الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فَإِنَّ الْهَزْلَ بِالرِّدَّةِ كُفْرٌ لَا بِمَا هَزَلَ بِهِ لَكِنْ بِعَيْنِ الْهَزْلِ؛ لِأَنَّ الْهَازِلَ جَادٌّ فِي نَفْسِ الْهَزْلِ مُخْتَارٌ رَاضٍ وَالْهَزْلُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ اسْتِخْفَافٌ بِالدِّينِ الْحَقِّ فَصَارَ مُرْتَدًّا بِعَيْنِهِ لَا بِمَا هَزَلَ بِهِ إلَّا أَنَّ أَثَرَهُمَا سَوَاءٌ بِخِلَافِ الْمُكْرَه؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ لَعَيْنِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ فَأَمَّا الْكَافِرُ إذَا هَزَلَ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ وَتَبَرَّأَ عَنْ دِينِهِ هَازِلًا يَجِبُ أَنْ يَحْكُمَ بِإِيمَانِهِ كَالْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءٍ لَا يَحْتَمِلُ حُكْمُهُ الرَّدَّ وَالتَّرَاخِيَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ وَهُوَ السَّفَهُ السَّفَهُ هُوَ الْعَمَلُ بِخِلَافِ مُوجِبِ الشَّرْعِ مِنْ وَجْهٍ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى وَخِلَافُ دَلَالَةِ الْعَقْلِ فَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ مَشْرُوعًا وَهُوَ السَّرَفُ وَالتَّبْذِيرُ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْبَيْعِ وَالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ مَشْرُوعٌ إلَّا أَنَّ الْإِسْرَافَ حَرَامٌ كَالْإِسْرَافِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ خَلَلًا فِي الْأَهْلِيَّةِ وَلَا يَمْنَعُ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَلَا يُوجِبُ وَضْعَ الْخِطَابِ بِحَالٍ وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْهُ مَالَهُ فِي أَوَّلِ مَا بَلَغَ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] ثُمَّ عَلَّقَ الْإِيتَاءَ بِإِينَاسٍ مِنْ الرُّشْدِ فَقَالَ {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]
ــ
[كشف الأسرار]
لِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَقِدًا لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُهُ وَالتَّكَلُّمُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ هَازِلًا اسْتِخْفَافٌ بِالدِّينِ الْحَقِّ وَهُوَ كُفْرٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65]{لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 66] فَصَارَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْكُفْرِ بِطَرِيقِ الْهَزْلِ مُرْتَدًّا بِعَيْنِ الْهَزْلِ لِاسْتِخْفَافِهِ بِالدَّيْنِ الْحَقِّ لَا بِمَا هَزَلَ بِهِ أَيْ لَا بِاعْتِقَادِ مَا هَزَلَ بِهِ إلَّا أَنَّ أَثَرَهُمَا أَيْ أَثَرَ الْهَزْلِ بِالْكُفْرِ وَأَثَرَ مَا هَزَلَ بِهِ سَوَاءٌ فِي إزَالَةِ الْإِيمَانِ وَإِثْبَاتِ الْكُفْرِ بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ عَلَى الْكُفْرِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِالسَّبَبِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا بَلْ يُجْرِيهِ عَلَى لِسَانِهِ اضْطِرَارًا وَدَفْعًا لِلشَّرِّ عَنْ نَفْسِهِ غَيْرَ مُعْتَقِدٍ لَهُ أَصْلًا.
وَلَا يُقَالُ إنَّ الْهَازِلَ لَا يَعْتَقِدُ الْكُفْرَ أَيْضًا لِأَنَّا نَقُولُ هُوَ مُعْتَقِدٌ لِلْكُفْرِ؛ لِأَنَّ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ حُرْمَةُ الِاسْتِخْفَافِ بِالدِّينِ وَعَدَمُ الرِّضَاءِ بِهِ وَلَمَّا رَضِيَ بِالْهَزْلِ مُعْتَقِدًا لَهُ كَانَ كَافِرًا كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ فَأَمَّا الْكَافِرُ إذَا هَزَلَ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ وَتَبَرَّأَ عَنْ دِينِهِ هَازِلًا فَيَجِبُ أَنْ يَحْكُمَ بِإِيمَانِهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ وَقَدْ بَاشَرَ أَحَدَ الرُّكْنَيْنِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ عَلَى سَبِيلِ الرِّضَاءِ، وَالْإِقْرَارُ هُوَ الْأَصْلُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِالْإِيمَانِ بِنَاءً عَلَيْهِ كَالْمُكْرَهِ عَلَى الْإِسْلَامِ إذَا أَسْلَمَ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِنَاءً عَلَى وُجُودِ أَحَدِ الرُّكْنَيْنِ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِالتَّكَلُّمِ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءٍ لَا يَقْبَلُ حُكْمُهُ الرَّدَّ وَالتَّرَاخِيَ فَإِنَّهُ إذَا أَسْلَمَ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ مُتَرَاخِيًا عَنْهُ وَلَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَدَّ إسْلَامُهُ بِسَبَبٍ كَمَا يُرَدُّ الْبَيْعُ بِخِيَارِ الْعَيْبِ وَالرُّؤْيَةِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ.
[السَّفَه مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ]
قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ) أَيْ مِنْ أَقْسَامِ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ فَهُوَ السَّفَهُ السَّفَهُ فِي اللُّغَةِ وَهُوَ الْخِفَّةُ وَالتَّحَرُّكُ يُقَالُ تَسَفَّهَتْ الرِّيَاحُ الثَّوْبَ إذَا اسْتَخَفَّتْهُ وَحَرَّكَتْهُ وَمِنْهُ زِمَامٌ سَفِيهٌ أَيْ خَفِيفٌ وَفِي الشَّرِيعَةِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ خِفَّةٍ تَعْتَرِي الْإِنْسَانَ فَتَحْمِلُهُ عَلَى الْعَمَلِ بِخِلَافِ مُوجِبِ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ مَعَ قِيَامِ الْعَقْلِ حَقِيقَةً كَذَا ذُكِرَ فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ وَهَذَا التَّعْرِيفُ يَتَنَاوَلُ ارْتِكَابَ جَمِيعِ الْمَحْظُورَاتِ فَإِنَّ ارْتِكَابَهَا مِنْ السَّفَهِ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ رحمه الله قَيَّدَ بِقَوْلِهِ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ غَلَبَ هَذَا الِاسْمُ عَلَى تَبْذِيرِ الْمَالِ وَإِتْلَافِهِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ وَلَمْ يُفْهَمْ عِنْدَ إطْلَاقِهِ ارْتِكَابُ مَعْصِيَةٍ أُخْرَى مِثْلُ شُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ سَفَهًا حَقِيقَةً فَكَأَنَّهُ بِذِكْرِ هَذَا الْقَيْدِ يُشِيرُ إلَى أَنَّ غَرَضَهُ تَعْرِيفُ السَّفَهِ الْمُصْطَلَحِ الَّذِي تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ وَتَعَلُّقِ الْأَحْكَامِ بِهِ مِنْ مَنْعِ الْمَالِ وَوُجُوبِ الْحَجْرِ لَا جَمِيعِ أَنْوَاعِ السَّفَهِ وَلِهَذَا فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ وَهُوَ السَّرَفُ وَالتَّبْذِيرُ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى الْعَمَلِ أَيْ نَعْنِي بِالْعَمَلِ بِخِلَافِ مُوجِبِ الشَّرْعِ مِنْ وَجْهٍ إلَى آخِرِهِ السَّرَفُ وَالتَّبْذِيرُ لِأَنَّ أَصْلَ الْبِرِّ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ أَيْ أَصْلُ ذَلِكَ الْعَمَلِ مَشْرُوعًا وَالسَّرَفُ وَالْإِسْرَافُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَالتَّبْذِيرُ تَفْرِيقُ الْمَالِ إسْرَافًا وَذَلِكَ أَيْ السَّفَهُ لَا يُوجِبُ خَلَلًا فِي الْأَهْلِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِالْقُدْرَةِ ظَاهِرًا لِسَلَامَةِ التَّرْكِيبِ وَبَقَاءِ الْقُوَى الْغَرِيزِيَّةِ عَلَى حَالِهَا وَلَا بَاطِنًا لِبَقَاءِ نُورِ الْعَقْلِ بِكَمَالِهِ إلَّا أَنَّهُ يُكَابِرُ عَقْلَهُ فِي عَمَلِهِ فَلَا جَرَمَ يَبْقَى مُخَاطَبًا بِتَحَمُّلِ أَمَانَةِ اللَّهِ عز وجل فَيُخَاطَبُ بِالْأَدَاءِ فِي الدُّنْيَا ابْتِلَاءً وَيُجَازَى عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ.
وَإِذَا بَقِيَ أَهْلًا لِتَحَمُّلِ أَمَانَةِ اللَّهِ عز وجل وَوُجُوبِ حُقُوقِهِ بَقِيَ أَهْلًا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ وَهِيَ التَّصَرُّفَاتُ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى أَعْظَمُ فَإِنَّهَا لَا تُحْمَلُ إلَّا عَلَى مَنْ هُوَ كَامِلُ الْحَالِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّبِيَّ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفَاتِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِإِيجَابِ حُقُوقِ اللَّهِ عز وجل وَتَحَمُّلِ أَمَانَتِهِ فَمَنْ
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله أَوَّلُ أَحْوَالِ الْبُلُوغِ قَدْ لَا يُفَارِقُهُ السَّفَهُ فَإِذَا امْتَدَّ الزَّمَانُ وَظَهَرَتْ الْخِبْرَةُ وَالتَّجْرِبَةُ حَدَثَ ضَرْبٌ مِنْ الرُّشْدِ لَا مَحَالَةَ وَالشَّرْطُ رُشْدٌ نَكِرَةٌ فَسَقَطَ الْمَنْعُ؛ لِأَنَّهُ إمَّا عُقُوبَةٌ وَإِمَّا حُكْمٌ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ فَيَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ النَّصِّ فَإِذَا دَخَلَهُ شُبْهَةٌ أَوْ صَارَ الشَّرْطُ فِي حُكْمِ الْوُجُودِ بِوَجْهٍ وَجَبَ جَرَّاؤُهُ
ــ
[كشف الأسرار]
هُوَ أَهْلٌ لِتَحَمُّلِ أَمَانَتِهِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفَاتِ فَثَبَتَ أَنَّ السَّفَهَ لَا يَمْنَعُ أَحْكَامَ الشَّرْعِ وَلَا يَجِبُ سُقُوطُ الْخِطَابِ عَنْ السَّفِيهِ بِحَالٍ سَوَاءٌ مُنِعَ مِنْهُ الْمَالُ أَوْ لَمْ يُمْنَعْ حُجِرَ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يُحْجَرْ وَأَجْمَعُوا أَنَّ السَّفِيهَ يُمْنَعُ مَالُهُ فِي أَوَّلِ مَا يَبْلُغُ بِالنَّصِّ يَعْنِي إذَا بَلَغَ سَفِيهًا يُمْنَعُ عَنْهُ مَالُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] أَيْ لَا تُؤْتُوا الْمُبَذِّرِينَ أَمْوَالَكُمْ الَّذِينَ يُنْفِقُونَهَا فِيمَا لَا يَنْبَغِي أَمْوَالُهُمْ الَّتِي فِي أَيْدِيكُمْ أَضَافَ الْأَمْوَالَ إلَى الْأَوْلِيَاءِ وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ أَمْوَالُ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ مَا يُقِيمُ النَّاسُ بِهِ مَعَايِشَهُمْ كَمَا قَالَ {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] وَكَمَا تَقُولُ لِمَنْ قَدَّمَ طَعَامًا بَيْنَ يَدَيْك هَذَا طَعَامِي فِي مَنْزِلِي كُلَّ يَوْمٍ أَيْ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ لِأَنَّهُمْ الْقَوَّامُونَ عَلَيْهَا وَالْمُتَصَرِّفُونَ فِيهَا {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] أَيْ تَقُومُونَ بِهَا وَلَوْ ضَيَّعْتُمُوهَا لَضِعْتُمْ فَكَأَنَّهَا فِي أَنْفُسِهَا قِيَامُكُمْ وَانْتِعَاشُكُمْ ثُمَّ عَلَّقَ الْإِيتَاءَ بِإِينَاسِ الرُّشْدِ أَيْ بِإِبْصَارِهِ فَقَالَ جل جلاله {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] أَيْ عَرَفْتُمْ وَرَأَيْتُمْ فِيهِمْ صَلَاحًا فِي الْعَقْلِ وَحِفْظًا لِلْمَالِ {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله إذَا بَلَغَ السَّفِيهُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَلَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ دُفِعَ الْمَالُ إلَيْهِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يُدْفَعُ إلَى السَّفِيهِ مَا لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ الْإِيتَاءَ بِإِينَاسِ الرُّشْدِ فَلَا يَجُوزُ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ، أَلَا تَرَى أَنَّ عِنْدَ الْبُلُوغِ إذَا لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ الْمَالُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَكَذَا إذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً؛ لِأَنَّ السَّفَهَ يَسْتَحْكِمُ بِطُولِ الْمُدَّةِ.
وَلِأَنَّ السَّفَهَ فِي حُكْمِ مَنْعِ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ الْجُنُونِ وَالْعَتَهِ وَإِنَّهُمَا يَمْنَعَانِ دَفْعَ الْمَالِ إلَيْهِ بَعْدَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً كَمَا قَبْلَهُ فَكَذَلِكَ السَّفَهُ وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6] مَعْنَاهُ مَخَافَةَ أَنْ يَكْبَرُوا فَيَلْزَمَكُمْ دَفْعُ الْمَالِ إلَيْهِمْ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] وَالْمُرَادُ الْبَالِغُونَ وَسُمُّوا يَتَامَى لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِهِ فَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى وُجُوبِ دَفْعِ مَالِ الْيَتِيمِ إلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ إلَّا أَنَّهُ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى مَنْعِ الْمَال مِنْهُ عِنْدَ الْبُلُوغِ إذَا لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] وَحَرْفُ الْفَاءِ لِلْوَصْلِ وَالتَّعْقِيبِ فَيَكُونُ بَيَانًا إنْ دَفْعَ الْمَالَ إلَيْهِ عَقِيبَ الْبُلُوغِ بِشَرْطِ إينَاسِ الرُّشْدِ وَمَا يَقْرَبُ مِنْ الْبُلُوغِ فِي مَعْنَى حَالَةِ الْبُلُوغِ فَأَمَّا إذَا بَعُدَ عَنْ ذَلِكَ فَوُجُوبُ دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ مُطْلَقٌ لِمَا تَلَوْنَا غَيْرُ مُعَلَّقٍ بِشَرْطٍ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مَنْعَ الْمَالِ بَعْدَ الْبُلُوغِ لِبَقَاءِ أَثَرِ الصَّبِيِّ وَبَقَاءِ أَثَرِهِ كَبَقَاءِ عَيْنِهِ فِي مَنْعِ الْمَالِ وَأَثَرِهِ قَدْ يَبْقَى إلَى أَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهِ زَمَانٌ، وَيَنْقَطِعُ بَعْدَمَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً لِتَطَاوُلِ الزَّمَانِ فَيَجِبُ دَفْعُ الْمَالِ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله لَوْ بَلَغَ رَشِيدًا ثُمَّ صَارَ سَفِيهًا لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ الْمَالُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِأَثَرِ الصِّبَا فَلَا يُعْتَبَرُ فِي مَنْعِ الْمَالِ أَوْ مَنْعِ الْمَالِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْدِيبِ لَهُ، وَالِاشْتِغَالُ بِالتَّأْدِيبِ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ رَجَاءَ التَّأْدِيبِ فَإِذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَلَمْ يُؤْنَسْ رُشْدُهُ فَقَدْ انْقَطَعَ رَجَاءُ التَّأْدِيبِ؛ لِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَصِيرَ جِدًّا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ فَلَا مَعْنَى بَعْدَ ذَلِكَ لِمَنْعِ الْمَالِ مِنْهُ بِطَرِيقِ التَّأْدِيبِ.
ثُمَّ نَقُولُ إنَّ الْإِنْسَانَ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِ الْبُلُوغِ قَدْ لَا يُفَارِقُهُ السَّفَهُ لِقُرْبِهِ بِزَمَانِ الصِّبَا وَبَعْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ بِهِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَسْتَفِيدَ رُشْدًا مَا بِطَرِيقِ التَّجْرِبَةِ وَالِامْتِحَانِ إذْ التَّجَارِبُ تُفَّاحُ الْعُقُولِ وَالشَّرْطُ رُشْدٌ نَكِرَةٌ فَيَتَحَقَّقُ بِأَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ كَمَا فِي سَائِرِ الشُّرُوطِ الْمُنْكَرَةِ فَسَقَطَ الْمَنْعُ أَيْ مَنْعُ الْمَالِ بِوُجُودِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الرُّشْدِ؛ لِأَنَّهُ أَيْ مَنْعُ الْمَالِ إمَّا عُقُوبَةً ثَبَتَتْ زَجْرًا لَهُ عَنْ الْفِعْلِ الْحَرَامِ وَهُوَ التَّبْذِيرُ أَوْ حُكْمٌ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ مَنْعَ الْمَالِ عَنْ مَالِكِهِ مَعَ كَمَالِ عَقْلِهِ وَتَمَيُّزِهِ غَيْرُ مَعْقُولٍ إذْ الْمِلْكُ هُوَ الْمُطْلَقُ الْحَاجِزُ فَيَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِعَيْنِ النَّصِّ أَيْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ رُشْدٌ تَحْقِيقًا وَلَا تَقْدِيرًا؛ لِأَنَّ مَا كَانَ عُقُوبَةً أَوْ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى لَا يُمْكِنُ تَعْدِيَتُهُ فَإِذَا دَخَلَهُ أَيْ مَنْعَ الْمَالِ
وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ النَّظَرِ لِلسَّفِيهِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله لَمَّا كَانَ السَّفَهُ مُكَابَرَةً وَتَرْكًا لِمَا هُوَ الْوَاجِبُ عَنْ عِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلنَّظَرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَنْ قَصَّرَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ عز وجل مَجَانَةً وَسَفَهًا لَمْ يُوضَعْ عَنْهُ الْخِطَابُ نَظَرًا بَلْ كَانَ مُؤَكَّدًا لَازِمًا وَقَدْ يُحْبَسُ عُقُوبَةً وَلَا يُوضَعُ عَنْهُ الْخِطَابُ وَلَا يُبْطِلُ فِي ذَلِكَ عِبَارَاتِهِ وَلَا يُعَطِّلُ عَلَيْهِ أَسْبَابَ الْحُدُودِ وَالْعُقُوبَاتِ
ــ
[كشف الأسرار]
الثَّابِتِ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ شُبْهَةٌ بِحُصُولِ الشَّرْطِ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ إصَابَةُ نَوْعٍ مِنْ الرُّشْدِ بِالتَّجْرِبَةِ سَقَطَ؛ لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ أَوْ صَارَ الشَّرْطُ أَيْ شَرْطُ الدَّفْعِ فِي حُكْمِ الْوُجُودِ مِنْ وَجْهٍ بِوُجُودِ دَلِيلِهِ وَهُوَ اسْتِيفَاءُ مُدَّةِ التَّجْرِبَةِ يَعْنِي عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا ثَابِتًا بِالنَّصِّ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى يَسْقُطُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الثَّابِتَ بِالنَّصِّ رُشْدٌ نَكِرَةٌ فَإِذَا وُجِدَ رُشْدٌ مَا فَقَدْ تَحَقَّقَ الشَّرْطُ فَوَجَبَ جَزَاؤُهُ وَهُوَ دَفْعُ الْمَالِ إلَيْهِ.
قَوْلُهُ (وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ النَّظَرِ لِلسَّفِيهِ) بِجَعْلِهِ مَحْجُورًا عَنْ التَّصَرُّفَاتِ وَإِثْبَاتِ الْوِلَايَةِ لِلْغَيْرِ عَلَى مَالِهِ صَوْنًا لِمَالِهِ عَنْ الضَّيَاعِ كَمَا وَجَبَ لِلصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله لَا يَجُوزُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ مُخَاطَبٌ فَيَكُونُ مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ كَالرَّشِيدِ فَإِنَّ كَوْنَهُ مُخَاطَبًا يُثْبِتُ أَهْلِيَّةَ التَّصَرُّفِ إذْ التَّصَرُّفُ كَلَامٌ مُلْزِمٌ وَأَهْلِيَّةُ الْكَلَامِ بِكَوْنِهِ مُمَيِّزًا وَالْكَلَامُ الْمُلْزِمُ بِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا وَبِالْحُرِّيَّةِ تَثْبُتُ الْمِلْكِيَّةُ وَبِكَوْنِ الْمَالِ خَالِصُ مِلْكِهِ تَثْبُتُ الْمَحَلِّيَّةُ وَبَعْدَمَا صَدَرَ التَّصَرُّفُ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ لَا يَمْتَنِعُ نُفُوذُهُ إلَّا لِمَانِعٍ وَالسَّفَهُ لَا يَصْلُحُ مَانِعًا مِنْ نُفُوذِ التَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّ بِالسَّفَهِ لَا يُنْتَقَصُ الْعَقْلُ وَلَكِنَّ السَّفِيهَ يُكَابِرُ عَقْلَهُ فِي التَّبْذِيرِ مَعَ عِلْمِهِ بِقُبْحِهِ وَفَسَادِ عَاقِبَتِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ السَّفَهُ سَبَبًا لِلنَّظَرِ لِكَوْنِهِ مَعْصِيَةً وَالدَّلِيلُ أَنَّ السَّفِيهَ يُحْبَسُ فِي دُيُونِ الْعِبَادِ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْخِطَابُ بِحُقُوقِ الشَّرْعِ حَتَّى يُعَاقَبَ عَلَى تَرْكِهَا وَلَا يَبْطُلُ فِي ذَلِكَ أَيْ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ حُقُوقِ الشَّرْعِ وَحُقُوقِ الْعِبَادِ عِبَارَاتُهُ حَتَّى صَحَّ طَلَاقُهُ وَعَتَاقُهُ وَنِكَاحُهُ وَنَذْرِهِ وَيَمِينُهُ وَإِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ.
1 -
وَلَا يُعَطَّلُ عَلَيْهِ أَسْبَابُ الْحُدُودِ وَالْعُقُوبَاتِ حَتَّى لَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ أَوْ زَنَى أَوْ سَرَقَ أَوْ قَتَلَ إنْسَانًا عَمْدًا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحُدُودُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَهَذِهِ الْعُقُوبَاتُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَلَوْ بَقِيَ السَّفَهُ مُعْتَبَرًا بَعْدَ الْبُلُوغِ عَنْ عَقْلٍ فِي إيجَابِ النَّظَرِ لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُعْتَبَرَ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَلَوْ جَازَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ النَّظَرِ لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُحْجَرَ عَلَيْهِ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ يَلْحَقُ بِنَفْسِهِ وَالْمَالُ تَابِعٌ لِلنَّفْسِ فَإِذَا لَمْ يُنْظَرْ لَهُ فِي دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ فَعَنْ مَالِهِ أَوْلَى.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رحمهم الله يَجُوزُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بِهَذَا السَّبَبِ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ الْمُحْتَمِلَةِ لِلْفَسْخِ وَهِيَ مَا يُبْطِلُهُ الْهَزْلُ دُونَ مَا لَا يُبْطِلُهُ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَنَحْوِهِمَا إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا إنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ النَّظَرِ لَهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله عَلَى سَبِيلِ الزَّجْرِ وَالْعُقُوبَةِ وَيَظْهَرُ الْخِلَافُ فِيمَا إذَا كَانَ مُفْسِدًا فِي دِينِهِ مُصْلِحًا فِي مَالِهِ كَالْفَاسِقِ فَعِنْدَهُ يُحْجَرُ عَلَيْهِ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْفَسَادِ بِطَرِيقِ الزَّجْرِ وَالْعُقُوبَةِ وَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ الْفَاسِقُ أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ وَعِنْدَهُمَا لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ.
احْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] نَصَّ عَلَى إثْبَاتِ الْوِلَايَةِ عَلَى السَّفِيهِ وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ رضي الله عنهما كَانَ يُفْنِي مَالَهُ فِي اتِّخَاذِ الضِّيَافَاتِ حَتَّى اشْتَرَى لِلضِّيَافَةِ دَارًا بِمِائَةِ أَلْفٍ وَفِي رِوَايَةٍ بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ فَطَلَبَ عَلِيٌّ مِنْ عُثْمَانَ رضي الله عنهما أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ فَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ لِعَبْدِ اللَّهِ أَشْرِكْنِي فِيهَا فَأَشْرَكَهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ عُثْمَانَ رضي الله عنه فَقَالَ كَيْفَ أَحْجُرُ عَلَى رَجُلٍ شَرِيكُهُ الزُّبَيْرُ وَهُوَ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْكِيَاسَةِ فِي التِّجَارَةِ فَثَبَتَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ الْحَجْرَ بِسَبَبِ التَّبْذِيرِ وَبِأَنَّ السَّفِيهَ مُبَذِّرٌ فِي مَالِهِ فَيُحْجَرُ عَلَيْهِ نَظَرًا لَهُ كَالصَّبِيِّ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ إنَّمَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ لِتَوَهُّمِ التَّبْذِيرِ وَهُوَ مُتَحَقِّقٌ هَاهُنَا فَلَأَنْ يَكُونَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ كَانَ أَوْلَى وَكَانَ هَذَا الْحَجَرُ بِطَرِيقِ النَّظَرِ وَاجِبًا حَقًّا لِلْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ الْجَصَّاصَ رحمه الله كَانَ يَقُولُ ضَرَرُ السَّفَهِ يَعُودُ إلَى الْكَافَّةِ فَإِنَّهُ لَمَّا أَفْنَى مَالَهُ بِالسَّفَهِ
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ النَّظَرُ وَاجِبٌ حَقًّا لِلْمُسْلِمِينَ وَحَقًّا لَهُ لِدِينِهِ لَا لِسَفَهِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ حَسَنٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَإِنْ أَصَرَّ عَلَيْهَا وَقَاسَاهُ بِمَنْعِ الْمَالِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله النَّظَرُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ جَائِزٌ لَا وَاجِبٌ كَمَا فِي صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ وَإِنَّمَا يَحْسُنُ إذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ ضَرَرًا فَوْقَهُ وَهَا هُنَا يَتَضَمَّنُ ضَرَرًا فَوْقَهُ وَهُوَ وَقْفُ أَهْلِيَّتِهِ وَإِلْحَاقِهِ بِالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَالْبَهَائِمِ بِخِلَافِ مَنْعِ الْمَالِ لِمَا قُلْنَا إنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَلِأَنَّهُ عُقُوبَةً لَا يَحْتَمِلُ الْمُقَايَسَةَ وَلِأَنَّ الْيَدَ لِلْآدَمِيِّ نِعْمَةٌ زَائِدَةٌ، وَاللِّسَانُ وَالْأَهْلِيَّةُ نِعْمَةٌ أَصْلِيَّةٌ فَيَبْطُلُ الْقِيَاسُ لِإِبْطَالِ أَعْلَى النِّعْمَتَيْنِ بِاعْتِبَارِ أَدْنَاهُمَا وَقَالَا هَذِهِ الْأُمُورُ صَارَتْ حَقًّا لِلْعَبْدِ رِفْقًا بِهِ فَإِذَا أَدَّى إلَى الضَّرَرِ وَجَبَ الرَّدُّ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ حَقٌّ فِي عَيْنِ الْمَالِ
ــ
[كشف الأسرار]
وَالتَّبْذِيرِ صَارَ وَبَالًا عَلَى النَّاسِ وَعِيَالًا عَلَيْهِمْ يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَالْحَجْرُ عَلَى الْحُرِّ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْعَامَّةِ مَشْرُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا فِي الْمُفْتِي لَمَّا جُنَّ وَالطَّبِيبِ الْجَاهِلِ وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسِ وَحَقًّا لِدِينِهِ لَا لِسَفَهٍ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا لِسَفَهٍ فَهُوَ مُسْتَحَقُّ النَّظَرِ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ دِينِهِ فَإِنَّهُ بِالنَّظَرِ إلَى أَصْلِ دِينِهِ حَبِيبُ اللَّهِ تَعَالَى وَلِهَذَا لَوْ مَاتَ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَكَذَا كُلُّ فَاسِقٍ حَقًّا لِإِسْلَامِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ فَإِنَّهُمَا شُرِعَا بِطَرِيقِ النَّظَرِ لِلْمَأْمُورِ وَالْمَنْهِيِّ حَقًّا لِدِينِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ.
قَوْلُهُ (لَا لِسَفَهٍ) إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَمَّا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله السَّفَهُ جِنَايَةٌ مِنْهُ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ النَّظَرَ وَعَمَّا قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله السَّفِيهُ جَانٍ فَيَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ لَا بِطَرِيقِ النَّظَرِ فَقَالَ النَّظَرُ لَهُ وَاجِبٌ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْجِنَايَةَ مُسْتَدْعِيَةٌ لِلنَّظَرِ وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ فِي عَامَّةِ أَحْوَالِهِ وَعِنْدَ السَّفَهِ يَفُوتُ لَهُ النَّظَرُ وَتَظْهَرُ الْحَالَةُ الَّتِي تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى وُجُوبِ النَّظَرِ لَهُ فَنَظَرُ الشَّرْعِ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِوُجُودِ الْمَعْنَى الدَّاعِي إلَى النَّظَرِ.
أَلَا يُرَى أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ حَسَنٌ حَتَّى كَانَ الْعَفْوُ عَنْ الْقِصَاصِ وَعَنْ كُلِّ جِنَايَةٍ مَنْدُوبًا إلَيْهِ قَالَ تَعَالَى {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178]{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] وَكَذَا الْعَفْوُ عَنْهُ فِي الْآخِرَةِ حَسَنٌ وَإِنْ مَاتَ مُصِرًّا عَلَى الْكَبِيرَةِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ حَتَّى جَازَ أَنْ يُدْخِلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِهِ وَكَرْمِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمِ عُقُوبَةٍ رَغْمًا لِأُنُوفِ الْمُعْتَزِلَةِ وَقَاسَاهُ بِمَنْعِ الْمَالِ فَإِنَّ مَنْعَ الْمَالَ عَنْهُ كَانَ بِطَرِيقِ النَّظَرِ لِيَبْقَى مَصُونًا عَنْ التَّلَفِ وَلَا يَضِيعُ بِالتَّبْذِيرِ وَالْإِسْرَافِ فَكَذَلِكَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَنْعَ الْمَالِ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِعَيْنِهِ بَلْ لِإِبْقَاءِ مِلْكِهِ وَلَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ مَا لَمْ يَقْطَعْ لِسَانَهُ عَنْ مَالِهِ تَصَرُّفًا فَإِنَّهُ إذَا كَانَ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ لَا يُفِيدُ مَنْعَ الْمَالِ شَيْئًا وَإِنَّمَا يَكُونُ فِيهِ زِيَادَةُ مُؤْنَةٍ وَكُلْفَةٍ عَلَى الْوَلِيِّ فِي حِفْظِ مَالِهِ إلَى أَنْ يُتْلِفَهُ بِتَصَرُّفِهِ.
وَإِنَّمَا لَمْ يَثْبُتْ الْحَجْرُ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لِسَبَبِ السَّفَهِ فِي التَّصَرُّفَاتِ كَالْهَازِلِ فَإِنَّ الْهَازِلَ يَخْرُجُ كَلَامُهُ عَلَى غَيْرِ نَهْجِ كَلَامِ الْعُقَلَاءِ لِقَصْدِ اللَّعِبِ بِهِ دُونَ مَا وُضِعَ الْكَلَامُ لَهُ لَا لِنُقْصَانٍ فِي عَقْلِهِ فَكَذَلِكَ السَّفِيهُ يَخْرُجُ كَلَامُهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ عَلَى غَيْرِ نَهْجِ كَلَامِ الْعُقَلَاءِ لِاتِّبَاعِ الْهَوَى وَمُكَابَرَةِ الْعَقْلِ لَا لِنُقْصَانٍ فِي عَقْلِهِ فَكُلُّ تَصَرُّفٍ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ السَّفَهُ أَيْضًا وَكُلُّ تَصَرُّفٍ يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ وَهُوَ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ يُؤَثِّرُ فِيهِ السَّفَهُ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله) يَعْنِي فِي الْجَوَابِ عَنْ كَلَامِهِمَا أَنَّ النَّظَرَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلنَّظَرِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ جَائِزٌ لَا وَاجِبٌ كَمَا فِي صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ يَجُوزُ الْعَفْوُ وَلَا يَجِبُ وَمِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ الْحَجْرَ وَاجِبٌ فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال ثُمَّ النَّظَرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إنَّمَا يَحْسُنُ إذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ ضَرَرًا فَوْقَ هَذَا النَّظَرِ هَاهُنَا قَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ بِخِلَافِ مَنْعِ الْمَالِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى لِمَا بَيَّنَّا فَلَا يُمْكِنُ تَعْدِيَتُهُ إلَى غَيْرِهِ وَلِأَنَّهُ ثَبَتَ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا لَا بِطَرِيقِ النَّظَرِ فَإِنَّ سَبَبَهُ جِنَايَةٌ وَهُوَ مُكَابَرَةُ الْعَقْلِ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى وَالْحُكْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ وَهُوَ مَنْعُ الْمَالِ يَصْلُحُ جَزَاءً كَإِيجَابِ الْمَالِ فَيُجْعَلُ جَزَاءً فَإِنَّا عَرَفْنَا سَائِرَ الْأَجْزِيَةِ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَهُوَ إنَّا نَظَرْنَا إلَى سَبَبٍ فَوَجَدْنَاهُ جِنَايَةً وَنَظَرْنَا إلَى الْحُكْمِ فَوَجَدْنَاهُ صَالِحًا لِلْعُقُوبَةِ فَسَمَّيْنَاهُ عُقُوبَةً كَالْجَلْدِ فِي الزِّنَا وَقَطْعِ الْيَدِ فِي السَّرِقَةِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ عُقُوبَةٌ لَا يُمْكِنُ تَعْدِيَتُهُ إلَى مَنْعِ اللِّسَانِ وَقَصْرِ الْعِبَارَةِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَجْرِي فِي الْعُقُوبَاتِ.
وَلَا يُقَالُ إنَّ الْمَنْعَ لَوْ كَانَ عُقُوبَةً لَفَوَّضَ أَيْ الْإِمَامُ وَالْأَوْلِيَاءُ هُمْ الْمُخَاطَبُونَ بِهِ دُونَ الْأَئِمَّةِ لِأَنَّا نَقُولُ هُوَ عُقُوبَةُ تَعْزِيرٍ وَتَأْدِيبٍ لَا حَدٌّ فَيَجُوزُ أَنْ يُفَوَّضَ إلَى الْأَوْلِيَاءِ كَمَا فِي تَعْزِيرِ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ النَّصَّ مَعْقُولُ الْمَعْنَى وَأَنَّهُ مَعْلُولٌ بِعِلَّةِ النَّظَرِ لَا بِالْعُقُوبَةِ لَا نُسَلِّمُ جَوَازَ قِيَاسِ الْحَجْرِ
وَهَذَا قِيَاسُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله فِيمَنْ تَصَرَّفَ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ بِمَا يَضُرُّ جِيرَانَهُ أَنَّهُ يُمْنَعُ عَنْهُ فَصَارَ الْحَجْرُ عِنْدَهُمَا مَشْرُوعًا بِطَرِيقِ النَّظَرِ وَإِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يُنْظَرَ إلَى مَا فِيهِ نَظَرٌ لَهُ أَبَدًا فَلَا يُلْحَقُ بِالصَّبَى خَاصَّةً وَلَا بِالْمَرِيضِ وَلَا بِالْمُكْرَهِ لَكِنْ يَجِبُ إثْبَاتُ النَّظَرِ بِأَيِّ أَصْلٍ أَمْكَنَ اعْتِبَارُهُ عَلَى مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْمَبْسُوطِ
ــ
[كشف الأسرار]
عَلَى الْمَنْعِ أَيْضًا لِعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ؛ لِأَنَّ مَنْعَ الْمَالِ إبْطَالُ نِعْمَةٍ زَائِدَةٍ عَلَيْهِ وَهِيَ الْيَدُ وَإِلْحَاقُهُ بِالْفُقَرَاءِ وَإِثْبَاتُ الْحَجْرِ إبْطَالُ وِلَايَتِهِ وَأَهْلِيَّتِهِ وَإِلْحَاقِهِ بِالْبَهَائِمِ وَهِيَ نِعْمَةٌ أَصْلِيَّةٌ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَمْتَازُ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانِ بِالْبَيَانِ فَبَانَ جَوَازُ إلْحَاقِ ضَرَرٍ يَسِيرٍ بِهِ فِي مَنْعِ نِعْمَةٍ زَائِدَةٍ وَإِلْحَاقِهِ بِالْفُقَرَاءِ لِتَوْفِيرِ النَّظَرِ عَلَيْهِ لَا يُسْتَدَلُّ عَلَى جَوَازِ إلْحَاقِ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ بِهِ بِتَفْوِيتِ النِّعْمَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَإِلْحَاقِهِ بِالْبَهَائِمِ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ السَّفِيهِ عَلَى مَا قِيلَ هُوَ الصَّبِيُّ الَّذِي عَقَلَ فَإِنَّ بَعْضَ تَصَرُّفَاتِهِ يَخْرُجُ عَنْ نَهْجِ الِاسْتِقَامَةِ وَمِنْ الضَّعِيفِ الصَّبِيُّ الصَّغِيرُ وَمِنْ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ الْمَجْنُونُ وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْ السَّفِيهِ هُوَ الْمُبَذِّرُ الَّذِي اخْتَلَفْنَا فِيهِ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْوَلِيِّ هُوَ وَلِيُّ الْحَقِّ لَا وَلِيُّ السَّفِيهِ وَفِي الْآيَةِ كَلَامٌ طَوِيلٌ وَعَنْ الْحَدِيثِ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه لَمْ يَطْلُبْ الْحَجْرَ بِسَبَبِ السَّفَهِ بِدَلِيلِ أَنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه تَرَكَ الْحَجْرَ بِسَبَبِ إشْرَاكِ الزُّبَيْرِ وَمَنْ يَرَى الْحُجَّةَ لَا يُتْرَكُ بِمِثْلِ هَذَا الْعُذْرِ فَإِنَّ الْغَبْنَ الْوَاقِعَ فِي الْعَقْدِ لَا يَرْتَفِعُ بِإِشْرَاكِ الْغَيْرِ وَلَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه رَآهُ إسْرَافًا حِينَ أَنْفَقَ مَالًا عَظِيمًا فِي شِرَاءِ دَارٍ وَهِيَ حَظُّ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهُ مَتَى أَنْفَقَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي كُلِّ حُظُوظِ الدُّنْيَا رُبَّمَا يُقَصِّرُ فِي حُظُوظِ الْآخِرَةِ فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّخْوِيفِ وَعَنْ قَوْلِهِمْ لَا فَائِدَةَ فِي مَنْعِ الْمَالِ مَعَ إطْلَاقِ التَّصَرُّفِ أَنَّ السَّفِيهَ إنَّمَا يُتْلِفُ مَالَهُ عَادَةً فِي التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي لَا يَتِمُّ إلَّا بِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَى الْمَالِ مِنْ اتِّخَاذِ الضِّيَافَةِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ فَإِذَا كَانَتْ يَدُهُ مَقْصُورَةً عَنْ الْمَالِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَنْفِيذِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِمَنْعِ الْمَالِ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ ثُمَّ أَجَابَ الشَّيْخُ لَهُمَا عَمَّا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله مَيْلًا مِنْهُ إلَى قَوْلِهِمَا بِقَوْلِهِ وَقَالَا هَذِهِ الْأُمُورُ يَعْنِي الْيَدَ وَاللِّسَانَ وَالْأَهْلِيَّةَ صَارَتْ حَقًّا لِلْعَبْدِ رِفْقًا بِهِ يَعْنِي ثَبَتَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ لِلْعَبْدِ لِأَجْلِ أَنْ يَرْتَفِقَ بِهَا الْعَبْدُ فَإِذَا أَدَّى ثُبُوتُ هَذِهِ الْأُمُورِ إلَى الضَّرَرِ فِي حَقِّهِ وَفِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ وَجَبَ الرَّدُّ أَيْ رَدُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ كَيْ لَا يَصِيرَ ثُبُوتُهَا عَائِدًا عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ وَلِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِدُونِ الْوَاوِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ.
وَقَوْلُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ حَقٌّ فِي عَيْنِ الْمَالِ أَيْ مَالِ السَّفِيهِ إشَارَةٌ إلَى رَدِّ مَا أُجِيبَ عَنْ قَوْلِهِمَا فَإِنَّهُمَا لَمَّا قَالَا النَّظَرُ وَاجِبٌ بِالْحَجْرِ حَقًّا لِلْمُسْلِمِينَ أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي حَقِّهِمْ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ فَلَا يَجِبُ الْحَجْرُ فَرَدَّا ذَلِكَ الْجَوَابَ وَقَالَا إنَّهُ وَإِنْ تَصَرَّفَ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ وَلَا حَقَّ لِلْمُسْلِمِينَ فِي مَالِهِ يُؤَدِّي تَصَرُّفُهُ إلَى الْإِضْرَارِ بِالْمُسْلِمِينَ فِي الْمَالِ فَيَجِبُ دَفْعُهُ عَنْهُمْ بِالْحَجْرِ فِي الْحَالِ وَهَذَا أَيْ وُجُوبُ الرَّدِّ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ قِيَاسُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله فِيمَنْ تَصَرَّفَ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ بِمَا يَضُرُّ جِيرَانَهُ يُمْنَعُ حَتَّى لَوْ اتَّخَذَ طَاحُونَةً لِلْأُجْرَةِ يُمْنَعُ وَلَوْ نَصَبَ مِنْوَالًا لِاسْتِخْرَاجِ الْإِبْرَيْسَمِ مِنْ الْفَيْلَقِ فَلِلْجِيرَانِ الْمَنْعُ إذَا تَضَرَّرُوا بِالدُّخَانِ وَرَائِحَةِ الدِّيدَانِ وَلِلْجِيرَانِ مَنْعُ دَقَّاقِ الذَّهَبِ لِتَضَرُّرِهِمْ بِدَقِّهِ وَكَذَا النَّدَّافُ إذَا كَانَ ضَرَرُهُ بَيِّنًا يُمْنَعُ كَذَا فِي مُخْتَصَرِ الْمُنْيَةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ فَثَبَتَ أَنَّ شَرْعِيَّةَ الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ عَنْهُ هُمَا بِطَرِيقِ النَّظَرِ.
1 -
قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يُنْظَرَ إلَى مَا فِيهِ نَظَرٌ لَهُ أَبَدًا) يَعْنِي لَا يُجْعَلُ السَّفِيهُ عِنْدَهُمَا كَالْهَازِلِ فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ وَلَا كَالصَّبِيِّ وَلَا كَالْمَرِيضِ بَلْ الْمُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ تَوْفِيرُ النَّظَرِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ ثَبَتَ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ فَبِحَسْبِهِ يَلْحَقُ بِبَعْضِ هَذِهِ الْأُصُولِ.
فَإِذَا أَعْتَقَ عَبْدًا نَفَذَ عِتْقُهُ؛ لِأَنَّ السَّفَهَ كَالْهَزْلِ وَلَكِنَّهُ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ ثَبَتَ بِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْحَجْرِ عَلَى الْمَرِيضِ لِغُرَمَائِهِ وَوَرَثَتِهِ وَهُنَاكَ وَجَبَتْ السِّعَايَةُ لِلْغُرَمَاءِ فِي كُلِّ الْقِيمَةِ وَلِلْوَرَثَةِ فِي ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ رَدَّا لِلْعِتْقِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ
وَهُوَ أَنْوَاعٌ عِنْدَهُمَا حَجْرٌ بِسَبَبِ السَّفَهِ مُطْلَقًا وَذَلِكَ يَثْبُتُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله بِنَفْسِ السَّفَهِ إذَا حَدَثَ بَعْدَ الْبُلُوغِ أَوْ بَلَغَ كَذَلِكَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله لَا بُدَّ مِنْ حُكْمِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ بَابَ النَّظَرِ إلَى الْقَاضِي. وَالنَّوْعُ الثَّانِي إذَا امْتَنَعَ الْمَدْيُونُ عَنْ بَيْعِ مَالِهِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ بَاعَ الْقَاضِي عَلَيْهِ أَمْوَالَهُ وَالْعُرُوضُ وَالْعَقَارُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَذَلِكَ ضَرْبُ حَجْرٍ.
ــ
[كشف الأسرار]
فَكَذَا هَاهُنَا وَإِنْ جَاءَتْ جَارِيَةٌ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَكَانَ الْوَلَدُ حُرًّا لَا سَبِيلٍ عَلَيْهِ وَالْجَارِيَةُ أُمُّ وَلَدٍ لَا سَبِيلَ عَلَيْهَا لِأَحَدٍ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ تَوْفِيرَ النَّظَرِ فِي إلْحَاقِهِ بِالْمُصْلِحِ فِي حُكْمِ الِاسْتِيلَاءِ لِحَاجَتِهِ إلَى إبْقَاءِ نَسْلِهِ وَصِيَانَةِ مَائِهِ فَيَلْحَقُ فِي هَذَا بِالْمَرِيضِ الْمَدْيُونِ إذَا ادَّعَى نَسَبَ وَلَدِ جَارِيَتِهِ كَانَ هُوَ فِي ذَلِكَ كَالصَّحِيحِ حَتَّى إنَّهَا تَعْتِقُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ بِمَوْتِهِ وَلَا تَسْعَى هِيَ وَلَا وَلَدُهَا فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى حَقِّ غُرَمَائِهِ وَلَوْ اشْتَرَى هَذَا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ ابْنَهُ وَهُوَ مَعْرُوفٌ وَقَبَضَهُ كَانَ شِرَاؤُهُ فَاسِدًا وَيَعْتِقُ الْغُلَامُ حِين قَبَضَهُ وَيُجْعَلُ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ شِرَاءِ الْمُكْرَهِ فَيَثْبُتُ لَهُ الْمِلْكُ بِالْقَبْضِ وَيَعْتِقُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ ابْنِهِ ثُمَّ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ لِلْبَائِعِ وَلَا يَكُونُ لِلْبَائِعِ فِي مَالِ الْمُشْتَرِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ مَلَكَهُ لِلْقَبْضِ فَالْتِزَامُ الثَّمَنِ أَوْ الْقِيمَةِ مِنْهُ بِالْعَقْدِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ فَهُوَ فِي هَذَا الْحُكْمِ مُلْحَقٌ بِالصَّبِيِّ.
وَلَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ أَوْ نَذَرَ نُذُورًا مِنْ هَدْيٍ أَوْ صَدَقَةٍ لَمْ يُنْفِذْ لَهُ الْقَاضِي شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَدَعْهُ يُكَفِّرُ أَيْمَانَهُ؛ لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْإِتْلَافِ فَهُوَ مُلْحَقٌ بِالصَّبِيِّ فِي هَذَا الْحُكْمِ أَيْضًا وَلَكِنَّهُ يَصُومُ لِكُلِّ يَمِينٍ حَنِثَ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ وَإِنْ كَانَ هُوَ مَالِكًا؛ لِأَنَّ يَدَهُ مَقْصُورَةٌ عَنْ مَالِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ ابْنِ السَّبِيلِ الْمُنْقَطِعِ عَنْ مَالِهِ فَلَهُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصَّوْمِ.
قَوْلُهُ (وَهُوَ) أَيْ الْحَجْرُ بِسَبَبِ النَّظَرِ عِنْدَهُمَا أَنْوَاعٌ حَجَرٌ بِسَبَبِ السَّفَهِ مُطْلَقًا يَعْنِي سَوَاءٌ كَانَ أَصْلِيًّا بِأَنْ بَلَغَ سَفِيهًا أَوْ عَارِضًا بِأَنْ حَدَثَ بَعْدَ الْبُلُوغِ رَشِيدًا وَذَلِكَ أَيْ هَذَا الْحَجْرُ يَثْبُتُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ بِنَفْسِ السَّفَهِ بِدُونِ حَجْرِ الْقَاضِي أَصْلِيًّا كَانَ أَوْ عَارِضًا؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ قَامَتْ لَنَا عَلَى أَنَّ السَّفَهَ فِي ثُبُوتِ الْحَجْرِ بِهِ نَظِيرُ الْجُنُونِ وَالْعَتَهِ وَالصِّغَرِ وَالرِّقِّ، وَالْحَجْرُ يَثْبُتُ بِنَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي فَكَذَلِكَ بِالسَّفَهِ وَأَبُو يُوسُفَ رحمه الله يَقُولُ لَا يَصِيرُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ مَا لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ الْقَاضِي فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ وَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ النَّظَرِ وَالضَّرَرِ فَفِي إبْقَاءِ الْمِلْكِ لَهُ نَظَرٌ وَفِي إهْدَارِ قَوْلِهِ ضَرَرٌ وَبِمِثْلِ هَذَا لَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ مِنْهُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي يُوَضِّحُهُ أَنَّ السَّفَهَ لَيْسَ بِشَيْءٍ مَحْسُوسٍ وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِأَنْ يُغْبَنَ فِي التَّصَرُّفَاتِ وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِلسَّفَهِ وَقَدْ يَكُونُ حِيلَةً لِاسْتِجْلَابِ قُلُوبِ الْمُجَاهِرِينَ فَإِذَا كَانَ مُحْتَمِلًا مُتَرَدِّدًا لَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِخِلَافِ الصِّغَرِ وَالْجُنُونِ وَالْعَتَهِ وَلِأَنَّ الْحَجْرَ بِهَذَا السَّبَبِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي كَالْحَجْرِ بِسَبَبِ الدِّينِ.
فَلَوْ أَدْرَكَ سَفِيهًا فَلَمْ يَرْفَعْ أَمْرَهُ إلَى الْقَاضِي حَتَّى بَاعَ شَيْئًا مِنْ تَرِكَةِ وَالِدِهِ وَأَقَرَّ بِدُيُونٍ وَوَهَبَ هِبَاتٍ وَتَصَدَّقَ بِصَدَقَاتٍ صَحَّ جَمِيعُهَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ. رَحِمَهُمَا اللَّهُ النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الْحَجْرِ أَنَّ الْمَدْيُونَ إذَا امْتَنَعَ عَنْ بَيْعِ مَالِهِ لِقَضَاءِ الدِّينِ بَاعَ الْقَاضِي عَلَيْهِ أَمْوَالَهُ عُرُوضًا كَانَ أَوْ عَقَارًا عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لَا يَبِيعُ عَلَيْهِ مَالَهُ إلَّا أَحَدَ النَّقْدَيْنِ بِالْآخِرِ اسْتِحْسَانًا لِقَضَاءِ دَيْنِهِ احْتَجَّا فِي ذَلِكَ بِحَدِيثِ «مُعَاذٍ رضي الله عنه فَإِنَّهُ رَكِبَتْهُ الدُّيُونُ فَبَاعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَالَهُ وَقَسَّمَ ثَمَنَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ» وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه فِي خُطْبَتِهِ إيَّاكُمْ وَالدَّيْنَ فَإِنَّ أَوَّلَهُ هَمٌّ وَآخِرَهُ حُزْنٌ وَإِنَّ أُسَيْفِعَ جُهَيْنَةَ قَدْ رَضِيَ مِنْ دِينه وَأَمَانَته أَنْ يُقَال قَدْ سَبَقَ الْحَاجّ فادان مُعْرِضًا فَأَصْبَحَ وَقَدْ رِينَ عَلَيْهِ أَلَا إنِّي بَائِعٌ عَلَيْهِ مَالَهُ وَقَاسِمٌ ثَمَنَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ مِمَّنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيَغْدُ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَكَانَ هَذَا اتِّفَاقًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ يُبَاعُ عَلَى الْمَدْيُونِ مَالُهُ وَبِأَنَّ بَيْعَ الْمَالِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُحْبَسُ إذَا امْتَنَعَ مِنْهُ وَهُوَ مِمَّا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ وَالْأَصْلُ أَنَّ مَنْ امْتَنَعَ عَنْ إيفَاءِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ وَهُوَ مِمَّا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ كَالذِّمِّيِّ إذَا أَسْلَمَ عَبْدُهُ فَأَبَى أَنْ يَبِيعَهُ بَاعَهُ الْقَاضِي، وَالْعِنِّينُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ
وَالثَّالِثُ أَنْ يَخَافَ عَلَى الْمَدْيُونِ أَنْ يُلْجِئَ أَمْوَالَهُ بِبَيْعٍ أَوْ إقْرَارٍ فَيَحْجُرَ عَلَيْهِ عَلَى أَنْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ إلَّا مَعَ هَؤُلَاءِ الْغُرَمَاءِ وَالرَّجُلُ غَيْرُ سَفِيهٍ فَإِنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ لِيُعْلَمَ أَنَّ طَرِيقَ الْحَجْرِ عِنْدَهُمَا النَّظَرُ لِلْمُسْلِمِينَ فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ السَّفَهُ مِنْ أَسْبَابِ النَّظَرِ فَلَا لَكِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَضْلِ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ.
ــ
[كشف الأسرار]
إذَا أَبَى أَنْ يُفَارِقَهَا نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا وَأَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وَبَيْعُ الْمَالِ عَلَى الْمَدْيُونِ بِغَيْرِ رِضَاهُ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ عَنْ تَرَاضٍ وَبِأَنَّ بَيْعَ الْمَالِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ قَضَاءُ الدَّيْنِ وَبَيْعُ الْمَالِ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ قَضَائِهِ بِالِاسْتِيهَابِ وَالِاسْتِقْرَاضِ وَسُؤَالِ الصَّدَقَةِ مِنْ النَّاسِ فَلَا يَكُونُ لِلْقَاضِي تَعْيِينُ هَذِهِ الْجِهَةِ عَلَيْهِ بِمُبَاشَرَةِ بَيْعِ مَالِهِ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ كَالْإِجَارَةِ وَالتَّزْوِيجِ.
الدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَحْبِسُهُ بِالِاتِّفَاقِ وَلَوْ جَازَ لَهُ بَيْعُ مَالِهِ لَمْ يَشْتَغِلْ بِحَبْسِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِهِ وَبِالْغُرَمَاءِ فِي تَأْخِيرِ وُصُولِ حَقِّهِمْ إلَيْهِمْ فَلَا مَعْنَى لِلْمَصِيرِ إلَيْهِ بِدُونِ الْحَاجَةِ وَهَذَا بِخِلَافِ عَبْدِ الذِّمِّيِّ إذَا أَسْلَمَ؛ لِأَنَّ عِنْدَ إصْرَارِ الْمَوْلَى عَلَى الشِّرْكِ إخْرَاجَ الْعَبْدِ عَنْ مِلْكِهِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ فَيَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهُ. وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْعِنِّينِ لَمَّا تَحَقَّقَ عَجْزُهُ عَنْ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ اُسْتُحِقَّ عَلَيْهِ التَّسْرِيحُ بِعَيْنِهِ فَأَمَّا مُبَادَلَةُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالْآخَرِ بِأَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ وَمَالُهُ دَنَانِيرَ فَفِي الْقِيَاسِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُبَاشِرَ هَذِهِ الْمُصَارَفَةَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الطَّرِيقَ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِمَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَضَاءُ الدَّيْنِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُفْعَلُ ذَلِكَ. الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ جِنْسَانِ صُورَةً، وَجِنْسٌ وَاحِدٌ مَعْنًى وَلِهَذَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ وَلَوْ كَانَ مَالُهُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ صُورَةً كَانَ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِهِ دَيْنَهُ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَالُهُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ مَعْنًى وَلَكِنْ لَا يَكُونُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ وِلَايَةُ الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ كَمَا لَوْ ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ صُورَةً وَإِنْ كَانَا جِنْسًا وَاحِدًا حُكْمًا فَلِعَدَمِ الْمُجَانَسَةِ صُورَةً لَا يَنْفَرِدُ صَاحِبُ الدَّيْنِ بِأَخْذِهِ وَلِوُجُودِ الْمُجَانَسَةِ مَعْنًى كَانَ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ مُعَاذٍ رضي الله عنه أَنَّهُ عليه السلام إنَّمَا بَاعَ مَالَهُ بِسُؤَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَفَاءً بِدَيْنِهِ فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَوَلَّى بَيْعَ مَالِهِ لِيَنَالَ مَالُهُ بَرَكَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَصِيرَ وَفَاءً بِدَيْنِهِ.
وَهَذَا؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا يَأْمُرُ الْقَاضِي الْمَدْيُونَ بِبَيْعِ مَالِهِ أَوَّلًا فَإِذَا امْتَنَعَ فَحِينَئِذٍ يَبِيعُ مَالَهُ وَلَا يُظَنُّ بِمُعَاذٍ أَنَّهُ كَانَ يَأْبَى أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إيَّاهُ بِبَيْعِ مَالِهِ حَقٌّ يَحْتَاجُ بِبَيْعِهِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ فَإِنَّهُ كَانَ سَمْحًا جَوَادًا لَا يَمْنَعُ أَحَدًا شَيْئًا وَلِأَجْلِهِ رَكِبَتْهُ الدُّيُونُ فَكَيْفَ يَمْتَنِعُ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ بِمَالِهِ بَعْدَ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمَشْهُورُ فِي حَدِيثِ أُسَيْفِعَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ إنِّي قَاسِمٌ مَالَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ مَالَهُ كَانَ مِنْ جِنْسِ دَيْنِهِ وَإِنْ ثَبَتَ الْبَيْعُ فَإِنَّمَا كَانَ بِرِضَاهُ.
أَلَا تَرَى أَنَّ عِنْدَهُمَا الْقَاضِيَ لَا يَبِيعُهُ إلَّا عِنْدَ طَلَبِ الْغُرَمَاءِ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ الْغُرَمَاءَ طَالَبُوهُ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا الْمَنْقُولُ أَنَّهُ ابْتَدَأَهُمْ بِذَلِكَ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَغْدُوَا إلَيْهِ فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ بِرِضَاهُ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ.
قَوْلُهُ (وَالثَّالِثُ أَنْ يَخَافَ عَلَى الْمَدْيُونِ) إلَى آخِرِهِ إذَا خِيفَ عَلَى مَنْ رَكِبَتْهُ الدُّيُونُ أَنْ يُلْجِئَ مَالَهُ بِطَرِيقِ الْإِقْرَارِ أَوْ الْبَيْعِ فَطَلَبَ الْغُرَمَاءُ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ لَا يَحْجُرُ الْقَاضِي عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَعِنْدَهُمَا يَحْجُرُ عَلَيْهِ وَبَعْدَ الْحَجْرِ لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِي الْمَالِ الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ عِنْدَ الْحَجْرِ وَيُنْفِذُ تَصَرُّفَاتِهِ فِيمَا يَكْتَسِبُ مِنْ الْمَالِ بَعْدَهُ وَفِي هَذَا الْحَجْرِ نَظَرٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَإِذَا جَازَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا بِطَرِيقِ النَّظَرِ لَهُ فَلِذَلِكَ يَحْجُرُ عَلَيْهِ لِأَجْلِ النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله كَمَا لَا يَحْجُرُ عَلَى الْمَدْيُونِ نَظَرًا لَهُ لَا يَحْجُرُ عَلَيْهِ نَظَرًا لِلْغُرَمَاءِ لِمَا فِي الْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّصَرُّفَاتِ فِي مَالِهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يَجُوزُ النَّظَرُ لِغُرَمَائِهِ بِطَرِيقٍ لَا يَكُونُ فِيهِ أَلْحَقَ الضَّرَرَ بِهِ إلَّا بِقَدْرِ مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ وَهُوَ الْحَبْسُ فِي الدَّيْنِ لِأَجْلِ ظُلْمِهِ الَّذِي تَحَقَّقَ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ وَخَوْفِ التَّلْجِئَةِ ظُلْمٌ مَوْهُومٌ مِنْهُ فَلَا يُجْعَلُ كَالْمُتَحَقِّقِ ثُمَّ الضَّرَرُ فِي إهْدَارِ قَوْلِهِ فَوْقَ الضَّرَرِ فِي حَبْسِهِ وَلَا يُسْتَدَلُّ بِثُبُوتِ الْأَدْنَى عَلَى ثُبُوتِ الْأَعْلَى كَمَا فِي مَنْعِ الْمَالِ مِنْ