الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ الْعَوَارِضِ) (الْمُكْتَسَبَةِ) :
وَهِيَ نَوْعَانِ
مِنْ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ وَمِنْ غَيْرِهِ عَلَيْهِ أَمَّا الَّتِي مِنْ جِهَتِهِ فَالْجَهْلُ وَالسُّكْرُ وَالْهَزْلُ وَالسَّفَهُ وَالْخَطَأُ وَالسَّفَرُ وَاَلَّذِي مِنْ غَيْرِهِ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ أَمَّا الْجَهْلُ فَأَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ جَهْلٌ بَاطِلٌ بِلَا شُبْهَةٍ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا أَصْلًا فِي الْآخِرَةِ وَجَهْلٌ هُوَ دُونَهُ لَكِنَّهُ بَاطِلٌ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا أَيْضًا فِي الْآخِرَةِ وَجَهْلٌ يَصْلُحُ شُبْهَةً وَجَهْلٌ يَصْلُحُ عُذْرًا أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْكُفْرُ مِنْ الْكَافِرِ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا؛ لِأَنَّهُ مُكَابَرَةٌ وَجُحُودٌ بَعْدَ وُضُوحِ الدَّلِيلِ
ــ
[كشف الأسرار]
شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ إعْلَاءُ الشَّأْنِ وَسَبَبُ الْمُبَاهَاةِ عَلَى الْأَقْرَانِ وَهَذَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَأَمَّا فِي حَقِّ الْكَافِرِ فَالسُّؤَالُ لِلْإِلْزَامِ وَالتَّخْجِيلِ لَا لِلْإِكْرَامِ وَالتَّبْجِيلِ نَرْجُو اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُصَيِّرَهُ لَنَا رَوْضَةً بِكَرْمِهِ وَفَضْلِهِ وَأَنْ يُعِيذَنَا مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِهِ بِمَنِّهِ وَطَوْلِهِ إنَّهُ الْكَرِيمُ الْمُنْعِمُ الدَّيَّانُ ذُو الطَّوْلِ وَالْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ.
[بَاب الْعَوَارِض الْمُكْتَسَبَة وَهِيَ نَوْعَانِ]
[النَّوْع الْأَوَّل مِنْ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ]
(بَابُ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ) :
إنَّمَا جُعِلَ الْجَهْلُ مِنْ الْعَوَارِضِ وَإِنْ كَانَ أَمْرًا أَصْلِيًّا؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى حَقِيقَةِ الْإِنْسَانِ وَثَابِتٌ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ كَالصِّغَرِ وَمِنْ الْمُكْتَسَبَةِ؛ لِأَنَّ إزَالَتَهُ بِاكْتِسَابِ الْعِلْمِ فِي قُدْرَةِ الْعَبْدِ فَكَانَ تَرْكُ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ مِنْهُ اخْتِيَارًا بِمَنْزِلَةِ اكْتِسَابِ الْجَهْلِ بِاخْتِيَارِ بَقَائِهِ فَكَانَ مُكْتَسَبًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَجَعَلَ السُّكْرَ مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُصُولُهُ فِي قُدْرَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ وَهُوَ شُرْبُ الْمُسْكِرِ بِاخْتِيَارِهِ وَغَرَضُهُ مِنْ الشُّرْبِ حُصُولُ السُّكْرِ كَمَا أَنَّ غَرَضَ شَارِبِ الْمَاءِ حُصُولُ الرِّيِّ فَكَانَ السُّكْرُ مُضَافًا إلَى كَسْبِهِ نَظَرًا إلَى السَّبَبِ وَالْغَرَضِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الرِّقُّ فَإِنَّهُ جُعِلَ مِنْ الْعَوَارِضِ السَّمَاوِيَّةِ وَإِنْ كَانَ سَبَبُهُ وَهُوَ الْكُفْرُ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ غَرَضَهُ مِنْ الْكُفْرِ لَيْسَ حُصُولُ الرِّقِّ وَلِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى الْكَافِرِ لَا الْكُفْرِ الْمُجَرَّدِ وَالِاسْتِيلَاءُ لَيْسَ فِي قُدْرَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ فَكَانَ الرِّقُّ سَمَاوِيًّا.
قَوْلُهُ (أَمَّا الْجَهْلُ فَكَذَا) قِيلَ الْجَهْلُ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ الْمَعْدُومِ شَيْئًا إذْ الْجَهْلُ يَتَحَقَّقُ بِالْمَعْدُومِ كَمَا يَتَحَقَّقُ بِالْمَوْجُودِ أَوْ كَوْنُ الْمَعْدُومِ الْمَجْهُولِ غَيْرَ دَاخِلٍ فِي الْحَدِّ وَكِلَاهُمَا فَاسِدٌ وَقِيلَ هُوَ صِفَةٌ تُضَادُّ الْعِلْمَ عِنْدَ احْتِمَالِهِ وَتَصَوُّرِهِ وَاحْتُرِزَ بِهِ عَنْ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا عِلْمَ لَهَا فَإِنَّهَا لَا تُوصَفُ بِالْجَهْلِ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ الْعِلْمِ فِيهَا قَالَ السَّيِّدُ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِم رحمه الله فِي كِتَابِ رِيَاضَةِ الْأَخْلَاقِ الْجَهْلُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ عَدَمُ الشُّعُورِ وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الشُّعُورُ بِالشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ السَّفَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] وَقَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:
أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا
…
فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلَيْنَا
فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِطْرِيَّةٌ وَلَيْسَ بِعَيْبٍ لِشُمُولِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78] وَإِنَّمَا الْعَيْبُ التَّقْصِيرُ فِي إزَالَةِ الْجَهْلِ وَدَوَاؤُهُ التَّعَلُّمُ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي هُوَ الْغَلَطُ وَدَوَاؤُهُ التَّوَقُّفُ وَالتَّثَبُّتُ وَسَبَبُهُ الْجَهْلُ الْخُلُقِيُّ مَعَ الْعَجَلَةِ وَالْعُجْبِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ سَيُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ عز وجل الْمُكَابَرَةُ وَالْجُحُودُ الْإِنْكَارُ بَعْدَ حُصُولِ الْعِلْمِ وَوُضُوحِ الدَّلِيلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] وَعَنْ هَذَا قِيلَ لَوْ سَأَلَ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ دَعْوَى الْمُدَّعِي أَتَجْحَدُ أَمْ تُقِرُّ فَبِأَيِّهِمَا أَجَابَ يَكُونُ إقْرَارًا فَالْكُفْرُ جُحُودٌ بَعْدَ وُضُوحِ الدَّلِيلِ؛ لِأَنَّ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ الصَّانِعِ جل جلاله وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَعَظَمَةِ أُلُوهِيَّتِهِ لَا تُعَدُّ كَثْرَةً وَلَا تَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى لُبٍّ كَمَا قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ:
فَيَا عَجَبًا كَيْفَ يُعْصَى الْإِلَهُ
…
أَمْ كَيْفَ يَجْحَدُهُ جَاحِدٌ
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ
…
تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ
وَكَذَا الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ رِسَالَةِ الرُّسُلِ مِنْ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ وَالْحُجَجِ الْبَاهِرَةِ ظَاهِرَةٌ مَحْسُوسَةٌ فِي زَمَانِهِمْ لَا وَجْهَ إلَى رَدِّهَا وَإِنْكَارِهَا وَقَدْ نُقِلَتْ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتُ بَعْدَ انْقِرَاضِ زَمَانِهِمْ بِالتَّوَاتُرِ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ إلَى يَوْمِنَا هَذَا فَكَانَ إنْكَارُهَا بِمَنْزِلَةِ إنْكَارِ الْمَحْسُوسِ
وَاخْتُلِفَ فِي دِيَانَةِ الْكَافِرِ عَلَى خِلَافِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله فَقَدْ قَالَ إنَّهَا تَصْلُحُ دَافِعَةً لِلتَّعَرُّضِ وَدَافِعَةً لِدَلِيلِ الشَّرْعِ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي تَحْتَمِلُ التَّغَيُّرَ لِيَصِيرَ الْخِطَابُ قَاصِرًا عَنْهُمْ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا اسْتِدْرَاجًا بِهِمْ وَمَكْرًا عَلَيْهِمْ وَتَرْكًا لَهُمْ عَلَى الْجَهْلِ وَتَمْهِيدًا لِعِقَابِ الْآخِرَةِ وَالْخُلُودِ فِي النَّارِ وَتَحْقِيقًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ عليه السلام «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» فَأَمَّا فِي حُكْمٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّبَدُّلَ فَلَا حَتَّى إنَّهُ لَا يُعْطِي لِلْكُفْرِ حُكْمَ الصِّحَّةِ بِحَالٍ وَلَا يُبْتَنَى عَلَى هَذَا أَنَّهُ جَعَلَ حُكْمَ الصِّحَّةِ بِحَالٍ وَيُبْتَنَى عَلَى هَذَا أَنَّهُ جَعَلَ الْخِطَابَ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ كَأَنَّهُ غَيْرُ نَازِلٍ فِي حَقِّهِمْ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا مِنْ التَّقَوُّمِ وَإِيجَابِ الضَّمَانِ وَجَوَازِ الْبَيْعِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ
ــ
[كشف الأسرار]
فَلِذَلِكَ لَمْ يُجْعَلْ عُذْرًا بِوَجْهِ قَوْلِهِ (وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي دِيَانَةِ الْكَافِرِ عَلَى خِلَافِ الْإِسْلَامِ) أَيْ فِي اعْتِقَادِهِ حُكْمًا مِنْ الْأَحْكَامِ عَلَى خِلَافِ مَا ثَبَتَ فِي الْإِسْلَامِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله إنَّهَا تَصْلُحُ دَافِعَةً لِلتَّعَرُّضِ حَتَّى لَوْ بَاشَرَ مَا دَانَ بِهِ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ بِوَجْهٍ وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ وَدَافِعَةً لِدَلِيلِ الشَّرْعِ يَعْنِي دِيَانَتُهُ تَمْنَعُ بُلُوغَ دَلِيلِ الشَّرْعِ إلَيْهِ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي تَحْتَمِلُ التَّغَيُّرَ مِثْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ وَنَحْوِهَا فَلَا يَثْبُتُ الْخِطَابُ فِي حَقِّهِ فَيَبْقَى الْحُكْمُ الَّذِي كَانَ قَبْلَ الْخِطَابِ فِي حَقِّهِ عَلَى الصِّحَّةِ كَمَا كَانَ لِقُصُورِ الْخِطَابِ عَنْهُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى قُصُورِ الْخِطَابِ عَنْهُ أَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا يَتَبَدَّلُ مِنْ الْأَحْكَامِ بِشَرْعٍ جَدِيدٍ أَنْ لَا يَثْبُتَ فِي حَقِّنَا بِنُزُولِ الْخِطَابِ حَتَّى يَبْلُغَنَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ بِهِ قَبْلَ الْبُلُوغِ إلَّا أَنَّ الْخِطَابَ بَعْدَمَا شَاعَ يَلْزَمُ لِكُلِّ مَنْ عَلِمَ بِهِ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ عليه السلام لَا يُمْكِنُهُ التَّبْلِيغُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِ النَّاسِ وَإِنَّمَا فِي وُسْعِهِ الْإِشَاعَةُ فِي النَّاسِ لَا غَيْرُ فَصَارَتْ الْإِشَاعَةُ بِمَنْزِلَةِ التَّبْلِيغِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَلَا يُعْذَرُ الْجَاهِلُ بِالْخِطَابِ بَعْدَ الْإِشَاعَةِ لِبُلُوغِ الْخِطَابِ إلَيْهِ حُكْمًا يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ بَلَغَهُ الْخِطَابُ فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ ثُمَّ بُلُوغُ الْخِطَابِ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ صِدْقَ الْمُبَلِّغِ وَلَا يَرَى كَلَامَهُ حُجَّةً وَالشَّرْعُ أَمَرَنَا أَنْ لَا يُتَعَرَّضَ لَهُ إذَا قَبِلَ الذِّمَّةَ فَبَقِيَ عَلَى الْجَهْلِ كَمَا فِي الْخِطَابِ الَّذِي لَمْ يَشِعْ وَخِطَابِ نَبِيٍّ لَمْ يُثْبِتْ مُعْجِزَتَهُ بَعْدُ وَخَرَجَ الْخِطَابُ بِإِنْكَارِهِ الرَّسُولَ وَيَأْمُرُ الشَّرْعَ إيَّانَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ عَلَيْهِ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً فِي حَقِّهِ فَصَارَ الْبُلُوغُ وَعَدَمُهُ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ (اسْتِدْرَاجًا) مُتَعَلِّقٌ بِقَاصِرٍ أَيْ قُصُورِ الْخِطَابِ عَنْ الْكَافِرِ لَيْسَ لِلتَّخْفِيفِ عَلَيْهِ وَلَكِنْ لِلِاسْتِدْرَاجِ وَهُوَ التَّقْرِيبُ إلَى الْعَذَابِ بِوَجْهٍ لَا شُعُورَ لَهُ بِهِ يُقَالُ اسْتَدْرَجَهُ إلَى كَذَا أَيْ أَدْنَاهُ مِنْهُ عَلَى التَّدْرِيجِ وَمَكْرًا وَهُوَ الْأَخْذُ عَلَى غِرَّةٍ وَتَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ عليه السلام «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» فَإِنَّهُ لَا خِطَابَ فِي الْجَنَّةِ وَلَا تَكْلِيفَ بَلْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي الْأَنْفُسُ وَالدُّنْيَا لِلْكَافِرِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ.
وَهَذَا فِي كُلِّ حُكْمٍ يَثْبُتُ بِالشَّرْعِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّنَا إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْخِطَابِ وَقَبْلَهُ يَبْقَى عَلَى مَا كَانَ ثَابِتًا فَأَمَّا فِي كُلِّ حُكْمٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّبَدُّلَ فَلَا أَيْ لَا يَكُونُ دِيَانَتُهُ دَافِعَةً لِدَلِيلِ الشَّرْعِ حَتَّى إنَّهُ الضَّمِيرُ لِلشَّانِّ لَا يُعْطِي لِلْكُفْرِ حُكْمَ الصِّحَّةِ بِحَالٍ يَعْنِي لَا يَعْتَبِرُ دِيَانَةَ الْكَافِرِ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالنَّارِ وَبِمَا يُبَاشِرُهُ مِنْ الْكُفْرِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَحِلَّ بِحَالٍ وَالْمُغَيِّرُ إنَّمَا يَعْمَلُ فِيمَا يَحْتَمِلُ وَيُبْتَنَى عَلَى هَذَا أَيْ عَلَى أَنَّ دِيَانَتَهُمْ دَافِعَةٌ عِنْدَهُ لِلتَّعَرُّضِ وَالْخِطَابِ جَمِيعًا أَنَّهُ أَيْ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله جَعَلَ الْخِطَابَ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ كَأَنَّهُ غَيْرُ نَازِلٍ فِي حَقِّهِمْ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ بِتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ فِي حَقِّ الْمُضْطَرِّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ نَحْوُ هِبَةِ الْخَمْرِ وَالْوَصِيَّةِ وَالتَّصَدُّقِ بِهَا وَأَخْذِ الْعُشْرِ مِنْ قِيمَتِهَا وَكَذَلِكَ أَيْ وَمِثْلُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ تَحْرِيمُ الْخَنَازِيرِ فِي أَنَّ الْخِطَابَ بِالتَّحْرِيمِ غَيْرُ نَازِلٍ فِي حَقِّهِمْ حَتَّى كَانَ الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ فِي حَقِّهِمْ كَالشَّاةِ وَالْخَلِّ فِي حَقِّنَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَيْضًا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله لَا يَجِبُ بِإِتْلَافِ خَمْرِ الذِّمِّيِّ شَيْءٌ سَوَاءٌ أَتْلَفَهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ وَجَعَلَ أَيْ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله لِنِكَاحِ الْمَحَارِمِ بَيْنَ الْكُفَّارِ حُكْمَ الصِّحَّةِ إذَا دَانُوا بِصِحَّتِهِ بِمَنْزِلَةِ نِكَاحِ الْمَجُوسِيَّةِ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهِمْ لِقُصُورِ الْخِطَابِ عَنْهُمْ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَ الْمَجُوسِيُّ بِمَحْرَمٍ
وَكَذَلِكَ الْخَنَازِيرُ وَجَعَلَ لِنِكَاحِ الْمَحَارِمِ بَيْنَهُمْ حُكْمَ الصِّحَّةِ حَتَّى قَالَ إذَا وَطِئَهَا بِذَلِكَ ثُمَّ أَسْلَمَا كَانَا مُحْصَنَيْنِ لَوْ قُذِفَا حُدَّ قَاذِفُهُمَا وَإِذَا طَلَبَتْ الْمَرْأَةُ النَّفَقَةَ بِذَلِكَ النِّكَاحِ قُضِيَ بِهَا عِنْدَهُ وَلَا يَفْسَخ حَتَّى يَتَرَافَعَا فَإِنْ قِيلَ لَا خِلَافَ أَنَّ الدِّيَانَةَ لَا تَصْلُحُ حُجَّةً مُتَعَدِّيًا، أَلَا يُرَى أَنَّ الْمَجُوسِيَّ إذَا تَزَوَّجَ ابْنَتَهُ ثُمَّ هَلَكَ عَنْهَا وَعَنْ ابْنَةٍ أُخْرَى أَنَّهُمَا تَرِثَانِ الثُّلُثَيْنِ وَلَا تَرِثُ الْمَنْكُوحَةُ مِنْهُمَا بِالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّ دِيَانَتَهَا لَا تَصِحُّ حُجَّةً عَلَى الْأُخْرَى فَكَذَلِكَ فِي إيجَابِ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ وَاسْتِحْقَاقِ الْقَضَاءِ بِالنَّفَقَةِ وَإِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى مُتْلِفِ الْخَمْرِ وَجَبَ أَنْ لَا تُجْعَلَ حُجَّةً مُتَعَدِّيَةً قُلْنَا عَنْهُ هَذَا تَنَاقُضٌ؛ لِأَنَّا نَجْعَلُ الدِّيَانَةَ مُعْتَبَرَةٌ؛ لِأَنَّا نَأْخُذُ نِصْفَ الْعُشْرِ مِنْ خُمُورِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْعُشْرَ مِنْ خُمُورِ أَهْلِ الْحَرْبِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله وَهَذِهِ غَيْرُ مُتَعَدِّيَةٍ بَلْ هِيَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ إلَّا أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْ الْخِنْزِيرِ؛ لِأَنَّ إمَامَ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ حِمَايَةِ الْخِنْزِيرِ نَفْسِهِ فَلَا يَتَعَدَّى وَلَهُ وِلَايَةُ حِمَايَةِ الْخَمْرِ لِنَفْسِهِ لِلتَّخْلِيلِ فَيَتَعَدَّى وَحَقِيقَةُ الْجَوَابِ أَنَّا لَا نَجْعَلُ الدِّيَانَةَ مُتَعَدِّيَةً؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ إذَا بَقِيَتْ مُتَقَوِّمَةً لَمْ يَثْبُتْ بِالدَّيَّانَةِ إلَّا دَفْعُ الْإِلْزَامِ بِدَلِيلٍ، فَأَمَّا التَّقَوُّمُ فَبَاقٍ عَلَى الْأَصْلِ sss
ــ
[كشف الأسرار]
وَدَخَلَ بِهَا لَمْ يَسْقُطْ إحْصَانُهَا حَتَّى وَجَبَ الْحَدُّ لَهُمَا عَلَى قَاذِفِهِمَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَجِبُ وَإِذَا طَلَبَتْ الْمَرْأَةُ النَّفَقَةَ بِذَلِكَ النِّكَاحِ قَضَى بِهَا عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمْ وَلَوْ رَفَعَ أَحَدُهُمَا الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي وَطَلَبَ حُكْمَ الْإِسْلَامِ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا عِنْدَهُ حَتَّى يُحْتَمَلَ عَلَى التَّرَافُعِ وَيُفَرَّقُ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّهُ أَيْ دِيَانَةَ الْبِنْتِ الْمَنْكُوحَةِ لَا تَصْلُحُ حُجَّةً مُتَعَدِّيَةً عَلَى الْبِنْتِ الْأُخْرَى وَضَمَّنَ التَّعَدِّي مَعْنَى الْإِجْمَاعِ فَوَصَلَ بِكَلِمَةٍ عَلَى.
فَكَذَلِكَ أَيْ فَكَمَا لَمْ تُجْعَلْ الدِّيَةُ مُتَعَدِّيَةً فِي الْإِرْثِ وَجَبَ أَنْ لَا تُجْعَلَ مُتَعَدِّيَةً فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْتَبَرَ دِيَانَتُهُمْ فِي إثْبَاتِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِهَا إثْبَاتَ التَّعَدِّي عَلَى الْغَيْرِ كَمَا لَمْ تُعْتَبَرْ فِي الْإِرْثِ.
قَوْلُهُ (هَذَا يَتَنَاقَضُ) أَيْ مَا ذَكَرْت مِنْ عَدَمِ اعْتِبَارِهَا فِي هَذِهِ الصُّوَرِ يُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ؛ لِأَنَّا قَدْ اعْتَبَرْنَا دِيَانَتَهُمْ فِي أَخْذِ الْعُشْرِ؛ لِأَنَّا نَأْخُذُ نِصْفَ الْعُشْرِ مِنْ خُمُورِ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَيْ مِنْ قِيمَتِهَا إذَا مَرُّوا بِهَا عَلَى الْعَاشِرِ وَالْعُشْرُ مِنْ خُمُورِ أَهْلِ الْحَرْبِ أَيْ مِنْ قِيمَتِهَا بِاعْتِبَارِ دِيَانَتِهِمْ وَيَجِبُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ تَوَلَّى ذَلِكَ الْأَمْرَ حَتَّى لَوْ لَمْ يَأْخُذَا ثُمَّ وَلَمْ تُعْتَبَرْ دِيَانَتُهُمْ فِي حَقِّنَا لِمَا أَخَذْنَا مِنْهُمْ شَيْئًا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رحمه الله وَكَذَا الْأَنْكِحَةُ الَّتِي هِيَ فَاسِدَةٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ تَقَعُ صَحِيحَةً فِيمَا بَيْنَهُمْ إذَا دَانُوا بِصِحَّتِهَا فَإِنَّ عَامَّةَ الْعُلَمَاءِ قَالُوا فِي ذِمِّيٍّ تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ أَوْ عَشْرَ نِسْوَةٍ ثُمَّ فَارَقَ إحْدَى الْأُخْتَيْنِ أَيَّتَهُمَا كَانَتْ أَوْ فَارَقَ السِّتَّ مِنْ الْعَشْرِ فِي حَالِ الْكُفْرِ بَقِيَ نِكَاحُ مَنْ بَقِيَ إذَا أَسْلَمُوا عَلَى الصِّحَّةِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي الْحَرْبِيِّ تَزَوَّجَ خَمْسُ نِسْوَةٍ فِي عُقَدٍ مُتَفَرِّقَةٍ أَوْ عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ أَسْلَمُوا جَمِيعًا كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ الْأَرْبَعَ مِنْهُنَّ وَلَوْ وَقَعَ فَاسِدًا لَمْ يَنْقَلِبْ صَحِيحًا وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ تَبَايَعُوا الْخُمُورَ وَتَقَابَضُوا إنَّ الْعُشْرَ يُؤْخَذُ مِنْ أَثْمَانِ الْخُمُورِ وَإِنْ عَلِمَ بِهِ الْعَاشِرُ وَإِنْ أَسْلَمُوا بَقُوا عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ وَقَعَ عَلَى الْفَسَادِ لَمْ يُطْلَبْ الْمِلْكُ الْفَاسِدُ بِالْإِسْلَامِ وَلَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ عَلَى أَصْلِهِ فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ تَقَعُ عَلَى الصِّحَّةِ بِلَا خِلَافٍ بِاعْتِبَارِ دِيَانَتِهِمْ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ فَلَوْ لَمْ تُعْتَبَرْ دِيَانَتُهُمْ فِيمَا بَيْنَنَا لَمْ تَثْبُتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ دِيَانَتَهُمْ مُعْتَبَرَةٌ بِالِاتِّفَاقِ كَانَ الْقَوْلُ بِعَدَمِ اعْتِبَارِهَا بَعْدَ ذَلِكَ تَنَاقُضًا وَهَذِهِ غَيْرُ مُتَعَدِّيَةٍ أَيْ هَذِهِ الدِّيَانَةُ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْنَا أَخْذَ الْعُشْرِ وَإِثْبَاتَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ لَا تُسَمَّى مُتَعَدِّيَةً بِالِاتِّفَاقِ مَعَ وُجُودِ إلْزَامٍ فِيهَا بَلْ هِيَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ فِي أَخْذِ الْعُشْرِ مِنْهُمْ فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ: إلَّا أَنَّهُ أَيْ الْعُشْرُ أَوْ نِصْفُ الْعُشْرِ لَا يُؤْخَذُ مِنْ الْخِنْزِيرِ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَمَّا كَانَ أَخْذُ الْعُشْرِ بِنَاءً عَلَى دِيَانَتِهِمْ وَأَنَّهُمْ قَدْ دَانُوا بِتَقَوُّمِ الْخِنْزِيرِ كَمَا دَانُوا بِتَقَوُّمِ الْخَمْرِ فَوَجَبَ أَنْ يُؤْخَذَ الْعُشْرُ أَوْ نِصْفُ الْعُشْرِ مِنْ قِيمَةِ الْخِنْزِيرِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قِيمَةِ الْخَمْرِ فَأَجَابَ بِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِلْإِمَامِ بِالْحِمَايَةِ وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ حِمَايَةِ الْخِنْزِيرِ لِنَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ حِمَايَتَهُ لِغَيْرِهِ وَلَهُ وِلَايَةُ حِمَايَةِ الْخَمْرِ لِنَفْسِهِ لِلتَّخْلِيلِ فَيَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ.
قَوْلُهُ (وَحَقِيقَةُ الْجَوَابِ) كَذَا يَعْنِي مَا قُلْنَا إنَّهُ تَنَاقُضٌ لِمَنْعِ وُرُودِ السُّؤَالِ وَصِحَّتِهِ فِي نَفْسِهِ فَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ السُّؤَالِ فَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نَجْعَلُ الدِّيَانَةَ مُتَعَدِّيَةً فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَسَائِلِ.
أَمَّا فِي مَسْأَلَةِ الْخَمْرِ فَلِأَنَّهَا كَانَتْ مُتَقَوِّمَةً فِي الْأَصْلِ لَكِنْ سَقَطَ تَقَوُّمُهَا بِالنَّصِّ وَدِيَانَتُهُمْ لَمَّا مَنَعْت الْإِلْزَامَ بِالدَّلِيلِ
وَذَلِكَ شَرْطُ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ لَا يَجِبُ بِتَقَوُّمِ الْمُتْلَفِ لَكِنْ بِإِتْلَافِ الْمُتْلِفِ وَإِذَا لَمْ تُضَفْ إلَى تَقَوُّمِ الْمَحِلِّ لَمْ تَصِرْ مُتَعَدِّيَةً وَكَذَلِكَ إحْصَانُ الْمَقْذُوفِ شَرْطٌ لَا عِلَّةٌ وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ هِيَ الْمَقْذُوفُ.
وَأَمَّا النَّفَقَةُ فَإِنَّمَا شُرِعَتْ بِطَرِيقِ الدَّفْعِ فِي الْأَصْلِ.
أَلَا يُرَى أَنَّ الْأَبَ يَجْلِسُ بِنَفَقَةِ الِابْنِ الصَّغِيرِ كَمَا يَحِلُّ دَفْعُهُ إذَا قَصَدَ قَتْلَهُ وَلَا يُحْبَسُ بِدَيْنِهِ جَزَاءً كَمَا لَا يُقْتَلُ قِصَاصًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَتْ الدِّيَانَةُ دَافِعَةً لَا مُوجِبَةً بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهُ صِلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ لَوْ وَجَبَ بِدِيَانَتِهَا كَانَتْ الدِّيَانَةُ بِذَلِكَ مُوجِبَةً لَا دَافِعَةً
ــ
[كشف الأسرار]
أَيْ أَلِزَامَنَا إيَّاهُمْ سُقُوطَ التَّقَوُّمِ بِالدَّلِيلِ بَقِيَ تَقَوُّمُهَا عَلَى مَا كَانَ فِي الْأَصْلِ فَكَانَتْ دِيَانَتُهُمْ دَافِعَةً لِلْإِلْزَامِ لَا مُثْبِتَةً لِلتَّقَوُّمِ وَذَلِكَ أَيْ لِتَقَوُّمِ شَرْطِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَ الْمَحَلَّ وَالْمَحَالُّ بِأَوْصَافِهَا شُرُوطٌ وَالضَّمَانُ وَجَبَ جَزَاءً عَلَى الْجِنَايَةِ فَلَا يَجِبُ بِتَقَوُّمِ الْمُتْلَفِ لَكِنْ يَجِبُ بِإِتْلَافِ الْمُتْلَفِ الَّذِي هُوَ فِعْلُهُ الْقَائِمُ بِهِ وَلِهَذَا سُمِّيَ ضَمَانُ التَّعَدِّي وَالْكَافِرُ بِدِيَانَتِهِ دَفَعَ سُقُوطَ التَّقَوُّمِ فَبَقِيَ التَّقَوُّمُ عَلَى مَا كَانَ فَيَجِبُ الضَّمَانُ بِوُجُودِ شَرْطِهِ مُضَافًا إلَى سَبَبِهِ وَهُوَ إتْلَافُ مَالِ الذِّمِّيِّ الَّذِي فِي زَعْمِ الْمُتْلَفِ أَنَّهُ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ وَإِذَا لَمْ يُضِفْ الضَّمَانَ إلَى تَقَوُّمِ الْمَحَلِّ لَمْ تَصِرْ الدِّيَانَةُ مُتَعَدِّيَةً إذْ لَوْ كَانَ مُضَافًا إلَيْهِ لَكَانَتْ الدَّيَّانَةُ مُتَعَدِّيَةً حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ التَّقَوُّمَ سَاقِطٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَلَمْ يَكُنْ السَّبَبُ مَوْجُودًا فِي حَقِّهِ فَلَوْ وَجَبَ الضَّمَانُ لَوَجَبَ بِإِثْبَاتِ التَّقَوُّمِ فِي حَقِّهِ بِدِيَانَةِ الْكَافِرِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَمَا أَنَّ التَّقَوُّمَ شَرْطُ الضَّمَانِ إحْصَانُ الْمَقْذُوفِ شَرْطُ وُجُوبِ حَدِّ الْقَذْفِ لَا عِلَّتِهِ إنَّمَا الْعِلَّةُ هِيَ الْقَذْفُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْجِنَايَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْجَزَاءِ وَلِهَذَا يُضَافُ إلَيْهِ وَالْكَافِرُ بِدِيَانَتِهِ مَنَعَ سُقُوطَ إحْصَانِهِ الثَّابِتِ قَبْلَ الْوَطْءِ فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ فَيَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ مُضَافًا إلَى قَذْفِهِ الَّذِي هُوَ جِنَايَةٌ بِوُجُودِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْإِحْصَانُ فَكَانَتْ الدِّيَانَةُ دَافِعَةً لَا مُوجِبَةً؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ لَمْ يُضِفْ إلَى الْإِحْصَانِ.
1 -
فَأَمَّا النَّفَقَةُ فَإِنَّهَا شُرِعَتْ أَيْ وَجَبَتْ بِطَرِيقِ الدَّفْعِ فِي الْأَصْلِ أَيْ دَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْ الْمُنْفِقِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ النَّفَقَةِ عَجْزُ الْمُنْفِقِ عَلَيْهِ وَمِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ الِاحْتِبَاسُ الدَّائِمُ فَإِنَّ دَوَامَهُ مِنْ غَيْرِ إنْفَاقٍ يُؤَدِّي إلَى الْهَلَاكِ إذْ لَا بَقَاءَ لِلْإِنْسَانِ عَادَةً بِدُونِ النَّفَقَةِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ إيجَابَ النَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجِ لِدَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْ الْمَرْأَةِ لِكَوْنِهَا مَحْبُوسَةً عَلَى الدَّوَامِ لِحَقِّهِ فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ فِي طَلَبِ النَّفَقَةِ دَافِعَةً لِلْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهَا بِدِيَانَتِهَا لِبَقَائِهَا مَحْبُوسَةً لِحَقِّهِ فَلَا يَكُونُ دِيَانَتُهَا مُوجِبَةً عَلَيْهِ شَيْئًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ بِطَرِيقِ الدَّفْعِ أَنَّ الْأَبَ يُحْبَسُ بِنَفَقَةِ الِابْنِ الصَّغِيرِ أَيْ بِسَبَبِ مَنْعِهَا عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْعِ النَّفَقَةِ عَنْهُ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْقَاصِدِ لِهَلَاكِهِ إذْ لَا بَقَاءَ لَهُ عَادَةً بِدُونِ النَّفَقَةِ فَيَحِلُّ لِلِابْنِ دَفْعُ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ بِحَبْسِ أَبِيهِ أَوْ يَحِلُّ لِلْقَاضِي دَفْعُ الْهَلَاكِ عَنْ الصَّغِيرِ الْعَاجِزِ بِحَبْسِ أَبِيهِ لِأَجْلِ النَّفَقَةِ كَمَا يَحِلُّ دَفْعُهُ أَيْ دَفْعُ الْأَبِ بِالْقَتْلِ أَوْ دَفْعُ الِابْنِ أَبَاهُ بِالْقَتْلِ إذَا قَصَدَ الْأَبُ قَتْلَ الِابْنِ. وَلَا يَحِلُّ حَبْسُ الْأَبِ بِدَيْنِ الِابْنِ جَزَاءً إذْ الْحَبْسُ جَزَاءُ الظُّلْمِ وَالْمُمَاطَلَةِ كَمَا لَا يَحِلُّ قَتْلُ الْأَبِ بِسَبَبِ قَتْلِ الِابْنِ قِصَاصًا فَثَبَتَ أَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ بِطَرِيقِ الدَّفْعِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَيْ كَانَ وُجُوبُ النَّفَقَةِ بِطَرِيقِ الدَّفْعِ أَوْ كَانَ الشَّأْنُ كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ وَالْحَدِّ وَالنَّفَقَةِ لَمْ يَثْبُت وَالدِّيَانَةُ بَلْ بِشَيْءٍ آخَرَ كَانَتْ الدِّيَانَةُ دَافِعَةً لَا مُوجِبَةً بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهُ صِلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الدَّفْعِ.
فَلَوْ وَجَبَ أَيْ ثَبَتَ الْمِيرَاثُ لِلْبِنْتِ الْمَنْكُوحَةِ بِدِيَانَتِهَا كَانَتْ دِيَانَتُهَا بِصِحَّةِ النِّكَاحِ مُوجِبَةً عَلَى الْبِنْتِ الْأُخْرَى اسْتِحْقَاقَهَا زِيَادَةَ الْمِيرَاثِ لَا دَافِعَةً. وَلَا يُقَالُ الْبِنْتُ الْأُخْرَى قَدْ تَدَيَّنَتْ بِصِحَّةِ هَذَا النِّكَاحِ أَيْضًا حَيْثُ اعْتَقَدَتْ الْمَجُوسِيَّةَ فَيَكُونُ اسْتِحْقَاقُ زِيَادَةِ الْمِيرَاثِ عَلَيْهَا بِنَاءً عَلَى الْتِزَامِهَا بِدِيَانَتِهَا لِأَنَّا نَقُولُ لَمَّا خَاصَمَتْ إلَى الْقَاضِي فِي الْمِيرَاثِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَعْتَقِدْ ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ وَلَا تَرِثُ الْمَنْكُوحَةُ بِالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ
وَإِذَا لَمْ يُفْسَخْ بِمُرَافَعَةِ أَحَدِهِمَا فَقَدْ جَعَلْنَا الدِّيَانَةَ دَافِعَةً أَيْضًا هَذَا جَوَابٌ قَدْ قِيلَ وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ عِنْدِي عَنْ فَصْلِ النَّفَقَةِ أَنَّهُمَا لَمَّا تَنَاكَحَا فَقَدْ دَانَا بِصِحَّتِهِ فَقَدْ أَخَذَ الزَّوْجُ بِدِيَانَتِهِ وَلَمْ يَصِحَّ مُنَازَعَتُهُ مِنْ بَعْدُ بِخِلَافِ مُنَازَعَةِ مَنْ لَيْسَ فِي نِكَاحِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ هَذِهِ الدِّيَانَةَ وَأَمَّا الْقَاضِي فَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِالتَّقْلِيدِ دُونَ الْخُصُومَةِ.
وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَكَذَلِكَ قَالَا أَيْضًا إلَّا أَنَّهُمَا قَالَا إنَّ تَقَوُّمَ الْخَمْرِ وَإِبَاحَةَ شُرْبِهَا وَتَقَوُّمَ الْخِنْزِيرِ وَإِبَاحَتَهُ كَانَ حُكْمًا ثَابِتًا أَصْلِيًّا فَإِذَا قَصُرَ الدَّلِيلُ بِالدِّيَانَةِ بَقِيَ عَلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ فَأَمَّا نِكَاحُ الْمَحَارِمِ فَلَمْ يَكُنْ إلَّا أَصْلِيًّا يُرَى أَنَّهُ كَانَ لَا يَصْلُحُ لِلرَّجُلِ أُخْتُهُ مِنْ بَطْنٍ وَاحِدٍ فِي زَمَنِ آدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه
ــ
[كشف الأسرار]
فَاسِدٌ فِي حَقِّ الَّتِي نَازَعَتْ فِي الْإِرْثِ وَدَانَتْ بِالْفَسَادِ.
وَذَكَرَ فِي الطَّرِيقَةِ الْبُرْغَرِيَّةِ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ مَشَايِخِنَا قَالُوا الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُهُمَا فَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فَيَنْبَغِي أَنْ تَسْتَحِقَّ الْمِيرَاثَ بِالزَّوْجِيَّةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ هَذَا النِّكَاحَ مَحْكُومٌ بِالصِّحَّةِ. وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ رحمه الله أَنَّ النِّكَاحَ وَإِنْ كَانَ مَحْكُومًا بِالصِّحَّةِ لَا يَثْبُتُ الْإِرْثُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَنَا بِالدَّلِيلِ جَوَازُ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ فِي شَرِيعَةِ آدَمَ عليه السلام وَلَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ سَبَبًا لِلْمِيرَاثِ فِي دِينِهِ فَلَا يَثْبُتُ سَبَبًا لِلْمِيرَاثِ بِاعْتِقَادِهِمْ وَدِيَانَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِدِيَانَةِ الذِّمِّيِّ فِي حُكْمٍ إذَا لَمْ يَعْتَمِدْ عَلَى شَرْعٍ وَلَمْ يَثْبُتْ بِدِيَانَتِنَا؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْمَحَارِمِ فِي دِيَانَتِنَا فَاسِدٌ. بِخِلَافِ نِكَاحِ الْأَجَانِبِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلْمِيرَاثِ فِي دِينِنَا فَيَكُونُ سَبَبًا فِي حَقِّهِمْ إذَا اعْتَقَدُوا ذَلِكَ.
وَإِذَا لَمْ يُفْسَخْ أَيْ نِكَاحُ الْمَحَارِمِ بِمُرَافَعَةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فَلَمْ يُجْعَلُ دِيَانَةُ الَّذِي لَمْ يَرْفَعْ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي مُلْزَمَةً عَلَى الَّذِي رَفَعَهُ إلَيْهِ وَلَكِنْ جَعَلْنَا دِيَانَتَهُ دَافِعَةً لِمَا أَلْزَمَهُ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا قَدْ دَانَا جَمِيعًا بِصِحَّةِ هَذَا النِّكَاحِ حِينَ أَقْدَمَا عَلَى مُبَاشَرَتِهِ فَإِذَا جَاءَ أَحَدُهُمَا طَالِبًا لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ الْمُلْزِمُ عَلَى صَاحِبِهِ شَيْئًا لَمْ يَعْتَقِدْهُ وَالْآخَرُ مُصِرٌّ عَلَى اعْتِقَادِهِ كَمَا كَانَ فَيَكُونُ دَافِعًا بِدِيَانَتِهِ إلْزَامَ الْغَيْرِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا تَرَافَعَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ الْتَزَمَا حُكْمَ الْإِسْلَامِ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ فَيَجْرِي عَلَيْهِمَا. هَذَا أَيْ مَا أَجَبْنَا عَنْ فَصْلِ النَّفَقَةِ جَوَابٌ قَدْ قِيلَ. فَكَأَنَّهُ رحمه الله لَمْ يَرْضَ بِهَذَا الْجَوَابِ؛ لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَمْ يُسَلِّمَا أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ بِطَرِيقِ الدَّفْعِ وَجَعَلَاهَا صِلَةً مُبْتَدَأَةً كَالنِّكَاحِ وَسَبَبُهَا النِّكَاحُ أَيْضًا كَمَا أَنَّ سَبَبَ الْمِيرَاثِ وَهُوَ النِّكَاحُ فَلِذَلِكَ اخْتَارَ جَوَابًا آخَرَ وَأَشَارَ إلَى فَسَادِ هَذَا الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ الْجَوَابُ الصَّحِيحُ عِنْدِي عَنْ فَصْلِ النَّفَقَةِ إنَّهُمَا لَمَّا تَنَاكَحَا فَقَدْ دَانَا بِصِحَّتِهِ فَأَخَذَ الزَّوْجُ بِدِيَانَتِهِ؛ لِأَنَّ دِيَانَتَهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ. وَلَمْ تَصِحَّ مُنَازَعَةَ الزَّوْجِ فِي مَنْعِ النَّفَقَةِ بِدَعْوَى فَسَادِ النِّكَاحِ مِنْ بَعْدِ أَيْ مِنْ بَعْدَ مَا أَقْدَمَ عَلَى التَّزَوُّجِ وَدَانَ بِصِحَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ مُوجِبَ النِّكَاحِ حِينَ أَقْدَمَ عَلَيْهِ فَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ بِدُونِ رِضَا صَاحِبِ الْحَقِّ. بِخِلَافِ مُنَازَعَةِ مَنْ لَيْسَ فِي نِكَاحِهِمَا فِي مَسْأَلَةِ الْإِرْثِ وَهِيَ الْبِنْتُ الْأُخْرَى. لِأَنَّهَا لَمْ تَلْزَمْ هَذِهِ الدِّيَانَةُ أَيْ الدِّيَانَةُ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ حَيْثُ نَازَعَتْ فِي الْإِرْثِ وَلَمْ يَسْبِقْ مِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الِالْتِزَامِ.
وَقَوْله وَأَمَّا الْقَاضِي جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّ دِيَانَتَهُ لَوْ صَلُحَتْ حُجَّةً عَلَيْهِ فِي الْإِيجَابِ لَمْ يَصْلُحْ حُجَّةً عَلَى الْقَاضِي فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْخُصُومَةِ فَكَانَتْ دِيَانَتُهُ مُتَعَدِّيَةً إلَيْهِ فَقَالَ إنَّمَا لَزِمَ الْقَاضِي الْقَضَاءُ بِالتَّقَلُّدِ دُونَ الْخُصُومَةِ فَلَا يَكُونُ الْخُصُومَةُ مُلْزِمَةً عَلَيْهِ بَلْ تَكُونُ شَرْطًا قَوْله (وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَكَذَلِكَ قَالَا أَيْضًا) أَيْ قَالَا كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله إنَّ دِيَانَتَهُمْ دَافِعَةٌ لِلتَّعَرُّضِ وَدَافِعَةٌ لِلتَّعَرُّضِ لِدَلِيلِ الشَّرْعِ فِي الْأَحْكَامِ فَيَبْقَى الْحُكْمُ الثَّابِتُ قَبْلَ الْخِطَابِ عَلَى مَا كَانَ فِي حَقِّهِمْ لَكِنَّ هَذَا فِي كُلِّ حُكْمٍ كَانَ أَصْلِيًّا قَبْلَ الْخِطَابِ عَلَى وَجْهٍ لَوْ لَمْ يَرِدْ الْخِطَابُ لَبَقِيَ مَشْرُوعًا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَّا فِي حُكْمٍ ضَرُورِيٍّ لَمْ يَثْبُتْ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ فِي شَرِيعَةٍ قَطُّ وَلَوْ لَمْ يَرِدْ الْخِطَابُ فِي شَرِيعَتِنَا لَمْ يُمْكِنْ إبْقَاؤُهُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَلَا. فَتَقَوُّمُ الْخَمْرِ وَإِبَاحَةُ شُرْبِهَا وَتَقُومُ الْخِنْزِيرِ وَإِبَاحَتُهُ كَانَتْ أَحْكَامًا أَصْلِيَّةً قَبْلَ شَرِيعَتِنَا فَبِقُصُورِ الدَّلِيلِ بِسَبَبِ دِيَانَتِهِمْ يُمْكِنُ أَنْ يَبْقَى عَلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ أَيْ عَلَى التَّقَوُّمِ وَالْإِبَاحَةِ فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِتَقَوُّمِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فِي حَقِّهِمْ وَبِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى مُتْلِفِهِمَا وَبِصِحَّةِ تَصَرُّفَاتِهِمْ فِيهِمَا كَمَا قَالَ
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ اسْتِبْقَاؤُهُ بِقَصْرِ الدَّلِيلِ وَلِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ مِنْ جِنْسِ مَا يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَصِيرَ قِيَامُ دَلِيلِ التَّحْرِيمِ شُبْهَةً وَبِالْقَضَاءِ بِالنَّفَقَةِ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ بَاطِلٌ لِمَا قُلْنَا. وَأَمَّا عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ فَلِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الصِّلَاتِ الْمُسْتَحَقَّةِ ابْتِدَاءً حَتَّى لَمْ يُشْتَرَطْ لَهَا حَاجَةُ الْمُسْتَحِقِّ.
وَالْجَوَابُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الْحَاجَةَ الدَّائِمَةَ بِدَوَامِ الْجِنْسِ لَا يَرُدُّهَا الْمَالُ الْمُقَدَّرُ فَتَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ لَا مَحَالَةَ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ رحمه الله فَإِنَّهُ جَعَلَ الدِّيَانَةَ دَافِعَةً لِلتَّعَرُّضِ لَا غَيْرُ حَتَّى لَا يُحَدُّ الذِّمِّيُّ بِشُرْبِ الْخَمْرِ فَأَمَّا سَائِرُ الْأَحْكَامِ فَلَا يَثْبُتُ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ تَقْوِيمَ الْأَمْوَالِ وَإِحْصَانَ النُّفُوسِ مِنْ بَابِ الْعِصْمَةِ وَتَفْسِيرُ الْعِصْمَةِ الْحِفْظُ فَيَكُونُ فِي تَحْقِيقِ الْعِصْمَةِ بِدِيَانَتِهِمْ حِفْظٌ عَنْ التَّعَرُّضِ أَيْضًا وَقَدْ بَيَّنَّا مَا يَبْطُلُ بِهِ مَذْهَبُهُ وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا قُلْنَا مِنْ بَابِ الدَّفْعِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ اسْتِحْلَالُهُمْ الرِّبَا
ــ
[كشف الأسرار]
أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله. فَأَمَّا نِكَاحُ الْمَحَارِمِ فَلَمْ يَكُنْ أَصْلِيًّا فِي شَرِيعَةٍ وَإِنَّمَا شُرِعَ فِي شَرِيعَةِ آدَمَ عليه السلام بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أُخْتُهُ مِنْ بَطْنِهِ وَإِنَّمَا كَانَ يَحِلُّ لَهُ أُخْتُهُ مِنْ بَطْنٍ آخَرَ وَلَمْ يَبْقَ مَشْرُوعًا بَعْدَهُ فَعُلِمَ أَنَّهُ كَانَ ضَرُورِيًّا.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَيْ كَانَ جَوَازُ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ غَيْرَ أَصْلِيٍّ لَمْ يَجُزْ اسْتِبْقَاءُ جَوَازِهِ أَوْ حِلِّهِ لِقِصَرِ الدَّلِيلِ أَيْ بِسَبَبِ قُصُورِهِ عَنْهُمْ. فَهَذَا الطَّرِيقُ يَقْتَضِي عَدَمَ صِحَّةِ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ فِي حَقِّهِمْ إلَّا أَنَّا لَمَّا أُمِرْنَا بِتَرْكِ التَّعَرُّضِ لَهُمْ لَمْ نَمْنَعْهُمْ عَنْ ذَلِكَ كَمَا لَمْ نَمْنَعْهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ. فَإِذَا رَفَعَ أَحَدُهُمَا الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِالْفَسْخِ لِفَسَادِ النِّكَاحِ. وَإِذَا وَطِئَهَا بِهَذَا النِّكَاحِ سَقَطَ إحْصَانُهُ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ. وَلِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ يَعْنِي وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهِ أَيْضًا. لِأَنَّ قِيَامَ دَلِيلِ التَّحْرِيمِ أَيْ تَحْرِيمَ الشَّرْعِ الْمَحَارِمَ عَامًّا يَصِيرُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْ الْقَاذِفِ فَإِنَّ فِي زَعْمِ الْقَاذِفِ أَنَّهُ صَادِقٌ فِي قَوْلِهِ يَا زَانٍ لِقِيَامِ دَلِيلِ الْحُرْمَةِ وَإِنْ كَانَ فِي زَعْمِ الْمَقْذُوفِ أَنَّهُ كَاذِبٌ.
وَهَذَا الطَّرِيقُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ. وَالْقَضَاءُ بِالنَّفَقَةِ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَنَّ نِكَاحَ الْمَحَارِمِ لَيْسَ بِأَمْرٍ أَصْلِيٍّ بَاطِلٍ لِمَا قُلْنَا إنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ أَصْلِيًّا لَمْ يَجُزْ اسْتِبْقَاؤُهُ لِقُصُورِ الدَّلِيلِ فَلَا يُوجِبُ النَّفَقَةَ لِفَسَادِهِ كَالْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ الثَّانِي فَكَذَا يَعْنِي أَنَّ الطَّرِيقَ الثَّانِي هُوَ أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ وَالْحَدَّ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ وَإِنْ كَانَ يَقْتَضِي أَنْ يَصِحَّ الْقَضَاءُ بِالنَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ لَكِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَيْضًا عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ مِنْ جِنْسِ الصِّلَاتِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِالنِّكَاحِ ابْتِدَاءً كَالْمِيرَاثِ لَا أَنَّهَا تَجِبُ بِطَرِيقِ الدَّفْعِ كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجِ حَاجَةَ الْمَرْأَةِ إلَيْهَا فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ غَنِيَّةً فَائِقَةً فِي الْيَسَارِ تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ عَلَى الزَّوْجِ وَلَوْ كَانَ وُجُوبُهَا بِطَرِيقِ الدَّفْعِ لَمَا وَجَبَتْ عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ بِوُجُودِ الْيَسَارِ كَمَا لَا يَجِبُ نَفَقَةُ الصَّغِيرِ عَلَى الْأَبِ وَنَفَقَةُ الْأَبَوَيْنِ عَلَى الْوَلَدِ إذَا كَانَ لَهُمْ مَالٌ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِإِيجَابِهَا عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ دِيَانَتَهَا تَصِيرُ حِينَئِذٍ مُوجِبَةً كَمَا قُلْنَا جَمِيعًا فِي مَسْأَلَةِ الْمِيرَاثِ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ.
وَالْجَوَابُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله عَنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْحَاجَةَ الدَّائِمَةَ بِدَوَامِ الْحِسِّ لَا يَرُدُّهَا الْمَالُ الْمُقَدَّرُ يَعْنِي أَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ غَنِيَّةً تَحْتَاجُ إلَى النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ احْتِبَاسَهَا لَحِقَهُ عَلَى الدَّوَامِ وَمَالُهَا وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا مُقَدَّرٌ فَلَا يَفِي بِالْحَاجَةِ الدَّائِمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى مَعَ دَوَامِ الْحَبْسِ فَثَبَتَ أَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ بِطَرِيقِ الدَّفْعِ كَمَا قُلْنَا.
وَلَمَّا لَمْ يَحِلَّ هَذَا لِجَوَابٍ عَنْ تَكَلُّفٍ اخْتَارَ الشَّيْخُ فِي فَصْلِ النَّفَقَةِ جَوَابًا آخَرَ كَمَا بَيَّنَّا.
قَوْلُهُ (وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ رحمه الله فَإِنَّهُ جَعَلَ الدِّيَانَةَ دَافِعَةً لِلتَّعَرُّضِ لَا غَيْرُ) يَعْنِي لَمْ يَجْعَلْهَا دَافِعَةً لِلْخِطَابِ؛ لِأَنَّ خِطَابَ التَّحْرِيمِ تَنَاوَلَ الْكَافِرَ كَمَا تَنَاوَلَ الْمُسْلِمَ وَقَدْ بَلَغَهُ الْخِطَابُ حَقِيقَةً أَوْ تَقْدِيرًا بِالْإِشَاعَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ وَإِنْكَارُهُ تَعَنُّتٌ وَجَهْلٌ وَالْجَهْلُ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ لَيْسَ بِعُذْرٍ رَفْعُ التَّعَنُّتِ أَوْلَى إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَنَا أَنْ لَا نَتَعَرَّضَ لَهُمْ بِسَبَبِ عَقْدِ الذِّمَّةِ وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا دَانُوا بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ كَمَا لَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا دَانُوا مِنْ الْكُفْرِ فَمَا يَرْجِعُ إلَى التَّعَرُّضِ مِنْ الْأَحْكَامِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِمْ وَمَا لَا يَرْجِعُ