المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ الِاسْتِحْسَانِ]

- ‌[أَقْسَامُ الِاسْتِحْسَانِ]

- ‌[بَابُ أَحْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الِاجْتِهَادِ وَالْكَلَامُ فِي شَرْطِهِ وَحُكْمِهِ]

- ‌[شَرْطُ الِاجْتِهَادِ]

- ‌[حُكْمُ الِاجْتِهَاد]

- ‌(بَابُ فَسَادِ تَخْصِيصِ الْعِلَلِ)

- ‌(بَابُ وُجُوهِ دَفْعِ الْعِلَلِ)

- ‌[أَقْسَام الْعِلَل]

- ‌[الْعِلَل الْمُؤْثَرَة وَطُرُق دُفَعهَا]

- ‌[دَفْعِ الْعِلَل الْمُؤْثَرَة بِطَرِيقِ فاسد وَطَرِيق صَحِيح]

- ‌(بَابُ الْمُمَانَعَةِ)

- ‌بَابُ الْمُعَارَضَةِ)

- ‌[النَّوْعُ الْأَوَّلِ الْمُعَارَضَةُ الَّتِي فِيهَا مُنَاقَضَةٌ]

- ‌[النَّوْعُ الثَّانِي الْمُعَارَضَة الْخَالِصَة]

- ‌بَابُ بَيَانِ وُجُوهِ دَفْعِ الْمُنَاقَضَةِ) :

- ‌بَابُ التَّرْجِيحِ) :

- ‌[الْقِسْمُ الْأَوَّل تَفْسِيرِ التَّرْجِيحِ وَمَعْنَاهُ]

- ‌[الْقِسْمُ الثَّانِي التَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ الْأَثَرِ]

- ‌[الْقِسْمُ الثَّالِثُ بَيَانُ الْمُخَلِّصِ فِي تَعَارُضِ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ]

- ‌[الْقِسْمُ الرَّابِعِ بَيَانُ الْفَاسِدِ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ تَرْجِيحُ الْقِيَاسِ بِقِيَاسٍ آخَرَ]

- ‌(بَابُ وُجُوهِ دَفْعِ الْعِلَلِ الطَّرْدِيَّةِ)

- ‌ الْقَوْلُ بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ

- ‌ الْمُمَانَعَةُ

- ‌ فَسَادُ الْوَضْعِ

- ‌ الْمُنَاقَضَةُ

- ‌ بَابُ وُجُوهِ الِانْتِقَالِ) :

- ‌بَابُ مَعْرِفَةِ أَقْسَامِ الْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ وَالشُّرُوطِ

- ‌(بَابُ تَقْسِيمِ السَّبَبِ)

- ‌بَابُ تَقْسِيمِ الْعِلَّةِ)

- ‌(بَابُ تَقْسِيمِ الشَّرْطِ)

- ‌بَابُ تَقْسِيمِ الْعَلَامَةِ) :

- ‌(بَابُ بَيَانِ الْعَقْلِ) :

- ‌(بَابُ بَيَانِ الْأَهْلِيَّةِ) :

- ‌[أضرب الْأَهْلِيَّة]

- ‌(بَابُ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ)

- ‌(بَابُ الْأُمُورِ الْمُعْتَرِضَةِ عَلَى الْأَهْلِيَّةِ) :

- ‌بَابُ الْعَوَارِضِ) (الْمُكْتَسَبَةِ) :وَهِيَ نَوْعَانِ

- ‌[النَّوْع الْأَوَّل مِنْ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ]

- ‌جَهْلُ صَاحِبِ الْهَوَى فِي صِفَاتِ اللَّهِ عز وجل وَأَحْكَامِ الْآخِرَةِ

- ‌ الْجَهْلُ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ الصَّحِيحِ أَوْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ

- ‌ الْجَهْلُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ مُسْلِمٍ لَمْ يُهَاجِرْ

- ‌[فَصْلٌ السُّكْر قسمان] [

- ‌الْقَسْم الْأَوَّل السُّكْر بِطَرِيقِ مُبَاح]

- ‌[الْقَسْم الثَّانِي السُّكْر بِطَرِيقِ غَيْر مُبَاح]

- ‌[فَصْلُ الْهَزْلِ مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ]

- ‌[السَّفَه مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ]

- ‌[السَّفَر مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ]

- ‌[الْخَطَأُ مِنْ الْعَوَارِض الْمُكْتَسِبَة]

الفصل: ‌باب بيان وجوه دفع المناقضة) :

‌بَابُ بَيَانِ وُجُوهِ دَفْعِ الْمُنَاقَضَةِ) :

قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رضي الله عنه وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُجِيبَ مَتَى أَمْكَنَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ مَا ادَّعَاهُ عِلَّةً وَبَيْنَ مَا يُتَصَوَّرُ مُنَاقَضَةً بِتَوْفِيقٍ بَيِّنٍ بَطَلَتْ الْمُنَاقَضَةُ كَمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْمُنَاقَضَاتِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ بَيْنَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ وَبَيْنَ الشَّهَادَاتِ أَنَّهُ مَتَى احْتَمَلَ التَّوْفِيقَ وَظَهَرَ ذَلِكَ بَطَلَ التَّنَاقُضُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَبِالْوَصْفِ الَّذِي جَعَلَهُ عِلَّةً وَالثَّانِي بِمَعْنَى الْوَصْفِ الَّذِي بِهِ صَارَ الْوَصْفُ عِلَّةً، وَهُوَ دَلَالَةُ أَثَرِهِ، وَالثَّالِثُ بِالْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ بِذَلِكَ الْوَصْفِ، وَالرَّابِعُ بِالْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ بِذَلِكَ الْحُكْمُ.

أَمَّا الْأَوَّلُ فَظَاهِرٌ مِثْلُ قَوْلِنَا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ أَنَّهُ مَسْحٌ فَلَا يُسَنُّ تَثْلِيثُهُ كَمَسْحِ الْخُفِّ وَلَا يَلْزَمُ الِاسْتِنْجَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَسْحٍ وَلَكِنَّهُ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أَحْدَثَ فَلَمْ يَتَلَطَّخْ بِهِ بَدَنُهُ لَمْ يَكُنْ الِاسْتِنْجَاءُ سُنَّةً، وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا فِي الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ إنَّهُ خَارِجٌ مِنْ الْإِنْسَانِ فَكَانَ حَدَثًا كَالْبَوْلِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَسِلْ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ وَلَيْسَ بِخَارِجٍ؛ لِأَنَّ تَحْتَ كُلِّ جَلْدَةٍ رُطُوبَةً وَفِي كُلِّ عِرْقٍ دَمًا فَإِذَا زَايَلَهُ الْجِلْدُ كَانَ ظَاهِرًا لَا خَارِجًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِهِ الْغُسْلُ بِالْإِجْمَاعِ.

ــ

[كشف الأسرار]

[بَابُ بَيَانِ وُجُوهِ دَفْعِ الْمُنَاقَضَةِ]

وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَيْ حَاصِلُ دَفْعِ الْمُنَاقَضَةِ وَالْخُرُوجِ عَنْهَا أَنَّ الْمُجِيبَ مَتَى أَمْكَنَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ عِلَّةً وَبَيْنَ مَا يُتَصَوَّرُ مُنَاقَضَةً لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَقْضًا؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ، وَمَتَى لَمْ يُمْكِنْهُ الْجَمْعُ لَزِمَهُ النَّقْضُ ثُمَّ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ يُمْكِنُهُ الْجَمْعُ مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ عَنْ الْأَوَّلِ وَبِهَا يَتَبَيَّنُ الْفِقْهُ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ؛ لِأَنَّ الْفِقْهَ هُوَ الْوُقُوفُ عَلَى الْمَعْنَى الْخَفِيِّ فَالدَّفْعُ عَلَى طَرِيقِ الْفِقْهِ إنَّمَا يَكُونُ بِوُجُوهٍ لَا تُنَالُ إلَّا بِضَرْبِ تَأَمُّلٍ أَمَّا الدَّفْعُ بِأَلْفَاظٍ ظَاهِرَةٍ فَلَا يَكُونُ فِقْهًا بَيْنَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ كَمَا إذَا ادَّعَى أَلْفًا، وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ لَا يَقْبَلُ الشَّهَادَةَ إلَّا أَنْ يُوَفِّقَ فَيَقُولَ كَانَ الْوَاجِبُ خَمْسَمِائَةٍ إلَّا إنِّي قَبَضْت خَمْسَمِائَةٍ.

وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ فُلَانٍ هَذَا الْعَيْنَ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ وَهَبَهُ مِنْهُ لَا يُقْبَلُ إلَّا إذَا قَالَ: وَهَبَنِي فَجَحَدَ فَاشْتَرَيْته مِنْهُ وَبَيَّنَ الشَّهَادَاتِ بِأَنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ، وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي الْأَكْثَرَ يَقْبَلُ الشَّهَادَةَ عَلَى الْأَلْفِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْأَلْفِ، وَإِنْ كَانَا مُخْتَلِفَيْنِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَكَذَا لَوْ شَهِدَا بِسَرِقَةٍ بَقَرٍ، وَقَالَ أَحَدُهُمَا لَوْنُهُ أَحْمَرُ، وَقَالَ الْآخَرُ لَوْنُهُ أَسْوَدُ تُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لِإِمْكَانِ التَّوْفِيقِ بِأَنْ شَهِدَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى مَا وَقَعَ عِنْدَهُ مِنْ لَوْنِ الْبَقَرِ كَمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ.

قَوْلُهُ: (أَمَّا الْأَوَّلُ) أَيْ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْ وُجُوهِ الدَّفْعِ الدَّفْعُ بِالْوَصْفِ بِأَنْ يَقُولَ مَا ذَكَرْته عِلَّةً لَيْسَ مَوْجُودًا فِي صُورَةِ النَّقْضِ فَتَخَلُّفُ الْحُكْمِ فِيهَا لَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْعِلَّةِ. وَالثَّانِي بِمَعْنَى الْوَصْفِ وَهُوَ دَلَالَةُ أَثَرِهِ أَيْ أَثَرِ الْوَصْفِ عَلَى الْحُكْمِ بِأَنْ يَقُولَ لَيْسَ الْمَعْنَى الَّذِي جَعَلَ الْوَصْفَ بِهِ عِلَّةً، وَهُوَ التَّأْثِيرُ مَوْجُودًا فِي صُورَةِ النَّقْضِ فَلَا يَكُونُ الْوَصْفُ بِدُونِهِ عِلَّةً، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِلَّةً لَمْ يَكُنْ نَقْضًا.

وَالثَّالِثُ بِالْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ بِذَلِكَ الْوَصْفِ بِأَنْ يَقُولَ لَيْسَ الْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ بِالْوَصْفِ مُتَخَلِّفًا عَنْ الْوَصْفِ بَلْ هُوَ مَوْجُودٌ لَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ لِوُجُودِ الْمَانِعِ فَلَا يَكُونُ نَقْضًا إذْ النَّقْضُ أَنْ يَتَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنْ الْوَصْفِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَانِعِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الدَّفْعِ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَوَّزَ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ فَأَمَّا عِنْدَ مَنْ يَأْبَاهُ فَلَا يَتَأَتَّى هَذَا الدَّفْعُ عَلَى مَذْهَبِهِ. وَالرَّابِعُ بِالْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ بِذَلِكَ الْحُكْمِ، وَفِي أُصُولِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ بِالْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ بِالتَّعْلِيلِ، وَهُوَ أَوْضَحُ، وَلَفْظُ التَّقْوِيمِ ثُمَّ بِالْغَرَضِ الَّذِي قَصَدَ الْمُعَلِّلُ التَّعْلِيلَ لِأَجْلِهِ، وَأَثْبَتَ الْحُكْمَ بِقَدْرِهِ.

أَمَّا الْأَوَّلُ فَظَاهِرٌ أَيْ الدَّفْعُ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الدَّفْعُ بِالْوَصْفِ ظَاهِرُ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ رُكْنُ الْعِلَّةِ فَعَدَمُ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِهِ يَكُونُ دَلِيلَ صِحَّتِهِ فَيَصِحُّ الدَّفْعُ بِهِ. مِثْلُ قَوْلِنَا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ إنَّهُ مَسْحٌ فَلَا يُسَنُّ تَثْلِيثُهُ كَمَسْحِ الْخُفِّ فَيُورِدُ عَلَيْهِ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْأَحْجَارِ نَقْضًا فَإِنَّهُ مَسْحٌ، وَيُسَنُّ فِيهِ التَّثْلِيثُ فَإِنَّ الْعَدَدَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَسْنُونًا عِنْدَنَا لَكِنْ إذَا اُحْتِيجَ إلَى التَّثْلِيثِ فَإِنَّهُ يَقَعُ سُنَّةً بِالْإِجْمَاعِ.

وَكَذَا الِاسْتِنْجَاءُ بِحَجَرٍ لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ سُنَّةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْعَدَدُ مَسْنُونًا عِنْدَنَا كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ فَنَدْفَعُهُ بِالْوَصْفِ بِأَنْ نَقُولَ إنَّ الِاسْتِنْجَاءَ لَيْسَ بِمَسْحٍ أَيْ لَا اعْتِبَارَ لِلْمَسْحِ فِيهِ بَلْ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ شُرِعَ بِشَيْءٍ لَهُ أَثَرٌ فِي الْإِزَالَةِ كَالْحَجَرِ وَالْمَدَرِ وَالْمَاءِ وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَحْدَثَ، وَلَمْ يَتَلَطَّخْ بِهِ بَدَنُهُ بِأَنْ خَرَجَ مِنْهُ رِيحٌ لَمْ يَكُنْ الْمَسْحُ سُنَّةً، وَلَوْ كَانَ الِاسْتِنْجَاءُ مَسْحًا لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى تَلَطُّخِ الْبَدَنِ كَمَسْحِ الرَّأْسِ وَالْخُفِّ.

وَبِدَلِيلِ

ص: 69

وَأَمَّا الدَّفْعُ بِمَعْنَى الْوَصْفِ فَإِنَّمَا صَحَّ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ لَمْ يَصِرْ حُجَّةً بِصِيغَتِهِ، وَإِنَّمَا صَارَ حُجَّةً بِمَعْنَاهُ الَّذِي يُعْقَلُ بِهِ، وَذَلِكَ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا ثَابِتٌ بِنَفْسِ الصِّيغَةِ ظَاهِرٌ أَوْ الثَّانِي بِمَعْنَاهُ الثَّابِتِ بِهِ دَلَالَةً عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا سَبَقَ فَكَانَ ثَابِتًا بِهِ لُغَةً فَصَحَّ الدَّفْعُ بِهِ كَمَا صَحَّ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَكَانَ دَفْعًا بِنَفْسِ الْوَصْفِ، وَهَذَا أَحَقُّ وَجْهَيْ الدَّفْعِ لَكِنْ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ فَنَبْدَأُ بِهِ وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِنَا مَسْحٌ فِي الْوُضُوءِ فَلَمْ يَكُنْ التَّكْرَارُ فِيهِ مَسْنُونًا كَمَسْحِ الْخُفِّ وَلَا يَلْزَمُ الِاسْتِنْجَاءُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْمَسْحِ تَطْهِيرٌ حُكْمِيٌّ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَالتَّكْرَارُ لِتَوْكِيدِ التَّطْهِيرِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُرَادًا بَطَلَ التَّكْرَارُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَتَأَدَّى بِبَعْضِ مَحَلِّهِ بِخِلَافِ الِاسْتِنْجَاءِ؛ لِأَنَّهُ لِإِزَالَةِ عَيْنِ النَّجَاسَةِ وَفِي التَّكْرَارِ تَوْكِيدُهُ.

أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَأَدَّى بِبَعْضِهِ فَصَارَ ذَلِكَ نَظِيرَ الْغُسْلِ، وَهَذَا مَعْنًى ثَابِتٌ بِاسْمِ الْمَسْحِ لُغَةً

ــ

[كشف الأسرار]

أَنَّ غَسْلَهُ بِالْمَاءِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِزَالَةِ، وَلَوْ كَانَ مَسْحًا لَكُرِهَ تَبْدِيلُهُ بِالْغَسْلِ إذْ الْغَسْلُ فِي مَحَلِّ الْمَسْحِ مَكْرُوهٌ كَمَا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ وَالْخُفِّ وَكَذَلِكَ أَيْ، وَمِثْلُ قَوْلِنَا فِي الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ أَنَّهُ نَجَسٌ خَارِجٌ مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ فَكَانَ حَدَثًا كَالْبَوْلِ وَزَادَ بَعْضُهُمْ قَيْدَ الْحَيَاةِ فَقَالُوا مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ الْحَيِّ احْتِرَازًا عَنْ النَّجَسِ الْخَارِجِ مِنْ الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ إعَادَةَ غُسْلِهِ ثَانِيًا، وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ يَبْقَ إنْسَانًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ مُطْلَقِ لَفْظِ الْإِنْسَانِ ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَيْهِ مَا إذَا لَمْ يَسِلْ عَنْ رَأْسِ الْجُرْحِ نَقْضًا فَإِنَّهُ خَارِجٌ نَجَسٌ، وَلَيْسَ بِحَدَثٍ، وَمِثْلُهُ حَدَثٌ فِي السَّبِيلَيْنِ بِلَا خِلَافٍ وَبِهَذَا زَادَ بَعْضُهُمْ لَفْظَ الْكَثِيرِ فَقَالُوا الْخَارِجُ الْكَثِيرُ النَّجَسُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ حَدَثٌ احْتِرَازًا عَنْهُ.

فَوَجَبَ دَفْعُ هَذَا النَّقْضِ بِمَنْعِ الْوَصْفِ بِأَنْ يُقَالَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ خَارِجٌ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ هُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ مَكَان بَاطِنٍ إلَى مَكَان ظَاهِرٍ كَالرَّجُلِ يَخْرُجُ مِنْ الدَّارِ لَمْ يُوجَدْ هَذَا الْمَعْنَى فِيمَا إذَا لَمْ يَسِلْ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ بَعْدُ فِي مَحَلِّهَا لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُ فَإِنَّ تَحْتَ كُلِّ جَلْدَةٍ رُطُوبَةٌ فِي كُلِّ عِرْقٍ دَمًا وَالْجِلْدَةُ سَاتِرَةٌ لَهَا فَإِذَا زَالَتْ الْجَلْدَةُ صَارَ مَا تَحْتَهَا ظَاهِرًا لَا خَارِجًا لِعَدَمِ الِانْتِقَالِ كَمَنْ كَانَ فِي بَيْتٍ أَوْ خَيْمَةٍ مُتَسَتِّرًا بِهِ إذَا رُفِعَ عَنْهُ مَا كَانَ مُتَسَتِّرًا بِهِ يَكُونُ ظَاهِرًا لَا خَارِجًا، وَإِنَّمَا يُسَمَّى خَارِجًا إذَا فَارَقَ الْبَيْتَ أَوْ الْخَيْمَةَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ غَسْلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ جَاوَزَ قَدْرَ الدِّرْهَمِ وَلَوْ ثَبَتَ وَصْفُ الْخُرُوجِ لَوَجَبَ غَسْلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ عِنْدَهُ قَلِيلًا كَانَ ذَلِكَ أَوْ كَثِيرًا، وَلَوَجَبَ عِنْدَنَا إذَا جَاوَزَ قَدْرَ الدِّرْهَمِ وَيُسَنُّ إذَا كَانَ مَا دُونَ الدِّرْهَمِ وَحَيْثُ لَمْ يَجِبْ، وَلَمْ يُسَنَّ بِالْإِجْمَاعِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِخَارِجٍ؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمُ النَّجَاسَةِ الَّتِي فِي مَحَلِّهَا، وَكَذَا لَوْ أُزِيلَتْ عَنْ ذَلِكَ الْمَحِلِّ بِقُطْنَةٍ أَوْ بِالْمَسْحِ عَلَى جِدَارٍ لَا يُنْتَقَضُ الطَّهَارَةُ، وَإِنْ حَصَلَ الِانْفِصَالُ؛ لِأَنَّهُ مُخْرَجٌ وَلَيْسَ بِخَارِجٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا خَرَجَ مَعَ الْبُزَاقِ دَمٌ وَالْبُزَاقُ غَالِبٌ لَا يَنْقُضُ الطَّهَارَةَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ بَلْ بِقُوَّةِ غَيْرِهِ، وَهُوَ الْبُزَاقُ. وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ نَجَسٌ أَيْضًا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّ مَا لَا يَكُونُ حَدَثًا لَا يَكُونُ نَجَسًا.

قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الدَّفْعُ بِمَعْنَى الْوَصْفِ) ، وَهُوَ التَّأْثِيرُ فَإِنَّمَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ لَمْ يَصِرْ حُجَّةً بِصِيغَتِهِ أَيْ بِمُجَرَّدِ صُورَةِ اللَّفْظِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعَمَلَ بِمُجَرَّدِ الْوَصْفِ لَا يَجُوزُ مَا لَمْ يَظْهَرْ مُلَائِمَتُهُ، وَلَا يَجِبُ مَا لَمْ يَظْهَرْ عَدَالَتُهُ، وَإِنَّمَا صَارَ حُجَّةً بِمَعْنَاهُ الَّذِي يُعْقَلُ بِهِ أَيْ يُعْلَمُ وَيُفْهَمُ مِنْ الْوَصْفِ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا ثَابِتٌ بِنَفْسِ الصِّيغَةِ ظَاهِرًا يَعْنِي ظَاهِرَ لَفْظِهِ لُغَةً يَدُلُّ عَلَيْهِ كَدَلَالَةِ لَفْظِ الْخُرُوجِ لُغَةً عَلَى الِانْتِقَالِ مِنْ الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ وَدَلَالَةُ لَفْظِ الْمَسْحِ لُغَةً عَلَى الْإِصَابَةِ.

وَالثَّانِي بِمَعْنَاهُ الثَّابِتِ بِهِ أَيْ بِالْوَصْفِ دَلَالَةً، وَهُوَ التَّأْثِيرُ فَإِنَّ الْوَصْفَ بِوَاسِطَةِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى آخَرَ هُوَ مُؤَثِّرٌ فِي الْحُكْمِ فَإِنَّ وَصْفَ الْمَسْحِ بِوَاسِطَةِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ يَدُلُّ عَلَى التَّخْفِيفِ الَّذِي هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي إسْقَاطِ التَّكْرَارِ وَوَصْفُ الْخُرُوجِ فِي مَسْأَلَةِ السَّبِيلَيْنِ بِوَاسِطَةِ مَعْنَاهُ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى قِيَامِ النَّجَاسَةِ بِمَحَلِّ الطَّهَارَةِ الَّذِي هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي إيجَابِ التَّطْهِيرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا سَبَقَ يَعْنِي فِي بَابِ تَفْسِيرِ الْقِيَاسِ فِي بَيَانِ عِلَّةِ الرِّبَا، وَفِي بَابِ رُكْنِ الْقِيَاسِ فِي قَوْلِهِ الْأَثَرُ مَعْقُولٌ مِنْ كُلِّ مَحْسُوسٍ لُغَةً وَعِيَانًا وَمِنْ كُلِّ مَشْرُوعٍ مَعْقُولٍ دَلَالَةً فَكَانَ أَيْ الْمَعْنَى

ص: 70

وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا أَنَّهُ نَجَسٌ خَارِجٌ فَكَانَ حَدَثًا كَالْبَوْلِ وَلَا يَلْزَمُ إذَا لَمْ يَسِلْ؛ لِأَنَّ مَا سَالَ مِنْهُ نَجَسٌ أَوْجَبَ تَطْهِيرًا حَتَّى وَجَبَ غُسْلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَصَارَ بِمَعْنَى الْبَوْلِ، وَهَذَا غَيْرُ خَارِجٍ إذَا لَمْ يَسِلْ حَتَّى لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ وُجُوبُ التَّطْهِيرِ.

ــ

[كشف الأسرار]

الثَّانِي، وَهُوَ الْمَعْنَى الْمُؤَثِّرُ ثَابِتًا أَيْ بِالْوَصْفِ لُغَةً كَالْمَعْنَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِوَاسِطَةِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَهَذَا كَشِرَاءِ الْقَرِيبِ يَصِيرُ إعْتَاقًا بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ فَإِنَّ الْمُوجِبَ لِلْعِتْقِ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمِلْكُ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمِلْكُ مُضَافًا إلَى الشِّرَاءِ صَارَ الْعِتْقُ بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ مُضَافًا إلَى الشِّرَاءِ أَيْضًا حَتَّى صَارَ الْمُشْتَرِي مُعْتِقًا فَكَذَا التَّأْثِيرُ بِوَاسِطَةِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ صَارَ مُضَافًا إلَى الْوَصْفِ بِهِ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ فَصَحَّ الدَّفْعُ بِهِ أَيْ بِالْقِسْمِ الثَّانِي كَمَا صَحَّ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ فَإِنَّ الدَّفْعَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الدَّفْعُ بِنَفْسِ الْوَصْفِ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ فَكَانَ أَيْ الدَّفْعُ بِالْأَثَرِ دَفْعًا بِنَفْسِ الْوَصْفِ أَيْ بِمَنْعِ نَفْسِ الْوَصْفِ كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ.

وَهَذَا أَيْ الدَّفْعُ بِالتَّأْثِيرِ أَحَقُّ وَجْهَيْ الدَّفْعِ بِالِاعْتِبَارِ وَهُمَا الدَّفْعُ بِنَفْسِ الْوَصْفِ وَالدَّفْعُ بِالتَّأْثِيرِ؛ لِأَنَّ التَّأْثِيرَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْوَصْفِ شَرْعًا دُونَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ مِنْهُ لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَيْ الدَّفْعُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ مَفْهُومُ كُلِّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ فَبَدَأْنَا بِهِ وَذَلِكَ أَيْ الدَّفْعُ بِالتَّأْثِيرِ يَتَحَقَّقُ فِي هَذَيْنِ الْمِثَالَيْنِ أَيْضًا وَقَوْلُهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْمَسْحِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَجْمُوعِ يَعْنِي إنَّمَا لَا يَكُونُ التَّكْرَارُ فِيهِ مَسْنُونًا، وَإِنَّمَا لَا يَلْزَمُ الِاسْتِنْجَاءُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْمَسْحِ أَيْ تَأْثِيرُهُ أَنَّهُ تَطْهِيرٌ حُكْمِيٌّ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ حُصُولُ التَّطْهِيرِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِالْمَسْحِ بَلْ يَزْدَادُ بِهِ النَّجَاسَةُ الَّتِي فِي الْمَحَلِّ، وَكَذَا الْغَسْلُ فِي مَوْضِعِ الْمَسْحِ مَكْرُوهٌ، وَلَوْ كَانَ التَّطْهِيرُ مَقْصُودًا لَكَانَ الْغُسْلُ أَفْضَلَ بَلْ هُوَ أَمْرٌ تَعَبُّدِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْفِيفِ كَالتَّيَمُّمِ وَالتَّكْرَارِ فِيمَا شُرِعَ، وَهُوَ الْغَسْلُ إنَّمَا شُرِعَ لِتَوْكِيدِ التَّطْهِيرِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ التَّظْهِيرُ هَاهُنَا مُرَادًا بَطَلَ التَّكْرَارُ الَّذِي شُرِعَ لِتَوْكِيدِهِ، وَكَانَ مَكْرُوهًا؛ لِأَنَّهُ مُقَرِّبٌ إلَى الْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ وَهُوَ الْغُسْلُ.

أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَسْحَ يَتَأَدَّى بِبَعْضِ مَحَلِّهِ تَوْضِيحٌ لِكَوْنِ التَّطْهِيرِ غَيْرَهُ مَقْصُودٌ فِيهِ يَعْنِي الْغَرَضَ يَتَأَدَّى بِمَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ، وَهُوَ الرُّبْعُ أَوْ مِقْدَارُ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ مِقْدَارُ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ، وَلَوْ كَانَ التَّطْهِيرُ مَقْصُودًا لَمَا تَأَدَّى بِبَعْضِ الْمَحَلِّ كَالْغَسْلِ بِخِلَافِ الِاسْتِنْجَاءِ؛ لِأَنَّ التَّطْهِيرَ فِيهِ مَقْصُودٌ إذْ هُوَ إزَالَةُ عَيْنِ النَّجَاسَةِ وَلِهَذَا كَانَ الْغَسْلُ فِيهِ أَفْضَلَ وَكَانَ هُوَ الْأَصْلَ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ اكْتَفَى بِالْحَجَرِ وَالْمَدَرِ تَخْفِيفًا وَفِي التَّكْرَارِ تَوْكِيدُهُ أَيْ تَوْكِيدُ الْإِزَالَةِ الْمَقْصُودَةِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ.

أَلَا تَرَى تَوْضِيحٌ لِكَوْنِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ الَّتِي هِيَ تَطْهِيرٌ فِيهِ مَقْصُودًا يَعْنِي لَوْ اسْتَعْمَلَ الْحَجَرَ فِي بَعْضِ الْمَحَلِّ دُونَ الْبَعْضِ لَا يَتِمُّ الِاسْتِنْجَاءُ، وَلَوْ كَانَ نَفْسُ الْمَسْحِ فِيهِ مَقْصُودًا لَتَأَدَّى بِبَعْضِهِ كَمَسْحِ الرَّأْسِ وَالْخُفِّ فَصَارَ ذَلِكَ أَيْ الِاسْتِنْجَاءُ بِاعْتِبَارِ الِاسْتِيعَابِ وَالْقَصْدِ إلَى تَطْهِيرِ الْمَحَلِّ نَظِيرَ الْغُسْلِ فِي الْأَعْضَاءِ الْمَغْسُولَةِ سُنَّةً كَالْمَضْمَضَةِ أَوْ فَرْضًا كَغَسْلِ الْوَجْهِ لَا نَظِيرَ الْمَسْحِ فَلِذَلِكَ شُرِعَ التَّكْرَارُ فِيهِ، وَهَذَا مَعْنًى ثَابِتٌ أَيْ كَوْنُهُ تَطْهِيرًا حُكْمِيًّا غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى مُؤَثِّرًا فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّكْرَارِ ثَابِتٌ بِاسْمِ الْمَسْحِ لُغَةً؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْإِصَابَةِ، وَهِيَ لَا تُنْبِئُ عَنْ التَّطْهِيرِ الْحَقِيقِيِّ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى التَّخْفِيفِ فَكَانَ الدَّفْعُ بِهَذَا الْمَعْنَى كَالدَّفْعِ بِنَفْسِ الْوَصْفِ وَعِبَارَةُ التَّقْوِيمِ إنَّ وَصْفَ الْمَسْحِ إنَّمَا صَارَ عِلَّةً لِمَنْعِ التَّثْلِيثِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ التَّخْفِيفُ فِي مُقَابَلَةِ الْغَسْلِ فِعْلًا يَعْنِي مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَأَدَّى بِبَعْضِ الْأَصَابِعِ، وَذَاتًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ أَصَابَهُ، وَكَذَلِكَ قَدْرًا مِنْ حَيْثُ التَّأَدِّي بِبَعْضِ الْمَحَلِّ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ فِي الِاسْتِنْجَاءِ.

(قَوْلُهُ:) وَكَذَلِكَ أَيْ، وَمِثْلُ قَوْلِنَا

ص: 71

وَأَمَّا الدَّفْعُ بِالْحُكْمِ فَمِثْلُ قَوْلِنَا فِي الْغَصْبِ إنَّهُ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُبْدَلِ فَكَانَ سَبَبًا لِمِلْكِ الْمُبْدَلِ وَلَا يَلْزَمُ الْمُدَبَّرُ؛ لِأَنَّا جَعَلْنَاهُ سَبَبًا فِيهِ أَيْضًا لَكِنَّهُ امْتَنَعَ حُكْمُهُ لِمَانِعٍ كَالْبَيْعِ يُضَافُ إلَيْهِ

ــ

[كشف الأسرار]

فِي الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ أَنَّهُ نَجَسٌ خَارِجٌ فَكَانَ حَدَثًا كَالْبَوْلِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مَا إذَا لَمْ يَسِلْ؛ لِأَنَّ مَا سَالَ مِنْهُ نَجَسٌ أَوْجَبَ تَطْهِيرًا يَعْنِي الْخَارِجَ النَّجَسَ إنَّمَا صَارَ حَدَثًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مُؤَثِّرٌ فِي تَنْجِيسِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَإِيجَابِ تَطْهِيرِهِ حَتَّى وَجَبَ غَسْلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِلتَّطْهِيرِ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا يَجِبُ بِخُرُوجِ الْبَوْلِ فَلَمَّا سَاوَى الْبَوْلَ فِي إيجَابِ الطَّهَارَةِ الْحَقِيقَةِ سَاوَاهُ فِي إيجَابِ الْحُكْمِيَّةِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا دُونَ الطَّهَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَأَخَفُّ مِنْهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهَا طَهَارَةٌ.

وَهَذَا أَيْ الَّذِي ظَهَرَ، وَلَمْ يَسِلْ لَمْ يُوجِبْ تَنْجِيسَ الْمَحَلِّ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي إيجَابِ التَّطْهِيرِ حَتَّى لَمْ يَجِبْ غَسْلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِالْإِجْمَاعِ فَلَمْ يَكُنْ كَالْبَوْلِ فِي إيجَابِ الطَّهَارَةِ فِي مَحَلِّهَا فَكَذَا فِي غَيْرِ مَحِلِّهَا فَتَبَيَّنَ بِدَلَالَةِ التَّأْثِيرِ أَنَّ غَيْرَ السَّائِلِ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ التَّعْلِيلِ، وَإِنَّ عَدَمَ الْحُكْمِ هُنَاكَ لِعَدَمِ الْوَصْفِ مَعْنًى، وَإِنْ وُجِدَ صُورَةً وَمِثْلُهُ يَكُونُ مُرَجِّحًا لِلْعِلَّةِ فَكَيْفَ يَكُونُ نَقْضًا.

وَقَوْلُهُ غَيْرُ خَارِجٍ إذَا لَمْ يَسِلْ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذِكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي بَيَانِ الدَّفْعِ بِالتَّأْثِيرِ لَا فِي بَيَانِ الدَّفْعِ بِنَفْسِ الْوَصْفِ بَلْ كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَقُولَ، وَهَذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ وُجُوبُ التَّطْهِيرِ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَهُ لِيَضُمَّ الدَّفْعَ بِالْوَصْفِ إلَى الدَّفْعِ بِالتَّأْثِيرِ تَوْكِيدًا فَإِنْ قِيلَ مَا ذَكَرْتُمْ أَنَّهُ مُؤَثِّرٌ فِي إيجَابِ غَسْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ عَلَى أَصْلِكُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّ الْخَارِجَ النَّجِسَ إذَا تَجَاوَزَ عَنْ رَأْسِ الْجُرْحِ لَا يُؤَثِّرُ فِي إيجَابِ غَسْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إذَا لَمْ يَتَجَاوَزْ قَدْرَ الدِّرْهَمِ عِنْدَكُمْ حَتَّى لَوْ تَوَضَّأَ مِنْ غَيْرِ غَسْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ جَازَتْ صَلَاتُهُ، وَإِذَا لَمْ يُؤَثِّرْ خُرُوجُ مَا دُونَ الدِّرْهَمِ فِي إيجَابِ الطَّهَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فَكَيْفَ يُؤَثِّرُ فِي إيجَابِ الْحُكْمِيَّةِ قُلْنَا: غَرَضُنَا مِنْ هَذَا التَّعْلِيلِ إلْحَاقُهُ بِالْبَوْلِ وَقَدْ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ أَنَّ الشَّرْعَ عَفَا عَنْ الْقَلِيلِ فِي السَّبِيلَيْنِ حَيْثُ اكْتَفَى بِالْأَحْجَارِ، وَلَمْ يُوجِبْ الْغَسْلَ فَأَلْحَقْنَا غَيْرَ السَّبِيلَيْنِ بِهِمَا فِي هَذَا الْحُكْمِ أَيْضًا، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَأْثِيرِهِ فِي إيجَابِ الْغَسْلِ بَلْ الْقَلِيلُ مُؤَثِّرٌ فِي إيجَابِ الطَّهَارَةِ الْحَقِيقَةِ وَالْحُكْمِيَّةِ جَمِيعًا كَالْكَثِيرِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَعْنِي فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ عَفَا فِي الْقَلِيلِ عَنْ إيجَابِ إحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ فَبَقِيَتْ الْأُخْرَى وَاجِبَةً بِهِ عَلَى أَنَّ عِنْدَ الْخَصْمِ الْحُكْمُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ سَوَاءٌ حَتَّى وَجَبَ غَسْلُ الْقَلِيلِ كَغَسْلِ الْكَثِيرِ.

وَعِنْدَ مَشَايِخِنَا يَجِبُ غَسْلُ الْقَلِيلِ أَيْضًا حَتَّى قَالُوا لَوْ رَأَى الْمُصَلِّي فِي ثَوْبِهِ نَجَاسَةً دُونَ قَدْرِ الدِّرْهَمِ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ وَيَغْسِلُهَا إنْ لَمْ يَخَفْ فَوْتَ الْوَقْتِ ثُمَّ يُصَلِّي وَقَالُوا أَيْضًا لَوْ اشْتَغَلَ بِغَسْلِ مَا دُونَ الدِّرْهَمِ مِنْ النَّجَاسَةِ تَفُوتُهُ الْجَمَاعَةُ، وَلَكِنْ لَا تَفُوتُهُ الصَّلَاةُ فِي الْوَقْتِ أَنَّهُ يَشْتَغِلُ بِغَسْلِهَا وَيُصَلِّي مُنْفَرِدًا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْقَلِيلَ مُؤَثِّرٌ فِي الْإِيجَابِ كَالْكَثِيرِ.

قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الدَّفْعُ بِالْحُكْمِ) فَكَذَا دَفْعُ الْمُنَاقَضَةِ بِالْحُكْمِ أَنْ يَدْفَعَ الْمُعَلِّلُ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ النَّقْضِ بِمَنْعِ عَدَمِ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ بِأَنْ يَقُولَ لَا أُسَلِّمُ أَنَّ الْوَصْفَ إنْ وُجِدَ لَمْ يُوجَدْ حُكْمُهُ بَلْ الْحُكْمُ مَوْجُودٌ فِيهَا أَيْضًا تَقْدِيرًا كَمَا إذَا قَالَ الْمُجِيبُ إنَّ الْغَصْبَ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْبَدَلِ، وَهُوَ الضَّمَانُ فَيَكُونُ سَبَبًا لِمِلْكِ الْمُبْدَلِ، وَهُوَ الْمَغْصُوبُ فَإِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ الْمُدَبَّرُ نَقْضًا حَيْثُ كَانَ غَصْبُهُ سَبَبًا لِمِلْكِ الْبَدَلِ، وَلَيْسَ بِسَبَبٍ لِمِلْكِ الْمُبْدَلِ يَدْفَعُهُ بِالْحُكْمِ بِأَنْ يَقُولَ لَا أُسَلِّمُ تَخَلُّفَ الْحُكْمِ عَنْهُ بَلْ الْغَصْبُ فِيهِ سَبَبٌ لِلْمِلْكِ كَالْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مَمْلُوكٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ جَمَعَ بَيْنَ مُدَبَّرٍ وَقِنٍّ فِي الْبَيْعِ دَخَلَ الْمُدَبَّرُ فِي الْبَيْعِ، وَأَخَذَ حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَنِ حَتَّى يَبْقَى الْعَقْدُ فِي الْقَنِّ بِحِصَّتِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ السَّبَبُ مُنْعَقِدًا فِي حَقِّ الْمُدَبَّرِ لَمَّا انْعَقَدَ الْعَقْدُ فِي الْقَنِّ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَائِعًا إيَّاهُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ ابْتِدَاءً، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ، وَقِنٍّ وَبَاعَهُمَا. لَكِنَّهُ أَيْ

ص: 72

وَمِثْلُ قَوْلِنَا فِي الْجَمَلِ الصَّائِلِ إنَّ الْمَصُولَ عَلَيْهِ أَتْلَفَهُ لِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ وَالِاسْتِحْلَالُ لِإِحْيَاءِ الْمُهْجَةِ لَا يُنَافِي عِصْمَةَ الْمُتْلَفِ كَمَا إذَا أَتْلَفَهُ دَفْعًا لِلْمَخْمَصَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مَالُ الْبَاغِي، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ؛ لِأَنَّ عِصْمَتَهُ لَمْ تَبْطُلْ بِهَذَا الْمَعْنَى فَكَانَ طَرْدًا لَا نَقْضًا، وَكَذَلِكَ مَتَى قُلْنَا فِي الدَّمِ إنَّهُ نَجَسٌ خَارِجٌ فَكَانَ حَدَثًا لَمْ يَلْزَمْ دَمُ الِاسْتِحَاضَةِ؛ لِأَنَّهُ حَدَثٌ أَيْضًا لَكِنْ عَمَلُهُ امْتَنَعَ لِمَانِعٍ.

ــ

[كشف الأسرار]

السَّبَبَ، وَهُوَ الْغَصْبُ امْتَنَعَ حُكْمُهُ، وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِمَانِعٍ وَهُوَ حَقُّ الْمُدَبَّرِ نَظَرًا لِلْمُدَبَّرِ لَا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ لَمْ يُوجَدْ كَالْبَيْعِ يُضَافُ إلَى الْمُدَبَّرِ يَنْعَقِدُ سَبَبًا فِي حَقِّهِ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ امْتَنَعَ حُكْمُهُ لِلْمَانِعِ، وَإِذَا كَانَ امْتِنَاعُ الْحُكْمِ لِمَانِعٍ كَانَ الْحُكْمُ مَوْجُودًا تَقْدِيرًا نَظَرًا إلَى اقْتِضَاءِ الْعِلَّةِ إيَّاهُ فَلَا يَكُونُ نَقْضًا بَلْ يَكُونُ طَرْدًا وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجَوِّزُ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ فَأَمَّا عِنْدَ مَنْ أَنْكَرَهُ فَالْغَصْبُ فِي الْمُدَبَّرِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِمِلْكِ الْعَيْنِ فَكَانَ عَدَمُ الْحُكْمِ لِعَدَمٍ لَا لِمَانِعٍ مَعَ وُجُودِهِ عَلَى مَا مَرَّ فِي بَابِ التَّخْصِيصِ.

وَإِنَّمَا أَوْرَدَ الشَّيْخُ رحمه الله هَذَا الْقِسْمَ فِي هَذَا الْبَابِ مَعَ إنْكَارِهِ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ اتِّبَاعًا لِلْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ رحمه الله فَإِنَّهُ أَوْرَدَهُ فِي التَّقْوِيمِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ عِنْدَهُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ بَعْدَ بَيَانِ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ الدَّفْعَ بِهَذَا الْوَجْهِ لَا يَسْلَمُ عَنْ الْقَوْلِ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مُنْكِرٌ لِهَذَا الْوَجْهِ مِنْ الدَّفْعِ مِثْلُ إنْكَارِهِ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ. وَرَأَيْت فِي نُسْخَةٍ أُخْرَى أَظُنُّهَا مِنْ مُصَنَّفَاتِ الشَّيْخِ فِي بَيَانِ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ الْغَصْبَ سَبَبٌ لِأَمَارَةِ مِلْكِ الْمُبْدَلِ فِي الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا إلَّا أَنَّ فِي فَصْلِ الْمُدَبَّرِ إنَّمَا لَا يَنْعَقِدُ سَبَبًا؛ لِأَنَّ فِي الْمَحَلِّ مَانِعًا كَمَا فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِإِفَادَةِ الْمِلْكِ ثُمَّ إذَا أُضِيفَ إلَى الْمُدَبَّرِ لَا يَنْعَقِدُ سَبَبًا لِمَانِعٍ فِي الْمَحَلِّ فَكَذَا هَاهُنَا فَجُعِلَ السَّبَبُ غَيْرَ مُنْعَقِدٍ لِلْمَانِعِ فَكَانَ الْحُكْمُ مَعْدُومًا لِعَدَمِ الْعِلَّةِ لَا لِوُجُودِهَا مَعَ الْمَانِعِ.

قَوْلُهُ: (وَمِثْلُ قَوْلِنَا فِي الْجَمَلِ الصَّائِلِ) الْجَمَلُ إذَا صَالَ عَلَى إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ الْمَصُولُ عَلَيْهِ يَجِبُ الضَّمَانُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ دَفْعًا لِلْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ فَصَارَ كَالْحُرِّ الصَّائِلِ وَالْعَبْدِ الصَّائِلِ. وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ الْمَصُولَ عَلَيْهِ أَتْلَفَ مَالًا مُتَقَوِّمًا مَعْصُومًا حَقًّا لِلْمَالِكِ لِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ قَبْلَ الصِّيَالِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ إبَاحَةَ الْقَتْلِ لِإِحْيَاءِ الْمُهْجَةِ لَا تُنَافِي عِصْمَةَ الْمَحَلِّ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الْهَلَاكِ يَحْصُلُ مَعَ بَقَاءِ عِصْمَةِ الْمَحَلِّ بِإِبَاحَةِ الْإِتْلَافِ بِشَرْطِ الضَّمَانِ كَمَا فِي الْإِتْلَافِ لِدَفْعِ الْمَخْمَصَةِ، وَكَمَا فِي مُبَاشَرَةِ مَحْظُورِ الْإِحْرَامِ عِنْدَ الْعُذْرِ بِشَرْطِ الضَّمَانِ، وَهُوَ الْكَفَّارَةُ.

وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ إذَا أَتْلَفَ الْعَادِلُ مَالَ الْبَاغِي حَالَ الْقِتَالِ وَالْبَغْيِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مِثْلُ إتْلَافِ نَفْسِ الْبَاغِي، وَإِتْلَافِ عَبْدِ الْغَيْرِ إذَا صَالَ عَلَيْهِ بِالسِّلَاحِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا إتْلَافٌ لِإِحْيَاءِ الْمُهْجَةِ ثُمَّ عِصْمَةُ الْمَحَلِّ قَدْ سَقَطَتْ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ حَتَّى لَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ عَلَى الْمُتْلِفِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ إحْيَاءً لِنَفْسِهِ، فَيُدْفَعُ هَذَا النَّقْضُ بِالْحُكْمِ بِأَنْ يُقَالَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعِصْمَةَ فِي تِلْكَ الصُّوَرِ سَقَطَتْ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ إحْيَاءُ الْمُهْجَةِ لَكِنَّهَا سَقَطَتْ بِالْبَغْيِ فِي حَقِّ الْبَاغِي وَبِالصِّيَالِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ آدَمِيٌّ مُكَلَّفٌ، وَأَنَّهُ فِي حَقِّ الدَّمِ وَالْحَيَاةِ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فَبَطَلَتْ حُرْمَتُهُ بِصِيَالِهِ كَمَا تَبْطُلُ حُرْمَةُ الْحُرِّ بِصِيَالِهِ، وَبُطْلَانُ حَقِّ الْمَوْلَى بِطَرِيقِ التَّبَعِ كَمَا فِي إقْرَارِهِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَكَانَ أَيْ إتْلَافُ مَالِ الْبَاغِي، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ طَرْدًا أَيْ مُوَافِقًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى لَا نَقْضًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ نَقْضًا أَنْ لَوْ وُجِدَ الْإِتْلَافُ مُنَافِيًا لِلْعِصْمَةِ مُوجِبًا سُقُوطَهَا فِي صُوَرِ النَّقْضِ، وَلَمْ يُوجَدْ بَلْ السُّقُوطُ وُجِدَ بِعِلَّةٍ أُخْرَى لَا بِالْإِتْلَافِ فَكَانَ حُكْمُ الْإِتْلَافِ، وَهُوَ عَدَمُ مُنَافَاتِهِ لِلْعِصْمَةِ مَوْجُودًا فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كَمَا فِي إتْلَافِ الْجَمَلِ الصَّائِلِ لَكِنَّهُ لَا يَمْنَعُ وُجُودَ مَعْنًى آخَرَ مُسْقِطٍ لِلْعِصْمَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِسْلَامَ مَعَ كَوْنِهِ مُوجِبًا لِلْعِصْمَةِ لَا يَمْنَعُ حُدُوثَ مَعْنًى آخَرَ يُوجِبُ سُقُوطَ الْعِصْمَةِ فَهَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ

ص: 73

وَأَمَّا الرَّابِعُ فَمِثْلُ قَوْلِنَا نَجَسٌ خَارِجٌ وَلَا يَلْزَمُ دَمُ اسْتِحَاضَةٍ وَدَمُ صَاحِبِ الْجُرْحِ السَّائِلِ الدَّائِمِ؛ لِأَنَّ غَرَضَنَا التَّسْوِيَةُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْخَارِجِ مِنْ الْمَخْرَجِ الْمُعْتَادِ وَذَلِكَ حَدَثٌ فَإِذَا لَزِمَ صَارَ عَفْوًا لِقِيَامِ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ هَذَا.

وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا فِي التَّأْمِينِ إنَّهُ ذِكْرٌ فَكَانَ سَبِيلُهُ الْإِخْفَاءَ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الْأَذَانُ وَتَكْبِيرَاتُ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ غَرَضَنَا أَنَّ أَصْلَ الذِّكْرِ الْإِخْفَاءُ، وَكَذَلِكَ أَصْلُ الْأَذَانِ وَالتَّكْبِيرَاتِ إلَّا أَنَّ فِي تِلْكَ الْأَذْكَارِ مَعْنًى زَائِدًا، وَهُوَ أَنَّهَا أَعْلَامٌ فَلِذَلِكَ أَوْجَبَ فِيهَا حُكْمًا عَارِضًا أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُنْفَرِدَ وَالْمُقْتَدِيَ لَا يَجْهَرُ بِالتَّكْبِيرِ، وَمَنْ صَلَّى وَحْدَهُ أَذَّنَ لِنَفْسِهِ

ــ

[كشف الأسرار]

بِمُوجِبٍ لِلْعِصْمَةِ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَسْقَطٍ لَهَا فَهَذَا مَعْنَى الدَّفْعِ بِالْحُكْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

وَالصُّولُ وَالصِّيَالُ الْوَثْبُ وَالْمُهْجَةُ الدَّمُ وَيُقَالُ الْمُهْجَةُ دَمُ الْقَلْبِ خَاصَّةً وَالْمُرَادُ مِنْهَا هَاهُنَا الرُّوحُ يُقَالُ خَرَجَتْ مُهْجَتُهُ إذَا خَرَجَتْ رُوحُهُ وَكَذَلِكَ أَيْ، وَكَمَا لَا يَلْزَمُ الْمُدَبَّرَ، وَمَالُ الْبَاغِي عَلَى الْمَسْأَلَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ لِوُجُودِ حُكْمِ الْعِلَّةِ فِي صُوَرِ النَّقْضِ لَا يَلْزَمُ دَمُ الِاسْتِحَاضَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَعْنِي لَوْ قِيلَ إنَّهُ دَمٌ خَارِجٌ نَجَسٌ، وَلَيْسَ يَحْدُثُ حَيْثُ لَمْ يُنْتَقَضْ بِهِ الطَّهَارَةُ مَا دَامَ الْوَقْتُ بَاقِيًا أَوْ مَا دَامَتْ تُصَلِّي الْفَرْضَ، وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ النَّوَافِلِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَدَثٍ بَلْ نَقُولُ إنَّهُ حَدَثٌ، وَلَكِنْ تَأَخَّرَ حُكْمُهُ إلَى مَا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لِلْعُذْرِ وَلِهَذَا تَلْزَمُهَا الطَّهَارَةُ لِصَلَاةٍ أُخْرَى بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ بِذَلِكَ الْحَدَثِ فَإِنَّ خُرُوجَ الْوَقْتِ لَيْسَ بِحَدَثٍ بِالْإِجْمَاعِ وَالْحُكْمُ تَارَةً يَتَّصِلُ بِالسَّبَبِ وَتَارَةً يَتَأَخَّرُ عَنْهُ لِمَانِعٍ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ امْتَنَعَ عَمَلُهُ لِمَانِعٍ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَوَّزَ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ أَيْضًا.

(قَوْلُهُ: وَأَمَّا الرَّابِعُ، وَهُوَ الدَّفْعُ) فَالْغَرَضُ بِأَنْ يَقُولَ الْغَرَضُ مِنْ هَذَا التَّعْلِيلِ إلْحَاقُ الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ، وَقَدْ حَصَلَ فَمَا يَرِدُ نَقْضًا عَلَى الْفَرْعِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ فَهُوَ وَارِدٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فَالْجَوَابُ الَّذِي لِلْخَصْمِ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ هُوَ الْجَوَابُ لَنَا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ وَذَلِكَ مِثْلُ تَعْلِيلِنَا فِي الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ أَنَّهُ خَارِجٌ نَجَسٌ فَيَكُونُ حَدَثًا كَالْخَارِجِ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ فَأَوْرَدَ عَلَيْهِ دَمَ الِاسْتِحَاضَةِ وَدَمَ صَاحِبِ الْجُرْحِ السَّائِلِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَرِدُ نَقْضًا عَلَى الْأَصْلِ إذْ هُوَ خَارِجٌ نَجَسٌ عَنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ، وَلَيْسَ بِحَدَثٍ.

وَالثَّانِي يَرِدُ نَقْضًا عَلَى الْفَرْعِ فَإِنَّهُ خَارِجٌ نَجَسٌ مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ، وَمِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ وَلَيْسَ بِحَدَثٍ فَيُدْفَعُ بِالْغَرَضِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا التَّعْلِيلِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْفَرْعِ، وَهُوَ الْخَارِجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ وَبَيْنَ الْأَصْلِ، وَهُوَ الْخَارِجُ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ، وَقَدْ حَصَلَ فَإِنَّ الْخَارِجَ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ حَدَثٌ فَإِذَا لَزِمَ أَيْ دَامَ صَارَ عَفْوًا لِقِيَامِ، وَقْتِ الصَّلَاةِ أَيْ بِسَبَبِ قِيَامِ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا مُخَاطَبَةٌ بِالْأَدَاءِ فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ قَادِرَةً، وَلَا قُدْرَةَ إلَّا بِسُقُوطِ حُكْمِ الْحَدَثِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَكَذَلِكَ هَذَا أَيْ فَمِثْلُ الْأَصْلِ الْفَرْعُ، وَهُوَ الْخَارِجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ فِي أَنَّهُ إذَا صَارَ لَازِمًا يَصِيرُ عَفْوًا لِقِيَامِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ عَفْوًا فِي الْفَرْعِ عِنْدَ اللُّزُومِ لَكَانَ الْفَرْعُ مُخَالِفًا لِلْأَصْلِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَثَبَتَ أَنَّ التَّسْوِيَةَ الَّتِي هِيَ الْمَقْصُودَةُ مِنْ التَّعْلِيلِ فِي جَعْلِهِ عَفْوًا كَالْأَصْلِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ نَقْضًا.

قَوْلُهُ: (وَكَذَلِكَ) أَيْ، وَكَمَا يُدْفَعُ بِالْغَرَضِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُدْفَعُ بِالْغَرَضِ فِي مَسْأَلَةِ التَّأْمِينِ فَإِنَّ عُلَمَاءَنَا قَالُوا السُّنَّةُ فِي التَّأْمِينِ الْإِخْفَاءُ دُونَ الْجَهْرِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ أَيْ دُعَاءٌ فَإِنَّ مَعْنَاهُ اسْتَجِبْ دُعَاءَنَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُوسَى، وَهَارُونَ {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس: 89] وَرُوِيَ أَنَّ مُوسَى كَانَ يَدْعُو، وَهَارُونَ عليهما السلام كَانَ يُؤَمِّنُ فَكَانَ سُنَّتُهُ الْإِخْفَاءَ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَدْعِيَةِ إذَا الْأَصْلُ فِيهَا الْإِخْفَاءُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] وَلِقَوْلِهِ عليه السلام «خَيْرُ الدُّعَاءِ الْخَفِيُّ وَخَيْرُ الرِّزْقِ مَا يَكْفِي» أَوْ هُوَ ذِكْرٌ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ آمِينَ بِالْمَدِّ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ فَكَانَتْ سُنَّتُهُ الْإِخْفَاءَ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَذْكَارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} [الأعراف: 205] الْآيَةَ.

«وَقَوْلُهُ عليه السلام لِلَّذِي رَفَعَ صَوْتَهُ بِالذِّكْرِ إنَّك لَنْ تَدْعُوَا أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا» وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ الْأَذَانُ

ص: 74

وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَشَايِخِنَا فِي الدَّفْعِ أَنَّهُ لَا يُفَارِقُ الْأَصْلَ لَكِنْ مَا قُلْنَاهُ أَبْيَنُ فِي وُجُوهِ الدَّفْعِ وَإِذَا قَامَتْ الْمُعَارَضَةُ كَانَ السَّبِيلُ فِيهِ التَّرْجِيحُ، وَهَذَا.

ــ

[كشف الأسرار]

وَتَكْبِيرَاتُ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا أَذْكَارٌ شُرِعَتْ بِالْجَهْرِ فَيُدْفَعُ بِالْغَرَضِ بِأَنْ يُقَالَ غَرَضُنَا مِنْ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنْ يُجْعَلَ الذَّكَرُ سَبَبًا لِشَرْعِ الْمُخَافَتَةِ، وَأَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ التَّأْمِينِ وَبَيْنَ سَائِرِ الْأَذْكَارِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي صُوَرِ النَّقْضِ الْأَصْلُ هُوَ الْإِخْفَاءُ أَيْضًا إلَّا أَنَّ فِي تِلْكَ الْأَذْكَارِ مَعْنًى زَائِدًا يُوجِبُ الْجَهْرَ بِهَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَهُوَ أَنَّهَا أَعْلَامٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ دَلَالَاتٌ عَلَى انْتِقَالَاتِ الْإِمَامِ مِنْ حَالَةٍ إلَى حَالَةٍ وَعَلَى دُخُولِ، وَقْتِ الصَّلَاةِ أَوْ أَنَّهَا إعْلَامٌ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيْ هِيَ إخْبَارٌ وَتَنْبِيهٌ لِمَنْ خَلْفَ الْإِمَامِ بِانْتِقَالِهِ إلَى رُكْنٍ آخَرَ وَلِلنَّاسِ بِدُخُولِ الْوَقْتِ، وَلِهَذَا سُمِّيَ أَذَانًا فَذَلِكَ الْمَعْنَى الزَّائِدِ أَوْجَبَ فِي هَذِهِ الْأَذْكَارِ حُكْمًا عَارِضًا عَلَى الْأَصْلِ وَهُوَ الْجَهْرُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ إعْلَامًا إلَّا بِصِفَةِ الْجَهْرِ.

فَبِبَيَانِ الْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ بِالتَّعْلِيلِ، وَهُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ هَذَا الذِّكْرِ وَسَائِرِ الْأَذْكَارِ انْدَفَعَ النَّقْضُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الدَّفْعِ بِالْحُكْمِ بِأَنْ يُقَالَ هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ كَوْنُهُ ذِكْرًا يُوجِبُ الْإِخْفَاءَ فِي صُوَرِ النَّقْضِ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ لِمَانِعٍ أَقْوَى وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ وُجُودَ عِلَّةٍ لَا يَمْنَعُ وُجُودَ عِلَّةٍ أُخْرَى يُوجِبُ الْحُكْمَ عَلَى خِلَافِ الْأَوْلَى، وَكَانَ الْإِخْفَاءُ فِيهَا ثَابِتًا تَقْدِيرًا وَلِهَذَا لَوْ جَهَرَ الْمُقْتَدِي أَوْ الْمُنْفَرِدُ فَقَدْ أَسَاءَ، وَكَذَا لَوْ جَهَرَ الْإِمَامُ فَوْقَ حَاجَةِ النَّاسِ إلَى الْعِلْمِ فَقَدْ أَسَاءَ لِزَوَالِ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْجَهْرِ فِيمَا وَرَاءَ مَوْضِعِ الْإِعْلَامِ فَإِنْ قِيلَ سَلَّمْنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ ذِكْرٍ هُوَ الْإِخْفَاءُ إلَّا أَنَّهُ قَدْ قَامَ فِي التَّأْمِينِ مَعْنًى آخَرُ يُوجِبُ الْجَهْرَ، وَهُوَ إعْلَامُ الْقَوْمِ أَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَّقَ تَأْمِينَ الْقَوْمِ بِتَأْمِينِ الْإِمَامِ فِي قَوْلِهِ «إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا» أَوْ لَمْ يَكُنْ تَأْمِينُ الْإِمَامِ مَسْمُوعًا لَمَا صَحَّ تَعْلِيقُ تَأْمِينِ الْقَوْمِ بِهِ.

وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى أَبُو وَائِلٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْهَرُ بِالتَّأْمِينِ» وَمَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ أَدْرَكْتُ مِائَتَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانُوا إذَا أَمَّنُوا سُمِعَ لِتَأْمِينِهِمْ ضَجَّةٌ فِي الْمَسْجِدِ قُلْنَا قَدْ حَصَلَ الْإِعْلَامُ بِبَيَانِ الْمَوْضِعِ حَيْثُ قَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ، «وَإِذَا قَالَ الْإِمَامُ، وَلَا الضَّالِّينَ فَقُولُوا آمِينَ» فَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِعْلَامِ بِالْجَهْرِ فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ الْإِخْفَاءُ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عليه السلام فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَقُولُهَا، وَلَوْ كَانَ تَأْمِينُهُ مَسْمُوعًا لَاسْتُغْنِيَ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ، وَقَدْ اخْتَلَفَ أَخْبَارٌ فِي فِعْلِ النَّبِيِّ عليه السلام فَيُحْمَلُ الْجَهْرُ عَلَى التَّعْلِيمِ أَوْ عَلَى ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ عَلَى أَنَّ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ رَدَّ حَدِيثَ أَبِي وَائِلٍ فَقَالَ أَشَهِدَ أَبُو وَائِلٍ وَغَابَ عَبْدُ اللَّهِ، وَأَبُو وَائِلٍ مِنْ الْأَعْرَابِ وَمَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ مُعَارَضٌ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهم بِخِلَافِهِ فَإِنَّ مَذْهَبَهُمْ فِي التَّأْمِينِ الْإِخْفَاءُ، وَأَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ اخْتِلَافٌ فَيَدُلُّ اخْتِلَافُهُمْ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَخْبَارِ فَيُصَارُ إلَى التَّرْجِيحِ بِمَا ذَكَرْنَا إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْأَسْرَارِ.

قَوْلُهُ: (وَهَذَا) أَيْ الدَّفْعُ بِالْغَرَضِ مَعْنَى قَوْلِ مَشَايِخِنَا يَعْنِي أَهْلَ النَّظَرِ مِنْهُمْ فِي بَابِ الدَّفْعِ أَنَّهُ أَيْ الْفَرْعَ لَا يُفَارِقُ الْأَصْلَ يَعْنِي أَنَّهُمْ إذَا دَفَعُوا النَّقْضَ بِأَنْ قَالُوا إنَّ الْفَرْعَ مَعَ وُرُودِ هَذَا النَّقْضِ لَا يُفَارِقُ الْأَصْلَ فَهُوَ الدَّفْعُ بِالْغَرَضِ الَّذِي ذَكَرْنَا إلَّا أَنَّهُمْ لَقَّبُوهُ بِأَنَّهُ لَا يُفَارِقُ حُكْمَ أَصْلِهِ وَنَحْنُ لَقَّبْنَاهُ بِالْغَرَضِ؛ لِأَنَّهُ أَبْيَنُ فِي وَجْهٍ مِمَّا قَالُوا إذْ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ عَدَمَ مُفَارَقَتِهِمَا فِي الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ مِنْ التَّعْلِيلِ أَوْ فِي وُرُودِ النَّقْضِ عَلَيْهِمَا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُجْمَلِ وَفِيمَا قُلْنَا بَيَانُ تَسْوِيَتِهِمَا فِي الْغَرَضِ، وَهُوَ

ص: 75