّرْعَ عَلَى تَمَلُّكِ مَا فِي أَيْدِيهمْ فَكَانَتْ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَقَدْ تَمَّ الِاسْتِيلَاءُ بِكَوْنِ الْمَحَلِّ فِي يَدِ الْمُسْلِمِينَ حِسًّا وَعِيَانًا وَكَوْنُهُمْ فِي دَارِهِمْ لَا يَمْنَعُ كَوْنَ الشَّيْءِ فِي يَدِ الْمُسْتَوْلِي الْمُتَصَرِّفِ فِيهِ حِسًّا وَحَقِيقَةً.

وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّا حَكَمْنَا بِزَوَالِ مِلْكِهِمْ عَنْ الْغَنَائِمِ وَمَتَى لَمْ تَمْنَعْ الدَّارُ زَوَالَ مِلْكِهِمْ لَمْ تَمْنَعْ تَمَامَ الِاسْتِيلَاءِ وَأَنَّا نَقُولُ: تَمَلُّكُ الْغَنَائِمِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ تَمَلُّكِ الْمُبَاحَاتِ فَإِنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى وُجُوبِ الْخُمُسِ وَثُبُوتِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُبَاشِرِ وَالرَّدْءِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعَرُّفِ عَنْ سَبَبِهِ فَنَقُولُ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْوَضْعِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الْجِهَادِ وَاقِعًا لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِتَمَلُّكِ مَالٍ؛ لِأَنَّهُ يَتَرَدَّدُ حِينَئِذٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً وَاقِعَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِتَمَلُّكِ الْمَالِ كَالْبَيْعِ فَيَتَحَقَّقُ فِي الْفِعْلِ مَعْنَى الشَّرِكَةِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَيَجِبُ تَجْرِيدُ الْفِعْلِ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ مَشْرُوعًا لِقَهْرِ الْكُفَّارِ وَإِعْلَاءِ الدِّينِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ وَالِانْتِزَاعُ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَاقِعٌ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ لِأَعْدَائِهِ، ثُمَّ أَنَّهُ جل جلاله جَعَلَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ جُزْءًا مُعَجَّلًا لِلْمُجَاهِدِ فَكَانَ الْجِهَادُ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ مِنْ حَيْثُ الْجَزَاءُ وَالثَّوَابُ لَا بِاعْتِبَارِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} [آل عمران: 148] وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَغَانِمُ وَفِعْلُ الْجِهَادِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِقَهْرِ جَمِيعِ أَهْلِ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُمْ انْتَصَبُوا لِلذَّبِّ عَمَّا يَعْتَقِدُونَ فَصَارُوا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا بُدَّ مِنْ اتِّصَالِ الْقَهْرِ بِالْكُلِّ بِأَقْصَى مَا يُتَصَوَّرُ وَمَعْنَى الْقَهْرِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا إذَا لَزِمَ بِحَيْثُ عَجَزُوا عَنْ دَفْعِهِ وَمُقَاوَمَتِهِ، ثُمَّ أُخِذَ الْمَالُ وَإِنْ وَقَعَ مِنَّا عَلَى سَبِيلِ الْمُغَالَبَةِ لَكِنْ مَا دَامُوا يَقْدِرُونَ عَلَى الِانْتِقَامِ مِنَّا لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْقَهْرِ وَمَتَى وُجِدَ الْإِحْرَازُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ فَقَدْ عَجَزُوا عَنْ الدَّفْعِ فَلَزِمَ الْقَهْرُ فِي حَقِّ الْكُلِّ فَتَمَّ الْجِهَادُ بِأَقْصَى مَا يُمْكِنُ فَيَسْتَحِقُّهُ جَزَاءً عَلَيْهِ.

فَهَذَا بَيَانُ بِنَاءِ هَذَا الْأَصْلِ وَهُوَ أَنَّ الْغَنِيمَةَ تَمَلُّكٌ عَنْ تَمَامِ الْجِهَادِ حُكْمًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْغَنَائِمِ ثَبَتَ عَلَى سَبِيلِ الْجَزَاءِ عَلَى الْجِهَادِ وَأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ عَلَى الْمَالِ وَأَخْذَهُ عَمَلٌ لِلَّهِ عز وجل فَعُرِفَ بِهِ وَجْهُ التَّمْشِيَةِ فِي الْمَسَائِلِ وَعُرِفَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي وُقُوعِ الِاسْتِيلَاءِ تَامًّا وَغَيْرَ تَامٍّ مُسْتَغْنًى عَنْهُ وَقَوْلُهُ إنَّا حَكَمْنَا بِزَوَالِ مِلْكِهِمْ قُلْنَا نَحْنُ: إنَّمَا نُثْبِتُ الْمِلْكَ لَهُمْ بِاعْتِبَارِ وُقُوعِ الشَّيْءِ فِي تَصَرُّفِهِمْ حَقِيقَةً فَأَمَّا فِي التَّحْقِيقِ فَلَا مِلْكَ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَرِقَّاءُ بِمَنْزِلَةِ الْأَمْوَاتِ فِي حَقِّنَا عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا كَذَا ذَكَّرَنَا الشَّيْخُ أَبُو الْفَضْلِ فِي إشَارَاتِ الْأَسْرَارِ.

قَوْلُهُ (وَأَمَّا الزَّوَائِدُ) وَهِيَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَقْسَامِ الْعِبَادَاتِ فَنَوَافِلُ الْعِبَادَاتِ كُلُّهَا وَسُنَنُهَا وَآدَابُهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ بَلْ شُرِعَتْ مُكَمِّلَاتٍ لِلْفَرَائِضِ زِيَادَةً عَلَيْهَا فَلَمْ تَكُنْ مَقْصُودَةً.

وَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ الْكَامِلَةُ أَيْ الْمَحْضَةُ التَّامَّةُ فِي كَوْنِهَا عُقُوبَةً فَمِثْلُ الْحُدُودِ نَحْوُ حَدِّ الزِّنَا وَحَدِّ السَّرِقَةِ وَحَدِّ الشُّرْبِ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِجِنَايَاتٍ كَامِلَةٍ لَا يَشُوبُهَا مَعْنَى الْإِبَاحَةِ فَاقْتَضَى كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ لَهَا عُقُوبَةٌ زَاجِرَةٌ عَنْ ارْتِكَابِهَا حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ وَعَنْ الْمُبَرِّدِ أَنَّهَا إنَّمَا سُمِّيَتْ عُقُوبَةً؛ لِأَنَّهَا يَتْلُو الذَّنْبَ مِنْ عَقَبَهُ يَعْقُبُهُ إذَا تَبِعَهُ وَأَمَّا الْقَاصِرَةُ أَيْ الْعُقُوبَاتُ الْقَاصِرَةُ فَنُسَمِّيهَا أَجْزِئَةً.

فَرْقًا بَيْنَ مَا هُوَ كَامِلٌ وَقَاصِرٌ وَالْجَزَاءُ لَفْظٌ يُطْلَقُ عَلَى مَا هُوَ عُقُوبَةٌ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] وَعَلَى.

ص: 147

مِثْلَ حِرْمَانِ الْمِيرَاثِ بِالْقَتْلِ وَلِذَلِكَ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوصَفُ بِالتَّقْصِيرِ بِخِلَافِ الْخَاطِئِ الْبَالِغِ؛ لِأَنَّهُ مُقَصِّرٌ فَلَزِمَهُ الْجُزْءُ الْقَاصِرُ وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْكَامِلُ وَالصَّبِيُّ غَيْرُ مُقَصِّرٍ فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْقَاصِرُ وَلَا الْكَامِلُ.

ــ

[كشف الأسرار]

مَا هُوَ مَثُوبَةٌ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] فَلِقُصُورِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ سُمِّيَتْ أَجْزِئَةً إذْ مُطْلَقُ اسْمِ الْعُقُوبَةِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْكَامِلِ مِنْهَا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَمْعِ الْوَاحِدُ إذْ لَيْسَ فِي هَذَا النَّوْعِ إلَّا هَذَا الْمِثَالُ وَيَجُوزُ أَنْ يُلْحَقَ حِرْمَانُ الْوَصِيَّةِ بِالْقَتْلِ وَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِيهَا قَاصِرٌ هَذَا الْقِسْمُ فَيُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى حَمْلِهِ عَلَى الْوَاحِدِ مِثْلُ حِرْمَانِ الْإِرْثِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هِيَ مِثْلُ حِرْمَانِ الْإِرْثِ وَلَوْ قِيلَ وَأَمَّا الْقَاصِرَةُ وَنُسَمِّيهَا أَجْزِئَةً فَمِثْلُ حِرْمَانِ الْإِرْثِ لَكَانَ أَحْسَنَ وَأَوْفَقَ لِمَا تَقَدَّمَ وَأَكْثَرَ مُطَابَقَةً لِلْمَقْصُودِ وَمَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِي الْحِرْمَانِ مَعَ وُجُودِ عِلَّةِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهِيَ الْقَرَابَةُ ظَاهِرٌ فَإِنَّهُ غُرْمٌ لَحِقَ الْقَاتِلَ بِجِنَايَتِهِ وَفِي الْغُرْمِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَلِأَنَّ مَا يَجِبُ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّعَدِّي يَجِبُ لِمَنْ وَقَعَ التَّعَدِّي عَلَيْهِ لَا لِغَيْرِهِ وَلَيْسَ فِي حِرْمَانِ الْإِرْثِ نَفْعٌ عَائِدٌ إلَى الْمَقْتُولِ الْمُتَعَدَّى عَلَيْهِ فَثَبَتَ أَنَّهُ وَجَبَ جَزَاءً لِلَّهِ تَعَالَى زَاجِرًا عَنْ ارْتِكَابِ مَا حَرَّمَهُ كَالْحُدُودِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَجِبُ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى ضَرُورَةً وَمَعْنَى الْقُصُورِ فِيهِ أَنَّهُ عُقُوبَةٌ مَالِيَّةٌ لَا يَتَّصِلُ بِسَبَبِهِ أَلَمٌ بِظَاهِرِ بَدَنِهِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ وَكَذَا لَا يَلْحَقُهُ نُقْصَانٌ فِي مَالِهِ بَلْ يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ مِلْكٍ لَهُ فِي تَرِكَةِ الْمَقْتُولِ فَكَانَ عُقُوبَةً قَاصِرَةً.

وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِكَوْنِ الْحِرْمَانِ عُقُوبَةً لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ حَتَّى لَوْ قَتَلَ مُوَرِّثَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً لَا يُحْرَمُ عَنْ الْمِيرَاثِ عِنْدَنَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يُحْرَمُ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَتْلِ بِقَوْلِهِ عليه السلام «لَا مِيرَاثَ لِقَاتِلٍ» وَالصَّبِيُّ مِثْلُ الْبَالِغِ فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَفْعَالِ وَمَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِيهِ غَيْرُ لَازِمٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْخَاطِئِ وَالْخَطَاءُ يَنْفِي الْعُقُوبَةَ كَالصَّبِيِّ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَمْكَنَ إيجَابُهُ عَلَى الصَّبِيِّ وَإِنْ عَقَلَ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِيهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا لُزُومَ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِيهِ فَالصِّبَا لَا يُنَافِي الْعُقُوبَةَ الْمَالِيَّةَ كَالْخَرَاجِ؛ لِأَنَّ مَالَهُ كَامِلٌ بِخِلَافِ الْعُقُوبَةِ الْبَدَنِيَّةِ؛ لِأَنَّ بَدَنَهُ نَاقِصٌ وَنَحْنُ نَقُولُ: الْحِرْمَانُ عُقُوبَةٌ ثَبَتَتْ جَزَاءً عَلَى ارْتِكَابِ الْقَتْلِ الْمَحْظُورِ فِي نَفْسِهِ فَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ كَمَا لَا يَثْبُتُ جَزَاءُ الشُّرْبِ وَالزِّنَا.

وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْجَزَاءِ قَاصِرًا كَانَ أَوْ كَامِلًا يَسْتَدْعِي حَظْرَ الْإِحَالَةِ وَالْحَظْرُ يَثْبُتُ بِالْخِطَابِ وَلَا خِطَابَ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ فَلَا يُوصَفُ فِعْلُهُ بِالْحَظْرِ وَلَا بِالتَّقْصِيرِ أَصْلًا فَلَا يُمْكِنُ تَعْلِيقُ الْجَزَاءِ بِهِ بِخِلَافِ الْخَاطِئِ إذَا كَانَ بَالِغًا عَاقِلًا؛ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ إذْ الْخَطَأُ جَائِزُ الْمُؤَاخَذَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَقَعُ إلَّا عَنْ تَقْصِيرٍ مِنْهُ فَكَانَ الْخِطَابُ مُتَوَجِّهًا عَلَيْهِ فِي التَّثَبُّتِ فِيهِ وَالْغُرْمِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ تَعْلِيمًا {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] غَيْرَ أَنَّهُ تَعَالَى رَفَعَ حُكْمَ الْخَطَاءِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ تَفَضُّلًا مِنْهُ وَلَمْ يَرْفَعْ فِي الْقَتْلِ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الدَّمِ فَعَلَّقَ بِهِ الدِّيَةَ وَالْكَفَّارَةَ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الْجَزَاءُ الْقَاصِرُ وَهُوَ الْحِرْمَانُ لِلْقَصِيرِ فِي التَّثَبُّتِ كَمَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْكَفَّارَةُ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَزَاءُ الْكَامِلُ وَهُوَ الْقِصَاصُ لِعُذْرِ الْخَطَاءِ فَأَمَّا الصِّبَا فَيُنَافِي الْخِطَابَ أَصْلًا لِقُصُورِ الْآلَةِ فَلَا يُوصَفُ فِعْلُ الصَّبِيِّ بِالتَّقْصِيرِ الْكَامِلِ وَالنَّاقِصِ فَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ الْعُقُوبَةُ الْكَامِلَةُ وَالْقَاصِرَةُ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مَا إذَا ارْتَدَّ الصَّبِيُّ حَيْثُ يُحْرَمُ عَنْ الْمِيرَاثِ مَعَ أَنَّهُ لَا تَعَاقُبَ عَلَى الرِّدَّةِ؛ لِأَنَّ الْحِرْمَانَ لَيْسَ بِجَزَاءِ الرِّدَّةِ فَإِنَّ الرِّدَّةَ تَبْدِيلُ الدِّينِ وَلَوْ أَسْلَمَ يُحْرَمُ عَنْ مِيرَاثِ أَبِيهِ الْكَافِرِ وَهُوَ تَبْدِيلٌ مَأْمُورٌ بِهِ وَلَوْ كَانَ جَزَاءً لَمْ يَثْبُتْ بِالْحَلَالِ فَعُرِفَ أَنَّ الْحِرْمَانَ بِسَبَبٍ آخَرَ تَحْتَ اخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ وَهُوَ انْقِطَاعُ الْوِلَايَةِ الثَّابِتَةِ بِالْقَرَابَةِ كَانْقِطَاعِهَا بِالرِّقِّ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ.

ص: 148

وَحَافِرُ الْبِئْرِ وَوَاضِعُ الْحَجَرِ وَالْقَائِدُ وَالسَّائِقُ وَالشَّاهِدُ إذَا رَجَعَ لَمْ يَلْزَمْهُمْ الْحِرْمَانُ؛ لِأَنَّهُ جَزَاءُ الْمُبَاشَرَةِ فَلَا يَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الشَّرْطِ أَبَدًا كَالْقِصَاصِ. .

وَالْحُقُوقُ الدَّائِرَةُ هِيَ الْكَفَّارَةُ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي الْأَدَاءِ وَفِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ حَتَّى لَمْ يَجِبْ مُبْتَدَأَةً.

ــ

[كشف الأسرار]

وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْأَوْزَاعِيُّ إلَى أَنَّ الْحِرْمَانَ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْخَاطِئِ إلَّا فِي الدِّيَةِ وَكَذَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَعِنْدَ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ لَا يَحْرُمُ مِنْ الدِّيَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ حِرْمَانَ الْمِيرَاثِ شُرِعَ عُقُوبَةً عَلَى قَصْدِهِ اسْتِعْجَالَ الْمِيرَاثِ قَبْلَ أَوَانِهِ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْمُخْطِئِ فَإِنَّهُ قَصَدَ قَتْلَ الصَّيْدِ لَا قَتْلَ مُوَرِّثِهِ كَمَا لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ إلَّا أَنَّا لَمْ نُوَرِّثْهُ مِنْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهِ وَتَتَحَمَّلُ عَنْهُ الْعَاقِلَةُ فَلَوْ وَرَّثْنَاهُ مِنْهَا، لَكُنَّا أَوْجَبْنَا الدِّيَةَ عَلَيْهِ لَهُ وَهُوَ فَاسِدٌ، لَكِنَّ الْجَوَابَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ جَزَاءُ الْقَتْلِ الْمَحْظُورِ وَالْقَتْلُ مِنْ الْخَاطِئِ مَعَ أَنَّ الْخَطَأَ عُذْرٌ شَرْعًا مَحْظُورٌ وَلِهَذَا تَعَلَّقَ بِهِ الْكَفَّارَةُ وَهِيَ سَتَّارَةٌ لِلذَّنْبِ فَمَا جَازَ مَعَ كَوْنِ الْخَطَأِ عُذْرًا أَنْ يُؤَاخَذَ بِالْكَفَّارَةِ جَازَ أَنْ يُؤَاخَذَ بِحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ وَقَدْ تَأَيَّدَ مَا ذَكَرْنَا بِآثَارِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا رَمَى رَجُلًا بِحَجَرٍ فَأَصَابَ أُمَّهُ خَطَأً فَقَتَلَهَا فَغَرَّمَهُ عَلِيٌّ رضي الله عنه الدِّيَةَ وَنَفَاهُ مِنْ الْمِيرَاثِ.

وَقَالَ لِلْقَاتِلِ: إنَّمَا حَظُّك مِنْ مِيرَاثِهَا الْحَجْرُ وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ أَخَاهُ خَطَأً فَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ مِيرَاثًا وَرُوِيَ أَنَّ عَرْفَجَةَ الْمُدْلِجِيَّ قَذَفَ ابْنَهُ بِالسَّيْفِ فَأَصَابَ رِجْلَيْهِ بِغَيْرِ قَصْدِهِ وَمَاتَ فَغَرَّمَهُ عُمَرُ رضي الله عنه الدِّيَةَ مُغَلَّظَةً وَنَفَاهُ مِنْ مِيرَاثِهِ وَجَعَلَ مِيرَاثَهُ لِأُمِّهِ وَأَخِيهِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ خِلَافُ ذَلِكَ يَحِلُّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ قَوْلُهُ (وَحَافِرُ الْبِئْرِ) يَعْنِي إذَا حَصَلَ الْقَتْلُ بِمُبَاشَرَةِ الشَّرْطِ أَوْ بِطَرِيقِ التَّسْبِيبِ بِأَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَوَقَعَ فِيهَا مُوَرِّثُهُ فَهَلَكَ أَوْ وَضَعَ حَجَرًا عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَمَاتَ بِهِ مُوَرِّثَةُ أَوْ أَخْرَجَ ظُلَّةً أَوْ جُنَاحًا فَسَقَطَ عَلَى مُوَرِّثِهِ فَقَتَلَهُ أَوْ قَادَ دَابَّةً فَوَطِئَتْ مُوَرِّثَهُ فَمَاتَ أَوْ شَهِدَ عَلَى مُوَرَّثِهِ بِقَتْلٍ فَقُتِلَ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ شَهَادَةٍ لَا يَثْبُتُ الْحِرْمَانُ عِنْدَنَا.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله يَثْبُتُ؛ لِأَنَّهُ قَتْلٌ بِغَيْرِ حَقٍّ كَالْقَتْلِ خَطَأً وَلِهَذَا وَجَبَتْ فِيهِ الدِّيَةُ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقُلْنَا: الْحِرْمَانُ ثَبَتَ عُقُوبَةً عَلَى مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ الْمَحْظُورِ فَإِنَّهُ عليه السلام قَالَ «لَا مِيرَاثَ لِقَاتِلٍ» بَعْدَ صَاحِبِ الْبَقَرَةِ رَتَّبَ الْحُكْمَ عَلَى الْقَتْلِ وَهَذَا لَيْسَ بِقَتْلٍ بَلْ هُوَ مُبَاشَرَةُ شَرْطِ الْقَتْلِ أَوْ تَسْبِيبٌ لَهُ فَلَا يَسْتَقِيمُ إثْبَاتُ مَا شُرِعَ عُقُوبَةً فِي الْقَتْلِ فِيمَا دُونَهُ بِالْقِيَاسِ فَأَمَّا الدِّيَةُ فَلَمْ تَجِبْ بِطَرِيقِ الْجَزَاءِ إنَّمَا هِيَ بَدَلُ الْمَحَلِّ وَتَلَفُ الْمَحَلِّ بِالْمُبَاشَرَةِ وَالتَّسْبِيبِ عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ فَلَا يَمْتَنِعُ وُجُوبُهَا بِالتَّسْبِيبِ أَمَّا فِعْلُ الْمُسَبَّبِ فَلَيْسَ كَفِعْلِ الْمُبَاشِرِ فَلَا يُجَازَى بِمَا يُجَازَى بِهِ الْمُبَاشِرُ.

أَلَا تَرَى أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلَا يَثْبُتُ الْحِرْمَانُ فِي حَقِّهِمْ، ثُمَّ قِيلَ: حَدُّ الْمُبَاشَرَةِ أَنْ يَتَّصِلَ فِعْلُ الْإِنْسَانِ بِغَيْرِهِ وَيَحْدُثَ مِنْهُ التَّلَفُ كَمَا لَوْ جَرَحَهُ أَوْ ضَرَبَهُ فَمَاتَ وَحَدُّ التَّسْبِيبِ أَنْ يَتَّصِلَ أَثَرُ فِعْلِهِ بِغَيْرِهِ لَا حَقِيقَةُ فِعْلِهِ فَيَتْلَفُ بِهِ كَمَا فِي حَفْرِ الْبِئْرِ فَإِنَّ الْمُتَّصِلَ بِالْوَاقِعِ أَثَرُ فِعْلِهِ وَهُوَ الْعُمْقُ فَإِنَّهُ تَلِفَ بِهِ لَا حَقِيقَةً فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ اتَّصَلَتْ بِالْمَكَانِ لَا بِالْوَاقِعِ فَلَا يَجِبُ أَيْ جَزَاءُ الْمُبَاشَرَةِ وَهُوَ الْحِرْمَانُ عَلَى صَاحِبِ الشَّرْطِ كَحَفْرِ الْبِئْرِ وَلَا عَلَى صَاحِبِ السَّبَبِ أَيْضًا كَالْبَاقِينَ إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ لَمْ يَذْكُرْ صَاحِبَ السَّبَبِ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ يُعْرَفُ مِنْ ذِكْرِ صَاحِبِ الشَّرْطِ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْحُكْمِ.

قَوْلُهُ (وَالْحُقُوقُ الدَّائِرَةُ) يَعْنِي بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ هِيَ الْكَفَّارَاتُ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي الْأَدَاءِ يَعْنِي أَنَّهَا يَتَأَدَّى بِمَا هُوَ عِبَادَةٌ كَالصَّوْمِ وَالْإِعْتَاقِ وَالصَّدَقَةِ فَكَانَ فِي أَدَائِهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَدَاءَهَا يَجِبُ بِطَرِيقِ الْعِبَادَةِ فَإِنَّهَا تَجِبُ بِطَرِيقِ الْفَتْوَى وَيُؤْمَرُ مَنْ عَلَيْهِ بِالْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ

ص: 149

وَجِهَةُ الْعِبَادَةِ فِيهَا غَالِبَةٌ عِنْدَنَا وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ جَزَاءُ الْفِعْلِ حَتَّى رَاعَيْنَا فِيهَا صِفَةَ الْفِعْلِ فَلَمْ نُوجِبْ عَلَى قَاتِلِ الْعَمْدِ وَصَاحِبِ الْغَمُوسِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِشَيْءٍ مِنْ الْإِبَاحَةِ وَقُلْنَا: لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسَبِّبِ الَّذِي قُلْنَا وَلَا عَلَى الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْأَجْزِيَةِ وَالشَّافِعِيُّ جَعَلَهَا ضَمَانَ الْمُتْلَفِ وَذَلِكَ غَلَطٌ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ الدِّيَةِ وَكَذَلِكَ الْكَفَّارَاتُ كُلُّهَا وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْكَافِرِ

ــ

[كشف الأسرار]

أَنْ تَسْتَوْفِيَ مِنْهُ خَبَرًا كَالْعِبَادَاتِ وَالشَّرْعُ لَمْ يُفَوِّضْ إلَى الْمُكَلَّفِ إقَامَةَ شَيْءٍ مِنْ الْعُقُوبَاتِ عَلَى نَفْسِهِ بَلْ هِيَ مُفَوَّضَةٌ إلَى الْأَئِمَّةِ وَتُسْتَوْفَى بِطَرِيقِ الْخَبَرِ فَكَانَ فِي أَدَائِهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ مَعَ أَنَّهَا تَتَأَدَّى بِمَا هُوَ مَحْضُ الْعِبَادَةِ وَفِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فَإِنَّهَا لَمْ تَجِبْ الْأَجْزِئَةُ عَلَى أَفْعَالٍ تُوجَدُ مِنْ الْعِبَادِ وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ كَفَّارَاتٍ؛ لِأَنَّهَا سَتَّارَاتٌ لِلذُّنُوبِ وَلَمْ تَجِبْ مُبْتَدَأَةً كَمَا تَجِبُ الْعِبَادَةُ بَلْ تَتَوَقَّفُ عَلَى أَسْبَابٍ تُوجَدُ مِنْ الْعَبْدِ فِيهَا مَعْنَى الْحَظْرِ فِي الْأَصْلِ كَالْعُقُوبَاتِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ فِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فَإِنَّ الْعُقُوبَةَ هِيَ الَّتِي تَجِبُ جَزَاءً عَلَى ارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْمَأْثَمَ بِهِ وَجِهَةُ الْعِبَادَةِ فِيهَا أَيْ فِي الْكَفَّارَاتِ غَالِبَةٌ عِنْدَنَا بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى أَصْحَاب الْأَعْذَارِ مِثْلِ الْخَاطِئِ وَالنَّاسِي وَالْمُكْرَهِ وَكَذَا الْمُحْرِمُ إذَا اُضْطُرَّ إلَى الِاصْطِيَادِ لِمَخْمَصَةٍ أَصَابَتْهُ أَوْ إلَى حَلْقِ الرَّأْسِ لِأَذًى بِهِ مِنْ رَأْسِهِ جَازَ لَهُ الِاصْطِيَادُ وَالْحَلْقُ وَتَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَلَوْ كَانَتْ جِهَةُ الْعُقُوبَةِ فِيهَا غَالِبَةً لَامْتَنَعَ وُجُوبُهَا بِسَبَبِ الْعُذْرِ إذْ الْمَعْذُورُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ وَكَذَا لَوْ كَانَتْ مُسَاوِيَةً؛ لِأَنَّ جِهَةَ الْعِبَادَةِ إنْ لَمْ تَمْنَعْ الْوُجُوبَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمَعْذُورِينَ فَجِهَةُ الْعُقُوبَةِ تَمْنَعُ ذَلِكَ وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْوُجُوبِ فَلَا يَثْبُتُ الْوُجُوبُ بِالشَّكِّ.

يَصِحُّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى مَنْ لَيْسَ بِجَانٍ فِي الْيَمِينِ وَلَا فِي الْحِنْثِ بِأَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا الْكَافِرَ فَإِنَّهُ فِي الْيَمِينِ لَيْسَ بِجَانٍ؛ لِأَنَّ هِجْرَانَ الْكَافِرِ وَتَرْكَ التَّكَلُّمِ مَعَهُ أَمْرٌ حَسَنٌ فَإِذَا أَسْلَمَ هَذَا الْكَافِرُ فَكَلَّمَهُ حَنِثَ وَهُوَ فِي الْحِنْثِ غَيْرُ جَانٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هِجْرَانَ الْمُؤْمِنِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَمَعَ ذَلِكَ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ فَعَرَفْنَا أَنَّ جِهَةَ الْعِبَادَةِ فِيهَا رَاجِحَةٌ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جِهَةُ الْعُقُوبَةِ فِيهَا رَاجِحَةً عِنْدَ الشَّافِعِيِّ حَيْثُ أَوْجَبَهَا عَلَى قَاتِلِ الْعَمْدِ وَصَاحِبِ الْغَمُوسِ فَلِذَلِكَ قُيِّدَ بِقَوْلِهِ عِنْدَنَا وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ أَيْ الْكَفَّارَةُ مَعَ أَنَّ جِهَةَ الْعِبَادَةِ فِيهَا غَالِبَةٌ جَزَاءَ الْفِعْلِ يَعْنِي جِهَةَ الْعُقُوبَةِ مَعَ كَوْنِهَا مَغْلُوبَةً فِيهَا مُعْتَبَرَةٌ غَيْرُ مُهْدَرَةٍ أَيْضًا حَتَّى رَاعَيْنَا أَيْ فِي إيجَابِهَا صِفَةَ الْفِعْلِ الَّذِي وَجَبَتْ هِيَ جَزَاءً عَلَيْهِ مِنْ كَوْنِهِ دَائِرًا بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ كَالْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالْقَتْلُ بِصِفَةِ الْخَطَأِ فَلَمْ تُوجَبْ الْكَفَّارَةُ عَلَى قَاتِلِ الْعَمْدِ وَصَاحِبِ الْغَمُوسِ لِخُلُوِّ فِعْلِهِمَا عَنْ مَعْنَى الْإِبَاحَةِ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِمَا هُوَ عِبَادَةٌ.

وَقُلْنَا: لَا تَجِبُ يَعْنِي كَفَّارَةَ الْقَتْلِ عَلَى الْمُسَبِّبِ الَّذِي قُلْنَا وَهُوَ حَافِرُ الْبِئْرِ وَوَاضِعُ الْحَجَرِ وَمَنْ بِمَعْنَاهُمَا وَلَا عَلَى الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْأَجْزِئَةِ فَتَقْتَضِي مُبَاشَرَةَ فِعْلٍ فِيهِ مَعْنَى الْحَظْرِ وَالْفِعْلُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمُسَبَّبِ أَصْلًا وَفِعْلُ الصَّبِيِّ لَا يُوصَفُ بِالْحَظْرِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَثْبُتُ بِالْخِطَابِ وَهُوَ مَعْدُومٌ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ وَالشَّافِعِيُّ رحمه الله جَعَلَهَا أَيْ كَفَّارَةَ الْقَتْلِ ضَمَانَ الْمُتْلَفِ كَالدِّيَةِ فَأَدَارَ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ عَلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ وَالْقِصَاصِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي الْمَحَلِّ حَقَّيْنِ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ الِاسْتِعْبَادُ وَحَقَّ الْعَبْدِ فَيُجْبَرُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى بِالْكَفَّارَةِ كَمَا يُجْبَرُ حَقُّ الْعَبْدِ بِالدِّيَةِ وَلِهَذَا جَمَعَ الشَّارِعُ بَيْنَهُمَا فَقَالَ.

{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وَهُوَ كَالصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ فِي الْحَرَمِ إذَا قَتَلَ تَجِبُ قِيمَةٌ لِمَالِكِهِ جَبْرًا لِحَقِّهِ وَقِيمَةٌ أُخْرَى لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ بِطَرِيقِ التَّسْبِيبِ أَوْ الْمُبَاشَرَةِ وَتَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ كَالدِّيَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إلَى جَمِيعِ الْكَفَّارَاتِ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ عِبَارَةُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ رحمه الله حَيْثُ قَالَ: وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هَذِهِ الْكَفَّارَاتُ وُجُوبُهَا بِطَرِيقِ الضَّمَانِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَجَبَتْ فِيهِ كَفَّارَةٌ حَقًّا ثَابِتًا لِصَاحِبِ الشَّرْعِ يَفُوتُ بِمُبَاشَرَةِ فِعْلٍ يُضَادُّهُ فَكَانَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ ضَمَانًا لِذَلِكَ الْحَقِّ الْفَائِتِ كَمَا أَنَّ وُجُوبَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ ضَمَانٌ لِنُقْصَانٍ تَمَكَّنَ فِي حَقِّهِ فِي الصَّلَاةِ.

ص: 150

مَا خَلَا كَفَّارَةَ الْفِطْرِ فَإِنَّهَا عُقُوبَةٌ وُجُوبًا وَعِبَادَةُ أَدَاءً حَتَّى سَقَطَ بِالشُّبْهَةِ عَلَى مِثَالِ الْحُدُودِ

ــ

[كشف الأسرار]

وَذَلِكَ أَيْ جَعْلُهَا ضَمَانَ الْمُتْلِفِ غَلَطٌ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ تَفْوِيتَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مَا أَوْجَبَ الضَّمَانَ عَلَى سَبِيلِ الْجَبْرِ إذْ النَّقْصُ لَا يَتَمَكَّنُ فِي حُقُوقِهِ مِنْ حَيْثُ يَسْتَدْعِي جَبْرًا؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَلْحَقَهُ جَبْرٌ أَنْ يَقَعَ الْحَاجَةُ إلَى جَبْرِهِ، لَكِنَّ تَفْوِيتَ حَقِّهِ يُوجِبُ ضَمَانًا هُوَ جَزَاءٌ فَيَكُونُ بِمُقَابَلَةِ الْفِعْلِ لَا بِمُقَابَلَةِ الْمَحَلِّ.

لِهَذَا تَعَدَّدَتْ الْكَفَّارَةُ بِتَعَدُّدِ الْأَفْعَالِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ كَالْجِنَايَةِ عَلَى الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ

بِخِلَافِ الدِّيَةِ فَإِنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْمَحَلِّ بِطَرِيقِ الْجَبْرِ وَلِهَذَا وَجَبَتْ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ الْجِنَايَةُ كَمَا فِي صَيْدِ الْحَرَمِ وَكَذَلِكَ الْكَفَّارَاتُ أَيْ وَمِثْلُ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ سَائِرُ الْكَفَّارَاتِ فِي أَنَّ جِهَةَ الْعِبَادَةِ فِيهَا رَاجِحَةٌ وَلِهَذَا أَيْ وَلِرُجْحَانِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهَا لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى الْكَافِرِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِوُجُوبِ الْعِبَادَةِ عَلَيْهِ وَهَذَا لَمْ يَصِحَّ ظِهَارُ الذِّمِّيِّ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِكَفَّارَةٍ صَارَتْ الْحُرْمَةُ فِي حَقِّهِ مُؤَبَّدَةً لَوْ صَحَّ ظِهَارُهُ وَهُوَ خِلَافُ مَشْرُوعِ الظِّهَارِ قَوْلُهُ (مَا خَلَا كَفَّارَةَ الْفِطْرِ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ وَجِهَةُ الْعِبَادَةِ فِيهَا غَالِبَةٌ وَأَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ وَكَذَلِكَ الْكَفَّارَاتُ كُلُّهَا يَعْنِي جِهَةُ الْعِبَادَةِ فِي الْكَفَّارَاتِ رَاجِحَةٌ عَلَى جِهَةِ الْعُقُوبَةِ مَا خَلَا كَفَّارَةَ الْفِطْرِ فَإِنَّ جِهَةَ الْعُقُوبَةِ فِيهَا رَاجِحَةٌ عَلَى جِهَةِ الْعِبَادَةِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِي نَفْسِهَا عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ صَالِحَةٌ لِلتَّكْفِيرِ بِهَا إذْ الْعِبَادَاتُ مَوْضُوعَةٌ لِمَحْوِ السَّيِّئَاتِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] وَهِيَ بِآثَرِهَا صَالِحَةٌ لِلزَّجْرِ فَإِنَّ مَنْ دَعَتْهُ نَفْسُهُ إلَى الْإِفْطَارِ طَلَبًا لِلرَّاحَةِ وَدَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ، ثُمَّ تَأَمَّلَ أَنَّهُ لَوْ أَقْدَمَ عَلَيْهِ لَزِمَتْهُ هَذِهِ الْكَفَّارَةُ الْعَظِيمَةُ عَلَى وَجْهٍ لَوْ امْتَنَعَ عَنْ أَدَائِهَا يَرْتَهِنُ بِالنَّارِ إلَّا أَنْ يُتَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِالْعَفْوِ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَنْزَجِرُ عَنْهُ أَشَدَّ الِانْزِجَارِ فَكَانَتْ بِأَثَرِهَا صَالِحَةً أَنْ تَكُونَ زَاجِرَةً كَالْعُقُوبَاتِ الْمُعَجَّلَةِ وَهَذِهِ عِبَادَةٌ تَحْتَاجُ تَفْوِيتُهَا إلَى الزَّاجِرِ؛ لِأَنَّ تَفْوِيتَهَا يَتَحَقَّقُ عَلَى وَجْهٍ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْمُفَوِّتِ اسْتِدْرَاكُهُ وَدَعْوَةُ الطَّبِيعَةِ إلَى الْجَنَابَةِ عَلَيْهَا بِالْإِفْطَارِ أَمْرٌ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ فَيَحْتَاجُ فِي صِيَانَتِهَا إلَى الزَّاجِرِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ صَالِحَةٌ لِلزَّجْرِ فَعَرَفْنَا أَنَّهَا شُرِعَتْ زَاجِرَةً عَنْ الْإِفْطَارِ كَمَا شُرِعَتْ مَاحِيَةً لِلْجَرِيمَةِ فَكَانَتْ بِوُجُودِهَا مُكَفِّرَةً لِلذَّنْبِ مَاحِيَةً لَهُ وَبِوُجُوبِهَا وَالْخَوْفِ عَنْ لُزُومِهَا زَاجِرَةٌ

وَقَدْ تَرَجَّحَ مَعْنَى الزَّجْرِ فِيهَا عَلَى مَعْنَى التَّكْفِيرِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَسْقُطُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ تَحَقَّقَتْ فِيهِ شُبْهَةُ إبَاحَةٍ كَالْحُدُودِ فَإِنَّ مَنْ جَامَعَ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ أَوْ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَابَتْ وَقَدْ تَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا الْإِفْطَارُ بِعُذْرِ الْمَرَضِ أَوْ السَّفَرِ لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ وَإِنْ كَانَ بِالْجِمَاعِ فَلَمَّا سَقَطَتْ بِالشُّبْهَةِ عَرَفْنَا أَنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِالْعُقُوبَاتِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ فَإِنَّهَا لَا تَخْتَلِفُ بَيْنَ مَحَلٍّ وَمَحَلٍّ بَلْ يَجِبُ فِي مَوْضِعٍ يُنْدَبُ إلَى تَحْصِيلِ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْكَفَّارَةُ تَعَلُّقَ الْأَحْكَامِ بِالْعِلَلِ كَالْعَوْدِ فِي بَابِ الظِّهَارِ أَوْ يَجِبُ تَحْصِيلُ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ تَعَلُّقَ الْأَحْكَامِ بِالشُّرُوطِ كَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ أَبَاهُ وَشَرَعَ الزَّاجِرُ فِيمَا يُنْدَبُ إلَى تَحْصِيلِهِ أَوْ يَجِبُ تَحْصِيلُهُ لَا يَلِيقُ بِالْحِكْمَةِ وَكَذَا تَعَلُّقُ الْكَفَّارَةِ بِمَا يَتَعَذَّرُ الِانْزِجَارُ عَنْهُ وَهُوَ الْخَطَأُ فِي بَابِ الْقَتْلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الزَّجْرِ فِيهَا غَيْرُ مَقْصُودٍ فَعَرَفْنَا أَنَّ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ الَّذِي بِهِ يَحْصُلُ التَّكْفِيرُ مَقْصُودٌ وَمَعْنَى الزَّجْرِ وَالْعُقُوبَةِ تَابِعٌ وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ مَعْنَى الزَّجْرِ وَالْعُقُوبَةِ مَقْصُودٌ وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ تَابِعٌ يَزِيدُ بِمَا ذَكَرْنَا إيضَاحًا أَنَّ عِنْدَ عَدَمَ الْحَاجَةِ إلَى الزَّاجِرِ لَا يَثْبُتُ الْوُجُوبُ وَإِنْ تَحَقَّقَ الْمَأْثَمُ كَمَا فِي ابْتِلَاعِ الْحَصَاةِ أَوْ النَّوَاةِ وَالْإِفْطَارُ فِي غَيْرِ الشَّهْرِ فَإِنَّ الْمَأْثَمَ وَإِنْ اخْتَلَّ لَيْسَ بِمَعْدُومٍ وَمَا شُرِعَ مَاحِيًا لِنَوْعِ إثْمٍ يَبْقَى مَشْرُوعًا لِمَحْوِ مَا دُونَهُ وَإِنْ قَلَّ فِي نَفْسِهِ كَالْحَانِثِ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحِنْثُ وَكَذَا جَانِبُ الزَّجْرِ أَهَمُّ مِنْ جَانِبِ التَّكْفِيرِ فَإِنَّ.

ص: 151

وَقُلْنَا: تَسْقُطُ بِاعْتِرَاضِ الْحَيْضِ وَالْمَرَضِ وَتَسْقُطُ بِالسَّفَرِ الْحَادِثِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ إذَا اعْتَرَضَ الْفِطْرُ عَلَى السَّفَرِ

ــ

[كشف الأسرار]

التَّكْفِيرَ يَحْصُلُ بِالتَّوْبَةِ إذْ هِيَ مَاحِيَةٌ لِكُلِّ ذَنْبٍ وَلَا شَيْءَ يَقُومُ مَقَامَ الْكَفَّارَةِ فِي حَقِّ الزَّجْرِ مَعَ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الزَّجْرِ أَمَسُّ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ تَفْوِيتِ مَا لَا اسْتِدْرَاكَ لَهُ أَلْبَتَّةَ فَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَتُكَفِّرُ مَا لَوْ لَمْ تَكُنْ هِيَ لِكُفْرٍ بِالتَّوْبَةِ وَالنَّدَمِ أَوْ بِعَفْوِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ بِفَضْلِهِ أَوْ بِشَفَاعَةِ الْأَخْيَارِ مِنْ عِبَادِهِ فَثَبَتَ أَنَّ جَانِبَ الزَّجْرِ وَالْعُقُوبَةِ فِيهَا رَاجِحٌ وَأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ الْمُعَظَّمُ دُونَ الْعِبَادَةِ وَالتَّكْفِيرِ فَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ فَإِنَّهَا عُقُوبَةٌ وُجُوبًا وَعِبَادَةٌ أَدَاءً مَعَ أَنَّ سَائِرَ الْكَفَّارَاتِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ أَنَّ وُجُوبَهَا بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ قَصْدًا وَإِنْ كَانَتْ عِبَادَةً مِنْ حَيْثُ الْأَدَاءُ

حَتَّى سَقَطَ يَعْنِي هَذَا الْوَاجِبُ بِالشُّبْهَةِ عَلَى مِثَالِ الْحُدُودِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ فَإِنَّ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِيهَا تَابِعٌ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِي هَذِهِ الْكَفَّارَةِ رَاجِحٌ بَلْ هِيَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ وَرُكْنُهَا الْإِعْتَاقُ وَالصِّيَامُ وَالْإِطْعَامُ كَمَا فِي سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ وَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الصَّوْمُ مَشْرُوعٌ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ أَنَّهُ لَوْ أَفْطَرَ بِجِمَاعِ الْأَهْلِ أَوْ بِطَعَامِ مَمْلُوكٍ لَهُ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ وَلَوْ كَانَتْ عُقُوبَةً تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ لَسَقَطَ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ مُبِيحٌ لِلْجِمَاعِ وَمِلْكُ الطَّعَامِ مُبِيحٌ لِلْأَكْلِ فَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ الْإِبَاحَةُ الْحَالَّةُ ثَبَتَ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ فَتُوجِبُ السُّقُوطَ كَمَا لَوْ زَنَى بِجَارِيَتِهِ الَّتِي هِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ يَسْقُطُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا لِقِيَامِ الْمِلْكِ الَّذِي هُوَ مُبِيحٌ يُورِثُ شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ وَلَمَّا لَمْ يَسْقُطْ عَرَفْنَا أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ قُلْنَا: قَدْ أَقَمْنَا الدَّلِيلَ عَلَى رُجْحَانِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِي هَذِهِ الْكَفَّارَةِ وَبَيَّنَّا أَنَّهَا تَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ بِالْإِجْمَاعِ مَعَ كَوْنِهَا عِبَادَةً فِي نَفْسِهَا فَلَا مَعْنَى لِلْمَنْعِ وَالِاسْتِبْعَادِ بَعْدَ الْإِجْمَاعِ

وَمَا ذُكِرَ أَنَّ الْإِفْطَارَ بِجِمَاعِ الْأَهْلِ وَالطَّعَامِ الْمَمْلُوكِ لَا يَصِيرُ شُبْهَةً غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هِيَ الشُّبْهَةُ الَّتِي تُورِثُ جِهَةَ إبَاحَةٍ فِيمَا هُوَ مَحَلُّ الْجِنَايَةِ وَمِلْكُ الطَّعَامِ وَالْجِمَاعِ لَا يُورِثُ إبَاحَةً فِي إفْطَارِ صَوْمِ رَمَضَانَ بِوَجْهٍ كَمِنْ قَتَلَ غَيْرَهُ بِسَيْفٍ مَمْلُوكٍ لَهُ أَوْ شَرَّبَ خَمْرًا مَمْلُوكَةً لَهُ لَا يَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً تُؤَثِّرُ فِي سُقُوطِ الْقِصَاصِ وَالْحَدِّ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمِلْكَ لَا يُؤَثِّرُ فِي إبَاحَةِ الْقَتْلِ وَالشُّرْبِ بِوَجْهٍ بِخِلَافِ وَطْءِ الْجَارِيَةِ الَّتِي هِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ؛ لِأَنَّ فِي الزِّنَا مَحَلَّ الْجِنَايَةِ مَنَافِعُ الْبُضْعِ وَالْمِلْكُ ثَابِتٌ فِي الْبُضْعِ فَيَصْلُحُ شُبْهَةً مُسْقِطَةً لِلْحَدِّ قَوْلُهُ (وَقُلْنَا يُسْقِطُ) أَيْ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ بِاعْتِرَاضِ الْحَيْضِ وَالْمَرَضِ إذَا جَامَعَ الصَّائِمُ الصَّائِمَةَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَمْدًا لَزِمَتْهُمَا الْكَفَّارَةُ فَحَاضَتْ الْمَرْأَةُ وَمَرِضَ الرَّجُلُ مَرَضًا يُبِيحُ الْإِفْطَارَ فِي آخِرِ النَّهَارِ سَقَطَتْ الْكَفَّارَةُ عَنْهُمَا عِنْدَنَا.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيُّ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْمَرْأَةِ لَا تَسْقُطُ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْكَفَّارَةِ وَهُوَ الْجِنَايَةُ الْكَامِلَةُ عَلَى الصَّوْمِ قَدْ تَمَّ فَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ دَيْنًا وَبِوُجُودِ الْعُذْرِ بَعْدَ الْفِطْرِ لَا يَخْتَلُّ مَعْنَى الْجِنَايَةِ فَيَبْقَى حُكْمُ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا كَانَ كَمَا لَوْ أَفْطَرَ، ثُمَّ سَافَرَ وَكَمَا لَوْ زَنَى بِامْرَأَةٍ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ

وَنَحْنُ نَقُولُ هَذَا إفْطَارٌ عَنْ شُبْهَةٍ فَلَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ قِيَاسًا عَلَى مَنْ جَامَعَ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ، ثُمَّ تَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ وَذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ تَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ وَالْمَرَضُ فِي آخِرِ النَّهَارِ يُزِيلُ اسْتِحْقَاقَ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ لَوْ كَانَ صَائِمًا وَزَوَالُ الِاسْتِحْقَاقِ لَا يَتَجَزَّأُ فَيَصِيرُ زَائِلًا مِنْ أَوَّلِهِ وَالْحَيْضُ يُعْدِمُ الصَّوْمَ مِنْ أَوَّلِهِ وَإِنْ وُجِدَ فِي آخِرِهِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَتَجَزَّأُ فِي الْيَوْمِ وَالْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ إلَّا بِالْفِطْرِ فِي صَوْمٍ مُسْتَحَقٍّ وَقَدْ تَحَقَّقَ فِي هَذَا الْيَوْمِ مَا يُنَافِي الصَّوْمَ أَوْ مَا يُنَافِي

ص: 152

وَيَسْقُطُ بِشُبْهَةِ الْقَضَاءِ وَظَاهِرُ السُّنَّةِ فِيمَنْ أَبْصَرَ هِلَالَ رَمَضَانَ وَحْدَهُ.

ــ

[كشف الأسرار]

صِفَةَ الِاسْتِحْقَاقِ مِنْهُ فَتَمَكَّنَتْ شُبْهَةُ مُنَافَاةِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي أَوَّلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا سَافَرَ فِي آخِرِ النَّهَارِ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ لَا يُزِيلُ الِاسْتِحْقَاقَ فَإِنَّ الصَّائِمَ إذَا سَافَرَ لَا يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ فَلَا يَتَمَكَّنُ بِالسَّفَرِ فِي آخِرِ النَّهَارِ شُبْهَةً فِي أَوَّلِهِ وَلِأَنَّ السَّفَرَ فِعْلُهُ وَالْكَفَّارَةُ تَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا تَسْقُطُ بِفِعْلِ الْعَبْدِ بِاخْتِيَارِهِ بِخِلَافِ الْمَرَضِ وَالْحَيْضِ فَإِنَّهُمَا سَمَاوِيَّانِ لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِيهِمَا فَإِذَا كَانَا مِنْ قِبَلِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ يَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ بِهِمَا الْكَفَّارَةُ حَتَّى لَوْ أُكْرِهَ السُّلْطَانُ عَلَى السَّفَرِ يَسْقُطُ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ لَا صُنْعَ لَهُ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا تَسْقُطُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ صُنْعِ الْعِبَادِ وَلَيْسَ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَتَسْقُطُ بِالسَّفَرِ الْحَادِثِ إذَا أَصْبَحَ الْمُقِيمُ صَائِمًا فِي رَمَضَانَ، ثُمَّ سَافَرَ لَا يُبَاحُ لَهُ الْإِفْطَارُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِالِاتِّفَاقِ فَإِنْ أَفْطَرَ لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله تَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا خُرُوجٌ لَا يُبِيحُ لَهُ الْإِفْطَارَ فَلَا يَصِيرُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ كَالْخُرُوجِ إلَى مَا دُونَ السَّفَرِ

وَإِنَّا نَقُولُ: السَّفَرُ مُبِيحٌ فِي نَفْسِهِ لِلْإِفْطَارِ بِالنَّصِّ إلَّا أَنَّا لَمْ نَعْمَلْ بِهِ لِدَلِيلٍ آخَرَ أَوْلَى مِنْهُ وَهُوَ الْإِقَامَةُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَإِنَّهَا تَقْتَضِي وُجُوبَ الصَّوْمِ وَأَنَّهُ مِمَّا لَا يَتَجَزَّأُ ثُبُوتُهُ فَكَانَ الْعَمَلُ مِمَّا يُوجِبُهُ أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِمَا يُسْقِطُهُ احْتِيَاطًا فَبَقِيَ السَّفَرُ الْمُبِيحُ فِي نَفْسِهِ مُؤَثِّرًا فِي إيرَاثِ الشُّبْهَةِ فَيَسْقُطُ بِهِ الْكَفَّارَةُ بِخِلَافِ الْخُرُوجِ إلَى مَا دُونَ السَّفَرِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُبِيحٍ فِي نَفْسِهِ فَلَا يُورِثُ شُبْهَةً كَمَا بَيَّنَّا قَوْلُهُ (وَتَسْقُطُ بِشُبْهَةِ الْقَضَاءِ) إلَى آخِرِهِ إذَا رَأَى هِلَالَ رَمَضَانَ وَحْدَهُ وَالسَّمَاءُ مُصْحِيَةٌ أَوْ مُتَغَيِّمَةٌ فَشَهِدَ عِنْدَ الْإِمَامِ فَرَدَّ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ لِتَفَرُّدِهِ أَوْ لِفِسْقِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ إلَّا عَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ عَمَلًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ عليه السلام «صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ» وَهَذَا لَيْسَ بِيَوْمِ الصَّوْمِ فِي حَقِّ الْجَمَاعَةِ فَكَذَا فِي حَقِّ الْوَاحِدِ وَتَمَسَّكَ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ عليه السلام «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» وَأَنَّهُ قَدْ رَأَى الْهِلَالَ حَقِيقَةً فَلَزِمَهُ الصَّوْمُ، ثُمَّ وُجُوبُ الصَّوْمِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْحُكْمُ وَقَدْ كَانَ لَزِمَهُ الصَّوْمُ قَبْلَ أَنْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ فَكَذَلِكَ بَعْدَهُ فَإِنْ أَفْطَرَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله فِيمَا إذَا أَفْطَرَ بِالْجِمَاعِ فَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عِنْدَ الْإِمَامِ وَشَرَعَ فِي الصَّوْمِ، ثُمَّ أَفْطَرَ فَقَدْ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ لِاخْتِلَافِ الطَّرِيقِ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ

احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رحمه الله بِأَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِ هَذَا الْيَوْمِ مِنْ رَمَضَانَ حَصَلَ قَطْعًا لِوُجُودِ دَلِيلِهِ وَهُوَ الرُّؤْيَةُ حَقِيقَةً إذْ لَا دَلِيلَ فَوْقَ الْعِيَانِ وَلِهَذَا كَانَ مُخَاطَبًا بِالْأَدَاءِ آثِمًا بِالتَّرْكِ فَتَكَامَلَ بِالْإِفْطَارِ فِيهِ مَعْنَى الْجِنَايَةِ وَلَمْ يَصِرْ جَهْلُ غَيْرِهِ بِكَوْنِهِ مِنْ رَمَضَانَ شُبْهَةً فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْجَهْلِ لَا يَعْدُو مَحَلَّهُ وَلَا يُؤَثِّرُ فِي يَقِينِهِ.

أَلَا تَرَى أَنَّ جَمَاعَةً لَوْ شَرِبُوا الْخَمْرَ عَلَى مَائِدَةٍ وَعَلِمَ بِهِ الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْعَالِمِ وَجَهْلُ الْجَاهِلِ لَا يُورِثُ شُبْهَةً فِي حَقِّهِ وَكَذَا لَوْ زُفَّتْ إلَى رَجُلٍ غَيْرُ امْرَأَتِهِ فَوَطِئَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ غَيْرُهُ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ وَلَمْ يَصِرْ جَهْلُ غَيْرِهِ شُبْهَةً فِي حَقِّهِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحَدَّ أَسْرَعُ سُقُوطًا مِنْ الْكَفَّارَةِ وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّهُ أَفْطَرَ عَنْ شُبْهَةٍ فَلَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ تَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ كَمَا بَيَّنَّا وَالدَّلِيلُ عَلَى تَحَقُّقِ الشُّبْهَةِ شَيْئَانِ أَشَارَ إلَيْهِمَا الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ: أَحَدُهُمَا الْقَضَاءُ فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا قَضَى بِرَدِّ شَهَادَتِهِ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ تُهْمَةُ الْكَذِبِ أَوْ الْغَلَطِ فَإِنَّ تَفَرُّدَهُ بِالرُّؤْيَةِ مَعَ اسْتِوَاءِ الْكُلِّ فِي النَّظَرِ وَالْمَنْظَرِ يُوجِبُ ذَلِكَ أَوْرَثَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي رُؤْيَتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَضَاءٌ بِأَنَّهُ كَاذِبٌ أَوْ غَالِطٌ وَأَنَّ هَذَا

ص: 153

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[كشف الأسرار]

الْيَوْمَ مِنْ شَعْبَانَ وَلَوْ كَانَ حُكْمُهُ هَذَا حَقًّا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لَكَانَ يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ فَإِذَا كَانَ نَافِذًا ظَاهِرًا يُورِثُ شُبْهَةَ إبَاحَةٍ فَتَسْقُطُ بِهِ الْكَفَّارَةُ فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْقَضَاءَ مَوْجُودٌ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْعِبَادَاتِ وَهِيَ مِمَّا يُفْتَى فِيهِ وَلَا يُقْضَى بِهِ وَلَوْ أَفْتَاهُ مُفْتٍ أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ مِنْ شَعْبَانَ لَمْ تَصِرْ فَتْوَاهُ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ عَنْهُ كَذَا هَذَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي بِشَيْءٍ بَلْ يَمْتَنِعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَمِنْ الْقَضَاءِ بِهَا وَالِامْتِنَاعُ مِنْ الْقَضَاءِ وَعَدَمُ الِالْتِفَاتِ إلَى الشَّهَادَةِ لَا يَكُونُ قَضَاءً

وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ قَضَاءٌ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَصِيرُ شُبْهَةً فِي حَقِّ هَذَا الرَّجُلِ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ الْقَاضِيَ مُخْطِئٌ فِي قَضَائِهِ وَأَنَّ قَضَاءَهُ بَاطِلٌ كَمَا إذَا رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْ شُهُودِ الزِّنَا بَعْدَمَا رُجِمَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ يَلْزَمُهُ حَدُّ الْقَذْفِ وَقَضَاءُ الْقَاضِي بِكَوْنِ الرَّجُلِ رَائِيًا قَائِمٌ وَلَمْ يَصِرْ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْهُ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِهِ أَنَّ قَضَاءَهُ بَاطِلٌ قُلْنَا هَذَا مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ إنْ ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي صِدْقُ الشَّاهِدِ بِأَنْ كَانَتْ السَّمَاءُ مُتَغَيِّمَةً فَشَهِدَ وَحْدَهُ أَوْ جَاءَ مِنْ بَعْضِ الْقُرَى وَهُوَ عَدْلٌ يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ بِشَهَادَتِهِ وَيَصِيرَ الْيَوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ حَتَّى يَلْزَمَهُمْ الصَّوْمُ وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ الْكَفَّارَةُ بِالْإِفْطَارِ وَتَحِلُّ آجَالُ الدُّيُونِ وَيَنْزِلُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ الْمُعَلَّقَانِ بِمَجِيءِ رَمَضَانَ فَإِنْ اتَّهَمَهُ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ وَيَبْقَى الْيَوْمُ مِنْ شَعْبَانَ فَثَبَتَ أَنَّهُ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقَضَاءِ.

وَقَوْلُهُ: الِامْتِنَاعُ مِنْ الْقَضَاءِ لَا يَكُونُ قَضَاءً غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْقَاضِي مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ لِتُهْمَةٍ دَخَلَتْ فِي الشَّهَادَةِ قَضَاءٌ يَرُدُّ الشَّهَادَةَ كَالْفَاسِقِ إذَا شَهِدَ فَلَمْ يَقْبَلْ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ فَأَعَادَهَا بَعْدَ التَّوْبَةِ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا رُدَّتْ مَرَّةً كَانَ ذَلِكَ قَضَاءً بِبُطْلَانِهَا كَذَا هَاهُنَا وَقَوْلُهُ لَا يَصِيرُ الْقَضَاءُ شُبْهَةً فِي حَقِّهِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ حُجَّةٌ مِنْ حُجَجِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ نَائِبُ الشَّرْعِ فِيمَا يَقْضِي وَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ إذَا أَخْطَأَ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ حُجَجِهِ فَيَصْلُحُ شُبْهَةً وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْمُولًا بِهِ

وَزَعَمَهُ أَنَّهُ خَطَأٌ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ شُبْهَةً كَمَا إذَا شَهِدُوا بِالْقِصَاصِ عَلَى رَجُلٍ فَقَضَى الْقَاضِي بِهِ فَقَبِلَهُ الْوَلِيُّ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الشُّهُودَ كَذَبَةٌ، ثُمَّ جَاءَ الْمَشْهُودُ بِقَتْلِهِ حَيًّا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْوَلِيِّ عِنْدَنَا لِلشُّبْهَةِ الثَّابِتَةِ بِالْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَضَى بِدَلِيلٍ ظَاهِرٍ أَوْجَبَ الشَّرْعُ الْعَمَلَ بِهِ فَأَوْجَبَ الشُّبْهَةَ فِي حَقِّ الْوَلِيِّ وَإِنْ كَانَ عِنْده أَنَّهُ مُخْطِئٌ بِيَقِينٍ فَأَمَّا فِي مَسْأَلَةِ الرُّجُوعِ فَلَمْ يَجْعَلْ الْقَضَاءَ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ حَدِّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ لَمَّا رَجَعَ انْفَسَخَ الْقَضَاءُ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُ قَدْ انْفَسَخَتْ وَالْقَضَاءُ مَبْنِيٌّ عَلَيْهَا وَالْقَضَاءُ الْمَفْسُوخُ لَا يَصْلُحُ شُبْهَةً كَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً، ثُمَّ فُسِخَ الْبَيْعُ، ثُمَّ زَنَى بِهَا يُحَدُّ وَلَا يَصِيرُ الْبَيْعُ السَّابِقُ شُبْهَةً وَهَاهُنَا لَمْ يَنْفَسِخْ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّ دَلِيلَهُ وَهُوَ التَّفَرُّدُ بِالرُّؤْيَةِ قَائِمٌ فَيَصْلُحُ شُبْهَةً.

أَلَا تَرَى أَنَّ فِي مَسْأَلَةِ الرُّجُوعِ لَوْ قَذَفَهُ رَجُلٌ آخَرُ لَا يُحَدُّ؛ لِأَنَّ الرَّاجِعَ لَا يُصَدَّقُ عَلَى غَيْرِهِ فَيَكُونُ الْقَضَاءُ بَاقِيًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ بِبَقَاءِ الشَّهَادَةِ فَيَصِيرُ قَاذِفَ زَانٍ فَلَا يُحَدُّ فَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ لَوْ أَفْطَرَ قَبْلَ الرَّفْعِ إلَى الْقَاضِي يَجِبُ الْكَفَّارَةُ وَذَكَرَ فِي طَرِيقَةِ الصَّدْرِ الْحَجَّاجِ قُطْبِ الدِّينِ رحمه الله وَلَوْ لَمْ يَشْهَدْ عِنْدَ الْقَاضِي فَأَفْطَرَ إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْبَلُ شَهَادَتَهُ قَالُوا: يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ شَهَادَتَهُ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ.

وَالثَّانِي ظَاهِرُ السُّنَّةِ وَهِيَ قَوْلُهُ عليه السلام «صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ فِيهِ وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ» أَيْ وَقْتُ صَوْمِكُمْ الْمَفْرُوضِ يَوْمَ تَصُومُونَ فِيهِ جَمِيعًا فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّ يَوْمَ الصَّوْمِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ مَا يَصُومُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ لَكِنْ عَارَضَهُ قَوْلُهُ

ص: 154

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[كشف الأسرار]

عليه السلام «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ» وَأَنَّهُ قَدْ رَأَى أَيْ الْهِلَالَ فَيَقْتَضِي أَنْ يَلْزَمَهُ الصَّوْمُ فَعَمِلْنَا بِمُوجَبِ هَذَا الْخَبَرِ وَأَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الصَّوْمَ احْتِيَاطًا وَبَقِيَ ظَاهِرُ النَّصِّ الْأَوَّلِ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّهَا مِمَّا يُحْتَالُ لِدَرْئِهِ

كَمَا بَقِيَ قَوْلُهُ عليه السلام «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْ الْأَبِ بِوَطْئِهِ جَارِيَةَ ابْنِهِ وَسَرِقَةِ مَالِهِ وَإِنْ كَانَ الْمَعْمُولُ قَوْلَهُ عليه السلام «الرَّجُلُ أَحَقُّ بِمَالِهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» وَإِنَّمَا لَمْ يَصِرْ ذَلِكَ الْحَدِيثُ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْ الْأَبِ إذَا زَنَى بِابْنَتِهِ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ حُرَّةٌ لَيْسَتْ بِمَحَلِّ الْمِلْكِ فَلَمْ يَكُنْ الْإِضَافَةُ لِلتَّمْلِيكِ لِعَدَمِ قَبُولِ الْمَحَلِّ ذَلِكَ بَلْ كَانَتْ إضَافَةَ كَرَامَةٍ وَنَسَبٍ فَلَا يُوجِبُ شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ.

1 -

وَأَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْأَبِ إذَا قَتَلَ وَلَدَهُ فَلَيْسَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ أَوْجَبَ حَقًّا أَوْ شُبْهَةً فِي النَّفْسِ وَلَكِنْ إنَّمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الِابْنَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِأَبِيهِ بِمَا يُوجِبُ إتْلَافَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ سَبَبَ وُجُودِهِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّعَرُّضُ لِإِتْلَافِهِ وَإِعْدَامِهِ.

أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَتَلَ الْأَبُ إنْسَانًا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، ثُمَّ وَرِثَ ابْنُهُ الْقِصَاصَ سَقَطَ لِمَا قُلْنَا وَلَمْ يَصِرْ هَذَا الْحَدِيثُ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وَلَا بِقَوْلِهِ عليه السلام «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ» ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِمَعْرِفَةِ التَّارِيخِ وَلَمْ يُعْرَفْ ذَلِكَ، لَكِنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ مِمَّا يُحْتَاطُ فِيهِ فَعِنْدَ قِيَامِ الْمُعَارَضَةِ عَمِلْنَا بِالدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لِلصَّوْمِ احْتِيَاطًا وَبِالدَّلِيلِ الْمُسْقِطِ لِلْكَفَّارَةِ احْتِيَاطًا أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ يُحْتَاطُ فِي دَرْئِهَا وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] فَلَمْ يَصِرْ شُبْهَةً مُسْقِطَةً لِلْقِصَاصِ عَمَّنْ قَتَلَ مُشْرِكًا ذِمِّيًّا مَعَ أَنَّ ظَاهِرَهُ يُوجِبُ إبَاحَةَ قَتْلِ الْمُشْرِكِ؛ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ قَدْ انْتَهَتْ بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ وَانْتَسَخَتْ فَلَمْ تَبْقَ أَصْلًا وَهَاهُنَا بِخِلَافِهِ

وَلِأَنَّ الْمُشْرِكَ صَارَ مَجَازًا لِلْمُحَارِبِ كَأَنَّهُ قِيلَ: اُقْتُلُوا الْمُحَارِبِينَ وَاللَّفْظُ مَتَى صَارَ مَجَازًا لَمْ يَبْقَ حَقِيقَةً أَصْلًا وَلَا أَوْرَثَ شُبْهَةً فِي مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّهُ انْتَقَلَ عَنْ مَحَلِّهِ بِيَقِينِ حَيْثُ صَارَ مَجَازًا وَلَوْ بَقِيَ فِي مَحَلِّهِ لَمَا انْتَقَلَتْ مَجَازًا وَهَذَا الطَّرِيقُ يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَمَا إذَا أَفْطَرَ بَعْدَ الْقَضَاءِ وَقَبْلَهُ فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ عليه السلام «صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ» مُتَعَرِّضٌ لِوُجُودِ الصَّوْمِ دُونَ الْوَقْتِ فَإِنَّ الصَّوْمَ اسْمٌ لِلْعِبَادَةِ الْمَعْهُودَةِ دُونَ الْوَقْتِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: وُجُودُ صَوْمِكُمْ فِي الْيَوْمِ الَّذِي تَصُومُونَ فِيهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَرْوِيٌّ بِنَصَبِ الْمِيمِ مِنْ يَوْمٍ عَلَى الظَّرْفِ وَالْيَوْمُ يَكُونُ ظَرْفًا لِلْفِعْلِ وَهُوَ الصَّوْمُ دُونَ الْوَقْتِ وَإِذَا كَانَ الْخَبَرُ بَيَانًا لِوُجُودِ الصَّوْمِ لَا لِلْوَقْتِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الصَّوْمُ لَا يَكُونُ مُعَارِضًا لِلْحَدِيثِ الْآخَرِ فَلَا يَصْلُحُ شُبْهَةً قُلْنَا: حَمْلُهُ عَلَيْهِ يُؤَدِّي إلَى إلْغَاءِ كَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَإِخْلَائِهِ عَنْ الْفَائِدَةِ إذْ لَا يَخْفَى عَلَى مَجْنُونٍ فَضْلًا عَنْ الْعَاقِلِ أَنَّ وُجُودَ الصَّوْمِ يَوْمَ يُوجَدُ فِيهِ وَهَلْ يَلِيقُ بِعَاقِلٍ أَنْ يَقُولَ ذَهَابُك عَنْ الْبَلْدَةِ يَوْمَ تَذْهَبُ وَانْتِصَابُ الْيَوْمِ لَيْسَ بِطَرِيقِ الظَّرْفِ بَلْ الزَّمَانُ فَارَقَ جَمِيعَ أَجْنَاسِ الْأَسْمَاءِ فِي صِحَّةِ إضَافَتِهِ إلَى الْأَفْعَالِ وَامْتِنَاعِ إضَافَةِ غَيْرِهِ إلَى الْأَفْعَالِ

غَيْرَ أَنَّهُ إنْ أُضِيفَ إلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي فَاخْتِيَارُ الْجُمْهُورِ مِنْ أَهْلِ النَّحْوِ أَنْ يُبْنَى عَلَى الْفَتْحَةِ وَيَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مُعْرَبًا لِاتِّحَادِهِ بِمَا لَيْسَ بِمُعْرَبٍ فِي نَفْسِهِ إذْ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إلَيْهِ نَوْعُ اتِّحَادٍ وَإِنْ أُضِيفَ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ فَالْمُتَكَلِّمُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْرَبَهُ لِكَوْنِ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ مُعْرَبًا فِي نَفْسِهِ وَإِنْ شَاءَ بَنَاهُ لِاتِّحَادِهِ بِالْفِعْلِ وَالِاسْمُ يُبْنَى لِشَبَهِهِ بِالْفِعْلِ إذَا تَأَكَّدَتْ الْمُشَابَهَةُ فَلَأَنْ يُبْنَى عِنْدَ اتِّحَادِهِ بِهِ أَوْلَى هَذَا التَّخْيِيرُ ظَاهِرٌ لِلْمُتَكَلِّمِ وَإِنْ كَانَتْ الْعَرَبُ تُؤْثِرُ الْإِعْرَابَ لِذِي الْإِضَافَةِ إلَى

ص: 155

لِشُبْهَةٍ فِي الرُّؤْيَةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ أَلْحَقَهَا بِسَائِرِ الْكَفَّارَاتِ إلَّا أَنَّا أَثْبَتْنَا مَا قُلْنَا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ «مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ» وَلِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى الْخَاطِئِ وَلِأَنَّا وَجَدْنَا الصَّوْمَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا تَدْعُو الطِّبَاعُ إلَى الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ

ــ

[كشف الأسرار]

الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى الْبِنَاءِ وَتُؤْثِرُ الْبِنَاءَ عَلَى الْإِعْرَابِ لِذِي الْإِضَافَةِ إلَى الْمَاضِي عَلَى مَا رَوَى الْفَرَّاءُ عَنْ الْكِسَائِيّ عَنْ الْعَرَبِ، وَلَكِنَّ الْبِنَاءَ فِي الْأَوَّلِ جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ وَالْإِعْرَابُ فِي الثَّانِي عِنْدَ الْكِسَائِيّ فَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ إنْ كَانَتْ الرِّوَايَةُ بِالنَّصْبِ فَوَرَدَتْ عَلَى طَرِيقِ الْبِنَاءِ لَا أَنَّ الْمِيمَ انْتَصَبَتْ لِكَوْنِ الْيَوْمِ ظَرْفًا تَحَقَّقَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ صَوْمَ هَذَا الْيَوْمِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ لَمْ يَبْقَ فَرْضًا حَتَّى إنَّ مُنْكِرَهُ لَا يُضَلَّلُ وَلَوْ كَانَ الْحَدِيثُ بَيَانًا لِوُجُودِ الصَّوْمِ لَا لِوَقْتِ الْوُجُوبِ بَقِيَ الصَّوْمُ بِقَضِيَّةِ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] فَرْضًا وَلَضُلِّلَ جَاحِدُهُ وَلَمَّا لَمْ يُضَلَّلْ دَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ بَيَانُ وَقْتِ الصَّوْمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ رحمه الله فِي طَرِيقَتِهِ وَهَذَا مَيْلٌ مِنْهُ إلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ فَإِنَّ عِنْدَهُمْ يَجُوزُ بِنَاءُ الظَّرْفِ عَلَى الْفَتْحِ بِالْإِضَافَةِ إلَى نَفْسِ الْفِعْلِ وَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ إنَّمَا يُبْنَى الظَّرْفُ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْفِعْلِ إذَا كَانَ الْفِعْلُ مَبْنِيًّا فَأَمَّا إذَا كَانَ مُعْرَبًا فَلَا يُبْنَى الظَّرْفُ بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِ فَيَكُونُ انْتِصَابُ يَوْمٍ عِنْدَهُمْ عَلَى الظَّرْفِ بِعَامِلٍ مُضْمِرٍ هُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ وَالتَّقْدِيرُ وَقْتُ صَوْمِكُمْ وَاقِعٌ أَوْ ثَابِتٌ يَوْمَ تَصُومُونَ فِيهِ جَمِيعًا

وَقَوْلُهُ لِشُبْهَةٍ فِي الرُّؤْيَةِ مُتَعَلِّقٌ بِشُبْهَةِ الْقَضَاءِ يَعْنِي لَمَّا قَضَى الْقَاضِي بِرَدِّ شَهَادَتِهِ أَوْجَبَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي رُؤْيَتِهِ وَهِيَ احْتِمَالُ أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي الرُّؤْيَةِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَمَّا قَالَ الْخَصْمُ إنَّهُ رَأَى الْهِلَالَ حَقِيقَةً وَثَبَتَ فِي حَقِّهِ أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ فَطَعَنَ الْقَاضِي فِي رُؤْيَتِهِ وَجَهْلُ سَائِرِ النَّاسِ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي حَقِّهِ كَمَا فِي مَسْأَلَتَيْ الْخَمْرِ وَالزِّفَافِ مَعَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ تَلْزَمُهُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى صَوْمِ نَفْسِهِ لَا بِالْجِنَايَةِ عَلَى صَوْمِ غَيْرِهِ فَيَعْتَبِرُ مَا عِنْدَهُ لَا مَا عِنْدَ غَيْرِهِ فَلَا يَصِيرُ الْقَضَاءُ شُبْهَةً

فَقَالَ: بِالْقَضَاءِ يَتَحَقَّقُ شُبْهَةٌ فِي رُؤْيَتِهِ فَإِنَّ بُعْدَ الْمَسَافَةِ وَدِقَّةَ الْمَرْئِيِّ وَعَدَمَ رُؤْيَةِ سَائِرِ النَّاسِ تُوجِبُ شُبْهَةَ التَّخَيُّلِ وَلَا يُمْكِنُ دَفْعُ هَذَا التَّخَيُّلِ أَصْلًا وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ فِي زَمَنِ عُمَرَ رضي الله عنه وَظَهَرَ مِنْ بَعْدُ أَنَّهُ كَانَ تَخَيُّلًا مِنْ الَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ رَأَى وَلِهَذَا إذَا شُكِّكَ يَتَشَكَّكُ وَالْإِنْسَانُ لَا يَتَشَكَّكُ فِيمَا عَايَنَهُ، لَكِنَّ الشَّرْعَ أَعْرَضَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ لَا تُقَاوِمُ الْحَقِيقَةَ وَقَدْ تَعَذَّرَ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا فَسَقَطَ اعْتِبَارُهَا فَإِذَا رَدَّ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ فَقَدْ اُعْتُبِرَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ فَتُؤَثِّرُ فِيمَا يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ بِخِلَافِ مَسْأَلَتَيْ الْخَمْرِ وَالزِّفَافِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ فِيهِمَا غَيْرُ مُشْتَبَهٍ وَلَا يُسْتَبْعَدُ أَنْ يَعْرِفَ الْبَعْضُ الْخَمْرَ وَلَا يَعْرِفَهَا الْبَعْضُ لِعَدَمِ التَّجْزِئَةِ وَأَنْ يَعْرِفَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَلَا يَعْرِفُهَا غَيْرُهُ لِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ وَالْمُمَارَسَةِ فَلَا يُؤَثِّرُ جَهْلُ الْغَيْرِ فِي عِلْمِهِ فَأَمَّا هَاهُنَا فَالْكُلُّ سَوَاءٌ فِي دَلِيلِ الْمَعْرِفَةِ وَتَفَرُّدُهُ يُوجِبُ خَلَلًا فِي الرُّؤْيَةِ فَإِذَا اعْتَبَرَهُ الْحَاكِمُ يَصْلُحُ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ.

وَقَوْلُهُ: خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ يَتَّصِلُ بِقَوْلِهِ مَا خَلَا كَفَّارَةَ الْفِطْرِ فَإِنَّهَا عُقُوبَةٌ وُجُوبًا أَيْ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِيهَا رَاجِحٌ حَتَّى سَقَطَتْ بِالشُّبْهَةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله فَإِنَّهُ أَلْحَقَ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ بِسَائِرِ الْكَفَّارَاتِ فِي أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ وَأَنَّهَا ضَمَانُ مَا تَلِفَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِجِنَايَتِهِ إلَّا أَنَّا أَيْ لَكِنَّا أَثْبَتْنَا مَا قُلْنَا مِنْ تَرْجِيحِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِيهَا اسْتِدْلَالًا بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ «مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ»

قَيَّدَ الْإِفْطَارَ بِصِفَةِ التَّعَمُّدِ الَّذِي بِهِ يَتَكَامَلُ مَعْنَى الْجِنَايَةِ، ثُمَّ رَتَّبَ وُجُودَ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ

ص: 156

فَاسْتَدْعَى زَاجِرًا لَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ حَقًّا مُسَلَّمًا تَامًّا صَارَ قَاصِرًا فَأَوْجَبْنَاهُ بِالْوَصْفَيْنِ وَقَدْ وَجَدْنَا مَا يَجِبُ عُقُوبَةً وَيُسْتَوْفَى عِبَادَةً كَالْحُدُودِ؛ لِأَنَّ إقَامَةَ السُّلْطَانِ عِبَادَةٌ وَلَمْ نَجِدْ مَا يُوجِبُ عِبَادَةً وَيُسْتَوْفَى عُقُوبَةً فَصَارَ الْأَوَّلُ أَوْلَى وَلِهَذَا قُلْنَا بِتَدَاخُلِ الْكَفَّارَاتِ فِي الْفِطْرِ وَحُقُوقُ الْعِبَادِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى.

ــ

[كشف الأسرار]

وُجُوبَهَا يَسْتَدْعِي جِنَايَةً كَامِلَةً وَأَنَّ وُجُوبَهَا بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ إذْ الْجِنَايَةُ الْكَامِلَةُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ الْوَاجِبُ عَلَيْهَا عُقُوبَةً وَكَذَا الْإِجْمَاعُ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا تَسْقُطُ بِعُذْرِ الِاشْتِبَاهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا عُلِمَ أَنَّ صِفَةَ التَّعَمُّدِ شَرْطٌ لِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ كَمَا فِي الْقَتْلِ لِإِيجَابِ الْقَوَدِ وَأَنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِالْعُقُوبَاتِ وَكَانَ الشَّيْخُ رحمه الله أَرَادَ بِالْخَاطِئِ فِي قَوْلِهِ وَلِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى الْخَاطِئِ الَّذِي جَامَعَ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ أَوْ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ؛ لِأَنَّهُ خَاطِئٌ فِي هَذَا الظَّنِّ فَيَصِحُّ الِاسْتِدْلَال فَأَمَّا لَوْ أَرَادَ بِهِ الْخَاطِئَ الَّذِي سَبَقَ الْمَاءُ أَوْ الطَّعَامُ حَلْقَهُ فِي الْمَضْمَضَةِ أَوْ الْمَضْغِ لِلصَّبِيِّ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ فَلَا يَخْلُوا الِاسْتِدْلَال بِهِ عَنْ نَوْعِ ضَعْفٍ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْخَصْمِ لَا يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ فَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ لِيَمْتَنِعَ بِسَبَبِ الْخَطَأِ.

أَلَا تَرَى أَنَّ صَوْمَهُ لَوْ فَسَدَ بِأَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ عَمْدًا لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَهُ فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَفْسُدْ وَإِذَا كَانَ امْتِنَاعُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ لِعَدَمِ الْفَسَادِ لَا لِلْخَطَأِ لَا يَتِمُّ الْإِلْزَامُ بِهَذَا الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْخَصْمِ إلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَكَذَا الْمَعْقُولُ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّا وَجَدْنَا الصَّوْمَ حَقًّا خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى تَدْعُو الطِّبَاعُ الْجِنَايَةَ عَلَيْهِ وَقَدْ ظَهَرَ فِي الشَّرْعِ أَثَرُ صِيَانَةِ هَذَا الْحَقِّ عَلَى الْعِبَادِ بِتَجْوِيزِهِ بِنِيَّةٍ مُتَقَدِّمَةٍ مَعَ وُجُودِ مَا طَرَأَ عَلَيْهَا وَأَثَّرَ فِيهَا بِالْإِعْدَامِ وَجَعَلَ الرُّكْنَ الْمَعْدُومَ مَوْجُودًا فِي حَقِّ النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ فَاسْتَدْعَى زَاجِرًا يَمْنَعُ الْمُكَلَّفَ عَنْ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ وَيَبْقَى هُوَ مَصُونًا بِهِ عَنْ الْإِبْطَالِ وَالْكَفَّارَةُ تَصْلُحُ زَاجِرَةً فَعَرَفْنَا أَنَّهَا شُرِعَتْ بِطَرِيقِ الزَّجْرِ وَالْعُقُوبَةِ

وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الزَّاجِرُ مِنْ الْعُقُوبَاتِ الْمَحْضَةِ كَالْحُدُودِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجِنَايَةَ مَعْصِيَةٌ خَالِصَةٌ كَالْجِنَايَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلْحُدُودِ، لَكِنَّ الصَّوْمَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ حَقًّا مُسَلَّمًا إلَى صَاحِبِ الْحَقِّ تَامًّا وَقْتَ الْجِنَايَةِ إذْ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ بِالْإِفْطَارِ لَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ التَّمَامِ صَارَ أَيْ التَّعَدِّي بِالْإِفْطَارِ قَاصِرًا فِي كَوْنِهِ جِنَايَةً فَيَتَمَكَّنُ بِاعْتِبَارِ الْقُصُورِ شُبْهَةَ إبَاحَةٍ فِيهِ فَتَعَذَّرَ إيجَابُ الزَّاجِرِ الَّذِي هُوَ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ فَأَوْجَبْنَاهُ أَيْ الزَّاجِرَ بِالْوَصْفَيْنِ وَهُمَا الْعِبَادَةُ وَالْعُقُوبَةُ وَجَعَلْنَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِي الْوُجُوبِ وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي الْأَدَاءِ دُونَ عَكْسِهِ؛ لِأَنَّا وَجَدْنَا مَا يَجِبُ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ وَيُسْتَوْفَى بِطَرِيقِ الْعِبَادَةِ كَالْحُدُودِ؛ لِأَنَّ إقَامَتَهَا مِنْ السُّلْطَانِ عِبَادَةٌ إذْ هُوَ مَأْمُورٌ بِإِقَامَتِهَا حَتَّى يُثَابُ عَلَى الْإِقَامَةِ وَيُعَاقَبَ عَلَى تَرْكِهَا وَلَمْ نَجِدْ مَا يَجِبُ بِطَرِيقِ الْعِبَادَةِ وَيُسْتَوْفَى بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ أَصْلًا فَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْجَوَابِ عَمَّا إذَا زَنَى فِي نَهَارِ رَمَضَانَ أَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ عَمْدًا حَيْثُ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ الْقُصُورَ فِي الْجِنَايَةِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ مَوْجُودٌ فَيُمْكِنُ إيجَابُ الْكَفَّارَةِ الَّتِي هِيَ عُقُوبَةٌ قَاصِرَةٌ عَلَيْهِ وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي دَلَالَةِ النَّصِّ يَحْتَاجُ إلَى الْجَوَابِ عَنْهُ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ هُنَاكَ

وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ رحمه الله فِي طَرِيقَتِهِ أَنَّ تَعَلُّقَ الْعِبَادَةِ بِمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ فِي نَفْسِهِ جَائِزٌ إذَا كَانَ وُجُوبُهَا بِطَرِيقِ التَّكْفِيرِ وَكَانَتْ جِهَةُ الزَّجْرِ فِيهَا رَاجِحَةً إذْ لَا اسْتِحَالَةَ فِي ذَلِكَ إنَّمَا الِاسْتِحَالَةُ فِي جَعْلِ الْمَعْصِيَةِ سَبَبًا لِوُجُوبِ عِبَادَةٍ يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى الْجَنَّةِ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ مَعَ حُكْمِهَا وَهُوَ الثَّوَابُ الْمُوَصِّلُ إلَى الْجَنَّةِ يَصِيرَانِ مِنْ أَحْكَامِ الْمَعْصِيَةِ فَتَصِيرُ الْمَعْصِيَةُ بِوَاسِطَةِ حُكْمِهَا سَبَبًا لِلْوُصُولِ إلَى الْجَنَّةِ وَهُوَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّهَا جُعِلَتْ مِنْ أَسْبَابِ اسْتِيجَابِ النَّارِ فَأَمَّا عِبَادَةٌ حُكْمُهَا تَكْفِيرُ الْمَعْصِيَةِ وَمَحْوُ أَثَرِهَا فَلَا اسْتِحَالَةَ فِي جَعْلِ الْمَعْصِيَةِ سَبَبًا لَهَا خُصُوصًا إذَا صَارَ مَعْنَى الزَّجْرِ فِيهَا مَقْصُودًا وَلَا يُقَالُ لَوْ جَوَّزْنَا هَذَا لَصَارَتْ الْمَعْصِيَةُ مَاحِيَةً أَثَرَ نَفْسِهَا بِوَاسِطَةٍ وَهِيَ الْعِبَادَةُ وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ

ص: 157

وَالْمُشْتَمِلُ عَلَيْهِمَا وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى غَالِبُ حَدِّ الْقَذْفِ.

ــ

[كشف الأسرار]

مُوجِبًا بُطْلَانَ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: لَا اسْتِحَالَةَ فِي كَوْنِ الشَّيْءِ بِوَاسِطَةِ حُكْمِهِ مُوجِبًا عَدَمَ نَفْسِهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْمُوجِبُ يَتَعَقَّبُهُ وَإِنَّمَا يَسْتَحِيلُ إذَا كَانَ يُقَارِنُهُ؛ لِأَنَّ اقْتِرَانَ مَا يُوجِبُ عَدَمَهُ بِحَالَةِ وُجُودِهِ يُؤَدِّي إلَى الْمُنَاقَضَةِ وَحُكْمُ الْمَعْصِيَةِ هَاهُنَا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ لَا وُجُودُهَا وَالْمُوجِبُ لِمَحْوِ أَثَرِ الْمَعْصِيَةِ وُجُودُ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ حُصُولَ الثَّوَابِ الَّذِي بِهِ يَحْصُلُ الْمَحْوُ يَتَعَلَّقُ بِالْوُجُودِ وَبِالْوُجُوبِ وَهُوَ مُتَعَقِّبٌ عَنْ الْمَعْصِيَةِ لَا مَحَالَةَ لِتَعَقُّبِ وُجُودِ الْكَفَّارَةِ وُجُوبَهَا فَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا اسْتِحَالَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْحُدُودُ أَحْكَامًا لِلْمَعَاصِي وَإِنْ كَانَتْ هِيَ كَفَّارَاتٍ لَهَا بِشَهَادَةِ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ اسْتِحَالَةٌ فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ لِوُجُوبِ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ حَتَّى سَقَطَتْ بِالشُّبْهَةِ قُلْنَا بِتَدَاخُلِ الْكَفَّارَاتِ فِي الْفِطْرِ حَتَّى لَوْ أَفْطَرَ مِرَارًا فِي رَمَضَانَ وَاحِدٌ مِنْ غَيْرِ تَكْفِيرٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَيْنِ وَلَمْ يُكَفِّرْ لِلْمَرَّةِ الْأُولَى فَكَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ عَنْ أَصْحَابِنَا وَهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ الْمَشَايِخِ وَرُوِيَ فِي الْكَيْسَانِيَّاتِ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَتَيْنِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله يَجِبُ لِكُلِّ فِطْرٍ كَفَّارَةٌ عَلَى حِدَةٍ كَمَا إذَا ظَاهَرَ مِرَارًا أَوْ قَتَلَ إنْسَانًا خَطَأً؛ لِأَنَّ التَّدَاخُلَ مِنْ خَصَائِصِ الْعُقُوبَاتِ الْمَحْضَةِ وَهَذِهِ لَيْسَتْ بِعُقُوبَةٍ مَحْضَةٍ بَلْ هِيَ عِبَادَةٌ فَلَا يُمْكِنُ إلْحَاقُهَا بِمَا تَمَحَّضَ عُقُوبَةً وَنَحْنُ نَقُولُ لَمَّا خُصَّتْ هَذِهِ الْكَفَّارَةُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ فِي إسْقَاطِهَا بِالشُّبْهَةِ لِتَرَجُّحِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِيهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ السَّبِيلَ فِيهَا الدَّرْءُ وَالتَّدَاخُلُ مِنْ بَابِ الدَّرْءِ كَمَا فِي الْحُدُودِ

وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ لَوَجَبَتْ لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي شُرِعَتْ فَإِنَّهَا زَاجِرَةٌ وَقَدْ حَصَلَ الزَّجْرُ بِالْمَرَّةِ الْأُولَى فَكَانَ مَعْنَى الزَّجْرِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ مَعْدُومًا أَوْ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ فَلَا وَجْهَ لِإِيجَابِهَا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ كَمَا فِي الْحُدُودِ وَلِهَذَا قُلْنَا: إذَا كَفَّرَ لِلْمَرَّةِ الْأُولَى، ثُمَّ أَفْطَرَ تَلْزَمُهُ أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الِانْزِجَارَ لَمْ يَحْصُلْ بِالْأُولَى فَكَانَ فِي الثَّانِيَةِ فَائِدَةٌ كَمَا فِي الْحَدِّ سَوَاءً فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَا سِوَى الْمَرَّةِ الْأُولَى لَمْ يَنْعَدِمْ سَبَبًا فَكَانَ مَعْنَى التَّدَاخُلِ امْتِنَاعَ الْوُجُوبِ بَعْدَمَا وَجَبَ مَرَّةً وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إنَّ الشَّرْعَ قَدَّرَ الزَّاجِرَ فِي كُلِّ بَابٍ بِالْجِنَايَاتِ وَإِنْ كَثُرَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَاسْتِيفَاءُ الزَّوَاجِرِ يُؤَدِّي إلَى جَعْلِ الزَّاجِرِ زِيَادَةً عَلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَلِذَا لَمْ يَتَكَرَّرْ الِاسْتِيفَاءُ فِي الْحُدُودِ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: يَنْعَقِدُ الْجِنَايَاتُ عِلَلًا فِي أَنْفُسِهَا وَالزَّاجِرُ الْمُسْتَوْفَى يَكُونُ حُكْمًا لِكُلِّ عِلَّةٍ كَحُرْمَةِ صَيْدِ الْحَرَمِ عَلَى الْمُحْرِمِ وَحُرْمَةِ الْمُقَدَّرِ الْمَبِيعِ بِجِنْسِهِ نَسِيئَةً فَإِنَّهَا تَكُونُ ثَابِتَةً بِالْجِنْسِ وَالْقَدْرِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِلَّةٌ تَامَّةٌ فِي تَحْرِيمِ النَّسَاءِ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْعِلَلِ يُسَمَّى عِلَلًا مُتَعَاوِرَةً عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ فَكَانَ مَعْنَى التَّدَاخُلِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الِاكْتِفَاءَ بِحُكْمٍ وَاحِدٍ عَنْ عِلَلٍ مُتَعَدِّدَةٍ إلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ رحمه الله وَحُقُوقُ الْعِبَادِ أَيْ الْحُقُوقُ الْخَالِصَةُ لَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى نَحْوُ ضَمَانِ الدِّيَةِ وَبَدَلِ الْمُتْلَفِ وَالْمَغْصُوبِ وَمِلْكِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ وَمِلْكِ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَمَا أَشْبَهَهَا.

قَوْلُهُ (وَالْمُشْتَمِلُ عَلَيْهِمَا) أَيْ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الْعَبْدِ وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى غَالِبٌ حَدُّ الْقَذْفِ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْحَقَّيْنِ بِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّ شَرْعَهُ لِدَفْعِ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ وَشَرْعَهُ حَدًّا زَاجِرًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَالْأَحْكَامُ تَشْهَدُ لِذَلِكَ أَيْضًا كَمَا سَتَقِفُ عَلَيْهِ أَلَا أَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ غَالِبٌ عِنْدَنَا كَمَا فِي سَائِرِ الْحُدُودِ حَتَّى لَا يَجْرِيَ

ص: 158

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[كشف الأسرار]

فِيهِ الْإِرْثُ وَلَا يَسْقُطُ بِعَفْوِ الْمَقْذُوفِ إلَّا فِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَيَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ حَتَّى لَوْ قَذَفَ جَمَاعَةً فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي كَلِمَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله حَقُّ الْعَبْدِ فِيهِ غَالِبٌ فَيَجْرِي فِيهِ الْعَفْوُ وَالْإِرْثُ وَلَا يَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ وَرَأَيْت فِي التَّهْذِيبِ أَنَّهُ إنْ قَذَفَ شَخْصًا وَاحِدًا مِرَارًا بِزِنَا وَاحِدٍ لَا يَجِبُ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ وَإِنْ قَذَفَهُ بِزَنَيَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَفِي قَوْلٍ يَتَجَدَّدُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَلَا يَقَعُ فِيهِ التَّدَاخُلُ وَفِي قَوْلٍ وَهُوَ الْأَصَحُّ لَا يَجِبُ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهَا حُدُودٌ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لِمُسْتَحِقٍّ وَاحِدٍ كَحُدُودِ الزِّنَا فَيَتَدَاخَلُ

وَلَوْ قَذَفَ جَمَاعَةً كُلَّ وَاحِدٍ بِكَلِمَةٍ عَلَى حِدَةٍ يَجِبُ عَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ كَامِلٌ وَإِنْ قَذَفَهُمْ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ بِأَنْ قَالَ: أَنْتُمْ زُنَاةٌ أَوْ زَنَيْتُمْ فَفِي الْقَدِيمِ لَا يَجِبُ لِكُلٍّ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ اعْتِبَارًا لِاتِّحَادِ اللَّفْظِ وَفِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الْأَصَحُّ يَجِبُ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ كَامِلٌ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مَعَرَّةً فَصَارَ كَمَا لَوْ قَذَفَهُمْ بِكَلِمَاتٍ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رحمه الله لِإِثْبَاتِ هَذَا الْأَصْلِ بِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ التَّنَاوُلُ مِنْ عِرْضِهِ وَعِرْضُهُ حَقُّهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عليه السلام «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ أَبِي ضَمْضَمٍ إذَا أَصْبَحَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي تَصَدَّقْت بِعِرْضِي عَلَى عِبَادِك» وَالْمَدْحُ إنَّمَا يُسْتَحَقُّ عَلَى التَّصَدُّقِ بِمَا هُوَ حَقُّهُ وَكَذَا الْمَقْصُودُ دَفْعُ عَارِ الزِّنَا عَنْ الْمَقْذُوفِ وَذَلِكَ حَقُّهُ وَإِذَا كَانَ سَبَبُهُ الْجِنَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ وَمَنْفَعَتُهُ تَعُودُ إلَيْهِ عَلِمَ أَنَّهُ حَقُّهُ كَالْقِصَاصِ وَكَذَا الْحُكْمُ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّ خُصُومَةَ الْعَبْدِ شَرْطٌ فِي نَفْسِ الْحَدِّ فَإِنَّهُ يَدَّعِي أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ حَدَّ الْقَذْفِ كَمَا يَدَّعِي أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ قِصَاصًا وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ السَّرِقَةُ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ هُنَاكَ الْخُصُومَةُ فِي الْمَالِ دُونَ الْحَدِّ حَتَّى لَوْ خَاصَمَ فِي الْحَدِّ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وَكَذَا لَا يَعْمَلُ الرُّجُوعُ فِيهِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ وَلَا يَبْطُلُ بِالتَّقَادُمِ وَيُقَامُ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ الْمُسْتَأْمَنُ بِمَا هُوَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ إلَّا أَنَّ الْمَقْذُوفَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ بِنَفْسِهِ كَمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ يَخْتَلِفُ شِدَّةً وَخِفَّةً وَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ مِنْ حَيْثُ اعْتِبَارُ الْخِفَّةِ لِفَرْطِ غَضَبِهِ فَفُوِّضَ إلَى الْإِمَامِ دَفْعًا لِلْمَوْهُومِ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ بِحَدِّهِ وَهُوَ جُزْءُ الرَّقَبَةِ وَلَا يَجْرِي فِيهِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ فَفُوِّضَ إلَيْهِ وَنَحْنُ نَسْتَدِلُّ عَلَى مَا قُلْنَا بِالسَّبَبِ وَبِالْحُكْمِ

أَمَّا السَّبَبُ فَإِنَّ هَذَا الْحَدَّ يَجِبُ بِالْقَذْفِ بِالزِّنَا فَإِنَّهُ لَمَّا قَذَفَ مُحْصَنًا فَقَدْ أَلْحَقَ بِهِ تُهْمَةَ الزِّنَا فَأَوْجَبَ الْحَدَّ عَلَى الْقَاذِف لِيَكُونَ بِوُجُوبِهِ زَاجِرًا عَنْ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ وَلِيَزُولَ بِاسْتِيفَائِهِ عَنْ الْمَقْذُوفِ تِلْكَ التُّهْمَةُ حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَقْذُوفُ مَجْنُونًا لَمْ يَلْحَقْهُ التُّهْمَةُ لَمْ يُحَدَّ الْقَاذِفُ وَلَمَا وَجَبَ لِتَعْفِيَةِ أَثَرِ الزِّنَاءِ وَحُرْمَةُ الزِّنَا خَالِصَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى حَتَّى كَانَ الْحَدُّ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ خَالِصًا لَهُ وَجَبَ أَنْ يَخْلُصَ الْحَدُّ عَلَى إظْهَارِهِ بِوَجْهٍ حَرَامٍ يَجِبُ الْكَفُّ عَنْهُ لِلَّهِ تَعَالَى أَيْضًا وَلَكِنْ هَتَكَ بِهَذِهِ التُّهْمَةِ حُرْمَةَ عِرْضِ الْمَقْذُوفِ وَلِلَّهِ تَعَالَى فِي عِرْضِ الْمَقْذُوفِ حَقٌّ وَلِلْمَقْذُوفِ حَقٌّ فَثَبَتَ لِلْعَبْدِ ضَرْبُ حَقٍّ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ.

فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَوَجَبَ فِيهِ الْحَقَّ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَوْجَبَ الْحَقَّ لِلَّهِ عز وجل وَلِلْعَبْدِ فَقُلْنَا مُعْظَمُ الْحَقِّ فِيهِ لِلَّهِ عز وجل بِخِلَافِ الْقِصَاصِ فَإِنَّهُ سَبَبُهُ لَيْسَ إلَّا لِقَتْلِ الَّذِي هُوَ جِنَايَةٌ عَلَى النَّفْسِ وَفِيهَا لِلَّهِ تَعَالَى حَقٌّ وَهُوَ حَقُّ الِاسْتِعْبَادِ وَلِلْعَبْدِ حَقٌّ وَحَقُّ الْعَبْدِ أَرْجَحُ بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ ذَلِكَ فَصَارَ مُعْظَمُ الْحَقِّ فِيهِ لَهُ وَأَمَّا الْحُكْمُ فَهُوَ أَنَّ حُرْمَةَ الْقَذْفِ لَا تَسْقُطُ بِجِنَايَاتِ الْعَبْدِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْكَبَائِرِ كَمَا لَا يَسْقُطُ حُرْمَةُ الزِّنَا بِالْمَرْأَةِ الَّتِي ثَبَتَتْ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى بِكُفْرِهَا وَجِنَايَتِهَا وَلَوْ كَانَ مُعْظَمُ الْحَقِّ لِلْعَبْدِ لَسَقَطَ بِكُفْرِهِ الَّذِي يَسْقُطُ بِهِ حُرْمَةُ دَمِهِ وَحَيَاتِهِ وَكَذَا تَنْصِيفُهُ بِالرِّقِّ مِنْ أَظْهَرِ الدَّلَائِلِ

ص: 159

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[كشف الأسرار]

عَلَى مَا قُلْنَا؛ لِأَنَّ مَا يَجِبُ لِلْعِبَادِ لَا يَنْتَصِفُ بِالرِّقِّ كَإِتْلَافِ الْمَالِ وَإِنَّمَا يَنْتَصِفُ مَا يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي تَقْبَلُ التَّنْصِيفَ

وَهَذَا؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْجَرِيمَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى تَزْدَادُ بِزِيَادَةِ النِّعْمَةِ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ النِّعْمَةِ تُوجِبُ زِيَادَةَ الشُّكْرِ فَتَزْدَادُ حُرْمَةُ تَرْكِ الشُّكْرِ بِالْمَعْصِيَةِ بِحَسَبِ زِيَادَةِ وُجُوبِ الشُّكْرِ وَإِذَا ازْدَادَتْ الْعُقُوبَةُ وَالنِّعْمَةُ فِي حَقِّ الْحُرِّ كَامِلَةٌ وَفِي حَقِّ الْعَبْدِ نَاقِصَةٌ فَيَتَكَامَلُ الْعُقُوبَةُ وَتَنْتَقِصُ بِحَسَبِهَا فَأَمَّا مَا يَجِبُ لِلْعَبْدِ فَيَجِبُ جَبْرًا لِمَا فُوِّتَ عَلَيْهِ وَالتَّفْوِيتُ لَا يَخْتَلِفُ بِجِنَايَةِ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ فَلَا تُنْتَقَصُ الْوَاجِبُ بِكَوْنِهِ عَبْدًا يُوَضِّحُهُ أَنَّ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ يُعْتَبَرُ الْمُمَاثَلَةُ الَّتِي تُشِيرُ إلَى مَعْنَى الْجَبْرِ كَمَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ وَلِهَذَا مَا وَجَبَ مِنْ الْعُقُوبَاتِ حَقًّا لِلْعَبْدِ وَجَبَ بِاسْمِ الْقِصَاصِ الَّذِي يُنْبِئُ عَنْ الْمُمَاثَلَةِ لِيَكُونَ إشَارَةً إلَى الْمَعْنَى الْجَبْرِ وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ النِّسْبَةِ إلَى الزِّنَا وَبَيْنَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى كَمَا لَا مُشَابَهَةَ بَيْنَ الْحَدِّ وَالزِّنَا فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ عز وجل كَسَائِرِ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّ مَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَجِبُ مَثَلًا مَعْقُولًا لِمَعْصِيَةٍ كَعَذَابِ الْآخِرَةِ مَعَ الْكُفْرِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ اسْتِيفَاءَهُ إلَى الْإِمَامِ وَهُوَ إنَّمَا يَتَعَيَّنُ ثَانِيًا فِي اسْتِيفَاءِ حَقّ اللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا مَا كَانَ حَقًّا لِلْعَبْدِ فَاسْتِيفَاؤُهُ إلَيْهِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِتَوَهُّمِ التَّفَاوُتِ فَإِنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُعَزِّرَ زَوْجَتَهُ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ حَقًّا لَهُ وَلَا يُنْظَرُ إلَى تَوَهُّمِ التَّفَاوُتِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ كَمَا تُتَوَهَّمُ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ تُتَوَهَّمُ مِنْ الْجَلَّادِ وَيُمْكِنُ مَنْعُ صَاحِبِ الْحَقِّ تُتَوَهَّمُ مِنْ الْجَلَّادِ

وَيُمْكِنُ مَنْعُ صَاحِبِ الْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ إذَا ظَهَرَ أَثَرُهُ كَمَا يُمْنَعُ الْجَلَّادُ مِنْهُ مَعَ أَنَّهُ يَتَوَهَّمُ الزِّيَادَةَ لَا يَمْتَنِعُ صَاحِبُ الْحَقِّ عَنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ كَتَوَهُّمِ السِّرَايَةِ فِي حَقِّ الْقِصَاصِ وَتَمَسُّكُ الْخَصْمِ بِحَدِيثِ أَبِي ضَمْضَمٍ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ حَقِيقَةَ التَّصَدُّقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الصِّدْقَ وَلَكِنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنِّي لَا أُطَالِبُهُمْ بِمُوجِبِ الْجِنَايَةِ وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَقًّا وَنَحْنُ سَلَّمْنَا ذَلِكَ وَادَّعَيْنَا أَنَّ مُعْظَمَ الْحَقِّ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَثْبَتْنَاهُ بِدَلِيلِهِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَقٌّ مُعْتَبَرٌ وَأَنَّ الْمُعَظِّمَ لِلَّهِ تَعَالَى شَرْطُ الدَّعْوَى فِي نَفْسِ الْحَدِّ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ دَعْوَاهُ وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَخْتَلُّ بِاشْتِرَاطِهَا فَإِنَّ الدَّعْوَى لَا تُنَافِي الْحَدَّ كَمَا فِي السَّرِقَةِ وَبَعْدَ مَا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ لَا يَعْمَلُ فِيهِ الرُّجُوعُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ مُصَدِّقٌ لَهُ فِي الْإِقْرَارِ مُكَذِّبٌ لَهُ فِي الرُّجُوعِ بِالدَّعْوَى السَّابِقَة بِخِلَافِ مَا كَانَ مَحْضَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ هُنَاكَ لَيْسَ لَهُ مُكَذِّبٌ ظَاهِرٌ أَفَثَبَتَ فِيهِ شُبْهَةُ الصِّدْقِ وَالْحَدُّ يَبْطُلُ بِالشُّبْهَةِ.

أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ لَا يَعْمَلُ فِيهِ الْإِنْكَارُ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ تَرُدُّ إنْكَارَهُ وَكَذَلِكَ لَا يَبْطُلُ بِالتَّقَادُمِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْقِطٍ لِلْحَدِّ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِزِنًا مُتَقَادِمٍ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَكِنَّ التَّقَادُمَ إنَّمَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّاهِدِ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ السِّتْرِ وَالْإِظْهَارِ فَمَتَى سَكَتَ فَقَدْ اخْتَارَ مَعْنَى السِّتْرِ فَلَمْ يَجُزْ الْإِظْهَارُ بَعْدَ ذَلِكَ فَمَتَى أَظْهَرَ دَلَّ أَنَّ ضَغِينَتَهُ حَمَلَتْهُ عَلَى ذَلِكَ وَفِي حَدِّ الْقَذْفِ لَمَّا شُرِطَتْ الدَّعْوَى لَا يَتَمَكَّنُ الشَّاهِدُ مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ حِسْبَةً قَبْلَ طَلَبِ الْمُدَّعِي فَلَا يَصِيرُ مُتَّهَمًا بِالضَّغِينَةِ

وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الشَّهَادَةُ بِالسَّرِقَةِ الْمُتَقَادِمَةِ فَإِنَّهَا لَا تُقْبَلُ مَعَ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ بِدُونِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّ عَدَمَ قَبُولِهَا لِبُطْلَانِ الدَّعْوَى فَإِنَّ الْمُدَّعِيَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَحْتَسِبَ بِدَعْوَاهُ إقَامَةَ الْحَدِّ لِيُقَامَ الْحَدُّ وَبَيْنَ أَنْ يَخْتَارَ السَّتْرَ فَيَدَّعِي الْأَخْذَ فَإِنْ اخْتَارَ الْحِسْبَةَ حَرُمَ عَلَيْهِ التَّأْخِيرُ فَإِذَا أَخَّرَ كَأَنْ بَنَاهُ عَلَى تَرْكِ جِهَةِ الْحِسْبَةِ فَإِذَا عَادَ يَدَّعِي السَّرِقَةَ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَاهُ السَّرِقَةَ بَعْدَمَا لَزِمَتْهُ التُّهْمَةُ فَبَطَلَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى السَّرِقَةِ وَبَقِيَتْ دَعْوَى الْمَالِ وَالشَّهَادَةِ بِهِ فَوَجَبَ الْقَضَاءُ بِالْمَالِ.

ص: 160

161 -

< 159 161 > وَاَلَّذِي يَغْلِبُ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ الْقِصَاصُ.

فَأَمَّا حَدُّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ فَخَالِصٌ لِلَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا وَهَذَا مِمَّا يَطُولُ بِهِ الْكِتَابُ.

ــ

[كشف الأسرار]

فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَعِنْدَنَا لَا يَجْرِي فِيهِ الْإِرْثُ؛ لِأَنَّهُ خِلَافَةٌ وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجْرِي فِيهِ الْخِلَافَةُ وَلَا يَسْقُطُ بِالْعَفْوِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ مَا يَتَمَحَّضُ حَقًّا لَهُ أَوْ مَا غَلَبَ فِيهِ حَقُّهُ فَأَمَّا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ وَإِنْ كَانَ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَقٌّ كَالْعِدَّةِ فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ الزَّوْجِ لِمَا فِيهَا مِنْ حَقِّ اللَّهِ عز وجل كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَالْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِمَا.

قَوْلُهُ (وَاَلَّذِي يَغْلِبُ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ الْقِصَاصُ) الْقِصَاصُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْحَقَّيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَتْلَ جِنَايَةٌ عَلَى النَّفْسِ وَلِلَّهِ تَعَالَى فِيهَا حَقُّ الِاسْتِعْبَادِ كَمَا أَنَّ لِلْعَبْدِ حَقَّ الِاسْتِمْتَاعِ بِبَقَائِهَا فَكَانَتْ الْعُقُوبَةُ الْوَاجِبَةُ بِسَبَبِهِ مُشْتَمِلَةً عَلَى الْحَقَّيْنِ وَإِنْ كَانَ حَقُّ الْعَبْدِ رَاجِحًا بِلَا خِلَافٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ فِيهِ حَقَّ اللَّهِ عز وجل أَنَّهُ يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ الْخَالِصَةِ وَأَنَّهُ يَجِبُ جَزَاءُ الْفِعْلِ فِي الْأَصْلِ لَا ضَمَانِ الْمَحَلِّ حَتَّى يَقْتُلَ الْجَمَاعَةَ بِالْوَاحِدِ وَلَوْ كَانَ ضَمَانُ الْمَحَلِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَالدِّيَةِ لَا يُقْتَلُونَ بِهِ وَأَجْزِئَةُ الْأَفْعَالِ تَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ عز وجل وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ وُجُوبُهُ بِطَرِيقِ الْمُمَاثَلَةِ الَّتِي تُنْبِئُ عَنْ مَعْنَى الْجَبْرِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَفِيهِ مَعْنَى الْمُقَابِلَةِ بِالْمَحَلِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عُلِمَ أَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ رَاجِحٌ وَكَذَا تَفْوِيضُ اسْتِيفَائِهِ إلَى الْوَلِيِّ وَجَرَيَانُ الْإِرْثِ فِيهِ وَصِحَّةُ الِاعْتِيَاضِ عَنْهُ بِالْمَالِ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ دَلِيلٌ عَلَى رُجْحَانِ حَقِّهِ أَيْضًا.

قَوْلُهُ (وَأَمَّا حَدُّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ فَخَالِصٌ) أَيْ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا قَطْعًا كَانَ أَوْ قَتْلًا كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ وَالرَّجْمِ فِي الزِّنَا وَلِهَذَا لَا يُوجِبُهُ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ إذَا ارْتَكَبَ سَبَبَهُ فِي دَارِنَا بِمَنْزِلَةِ حَدِّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله الْقَتْلُ الْوَاجِبُ فِيهِ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْحَقَّيْنِ وَفِيهِ مَعْنَى الْحُدُودِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالْعَفْوِ وَيَسْتَوْفِيهِ الْإِمَامُ دُونَ الْوَلِيِّ

وَفِيهِ مَعْنَى الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِالْقَتْلِ وَالْقَتْلُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْقَتْلِ يَكُونُ قِصَاصًا وَمَعْنَى الْقِصَاصِ غَالِبٌ عِنْدَهُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّ الْقَتِيلَ مَعْصُومٌ يَجِبُ الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ فِي غَيْرِ حَالِ الْمُحَارَبَةِ فَفِي حَالِ الْمُحَارَبَةِ أَوْلَى، ثُمَّ الْقِصَاصُ حَقُّ الْعَبْدِ فَيَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِمَا عُرِفَ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَوْ قَتَلَ حُرٌّ عَبْدًا أَوْ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا أَوْ قَتَلَ الْأَبُ ابْنَهُ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ لَا يَجِبُ الْقَتْلُ وَتَجِبُ الدِّيَةُ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ وَلَوْ قَتَلَ وَاحِدٌ جَمَاعَةً قُتِلَ بِالْأَوَّلِ وَلِلْبَاقِينَ الدِّيَةُ وَإِنْ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ غَيْرُ الْإِمَامِ يَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ لِوَرَثَتِهِ وَإِنْ مَاتَ تُؤْخَذُ الدِّيَةُ مِنْ تَرِكَتِهِ وَإِنْ قَتَلَ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ بِمُثْقَلٍ أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ يُقْتَلُ بِذَلِكَ الطَّرِيقِ كَذَا ذُكِرَ فِي التَّهْذِيبِ وَنَحْنُ نَقُولُ: الْقَتْلُ وَالْقَطْعُ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ حَدٌّ وَاحِدٌ، ثُمَّ الْقَطْعُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُصُوصِ فَكَذَلِكَ الْقَتْلُ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهُ جَزَاءً وَالْجَزَاءُ الْمُطْلَقُ مَا يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى بِمُقَابَلَةِ الْفِعْلِ فَأَمَّا الْقِصَاصُ فَوَاجِبٌ بِطَرِيقِ الْمُسَاوَاةِ وَفِيهِ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ بِالْمَحَلِّ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ سَبَبَ هَذَا الْقَتْلِ مُحَارَبَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِقَوْلِهِ {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] وَمَا يَجِبُ بِمِثْلِ هَذَا السَّبَبِ يَكُونُ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ وَسَمَّاهُ خِزْيًا فِي قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} [المائدة: 33] فَعَرَفْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّهُ قَتْلٌ يُسْتَحَقُّ بِالْقَتْلِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ عِنْدَنَا بَلْ السَّبَبُ هُوَ الْمُحَارَبَةُ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ النَّصُّ أَلَا أَنَّهَا مُتَنَوِّعَةٌ فَالْقَطْعُ جَزَاءُ الْمُحَارَبَةِ الْمُتَأَكَّدَةِ بِأَخْذِ الْمَالِ وَالْقَتْلُ جَزَاءُ الْمُحَارَبَةِ الْكَامِلَةِ بِالْقَتْلِ لِأَجْزَاءِ الْقَتْلِ وَلِهَذَا جَعَلْنَا رِدْأَهُ كَالْمُبَاشِرِ حَتَّى لَوْ وُلِّيَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ الْقَتْلَ قُتِلُوا جَمِيعًا عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ إذَا دَخَلَ قَطْعَ الطَّرِيقِ قَتْلٌ صَارَ كَامِلًا وَصَارَ نِصْفُ.

ص: 161

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[كشف الأسرار]

الْكَمَالِ مُضَافًا إلَى الْجَمِيعِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الرِّدْءُ وَالْمُبَاشِرُ وَلَمَّا قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: إنَّ أَصْلَهُ قِصَاصٌ وَإِنَّ خِتَامَهُ حَدٌّ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقْتَلَ إلَّا الْمُبَاشِرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَهَذَا أَيْ بَيَانُ مَا ذَكَرْنَا وَتَحْقِيقُهُ مِمَّا يَطُولُ بِهِ الْكِتَابُ قَوْلُهُ (وَهَذِهِ الْحُقُوقُ) أَيْ الْحُقُوقُ الْمَذْكُورَةُ كُلُّهَا تَنْقَسِمُ إلَى أَصْلٍ وَخَلَفٍ وَذَلِكَ أَيْ الِانْقِسَامُ إلَى الْأَصْلِ وَالْخَلَفِ فِي الْإِيمَانِ أَوَّلًا أَصْلُهُ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ، ثُمَّ صَارَ الْإِقْرَارُ بِنَفْسِهِ أَصْلًا مُسْتَبِدًّا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا خَلَفًا عَنْ التَّصْدِيقِ أَيْ عَنْ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ جَمِيعًا كَمَا قُلْنَا فِي الْمُكْرَهِ عَلَى الْإِسْلَامِ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِمُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ حَتَّى لَوْ رَجَعَ عَنْ الْإِقْرَارِ عِنْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ يَصِيرُ مُرْتَدًّا

، ثُمَّ صَارَ أَدَاءُ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ ثَابِتًا فِي حَقِّ الصَّغِيرِ خَلَفًا عَنْ أَدَاءِ الصَّغِيرِ بِنَفْسِهِ لِعَجْزِهِ عَنْ ذَلِكَ وَقُصُورِ عَقْلِهِ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَمَا يَثْبُتُ الْإِيمَانُ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ بِأَدَاءِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمَعْتُوهِ وَالْمَجْنُونِ فَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَبَعًا لِأَحَدِ أَبَوَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ كَالصَّغِيرِ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ أَيْ أَدَاءُ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ مَعَ أَدَاءِ الصَّغِيرِ بِنَفْسِهِ يَعْنِي إذَا كَانَ عَاقِلًا بِخِلَافِ الْمَجْنُونِ فَإِنَّ أَدَاءَهُ بِنَفْسِهِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ تَبَعِيَّةِ الْأَبَوَيْنِ لِصُدُورِهِ لَا عَنْ عَقْلٍ بِخِلَافِ أَدَاءِ الصَّغِيرِ وَرَأَيْت فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي أَنَّ الْمَعْتُوهَ كَالْمَجْنُونِ فِي عَدَمِ صِحَّةِ أَدَائِهِ بِنَفْسِهِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ كَالصَّبِيِّ دُونَ الْمَجْنُونِ إذْ هُوَ نَاقِصُ الْعَقْلِ دُونَ عَدِيمِ الْعَقْلِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَفَائِدَةُ اعْتِبَارِ أَدَاءِ الصَّبِيِّ بِنَفْسِهِ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ، ثُمَّ أَسْلَمَ الصَّغِيرُ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ ارْتَدَّ الَّذِي أَسْلَمَ مِنْ أَبَوَيْهِ لَا يَصِيرُ الصَّبِيُّ مُرْتَدًّا بَلْ يَبْقَى مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ نَفْسِهِ وَلَوْ أَسْلَمَ بِنَفْسِهِ يَصِحّ وَإِنْ كَانَ أَبَوَاهُ كَافِرَيْنِ، ثُمَّ صَارَتْ تَبَعِيَّةُ أَهْلِ الدَّارِ وَالْغَانِمِينَ أَيْ أَدَاءُ الْغَانِمِينَ خَلَفًا عَنْ تَبَعِيَّةِ الْأَبَوَيْنِ وَجَعَلَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله تَبَعِيَّةَ الدَّارِ خَلَفًا عَنْ تَبَعِيَّةِ الْأَبَوَيْنِ وَتَبَعِيَّةُ الْغَانِمِينَ خَلَفًا عَنْ تَبَعِيَّةِ الدَّارِ فَقَالَ: ثُمَّ تَبَعِيَّةُ الدَّارِ فِيمَنْ سَبَى صَغِيرًا وَأُخْرِجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَحْدَهُ خَلَفٌ عَنْ تَبَعِيَّةِ الْأَبَوَيْنِ فِي ثُبُوتِ حُكْمِ الْإِيمَانِ لَهُ، ثُمَّ تَبَعِيَّةُ السَّابِي إذَا قُسِّمَ أَوْ بِيعَ مِنْ مُسْلِمٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ خَلَفٌ عَنْ تَبَعِيَّةِ الدَّارِ فِي ثُبُوتِ حُكْمِ الْإِيمَانِ لَهُ حَتَّى إذَا مَاتَ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ

وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ خَلْفِيَّةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَيْسَ كَوْنَ تَبَعِيَّةِ الْغَانِمِينَ أَوْ الدَّارِ خَلَفًا عَنْ تَبَعِيَّةِ الْأَبَوَيْنِ، ثُمَّ كَوْنُ تَبَعِيَّتِهِمَا خَلَفًا عَنْ أَدَاءِ الصَّغِيرِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي حِينَئِذٍ إلَى أَنْ يَكُونَ لِلْخَلَفِ خَلَفٌ وَهُوَ فَاسِدٌ لِصَيْرُورَةِ شَيْءٍ وَاحِدٍ أَصْلًا وَخَلَفًا بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ خَلَفٌ عَنْ أَدَاءِ الصَّغِيرِ بِنَفْسِهِ، وَلَكِنَّ الْبَعْضَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْبَعْضِ كَابْنِ الْمَيِّت خَلَفٌ عَنْهُ فِي الْمِيرَاثِ وَعِنْدَ عَدَمِهِ يَكُونُ ابْنُ الِابْنِ خَلَفًا عَنْ الْمَيِّتِ لَا عَنْ ابْنِهِ وَكَالْفِدْيَةِ فِي بَابِ الصَّوْمِ خَلَفٌ عَنْ الصَّوْمِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْقَضَاءِ لَا أَنَّهَا خَلَفٌ عَنْ الْقَضَاءِ هَكَذَا قِيلَ وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِي الْعُدُولِ عَنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ وَجَعْلُ تَبَعِيَّةِ الدَّارِ وَالْغَانِمِينَ خَلَفًا عَنْ أَدَاءِ الصَّغِيرِ دُونَ تَبَعِيَّةِ الْأَبَوَيْنِ إذْ لَا اسْتِحَالَةَ فِي أَنْ يَكُونَ لِلْخَلَفِ خَلَفٌ وَلَا فَسَادَ فِي أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ خَلَفًا مِنْ وَجْهٍ أَصْلًا مِنْ وَجْهٍ وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَعَ حَقِيقَةِ الْأَدَاءِ لَا يُعْتَبَرُ تَبَعِيَّةُ شَيْءٍ مَعَ تَبَعِيَّةِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ لَا يُعْتَبَرُ دَارُ الْإِسْلَامِ أَوْ السَّابِي حَتَّى لَوْ سُبِيَ الصَّبِيُّ مَعَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا بِالدُّخُولِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ تَبَعِيَّةَ الْأَبَوَيْنِ أَقْوَى مِنْ تَبَعِيَّةِ الدَّارِ

وَمَعَ تَبَعِيَّةِ دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يُعْتَبَرُ تَبَعِيَّةُ السَّابِي حَتَّى لَوْ سَرَقَ ذِمِّيٌّ صَبِيًّا.

ص: 162

وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَعْتُوهِ وَالْمَجْنُونِ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ مَعَ أَدَاءِ الصَّغِيرِ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ صَارَ تَبَعِيَّةُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَالْغَانِمِينَ خَلَفًا عَنْ تَبَعِيَّةِ الْأَبَوَيْنِ فِي إثْبَاتِ الْإِسْلَامِ فِي صَغِيرٍ أُدْخِلَ دَارَنَا وَوَقَعَ فِي سَهْمِ الْمُسْلِمِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدُ أَبَوَيْهِ وَكَذَلِكَ فِي شُرُوطِ الصَّلَاةِ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ أَصْلٌ وَالتَّيَمُّمُ خَلَفٌ عَنْهُ لَكِنَّ هَذَا الْخَلَفَ عِنْدَنَا مُطْلَقٌ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ خَلَفُ ضَرُورَةٍ حَتَّى لَمْ يُجَوِّزْ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ وَقَالَ فِي إنَاءَيْنِ نَجَسٍ وَطَاهِرٍ فِي السَّفَرِ: إنَّ التَّحَرِّيَ فِيهِ جَائِزٌ وَلَمْ يَجْعَلْ التُّرَابَ طَهُورًا لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ وَقُلْنَا نَحْنُ: هُوَ خَلَفٌ مُطْلَقٌ حَتَّى جَوَّزْنَا جَمِيعَ الصَّلَوَاتِ بِهِ وَقُلْنَا فِي الْإِنَاءَيْنِ لَا يَتَحَرَّى؛ لِأَنَّ التُّرَابَ طَهُورٌ مُطْلَقٌ عِنْدَ الْعَجْزِ وَقَدْ ثَبَتَ الْعَجْزُ بِالتَّعَارُضِ.

ــ

[كشف الأسرار]

مِنْ دَارِ الْحَرْبِ وَأَدْخَلَهُ دَارَ الْإِسْلَامِ يَصِيرُ مُسْلِمًا بِتَبَعِيَّةِ الدَّارِ وَلَا يُعْتَبَرُ تَبَعِيَّةُ الْآخِذِ حَتَّى وَجَبَ تَخْلِيصُهُ مِنْ يَدِهِ وَلَوْ مَاتَ يَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ قَوْلُهُ

(وَكَذَلِكَ) أَيْ وَكَمَا أَنَّ فِي الْإِيمَانِ التَّصْدِيقَ وَالْإِقْرَارَ أَصْلٌ وَالْإِقْرَارُ الْمُجَرَّدُ وَتَبَعِيَّةُ الْأَبَوَيْنِ وَالدَّارِ وَالسَّابِي خَلَفٌ عَنْهُ فِي شُرُوطِ الصَّلَاةِ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ وَهِيَ أَيْ الِاغْتِسَالُ أَصْلٌ وَالتَّيَمُّمُ خَلَفٌ عَنْهَا بِلَا خِلَافٍ، لَكِنَّ هَذَا الْخَلَفَ عِنْدَنَا مُطْلَقٌ يَعْنِي بِهِ أَنَّ الْحَدَثَ يَرْتَفِعُ بِالتَّيَمُّمِ إلَى غَايَةِ وُجُودِ الْمَاءِ فَيَثْبُتُ إبَاحَةُ الصَّلَاةِ بِنَاءً عَلَى ارْتِفَاعِ الْحَدَثِ وَحُصُولِ الطَّهَارَةِ كَمَا فِي الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله هُوَ خَلَفٌ ضَرُورَةً أَيْ يَثْبُتُ خَلْفِيَّتُهُ ضَرُورَةَ الْحَاجَةِ إلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ وَإِسْقَاطِ الْفَرْضِ عَنْ الذِّمَّةِ فَيَكُونُ التَّيَمُّمُ خَلَفًا عَنْ الْوُضُوءِ لِإِبَاحَةِ الصَّلَاةِ مَعَ قِيَامِ الْحَدَثِ حَقِيقَةً كَطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ حَتَّى لَمْ يُجَوَّزْ أَدَاءَ الْفَرَائِضِ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ ضَرُورِيًّا يُشْتَرَطُ قِيَامُ الضَّرُورَةِ لِصِحَّتِهِ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا وَبَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْأَدَاءِ قَدْ انْتَهَتْ الضَّرُورَةُ فَلَمْ يَبْقَ الْخَلَفُ صَحِيحًا فَلَا يَجُوزُ أَدَاءُ فَرْضٍ آخَرَ بِهِ كَمَا قَالَ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ إنَّ الضَّرُورَةَ لَمَّا انْتَهَتْ بِالْفَرَاغِ مِنْ الْأَدَاءِ لَا يَجُوزُ أَدَاءُ فَرْضٍ آخَرَ بِتِلْكَ الطَّهَارَةِ لِانْقِضَائِهَا بِانْقِضَاءِ الضَّرُورَةِ وَلَمْ يُعْتَبَرْ التَّيَمُّمُ لِأَدَاءِ فَرْضٍ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهِ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ كَمَا قَالَ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ

وَقَالَ فِي إنَاءَيْنِ نَجَسٍ وَطَاهِرٍ فِي سَفَرٍ يَعْنِي فِي مَوْضِعٍ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى مَاءٍ آخَرَ سِوَاهُمَا: إنَّ التَّحَرِّيَ فِيهِ أَيْ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ جَائِزٌ وَلَمْ يُجْعَلْ التُّرَابَ طَهُورًا أَيْ لَمْ يُجْعَلْ التَّيَمُّمُ طَهَارَةً فِي هَذَا الْمَوْضِعُ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَحَقَّقُ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ الطَّاهِرِ وَمَعَهُ مَاءٌ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ وَيُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَيْهِ بِالتَّحَرِّي؛ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرْعِ حَالَةَ الْعَجْزِ كَمَا فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْمَصِيرُ إلَى التَّيَمُّمِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ الطَّاهِرِ وَلِهَذَا شُرِطَ الطَّلَبُ لِصِحَّةِ التَّيَمُّمِ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تَتَحَقَّقُ قَبْلَ الطَّلَبِ وَاحْتُجَّ لِإِثْبَاتِ هَذَا الْأَصْلِ بِأَنَّ الْمَسْحَ بِالتُّرَابِ تَلْوِيثٌ وَلَيْسَ بِتَطْهِيرٍ.

أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ إذَا رَأَى الْمَاءَ يَعُودُ الْحَدَثُ السَّابِقُ مِنْ جَنَابَةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَرْتَفِعْ إذْ لَوْ ارْتَفَعَ لَمْ يَعُدْ إلَّا بِحَدَثٍ جَدِيدٍ كَطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ تَنْتَقِضُ بِالْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ أَوْ بِذَهَابِ الْوَقْتِ عِنْدَكُمْ وَهُوَ لَيْسَ بِحَدَثٍ فَعُلِمَ أَنَّ الْحَدَثَ الْأَوَّلَ بَاقٍ وَلَكِنْ أُبِيحَتْ لَهَا الصَّلَاةُ مَعَ الْحَدَثِ لِلضَّرُورَةِ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الرِّدَّةِ أَوْ الْجِنَايَةِ عَلَى الصَّوْمِ بِالْإِفْطَارِ يُبَاحُ الْإِقْدَامُ عَلَى أَجْزَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَالْإِفْطَارُ لِدَفْعِ الضَّرُورَةِ مَعَ قِيَامِ حُرْمَةِ الْكُفْرِ وَالْفِطْرِ وَقُلْنَا نَحْنُ هَذَا أَيْ هَذَا الْخَلَفُ مُطْلَقٌ فِي حَالِ الْعَجْزِ عَنْ الْأَصْلِ بِاتِّفَاقٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فَيَثْبُتُ بِهِ الْحُكْمُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَثْبُتُ بِالْأَصْلِ مَا بَقِيَ الْعَجْزُ فَيَجُوزُ جَمْعُ الصَّلَاةِ بِهِ وَيَجُوزُ الْإِيتَانُ بِهِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ كَالطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ وَلَا يَجُوزُ التَّحَرِّي فِي الْإِنَاءَيْنِ؛ لِأَنَّ التُّرَابَ طَهُورٌ مُطْلَقٌ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَقَدْ تَحَقَّقَ الْعَجْزُ بِالتَّعَارُضِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ التَّعَارُضِ التَّسَاقُطُ فَصَارَ كَأَنَّ الْإِنَاءَيْنِ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ

وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا خَلَفٌ مُطْلَقٌ رَافِعٌ لِلْحَدَثِ سَوَاءٌ جُعِلَتْ الْخَلَفِيَّةُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ أَوْ بَيْنَ التَّوَضُّؤِ وَالتَّيَمُّمِ أَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ إفَادَةُ الطَّهَارَةِ وَإِزَالَةُ الْحَدَثِ فَكَذَا مَا شُرِعَ خَلَفًا عَنْهُ يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْأَصْلِ كَالصَّوْمِ فِي الْكَفَّارَاتِ لَهُ حُكْمُ الْإِعْتَاقِ وَكَالْأَشْهُرِ فِي الْعِدَّةِ لَهَا حُكْمُ الْقُرْءِ وَكَالصَّوْمِ فِي بَابِ الْمُتْعَةِ لَهُ حُكْمُ الْهَدْيِ وَهَذَا ظَاهِرٌ إذَا جُعِلَتْ الْخَلَفِيَّةُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ وَإِنْ جُعِلَتْ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مِنْ حُكْمِ الْوُضُوءِ إبَاحَةَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ بِوَاسِطَةِ رَفْعِ

ص: 163

لَكِنَّ الْخِلَافَ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ

ــ

[كشف الأسرار]

الْحَدَثِ بِطَهَارَةٍ حَصَلَتْ بِهِ لَا مَعَ الْحَدَثِ فَهَذَا الَّذِي جَعَلَ خَلَفًا مُطْلَقًا لَا يُبِيحُ بِدُونِ تِلْكَ الْوَاسِطَةِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ حُكْمًا آخَرَ وَلِلْخَلَفِ حُكْمُ الْأَصْلِ لَا حُكْمٌ آخَرُ فَمَنْ قَالَ هُوَ خَلَفٌ فِي حَقِّ الْإِبَاحَةِ مَعَ الْحَدَثِ جَعَلَهُ غَيْرَ خَلَفٍ عَنْ التَّوَضُّؤِ إذْ التَّوَضُّؤُ لَا يُبِيحُ الْأَدَاءَ مَعَ قِيَامِ الْحَدَثِ الْمَوْجُودِ قَبْلَ التَّوَضُّؤِ بِحَالٍ وَإِنَّمَا يُبِيحُ بِوَاسِطَةِ رَفْعِهِ فَيَكُونُ الْإِبَاحَةُ مِنْ غَيْرِ رَفْعٍ حُكْمًا آخَرَ غَيْرَ حُكْمِ الْأَصْلِ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ خَلَفًا عَنْهُ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ قَوْلُهُ (لَكِنَّ الْخِلَافَ) اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ وَقُلْنَا نَحْنُ هُوَ خَلَفٌ مُطْلَقٌ أَيْ هُوَ خَلَفٌ مُطْلَقٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا، لَكِنَّ الْخِلَافَةَ بَيْنَ الْآلَتَيْنِ وَهُمَا الْمَاءُ وَالتُّرَابُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رحمهم الله بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ وَهُمَا الْوُضُوءُ وَالِاغْتِسَالُ وَالتَّيَمُّمُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْوُضُوءِ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ

{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الْآيَةُ وَبِالِاغْتِسَالِ بِقَوْلِهِ فَاغْتَسِلُوا، ثُمَّ أَمَرَ بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ الْعَجْزِ بِقَوْلِهِ {فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] فَكَانَتْ الْخِلَافَةُ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَالِاغْتِسَالِ وَالتَّيَمُّمِ لَا بَيْنَ التُّرَابِ وَالْمَاءِ إلَّا أَنَّهُمَا يَقُولَانِ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى عَدَمِ الْمَاءِ عِنْدَ النَّقْلِ إلَى التَّيَمُّمِ بِقَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] فَدَلَّ أَنَّ الْخَلَفِيَّةُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالصَّعِيدِ لَا بَيْنَ التَّوَضُّؤِ وَالتَّيَمُّمِ كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَصَّ عَلَى الْمَحِيضِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} [الطلاق: 4] الْآيَةُ عُلِمَ أَنَّ الْأَشْهُرَ خَلَفٌ عَنْ الْحِيَضِ لَا عَنْ التَّرَبُّصِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُتْرَكُ ظَاهِرُ النَّصِّ إلَّا بِدَلِيلٍ يَمْنَعُنَا عَنْ الْعَمَلِ بِهِ وَلَمْ يُوجَدْ وَلَا يُقَالُ قَدْ وُجِدَ الدَّلِيلُ؛ لِأَنَّ الصَّعِيدَ لَيْسَ بِطَهُورٍ بَلْ هُوَ مُلَوَّثٌ فَلَا يَصْلُحُ خَلَفًا عَنْ الْمَاءِ فِي كَوْنِهِ طَهُورًا فَنَجْعَلُ الْخِلَافَةَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْفِعْلِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ هُوَ لَيْسَ بِطَهُورٍ حَقِيقَةً، وَلَكِنَّ النَّجَاسَةَ فِي الْمَحَلِّ حُكْمِيَّةٌ وَهَذِهِ طَهَارَةٌ حُكْمِيَّةٌ فَجَازَ إثْبَاتُهَا بِالصَّعِيدِ فَكَانَ الصَّعِيدُ طَهُورًا حُكْمًا فَيَصْلُحُ خَلَفًا عَنْ الْمَاءِ فِي إثْبَاتِ الطَّهَارَةِ الْحُكْمِيَّةِ يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا قَوْلُهُ عليه السلام «التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ» .

وَقَوْلُهُ: صلى الله عليه وسلم «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» نَصَّ عَلَى طَهُورِيَّةِ التُّرَابِ وَالْأَرْضِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التُّرَابَ خَلَفٌ عَنْ الْمَاءِ فِي الطَّهُورِيَّةِ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ رحمه الله فَتَبَيَّنَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رحمه الله جَعَلَ التَّيَمُّمَ بَدَلًا عَنْ الْوُضُوءِ لِإِبَاحَةِ الصَّلَاةِ مَعَ الْحَدَثِ لَا لِرَفْعِ الْحَدَثِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله هُوَ بَدَلٌ عَنْهُ فِي حَقِّ رَفْعِ الْحَدَثِ مُطْلَقًا فِي حَقِّ الصَّلَاةِ وَانْقِطَاعِ الرَّجْعَةِ وَقُرْبَانِ الزَّوْجِ

وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ جَعَلَا الصَّعِيدَ بَدَلًا عَنْ الْمَاءِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ فِي إفَادَةِ الطَّهَارَةِ الْحُكْمِيَّةِ لِلصَّلَاةِ لَا غَيْرُ وَهُوَ الْأَصَحُّ قَوْلُهُ (وَيَبْتَنِي عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا مَسْأَلَةُ إمَامَةِ الْمُتَيَمِّمِ لِلْمُتَوَضِّئِينَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَؤُمُّ الْمُتَيَمِّمُ الْمُتَوَضِّئِينَ مَا لَمْ يَجِدْ الْمُتَوَضِّئُ الْمَاءَ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ لِأَنَّ التُّرَابَ لَمَّا كَانَ خَلَفًا عَنْ الْمَاءِ فِي حُصُولِ الطَّهَارَةِ كَانَ شَرْطُ الصَّلَاةِ بَعْدَ حُصُولِ الطَّهَارَةِ مَوْجُودًا فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَمَالِهِ فَيَجُوزُ بِنَاءُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ بِمَنْزِلَةِ الْمَاسِحِ يَؤُمُّ الْغَاسِلِينَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْخُفَّ بَدَلٌ عَنْ الرِّجْلِ فِي قَبُولِ الْحَدَثِ لَا أَنَّ الْمَسْحَ خَلَفٌ عَنْ الْغَسْلِ بَلْ الْمَسْحُ أَصْلٌ كَالْمَسْحِ بِالرَّأْسِ فَكَانَتْ طَهَارَةُ الْمَاسِحِ طَهَارَةً أَصْلِيَّةً غَيْرَ مَنْقُولَةٍ إلَى بَدَلٍ فَكَذَا هَاهُنَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله لَا يَؤُمُّ الْمُتَيَمِّمُ الْمُتَوَضِّئَ بِحَالٍ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ رضي الله عنه لِأَنَّ عِنْدَهُ لَمَّا كَانَ التَّيَمُّمُ خَلَفًا عَنْ الْوُضُوءِ كَانَ الْمُتَيَمِّمُ صَاحِبَ الْخَلَفِ وَالْمُتَوَضِّئُ صَاحِبَ الْأَصْلِ وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْأَصْلِ الْقَوِيِّ أَنْ يَبْنِيَ صَلَاتَهُ عَلَى صَلَاةِ صَاحِبِ الْخَلَفِ كَمَا لَا يَبْنِي الْمُصَلِّي بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ عَلَى الصَّلَاةِ الْمُومِئِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَ الْمُتَوَضِّئِ مَاءٌ لَا يَجُوزُ اقْتِدَاؤُهُ بِالْمُتَيَمِّمِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْأَصْلِ فَكَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ

ص: 164

وَعِنْدَ زُفَرَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَالْوُضُوءِ.

وَيُبْتَنَى عَلَيْهِ مَسْأَلَةُ إمَامَةِ الْمُتَيَمِّمِ لِلْمُتَوَضِّئِ وَقَدْ يَكُونُ الْخَلَفُ ضَرُورِيًّا وَهُوَ التُّرَابُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ إذَا خِيفَ فَوْتُ الصَّلَاةِ حَتَّى إنَّ مَنْ تَيَمَّمَ لِجِنَازَةٍ فَصَلَّى، ثُمَّ جِيءَ بِأُخْرَى لَمْ يُعِدْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَأَعَادَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ بِنَاءً عَلَى مَا قُلْنَا

ــ

[كشف الأسرار]

مَعَهُ مَاءٌ؛ لِأَنَّهُ وَاجِدٌ لِلطَّهَارَةِ الْأَصْلِيَّةِ.

وَعِنْدَ زُفَرَ رحمه الله يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ وَإِنْ كَانَ الْمُتَوَضِّئُ قَادِرًا عَلَى الْمَاءِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله؛ لِأَنَّ قُدْرَتَهُ عَلَى الْمَاءِ لَا تُغَيِّرُ وَلَا حَالَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ شَرْطٌ فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَهُوَ بَاقٍ فِي حَقِّهِ وَلِهَذَا جَازَتْ صَلَاتُهُ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي وَلِهَذَا لَمْ يَنْتَقِضْ طَهَارَتُهُ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْبِنَاءِ كَمَا إذَا لَمْ يَقْدِر عَلَى الْمَاءِ إلَّا أَنَّا نَقُولُ لَمَّا قَدَرَ الْمُقْتَدِي عَلَى الْمَاءِ كَانَ فِي زَعْمِهِ أَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّ الْإِمَامِ فَفَسَدَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ فِي زَعْمِهِ فَلَمْ يَصْلُح اقْتِدَاؤُهُ بِهِ كَمَا لَوْ كَانَ فِي زَعْمِهِ أَنَّ إمَامَهُ مُخْطِئٌ فِي تَحَرِّيهِ لِلْقِبْلَةِ لَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ صَحِيحَةً فِي نَفْسِهَا وَكَالصَّحِيحِ يَقْتَدِي بِصَاحِبِ الْجُرْحِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ طَهَارَتَهُ لَيْسَتْ بِطَهَارَةٍ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً فِي حَقِّ الْإِمَامِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُقْتَدِي الْمُتَوَضِّئُ قَادِرًا عَلَى الْمَاءِ؛ لِأَنَّ الْعَدَمَ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَالْمُقْتَدِي جَمِيعًا فَكَانَ الصَّعِيدُ طَهُورًا فِي حَقِّ الْكُلِّ إلَّا أَنَّ الْمُقْتَدِيَ اسْتَغْنَى عَنْهُ لِكَوْنِهِ عَلَى طُهْرٍ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلِهَذَا لَوْ أَحْدَثَ الْمُقْتَدِي جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ فَكَانَتْ طَهَارَةُ الْإِمَامِ طَهَارَةً فِي حَقِّهِ فَصَلُحَ إمَامًا لَهُ.

1 -

وَمِثَالُهُ قَوْمٌ بِهِمْ جُرُوحٌ سَائِلَةٌ أَمَّهُمْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ سَالَ مِنْهُ الدَّمُ بَعْدَ الطَّهَارَةِ وَلَمْ يَسِلْ مِنْ الْبَاقِينَ، ثُمَّ سَالَ الدَّمُ فِي الْوَقْتِ مِنْهُمْ بَعْدَ الصَّلَاةِ جَازَتْ صَلَاتُهُمْ؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ الَّذِي مَنَعَ الدَّمَ أَنْ يَكُونَ حَدَثًا ثَابِتٌ فِي حَقِّهِمْ جَمِيعًا فَصَحَّ الِاقْتِدَاءُ وَإِنْ كَانَ الْقَوْمُ صَلَّوْا صَلَاتَهُمْ بِطَهَارَةٍ صَحِيحَةٍ لَا دَمَ بَعْدَهَا هَكَذَا ذَكَرَ قَوْلُ زُفَرَ فِي الْأَسْرَارِ وَالْمَبْسُوطِ وَعَامَّةِ الْكُتُبِ.

وَسِيَاقُ كَلَامِ الشَّيْخِ هَاهُنَا حَيْثُ ضَمَّ زُفَرَ إلَى مُحَمَّدٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ كَمَا هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ عَلَى خِلَافِ مَا ذُكِرَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ فَلَعَلَّهُ ظَفِرَ بِرِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ أَنَّهُ قَوْلُهُ مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَأَوْرَدَ قَوْلَهُ مُوَافِقًا لِقَوْلِ مُحَمَّدٍ بِنَاءً عَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ كَمَا ذَكَرَ الْإِمَامُ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْمَبْسُوطِ فَقَالَ: وَيَؤُمُّ الْمُتَيَمِّمُ الْمُتَوَضِّئِينَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ رحمهم الله: لَا يَؤُمُّ فَإِنْ كَانَ مَعَ الْمُتَوَضِّئِينَ مَاءٌ لَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ بِلَا خِلَافٍ فَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَاتِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ فَلَا يَصِحُّ ذِكْرُهُ مَعَ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَيْهِمَا مُتَنَاقِضَانِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى كَانَ ذِكْرُ زُفَرَ هَاهُنَا سَهْوًا مِنْ الْكَاتِبِ قَوْلُهُ (وَقَدْ يَكُونُ الْخَلَفُ) أَيْ هَذَا الْخَلَفُ الَّذِي هُوَ مُطْلَقٌ وَهُوَ التُّرَابُ أَوْ التَّيَمُّمُ ضَرُورِيًّا عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ يَعْنِي شَرْطُ ثُبُوتِهِ عَدَمُ الْأَصْلِ، ثُمَّ إنَّهُ قَدْ يَثْبُتُ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ ضَرُورَةُ الِاحْتِرَازِ عَنْ فَوْتِ الصَّلَاةِ بِأَنْ فَاتَتْ أَصْلًا إلَى بَدَلٍ فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ فِي الْمِصْرِ إذَا خِيفَ فَوْتُهَا لَوْ اشْتَغَلَ بِالْوُضُوءِ وَكَذَلِكَ لِصَلَاةِ الْعِيدِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ لَهُمَا قِيَاسًا عَلَى الْجُمُعَةِ وَسَائِرِ الصَّلَاةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ طَهَارَةٌ شَرْعًا عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ فَمَعَ وُجُودِهِ لَا يَكُونُ طَهَارَةً وَلَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهَارَةٍ.

إلَّا أَنَّا نَقُولُ: إنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ لَا تُقْضَى وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْعِيدِ وَالظِّهَارُ بِالْمَاءِ شُرِعَتْ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ فَإِذَا خَافَ الْفَوْتَ أَصْلًا لَوْ اشْتَغَلَ بِالْوُضُوءِ صَارَ عَادِمًا لِلْمَاءِ فِي حَقِّ هَذِهِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الصَّلَاةُ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ قَطُّ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ فَأُبِيحَ لَهُ التَّيَمُّمُ كَمَا لَوْ خَافَ عَطَشًا بِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّهَا تَفُوتُ إلَى خَلَفٍ وَبِخِلَافِ الْوَلِيِّ حَيْثُ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخَافُ الْفَوْتَ فَإِنَّ النَّاسَ وَإِنْ صَلَّوْا عَلَيْهِ كَانَ لَهُ حَقُّ الْإِعَادَةِ

وَقَدْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما إذَا فَجَأَتْك.

ص: 165

وَهَذَا إنَّمَا يُسْتَقْصَى فِي مَبْسُوطِ أَصْحَابِنَا وَإِنَّمَا غَرَضُنَا الْإِشَارَةُ إلَى الْأَصْلِ وَذَلِكَ أَنَّ الْخِلَافَةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالنَّصِّ أَوْ دَلَالَةِ النَّصِّ وَشَرْطُهُ عَدَمُ الْأَصْلِ لِلْحَالِ عَلَى احْتِمَالِ الْوُجُودِ لِيَصِيرَ السَّبَبُ مُنْعَقِدًا لِلْأَصْلِ فَيَصِحُّ الْخَلَفُ فَإِذَا لَمْ يَحْتَمِلْ أَصْلَ الْوُجُودِ فَلَا مِثْلُ الْبِرِّ فِي الْغَمُوسِ لَمَّا لَمْ يَحْتَمِلْ الْوُجُودَ لَمْ يُثْبِتْ الْكَفَّارَةَ خَلَفًا عَنْهُ

ــ

[كشف الأسرار]

جِنَازَةٌ فَخَشِيَتْ فَوْتَهَا فَصَلِّ عَلَيْهَا بِالتَّيَمُّمِ وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما فِي صَلَاةِ الْعِيدِ مِثْلُهُ حَتَّى إنَّ مَنْ تَيَمَّمَ لِجِنَازَةٍ فَجِيءَ بِأُخْرَى يَعْنِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يُدْرِكَ وَقْتًا بَيْنَ الْجِنَازَتَيْنِ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ الْوُضُوءِ لَمْ يُعِدْ التَّيَمُّمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِبَقَاءِ الضَّرُورَةِ وَأَعَادَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله بِنَاءً عَلَى مَا قُلْنَا مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي الْخِلَافَةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْخِلَافَةَ هَاهُنَا وَإِنْ كَانَتْ ضَرُورِيَّةً، لَكِنَّهَا بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَالْوُضُوءِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله فَتَيَمُّمُهُ الْأَوَّلُ كَانَ لِحَاجَتِهِ إلَى إحْرَازِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ الْأُولَى وَقَدْ حَصَلَ مَقْصُودُهُ بِالْفَرَاغِ مِنْهَا فَانْتَهَى حُكْمُ ذَلِكَ التَّيَمُّمِ، ثُمَّ حَدَثَتْ بِهِ حَاجَةٌ جَدِيدَةٌ إلَى إحْرَازِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ الثَّانِيَةِ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ لَهَا وَأَنْ يَجِدَ بَيْنَ الْجِنَازَتَيْنِ مِنْ الْوَقْتِ مَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا وَيَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِهَا وَقَاسَ بِمَا لَوْ تَمَكَّنَ مِنْ الْوُضُوءِ بَيْنَ الْجِنَازَتَيْنِ.

وَعِنْدَهُمَا هَذِهِ الْخِلَافَةُ وَإِنْ ثَبَتَتْ ضَرُورَةً إلَّا أَنَّهَا بَيْنَ التُّرَابِ وَالْمَاءِ كَمَا إذَا كَانَتْ مُطْلَقَةً فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْجَنَائِزِ مَا لَمْ يُدْرِكْ مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارَ مَا يُمَكِّنُهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ لَا تَفُوتُهُ الصَّلَاةُ عَلَى جِنَازَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي صَارَ التُّرَابُ طَهُورًا لِأَجْلِهِ وَهُوَ ضَرُورَةُ خَوْفِ الْفَوْتِ قَائِمٌ بَعْدَ فَيَبْقَى تَيَمُّمُهُ بِبَقَاءِ الْمَعْنَى بِخِلَافِ مَا إذَا تَمَكَّنَ مِنْ الطَّهَارَةِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ قَدْ انْتَهَتْ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ خَوْفِ فَوْتٍ يُوَضِّحُهُ أَنَّ التَّيَمُّمَ بَعْدَمَا صَحَّ لَا يُنْتَقَضُ أَلَا بِالْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَأَنَّهُ لَمْ يَقْدِر عَلَيْهِ بِالْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ الْأُولَى إذَا كَانَ يَخَافُ فَوْتَ الثَّانِيَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ يَتَمَكَّنُ مِنْ الطَّهَارَةِ بَيْنَهُمَا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ اسْتِعْمَالِهِ كَانَ فَرْضُ اسْتِعْمَالِهِ سَاقِطًا عَنْهُ فَيَكُونُ وُجُودُ الْمَاءِ وَعَدَمُهُ فِي حَقِّهِ سَوَاءً كَذَا فِي نَوَادِرِ الْمَبْسُوطِ قَوْلُهُ (وَهَذَا) أَيْ بَيَانٌ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَتَحْقِيقُ هَذِهِ الْفُرُوعِ إنَّمَا يُسْتَقْصَى أَيْ يُبْلَغَ أَقْصَاهُ فِي مَبْسُوطِ أَصْحَابِنَا أَوْ بَيَانُ الْأَصْلِ وَالْخَلَفِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْحُقُوقِ الْمَذْكُورَة فَإِنَّ لِكُلٍّ مِنْهَا خَلَفًا إنَّمَا يُعْرَفُ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ وَالتَّحْقِيقِ فِي مَبْسُوطِ أَصْحَابِنَا فَإِنَّ الْفِدْيَةَ خَلَفٌ عَنْ الصَّوْمِ عِنْدَ الْعَجْزِ وَكَذَا عَنْ الصَّلَاةِ وَالْقَضَاءُ خَلَفٌ عَنْ الْأَدَاءِ فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ الَّتِي شُرِعَ فِيهَا الْقَضَاءُ وَإِحْجَاجُ الْغَيْرِ خَلَفٌ عَنْ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ عِنْدَ الْعَجْزِ وَالْكَفَّارَةُ فِي الْيَمِين خَلَفٌ عَنْ الْبِرِّ وَكَذَا فِي أَدَاءِ الْقَيِّمِ فِي الزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْعُشْرِ وَسَائِرِ الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ مَعْنَى الْخَلَفِيَّةِ وَكَذَا قَيِّمُ الْمُتْلَفَاتِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ وَهَذَا مِمَّا يَكْثُرُ تَعْدَادُهُ وَيَطُولُ بِهِ الْكِتَابُ وَإِنَّمَا عَرَضْنَا الْإِشَارَةَ إلَى الْأَصْلِ وَذَلِكَ الْأَصْلُ أَنَّ الْخِلَافَةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالنَّصِّ أَوْ دَلَالَةِ النَّصِّ لَمْ يُرِدْ الشَّيْخُ الِاقْتِصَارَ عَلَيْهِمَا بَلْ يَثْبُتُ بِإِشَارَةِ النَّصِّ وَبِاقْتِضَائِهِ أَيْضًا وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ انْتِفَاءَ ثُبُوتِ الْخِلَافَةِ بِالرَّأْيِ يَعْنِي أَنَّ الْخَلَفَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِمَا يَثْبُتُ بِهِ الْأَصْلُ وَالْأَصْلُ لَا يَثْبُتُ بِالرَّأْيِ فَكَذَلِكَ خَلَفُهُ.

وَشَرْطُهُ أَيْ شَرْطُ ثُبُوتِ الْخَلَفِ عَدَمُ الْأَصْلِ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ لَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَى الْخَلَفِ لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ عَدَمًا مُحْتَمِلًا لِلْوُجُودِ لِيَصِيرَ السَّبَبُ الْمُثْبِتُ لِلْأَصْلِ، ثُمَّ بِالْعَجْزِ عَنْهُ يَتَحَوَّلُ الْحُكْمُ إلَى الْخَلَفِ كَمَا بَيَّنَّا فِي التَّيَمُّمِ أَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْوُضُوءِ وَهُوَ إرَادَةُ الصَّلَاةِ قَدْ انْعَقَدَ مُوجِبًا لَهُ لِاحْتِمَالِ حُدُوثِ الْمَاءِ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ، ثُمَّ بِالْعَجْزِ انْتَقَلَ الْحُكْمُ إلَى التَّيَمُّمِ فَإِذَا لَمْ يَحْتَمِلْ الْأَصْلُ الْوُجُودَ فَلَا أَيْ فَلَا يَثْبُتُ الْخَلَفُ كَالْخَارِجِ مِنْ الْبَدَنِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلْوُضُوءِ كَالدَّمْعِ وَالْعَرَقِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْخَلَفِ وَهُوَ التَّيَمُّمُ وَكَالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلْأَصْلِ وَهُوَ الِاعْتِدَادُ بِالْأَقْرَاءِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِمَا هُوَ خَلَفٌ عَنْهُ وَهُوَ الِاعْتِدَادُ بِالْأَشْهُرِ وَمِثْلُ الْبِرِّ فِي الْغَمُوسِ.

ص: 166

بِخِلَافِ مَسِّ السَّمَاءِ وَسَائِرِ الْإِبْدَالِ فَإِنَّهَا لَمْ تُشْرَعْ إلَّا عِنْدَ احْتِمَالِ وُجُودِ الْأَصْلِ أَكْثَرَ وَالْمَسَائِلُ عَلَى هَذَا أَكْثَرُ الْأَصْلِ مِنْ أَنْ تُحْصَى وَقَدْ سَبَقَ بَعْضُهَا فِيمَنْ أَسْلَمَ فِي آخِرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي الْمَشْهُودِ بِقَتْلِهِ إذَا جَاءَ حَيًّا وَقَدْ قُتِلَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَاخْتَارَ الْوَلِيُّ تَضْمِينَ الشُّهُودِ أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَلَى الْوَلِيِّ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ قَدْ وُجِدَ وَهُوَ التَّعَدِّي وَالضَّمَانُ وَالْمَضْمُونُ وَهُوَ الدَّمُ مُحْتَمَلٌ لِلْمِلْكِ فِي الشَّرْعِ غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ مِثْلُ مَسِّ السَّمَاءِ فَعُمِلَ فِي بَدَلِهِ وَهُوَ الدِّيَةُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِالْأَصْلِ كَمَا قِيلَ فِي غَاصِبِ الْمُدَبَّرِ مِنْ الْغَاصِبِ إذَا مَاتَ الْمُدَبَّرُ عِنْدَ الثَّانِي أَوْ أَبَقَ إنَّ الْأَوَّلَ إذَا ضَمِنَ رَجَعَ عَلَى الثَّانِي وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ الْمُدَبَّرَ

ــ

[كشف الأسرار]

لَمَّا لَمْ يَحْتَمِلْ الْوُجُودَ؛ لِأَنَّهَا أُضِيفَتْ إلَى مَا لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْبِرُّ لَا يَنْعَقِدُ مُوجِبُهُ لِمَا هُوَ خَلَفٌ عَنْ الْبِرِّ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ مَسِّ السَّمَاءِ أَيْ الْيَمِينَ عَلَى مَسِّ السَّمَاءِ فَإِنَّهَا لَمَّا انْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لِلْبِرِّ لِمُصَادَفَتِهَا مَحَلَّ الْبِرِّ كَانَتْ مُوجِبَةً لِلْخَلَفِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ وَسَائِرُ الْأَبْدَالِ كَمَسْحِ الْخُفِّ وَالتَّيَمُّمِ وَالْفِدْيَةِ فِي الصَّوْمِ وَالصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَغَيْرِهِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَهُوَ اشْتِرَاطُ احْتِمَالِ وُجُودِ الْأَصْلِ لِثُبُوتِ الْخَلَفِ.

وَقَدْ سَبَقَ بَعْضُهَا أَيْ بَيَانُ بَعْضِهَا فِيمَنْ أَسْلَمَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ فَإِنَّا أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الْقَضَاءَ لِاحْتِمَالِ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْجَزَاءَ لَمَّا صَلُحَ مُوجِبًا لِلْأَدَاءِ صَلُحَ مُوجِبًا لِمَا هُوَ خَلَفٌ عَنْهُ وَهُوَ الْقَضَاءُ قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ؛ وَلِأَنَّ الْخَلَفَ يَثْبُت عِنْدَ احْتِمَالِ وُجُودِ الْأَصْلِ وَإِنْ بَعُدَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إلَى آخِرِهِ إذَا شَهِدَتْ الشُّهُودُ عَلَى رَجُلٍ بِقَتْلٍ عَمْدٍ وَقَتَلَهُ الْوَلِيُّ بِشَهَادَتِهِمْ، ثُمَّ رَجَعَ الشُّهُودُ وَالْوَلِيُّ جَمِيعًا أَوْ جَاءَ الْمَشْهُودُ بِقَتْلِهِ حَيًّا فَلِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَضْمَنَ الشُّهُودُ الدِّيَةَ وَبَيْنَ أَنْ يَضْمَنَهَا الْقَاتِلُ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ مُتْلِفٌ لِلْمَقْتُولِ حَقِيقَةً وَالشُّهُودُ مُتْلِفُونَ لَهُ حُكْمًا وَالْإِتْلَافُ الْحُكْمِيُّ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ مِثْلُ الْإِتْلَافِ الْحَقِيقِيِّ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَضْمَنَ أَيَّهُمَا شَاءَ فَإِنْ اخْتَارَ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ تَضْمِينَ الْقَاتِلِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الشُّهُودِ بِشَيْءٍ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ بِفِعْلٍ بَاشَرَهُ لِنَفْسِهِ بِاخْتِيَارِهِ وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الشُّهُودِ لَمْ يَرْجِعُوا عَلَى الْقَاتِلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: إنَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَلَى الْوَلِيِّ أَيْ لَهُمْ وِلَايَةُ الرُّجُوعِ عَلَى الْقَاتِلِ إنْ شَاءُوا؛ لِأَنَّهُمْ ضَمِنُوا بِشَهَادَتِهِمْ وَقَدْ كَانُوا عَامِلِينَ فِيهَا لِلْوَلِيِّ فَيَرْجِعُونَ عَلَيْهِ بِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنْ الضَّمَانِ كَمَا لَوْ شَهِدُوا بِالْقَتْلِ خَطَأً أَوْ بِالْمَالِ فَقَضَى الْقَاضِي بِهِ وَاسْتَوْفَاهُ الْمَشْهُودُ لَهُ، ثُمَّ رَجَعُوا جَمِيعًا وَضَمِنَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَلَى الْمَشْهُودِ لَهُ وَتَعْلِيلُ الشَّيْخِ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ إلَى آخِرِهِ إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَمَّا يُقَالُ: إنَّ الشُّهُودَ إنَّمَا يَرْجِعُونَ إذَا كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ قَابِلًا لِلْمِلْكِ فَيَمْلِكُونَهُ بِالضَّمَانِ فَيَرْجِعُونَ بَعْدَمَا صَارَ مِلْكًا لَهُمْ إلَى الْمَشْهُودِ لَهُ وَهَاهُنَا الْمَشْهُودُ بِهِ الْقِصَاصُ وَهُوَ لَا يُمْلَكُ بِالضَّمَانِ فَلَا يَكُونُ لَهُمْ وِلَايَةُ الرُّجُوعِ فَقَالَ: لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ أَيْ مِلْكِ الْمَشْهُودِ بِهِ لِلشُّهُودِ قَدْ وُجِدَ وَهُوَ التَّعَدِّي بِالشَّهَادَةِ كَذِبًا.

وَالضَّمَانُ أَيْ وُجُوبُ الضَّمَانِ أَوْ أَدَاءُ الضَّمَانِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا وَالْمَضْمُونُ وَهُوَ الدَّمُ مُحْتَمِلٌ لِلْمِلْكِ أَيْ لِلْمَمْلُوكِيَّةِ فِي الشَّرْعِ غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ أَيْ غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ تَمَلُّكُهُ فَإِنَّ الشَّرْعَ لَوْ وَرَدَ بِتَمَلُّكِ الدَّمِ لَا يَسْتَحِيلُهُ الْعَقْلُ.

أَلَا تَرَى أَنَّ نَفْسَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ كَالْمَمْلُوكِ لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ حَتَّى كَانَ لَهُ وِلَايَةُ إهْلَاكِهِ بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ مِنْهُ وَوِلَايَةُ إبْقَائِهِ بِالْعَفْوِ كَالْعَبْدِ كَانَ لِلْمَوْلَى وِلَايَةُ إبْقَائِهِ فِي مِلْكِهِ وَوِلَايَةُ إخْرَاجِهِ عَنْ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ وَالْإِعْتَاقِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ السَّبَبُ وَهُوَ الضَّمَانُ الَّذِي لَزِمَهُمْ بِتَعَدِّيهِمْ مُنْعَقِدَ الْمِلْكِ الْمَضْمُونِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ، وَلَكِنْ تَعَذُّرَ الْعَمَلُ بِهِ لِعَدَمِ وُرُودِ الشَّرْعِ بِهِ حَقِيقَةً فَعَمِلَ أَيْ السَّبَبُ فِي بَدَلِ الْمَضْمُونِ وَهُوَ الدِّيَةُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِالْأَصْلِ كَمَا قِيلَ فِي غَاصِبِ الْمُدَبَّرِ مِنْ الْغَاصِبِ إنَّ الْغَاصِبَ الْأَوَّلَ إذَا ضَمِنَ رَجَعَ بِهِ أَيْ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْغَاصِبِ الثَّانِي وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ الْغَاصِبُ الْأَوَّلُ الْمُدَبَّرَ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ وَهُوَ التَّعَدِّي وَالضَّمَانُ قَدْ وُجِدَ وَالْمُدَبَّرُ مُحْتَمِلٌ لِلْمِلْكِ فِي الشَّرْعِ فَإِنَّ الشَّرْعَ لَوْ وَرَدَ بِهِ لَا يَكُونُ مُسْتَحِيلًا فَيَنْعَقِدُ السَّبَبُ

ص: 167

وَكَذَلِكَ شُهُودُ الْكِتَابَةِ إذَا رَجَعُوا بَعْدَ الْحُكْمِ وَضَمِنُوا قِيمَتَهُ رَجَعُوا بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ عَلَى الْمَكَاتِبِ وَلَمْ يَمْلِكُوا رَقَبَتَهُ لِمَا قُلْنَا: إنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ وُجِدَ وَالْأَصْلُ يَحْتَمِلُ الْمِلْكَ فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ قَامَ الْبَدَلُ مَقَامَهُ وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله فَقَدْ قَالَ: إنَّ الشُّهُودَ مُتْلِفُونَ حُكْمًا بِطَرِيقِ التَّسْبِيبِ وَالْوَلِيُّ مُتْلِفٌ حَقِيقَةً بِالْمُبَاشَرَةِ وَهُمَا سَوَاءٌ فِي ضَمَانِ الدَّمِ وَإِذَا كَانَ الْوَلِيُّ لَا يَرْجِعُ لَمْ يَرْجِعْ الشُّهُودُ أَيْضًا بِخِلَافِ الشُّهُودِ الْخِطَاءِ فَإِنَّهُمْ إذَا ضَمِنُوا وَقَدْ جَاءَ الْمَشْهُودُ بِقَتْلِهِ حَيًّا رَجَعُوا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَضْمَنُونَ بِالْإِتْلَافِ لَكِنْ بِمَا أَوْجَبُوا لِلْوَلِيِّ فَإِذَا ضَمِنُوا صَارَ الْوَلِيُّ مُتْلِفًا عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ ثَمَّةَ الْمَالُ وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْمِلْكِ وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمَا إنَّ مِلْكَ الْأَصْلِ الْمُتْلَفِ وَهُوَ الدَّمُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ أَصْلًا وَلَا يُحْتَمَلُ فَلَا يَنْعَقِدُ السَّبَبُ لَهُ فَيَبْطُلُ الْخَلَفُ وَلِأَنَّ الْخَلَفَ يَحْكِي الْأَصْلَ وَالْأَصْلُ هُوَ الدَّمُ الْمُتْلَفُ وَمِلْكُ الدَّمِ هُوَ مِلْكُ الْقِصَاصِ وَالْأَصْلُ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مَضْمُونٍ لَوْ صَارَ مِلْكًا فَكَذَلِكَ خَلَفُهُ وَفِي الْمُدَبَّرِ الْأَصْلُ مَضْمُونٌ مَتَى كَانَ مِلْكًا لَا مَحَالَةَ فَكَذَلِكَ بَدَلُهُ.

ــ

[كشف الأسرار]

مُوجِبًا لِمِلْكِ الْأَصْلِ وَهُوَ الْمُدَبَّرُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ فِي بَدَلِهِ وَهُوَ الْقِيمَةُ فَيَمْلِكُ مِثْلَ مَا ضَمِنَهُ عَلَى الْغَاصِبِ الثَّانِي فَيَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَغَاصِبِ الْمُدَبَّرِ مِنْ الْغَاصِبِ شُهُودُ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُمْ إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ كَاتَبَ عَبْدَهُ هَذَا بِأَلْفٍ إلَى سَنَةٍ فَقُضِيَ بِذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعُوا وَالْعَبْدُ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ أَوْ أَلْفًا يَضْمَنُونَ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّهُمْ حَالُوا بَيْنَ الْمَوْلَى وَبَيْنَ مَالِيَّةِ الْعَبْدِ بِشَهَادَتِهِمْ عَلَيْهِ بِالْكِتَابَةِ فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِينَ ضَامِنِينَ لِلْقِيمَةِ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ عَلَى الْمُكَاتَبِ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ عَلَى نُجُومِهَا وَإِنْ لَمْ يَمْلِكُوا رَقَبَتَهُ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يَقْبَلُ النَّقْلَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ كَالْمُدَبَّرِ وَلِهَذَا لَوْ عَجَزَ وَرُدَّ فِي الرِّقِّ كَانَ لِمَوْلَاهُ دُونَ الشُّهُودِ.

وَقَوْلُهُ لِمَا قُلْنَا دَلِيلُ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَيْ لِمَا قُلْنَا إنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ وَهُوَ التَّعَدِّي وَالضَّمَانُ قَدْ وُجِدَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ وَالْأَصْلُ وَهُوَ الْمُدَبَّرُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَالْمُكَاتَبُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَحْتَمِلُ الْمِلْكَ لِعَدَمِ اسْتِحَالَةِ وُرُودِ الشَّرْعِ بِهِ كَالدَّمِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لِلشُّهُودِ فِي الرَّقَبَةِ لِقِيَامِ الْمَانِعِ وَهُوَ التَّدْبِيرُ وَالْكِتَابَةُ قَامَ الْبَدَلُ وَهُوَ الْقِيمَةُ فِي الْمُدَبَّرِ وَبَدَلِ الْكِتَابَةِ فِي الْمُكَاتَبِ مَقَامَ الْأَصْلِ وَإِنَّمَا يَرْجِعُونَ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ دُونَ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ اسْتَحَقَّ الْعِتْقَ عَلَى الْمَوْلَى بِإِزَاءِ الْبَدَلِ وَأَنَّهُمْ قَامُوا مَقَامَ الْمَوْلَى فِي قَبْضِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ حِينَ ضَمِنُوا قِيمَتَهُ فَلَا يَكُونُ لَهُمْ وِلَايَةُ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِمَا زَادَ عَلَى الْبَدَلِ كَمَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى ذَلِكَ وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله فَقَدْ قَالَ يَعْنِي فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنَّ الشُّهُودَ مُتْلِفُونَ حُكْمًا بِطَرِيقِ التَّسْبِيبِ إذْ لَوْ لَمْ يَكُونُوا مُتْلِفِينَ لَمَا كَانُوا ضَامِنِينَ مَعَ مُبَاشِرِ الْإِتْلَافِ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ التَّسْبِيبِ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ فِي مُقَابَلَةِ الْمُبَاشَرَةِ.

أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ إنْسَانًا فِي بِئْرٍ حَفَرَهَا غَيْرُهُ مِنْ الطَّرِيقِ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الدَّافِعِ دُونَ الْحَافِرِ وَلَمَّا ضَمِنَ الشُّهُودَ هَاهُنَا عَرَفْنَا أَنَّهُمْ جُنَاةٌ مُتْلِفُونَ لِلنَّفْسِ حُكْمًا وَإِنْ كَانَ تَمَامُ ذَلِكَ الْإِتْلَافِ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ الْوَلِيِّ فَإِنَّ اسْتِيفَاءَهُ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ لِتَمَامِ جِنَايَتِهِمْ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ يَضْمَنُونَ بِإِتْلَافٍ بَاشَرُوهُ حُكْمًا وَالْوَلِيُّ ضَامِنٌ بِإِتْلَافٍ بَاشَرَهُ حَقِيقَةً وَهُمَا أَيْ الْمُتْلَفُ حُكْمًا وَالْمُتْلَفُ حَقِيقَةً أَوْ الْمُتْلَفُ بِالتَّسْبِيبِ وَالْمُتْلَفُ بِالْمُبَاشَرَةِ سَوَاءٌ فِي ضَمَانِ الدِّيَةِ وَإِنْ لَمْ يَتَسَاوَيَا فِي ضَمَانِ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلُ الْمَحَلِّ وَبَدَلُ الْمَحَلِّ يَعْتَمِدُ فَوَاتَ الْمَحَلِّ فَبِأَيِّ طَرِيقٍ حَصَلَ الْفَوَاتُ تَجِبُ الدِّيَةُ سَوَاءٌ كَانَ مُبَاشَرَةً أَوْ تَسْبِيبًا.

وَلِهَذَا كَانَ وَلِيُّ الْقَتِيلِ مُخَيَّرًا بَيْنَ تَضْمِينِ الْوَلِيِّ وَبَيْنَ تَضْمِينِ الشُّهُودِ، ثُمَّ وَلِيُّ الْقَتِيلِ إذَا اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُبَاشِرِ الْمُتْلِفِ وَهُوَ الْوَلِيُّ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الشُّهُودِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ بِجِنَايَتِهِ وَهِيَ الْإِتْلَافُ حَقِيقَةً فَكَذَلِكَ إذَا اخْتَارَ تَضْمِينَ الشُّهُودِ لَا يَكُونُ لَهُمْ وِلَايَةُ الرُّجُوعِ عَلَى الَّذِي بَاشَرَ الْقَتْلَ؛ لِأَنَّهُمْ ضَمِنُوا بِجِنَايَتِهِمْ وَمَنْ ضَمِنَ بِجِنَايَةِ نَفْسَهُ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْكِتَابِ وَإِذَا كَانَ الْوَلِيُّ الَّذِي بَاشَرَ الْقَتْلَ وَلَا يَرْجِعُ يَعْنِي عَلَى الشُّهُودِ عِنْدَ التَّضْمِينِ لَمْ يَرْجِعْ الشُّهُودُ أَيْضًا عَلَيْهِ عِنْدَ التَّضْمِينِ بِخِلَافِ شُهُودِ الْخَطَأِ يَعْنِي إذَا شَهِدُوا بِالْقَتْلِ خَطَأً وَأَخَذَ الْمَشْهُودُ لَهُ الدِّيَةَ مِنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَاءَ الْمَشْهُودُ بِقَتْلِهِ حَيًّا فَإِنَّ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ أَنْ يَضْمَنَ الشُّهُودَ فَإِذَا ضَمِنَهُمْ كَانَ لَهُمْ وِلَايَةُ الرُّجُوعِ عَلَى الْآخِذِ وَهُوَ الْمَشْهُودُ لَهُ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَضْمَنُونَ بِالْإِتْلَافِ إذْ لَمْ يَحْصُلْ بِشَهَادَتِهِمْ تَلَفُ نَفْسٍ، لَكِنَّهُمْ إنَّمَا يَضْمَنُونَ بِمَا أَوْجَبُوا لِلْوَلِيِّ أَيْ لِوَلِيِّ الْمَشْهُودِ بِقَتْلِهِ خَطَأً مِنْ الْمَالِ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَإِذَا ضَمِنُوا ذَلِكَ الْمَالَ مَلَكُوهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ قَابِلٌ لِلْمِلْكِ بِسَائِرِ الْأَسْبَابِ فَيُمْلَكُ بِهَذَا السَّبَبِ أَيْضًا، ثُمَّ إنَّهُ إنْ كَانَ قَائِمًا فِي يَدِ الْوَلِيِّ يَأْخُذُونَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُمْ أَحَقُّ بِمِلْكِهِمْ.

1 -

ص: 168

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فَأَرْبَعَةٌ السَّبَبُ وَالْعِلَّةُ وَالشَّرْطُ وَالْعَلَامَةُ أَمَّا السَّبَبُ فَإِنَّهُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الطَّرِيقُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا - فَأَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف: 84 - 85] أَيْ طَرِيقًا وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْبَابُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ} [غافر: 36]{أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} [غافر: 37] يُرِيدُ بِهِ أَبْوَابَهَا وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:

وَلَوْ نَالَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ

وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْحَبْلُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ} [الحج: 15] أَيْ بِحَبْلٍ إلَى السَّقْفِ وَمَعْنَى ذَلِكَ وَاحِدٌ

ــ

[كشف الأسرار]

وَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ يَرْجِعُونَ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْإِتْلَافَاتِ وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمَا أَيْ عَمَّا قَالَا: إنَّ الْأَصْلَ مُحْتَمِلٌ لِلْمِلْكِ فَانْعَقَدَ السَّبَبُ مُوجِبًا لَهُ إلَى آخِرِهِ إنَّ مِلْكَ الْأَصْلِ الْمُتْلَفِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ أَصْلًا فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ قَدْ أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ أَيْضًا وَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَصِيرَ مَشْرُوعًا؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ الْمَشْرُوعِيَّةِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِاحْتِمَالِ الْوَحْيِ وَقَدْ انْقَطَعَ احْتِمَالُ الْوَحْيِ بِوَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَا يَنْعَقِدُ السَّبَبُ مُوجِبًا لِلْأَصْلِ بِوَجْهٍ كَمَا فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ فَيُبْطَلُ الْخَلَفُ بِخِلَافِ الْيَمِينِ الْمُنْعَقِدَةِ عَلَى مَسِّ السَّمَاءِ؛ لِأَنَّ الِاحْتِمَالَ قَائِمٌ فِي الْحَالِ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ فَيَنْعَقِدُ السَّبَبُ مُوجِبًا لِلْأَصْلِ فَيَعْمَلُ فِي الْخَلَفِ وَبِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ الْمِلْكِ فِيهِمَا قَائِمٌ فِي الْحَالِ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي جَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ وَلِهَذَا لَوْ قَضَى الْقَاضِي بِجَوَازِ بَيْعِهِ يَنْفُذُ وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمُكَاتَبِ أَيْضًا بِرِضَاهُ وَأَصْلُ الْمِلْكِ فِي رَقَبَتِهِ ثَابِتٌ لِلْمَوْلَى وَيَجُوزُ رَدُّهُ إلَى الرِّقِّ بِالْعَجْزِ وَيَصِيرُ مِلْكًا لِلْمَوْلَى يَدًا وَرَقَبَةً كَمَا كَانَ وَإِذَا كَانَ احْتِمَالُ الْمِلْكِ ثَابِتًا فِي الْحَالِ جَازَ أَنْ يَنْعَقِدَ السَّبَبُ مُوجِبًا لِلْأَصْلِ لِيَعْمَلَ فِي الْخَلَفِ وَلِأَنَّ الْخَلَفَ يَحْكِي الْأَصْلَ يَعْنِي وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الدَّمَ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ قَابِلٌ لِلْمِلْكِ وَمُحْتَمِلٌ لَهُ لَمْ يَكُنْ لِلشُّهُودِ وِلَايَةُ إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى الْوَلِيِّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْخَلَفَ يَحْكِي الْأَصْلَ أَيْ يُشَابِهُهُ وَيَثْبُتُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ الْأَصْلُ وَالْأَصْلُ هُوَ الدَّمُ الْمُتْلَفُ وَمِلْكُ الدَّمِ عِبَارَةٌ عَنْ مِلْكِ الْقِصَاصِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ الْقِصَاصُ مِلْكًا لَهُمْ لَمْ يَضْمَنْهُ الْمُتْلِفُ عَلَيْهِمْ سَوَاءٌ كَانَ الْإِتْلَافُ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا كَمَا إذَا قَتَلَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ إنْسَانٌ آخَرُ أَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ بِالْعَفْوِ. ثُمَّ رَجَعُوا لَمْ يَجِبْ لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ ضَمَانٌ عَلَى الْقَاتِلِ وَالشُّهُودِ وَانْعِقَادُ السَّبَبِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ ثُبُوتِ الْمِلْكِ حَقِيقَةً وَإِذَا امْتَنَعَ ضَمَانُ الْأَصْلِ لَمْ يُتَصَوَّرْ زَمَانُ خَلَفِهِ وَهُوَ الدِّيَةُ

وَفِي الْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ الْأَصْلُ وَهُوَ الرَّقَبَةُ مَضْمُونٌ مَتَى كَانَ مَمْلُوكًا لَا مَحَالَةَ يَعْنِي مَا هُوَ الْأَصْلُ وَهُوَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَكُونُ ثَابِتًا يَكُونُ مُوجِبًا ضَمَانَ خَلَفِهِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ فَكَذَلِكَ إذَا انْعَقَدَ السَّبَبُ مُوجِبًا لِلْأَصْلِ، ثُمَّ لَمْ يَعْمَلْ بِعَارِضِ التَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ يَكُونُ مُوجِبًا لِخَلَفِهِ وَهُوَ الْقِيمَةُ فِي الْمُدَبَّرِ وَبَدَلِ الْكِتَابَةِ فِي الْمُكَاتَبِ فَيَكُونُ لَهُمْ وِلَايَةُ الرُّجُوعِ بِهِمَا كَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله.

قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي) يَعْنِي مِنْ التَّقْسِيمِ الْمَذْكُورِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ وَهُوَ الْقِسْمُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ الْمَشْرُوعَةُ فَأَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ كَمَا ذَكَرْت وَالدَّلِيلُ عَلَى الْحَصْرِ الِاسْتِقْرَاءُ لَا غَيْرُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف: 84] أَيْ آتَيْنَا ذَا الْقَرْنَيْنِ مِنْ أَسْبَابِ كُلِّ شَيْءٍ إرَادَةً مِنْ أَغْرَاضِهِ وَمَقَاصِدِهِ فِي مِلْكِهِ سَبَبًا أَيْ طَرِيقًا مُوَصِّلًا إلَيْهِ وَالسَّبَبُ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الْمَقْصُودِ مِنْ عِلْمٍ أَوْ قُدْرَةٍ أَوْ آلَةٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ} [غافر: 36]{أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} [غافر: 37] أَيْ أَبْوَابَهَا فِي قَوْلِ السُّدِّيَّ وَطُرُقَهَا فِي قَوْلِ أَبِي صَالِحٍ وَأَبْهَمَ الْأَسْبَابَ، ثُمَّ أَوْضَحَهَا بِأَسْبَابِ السَّمَاوَاتِ؛ لِأَنَّهُ فَخَّمَ مَا أَمَّلَ بُلُوغَهُ مِنْ أَسْبَابِهَا وَهُوَ فَائِدَةُ الْإِيضَاحِ بَعْدَ الْإِبْهَامِ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ بُلُوغُهَا أَمْرًا عَجِيبًا زَادَ فِي تَعْجِيبِهِ إلَى هَامَانَ وَمَنْ يَجْرِي مَجْرَاهُ بِالْإِيضَاحِ بَعْدَ الْإِبْهَامِ لِيُعْطِيَهُ حَقَّهُ مِنْ التَّعَجُّبِ وَمِنْهُ أَيْ وَمِمَّا أُرِيدَ بِالسَّبَبِ الْبَابُ قَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى:

وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ

وَلَوْ نَالَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ

يَعْنِي وَمَنْ خَافَ الْمَوْتَ وَاحْتَرَزَ عَنْ الْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إلَيْهِ لَا يَنْفَعُهُ الِاحْتِرَازُ وَالْحِيلَةُ فَهُوَ مُصِيبُهُ لَا مَحَالَةَ وَلَوْ نَالَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ أَيْ أَبْوَابَهَا بِسُلَّمٍ أَيْ صَعِدَ عَلَيْهَا فِرَارًا مِنْهُ وَمَعْنَى

ص: 169

وَهُوَ مَا يَكُونُ طَرِيقًا إلَى الشَّيْءِ وَهُوَ فِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَمَّا هُوَ طَرِيقٌ إلَى الشَّيْءِ مَنْ سَلَكَهُ وَصَلَ إلَيْهِ فَنَالَهُ فِي طَرِيقِهِ ذَلِكَ لَا بِالطَّرِيقِ الَّذِي سَلَكَ كَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا إلَى مِصْرَ بَلَغَهُ مِنْ ذَلِكَ الطَّرِيقِ لَا بِهِ لَكِنْ يَمْشِيهِ.

وَأَمَّا الْعِلَّةُ فَإِنَّهَا فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُغَيِّرِ وَمِنْهُ سُمِّيَ الْمَرَضُ عِلَّةً وَالْمَرِيضُ عَلِيلًا فَكُلُّ وَصْفٍ حَلَّ بِمَحَلٍّ فَصَارَ بِهِ الْمَحَلُّ مَعْلُولًا وَتَغَيَّرَ حَالُهُ مَعًا فَهُوَ عِلَّةٌ كَالْجُرْحِ بِالْمَجْرُوحِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

ــ

[كشف الأسرار]

ذَلِكَ أَيْ الْجَمِيعُ يَرْجِعُ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ السَّبَبَ مَا يَكُونُ مُوَصِّلًا إلَى الشَّيْءِ فَإِنَّ الْبَابَ مُوَصِّلٌ إلَى الْبَيْتِ وَالْحَبْلُ مُوَصِّلٌ إلَى الْمَاءِ وَهُوَ فِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَمَّا هُوَ طَرِيقٌ إلَى الشَّيْءِ أَيْ إلَى الْحُكْمِ يَعْنِي هُوَ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا هُوَ مَوْضُوعُهُ لُغَةً أَيْضًا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ طَرِيقًا لِلْوُصُولِ إلَى الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْوُصُولُ بِهِ كَالطَّرِيقِ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الْمَقْصِدِ وَإِنْ كَانَ الْوُصُولُ بِالْمَشْيِ وَكَالْحَبْلِ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الْمَاءِ وَإِنْ كَانَ يَحْصُلُ الْوُصُولُ بِالِاسْتِقَاءِ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: السَّبَبُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَمَّا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى مَقْصُودٍ مَا، وَفِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الشَّرْعِ: عِبَارَةٌ عَمَّا هُوَ أَخَسُّ مِنْ الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ وَهُوَ كُلُّ وَصْفٍ ظَاهِرٍ مُنْضَبِطٍ دَلَّ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ عَلَى كَوْنِهِ مُعَرِّفًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَفَائِدَةُ نَصْبِهِ سَبَبًا مُعَرِّفًا لِلْحُكْمِ سُهُولَةُ وُقُوفِ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى خِطَابِ الشَّارِعِ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ مِنْ الْوَقَائِعِ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ حَذَرًا مِنْ تَعْطِيلِ أَكْثَرِ الْوَقَائِعِ عَنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. فَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ السَّبَبُ اسْمًا عَامًّا مُتَنَاوِلًا لِكُلِّ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ وَيُوَصِّلُ إلَيْهِ مِنْ الْعِلَلِ وَغَيْرِهَا فَيَكُونُ تَسْمِيَةُ الْوَقْتِ وَالشَّهْرِ وَالْبَيْتِ وَالنِّصَابِ وَسَائِرِ مَا مَرَّ ذِكْرُهَا فِي بَابِ بَيَانِ أَسْبَابِ الشَّرَائِعِ أَسْبَابًا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَعَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ لَا يَتَنَاوَلُ الْعِلَلَ بَلْ يَكُونُ اسْمًا لِنَوْعٍ مِنْ الْمَعَانِي الْمُفْضِيَةِ إلَى الْحُكْمِ فَيَكُونُ تَسْمِيَةُ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ أَسْبَابًا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ.

قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْعِلَّةُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ كَذَا) ذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي اللُّغَةِ عِنْدَ الْبَعْضِ اسْمٌ لِعَارِضٍ يَتَغَيَّرُ وَصْفُ الْمَحَلِّ بِحُلُولِهِ فِيهِ مِنْ وَصْفِ الصِّحَّةِ وَالْقُوَّةِ إلَى الضَّعْفِ وَالْمَرَضِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الْعِلَّةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْعَلَلِ وَهُوَ الشَّرْبَةُ بَعْدَ الشَّرْبَةِ وَسُمِّيَ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِلْحُكْمِ فِي الشَّرْعِ عِلَّةً؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهَا فِي اللُّغَةِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِيمَا يُؤَثِّرُ فِي أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُؤَثِّرُ صِفَةً أَوْ ذَاتًا وَسَوَاءٌ أَثَّرَ فِي الْفِعْلِ أَوْ فِي التَّرْكِ يُقَالُ مَجِيءُ زَيْدٍ عِلَّةٌ لِخُرُوجِ عَمْرٍو وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجِيءُ زَيْدٍ عِلَّةً لِامْتِنَاعِ خُرُوجِ عَمْرٍو قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ:

وَالظُّلْمُ فِي خُلُقِ النُّفُوسِ وَإِنْ تَجِدْ

ذَا عِفَّةٍ فَلَعَلَّهُ لَا يَظْلِمْ

سَمَّى الْمَعْنَى الْمَانِعَ مِنْ الظُّلْمِ عِلَّةً وَسَمَّى الْمَرَضَ عِلَّةً؛ لِأَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي ضَعْفِ الْمَرِيضِ وَيُؤَثِّرُ فِي مَنْعِهِ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ.

فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ سُمِّيَ الْوَصْفُ الْمُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ عِلَّةً؛ لِأَنَّهُ يَتَغَيَّرُ بِهِ حَالُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مِنْ الْخُصُوصِ إلَى الْعُمُومِ فَإِنَّ الْحُكْمَ كَانَ مُخْتَصًّا بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَبَعْدَ مَعْرِفَةِ الْوَصْفِ بِالْمُؤَثِّرِ تَغَيَّرَ حُكْمُ ظَاهِرِ النَّصِّ مِنْ الْخُصُوصِ إلَى الْعُمُومِ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ وُجِدَتْ الْعِلَّةُ فِيهِ وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي سُمِّيَ عِلَّةً لِثُبُوتِ الْحُكْمِ بِهِ عَلَى الدَّوَامِ وَالتَّكَرُّرِ عِنْدَ تَكَرُّهٍ وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ سُمِّيَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ مُؤَثِّرٌ فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ إمَّا فِي الْأَصْلِ أَوْ فِي الْفَرْعِ قَالَ: وَهَذَا لَا خَيْرَ هُوَ الصَّحِيحُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ الشَّخْصَ إذَا وُلِدَ مَرِيضًا سُمِّيَ عَلِيلًا وَالْمَرَضُ فِيهِ عِلَّةٌ وَلَيْسَ بِمُغَيِّرٍ لِوَصْفِ الصِّحَّةِ وَبِخِلَافِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ يُسَمَّى عِلَّةً فِي أَوَّلِ مَا ثَبَتَ بِهِ الْحُكْمُ مِنْ غَيْرِ تَكَرُّرٍ فَكَيْفَ يَصِحُّ اشْتِقَاقُهُ مِنْ الْعِلَلِ وَأَنَّهُ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ إنَّمَا سُمِّيَ عَلِيلًا بِالنَّظَرِ إلَى الْأَصْلِ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَوْلُودِ هُوَ الصِّحَّةُ وَالسَّلَامَةُ وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْوَصْفَ إنَّمَا يُسَمَّى عِلَّةً بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَوْ تَكَرَّرَ تَكَرَّرَ الْحُكْمُ بِهِ وَهَذَا بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ وَقَوْلُهُ وَتَغَيَّرَ بِهِ أَيْ بِذَلِكَ الْوَصْفِ حَالُ الْمَحَلِّ مَعًا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْعِلَّةَ وَإِنْ كَانَتْ مُقَدَّمَةً عَلَى الْمَعْلُولِ رُتْبَةً فَهِيَ مُقَارِنَةٌ لَهُ فِي الْوُجُودِ.

ص: 170

وَهُوَ فِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَمَّنْ يُضَافُ إلَيْهِ وُجُوبُ الْحُكْمِ ابْتِدَاءً مِثْلُ الْبَيْعِ لِلْمِلْكِ وَالنِّكَاحُ لِلْحِلِّ وَالْقَتْلِ لِلْقِصَاصِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لَكِنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ غَيْرُ مُوجِبَةٍ بِذَوَاتِهَا وَإِنَّمَا الْمُوجِبُ لِلْأَحْكَامِ هُوَ اللَّهُ عز وجل لَكِنَّ إيجَابَهُ لَمَّا كَانَ غَيْبًا نُسِبَ الْوُجُوبُ إلَى الْعِلَلِ فَصَارَتْ مُوجِبَةً فِي حَقِّ الْعِبَادِ وَبِجَعْلِ صَاحِبِ الشَّرْعِ إيَّاهَا كَذَلِكَ وَفِي حَقِّ صَاحِبِ الشَّرْعِ هِيَ أَعْلَامٌ خَالِصَةٌ.

ــ

[كشف الأسرار]

فَإِنَّ حَرَكَةَ الْإِصْبَعِ الَّتِي هِيَ عِلَّةُ حَرَكَةِ الْخَاتَمِ مُقَارِنَةٌ لِحَرَكَةِ الْخَاتَمِ إذْ لَوْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ لَزِمَ تَدَاخُلُ الْأَجْسَامِ وَهُوَ مُحَالٌ عَلَى مَا عُرِفَ وَكَذَا الْحَرَكَةُ عِلَّةُ صَيْرُورَةِ الشَّخْصِ مُتَحَرِّكًا وَالسَّوَادُ عِلَّةٌ لِصَيْرُورَةِ الشَّيْءِ أَسْوَدَ وَهُمَا يُوجَدَانِ مَعًا وَلِهَذَا جَعَلْنَا الِاسْتِطَاعَةَ الَّتِي هِيَ عِلَّةُ الْفِعْلِ مُقَارِنَةً لَهُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ أَيْ الْجُرْحَ كَالْكَسْرِ وَالْهَدْمِ وَالْقَطْعِ عِلَلٌ لِلِانْكِسَارِ وَالِانْهِدَامِ وَالِانْقِطَاعِ مُقَارِنَةٌ فِي الْوُجُودِ إيَّاهَا وَهُوَ أَيْ الْمَذْكُورُ وَهُوَ الْعِلَّةُ أَوْ لَفْظُ الْعِلَّةِ عِبَارَةٌ عَمَّا يُضَافُ إلَيْهِ وُجُوبُ الْحُكْمِ أَيْ ثُبُوتُهُ ابْتِدَاءً اُحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ يُضَافُ إلَيْهِ وُجُوبُ الْحُكْمِ عَنْ الشَّرْطِ فَإِنَّ الشَّرْطَ يُضَافُ إلَيْهِ وُجُودُ الْحُكْمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ وُجِدَ عِنْدَهُ لَا وُجُوبُهُ وَبِقَوْلِهِ ابْتِدَاءً عَنْ السَّبَبِ وَالْعَلَامَةِ وَعِلَّةُ الْعِلَّةِ وَالشَّرْطِ أَيْضًا فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالثُّبُوتِ ابْتِدَاءُ الثُّبُوتِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَبِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِلَا وَاسِطَةٍ وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْحَدِّ الْعِلَلُ الْوَضْعِيَّةُ الَّتِي جَعَلَهَا الشَّرْعُ عِلَلًا كَالْبَيْعِ لِلْمِلْكِ وَالنِّكَاحِ لِلْحِلِّ وَالْقَتْلِ لِلْقِصَاصِ وَالْأَوْقَاتِ لِلْعِبَادَاتِ وَالْعِلَلُ الْمُسْتَنْبَطَةُ بِالِاجْتِهَادِ كَالْمَعَادِنِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْأَقْيِسَةِ فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مُضَافٌ إلَى الْعِلَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَرْعِ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا التَّعْرِيفِ مَا ذَكَرَ السَّيِّدُ الْإِمَامُ الشَّهِيدُ أَبُو الْقَاسِمِ السَّمَرْقَنْدِيُّ رحمه الله فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ عِبَارَةٌ عَمَّا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِهِ فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ احْتِمَالِ تَخَلُّفٍ قَالَ وَبِهَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ يُفَارِقُ السَّبَبَ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ وَالسَّبَبَ يَتَنَاوَبَانِ فِي الْأَبْنَاءِ وَالْمُلَاءَمَةِ وَالْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْحُكْمِ غَيْرَ أَنَّ السَّبَبَ قَدْ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ حُكْمُهُ وَقَدْ يَتَخَلَّفُ وَلَا يُتَصَوَّرُ التَّأَخُّرُ وَالتَّخَلُّفُ فِي الْعِلَّةِ.

وَعَنْ الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ رحمه الله أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْمَعْنَى الَّذِي إذَا وُجِدَ يَجِبُ الْحُكْمُ بِهِ مَعَهُ وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ مَعَهُ عَنْ قَوْلِ بَعْضِ الْقَدَرِيَّةِ إنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْأَمْرُ الَّذِي إذَا وُجِدَ وُجِدَ الْحُكْمُ عَقِيبَهُ بِلَا فَصْلٍ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ عِنْدَنَا بِطَرِيقِ الْمُقَارَنَةِ لَا بِطَرِيقِ التَّأَخُّرِ وَلِهَذَا جَعَلْنَا الِاسْتِطَاعَةَ مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ لَا سَابِقَةً عَلَيْهِ قَالَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ: هَذَا التَّعْرِيفُ هُوَ الصَّحِيحُ فَإِنَّ الْعِلَّةَ مَا يَجِبُ بِهِ الْحُكْمُ فَإِنَّ وُجُوبَ الْحُكْمِ وَثُبُوتَهُ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، لَكِنَّهُ أَوْجَبَ الْحُكْمَ لِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى وَبِسَبَبِ هَذَا الْمَعْنَى وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يَجِبُ بِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يَفْعَلُ فِعْلًا بِسَبَبٍ وَيَفْعَلُ فِعْلًا ابْتِدَاءً وَيُثْبِتُ حُكْمًا بِسَبَبٍ وَحُكْمًا ابْتِدَاءً بِلَا سَبَبٍ وَحِكْمَةٍ وَفِعْلُهُ قَطُّ لَا يَخْلُو عَنْ الْحِكْمَةِ عَرَفْنَا وَجْهَ الْحِكْمَةِ أَوْ لَمْ نَعْرِفْ قَوْلُهُ (لَكِنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ غَيْرُ مُوجِبَةٍ بِذَوَاتِهَا) اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ عَمَّا يُضَافُ إلَيْهِ وُجُوبُ الْحُكْمِ يَعْنِي الْأَحْكَامَ وَإِنْ أُضِيفَ إلَى الْعِلَلِ فِي الشَّرْعِ، لَكِنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ غَيْرُ مُوجِبَةٍ بِأَنْفُسِهَا فَإِنَّ هَذِهِ الْعِلَلَ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ وَلَمْ يَكُنْ بِمُوجِبَةٍ لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ بِخِلَافِ الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ فَإِنَّهَا مُوجِبَةٌ بِأَنْفُسِهَا فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْ كَوْنِ الْعِلَّةِ مُوجِبَةً بِنَفْسِهَا عَدَمُ تَصَوُّرِ انْفِكَاكِ الْحُكْمِ عَنْهَا لَا أَنَّهَا مُوجِبَةٌ لَهُ حَقِيقَةً إذْ الْمُتَوَالِدَاتُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَإِنَّ الْكَسْرَ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الِانْكِسَارِ وَالْحَرَكَةَ بِدُونِ التَّحَرُّكِ وَالْإِحْرَاقَ بِدُونِ الِاحْتِرَاقِ.

وَإِنَّمَا الْمُوجِبُ لِلْأَحْكَامِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى إذْ لَهُ وِلَايَةُ الْإِيجَابِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُشَرِّعَ الْأَحْكَامَ بِلَا عِلَلٍ، وَلَكِنَّ إيجَابَهُ لَمَّا كَانَ غَيْبًا عَنْ الْعِبَادِ وَهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ دَرْكِهَا شَرَعَ الْعِلَلَ الَّتِي يُمْكِنُ لَهُمْ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا مُوجِبَاتٍ لِلْأَحْكَامِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ وَنُسِبَ الْوُجُوبُ إلَيْهَا فِيمَا بَيْنَ الْعِبَادِ تَيْسِيرًا فَصَارَتْ الْعِلَلُ مُوجِبَةً فِي الظَّاهِرِ بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهَا كَذَلِكَ أَيْ مُوجِبَةً لَا بِأَنْفُسِهَا وَفِي حَقِّ صَاحِبِ.

ص: 171

وَهَذَا كَأَفْعَالِ الْعِبَادِ مِنْ الطَّاعَاتِ لَيْسَ بِمُوجِبَةٍ لِلثَّوَابِ بِذَوَاتِهَا بَلْ اللَّهُ تَعَالَى بِفَضْلِهِ جَعَلَهَا كَذَلِكَ فَصَارَتْ النِّسْبَةُ إلَيْهَا بِفَضْلِهِ وَكَذَلِكَ الْعِقَابُ يُضَافُ إلَى الْكُفْرِ عَنْ هَذَا الْوَجْهِ فَأَمَّا أَنْ تُجْعَلَ لَغْوًا كَمَا قَالَتْ الْجَبْرِيَّةُ أَوْ مُوجِبَةً بِأَنْفُسِهَا كَمَا قَالَتْ الْقَدَرِيَّةُ فَلَا فَكَذَلِكَ حَالُ الْعِلَلِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ بِعِلَّةِ الْحُكْمِ إذَا رَجَعَ نُسِبَ إلَيْهِ الْإِيجَابُ حَتَّى صَارَ ضَامِنًا.

وَأَمَّا الشَّرْطُ فَتَفْسِيرُهُ فِي اللُّغَةِ

ــ

[كشف الأسرار]

الشَّرْعِ هَذِهِ الْعِلَلُ إعْلَامٌ خَالِصَةٌ أَيْ فِي حَقِّهِ هِيَ الْإِعْلَامُ لِلْعِبَادِ عَلَى الْإِيجَابِ لَا أَنَّهَا إعْلَامٌ فِي حَقِّهِ وَهِيَ نَظِيرُ الْإِمَاتَةِ فَإِنَّ الْمُمِيتَ وَالْمُحْيِيَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى حَقِيقَةً، ثُمَّ جُعِلَتْ الْإِمَاتَةُ مُضَافَةً إلَى الْقَاتِلِ بِعِلَّةِ الْقَتْلِ فِيمَا يَبْتَنِي عَلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ مِنْ الْقِصَاصِ وَحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ وَالْكَفَّارَةِ وَالدِّيَةِ وَهَذَا أَيْ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا غَيْرُ مُوجِبَةٍ بِذَوَاتِهَا بَلْ بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهَا مُوجِبَةً مِثْلَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مِنْ الطَّاعَاتِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِمُوجِبَةِ الثَّوَابِ بِذَوَاتِهَا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى مَوْلَاهُ بِعَمَلِهِ لَهُ ثَوَابًا قَطُّ وَقَدْ يَنْفَكُّ الْأَفْعَالُ عَنْ الثَّوَابِ أَيْضًا كَمَا قَالَ عليه السلام «رُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إلَّا السَّهَرُ وَرُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إلَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ» إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِفَضْلِهِ جَعَلَ هَذِهِ الْأَفْعَالَ كَذَلِكَ أَيْ مُوجِبَةً لِلثَّوَابِ بِقَوْلِهِ {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 85] فَصَارَتْ النِّسْبَةُ أَيْ نِسْبَةُ الثَّوَابِ إلَى الْأَفْعَالِ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ وَإِلَيْهِ يُشِيرُ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} [النبأ: 36] وَالْعَطَاءُ مَا كَانَ مِنْ الْمُعْطِي ابْتِدَاءً بِطَرِيقِ الْإِنْعَامِ وَالْإِحْسَانِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ عليه السلام.

«يُنْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةُ دَوَاوِينَ دِيوَانُ النِّعَمِ وَدِيوَانُ الْأَعْمَالِ أَيْ الطَّاعَاتِ وَدِيوَانُ الْمَعَاصِي فَيُقَابَلُ دِيوَانُ النِّعَمِ بِدِيوَانِ الْأَعْمَالِ فَيَبْقَى دِيوَانُ الْمَعَاصِي فَيُدْخِلُهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِهِ» وَكَذَلِكَ الْعُقُوبَاتُ تُضَافُ إلَى الْكُفْرِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْ وَكَمَا أَنَّ الثَّوَابَ يُضَافُ إلَى الطَّاعَاتِ تُضَافُ الْعُقُوبَاتُ إلَى الْكُفْرِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَهُوَ أَنَّ الْكُفْرَ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِلْعُقُوبَاتِ بِذَاتِهِ بَلْ اللَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ سَبَبًا لِلْعُقُوبَاتِ كَمَا جَعَلَ الطَّاعَاتِ كَذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ مَوْلَانَا حُمَيْدٍ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ رحمه الله: هَذَا الْكَلَامُ يَنْزِعُ إلَى مَذْهَبٍ فَإِنَّ عِنْدَهُ يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ عَقْلًا إلَّا أَنَّ السَّمْعَ وَرَدَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فَأَمَّا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ فَالْحِكْمَةُ تَقْتَضِي تَعْذِيبَ الْكَافِرِ عَلَى كُفْرِهِ وَتَرْكُ التَّعْذِيبِ لَيْسَ بِحِكْمَةٍ كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ رحمه الله فِي التَّأْوِيلَاتِ فَكَانَ الْكُفْرُ سَبَبًا لِلْعُقُوبَةِ بِذَاتِهِ فَلَا يَسْتَقِيمُ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى أَصْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْكُفْرَ وَإِنْ كَانَ سَبَبًا لِلْعُقُوبَةِ بِنَفْسِهِ عَقْلًا إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ بِذَاتِهِ لِلْعُقُوبَاتِ الَّتِي وَرَدَ النُّصُوصُ بِهَا وَإِنَّمَا جُعِلَ سَبَبًا لِتِلْكَ الْعُقُوبَاتِ بِالشَّرْعِ وَلِهَذَا جَازَ التَّخْفِيفُ فِي حَقِّ بَعْضِ الْكُفَّارِ وَالتَّغْلِيظُ فِي حَقِّ الْبَعْضِ فَكَانَ مِثْلَ الطَّاعَاتِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

وَكَانَتْ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ الْعُقُوبَاتِ لِلْعَهْدِ أَيْ الْعُقُوبَاتُ الْمَذْكُورَةُ فِي النُّصُوصِ فَأَمَّا أَنْ يَجْعَلَ الْأَفْعَالَ لَغْوًا كَمَا قَالَتْ الْجَبْرِيَّةُ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْتَبِرُوا أَفْعَالَ الْعِبَادِ أَصْلًا وَنَفَوْا عَنْهَا تَدْبِيرَ الْخَلْقِ وَجَعَلُوهَا كُلَّهَا اضْطِرَارِيَّةً كَحَرَكَاتِ الْمُرْتَعِشِ وَالْعُرُوقِ النَّابِضَةِ وَجَعَلُوا إضَافَةَ الْأَفْعَالِ إلَى الْعِبَادَةِ مَجَازًا فَقَالُوا: مَشَى زَيْدٌ وَذَهَبَ عَمْرٌو بِمَنْزِلَةِ طَالَ الْغُلَامُ وَمَاتَ زَيْدٌ وَابْيَضَّ شَعْرُ بَكْرٍ وَشَاخَ عَبْدُ اللَّهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ أَفْعَالُ الْعِبَادِ سَبَبًا لِلثَّوَابِ وَلَا لِلْعِقَابِ بِوَجْهٍ بَلْ اللَّهُ تَعَالَى يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ بِحُكْمِ تَصَرُّفِهِ فِي مِلْكِهِ عَلَى حَسَبِ إرَادَتِهِ وَمُوجِبَةٌ بِأَنْفُسِهَا كَمَا قَالَتْ الْقَدَرِيَّةُ فَإِنَّهُمْ قَطَعُوا تَدْبِيرَ اللَّهِ عز وجل عَنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ بِالْكُلِّيَّةِ وَقَالُوا: يَخْتَرِعُهَا الْعِبَادُ وَيَتَوَلَّوْنَ إيجَادَهَا شَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَشَأْ فَيَكُونُ الْأَفْعَالُ أَسْبَابًا لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ بِأَنْفُسِهَا عِنْدَهُمْ وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّ الْعَبْدَ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ بِعَمَلِهِ كَمَا يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ بِفِعْلِهِ لِكَوْنِهِ مُسْتَبِدًّا بِهِ فَلَا أَيْ فَلَا تَجْعَلْ كَمَا قَالُوا بَلْ يُقَالُ: أَفْعَالُ الْعِبَادِ مَوْجُودَةٌ مِنْهُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ بِهَا صَارُوا عُصَاةً وَمُطِيعِينَ وَمَخْلُوقَةُ اللَّهِ تَعَالَى دَاخِلَةٌ تَحْتَ قُدْرَتِهِ فَيُسْتَفَادُ بِالْأَوَّلِ ثُبُوتُ الْعَدْلِ وَنَفْيُ الظُّلْمِ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ {وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] .

1 -

ص: 172

الْعَلَامَةُ اللَّازِمَةُ وَمِنْهُ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ وَمِنْهُ الشُّرُوطُ لِلصُّكُوكِ وَمِنْهُ الشُّرْطِيُّ وَمِنْهُ شَرْطُ الْحَجَّامِ وَهُوَ فِي الشَّرْعِ اسْمٌ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُودُ دُونَ الْوُجُوبِ فَمِنْ حَيْثُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُوبُ عَلَامَةٌ وَمِنْ حَيْثُ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُودُ يُشْبِهُ الْعِلَلَ فَسُمِّيَ شَرْطًا.

ــ

[كشف الأسرار]

وَإِثْبَاتُ الْفَضْلِ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} [النساء: 83] وَيُسْتَفَادُ بِالثَّانِي مَعْرِفَةُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مَحْمُودِيَّةً كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62] فَتَكُونُ الْأَفْعَالُ أَسْبَابًا لِلثَّوَابِ بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى لَا بِذَوَاتِهَا فَكَذَلِكَ حَالُ الْعِلَلِ أَيْ فَكَالْأَفْعَالِ الْعِلَلُ فَلَا يَكُونُ مُوجِبَةً بِذَوَاتِهَا كَالْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ وَلَا تَكُونُ مُهْدَرَةً كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْبَعْضُ بَلْ تَكُونُ مُوجِبَةً بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهَا كَذَلِكَ فِي حَقِّ الْعَمَلِ قَالَ الشَّيْخُ رحمه الله فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ لَوْ جَعَلْنَا الْعِلَلَ مُوجِبَةً بِذَوَاتِهَا يُؤَدِّي إلَى الشَّرِكَةِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ فَإِنَّ الْمُوجِبَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ إعْلَامًا مَحْضَةً أَيْضًا؛ لِأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ تَخْرُجُ حِينَئِذٍ عَنْ الْبَيْنِ فَيَصِيرُ الْأَحْكَامُ كُلُّهَا جَبْرِيَّةً بِدُونِ أَسْبَابٍ وَالْقِصَاصُ شُرِعَ جَزَاءً عَلَى الْفِعْلِ وَكَذَلِكَ الْحُدُودُ فَإِذَا جَعَلْنَا الْأَسْبَابَ إعْلَامًا لَا يَكُونُ الْعُقُوبَاتُ أَجْزِيَةً فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ الْعَدْلَ مَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْعِلَلَ مُعْتَبَرَةٌ غَيْرُ مُهْدَرَةٍ فَقَالَ: وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ بِعِلَّةِ الْحُكْمِ إذَا رَجَعَ نُسِبَ إلَيْهِ الْإِيجَابُ حَتَّى صَارَ ضَامِنًا إذَا شَهِدَ الشَّاهِدَانِ عَلَى أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا أَوْ عَتَقَ عَبْدَهُ فَقَضَى الْقَاضِي بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَضَمِنَ الزَّوْجُ نِصْفَ الْمَهْرِ، ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا نِصْفَ الْمَهْرِ لِلزَّوْجِ وَقِيمَةَ الْعَبْدِ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُمَا أَثْبَتَا عِلَّةَ التَّلَفِ فَكَانَ التَّلَفُ مُضَافًا إلَيْهِمَا فَإِذَا أُضِيفَ التَّلَفُ إلَيْهِمَا مَعَ أَنَّ الشَّهَادَةَ عِلَّةُ الْعِلَّةِ فَأَوْلَى أَنْ يُضَافَ إلَى حَقِيقَةِ الْعِلَّةِ.

قَوْلُهُ (الشَّرْطُ الْعَلَامَةُ اللَّازِمَةُ) فَكَأَنَّهُ فَسَّرَهُ بِمَا ذُكِرَ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَلَامَةِ الْحَقِيقِيَّةِ بِهَذَا الْقَيْدِ وَمِنْهُ أَيْ وَمِنْ مَعْنَى الْعَلَامَةِ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ أَيْ عَلَامَاتُهَا اللَّازِمَةُ جَمْعُ شَرَطٍ بِالتَّحْرِيكِ وَجَمْعُ الشَّرْطِ بِالسُّكُونِ الشُّرُوطُ كَذَا فِي الصِّحَاحِ وَمِنْهُ الشُّرُوطُ لِلصُّكُوكِ؛ لِأَنَّهَا عَلَامَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى الصِّحَّةِ وَالتَّوَثُّقِ لَازِمَةٌ. وَالشُّرْطَةُ بِالسُّكُونِ وَالْحَرَكَةِ خِيَارُ الْجُنْدِ وَالْجَمْعُ شُرَطٌ وَالشَّرْطِيُّ بِالسُّكُونِ وَالْحَرَكَةِ مَنْسُوبٌ إلَى الشُّرْطَةِ عَلَى اللُّغَتَيْنِ لَا إلَى الشُّرَطِ؛ لِأَنَّهُ جَمْعٌ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ نَصَبَ نَفْسَهُ عَلَى زِيٍّ وَهَيْئَةٍ لَا يُفَارِقُهُ فِي أَغْلَبِ أَحْوَالِهِ فَكَأَنَّهُ لَازِمٌ لَهُ وَمِنْهُ شُرَطُ الْحَجَّامِ هُوَ مَصْدَرُ شَرَطَ الْحَاجِمُ يَشْرِطُ وَيَشْرُطُ إذَا بَزَغَ وَإِنَّمَا سُمِّيَ فِعْلُهُ شَرْطًا؛ لِأَنَّ بِفِعْلِهِ يَحْصُلُ فِي الْمَحَاجِمِ عَلَامَةٌ لَازِمَةٌ وَالْمِشْرَطُ الْمِبْضَعُ وَهُوَ فِي الشَّرْعِ اسْمٌ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُودُ دُونَ الْوُجُوبِ أَيْ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الشَّيْءِ بِأَنْ يُوجَدَ عِنْدَ وُجُودِهِ لَا بِوُجُودِهِ كَالدُّخُولِ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ الدُّخُولِ وَيَصِيرُ الطَّلَاقُ عِنْدَ وُجُودِ الدُّخُولِ مُضَافًا إلَى الدُّخُولِ مَوْجُودًا عِنْدَهُ لَا وَاجِبًا بِهِ بَلْ الْوُقُوعُ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ عِنْدَ الدُّخُولِ.

فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا أَثَرَ لِلدُّخُولِ فِي الطَّلَاقِ مِنْ حَيْثُ الثُّبُوتُ بِهِ وَلَا مِنْ حَيْثُ الْوُصُولُ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ الدُّخُولُ سَبَبًا وَلَا عِلَّةً بَلْ كَانَ عَلَامَةً وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُضَافٌ إلَيْهِ كَانَ الدُّخُولُ شَبِيهًا بِالْعِلَلِ وَكَانَ بَيْنَ الْعَلَامَةِ وَالْعِلَّةِ فَسَمَّيْنَاهُ شَرْطًا وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ الشَّرْطِ بِحَالٍ وَإِنَّمَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ التَّعْلِيقِ إذَا رَجَعُوا قَالَ السَّيِّدُ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ هُوَ فِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَمَّا يَقِفُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ عَلَى وُجُودِهِ وَلَا يَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ التَّصَرُّفِ، ثُمَّ قَالَ الْأَشْيَاءُ الَّتِي يَقِفُ الْحُكْمُ عَلَى وُجُودِهَا خَمْسَةُ أَقْسَامٍ الْعِلَّةُ وَوَصْفُ الْعِلَّةِ وَالسَّبَبُ وَالشَّرْطُ وَالرُّكْنُ فَالْعِلَّةُ هِيَ الْمُؤَثِّرَةُ فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ عَنْهَا وَلَهَا تَأْثِيرٌ تَامٌّ. وَوَصْفُ الْعِلَّةِ لَهُ نَوْعُ تَأْثِيرٍ، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِتَامٍّ بَلْ يَتِمُّ بِانْضِمَامِ وَصْفٍ آخَرَ أَوْ أَوْصَافٍ إلَيْهِ وَالسَّبَبُ

ص: 173