الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لِأَنَّهُ يَنْعَكِسُ بِبَدَلِ الصَّرْفِ وَرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ بِدَيْنٍ وَلَا يَنْعَكِسُ تَعْلِيلُهُ؛ لِأَنَّ بَيْعَ السَّلَمِ لَمْ يَشْمَلْ أَمْوَالَ الرِّبَا، وَمَعَ ذَلِكَ وَجَبَ فِيهِ الْقَبْضُ احْتِرَازًا عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْحُدُوثَ مَوْجُودٌ بِصُورَتِهِ، وَمَعْنَاهُ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةُ وُجُودِهِ، وَيُقَوَّمُ بِهِ أَحْوَالُهُ الْحَادِثَةُ عَلَى وُجُودِهِ فَإِذَا تَعَارَضَ ضَرْبَانِ تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا فِي الذَّاتِ وَالثَّانِي فِي الْحَالِ
ــ
[كشف الأسرار]
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجِنْسِهِ يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ فَيُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ فِي بَيْعِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ثُمَّ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَنْعَكِسُ بِبَدَلِ الصَّرْفِ وَرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ؛ لِأَنَّهُ أَيْ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَيْنٌ بِدَيْنٍ يَعْنِي قَدْ عُدِمَتْ الْعَيْنِيَّةُ فِي هَذَيْنِ الْعَقْدَيْنِ فَعُدِمَ الْحُكْمُ الْمُرَتَّبُ عَلَيْهَا، وَهُوَ عَدَمُ اشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الصَّرْفِ النُّقُودُ، وَهِيَ لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْعُقُودِ فَكَانَ دَيْنًا بِدَيْنٍ.
وَكَذَا الْمُسْلَمُ فِيهِ دَيْنٌ وَرَأْسُ الْمَالِ فِي الْغَالِبِ مِنْ النُّقُودِ أَيْضًا فَكَانَ دَيْنًا بِدَيْنٍ فَشُرِطَ فِيهِمَا الْقَبْضُ فَثَبَتَ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا مُنْعَكِسٌ، وَلَا يَنْعَكِسُ تَعْلِيلُهُ أَيْ تَعْلِيلُ الْخَصْمِ؛ لِأَنَّ بَيْعَ السَّلَمِ لَمْ يَشْمَلْ أَمْوَالَ الرِّبَا أَيْ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَيْهَا إنْ جَازَ حَمْلُ الشُّمُولِ عَلَى الِاقْتِصَارِ يَعْنِي كَمَا يَكُونُ السَّلَمُ فِي مَالِ الرِّبَا بِأَنْ أَسْلَمَ دَرَاهِمَ فِي حِنْطَةٍ يَكُونُ فِي غَيْرِهِ بِأَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ ثَوْبًا أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّ بَيْعَ السَّلَمِ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مُشْتَمِلٍ عَلَى أَمْوَالِ الرِّبَا بِأَنْ أَسْلَمَ ثَوْبًا فِي عَدَدٍ مُتَقَارِبٍ. وَعِبَارَةُ التَّقْوِيمِ أَوْضَحُ مِنْ عِبَارَةِ الْكِتَابِ، وَهِيَ وَعِلَّتُهُمْ لَا تُوجِبُ الْعَدَمَ لِعَدَمِهَا فَإِنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ فِي الْمَجْلِسِ فِي بَابِ السَّلَمِ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى أَمْوَالِ الرِّبَا، وَمَعَ ذَلِكَ أَيْ مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ مُشْتَمِلٍ عَلَى أَمْوَالِ الرِّبَا وَجَبَ فِيهِ الْقَبْضُ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ النَّسِيئَةِ بِالنَّسِيئَةِ فَثَبَتَ أَنَّ مَا ذَكَرُوا غَيْرُ مُنْعَكِسٍ بِبَقَاءِ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَصْفِ فَإِنْ قِيلَ مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْعَكِسًا فَهُوَ مُطَّرِدٌ، وَمَا ذَكَرْتُمْ لَيْسَ بِمُطَّرِدٍ فَإِنَّ بَيْعَ إنَاءٌ مِنْ فِضَّةٍ بِإِنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ يُوجِبُ الْقَبْضَ فِي الْمَجْلِسِ، وَإِنْ كَانَا عَيْنَيْنِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ ثَوْبًا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ، وَإِنْ كَانَ عَيْنًا فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ أَوْلَى قُلْنَا الْأَصْلُ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ وُرُودُهُمَا عَلَى الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَرُبَّمَا يَقَعُ عَلَى عَيْنٍ بِدَيْنٍ وَيَتَعَذَّرُ عَلَى عَامَّةِ التُّجَّارِ مَعْرِفَةُ مَا يَتَعَيَّنُ وَمَا لَا يَتَعَيَّنُ فَأُقِيمَ اسْمُ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ مَقَامَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَعُلِّقَ وُجُوبُ الْقَبْضِ بِهِمَا تَيْسِيرًا عَلَى النَّاسِ وَوَجَبَ الْقَبْضُ بِهِمَا سَوَاءٌ وَرَدَا عَلَى دَيْنٍ بِدَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ بِعَيْنٍ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ فِي حُكْمِ الدَّيْنِ تَقْدِيرًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ إذَا أُقِيمَ مَقَامَ شَيْءٍ فَالْمَنْظُورُ نَفْسُهُ لَا الشَّيْءُ الَّذِي هُوَ أُقِيمَ هُوَ مَقَامَهُ كَالنَّوْمِ لَمَّا أُقِيمَ مَقَامَ الْحَدَثِ عِنْدَ الِاسْتِرْخَاءِ، وَالسَّفَرُ لَمَّا أُقِيمَ مَقَامَ الْمَشَقَّةِ لَمْ يُتَلَفَّتْ بَعْدُ إلَى حَقِيقَةِ الْحَدَثِ وَالْمَشَقَّةِ.
فَإِنْ قِيلَ مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْعَكِسًا مُوَافِقٌ لِلنَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ: عليه السلام «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ يَدٌ بِيَدٍ» أَيْ قَبْضٌ بِقَبْضٍ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَبْضٌ بِقَبْضٍ.
وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «إذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ» وَمَا ذَكَرْتُمْ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ فَكَانَ مَرْدُودًا. قُلْنَا: قَدْ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ يَدٌ بِيَدٍ عَيْنٌ بِعَيْنٍ نَقْدٌ بِنَقْدٍ يُقَالُ لِمَا لَيْسَ بِنَسِيئَةٍ بَيْعُ يَدٍ بِيَدٍ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْيَدَ آلَةُ التَّعْيِينِ كَالْإِشَارَةِ وَالْإِحْضَارِ كَمَا هِيَ آلَةُ الْقَبْضِ، وَكَذَلِكَ الْقَبْضُ بِالْيَدِ لِلتَّعْيِينِ فَيَجُوزُ أَنْ يُعَبِّرَ بِالْيَدِ وَالْقَبْضِ عَنْهُ فَيَحْمِلُهُ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَزِيدَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وَقَوْلُهُ جل جلاله {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29] شَرْطًا لَيْسَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّسْخِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ.
وَلَا يُقَالُ قَدْ زِدْتُمْ اشْتِرَاطَ الْعَيْنِيَّةِ عَلَى الْكِتَابِ بِنَهْيِهِ عليه السلام عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ فَزِيدُوا الْقَبْضَ بِهَذَا النَّصِّ أَيْضًا؛ لِأَنَّا نَقُولُ انْضَمَّ الْإِجْمَاعُ، وَقَبُولُ الْأُمَّةِ إلَى هَذَا الْخَبَرِ فَيَجُوزُ الزِّيَادَةُ بِهِ عَلَى الْكِتَابِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي خَبَرِ الْقَبْضِ فَافْتَرَقَا.
[الْقِسْمُ الثَّالِثُ بَيَانُ الْمُخَلِّصِ فِي تَعَارُضِ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ]
قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ) يَعْنِي مِنْ أَقْسَامِ أَوَّلِ الْبَابِ، وَهُوَ بَيَانُ الْمُخَلِّصِ فِي تَعَارُضِ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ فَإِنَّ التَّرْجِيحَيْنِ إذَا تَعَارَضَا يُحْتَاجُ إلَى تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ دَفْعًا لِلتَّعَارُضِ، أَحَدُهُمَا فِي الذَّاتِ أَيْ بِمَعْنًى رَاجِعٍ إلَى الذَّاتِ
عَلَى مُضَادَّةِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ كَانَ الرُّجْحَانُ فِي الذَّاتِ أَحَقَّ مِنْهُ فِي الْحَالِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الذَّاتَ أَسْبَقُ مِنْ الْحَالِ فَيَصِيرُ كَاجْتِهَادٍ أُمْضِيَ حُكْمُهُ لَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ بِغَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّ الْحَالَ قَائِمَةٌ فَلَوْ اعْتَبَرْنَا عَلَى مُضَادَّةِ الْأَوَّلِ كَانَ نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ مُبْطِلًا لَهُ، وَالتَّبَعُ لَا يَصْلُحُ مُبْطِلًا لِلْأَصْلِ نَاسِخًا لَهُ، وَهَذَا عِنْدَنَا وَالشَّافِعِيُّ خَفِيَ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدُّ، وَهُوَ مَعْذُورٌ فِي مَزَلِّ الْقَدَمِ، وَالْمُصِيبُ فِي مَرَاكِزِ الزَّلَلِ مَأْجُورٌ.
وَبَيَانُهُ فِيمَا هُوَ مَوْضِعُ الْإِجْمَاعِ قَوْلُنَا فِي ابْنِ ابْنِ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أَنَّهُ أَحَقُّ بِالتَّعْصِيبِ مِنْ الْعَمِّ؛ لِأَنَّ هَذَا رَاجِحٌ فِي ذَاتِ الْقَرَابَةِ، وَالْعَمُّ رَاجِحٌ بِخَالَةٍ، وَكَذَلِكَ الْعَمَّةُ لِأُمٍّ مَعَ الْخَالِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَحَقُّ بِالثُّلُثَيْنِ وَالثُّلُثُ لِلْخَالِ؛ لِأَنَّهَا رَاجِحَةٌ فِي ذَاتِ الْقَرَابَةِ، وَالْخَالُ رَاجِحٌ بِخَالَةٍ وَابْنِ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَحَقُّ مِنْ ابْنِ الْأَخِ لِأَبٍ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الذَّاتِ فَيَتَرَجَّحُ بِالْخَالِ وَابْنُ ابْنِ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ لَا يَرِثُ مَعَ ابْنِ الْأَخِ لِأَبٍ لِلرُّجْحَانِ فِي الذَّاتِ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ
ــ
[كشف الأسرار]
وَالثَّانِي فِي الْحَالِ أَيْ بِوَصْفٍ فِي الذَّاتِ عَلَى مُضَادَّةِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَيْ عَلَى مُخَالَفَتِهِ إذْ لَوْ كَانَ عَلَى مُوَافَقَتِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى التَّرْجِيحِ ثَانِيًا: أَحَدُهُمَا أَنَّ الذَّاتَ أَسْبَقُ وُجُودًا مِنْ الْحَالِ زَمَانًا أَوْ رُتْبَةً فَبَعْدَمَا وَقَعَ التَّرْجِيحُ لِمَعْنًى فِي الذَّاتِ لَا يَتَغَيَّرُ لِمَا حَدَثَ مِنْ مَعْنًى فِي حَالِ الْآخَرِ بَعْدَ ذَلِكَ كَاجْتِهَادٍ أَمْضَى حُكْمَهُ لَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ بِمَا يَحْدُثُ مِنْ اجْتِهَادٍ آخَرَ بَعْدَهُ، وَإِذَا اتَّصَلَ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ الْمَسْتُورِينَ بِالنَّسَبِ أَوْ النِّكَاحِ لِرَجُلٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ بَعْدَ ذَلِكَ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ لِآخَرَ كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ.
وَلَا يُقَالُ الذَّاتُ أَسْبَقُ عَلَى حَالِ نَفْسِهَا لَا عَلَى حَالِ ذَاتٍ أُخْرَى وَتَرْجِيحُ الْخَصْمِ يَقَعُ بِحَالِ ذَاتٍ أُخْرَى فَيَتَسَاوَيَانِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْمَنْظُورُ كَوْنُ الذَّاتِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُقَدَّمَةً عَلَى الْحَالِ عَلَى أَنَّ التَّرْجِيحَ بِالْحَالِ وَبِالذَّاتِ قَدْ يَقَعَانِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ التَّبْيِيضِ رَجَّحْنَا بِالْكَثْرَةِ، وَهِيَ رَاجِعَةٌ إلَى ذَاتِ الصَّوْمِ، وَرَجَّحَ الْخَصْمُ بِالْفَسَادِ احْتِيَاطًا وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى حَالِ الصَّوْمِ أَيْضًا؛ وَلِأَنَّ الْحَالَ قَائِمَةٌ بِالذَّاتِ.
بَيَانُ الْوَجْهِ الثَّانِي أَيْ الْحَالُ قَائِمَةٌ بِغَيْرِهَا، وَمَا هُوَ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ لَهُ حُكْمُ الْعَدَمِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لِعَدَمِ قِيَامِهِ وَبَقَائِهِ بِنَفْسِهِ فَكَانَتْ الْحَالُ مَوْجُودَةً مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ تَابِعَةً لِغَيْرِهَا وَالذَّاتُ مَوْجُودَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَأَصْلٌ بِنَفْسِهَا فَكَانَ التَّرْجِيحُ بِهَا أَوْلَى وَبَعْدَمَا صَارَ الدَّلِيلُ رَاجِحًا بِاعْتِبَارِ الذَّاتِ لَا يُجْعَلُ الْآخَرُ رَاجِحًا بِاعْتِبَارِ الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ نَسْخًا، وَإِبْطَالًا لِمَا هُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ بِمَا هُوَ تَبَعٌ لِغَيْرِهِ، وَالتَّبَعُ لِغَيْرِهِ لَا يَصْلُحُ مُبْطِلًا لِمَا هُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ وَنَاسِخًا لَهُ وَقَدْ يَرِدُ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ تَبَعَ الشَّيْءِ لَا يَصْلُحُ مُبْطِلًا لِذَاتِ الشَّيْءِ، وَلَكِنَّهُ يَصْلُحُ مُبْطِلًا لِشَيْءٍ آخَرَ.
وَالْجَوَابُ مِثْلُ الْأَوَّلِ، وَهَذَا عِنْدَنَا أَيْ هَذَا النَّوْعُ مِنْ التَّرْجِيحِ مَذْهَبُنَا، وَالشَّافِعِيُّ وَإِنْ كَانَ لَا يُخَالِفُنَا فِي هَذَا الْأَصْلِ، وَلَكِنْ خَفِيَ عَلَيْهِ هَذَا الْأَصْلُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، وَهُوَ مَعْذُورٌ فِي مَزَلِّ الْقَدَمِ فَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا أَخْطَأَ فِي مَوْضِعِ الْخَفَاءِ كَانَ مَعْذُورًا، وَإِنَّمَا الْمَأْخُوذُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ فِي مَوْضِعِ الظُّهُورِ، وَالْمُصِيبُ فِي مَرَاكِزِ الزَّلَلِ مَأْجُورٌ يَعْنِي، وَمَنْ أَصَابَ الْحَقَّ فِي مَوَاضِعَ تَزِلُّ فِيهَا أَقْدَامُ الْخَوَاطِرِ فَهُوَ مَأْجُورٌ أَرَادَ بِهِ أَبَا حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابَهُ رحمه الله فَإِنَّهُمْ أَمْعَنُوا فِي طَلَبِ الْحَقِّ فَأَصَابُوا حَقِيقَةَ الْمَعْنَى فَلَمْ تَزِلَّ أَقْدَامُهُمْ عَنْ الصَّوَابِ.
وَبَيَانُهُ أَيْ بَيَانُ رُجْحَانِ التَّرْجِيحِ بِالذَّاتِ عَلَى التَّرْجِيحِ بِالْحَالِ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا قَوْلُنَا فِي ابْنِ ابْنِ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أَنَّهُ أَحَقُّ بِالتَّعْصِيبِ مِنْ الْعَمِّ؛ لِأَنَّ هَذَا أَيْ ابْنَ ابْنِ الْأَخِ رَاجِحٌ فِي ذَاتِ الْقَرَابَةِ فَإِنَّ قَرَابَتَهُ قَرَابَةُ أُخُوَّةٍ، وَهِيَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْعُمُومَةِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ الْأَخَ مُجَاوِرُهُ فِي الصُّلْبِ وَالْعَمُّ مُجَاوِرُ أَبِيهِ، وَالْعَمُّ رَاجِحٌ بِحَالَةٍ، وَهِيَ زِيَادَةُ الْقُرْبِ؛ لِأَنَّهُ يَتَّصِلُ بِوَاسِطَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْأَبُ وَابْنُ ابْنِ الْأَخِ بِوَاسِطَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ الْعَمَّةُ لِأُمٍّ مَعَ الْخَالِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَحَقُّ بِالثُّلُثَيْنِ مِنْ الْخَالِ، وَالثُّلُثُ لِلْخَالِ؛ لِأَنَّ الْعَمَّةَ رَاجِحَةٌ فِي ذَاتِ الْقَرَابَةِ لِإِدْلَائِهَا إلَى الْمَيِّتِ بِالْأَبِ وَالْخَالُ رَاجِحٌ بِحَالَةٍ، وَهِيَ الذُّكُورَةُ، وَقُوَّةُ الْقَرَابَةِ فَإِنَّهُ يَتَّصِلُ بِأُمِّ الْمَيِّتِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَالْعَمَّةُ مُتَّصِلَةٌ بِأَبِيهِ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الذَّاتِ أَيْ ذَاتِ الْقَرَابَةِ فَإِنَّ الْكُلَّ قَرَابَةُ أُخُوَّةٍ فَيَتَرَجَّحُ أَيْ الْأَوَّلُ بِالْحَالِ، وَهِيَ زِيَادَةُ الِاتِّصَالِ لِأَحَدِهِمَا.
وَابْنُ ابْنِ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ لَا يَرِثُ مَعَ ابْنِ الْأَخِ لِأَبٍ لِلرُّجْحَانِ فِي الذَّاتِ يَعْنِي أَنَّهُمَا، وَإِنْ اسْتَوَيَا فِي ذَاتِ الْقَرَابَةِ؛ لِأَنَّ مَنْزِلَهُمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ الْأُخُوَّةُ لَكِنْ لِأَحَدِهِمَا، وَهُوَ ابْنُ الْأَخِ لِأَبٍ مَعْنًى مُرَجِّحٌ فِي ذَاتِهِ، وَهُوَ الْقُرْبُ فَإِنَّ نَفْسَهُ أَقْرَبُ إلَى الْمَيِّتِ بِوَاسِطَةٍ وَلِلْآخَرِ
وَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا رحمهم الله فِي مَسَائِلِ صَنْعَةِ الْغَاصِبِ فِي الْخِيَاطَةِ وَالصِّيَاغَةِ وَالطَّبْخِ وَالشَّيِّ وَنَحْوِهَا إنَّهُ يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ قَائِمَةٌ بِذَاتِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَا يُضَافُ حُدُوثُهَا إلَى صَاحِبِ الْعَيْنِ وَأَمَّا الْعَيْنُ فَهَالِكَةٌ مِنْ وَجْهٍ، وَهِيَ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ مُضَافٌ إلَى صَنْعَةِ الْغَاصِبِ فَصَارَتْ الصَّنْعَةُ رَاجِحَةً فِي الْوُجُودِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: رحمه الله صَاحِبُ الْأَصْلِ أَحَقُّ؛ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ بَاقِيَةٌ بِالْمَصْنُوعِ تَابِعَةٌ لَهُ وَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا قُلْنَا أَنَّ الْبَقَاءَ حَالٌّ بَعْدَ الْوُجُودِ فَإِذَا تَعَارَضَا كَانَ الْوُجُودُ أَحَقَّ مِنْ الْبَقَاءِ
ــ
[كشف الأسرار]
مَعْنًى مُرَجِّحٌ يَرْجِعُ إلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ زِيَادَةُ الِاتِّصَالِ لِجَدِّهِ فَكَانَ الْأَوَّلُ أَحَقَّ بِالْعُصُوبَةِ.
وَمِثْلُهُ أَيْ، وَمِثْلُ التَّرْجِيحِ الْمَذْكُورِ فِي الْفَرَائِضِ كَثِيرٌ فَإِنَّ ابْنَ الْعَمِّ لِأَبٍ أَوْلَى مِنْ ابْنِ ابْنِ الْعَمِّ لِأَبٍ وَأُمٍّ لِمَا قُلْنَا وَالْجَدُّ، وَإِنْ عَلَا أَوْلَى مِنْ الْعَمِّ وَبِنْتُ الْعَمَّةِ، وَإِنْ سَلَفَتْ أَوْلَى بِالثُّلُثَيْنِ مِنْ الْخَالِ وَالْخَالَةِ لِلرُّجْحَانِ فِي ذَاتِ الْقَرَابَةِ، وَالْعَمَّةُ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْلَى مِنْ الْعَمَّةِ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ، وَإِنْ اسْتَوَيَا فِي الذَّاتِ لِلرُّجْحَانِ فِي الْحَالِ، وَقِسْ عَلَى هَذَا.
قَوْلُهُ: (وَعَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى أَنَّ التَّرْجِيحَ بِالذَّاتِ أَقْوَى مِنْ التَّرْجِيحِ بِالْحَالِ عِنْدَ تَعَارُضِ التَّرْجِيحَيْنِ قَالَ أَصْحَابُنَا فِي مَسَائِلِ صَنْعَةِ الْغَاصِبِ بِأَنْ أَحْدَثَ فِي الْمَغْصُوبِ صَنْعَةً مُتَقَوِّمَةً، وَهِيَ مَا تَزْدَادُ قِيمَةُ الْعَيْنِ بِهِ فِي الْخِيَاطَةِ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ فِي مَسَائِلِ صَنْعَةِ الْغَاصِبِ مَعَ تَكْرِيرِ الْعَامِلِ وَتَفْسِيرٌ لَهُ أَيْ بِأَنْ غَصَبَ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ قَمِيصًا وَخَاطَهُ وَالصِّيَاغَةِ بِأَنْ غَصَبَ نُقْرَةً فَصَاغَهَا حُلِيًّا أَوْ ضَرَبَهَا دَرَاهِمَ وَالطَّبْخِ، وَالشَّيِّ بِأَنْ غَصَبَ طَعَامًا فَطَبَخَهُ أَوْ شَاةً فَذَبَحَهَا وَشَوَاهَا وَنَحْوِهَا بِأَنْ غَصَبَ سَاجَةً أَوْ أَجُرَّةً فَأَدْخَلَهَا فِي بِنَائِهِ أَوْ حَدِيدًا فَضَرَبَهُ سَيْفًا أَوْ صُفْرًا فَضَرَبَهُ آنِيَةً أَنَّهُ يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ يَعْنِي مِنْ الْعَيْنِ إلَى الْقِيمَةِ لَا أَنَّهُ يَنْقَطِعُ أَصْلًا، وَهَذَا الْجَوَابُ فِي مَسْأَلَةِ الصِّيَاغَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمهم الله فَلَا يَنْقَطِعُ بِالصِّيَاغَةِ حَقُّ الْمَالِكِ مِنْ الْعَيْنِ لِمَا سَنُبَيِّنُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَصْفَ الْحَادِثَ فِي الْمَغْصُوبِ بِصَنْعَةِ الْغَاصِبِ مُتَقَوِّمٌ، وَهُوَ حَقُّ الْغَاصِبِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ لَا يَأْخُذُ الْعَيْنَ إلَّا وَيُعْطِيهِ مَا زَادَتْ الصَّنْعَةُ فِيهَا مِنْ الْخِيَاطَةِ وَالشَّيِّ، وَالْأَصْلُ مُتَقَوِّمٌ حَقًّا لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَلَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا فِي الشَّيِّ وَالطَّبْخِ وَنَحْوِهِمَا أَصْلًا، وَفِي الْخِيَاطَةِ وَنَحْوِهَا إلَّا بِنَقْضِهَا، وَالنَّقْضُ إبْطَالٌ لِحَقِّ الْغَاصِبِ وَحَقُّهُ مُحْتَرَمٌ لَا يَجُوزُ الْإِبْطَالُ عَلَيْهِ كَحَقِّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَلَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِ الشَّرِكَةِ لِاخْتِلَافِ الْمِلْكَيْنِ جِنْسًا فَلَا بُدَّ مِنْ تَمَلُّكِ أَحَدِهِمَا بِالْآخِرِ بِالْقِيمَةِ.
فَقُلْنَا: حَقُّ الْغَاصِبِ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الصَّنْعَةِ قَائِمٌ؛ لِأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِبَقَائِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي حَدَثَتْ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ قَائِمَةٌ بِذَاتِهَا لَا الْقِيَامُ بِالذَّاتِ الَّذِي يَكُونُ لِلْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّنْعَةِ أَثَرُهَا، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْقِيَامِ بِمَحَلٍّ، وَلَا يُضَافُ حُدُوثُهَا إلَى صَاحِبِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ فِي الثَّوْبِ شَيْئًا، وَالثَّوْبُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ أَيْضًا لِصَيْرُورَتِهِ مَخِيطًا فَثَبَتَ أَنَّهُ مُضَافٌ إلَى فِعْلِ الْغَاصِبِ لَا غَيْرُ، وَكَأَنَّهُ احْتِرَازٌ عَنْ الزَّوَائِدِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْ الْعَيْنِ فَإِنَّهَا حَقُّ الْمَالِكِ لِتَوَلُّدِهَا مِنْ مِلْكِهِ، وَعَمَّا إذَا هَبَّتْ الرِّيحُ بِحِنْطَةٍ مَغْصُوبَةٍ، وَأَلْقَتْهَا فِي طَاحُونَةٍ فَطَحَنَتْهَا أَوْ أَلْقَتْهَا فِي أَرْضِ الْغَاصِبِ فَنَبَتَتْ حَيْثُ لَمْ يُقْطَعْ بِهِ حَقُّ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّ صَيْرُورَتَهَا دَقِيقًا وَزَرْعًا لَمَّا لَمْ يَكُنْ بِفِعْلٍ أَحَدٍ، وَفِعْلُ الطَّاحُونَةِ وَالرِّيحِ لَا يَصْلُحُ لِلْإِضَافَةِ إلَيْهِ بَقِيَتْ مُضَافَةً إلَى الْحِنْطَةِ فَيَصِيرُ مِلْكًا لِصَاحِبِ الْحِنْطَةِ إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْأَسْرَارِ.
وَحَقُّ الْمَالِكِ فِي الْمَغْصُوبِ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مِنْ وَجْهٍ هَالِكٌ مِنْ وَجْهٍ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الثَّوْبِ، وَلَمْ يَبْقَ صُورَةً، وَمَعْنًى مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ ثَوْبًا بِالتَّرْكِيبِ، وَقَدْ زَالَ بِالْقَطْعِ مِنْ وَجْهٍ، وَبَعْضُ الْمَنَافِعِ الْقَائِمَةِ بِهِ زَالَتْ بِالْقَطْعِ وَحَدَثَ بِالْخِيَاطَةِ مَا لَمْ يَكُنْ، وَكَذَا حَدَثَ بِفِعْلِ الشَّيِّ صِفَةُ النُّضْجِ، وَهِيَ مُتَقَوِّمَةٌ؛ لِأَنَّهَا تَزِيدُ فِي قِيمَةِ اللَّحْمِ وَاللَّحْمُ يَصِيرُ بِهَا مُسْتَهْلَكًا صُورَةً، وَمَعْنًى مِنْ وَجْهٍ.
أَمَّا الصُّورَةُ فَظَاهِرَةٌ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّهُ كَانَ صَالِحًا لِوُجُودِهِ مِنْ الْأَغْذِيَةِ وَالْآنَ لَمْ يَصْلُحْ إلَّا لِمَا آلَ إلَيْهِ
وَكَذَلِكَ عَلَى هَذَا قُلْنَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ وَكُلِّ صَوْمِ عَيْنٍ إنَّهُ يَجُوزُ بِالنِّيَّةِ قَبْلَ انْتِصَافِ النَّهَارِ؛ لِأَنَّهُ رُكْنٌ وَاحِدٌ تَعَلَّقَ جَوَازُهُ بِالْعَزِيمَةِ فَإِذَا وُجِدَتْ الْعَزِيمَةُ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ تَعَارَضَا فَرَجَّحْنَا بِالْكَثْرَةِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله بَلْ تَرَجَّحَ الْفَسَادُ احْتِيَاطًا فِي الْعِبَادَةِ وَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا يُؤَدِّي إلَى نَسْخِ الذَّاتِ بِالْحَالِ.
وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله فِي رَجُلٍ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ مَضَى مِنْ حَوْلِهَا عَشَرَةُ أَشْهُرٍ ثُمَّ مَلَكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ ثُمَّ تَمَّ حَوْلُ الْإِبِلِ فَزَكَّاهَا ثُمَّ بَاعَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَنَّهُ لَا يَضُمَّهَا إلَى الْأَلْفِ الَّتِي عِنْدَهُ لَكِنَّهُ يَسْتَأْنِفُ الْحَوْلَ فَإِنْ وُهِبَتْ لَهُ أَلْفٌ أُخْرَى ضَمَّهَا إلَى الْأَلْفِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ فَإِنْ تَصَرَّفَ فِي ثَمَنِ الْإِبِلِ فَرَبِحَ أَلْفًا ضَمَّ الرِّبْحَ إلَى أَصْلِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعُدَ عَنْ الْحَوْلِ وَلَا يُعْتَبَرُ الرُّجْحَانُ بِالِاحْتِيَاطِ فِي الزَّكَاةِ لِمَا قُلْنَا إنَّ الْأَلْفَ الرِّبْحَ مُتَّصِلٌ بِأَصْلِهِ ذَاتًا مُتَّصِلٌ بِالْأَلْفِ الْأُخْرَى حَالًا، وَهِيَ الْقُرْبُ إلَى مُضِيِّ الْحَوْلِ، وَالذَّاتُ أَحَقُّ مِنْ الْحَالِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ أَمْثِلَةً مَعْدُودَةً لِتَكُونَ أَصْلًا لِغَيْرِهَا مِنْ الْفَرْعِ.
ــ
[كشف الأسرار]
وَكَذَا الطَّبْخُ بِالْمَاءِ فَثَبَتَ أَنَّ الْعَيْنَ هَالِكَةٌ مِنْ وَجْهٍ وَلِهَذَا كَانَ لِلْمَالِكِ حَقُّ التَّرْكِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَتَضْمِينُ كُلِّ الْقِيمَةِ، وَهِيَ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ أَيْ الْوَجْهِ الَّذِي صَارَتْ هَالِكَةً تُضَافُ إلَى صَنْعَةِ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ مَتَى أَوْجَبَتْ تَبْدِيلَ الْمَحَلِّ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ يَصِيرُ وُجُودُهُ مُضَافًا إلَى الْفِعْلِ كَمَا إذَا غَصَبَ حِنْطَةً فَزَرَعَهَا فَنَبَتَتْ أَوْ طَحَنَهَا أَوْ بَيْضًا فَحَضَنَهَا تَحْتَ دَجَاجَةٍ حَتَّى أَفْرَخَتْ أَوْ تَالَّةً فَأَنْبَتَهَا حَتَّى غُرِسَتْ فَإِذَا تَغَيَّرَ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ يَصِيرُ الْوُجُودُ فِي حَقِّ الْمَالِكِ مُضَافًا إلَى الْفِعْلِ مِنْ وَجْهٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الثَّوْبَ تَبَدَّلَ مِنْ وَجْهٍ صُورَةً وَمَعْنًى، فَمِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ يَصِيرُ مُضَافًا إلَى فِعْلِ الْغَاصِبِ وُجُودًا، وَالصَّنْعَةُ وُجِدَتْ بِفِعْلِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَيْسَ لَهَا حُكْمُ الْوُجُودِ بِالثَّوْبِ، وَالْوُجُودُ مَعْنًى رَاجِعٌ إلَى الذَّاتِ فَرَجَّحْنَا الصَّنْعَةَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا فِي الْوُجُودِ رَاجِحَةٌ لِكَوْنِهَا مَوْجُودَةً مِنْ وَجْهٍ، وَأَنَّ وُجُودَ الثَّوْبِ مِنْ وَجْهٍ مُضَافٌ إلَيْهَا، وَهِيَ غَيْرُ مُضَافَةٍ إلَيْهِ كَذَا فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا مَا إذَا صَبَغَ الثَّوْبَ أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ أَوْ قَطَعَهُ قَبَاءً وَلَمْ يُخْطِهِ أَوْ ذَبَحَ الشَّاةَ وَسَلَخَهَا، وَأَرَّبَهَا، وَلَمْ يَشْوِهَا حَيْثُ لَمْ يَنْقَطِعْ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ حَقُّ الْمَالِكِ مَعَ وُجُودِ صَنْعَةِ الْغَاصِبِ وَتَغَيَّرَ الْمَغْصُوبُ بِهَا؛ لِأَنَّا نَقُولُ إنْ كَانَ حَقُّ الْغَاصِبِ فِي صُورَةِ الصُّنْعِ قَائِمًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَحَقُّ الْمَالِكِ فِي الثَّوْبِ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفُتْ الِاسْمُ وَالْهَيْئَةُ، وَلَا الْمَعَانِي فَإِنَّ الثَّوْبَ الْأَحْمَرَ يَصْلُحُ لِجَمِيعِ مَا يَصْلُحُ لَهُ الْأَبْيَضُ إلَّا أَنَّ النَّاسَ مَا اعْتَادُوا الِانْتِفَاعَ بِهِ إلَّا بِجِهَةٍ مَخْصُوصَةٍ فَأَمَّا صَلَاحِيَّتُهُ لِجَمِيعِ الِانْتِفَاعَاتِ فَعَلَى مَا كَانَ مِنْ قَبْلُ، وَلَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ تَرَجَّحَ الْأَصْلُ عَلَى الْوَصْفِ، وَفِي قَطْعِ الثَّوْبِ وَذَبْحِ الشَّاةِ بِدُونِ الْخِيَاطَةِ وَالشَّيِّ وُجِدَ الِاسْتِهْلَاكُ مِنْ وَجْهٍ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُعَارِضْهُ فِعْلُ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ فَلَمْ يَبْطُلْ بِهِ حَقُّ الْمَالِكِ لَكِنَّهُ يُخَيَّرُ إنْ شَاءَ مَالَ إلَى جِهَةِ الْهَلَاكِ فَيُضَمِّنَهُ الْقِيمَةَ، وَإِنْ شَاءَ مَالَ إلَى جِهَةِ الْقِيَامِ فَيَأْخُذَ الثَّوْبَ وَيُضَمِّنَهُ النُّقْصَانَ.
وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَيْضًا مَسْأَلَةُ الصِّيَاغَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فَإِنَّ عِنْدَهُ لَا يَنْقَطِعُ بِهَا حَقُّ مَالِكٍ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْعَيْنَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَضْمَنَ لِلْغَاصِبِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ هُنَاكَ قَائِمَةٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ إذْ هِيَ قَائِمَةٌ صُورَةً لَا مَعْنًى؛ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ بِانْفِرَادِهَا لَا قِيمَةَ لَهَا فِي أَمْوَالِ الرِّبَا فَصَارَتْ الصَّنْعَةُ وَالْأَصْلُ سَوَاءٌ فَتَرَجَّحَ الْأَصْلُ عَلَى الْوَصْفِ بِخِلَافِ الصَّفْرَاءِ أَوْ الْحَدِيدِ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ بِالصَّنْعَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَالَ الرِّبَا فَإِنَّهُ يُبَاعُ بَعْدَ الصَّنْعَةِ عَدَدًا لَا وَزْنًا فَكَانَتْ الْجَوْدَةُ فِيهِ مُتَقَوِّمَةً فَافْتَرَقَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: رحمه الله صَاحِبُ الْأَصْلِ رَاجِحٌ عَلَى صَاحِبِ الصَّنْعَةِ؛ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ بَاقِيَةٌ بِالْمَصْنُوعِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا لِكَوْنِهَا عَرْضًا تَابِعَةً لَهَا؛ لِأَنَّهَا وَصْفٌ وَالْأَوْصَافُ أَتْبَاعٌ لِمَوْصُوفَاتِهَا.
وَالْجَوَابُ مَا قُلْنَا أَنَّ الْبَقَاءَ حَالٌ بَعْدَ الْوُجُودِ فَإِذَا تَعَارَضَا أَيْ التَّرْجِيحُ بِالْوُجُودِ وَالتَّرْجِيحُ بِالْحَالِ كَانَ الْوُجُودُ أَحَقَّ مِنْ الْبَقَاءِ ثُمَّ كَوْنُ الشَّيْءِ تَابِعًا وَوَصْفًا لِغَيْرِهِ لَا يُبْطِلُ حَقَّ صَاحِبِهِ فَإِنَّ حَقَّ الْإِنْسَانِ فِي التَّبَعِ مُحْتَرَمٌ كَمَا أَنَّ حَقَّهُ فِي الْأَصْلِ مُحْتَرَمٌ فَأَمَّا هَلَاكُ الشَّيْءِ فَمُبْطِلٌ لِلْحَقِّ فَمَتَى كَانَ الشَّيْءُ هَالِكًا مِنْ وَجْهٍ فَمِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ فَلَا يُعَارِضُ حَقًّا مُسْتَحَقًّا قَائِمًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ سَوَاءٌ كَانَ تَابِعًا أَوْ أَصْلًا بِنَفْسِهِ فَلِهَذَا رَجَّحْنَا حَقَّ الْغَاصِبِ.
قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ، وَكَمَا قُلْنَا فِي صَنْعَةِ الْغَاصِبِ قُلْنَا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فِي كَذَا فَإِذَا وُجِدَتْ الْعَزِيمَةُ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ تَعَارَضَا أَيْ الْبَعْضُ الَّذِي وُجِدَتْ الْعَزِيمَةُ فِيهِ وَالْبَعْضُ الَّذِي لَمْ تُوجَدْ فِيهِ أَوْ تَعَارَضَ وُجُودُ الْعَزِيمَةِ فِي الْبَعْضِ وَعَدَمُهَا فِي الْبَعْضِ