المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ الِاسْتِحْسَانِ]

- ‌[أَقْسَامُ الِاسْتِحْسَانِ]

- ‌[بَابُ أَحْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الِاجْتِهَادِ وَالْكَلَامُ فِي شَرْطِهِ وَحُكْمِهِ]

- ‌[شَرْطُ الِاجْتِهَادِ]

- ‌[حُكْمُ الِاجْتِهَاد]

- ‌(بَابُ فَسَادِ تَخْصِيصِ الْعِلَلِ)

- ‌(بَابُ وُجُوهِ دَفْعِ الْعِلَلِ)

- ‌[أَقْسَام الْعِلَل]

- ‌[الْعِلَل الْمُؤْثَرَة وَطُرُق دُفَعهَا]

- ‌[دَفْعِ الْعِلَل الْمُؤْثَرَة بِطَرِيقِ فاسد وَطَرِيق صَحِيح]

- ‌(بَابُ الْمُمَانَعَةِ)

- ‌بَابُ الْمُعَارَضَةِ)

- ‌[النَّوْعُ الْأَوَّلِ الْمُعَارَضَةُ الَّتِي فِيهَا مُنَاقَضَةٌ]

- ‌[النَّوْعُ الثَّانِي الْمُعَارَضَة الْخَالِصَة]

- ‌بَابُ بَيَانِ وُجُوهِ دَفْعِ الْمُنَاقَضَةِ) :

- ‌بَابُ التَّرْجِيحِ) :

- ‌[الْقِسْمُ الْأَوَّل تَفْسِيرِ التَّرْجِيحِ وَمَعْنَاهُ]

- ‌[الْقِسْمُ الثَّانِي التَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ الْأَثَرِ]

- ‌[الْقِسْمُ الثَّالِثُ بَيَانُ الْمُخَلِّصِ فِي تَعَارُضِ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ]

- ‌[الْقِسْمُ الرَّابِعِ بَيَانُ الْفَاسِدِ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ تَرْجِيحُ الْقِيَاسِ بِقِيَاسٍ آخَرَ]

- ‌(بَابُ وُجُوهِ دَفْعِ الْعِلَلِ الطَّرْدِيَّةِ)

- ‌ الْقَوْلُ بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ

- ‌ الْمُمَانَعَةُ

- ‌ فَسَادُ الْوَضْعِ

- ‌ الْمُنَاقَضَةُ

- ‌ بَابُ وُجُوهِ الِانْتِقَالِ) :

- ‌بَابُ مَعْرِفَةِ أَقْسَامِ الْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ وَالشُّرُوطِ

- ‌(بَابُ تَقْسِيمِ السَّبَبِ)

- ‌بَابُ تَقْسِيمِ الْعِلَّةِ)

- ‌(بَابُ تَقْسِيمِ الشَّرْطِ)

- ‌بَابُ تَقْسِيمِ الْعَلَامَةِ) :

- ‌(بَابُ بَيَانِ الْعَقْلِ) :

- ‌(بَابُ بَيَانِ الْأَهْلِيَّةِ) :

- ‌[أضرب الْأَهْلِيَّة]

- ‌(بَابُ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ)

- ‌(بَابُ الْأُمُورِ الْمُعْتَرِضَةِ عَلَى الْأَهْلِيَّةِ) :

- ‌بَابُ الْعَوَارِضِ) (الْمُكْتَسَبَةِ) :وَهِيَ نَوْعَانِ

- ‌[النَّوْع الْأَوَّل مِنْ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ]

- ‌جَهْلُ صَاحِبِ الْهَوَى فِي صِفَاتِ اللَّهِ عز وجل وَأَحْكَامِ الْآخِرَةِ

- ‌ الْجَهْلُ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ الصَّحِيحِ أَوْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ

- ‌ الْجَهْلُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ مُسْلِمٍ لَمْ يُهَاجِرْ

- ‌[فَصْلٌ السُّكْر قسمان] [

- ‌الْقَسْم الْأَوَّل السُّكْر بِطَرِيقِ مُبَاح]

- ‌[الْقَسْم الثَّانِي السُّكْر بِطَرِيقِ غَيْر مُبَاح]

- ‌[فَصْلُ الْهَزْلِ مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ]

- ‌[السَّفَه مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ]

- ‌[السَّفَر مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ]

- ‌[الْخَطَأُ مِنْ الْعَوَارِض الْمُكْتَسِبَة]

الفصل: ‌(باب بيان العقل) :

فَإِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ثُمَّ جَاءَ بِبَيِّنَةٍ يَشْهَدُونَ عَلَى الزِّنَا قَبِلْنَاهَا وَأَقَمْنَا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ حَدَّ الزِّنَا وَأَبْطَلْنَا عَلَى الْقَاذِفِ رَدَّ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ كَانَ تَقَادَمَ الْعَهْدُ لَمْ نُقِمْ الْحَدَّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَأَبْطَلْنَا رَدَّ الشَّهَادَةِ عَنْ الْقَاذِفِ كَذَلِكَ، كَذَلِكَ ذَكَرَهُ فِي الْمُنْتَقَى غَيْرَ فَصْلِ التَّقَادُمِ وَيَتَّصِلُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ.

(بَابُ بَيَانِ الْعَقْلِ) :

وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ أَهْلِيَّةِ الْبَشَرِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْعَقْلِ أَهُوَ مِنْ الْعِلَلِ الْمُوجِبَةِ أَمْ لَا فَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ إنَّ الْعَقْلَ عِلَّةٌ مُوجِبَةٌ لِمَا اسْتَحْسَنَهُ مُحَرِّمَةٌ

ــ

[كشف الأسرار]

قَوْلِهِ إنْ لَمْ آتِ النُّصْرَةَ فَكَذَا لَا يَتَحَقَّقُ الْعَدَمُ إلَّا فِي آخِرِ الْعُمُرِ لِاحْتِمَالِ وُجُودِ الْإِتْيَانِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ الْعَجْزُ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ فَقَالَ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ حُكْمٍ قَدْ ظَهَرَ وَهُوَ الْحَدُّ وَرَدُّ الشَّهَادَةِ يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ فِي الْحَالِ لِأَجْلِ مَا يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَى إقَامَةِ الشُّهُودِ لِأَنَّ الشَّرْطَ هُوَ الْعَجْزُ الْخَالِي كَمَا فِي الْكَفَّارَاتِ لَا الْعَجْزُ فِي جَمِيعِ الْعُمُرِ إذْ لَوْ شُرِطَ الْعَجْزُ فِي الْعُمُرِ لَمْ يَبْقَ لِإِيجَابِ الْحَدِّ وَرَدِّ الشَّهَادَةِ فَائِدَةٌ إذْ لَا يُمْكِنُ إقَامَتُهُمَا عَلَى الْقَاذِفِ بَعْدَ مَوْتِهِ قَوْلُهُ (فَإِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْقَاذِفِ الْحَدُّ يَعْنِي لَمَّا ظَهَرَ عَجْزُهُ وَأُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ رِعَايَةً لِجَانِبِ الْمَقْذُوفِ لَمْ يَبْطُلْ احْتِمَالُ الْحِسْبَةِ بِالْكُلِّيَّةِ رِعَايَةً لِجَانِبِ الْقَاذِفِ أَيْضًا حَتَّى لَوْ جَاءَ بِبَيِّنَةٍ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ وَرَدِّ الشَّهَادَةِ يَشْهَدُونَ عَلَى زِنَا الْمَقْذُوفِ يُقْبَلُ وَيُقَامُ حَدُّ الزِّنَا عَلَى الْمَقْذُوفِ إنْ لَمْ يَتَقَادَمْ الْعَهْدُ وَيَصِيرُ الْقَاذِفُ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ سُقُوطَ الشَّهَادَةِ كَانَ بِحَسْبِ ظُهُورِ عَجْزِهِ وَهُوَ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَجْزَ لَمْ يَكُنْ مُتَحَقِّقًا وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ لِعَدَمِ الشَّرْطِ وَإِنْ كَانَ تَقَادَمَ الْعَهْدُ لَمْ نُقِمْ الْحَدَّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لِأَنَّ التَّقَادُمَ مَانِعٌ مِنْ الْقَبُولِ فِي حَقِّ الْحَدِّ وَأَبْطَلْنَا رَدَّ الشَّهَادَةِ عَنْ الْقَاذِفِ لِعَدَمِ تَأْثِيرِ التَّقَادُمِ فِيهِ بِالْمَنْعِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ بِسَرِقَةٍ تُقْبَلُ فِي حَقِّ الْمَالِ وَلَا تُقْبَلُ فِي حَقِّ الْحَدِّ.

كَذَلِكَ ذَكَرَهُ فِي الْمُنْتَقَى أَيْ مِثْلُ مَا أَجَبْنَا ذَكَرَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ أَبُو الْفَضْلِ الْمَرْوَزِيِّ الْجَوَابَ فِي الْمُنْتَقَى غَيْرَ فَصْلِ تَقَادُمِ الْعَهْدِ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ أَيْ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ مَذْكُورٌ فِيهِ دُونَ الثَّانِي هَذَا هُوَ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ ظَاهِرِ هَذَا الْكَلَامِ

وَالْمَفْهُومُ مِنْ سِيَاقِ كَلَامِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ رحمه الله أَنَّ التَّقَادُمَ مَذْكُورٌ فِي الْمُنْتَقَى أَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ وَإِنْ تَقَادَمَ الْعَهْدُ يَصِيرُ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ أَوْرَدَ ذَلِكَ فِي الْمُنْتَقَى رِوَايَةً عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَوْ مُحَمَّدٍ هَذَا قَوْلُ أَحَدِهِمَا وَقَوْلُ الْآخَرِ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ لِأَنَّ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ حُكْمٌ بِكَذِبِ الشُّهُودِ فِي شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْمَقْذُوفِ بِالزِّنَا وَكُلُّ شَهَادَةٍ جَرَى الْحُكْمُ بِتَعَيُّنِ جِهَةِ الْكَذِبِ فِيهَا لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً أَصْلًا كَالْفَاسِقِ إذَا شَهِدَ فِي حَادِثَةٍ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ ثُمَّ أَعَادَهَا بَعْدَ التَّوْبَةِ قَوْلُهُ (وَيَتَّصِلُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ) أَيْ بِبَيَانِ الْأَحْكَامِ الْمَشْرُوعَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ الْمَشْرُوعَةُ مِنْ السَّبَبِ وَالْعِلَّةِ وَالشَّرْطِ وَالْعَلَامَةِ.

[بَابُ بَيَانِ الْعَقْلِ]

لِأَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ لَا تَثْبُتُ فِي حَقِّ عَدِيمِ الْعَقْلِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ أَوْ يَتَّصِلُ بِجَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَوَّلِ الْكِتَابِ إلَى هَاهُنَا بَابُ بَيَانِ الْعَقْلِ لِأَنَّهَا بَيَانُ خِطَابَاتِ الشَّارِعِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا وَالْخِطَابُ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ فَكَانَ بَيَانُ الْعَقْلِ وَأَحْكَامُهُ مِنْ اللَّوَازِمِ (قَوْلُهُ اخْتَلَفَ النَّاسُ) أَيْ أَهْلُ الْقِبْلَةِ فِي كَذَا فَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: الْعَقْلُ عِلَّةٌ مُوجِبَةٌ لِمَا اسْتَحْسَنَهُ مِثْلَ مَعْرِفَةِ الصَّانِعِ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَمَعْرِفَةِ نَفْسِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ وَشُكْرِ الْمُنْعِمِ وَإِنْقَاذِ الْغَرْقَى وَالْحَرْقَى مُحَرِّمَةٌ لِمَا اسْتَقْبَحَهُ مِثْلَ الْجَهْلِ بِالصَّانِعِ جل جلاله وَالْكُفْرَانِ بِنَعْمَائِهِ وَالْعَبَثِ وَالسَّفَهِ وَالظُّلْمِ عَلَى الْقَطْعِ وَالْبَتَاتِ

ص: 229

لِمَا اسْتَقْبَحَهُ عَلَى الْقَطْعِ وَالْبَتَاتِ فَوْقَ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَمْ يُجَوِّزُوا أَنْ يَثْبُتَ بِدَلِيلِ الشَّرْعِ مَا لَا يُدْرِكُهُ الْعُقُولُ أَوْ تُقَبِّحُهُ وَجَعَلُوا الْخِطَابَ مُتَوَجِّهًا بِنَفْسِ الْعَقْلِ وَقَالُوا لَا عُذْرَ لِمَنْ عَقَلَ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا فِي الْوَقْفِ عَنْ الطَّلَبِ وَتَرْكِ الْإِيمَانِ وَقَالُوا الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ مُكَلَّفٌ عَلَى الْإِيمَانِ وَقَالُوا فِيمَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ فَلَمْ يَعْتَقِدْ إيمَانًا وَلَا كُفْرًا وَغَفَلَ عَنْهُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَقَالَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ أَنْ لَا عِبْرَةَ بِالْعَقْلِ أَصْلًا دُونَ السَّمْعِ وَإِذَا جَاءَ السَّمْعُ فَلَهُ الْعِبْرَةُ لَا لِلْعَقْلِ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله

ــ

[كشف الأسرار]

فَوْقَ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ لِأَنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ لَيْسَتْ بِمُوجِبَةٍ لِذَوَاتِهَا بَلْ هِيَ أَمَارَاتٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَيَجْرِي فِيهَا النَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ وَالْعَقْلُ بِذَاتِهِ مُوجِبٌ وَمُحَرِّمٌ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْرِيَ فِيهَا التَّبْدِيلُ فَكَانَ فِي الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ فَوْقَ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَالْمُرَادُ مِنْ الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ فِيهِ أَنَّ الشَّرْعَ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَارِدًا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِالْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ لَحَكَمَ الْعَقْلُ بِوُجُوبِهَا وَحُرْمَتِهَا وَلَمْ يَتَوَقَّفْ ثُبُوتُهُمَا عَلَى السَّمْعِ وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ نُورُ الدِّينِ الصَّابُونِيُّ رحمه الله فِي الْكِفَايَةِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ وُجُوبِ الْإِيمَانِ وَحُرْمَةِ الْكُفْرِ بِالْعَقْلِ لَيْسَ اسْتِحْقَاقُ الثَّوَابِ بِفِعْلِهِ أَوْ الْعِقَابِ بِتَرْكِهِ إذْ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ لَا يُعْرَفَانِ إلَّا بِوُرُودِ السَّمْعِ وَلَيْسَ فِي الْعَقْلِ إمْكَانُ الْوُقُوفِ عَلَيْهِمَا فَكَيْفَ يُحْكَمُ بِاللُّزُومِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ لَكِنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْوُجُوبِ أَنْ يَثْبُتَ فِي الْعَقْلِ نَوْعُ تَرْجِيحٍ لِلْإِيمَانِ بِرَبِّهِ وَالِاعْتِرَافِ بِخَالِقِهِ وَإِضَافَةِ وُجُودِهِ وَبَقَائِهِ إلَى إيجَادِهِ وَإِبْقَائِهِ وَمِنْ الْحُرْمَةِ أَنْ يَثْبُتَ نَوْعُ تَرْجِيحٍ لِلْمَنْعِ عَنْ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ مَالِكِهِ وَاعْتِرَافٌ بِالْأُلُوهِيَّةِ لِغَيْرِ خَالِقِهِ بِحَيْثُ لَا يَحْكُمُ الْعَقْلُ أَنَّ التَّرْكَ وَالْإِتْيَانَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ بَلْ نَعْقِلُ ضَرُورَةَ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ يُوجِبُ نَوْعَ مِدْحَةٍ وَالِامْتِنَاعَ عَنْهُ يُوجِبُ نَوْعَ لَائِمَةٍ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ ذَلِكَ يَعْنِي يَعْرِفُ بِالْعَقْلِ تَرْجِيحَ جَانِبِ الْوُجُودِ أَوْ الْعَدَمِ وَلَا يَعْرِفُ أَنَّ الْجَزَاءَ هُوَ الْجَنَّةُ أَوْ النَّارُ أَوْ غَيْرُهُمَا وَكَذَا الشُّكْرُ إظْهَارُ النِّعْمَةِ مِنْ الْمُنْعِمِ وَمَتَى عَرَفَ أَنَّ الْكُلَّ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْكُفْرَانُ عَلَى مَعْنَى أَنَّ عَقْلَهُ يَمْنَعُهُ أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يُجَوِّزُوا أَنْ يَثْبُتَ بِدَلِيلِ الشَّرْعِ مَا لَا تُدْرِكُهُ الْعُقُولُ أَوْ تُقَبِّحُهُ فَأَنْكَرُوا ثُبُوتَ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ بِالنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا قَائِلِينَ بِأَنَّ رُؤْيَةَ مَوْجُودٍ بِلَا جِهَةٍ وَكَيْفَ مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلرُّؤْيَةِ مِنْ جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَمَسَافَةٍ مُقَدَّرَةٍ لَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ وَلَا فِي غَايَةِ الْقُرْبِ مِمَّا لَا يَهْتَدِي إلَيْهِ الْعَقْلُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ بِثُبُوتِهَا النَّصُّ.

وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ الْمُتَشَابِهَ مِمَّا لَا حَظَّ لِلرَّاسِخِينَ فِيهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ إنْزَالُ الْمُتَشَابِهِ أَمْرًا بِاعْتِقَادِ مَا لَا يُدْرِكُهُ الْعَقْلُ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَأَنْكَرُوا أَنْ تَكُونَ الْقَبَائِحُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي دَاخِلَةً تَحْتَ إرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ وَلِأَنَّ إضَافَتَهَا إلَى إرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ مِمَّا يُقَبِّحُهُ الْعُقُولُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بِذَلِكَ وَجَعَلُوا الْخِطَابَ أَيْ التَّكْلِيفَ بِالْإِيمَانِ مُتَوَجِّهًا بِنَفْسِ الْعَقْلِ لِأَنَّ الْعَقْلَ أَصْلٌ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ عِنْدَهُمْ فَوْقَ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ فَإِذَا صَارَ الْإِنْسَانُ بِحَالٍ يَحْتَمِلُ عَقْلُهُ الِاسْتِدْلَالَ بِالشَّاهِدِ عَلَى الْغَائِبِ فَقَدْ تَحَقَّقَتْ الْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ فِي حَقِّهِ فَيَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ التَّكْلِيفُ بِالْإِيمَانِ ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَقَالُوا لَا عُذْرَ لِمَنْ عَقَلَ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا فِي الْوَقْفِ أَيْ الْوُقُوفِ عَنْ طَلَبِ الْحَقِّ وَتَرْكِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ عز وجل فَكَانَ الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ مُكَلَّفًا بِالْإِيمَانِ وَكَانَ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ أَصْلًا وَنَشَأَ عَلَى شَاهِقِ جَبَلٍ فَلَمْ يَعْتَقِدْ إيمَانًا وَلَا كُفْرًا وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لِوُجُودِ مَا يُوجِبُ الْإِيمَانَ فِي حَقِّهِ وَهُوَ الْعَقْلُ وَقَالَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ لَا عِبْرَةَ بِالْعَقْلِ أَصْلًا يَعْنِي لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي مَعْرِفَةِ حُسْنِ الْأَشْيَاءِ وَقُبْحِهَا بِدُونِ السَّمْعِ وَلَا أَثَرَ لَهُ فِي إيجَابِ الْأَشْيَاءِ وَتَحْرِيمِهَا بِحَالٍ بَلْ الْمُوجِبُ هُوَ السَّمْعُ حَتَّى أَبْطَلُوا إيمَانَ الصَّبِيِّ لِعَدَمِ وُرُودِ الشَّرْعِ فِي حَقِّهِ وَعَدَمِ اعْتِبَارِ عَقْلِهِ فَكَانَ إيمَانُهُ مِثْلَ إيمَانِ

ص: 230

حَتَّى أَبْطَلُوا إيمَانَ الصَّبِيِّ وَقَالَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ فِيمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ فَغَفَلَ عَنْ الِاعْتِقَادِ حَتَّى هَلَكَ إنَّهُ مَعْذُورٌ قَالُوا وَلَوْ اعْتَقَدَ الشِّرْكَ وَلَمْ يَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ أَنَّهُ مَعْذُورٌ أَيْضًا وَهَذَا الْفَصْلُ أَعْنِي أَنْ يَجْعَلَ شِرْكَهُ مَعْذُورًا تَجَاوَزَ عَنْ الْحَدِّ كَمَا تَجَاوَزَتْ الْمُعْتَزِلَةُ عَنْ الْحَدِّ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ وَالْقَوْلُ الصَّحِيحُ فِي الْبَابِ هُوَ قَوْلُنَا إنَّ الْعَقْلَ مُعْتَبَرٌ لِإِثْبَاتِ الْأَهْلِيَّةِ

ــ

[كشف الأسرار]

صَبِيٍّ غَيْرِ عَاقِلٍ فَلَا يُعْتَبَرُ كَمَا تَجَاوَزَتْ الْمُعْتَزِلَةُ عَنْ الْحَدِّ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ بِقَوْلِهِمْ فِيمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ وَغَفَلَ عَنْ اعْتِقَادِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ تَمَسَّكَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ فِيمَا ذَهَبُوا إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] نَفَى الْعَذَابَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَلَمَّا انْتَفَى الْعَذَابُ عَنْهُمْ انْتَفَى عَنْهُمْ حُكْمُ الْكُفْرِ وَبَقُوا عَلَى الْفِطْرَةِ.

وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] أَخْبَرَ أَنَّ الْحُجَّةَ كَانَتْ قَائِمَةً لَهُمْ قَبْلَ الرُّسُلِ عَلَى تَرْكِهِمْ لِلْإِيمَانِ فَلَوْ كَانَ الْعَقْلُ قَبْلَ السَّمْعِ مُوجِبًا لَكَانَتْ حُجَّةُ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ بَعْثَةِ الرُّسُلِ تَامَّةً فِي حَقِّهِمْ وَبِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ خَزَنَةَ النَّارِ يَقُولُونَ لِلْكَافِرِينَ {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] فَيَقُولُونَ بَلَى فَتَلْزَمُهُمْ الْحُجَّةُ فَأَلْزَمَهُمْ اسْتِيجَابَهُمْ النَّارَ بِالرُّسُلِ لَا بِالْعُقُولِ وَحْدَهَا وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} [الأنعام: 131] أَخْبَرَ أَنَّ الْإِهْلَاكَ بِالْعَذَابِ قَبْلَ إرْسَالِ الرُّسُلِ كَانَ ظُلْمًا وَلَوْ كَانَ الْعَقْلُ بِنَفْسِهِ حُجَّةً لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَبِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْهَوَى غَالِبًا فِي النُّفُوسِ شَاغِلًا لِلْعُقُولِ بِعَاجِلِ الْمَنَافِعِ وَالْحُظُوظِ فَيَخْرُجُ الْإِنْسَانُ عَلَى مَا عَلَيْهِ أَصْلُ الْبِنْيَةِ فِي فَكِّ عَقْلِهِ عَنْ أَسْرِ الْهَوَى وَتَنْبِيهِ قَلْبِهِ عَنْ نَوْمِ الْغَفْلَةِ بِلَا شَرْعٍ حَرَجًا أَكْثَرَ مِنْ حَرَجِ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ بِسَبَبِ نُقْصَانِ عَقْلِهِ لِإِدْرَاكِ مَا يُدْرِكُهُ الْبَالِغُ ثُمَّ ذَلِكَ الْعُذْرُ أَسْقَطَ عَنْ الصَّبِيِّ وُجُوبَ الِاسْتِدْلَالِ بِعَقْلِهِ وَأَسْقَطَ عَنْهُ الْخِطَابَ فَلَأَنْ يَسْقُطَ الِاسْتِدْلَال بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ قَبْلَ إعَانَةِ الْوَحْيِ كَانَ أَوْلَى وَتَمَسَّكَ مَنْ جَعَلَ الْعَقْلَ حُجَّةً مُوجِبَةً بِدُونِ السَّمْعِ بِقِصَّةِ إبْرَاهِيمَ عليه السلام فَإِنَّهُ قَالَ لِأَبِيهِ {إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 74] .

وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ قَبْلَ الْوَحْيِ فَإِنَّهُ قَالَ أَرَاك وَلَمْ يَقُلْ أُوحِيَ إلَيَّ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْعَقْلُ بِنَفْسِهِ حُجَّةً وَكَانُوا مَعْذُورِينَ لَمَا كَانُوا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ وَكَذَلِكَ اسْتَدَلَّ بِالنُّجُومِ فَعَرَفَ رَبَّهُ مِنْ غَيْرِ وَحْيٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالَ مِنْهُ حُجَّةً عَلَى قَوْمِهِ بِقَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام: 83] وَبِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَاتَبَ الْكُفَّارَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بِأَنْ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ وَأَخْبَرَ أَنَّ قُلُوبَهُمْ عُمْيٌ بِتَرْكِ التَّأَمُّلِ وَلَوْ كَانُوا مَعْذُورِينَ لَمَّا عُوتِبُوا بِمُطْلَقِ التَّرْكِ وَبِأَنَّ اللَّهَ قَالَ {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] وَلَمْ يَقُلْ نُسْمِعُهُمْ وَنُوحِي إلَيْهِمْ.

وَقَالَ {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} [الروم: 8] أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات: 20]{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] فِي شَوَاهِدَ لَهَا كَثِيرَةٍ فَثَبَتَ أَنَّ وُجُوبَ الِاسْتِدْلَالِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْوَحْيِ وَأَنَّ الْعُذْرَ يَنْقَطِعُ بِالْعَقْلِ وَحْدَهُ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ بِهِ كِفَايَةُ الْمَعْرِفَةِ لَمَا انْقَطَعَ بِهِ الْعُذْرُ، وَبِأَنَّ الْمُعْجِزَةَ بَعْدَ الدَّعْوَةِ لَا تُعْرَفُ إلَّا بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ وَآيَاتُ الْحَدَثِ فِي الْعَالَمِ أَدَلُّ عَلَى الْمُحْدِثِ مِنْ عَلَامَاتِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى أَنَّهَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمَّا كَانَ بِالْعَقْلِ كِفَايَةُ مَعْرِفَةِ الْمُعْجِزَةِ وَالرِّسَالَةِ كَانَ بِهِ كِفَايَةُ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى وَلَمَّا كَانَ بِالْعَقْلِ كِفَايَةٌ كَانَ بِنَفْسِهِ حُجَّةٌ بِدُونِ الشَّرْعِ وَلَزِمَ الْعَمَلُ بِهِ كَمَا يَجِبُ وَبِالشَّرْعِ وَبِسَائِرِ الْحُجَجِ إذَا قَامَتْ كَذَا فِي التَّقْوِيمِ وَالْأَسْرَارِ قَوْلُهُ (وَالْقَوْلُ الصَّحِيحُ هُوَ قَوْلُنَا أَنَّ الْعَقْلَ) غَيْرُ مُوجِبٍ بِنَفْسِهِ لَا كَمَا قَالَ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ وَغَيْرُ مُهْدَرٍ أَيْضًا لَا كَمَا قَالَ الْفَرِيقُ الثَّانِي فَإِنَّ مَنْ أَنْكَرَ مَعْرِفَةَ اللَّهِ تَعَالَى بِدَلَالَاتِ الْعُقُولِ وَحْدَهَا فَقَدْ قَصَّرَ.

وَمَنْ

ص: 231

وَهُوَ مِنْ أَعَزِّ النِّعَمِ خُلِقَ مُتَفَاوِتًا فِي أَصْلِ الْقِسْمَةِ وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ قَبْلَ هَذَا أَنَّهُ نُورٌ فِي بَدَنِ الْآدَمِيِّ مِثْلُ الشَّمْسِ فِي مَلَكُوتِ الْأَرْضِ تُضِيءُ بِهِ الطَّرِيقَ الَّذِي مَبْدَؤُهُ مِنْ حَيْثُ يَنْقَطِعُ إلَيْهِ أَثَرُ الْحَوَاسِّ ثُمَّ هُوَ عَاجِزٌ بِنَفْسِهِ وَإِذَا وَضَحَ لَنَا الطَّرِيقُ كَانَ الدَّرْكُ لِلْقَلْبِ بِفَهْمِهِ كَشَمْسِ الْمَلَكُوتِ الظَّاهِرِ إذَا بَزَغَتْ وَبَدَا شُعَاعُهَا وَوَضَحَ الطَّرِيقُ كَانَ الْعَيْنُ مُدْرِكَةً بِشِهَابِهَا وَمَا بِالْعَقْلِ كِفَايَةٌ بِحَالٍ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ وَلِذَلِكَ قُلْنَا فِي الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ لِأَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ بِالْإِيمَانِ حَتَّى إذَا عَقَلَتْ الْمُرَاهِقَةُ وَلَمْ تَصِفْ وَهِيَ تَحْتَ زَوْجٍ مُسْلِمٍ بَيْنَ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ لَمْ تُجْعَلْ مُرْتَدَّةً وَلَمْ تَبِنْ مِنْ زَوْجِهَا

ــ

[كشف الأسرار]

أَلْزَمَ الِاسْتِدْلَالَ بِلَا وَحْيٍ وَلَمْ يَعْذُرْهُ بِغَلَبَةِ الْهَوَى مَعَ أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ فَقَدْ غَلَا بَلْ الْعَقْلُ مُعْتَبَرٌ لِإِثْبَاتِ الْأَهْلِيَّةِ أَيْ أَهْلِيَّةِ الْخِطَابِ إذْ الْخِطَابُ لَا يُفْهَمُ بِدُونِ الْعَقْلِ وَخِطَابُ مَنْ لَا يَفْهَمُ قَبِيحٌ فَكَانَ الْعَقْلُ مُعْتَبَرًا لِإِثْبَاتِ الْأَهْلِيَّةِ.

1 -

وَهُوَ مِنْ أَعَزِّ النِّعَمِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَمْتَازُ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ وَهُوَ آلَةٌ لِمَعْرِفَةِ الصَّانِعِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ النِّعَمِ وَأَعْلَاهَا وَلِمَعْرِفَةِ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا خُلِقَ مُتَفَاوِتًا فِي أَصْلِ الْقِسْمَةِ هَذَا نَفْيٌ لِقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ إنَّ الْعَقْلَ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ لَيْسَ بِمُتَفَاوِتٍ فِي الْبَشَرِ كَالْحَيَوَانِيَّةِ وَبَنَوْا ذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ الْأَصْلَحِ وَذَلِكَ مِنْهُمْ إنْكَارُ الْمُشَاهَدَةِ وَالْعِيَانِ فَإِنَّا نَرَى تَفَاوُتَ حِدَّةَ الْأَذْهَانِ وَجَوْدَةَ الْقَرَائِحِ فِي الصِّبْيَانِ فِي أَوَّلِ نُشُوئِهِمْ، وَكَذَا فِي الْبَالِغِينَ مِنْ غَيْرِ جُهْدٍ سَبَقَ مِنْهُمْ وَلَا تَجْرِبَةٍ وَلَا تَعَلُّمٍ فَإِنْكَارُ ذَلِكَ كَانَ كَإِنْكَارِ تَفَاوُتِ الْخَلْقِ فِي الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وَالشَّجَاعَةِ وَالْجُبْنِ قَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ قَبْلَ هَذَا يَعْنِي فِي بَابِ بَيَانِ شَرَائِطِ الرَّاوِي أَنَّهُ أَيْ الْعَقْلَ نُورٌ فِي بَدَنِ الْآدَمِيِّ.

وَقِيلَ مَحَلُّهُ مِنْهُ الرَّأْسُ وَقِيلَ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ يُضِيءُ بِهِ أَيْ بِذَلِكَ النُّورِ الطَّرِيقَ الَّذِي مَبْدَؤُهُ مِنْ حَيْثُ يَنْقَطِعُ إلَيْهِ أَثَرُ الْحَوَاسِّ وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى حَيْثُ وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ

وَهَذَا إنَّمَا يَتَأَتَّى فِي الْمَحْسُوسَاتِ فَأَمَّا فِيمَا لَا يُحَسُّ أَصْلًا فَإِنَّمَا نَبْتَدِئُ طَرِيقَ الْعِلْمِ بِهِ مِنْ حَيْثُ يُوجَدُ كَالْعِلْمِ مَثَلًا فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَحْسُوسٍ وَلَمَّا اُحْتِيجَ فِيهِ إلَى مَعْرِفَةِ أَنَّهُ مَعْنًى رَاجِعٌ إلَى ذَاتِ الْعَالِمِ أَمْ رَاجِعٌ إلَى غَيْرِ ذَاتِهِ يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالْعَقْلِ مِنْ غَيْرِ انْقِطَاعِ أَثَرِ الْحَوَاسِّ وَفِي اللَّامِسِيِّ هُوَ جَوْهَرٌ يُدْرَكُ بِهِ الْغَائِبَاتُ بِالْوَسَائِطِ وَالْمَحْسُوسَاتُ بِالْمُشَاهَدَةِ وَقِيلَ هُوَ جَوْهَرٌ طُهِّرَ بِمَاءِ الْقُدُّوسِ وَرُوِّحَ بِرَوَائِحِ الْأُنْسِ وَأُودِعَ فِي قَوَالِبَ بَشَرِيَّةٍ وَأَصْدَافٍ إنْسَانِيَّةٍ كُلَّمَا أَضَاءَ اسْتَنَارَ مَنَاهِجُ الْيَقِينِ وَإِذَا أَظْلَمَ خَفِيَ مَدَارِجُ الدِّينِ وَقِيلَ هُوَ قُوَّةٌ فِي الطَّبِيعَةِ تَنْزِلُ فِي الْقَلْبِ مَنْزِلَةَ الْبَصَرِ فِي الْعَيْنِ ثُمَّ هُوَ أَيْ الْعَقْلُ عَاجِزٌ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ آلَةٌ وَالْآلَةُ لَا تَعْمَلُ بِدُونِ الْفَاعِلِ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا بِنَفْسِهِ شَيْئًا وَلَا مُدْرِكًا بِنَفْسِهِ حُسْنَ الْأَشْيَاءِ وَقُبْحَهَا وَلَكِنْ إذَا وَضَحَ بِهِ الطَّرِيقُ أَيْ طَرِيقُ الْإِدْرَاكِ لِلْعَاقِلِ كَانَ الدَّرَكُ أَيْ إدْرَاكُ الْمَطْلُوبِ لِلْقَلْبِ بِفَهْمِهِ وَهُوَ الْقُوَّةُ الْمُودَعَةُ فِي الْمُضْغَةِ الَّتِي فِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ مِنْ الْإِنْسَانِ أَوْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ عِنْدَ الْبَعْضِ وَالدَّرَكُ بِفَتْحِ الرَّاءِ اسْمٌ مِنْ الْإِدْرَاكِ قَالَ تَعَالَى {لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى} [طه: 77] .

وَقَالَ عليه السلام «اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى دَرْكِ الْحَاجَةِ» أَيْ إدْرَاكِهَا كَشَمْسِ الْمَلَكُوتِ الظَّاهِرَةِ إذَا بَزَغَتْ أَيْ طَلَعَتْ كَانَتْ الْعَيْنُ مُدْرِكَةً لِلْأَشْيَاءِ بِشِهَابِهَا أَيْ بِنُورِهَا وَالضَّمِيرُ لِلشَّمْسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُوجِبَ الشَّمْسُ رُؤْيَةَ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ أَوْ تَكُونَ هِيَ مُدْرِكَةً إيَّاهَا أَوْ تَكُونَ الْعَيْنُ مُسْتَغْنِيَةً فِي الْإِدْرَاكِ عَنْهَا فَكَذَا الْقَلْبُ يُدْرِكُ مَا هُوَ غَائِبٌ عَنْ الْحَوَاسِّ بِنُورِ الْعَقْلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْعَقْلُ مُوجِبًا لِذَلِكَ أَوْ لَا يَكُونَ مُدْرِكًا بِنَفْسِهِ بَلْ الْقَلْبُ يُدْرِكُ بَعْدَ إشْرَاقِ نُورِ الْعَقْلِ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ عز وجل وَالْمَلَكُوتُ الْمُلْكُ وَالتَّاءُ زَائِدَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ كَالرَّغَبُوتِ وَالرَّهَبُوتِ وَالْجَبَرُوتِ. وَشُعَاعُ الشَّمْسِ مَا يُرَى مِنْ ضَوْئِهَا عِنْدَ طُلُوعِهَا كَالْقُضْبَانِ وَالشِّهَابُ بِكَسْرِ الشِّينِ شُعْلَةُ نَارٍ سَاطِعَةٌ وَذَكَرَ فِي الْكِفَايَةِ أَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا الْعَقْلُ آلَةٌ لِمَعْرِفَةِ الْمَعْقُولَاتِ كَالسَّمْعِ

ص: 232

وَلَوْ بَلَغَتْ كَذَلِكَ لَبَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا وَلَوْ عَقَلَتْ وَهِيَ مُرَاهِقَةٌ فَوَصَفَتْ الْكُفْرَ كَانَتْ مُرْتَدَّةً وَبَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ فَعُلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ وَكَذَلِكَ يَقُولُ فِي الَّذِي لَمْ يَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ وَأَنَّهُ إذَا لَمْ يَصِفْ إيمَانًا وَكُفْرًا وَلَمْ يَعْتَقِدْهُ عَلَى شَيْءٍ كَانَ مَعْذُورًا وَإِذَا وَصَفَ الْكُفْرَ وَعَقَدَهُ أَوْ عَقَدَ وَلَمْ يَصِفْهُ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا وَكَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ مُخَلَّدًا عَلَى نَحْوِ مَا وَصَفْنَا فِي الصَّبِيِّ

ــ

[كشف الأسرار]

آلَةٌ لِمَعْرِفَةِ الْمَسْمُوعَاتِ وَبِهِ يُعْرَفُ حُسْنُ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَقُبْحُ بَعْضِهَا وَوُجُوبُ بَعْضِ الْأَفْعَالِ وَحُرْمَةُ بَعْضِهَا وَالْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِنَا وَقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّ الْعَقْلَ مُوجِبٌ بِذَاتِهِ كَمَا يَقُولُونَ إنَّ الْعَبْدَ مُوجِدٌ لِأَفْعَالِهِ وَعِنْدَنَا الْعَقْلُ مُعَرِّفٌ لِلْوُجُوبِ وَالْمُوجِبُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا أَنَّ الرَّسُولَ مُعَرِّفٌ لِلْوُجُوبِ وَالْمُوجِبُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَكِنْ بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ فَكَذَا الْهَادِي وَالْمُوجِبُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَكِنْ بِوَاسِطَةِ الْعَقْلِ وَمَا بِالْعَقْلِ كِفَايَةٌ بِحَالٍ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ يَعْنِي أَنَّ الْعَقْلَ وَإِنْ كَانَ آلَةً لِمَعْرِفَةٍ لَا يَقَعُ الْكِفَايَةُ بِهِ فِي وُجُوبِ الِاسْتِدْلَالِ وَحُصُولِ الْمَعْرِفَةِ سَوَاءٌ انْضَمَّ إلَيْهِ دَلِيلُ السَّمْعِ أَمْ لَا أَمَّا إذَا لَمْ يَنْضَمَّ فَلِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ آلَةٌ فَلَا يَصْلُحُ لِإِيجَابِ شَيْءٍ بِنَفْسِهِ وَأَمَّا إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ دَلِيلُ السَّمْعِ فَلِأَنَّ الْإِيجَابَ حِينَئِذٍ يُضَافُ إلَى دَلِيلِ السَّمْعِ لَا إلَى الْعَقْلِ وَإِذَا وُجِدَ الْعَقْلُ لَا يَحْصُلُ الْمَعْرِفَةُ قَبْلَ انْضِمَامِ دَلِيلِ السَّمْعِ إلَيْهِ وَبَعْدَهُ إلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ جل جلاله فَكَمْ مِنْ عَاقِلٍ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ وَبَعْدَهُ مُتَغَلْغِلٌ بِعَقْلِهِ فِي مَضَايِقِ الْحَقَائِقِ مُسْتَخْرِجٌ بِفِكْرِهِ وَقَرِيحَتِهِ لِخَفِيَّاتِ الدَّقَائِقِ لَمَّا حُرِمَ الْعِنَايَةَ وَالتَّوْفِيقَ لَمْ يَهْتَدِ إلَى سَوَاءِ الطَّرِيقِ وَلَمْ يَعْرِفْ سَبِيلَ الرُّشْدِ بِعَقْلِهِ فَهَلَكَ فِي غَبَاوَتِهِ وَجَهْلِهِ وَبَعْدَمَا حَصَلَتْ الْمَعْرِفَةُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَإِكْرَامِهِ وَلَا تَبْقَى إلَّا بِفَضْلِهِ وَإِنْعَامِهِ وَتَقْرِيرِهِ لَهُ عَلَى الدِّينِ الْقَوِيمِ وَتَثْبِيتِهِ إيَّاهُ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.

فَكَمْ مِنْ مُسْلِمٍ عَرَفَ سَبِيلَ الرَّشَادِ وَسَلَكَ طَرِيقَ السَّدَادِ ثُمَّ لَمَّا أَدْرَكَهُ الْخِذْلَانُ ضَلَّ عَنْ الطَّرِيقِ بِالِارْتِدَادِ وَرَدِّ أَمْرِهِ مِنْ الصَّلَاحِ إلَى الْفَسَادِ وَقَابَلَ الْحَقَّ بِالْعِنَادِ بَعْدَ الِانْقِيَادِ فَصَارَ مِنْ إخْوَانِ الشَّيَاطِينِ بَعْدَمَا كَانَ مِنْ أَبْنَاءِ الدِّينِ وَأَهْلِ الصِّدْقِ وَالْيَقِينِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الزَّيْغِ وَالطُّغْيَانِ وَدَرْكِ الشَّقَاءِ وَالْخِذْلَانِ بَعْدَ نَيْلِ سَعَادَةِ الْهُدَى وَالْإِيمَانِ إنَّهُ الْكَرِيمُ الْمَنَّانُ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا كِفَايَةَ بِالْعَقْلِ بِحَالٍ وَلَا مَعُونَةَ إلَّا مِنْ عِنْدِ الْكَرِيمِ الْمُتَعَالِ.

قَوْلُهُ (وَلِذَلِكَ) أَيْ وَلِأَنَّهُ لَا كِفَايَةَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ لِوُجُوبِ الِاسْتِدْلَالِ قُلْنَا فِي الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ إنَّهُ لَا يُكَلَّفُ الْإِيمَانَ وَإِنْ صَحَّ مِنْهُ الْأَدَاءُ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَهُ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِالْخِطَابِ وَالْخِطَابُ سَاقِطٌ عَنْ الصَّبِيِّ بِالنَّصِّ حَتَّى إذَا عَقَلَتْ الْمُرَاهِقَةُ وَهِيَ الَّتِي قَرُبَتْ إلَى الْبُلُوغِ وَلَمْ تَصِفْ أَيْ لَمْ تَصِفْ الْإِيمَانَ بَعْدَ مَا اُسْتُوْصِفَتْ وَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى الْوَصْفِ وَلَوْ بَلَغَتْ كَذَلِكَ أَيْ غَيْرَ وَاصِفَةٍ وَلَا قَادِرَةٍ عَلَيْهِ وَلَوْ عَقَلَتْ وَهِيَ مُرَاهِقَةٌ أَيْ صَبِيَّةٌ غَيْرُ بَالِغَةٍ فَوَصَفَتْ الْكُفْرَ كَانَتْ مُرْتَدَّةً وَبَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا لِأَنَّ رِدَّةَ الصَّبِيِّ وَالصَّبِيَّةِ صَحِيحَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ اسْتِحْسَانًا فَتَبِينُ وَيَبْطُلُ مَهْرُهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَمْ تَصِحَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله فَلَا تَبِينُ فَعُلِمَ بِهِ أَيْ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنَّهُ أَيْ الصَّبِيَّ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِالْإِيمَانِ إذْ لَوْ كَانَ مُكَلَّفًا بِهِ لَبَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِعَدَمِ الْوَصْفِ كَمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ.

وَكَذَلِكَ أَيْ وَمِثْلُ مَا قُلْنَا فِي الصَّبِيِّ قُلْنَا فِي الْبَالِغِ الَّذِي لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِالْإِيمَانِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُوجِبٍ بِنَفْسِهِ حَتَّى إذَا لَمْ يَصِفْ إيمَانًا وَلَا كُفْرًا وَلَمْ يَعْتَقِدْ عَلَى شَيْءٍ كَانَ مَعْذُورًا عَلَى خِلَافِ مَا قَالَهُ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ وَلَوْ وَصَفَ الْكُفْرَ وَاعْتَقَدَهُ أَوْ اعْتَقَدَهُ وَلَمْ يَصِفْهُ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا وَكَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَهُ الْفَرِيقُ الثَّانِي فَكَانَ هَذَا قَوْلًا مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالتَّقْصِيرِ عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَا فِي

ص: 233

وَمَعْنَى قَوْلِنَا إنَّهُ لَا يُكَلَّفُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ نُرِيدُ أَنَّهُ إذَا أَعَانَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّجْرِبَةِ وَأَلْهَمَهُ وَأَمْهَلَهُ لِدَرْكِ الْعَوَاقِبِ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ

ــ

[كشف الأسرار]

الصَّبِيِّ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَصِفْ الْإِيمَانَ وَالْكُفْرَ لَا يَكُونُ كَافِرًا وَلَوْ وَصَفَ الْكُفْرَ يَكُونُ مُرْتَدًّا فَكَذَلِكَ هَذَا وَهَذَا هُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ وَالْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ فِي التَّقْوِيمِ وَذَكَرَ الْإِمَامُ نُورُ الدِّينِ فِي الْكِفَايَةِ أَنَّ وُجُوبَ الْإِيمَانِ بِالْعَقْلِ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله ذَكَرَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي الْمُنْتَقَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمهم الله أَنَّهُ قَالَ لَا عُذْرَ لِأَحَدٍ فِي الْجَهْلِ بِخَالِقِهِ لِمَا يَرَى مِنْ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَخَلْقِ نَفْسِهِ وَسَائِرِ خَلْقِ رَبِّهِ أَمَّا فِي الشَّرَائِعِ فَمَعْذُورٌ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَوْ لَمْ يَبْعَثْ اللَّهُ رَسُولًا لَوَجَبَ عَلَى الْخَلْقِ مَعْرِفَتُهُ بِعُقُولِهِمْ قَالَ وَعَلَيْهِ مَشَايِخُنَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ حَتَّى قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ رحمه الله فِي الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ إنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ قَالُوا إنَّمَا وَجَبَتْ عَلَى الْعَاقِلِ الْبَالِغِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ عَقْلَهُ كَامِلٌ بِحَيْثُ يَحْتَمِلُ الِاسْتِدْلَالَ فَإِذَا بَلَغَ عَقْلُ الصَّبِيِّ هَذَا الْمَبْلَغَ كَانَ هُوَ وَالْبَالِغُ سَوَاءً فِي وُجُوبِ الْإِيمَانِ وَإِنَّمَا التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِي ضَعْفِ الْبِنْيَةِ وَقُوَّتِهَا فَيَظْهَرُ التَّفَاوُتُ فِي عَمَلِ الْأَرْكَانِ لَا فِي عَمَلِ الْقَلْبِ وَحَمَلَ هَؤُلَاءِ قَوْلَهُ عليه السلام «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ» الْحَدِيثَ عَلَى الشَّرَائِعِ.

قُلْت وَهَذَا الْقَوْلُ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ سِوَى أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ نَفْسَ الْعَقْلِ مُوجِبًا وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ الْمُوجِبُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْعَقْلُ مُعَرِّفٌ لِإِيجَابِهِ كَالْخِطَابِ

وَالصَّحِيحُ مَا اخْتَارَ الشَّيْخُ رحمه الله فِي الْكِتَابِ لِأَنَّ الْإِيجَابَ عَلَى الصَّبِيِّ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ النَّصِّ وَلِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَيْضًا ثُمَّ لَمَّا سَقَطَ الْخِطَابُ بِالْأَدَاءِ قَبْلَ الْبُلُوغِ عَنْ الصَّبِيِّ جَازَ أَنْ يَسْقُطَ عَنْ الْبَالِغِ قَبْلَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ إلَيْهِ لِأَنَّ الْخِطَابَ قَبْلَ الْبُلُوغِ إلَى الْمُخَاطَبِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْإِيجَابِ كَمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ قَبْلَ الْبُلُوغِ فَلَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ لِجَهْلِهِ بِاَللَّهِ وَغَفْلَتِهِ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَاتِ.

أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَهْلَ قَدْ أُلْحِقَ بِالصَّبِيِّ فِي إسْقَاطِ الْعِبَادَاتِ حَتَّى سَقَطَتْ الْعِبَادَاتُ عَمَّنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا كَمَا سَقَطَتْ عَنْ الصَّبِيِّ فَيَجُوزُ أَنْ يُلْحَقَ الْجَهْلُ بِالصَّبِيِّ فِي سُقُوطِ وُجُوبِ الِاسْتِدْلَالِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اعْتَقَدَ الْكُفْرَ حَيْثُ لَا يَكُونُ مَعْذُورًا لِأَنَّا إنَّمَا عَذَرْنَاهُ فِي جَهْلِهِ لِسُقُوطِ الِاسْتِدْلَالِ عَنْهُ وَلَا مَعْرِفَةَ بِدُونِهِ كَمَا عَذَرْنَا النَّائِمَ وَالصَّبِيَّ فَأَمَّا اعْتِقَادُ أَمْرٍ فَلَا يَكُونُ إلَّا بِضَرْبِ اسْتِدْلَالٍ وَحُجَّةٍ فَلَمْ يُعْذَرُ فِيمَا أَحْدَثَ مِنْ اعْتِقَادِهِ إلَّا بِحُجَّةٍ كَمَا فِي حَقِّ الصَّبِيِّ كَذَا فِي التَّقْوِيمِ.

قَوْلُهُ (وَمَعْنَى قَوْلِنَا) كَذَا يَعْنِي أَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ إنَّمَا لَمْ يُكَلَّفْ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ وَصَارَ مَعْذُورًا إذَا لَمْ يُصَادِفْ مُدَّةً يَتَمَكَّنُ فِيهَا مِنْ التَّأَمُّلِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَاتِ عَلَى مَعْرِفَةِ الْخَالِقِ بِأَنْ بَلَغَ عَلَى شَاهِقِ جَبَلٍ وَمَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ فَأَمَّا إذَا أَعَانَهُ اللَّهُ بِالتَّجْرِبَةِ وَأَمْهَلَهُ لِدَرْكِ الْعَوَاقِبِ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا لِأَنَّ الْإِمْهَالَ وَإِدْرَاكَ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَةِ الرُّسُلِ فِي حَقِّ تَنْبِيهِ الْقَلْبِ عَنْ نَوْمِ الْغَفْلَةِ فَلَا يُعْذَرُ بَعْدُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَرَى بِنَاءً إلَّا وَقَدْ عَرَفَ لَهُ بَانِيًا وَلَا صُورَةً إلَّا وَقَدْ عَرَفَ لَهُ مُصَوِّرًا فَكَيْفَ يُعْذَرُ بَعْدَ رُؤْيَتِهِ صُوَرًا حَسَنَةً وَبَعْدَ إدْرَاكِ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ فِي جَهْلِهِ بِخَالِقِهَا وَمُصَوِّرِهَا بَلْ يَلْزَمُهُ مِنْ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ مَا يُتِمُّ بِهِ الْمَعْرِفَةُ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُحْمَلُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَة رحمه الله أَنَّهُ لَا عُذْرَ لِأَحَدٍ فِي الْجَهْلِ بِالْخَالِقِ لِمَا يَرَى فِي الْعَالَمِ مِنْ آثَارِ

ص: 234

عَلَى نَحْوِ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله فِي السَّفِيهِ إذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ مَالُهُ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى مُدَّةَ التَّجْرِبَةِ وَالِامْتِحَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَزْدَادَ بِهِ رُشْدًا وَلَيْسَ عَلَى الْحَدِّ فِي هَذَا الْبَابِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ فَمَنْ جَعَلَ الْعَقْلَ حُجَّةً مُوجِبَةً يَمْتَنِعُ الشَّرْعُ بِخِلَافِهِ فَلَيْسَ مَعَهُ دَلِيلٌ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ سِوَى أُمُورٍ ظَاهِرَةٍ فَسَلَّمَهَا لَهُ

ــ

[كشف الأسرار]

الْخَلْقِ أَيْ لَا عُذْرَ لَهُ بَعْدَ الْإِمْهَالِ لَا لِابْتِدَاءِ الْعَقْلِ.

وَكَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ وَمَعْنَى قَوْلِنَا أَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِهِ قَبْلَ إدْرَاكِ زَمَانِ التَّأَمُّلِ وَالتَّجْرِبَةِ فَإِذَا أَعَانَهُ اللَّهُ بِكَذَا إلَى آخِرِهِ إلَّا أَنَّهُ حَذَفَ الْبَعْضَ اخْتِصَارًا لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ عَلَى نَحْوِ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله يَعْنِي إقَامَةَ الْإِمْهَالِ وَإِدْرَاكَ زَمَانِ التَّأَمُّلِ مَقَامَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ هَا هُنَا عَلَى مِثْلِ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله فِي السَّفِيهِ إذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً يُدْفَعُ مَالُهُ إلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ رُشْدٌ مَعَ أَنَّ دَفْعَ الْمَالِ إلَيْهِ مُعَلَّقٌ بِإِينَاسِ الرُّشْدِ بِالنَّصِّ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَ وُجُودِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوْفَى هَذِهِ الْمُدَّةَ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَسْتَفِيدَ رُشْدًا بِالتَّجْرِبَةِ وَالِامْتِحَانِ فِي الْغَالِبِ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ يُتَوَهَّمُ صَيْرُورَتُهُ جَدًّا فِيهَا إذْ الْبُلُوغُ يَتَحَقَّقُ فِي الْغُلَامِ بَعْدَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً فَيُمْكِنُ أَنْ يُولَدَ لَهُ ابْنٌ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ ثُمَّ إنَّ وَلَدَهُ يَبْلُغُ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً وَيُولَدُ لَهُ ابْنٌ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَيَصِيرُ الْأَوَّلُ جَدًّا بَعْدَ تَمَامِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَمَنْ صَارَ فَرْعُهُ أَصْلًا فَقَدْ تَنَاهَى هُوَ فِي الْأَصَالَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَسْتَفِيدَ رُشْدًا بِنِسْبَةٍ حَالَةِ فَيُقَامُ هَذِهِ الْمُدَّةَ مَقَامَ الرُّشْدِ وَالشَّرْطُ رُشْدٌ نَكِرَةٌ وَقَدْ وُجِدَ إمَّا تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا بِاسْتِيفَاءِ مُدَّةِ التَّجْرِبَةِ فَيَجِبُ دَفْعُ الْمَالِ إلَيْهِ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَسْتَفِيدَ الْعَاقِلُ بَصِيرَةً وَمَعْرِفَةً بِصَانِعِهِ بِالنَّظَرِ فِي الْآيَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْحُجَجِ الْبَاهِرَةِ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْمَعْرِفَةُ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ كَانَ ذَلِكَ لِاسْتِخْفَافِ الْحُجَّةِ كَمَا يَكُونُ بَعْدَ دَعْوَةِ الرُّسُلِ فَلَا يَكُونُ مَعْذُورًا.

قَوْلُهُ (وَلَيْسَ عَلَى الْحَدِّ فِي هَذَا الْبَابِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ) أَيْ لَيْسَ عَلَى حَدِّ الْإِمْهَالِ وَتَقْدِيرِ زَمَانِ الِامْتِحَانِ وَالتَّجْرِبَةِ فِي هَذَا النَّوْعِ وَهُوَ الْعَاقِلُ الَّذِي لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ دَلِيلٌ قَاطِعٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَيُحْكَمُ أَنَّهُ كَذَا وَكَأَنَّهُ رَدٌّ لِمَا قِيلَ إنَّهُ مُقَدَّرٌ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ اعْتِبَارًا بِالْمُرْتَدِّ فَإِنَّهُ إذَا اسْتَمْهَلَ يُمْهَلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَقَالَ إنَّهُ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ بَلْ هُوَ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ فَإِنَّ الْعَقْلَ مُتَفَاوِتٌ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ فَرُبَّ عَاقِلٍ يَهْتَدِي فِي زَمَانٍ قَلِيلٍ إلَى مَا لَا يَهْتَدِي إلَيْهِ غَيْرُهُ فِي زَمَانٍ كَثِيرٍ فَيُفَوَّضُ تَقْدِيرُهُ إلَى اللَّهِ جل جلاله إذْ هُوَ الْعَالِمُ بِمِقْدَارِ ذَلِكَ الزَّمَانِ فِي حَقِّ كُلِّ شَخْصٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَيَعْفُو عَنْهُ قَبْلَ إدْرَاكِهِ وَيُعَاتِبُهُ بَعْدَ اسْتِيفَائِهِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذُكِرَ فِي التَّقْوِيمِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ثُمَّ قَدْرُ مُدَّةِ الْعُذْرِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ قَوْلُهُ وَلَيْسَ كَذَا مِنْ تَتِمَّةِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا وَيَكُونُ قَوْلُهُ فَمَنْ جَعَلَ الْعَقْلَ كَذَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ وَلَيْسَ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي يُوقَفُ بِهِ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْ كَوْنِ الْعَقْلِ مُوجِبًا بِنَفْسِهِ أَوْ غَيْرَ مُوجِبٍ أَصْلًا أَوْ كَوْنِهِ حُجَّةً عِنْدَ اسْتِيفَاءِ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ مِنْ نَصٍّ مُحْكَمٍ أَوْ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ ضَرُورِيٍّ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ هَذَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ.

وَقَوْلُهُ: فَمَنْ جَعَلَ الْعَقْلَ مِنْ تَتِمَّتِهِ فَمَنْ جَعَلَ الْعَقْلَ حُجَّةً مُوجِبَةً بِنَفْسِهِ بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ الشَّرْعُ أَيْ وُرُودُ الشَّرِيعَةِ بِخِلَافِهِ أَوْ يَمْتَنِعُ شَرْعُ الْحُكْمِ بِخِلَافِهِ أَوْ يَمْتَنِعُ وُجُودُ الْمَشْرُوعِ بِخِلَافِهِ فَلَيْسَ مَعَهُ دَلِيلٌ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ أَيْ لَيْسَ لَهُ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ مِنْ شَرْعِيٍّ أَوْ عَقْلِيٍّ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ إذْ لَمْ يَرِدْ فِي الشَّرْعِ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يُوجَدْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ سِوَى أُمُورٍ ظَاهِرَةٍ نُسَلِّمُهَا لَهُ وَلَا يَلْزَمُ

ص: 235

وَمَنْ أَلْغَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا دَلِيلَ لَهُ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله فَإِنَّهُ قَالَ فِي قَوْمٍ لَمْ يَبْلُغْهُمْ الدَّعْوَةُ إذَا قُتِلُوا ضُمِنُوا فَجَعَلَ كُفْرَهُمْ عَفْوًا وَمَنْ كَانَ فِيهِمْ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ تَعَذَّرَ عَلَى مَا فَسَّرْنَا لَمْ يَسْتَوْجِبْ عِصْمَةً بِدُونِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ فِي الشَّرْعِ أَنَّ الْعَقْلَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِأَهْلِيَّتِهِ فَإِنَّمَا يُلْغِيهِ بِطَرِيقِ دَلَالَةُ الِاجْتِهَادِ وَالْمَعْقُولِ فَيُنَاقِضُ مَذْهَبَهُ وَأَنَّ الْعَقْلَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْهَوَى فَلَا يَصْلُحُ حُجَّةً بِنَفْسِهِ بِحَالٍ

ــ

[كشف الأسرار]

مِنْ تَسْلِيمِهَا كَوْنُ الْعَقْلِ مُوجِبًا بِنَفْسِهِ وَبَيَانُهُ أَنَّهُمْ قَالُوا: قَدْ عُرِفَ حُسْنُ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ كَالْإِيمَانِ وَشُكْرِ الْمُنْعِمِ بِالْعَقْلِ وَقُبْحُ بَعْضِهَا مِثْلُ الْكُفْرِ وَالْعَبَثِ بِهِ وَعُلِمَ أَنَّ الشَّرْعَ لَا يَرِدُ بِتَحْسِينِ مَا قَبَّحَهُ الْعَقْلُ وَلَا بِتَقْبِيحِ مَا حَسَّنَهُ الْعَقْلُ حَتَّى لَمْ يَجُزْ وُرُودُ نَسْخِ الْإِيمَانِ وَلَا وُرُودُ شَرْعِيَّةِ الْكُفْرِ فَعُلِمَ أَنَّ الْعَقْلَ مُوجِبٌ بِذَاتِهِ بِدُونِ الشَّرْعِ وَأَنَّ الشَّرْعَ تَابِعٌ لَهُ فِيمَا عُرِفَ حُسْنُهُ وَقُبْحُهُ بِهِ.

وَنَحْنُ نُسَلِّمُ لَهُمْ مَعْرِفَةَ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ بِالْعَقْلِ وَامْتِنَاعَ نَسْخِ مَا حَسَّنَهُ وَشَرْعَ مَا قَبَّحَهُ وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ مُوجِبٌ بِذَاتِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ عَجَزَ بِنَفْسِهِ بَلْ الْمُوجِبُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحَقِيقَةِ وَلَكِنْ بِالْعَقْلِ يُعْرَفُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ دَلِيلًا وَطَرِيقًا إلَى الْعِلْمِ، وَالدَّلِيلُ بِنَفْسِهِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا فَثَبَتَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْخَصْمُ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى مَا ادَّعَاهُ وَمَا ذَكَرُوا أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِمَا لَا يُدْرِكُهُ الْعُقُولُ ظَاهِرُ الْفَسَادِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ مِنْ الْمُقَدَّرَاتِ مَا لَا يُدْرِكُهُ الْعُقُولُ كَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ وَمَقَادِيرِ الزَّكَوَاتِ وَالْجِنَايَاتِ وَالْحُدُودِ وَنَحْوِهَا قَوْلُهُ (وَمَنْ أَلْغَاهُ) أَيْ الْعَقْلَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَهُمْ الْأَشْعَرِيَّةُ فَلَا دَلِيلَ لَهُ أَيْضًا أَيْ لَيْسَ لَهُ دَلِيلٌ قَاطِعٌ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله فَإِنَّ مَذْهَبَهُ كَمَذْهَبِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُهُ مَا قَالَ فِي قَوْمٍ لَمْ يَبْلُغْهُمْ الدَّعْوَةُ إذَا قَتَلَهُمْ الْمُسْلِمُونَ قَبْلَ الدَّعْوَةِ ضَمِنُوا دِمَاءَهُمْ فَجَعَلَ كُفْرَهُمْ عَفْوًا حَيْثُ جَعَلَهُمْ كَالْمُسْلِمِينَ فِي الضَّمَانِ وَأَصْحَابُنَا قَالُوا لَا يَضْمَنُونَ لِأَنَّ قَتْلَهُمْ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا قَبْلَ الدَّعْوَةِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلضَّمَانِ لِأَنَّا لَمْ نَجْعَلْ كُفْرَهُمْ عَفْوًا بِحَالٍ وَلَمْ نَجْعَلْ غَفْلَتَهُمْ عَنْ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ عُذْرًا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ فَكَانَ قَتْلُهُمْ قَبْلَ الدَّعْوَةِ مِثْلَ قَتْلِ نِسَاءِ أَهْلِ الْحَرْبِ بَعْدَ الدَّعْوَةِ فَلَا يُوجِبُ ضَمَانًا.

وَلَمَّا كَانَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنْ جَعَلْت دِمَاءَهُمْ هَدَرًا بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُفْرَهُمْ لَمْ يُجْعَلْ عَفْوًا يَنْبَغِي أَنْ يُوجَبَ الضَّمَانُ بِقَتْلِ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَعْذُورًا مِثْلَ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَاَلَّذِينَ لَمْ يَسْتَوْفُوا مُدَّةَ التَّأَمُّلِ وَقَتْلُهُمْ لَا يُوجِبُ ضَمَانًا عِنْدَكُمْ أَيْضًا أَشَارَ إلَى الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يُعْذَرُ عَلَى مَا فَسَّرْنَا بِأَنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مِمَّنْ لَمْ يَسْتَوْفِ مُدَّةَ التَّأَمُّلِ لَمْ يَسْتَوْجِبْ عِصْمَةً بِدُونِ دَارِ الْإِسْلَامِ لِمَا عَرَفَهُ أَنَّ الْعِصْمَةَ الْمُقَوَّمَةَ لَا تَثْبُتُ بِدُونِ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا فَلِذَلِكَ كَانَ دِمَاؤُهُمْ هَدَرًا أَيْضًا.

أَلَا تَرَى أَنَّ قَتْلَ مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا لَا يُوجِبُ ضَمَانًا لِمَا قُلْنَا فَهَذَا أَوْلَى قَوْلُهُ (وَذَلِكَ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ فَلَا دَلِيلَ لَهُ أَيْضًا وَلِقَوْلِهِ فَلَيْسَ مَعَهُ دَلِيلٌ يَعْنِي إنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ لَا دَلِيلَ لِلْفَرِيقَيْنِ لِأَنَّ الْقَائِلَ بِكَوْنِهِ يُلْغَى لَا يَجِدُ فِي نُصُوصِ الشَّرْعِ أَنَّ الْعَقْلَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِلْأَهْلِيَّةِ فَلَوْ أَلْغَاهُ إنَّمَا يُلْغِيهِ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَالْمَعْقُولِ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِدْ نَصًّا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى الْمَعْقُولِ بِأَنْ يَقُولَ قَدْ وَجَدْنَا مِنْ الْعُقَلَاءِ مِنْ أَلْحَقَ بَعْدُ، ثُمَّ الْعَقْلُ فِي سُقُوطِ التَّكْلِيفِ عَنْهُ بِاعْتِبَارِ سُقُوطِ الْخِطَابِ عَنْهُ شَرْعًا كَالصَّبِيِّ الْعَاقِلِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْعَقْلَ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْعِ وَحِينَئِذٍ كَانَ مُتَنَاقِضًا فِي مَذْهَبِهِ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِالْعَقْلِ أَنَّ الْعَقْلَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَصَارَ كَأَنَّهُ يَقُولُ الْعَقْلُ حُجَّةٌ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ ثُمَّ رَدَّ قَوْلَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ فَقَالَ وَإِنَّ الْعَقْلَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ.

وَيَجُوزُ بِفَتْحِهَا أَيْضًا عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ أَنَّهُ لَا يَجِدُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَيْ لَا يَسْتَقِيمُ أَيْضًا جَعْلُهُ حُجَّةً مُوجِبَةً بِنَفْسِهِ لِأَنَّ

ص: 236