المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[القسم الأول تفسير الترجيح ومعناه] - كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي - جـ ٤

[علاء الدين عبد العزيز البخاري - فخر الإسلام البزدوي]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ الِاسْتِحْسَانِ]

- ‌[أَقْسَامُ الِاسْتِحْسَانِ]

- ‌[بَابُ أَحْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الِاجْتِهَادِ وَالْكَلَامُ فِي شَرْطِهِ وَحُكْمِهِ]

- ‌[شَرْطُ الِاجْتِهَادِ]

- ‌[حُكْمُ الِاجْتِهَاد]

- ‌(بَابُ فَسَادِ تَخْصِيصِ الْعِلَلِ)

- ‌(بَابُ وُجُوهِ دَفْعِ الْعِلَلِ)

- ‌[أَقْسَام الْعِلَل]

- ‌[الْعِلَل الْمُؤْثَرَة وَطُرُق دُفَعهَا]

- ‌[دَفْعِ الْعِلَل الْمُؤْثَرَة بِطَرِيقِ فاسد وَطَرِيق صَحِيح]

- ‌(بَابُ الْمُمَانَعَةِ)

- ‌بَابُ الْمُعَارَضَةِ)

- ‌[النَّوْعُ الْأَوَّلِ الْمُعَارَضَةُ الَّتِي فِيهَا مُنَاقَضَةٌ]

- ‌[النَّوْعُ الثَّانِي الْمُعَارَضَة الْخَالِصَة]

- ‌بَابُ بَيَانِ وُجُوهِ دَفْعِ الْمُنَاقَضَةِ) :

- ‌بَابُ التَّرْجِيحِ) :

- ‌[الْقِسْمُ الْأَوَّل تَفْسِيرِ التَّرْجِيحِ وَمَعْنَاهُ]

- ‌[الْقِسْمُ الثَّانِي التَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ الْأَثَرِ]

- ‌[الْقِسْمُ الثَّالِثُ بَيَانُ الْمُخَلِّصِ فِي تَعَارُضِ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ]

- ‌[الْقِسْمُ الرَّابِعِ بَيَانُ الْفَاسِدِ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ تَرْجِيحُ الْقِيَاسِ بِقِيَاسٍ آخَرَ]

- ‌(بَابُ وُجُوهِ دَفْعِ الْعِلَلِ الطَّرْدِيَّةِ)

- ‌ الْقَوْلُ بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ

- ‌ الْمُمَانَعَةُ

- ‌ فَسَادُ الْوَضْعِ

- ‌ الْمُنَاقَضَةُ

- ‌ بَابُ وُجُوهِ الِانْتِقَالِ) :

- ‌بَابُ مَعْرِفَةِ أَقْسَامِ الْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ وَالشُّرُوطِ

- ‌(بَابُ تَقْسِيمِ السَّبَبِ)

- ‌بَابُ تَقْسِيمِ الْعِلَّةِ)

- ‌(بَابُ تَقْسِيمِ الشَّرْطِ)

- ‌بَابُ تَقْسِيمِ الْعَلَامَةِ) :

- ‌(بَابُ بَيَانِ الْعَقْلِ) :

- ‌(بَابُ بَيَانِ الْأَهْلِيَّةِ) :

- ‌[أضرب الْأَهْلِيَّة]

- ‌(بَابُ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ)

- ‌(بَابُ الْأُمُورِ الْمُعْتَرِضَةِ عَلَى الْأَهْلِيَّةِ) :

- ‌بَابُ الْعَوَارِضِ) (الْمُكْتَسَبَةِ) :وَهِيَ نَوْعَانِ

- ‌[النَّوْع الْأَوَّل مِنْ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ]

- ‌جَهْلُ صَاحِبِ الْهَوَى فِي صِفَاتِ اللَّهِ عز وجل وَأَحْكَامِ الْآخِرَةِ

- ‌ الْجَهْلُ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ الصَّحِيحِ أَوْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ

- ‌ الْجَهْلُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ مُسْلِمٍ لَمْ يُهَاجِرْ

- ‌[فَصْلٌ السُّكْر قسمان] [

- ‌الْقَسْم الْأَوَّل السُّكْر بِطَرِيقِ مُبَاح]

- ‌[الْقَسْم الثَّانِي السُّكْر بِطَرِيقِ غَيْر مُبَاح]

- ‌[فَصْلُ الْهَزْلِ مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ]

- ‌[السَّفَه مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ]

- ‌[السَّفَر مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ]

- ‌[الْخَطَأُ مِنْ الْعَوَارِض الْمُكْتَسِبَة]

الفصل: ‌[القسم الأول تفسير الترجيح ومعناه]

‌بَابُ التَّرْجِيحِ) :

قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ: الْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَابِ أَرْبَعَةُ أَضْرُبٍ أَحَدُهَا

ــ

[كشف الأسرار]

الْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ مِنْ التَّعْلِيلِ مَعَ وُرُودِ النَّقْضِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُفَسَّرِ فَلِهَذَا اخْتَرْنَا هَذِهِ الْعِبَارَةِ، قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ رحمه الله وَبِهَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ الدَّفْعِ تَبَيَّنَ الْفِقْهُ فَإِنَّهُ اسْمٌ لِضَرْبِ مَعْنًى يُنَالُ بِالتَّأَمُّلِ وَالِاسْتِنْبَاطِ فَالدَّفْعُ عَلَى طُرُقِ الْفِقْهِ هُوَ أَنْ يَكُونَ بِوُجُوهٍ لَا يُنَالُ إلَّا بِضَرْبِ تَأَمُّلٍ فَأَمَّا الدَّفْعُ بِأَلْفَاظٍ ظَاهِرَةٍ فَمِمَّا يَقَعُ بِهَا الِاحْتِرَازُ عَنْ النُّقُوضِ بِمُجَرَّدِ السَّمَاعِ فَلَا يَكُونُ فِقْهًا.

قَالَ: وَقَدْ زَادَ مَشَايِخُنَا مِنْ أَصْحَابِ الطَّرْدِ فِي هَذِهِ الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ فَعَلَّلُوا لِمَسْحِ الرَّأْسِ أَنَّهُ مَسْحٌ بِالْمَاءِ فَأَشْبَهَ مَسْحَ الْخُفِّ احْتِرَازًا عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِلَفْظٍ ظَاهِرٍ وَعَلَّلُوا لِلدَّمِ السَّائِلِ بِأَنَّهُ نَجَسٌ خَارِجٌ إلَى مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ فِي نَفْسِهِ احْتِرَازًا عَنْ غَيْرِ السَّائِلِ بِلَفْظٍ ظَاهِرٍ وَعَلَّلُوا لِإِيجَابِ الْمِلْكِ فِي الْمَغْصُوبِ بِالْغَصْبِ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ بِأَنَّهُ سَبَبٌ أَوْجَبَ مِلْكَ الْبَدَلِ فَيُوجِبُ مِلْكَ الْمُبْدَلِ الْقَابِلِ لِلْمِلْكِ احْتِرَازًا عَنْ الْمُدَبَّرِ، وَأَنَّهُ سَمِجٌ سَمَاعًا، وَلَغْوٌ ذِكْرًا لِوُقُوعِ الْغُنْيَةِ عَنْهُ بِمَا دُونَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

1 -

قَوْلُهُ: (وَإِذَا قَامَتْ الْمُعَارَضَةُ) وَلَمَّا فَرَغَ عَنْ بَيَانِ الْمُمَانَعَةِ وَالْمُعَارَضَةِ بِذَلِكَ فِي بَيَانِ دَفْعِ الْمُعَارَضَةِ بَعْدَ تَحَقُّقِهَا فَقَالَ: وَإِذَا قَامَتْ الْمُعَارَضَةُ أَيْ تَحَقَّقَتْ بِأَنْ لَمْ تَنْدَفِعْ بِطَرِيقٍ مِنْ الطُّرُقِ الْمَسْلُوكَةِ فِي دَفْعِ الْعِلَلِ مِنْ الْمُمَانَعَةِ وَالْقَلْبِ وَنَحْوِهِمَا كَانَ السَّبِيلُ فِيهِ أَيْ فِي دَفْعِ الْمُعَارَضَةِ التَّرْجِيحَ فَإِنَّ أَسْوَأَ أَحْوَالِ الْمُجِيبِ أَنْ يُسَاوِيَهُ السَّائِلُ فِي الدَّرَجَةِ بِإِقَامَةِ دَلِيلٍ يُوجِبُ خِلَافَ مَا اقْتَضَاهُ دَلِيلُ الْمُجِيبِ فَوَجَبَ دَفْعُهُ بِبَيَانِ التَّرْجِيحِ إذَا لَمْ يَنْدَفِعْ بِطَرِيقٍ آخَرَ فَإِنْ لَمْ يَتَأَتَّ لِلْمُجِيبِ التَّرْجِيحُ صَارَ مُنْقَطِعًا وَإِنْ رَجَّحَ الْمُجِيبُ عِلَّتَهُ فَلِلسَّائِلِ أَنْ يُعَارِضَ تَرْجِيحَهُ بِتَرَجُّحِ عِلَّتِهِ كَمَا كَانَ لَهُ أَنْ يُعَارِضَ عِلَّتَهُ بِعِلَّتِهِ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ تَرْجِيحُ عِلَّتِهِ لَزِمَهُ مَا ادَّعَاهُ الْمُجِيبُ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالرَّاجِحِ، وَإِهْمَالُ الْمَرْجُوحِ وَاجِبٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[بَابُ التَّرْجِيحِ]

[الْقِسْمُ الْأَوَّل تَفْسِيرِ التَّرْجِيحِ وَمَعْنَاهُ]

(بَابُ التَّرْجِيحِ) :

اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ التَّمَسُّكِ بِالتَّرْجِيحِ عِنْدَ التَّعَارُضِ وَوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالرَّاجِحِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ الْوَاجِبُ عِنْدَ التَّعَارُضِ التَّوَقُّفُ أَوْ التَّخْيِيرُ دُونَ التَّرْجِيحِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] فَقَدْ أَمَرَ بِالِاعْتِبَارِ، وَالْعَمَلُ بِالْمَرْجُوحِ اعْتِبَارٌ.

وَقَوْلُهُ عليه السلام وَنَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ وَالْحُكْمُ بِالْمَرْجُوحِ حُكْمٌ بِالظَّاهِرِ؛ وَلِأَنَّ الْأَمَارَاتِ الظَّنِّيَّةَ لَا تَزِيدُ عَلَى الْبَيِّنَاتِ، وَالتَّرْجِيحُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْبَيِّنَاتِ حَتَّى لَمْ تُرَجَّحْ شَهَادَةُ الْأَرْبَعَةِ عَلَى شَهَادَةِ الِاثْنَيْنِ فَكَذَا فِي الْأَمَارَاتِ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى صِحَّةِ التَّرْجِيحِ وَوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالرَّاجِحِ مُتَمَسِّكِينَ فِي ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ عَلَى تَقْدِيمِ بَعْضِ الْأَدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ عَلَى الْبَعْضِ إذَا اقْتَرَنَ بِهِ مَا يَقْوَى بِهِ عَلَى مُعَارَضَةٍ فَإِنَّهُمْ قَدَّمُوا خَبَرَ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ عَلَى خَبَرِ مَنْ رَوَى أَنْ «لَا مَاءَ إلَّا مِنْ الْمَاءِ» ، وَقَدَّمُوا أَيْضًا مَنْ رَوَتْ مِنْ أَزْوَاجِهِ «أَنَّهُ عليه السلام كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا، وَهُوَ صَائِمٌ» عَلَى مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرَضِيَ عَنْهُمْ - «مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صِيَامَ لَهُ» .

وَقَوَّى عَلِيٌّ خَبَرَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما فَلَمْ يُحَلِّفْهُ وَحَلَّفَ غَيْرَهُ وَقَوَّى أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه خَبَرَ الْمُغِيرَةِ فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ لَمَّا رَوَى مَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُرُ تَعْدَادُهُ؛ وَلِأَنَّ الْعُقَلَاءَ يُوجِبُونَ الْعَمَلَ بِالرَّاجِحِ بِعُقُولِهِمْ فِي الْحَوَادِثِ، وَالْأَصْلُ تَنْزِيلُ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى

ص: 76

فِي تَفْسِيرِ التَّرْجِيحِ، وَمَعْنَاهُ لُغَةً وَشَرِيعَةً وَالثَّانِي فِي الْوُجُوهِ الَّتِي تَقَعُ بِهَا بِتَرْجِيحٍ.

وَالثَّالِثُ بَيَانُ الْمُخَلِّصِ فِي تَعَارُضِ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ، وَالرَّابِعُ فِي الْفَاسِدِ مِنْ وَجْهِ التَّرْجِيحِ.

أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّ التَّرْجِيحَ عِبَارَةٌ عَنْ فَضْلِ أَحَدِ الْمِثْلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَصْفًا فَصَارَ التَّرْجِيحُ بِنَاءً عَلَى الْمُمَاثَلَةِ وَقِيَامُ التَّعَارُضِ بَيْنَ مِثْلَيْنِ يَقُومُ بِهِمَا التَّعَارُضُ قَائِمًا بِوَصْفٍ هُوَ تَابِعٌ لَا يَقُومُ بِهِ التَّعَارُضُ بَلْ يَنْعَدِمُ فِي مُقَابَلَةِ أَحَدِ رُكْنَيْ التَّعَارُضِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ رُجْحَانُ الْمِيزَانِ وَذَلِكَ أَنْ يَسْتَوِيَ الْكِفَّتَانِ بِمَا يَقُومُ بِهِ التَّعَارُضُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ ثُمَّ يَنْضَمُّ إلَى أَحَدِهِمَا شَيْءٌ لَا يَقُومُ بِهِ التَّعَارُضُ وَلَا يَقُومُ بِهِ الْوَزْنُ لَوْلَا الْأَصْلُ فَسُمِّيَ ذَلِكَ رُجْحَانًا كَالدَّانَقِ وَنَحْوِهِ فِي الْعَشَرَةِ فَأَمَّا السِّتَّةُ وَالسَّبْعَةُ إذَا ضُمَّ إلَى إحْدَى الْعَشَرَتَيْنِ فَلَا.

أَلَا يُرَى أَنَّ ضِدَّ التَّرْجِيحِ التَّطْفِيفُ وَذَلِكَ يَنْقُصَانِ فِي الْوَزْنِ وَالْكَيْلِ بِوَصْفٍ لَا يَقُومُ بِهِ التَّعَارُضُ وَلَا يَنْفِي أَصْلَ التَّعَارُضِ، وَذَلِكَ مَعْنَى التَّرْجِيحِ شَرْعًا

ــ

[كشف الأسرار]

وِزَانِ الْأُمُورِ الْعُرْفِيَّةِ لِكَوْنِهِ أَسْرَعَ إلَى الِانْقِيَادِ وَلِهَذَا قَالَ عليه السلام «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» وَالْجَوَابُ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِالْآيَةِ أَنَّ مُقْتَضَاهَا وُجُوبُ النَّظَرِ، وَلَيْسَ فِيهَا مَا يُنَافِي الْقَوْلَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالرَّاجِحِ، وَعَنْ احْتِجَاجِهِمْ بِالسُّنَّةِ مَنْعُ كَوْنِ الْمَرْجُوحِ ظَاهِرًا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ مَا تَرَجَّحَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ عَلَى الْآخَرِ وَالْمَرْجُوحُ مَعَ الرَّاجِحِ لَيْسَ كَذَلِكَ وَعَنْ تَعَلُّقِهِمْ بِمَسْأَلَةِ الشَّهَادَةِ مَا سَيَأْتِي.

وَاعْلَمْ أَيْضًا أَنَّ التَّرْجِيحَ إنَّمَا يَقَعُ بَيْنَ الْمَظْنُونَيْنِ؛ لِأَنَّ الظُّنُونَ تَتَفَاوَتُ فِي الْقُوَّةِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي مَعْلُومَيْنِ إذْ لَيْسَ بَعْضُ الْعُلُومِ أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَجْلَى وَأَقْرَبُ حُصُولًا، وَأَشَدُّ اسْتِغْنَاءً عَنْ التَّأَمُّلِ، وَلِذَلِكَ قُلْنَا إذَا تَعَارَضَ نَصَّانِ قَاطِعَانِ فَلَا سَبِيلَ إلَى التَّرْجِيحِ بَلْ الْمُتَأَخِّرُ هُوَ النَّاسِخُ إنْ عُرِفَ التَّارِيخُ، وَإِلَّا وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ أَوْ التَّوَقُّفُ وَلَا فِي مَعْلُومٍ، وَمَظْنُونٍ لِاسْتِحَالَةِ بَقَاءِ الظَّنِّ فِي مُقَابَلَةِ الْعِلْمِ فَثَبَتَ أَنَّ مَحَلَّ التَّرْجِيحِ الدَّلَائِلُ الظَّنِّيَّةُ فَبَعْدَ ذَلِكَ الْكَلَامُ فِي تَرْجِيحِ الْأَقْيِسَةِ عَلَى الْأَوْجُهِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ.

قَوْلُهُ: (فِي تَفْسِيرِ التَّرْجِيحِ وَمَعْنَاهُ لُغَةً وَشَرِيعَةً) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُسْتَقِيمِ أَيْ فِي تَفْسِيرِ التَّرْجِيحِ لُغَةً، وَمَعْنَاهُ شَرِيعَةً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُشَوَّشِ أَيْ فِي تَفْسِيرِ التَّرْجِيحِ شَرِيعَةً، وَمَعْنَاهُ لُغَةً.

أَمَّا الْأَوَّلُ، وَهُوَ تَفْسِيرُ التَّرْجِيحِ لُغَةً وَشَرِيعَةً وَالثَّانِي فِي الْوُجُوهِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا التَّرْجِيحُ أَيْ الْوُجُوهُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي يَقَعُ بِهَا التَّرْجِيحُ فِي الْأَقْيِسَةِ فَأَمَّا وُجُوهُ التَّرْجِيحِ فِي الْأَخْبَارِ فَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهَا فَإِنَّ التَّرْجِيحَ عِبَارَةٌ عَنْ كَذَا فِيهِ تَوَسُّعٌ؛ لِأَنَّ مَا ذُكِرَ مَعْنَى الرُّجْحَانِ لَا مَعْنَى التَّرْجِيحِ فَإِنَّ التَّرْجِيحَ إثْبَاتُ رُجْحَانٍ.

وَلِهَذَا قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: التَّرْجِيحُ لُغَةً إظْهَارُ الزِّيَادَةِ لِأَحَدِ الْمِثْلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَصْفًا لَا أَصْلًا مِنْ قَوْلِك أَرْجَحْت الْوَزْنَ إذَا زِدْت جَانِبَ الْمَوْزُونِ حَتَّى مَالَتْ كِفَّتُهُ وَطَفَتْ كِفَّةُ السَّنَجَاتِ مَيْلًا لَا يُبْطِلُ مَعْنَى الْوَزْنِ فَصَارَ التَّرْجِيحُ بِنَاءً عَلَى الْمُمَاثَلَةِ فَقَوْلُهُ بِنَاءً خَبَرُ صَارَ، وَقَائِمًا خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ أَوْ بِنَاءً مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ وَقَعَ مَوْقِعَ الْحَالِ، وَقَائِمًا خَبَرُ صَارَ أَيْ صَارَ التَّرْجِيحُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَا مَبْنِيًّا عَلَى الْمُمَاثَلَةِ قَائِمًا بِكَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ عِبَارَةً عَنْ فَضْلِ أَحَدِ الْمِثْلَيْنِ لَا بُدَّ مِنْ الْمُمَاثَلَةِ، وَقِيَامِ التَّعَارُضِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا أَيْ ثَابِتًا بِوَصْفٍ هُوَ تَابِعٌ إذْ الْأَوْصَافُ أَتْبَاعٌ لِلذَّوَاتِ ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فَصَارَ التَّرْجِيحُ إلَى آخِرِهِ بَيَانَ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ وَالْأَوَّلُ بَيَانُ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَحْقِيقَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَقَوْلُهُ كَذَلِكَ مَعْنَى التَّرْجِيحِ شَرْعًا إشَارَةً إلَى الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ وَأَصْلُ ذَلِكَ أَيْ أَصْلُ التَّرْجِيحِ بِالتَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ رُجْحَانُ الْمِيزَانِ أَيْ هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْهُ فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ زِيَادَةٍ بَعْدَ ثُبُوتِ الْمُعَادَلَةِ بَيْنَ كِفَّتَيْ الْمِيزَانِ وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقُومُ بِهَا الْمُمَاثَلَةُ ابْتِدَاءً، وَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْوَزْنِ مُنْفَرِدَةً عَنْ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ قَصْدًا فِي الْعَادَةِ كَالدَّانَقِ وَنَحْوِهِ مِثْلُ الْحَبَّةِ وَالشَّعِيرَةِ فَإِنَّ الدَّانَقَ فِي مُقَابِلَةِ الْعَشَرَةِ لَا يُعْتَبَرُ وَزْنُهُ عَادَةً، وَلَا يُفْرَدُ لَهُ الْوَزْنُ فِي مُقَابَلَتِهَا بَلْ يُهْدَرُ وَيُجْعَلُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ أَمَّا السِّتَّةُ وَالسَّبْعَةُ الْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ إذَا ضُمَّتْ إلَى إحْدَى الْعَشْرَتَيْنِ يَعْنِي إذَا قُوبِلَتْ عَشَرَةٌ بِعَشَرَةٍ وَضُمَّتْ إلَى إحْدَاهُمَا سِتَّةٌ أَوْ سَبْعَةٌ أَوْ نَحْوُهُمَا لَا يُسَمَّى ذَلِكَ تَرْجِيحًا؛ لِأَنَّ السِّتَّةَ وَنَحْوَهَا يُعْتَبَرُ وَزْنُهَا فِي مُقَابَلَةِ الْعَشَرَةِ، وَلَا يُهْدَرُ

ص: 77

أَلَا يُرَى أَنَّا جَوَّزْنَا فَضْلًا فِي الْوَزْنِ فِي قَضَاءِ الدُّيُونِ قَالَ النَّبِيُّ عليه السلام لِلْوَازِنِ «زِنْ وَأَرْجِحْ» وَلَمْ يَجْعَلْهُ هِبَةً فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِمَّا يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ، وَكَانَ مِنْ قِبَلِ مَا يَقَعُ التَّعَارُضُ بِصِفَةِ التَّطْفِيفِ صَارَ هِبَةً، وَكَانَ بَاطِلًا وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ التَّرْجِيحَ لَا يَقَعُ بِمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً بِانْفِرَادِهِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ بِوَصْفٍ لَا يَصْلُحُ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِانْفِرَادِهِ كَرَجُلٍ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ عَلَى عَيْنٍ، وَأَقَامَ آخَرُ أَرْبَعَةً لَمْ يَتَرَجَّحْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِلَّةٌ انْضَمَّ إلَى مِثْلِهَا فَلَمْ يَصْلُحْ وَصْفًا، وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّرْجِيحُ بِوَصْفٍ مُؤَكِّدٍ لِمَعْنَى الرُّكْنِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعْ التَّرْجِيحُ بِشَاهِدٍ ثَالِثٍ عَلَى الشَّاهِدِينَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَزِيدُ الْحُجَّةَ قُوَّةً، وَلَا الصِّدْقَ تَوْكِيدًا

ــ

[كشف الأسرار]

قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ تُسَمَّى زِيَادَةُ دِرْهَمٍ عَلَى الْعَشَرَةِ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ رُجْحَانًا؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ تَقُومُ بِهِ أَصْلًا وَتُسَمَّى زِيَادَةُ الْحَبَّةِ وَنَحْوِهَا رُجْحَانًا؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ لَا تَقُومُ بِهَا عَادَةً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الشَّيْخِ مِنْ إحْدَى الْعَشْرَتَيْنِ حَقِيقَةَ الْعَشَرَةِ، وَمِنْ الْآخَرِ السَّنْجَةَ الَّتِي فِي مُقَابَلَتِهَا.

قَوْلُهُ: (وَكَذَلِكَ مَعْنَى التَّرْجِيحِ شَرْعًا) أَيْ، وَكَمَا بَيَّنَّا مَعْنَى التَّرْجِيحِ لُغَةً فَهُوَ فِي الشَّرْعِ بِذَلِكَ الْمَعْنَى أَيْضًا إذْ هُوَ فِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ إظْهَارِ قُوَّةٍ لِأَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ لَوْ انْفَرَدَتْ عَنْهُ لَا تَكُونُ حُجَّةً مُعَارِضَةً وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ صَاحِبِ الْمِيزَانِ التَّرْجِيحُ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ زِيَادَةُ قُوَّةٍ مَعَ قِيَامِ التَّعَارُضِ ظَاهِرًا.

وَعِبَارَةُ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ تَقْوِيَةُ أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ عَلَى الْآخَرِ لِيُعْلَمَ الْأَقْوَى فَيُعْمَلَ بِهِ وَيُطْرَحَ الْآخَرُ وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ اقْتِرَانِ أَحَدِ الصَّالِحَيْنِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ مَعَ تَعَارُضِهِمَا بِمَا يَقْوَى عَلَى مُعَارَضَةٍ فَقَوْلُهُ أَحَدِ الصَّالِحَيْنِ احْتِرَازٌ عَمَّا لَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا صَالِحَيْ الدَّلَالَةِ وَقَوْلُهُ مَعَ تَعَارُضِهِمَا احْتِرَازٌ عَنْ الصَّالِحَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا إذْ التَّرْجِيحُ إنَّمَا يَكُونُ مَعَ التَّعَارُضِ لَا مَعَ عَدَمِهِ.

قَوْلُهُ: (أَلَا تَرَى أَنَّا جَوَّزْنَا) التَّوْضِيحَ لِمَا ذُكِرَ أَنَّ التَّرْجِيحَ فِي الشَّرْعِ كَالتَّرْجِيحِ فِي اللُّغَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ مَا يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ يَكُونُ وَصْفًا لَا أَصْلًا فَإِنَّا قَدْ جَوَّزْنَا فَضْلًا فِي الْوَزْنِ فِي قَضَاءِ الدُّيُونِ بِقَوْلِهِ عليه السلام لِلْوَزَّانِ حِينَ اشْتَرَى سَرَاوِيلَ بِدِرْهَمَيْنِ «زِنْ وَأَرْجِحْ فَإِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ هَكَذَا نَزِنُ» وَلَمْ يَجْعَلْهُ أَيْ ذَلِكَ الْفَضْلَ هِبَةً حَتَّى مَنَعَ مِنْ الْجَوَازِ؛ لِأَنَّ الْفَضْلَ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الرُّجْحَانُ زِيَادَةُ تَقْوِيَةٍ وَصْفًا بِالْمَوْزُونِ لَا مَقْصُودًا بِسَبَبِهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْفَضْلُ أَكْثَرَ مِمَّا يَقَعُ التَّرْجِيحُ كَالدِّرْهَمِ عَلَى الْعَشَرَةِ وَكَانَ مِنْ قَبِيلِ مَا يَقَعُ بِهِ التَّعَارُضُ بِصِفَةِ التَّطْفِيفِ يَعْنِي بِوَزْنٍ قُصِدَ فِي مُقَابَلَةِ الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ صِفَةُ التَّطْفِيفِ.

صَارَ ذَلِكَ الْفَضْلُ هِبَةً حَتَّى كَانَ بَاطِلًا لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَمَيِّزًا كَهِبَةِ الْمُشَاعِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَقُومُ بِهِ الْمُمَاثَلَةُ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَقْصُودًا بِالْوَزْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُجْعَلَ مَقْصُودًا فِي التَّمْلِيكِ بِسَبَبِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا الْهِبَةَ فَإِنَّ قَضَاءَ الْعَشَرَةِ يَكُونُ بِمِثْلِهَا عَشَرَةً فَتَبَيَّنَ أَنَّ بِالرُّجْحَانِ لَا يَفُوتُ أَصْلُ الْمُمَاثَلَةِ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةُ وَصْفٍ بِمَنْزِلَةِ زِيَادَةِ وَصْفِ الْجُودَةِ، وَمَا يَكُونُ مَقْصُودًا بِالْوَزْنِ يَفُوتُ بِهِ الْمُمَاثَلَةُ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الرُّجْحَانِ فِي شَيْءٍ.

1 -

قَوْلُهُ: (وَلِهَذَا قُلْنَا) أَيْ، وَلَمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّرْجِيحَ لُغَةً وَشَرِيعَةً إنَّمَا يَقَعُ بِوَصْفٍ هُوَ تَابِعٌ لَا بِمَا هُوَ أَصْلٌ قُلْنَا فِي تَرْجِيحِ الْعِلَلِ: إنَّهُ لَا يَقَعُ بِمَا يَصْلُحُ عِلَّةً بِانْفِرَادِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ تَبَعًا، وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّرْجِيحُ بِوَصْفٍ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً بِانْفِرَادِهِ، وَهُوَ قُوَّةُ الْأَثَرِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي التَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ حَدِيثٌ وَاحِدٌ أَوْ قِيَاسٌ وَاحِدٌ، وَفِي الْآخَرِ حَدِيثَانِ أَوْ قِيَاسَانِ فَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ النَّظَرِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَبَعْضِ أَصْحَابِي إلَى أَنَّهُ يَصِحُّ التَّرْجِيحُ بِهَا؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ الْوَاحِدَ لَا يُقَاوِمُ إلَّا دَلِيلًا وَاحِدًا مِنْ جِنْسِهِ فَيَتَسَاقَطَانِ بِالتَّعَارُضِ فَيَبْقَى الدَّلِيلُ الْآخَرُ سَالِمًا عَنْ الْمُعَارَضَةِ فَيَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّرْجِيحِ قُوَّةُ الظَّنِّ الصَّادِرِ عَنْ إحْدَى الْأَمَارَتَيْنِ الْمُتَعَارِضَتَيْنِ، وَقَدْ حَصَلَتْ قُوَّةُ الظَّنِّ فِي الدَّلِيلِ الَّذِي عَارَضَهُ دَلِيلٌ آخَرُ مِثْلُهُ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ فَيَتَرَجَّحُ عَلَى الْآخَرِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِلَّةَ الْمُنْتَزَعَةَ مِنْ أُصُولٍ تَتَرَجَّحُ عَلَى الْمُنْتَزَعَةِ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ لِتَقَوِّيهَا بِكَثْرَةِ أُصُولِهَا بِالْعِلَلِ الْمُنْتَزَعَةِ مِنْ أُصُولٍ، وَكُلُّهَا يَدُلُّ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ تَكُونُ

ص: 78

لِهَذَا قَالُوا: إنَّ الْقِيَاسَ لَا يَتَرَجَّحُ بِقِيَاسٍ آخَرَ وَلَا الْحَدِيثُ بِحَدِيثٍ آخَرَ لَا الْقِيَاسُ بِالنَّصِّ وَلَا نَصُّ الْكِتَابِ بِنَصٍّ آخَرَ، وَإِنَّمَا يَتَرَجَّحُ النَّصُّ بِقُوَّةٍ فِيهِ عَلَى مَا مَرَّ ذِكْرُهُ حَتَّى صَارَ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ أَوْلَى مِنْ الْغَرِيبِ؛ لِأَنَّ الشُّهْرَةَ تُوجِبُ قُوَّةً فِي اتِّصَالِهِ بِالرَّسُولِ عليه السلام

ــ

[كشف الأسرار]

أَوْلَى بِالتَّرَجُّحِ مِنْ الْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ الْمُنْتَزَعَةِ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ لِتَقَوِّيهَا بِكَثْرَتِهَا فِي أَنْفُسِهَا، وَكَثْرَةِ أُصُولِهَا أَيْضًا.

وَذَهَبَ عَامَّةُ الْأُصُولِيِّينَ إلَى أَنَّ التَّرْجِيحَ لَا يَقَعُ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يَتَقَوَّى بِصِفَةٍ تُوجَدُ فِي ذَاتِهِ لَا بِانْضِمَامِ مِثْلِهِ إلَيْهِ كَمَا فِي الْمَحْسُوسَاتِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ لَا قِوَامَ لَهُ بِنَفْسِهِ فَلَا يُوجَدُ إلَّا تَبَعًا لِغَيْرِهِ فَيَتَقَوَّى بِهِ الْمَوْصُوفُ فَأَمَّا الدَّلِيلُ الْمُسْتَبِدُّ بِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ بَلْ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مُعَارِضًا لِلدَّلِيلِ الَّذِي يُوجِبُ الْحُكْمَ عَلَى خِلَافِهِ فَيَتَسَاقَطُ الْكُلُّ بِالتَّعَارُضِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْعِلَّةِ الْمُنْتَزَعَةِ مِنْ أُصُولٍ؛ لِأَنَّهَا بِاعْتِبَارِ شَهَادَةِ الْأُصُولِ بِصِحَّتِهَا تَقَوَّتْ فِي نَفْسِهَا فَتَتَرَجَّحُ عَلَى الْأُخْرَى بِتَقَوِّيهَا فَأَمَّا الْعِلَلُ فَلَا تَتَقَوَّى بِكَثْرَتِهَا، وَلَا بِكَثْرَةِ أُصُولِهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ أَصْلٍ يَشْهَدُ بِصِحَّةِ عِلَّتِهِ الْمُنْتَزَعَةِ مِنْهُ لَا بِصِحَّةِ عِلَّةِ أَصْلِ آخَرَ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ قُوَّةَ الظَّنِّ تَحْصُلُ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ فَإِنَّهُ لَوْ اجْتَمَعَ أَلْفُ قِيَاسٍ وَعَارَضَ تِلْكَ الْأَقْيِسَةَ خَبَرٌ وَاحِدٌ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ كَانَ ذَلِكَ الْخَبَرُ رَاجِحًا كَمَا لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ وَاحِدًا.

وَلَوْ كَانَ لِلْكَثْرَةِ أَثَرٌ فِي قُوَّةِ الظَّنِّ لَتَرَجَّحَتْ الْأَقْيِسَةُ الْمُتَكَثِّرَةُ بِتَعَاضُدِهَا عَلَى الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا اتِّفَاقُهُمْ عَلَى عَدَمِ تَرْجِيحِ الشَّهَادَةِ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ فَإِنَّ أَحَدَ الْمُدَّعِيَيْنِ لَوْ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ وَالْآخَرُ أَرْبَعَةً لَا يَتَرَجَّحُ شَهَادَةُ الْأَرْبَعَةِ عَلَى شَهَادَةِ الِاثْنَيْنِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الِاثْنَيْنِ عِلَّةٌ تَامَّةٌ لِلْحُكْمِ فَلَا تَصْلُحُ مُرَجِّحَةً لِلْحُجَّةِ، وَكَذَا لَوْ أَقَامَ ثَلَاثَةً؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ شَاهِدِ وَاحِد مِنْ جِنْسِ مَا يَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ كَاَلَّذِي يَشْهَدُ بِهِلَالِ رَمَضَانَ وَحْدَهُ، وَفِي السَّمَاءِ غَيْمٌ فَإِنَّ تِلْكَ الشَّهَادَةَ حُجَّةٌ حَتَّى وَجَبَ عَلَى الْقَاضِي الْأَمْرُ بِالصَّوْمِ فَلَا يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ وَلَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا شَاهِدَيْنِ مَسْتُورَيْنِ وَالْآخَرُ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ يَتَرَجَّحُ شَهَادَةُ الْعَدْلَيْنِ لِظُهُورِ مَا يُؤَكِّدُ مَعْنَى الصِّدْقِ فِي شَهَادَتِهِمَا فَثَبَتَ أَنَّ التَّرْجِيحَ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَأَنَّ التَّرْجِيحَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِمَا يَزِيدُ قُوَّةً لِمَا جُعِلَ حُجَّةً وَيَصِيرُ وَصْفًا لَهُ.

قَوْلُهُ: (وَلِهَذَا) أَيْ؛ وَلِأَنَّ التَّرْجِيحَ لَا يَقَعُ بِمَا يَصْلُحُ دَلِيلًا بِانْفِرَادِهِ قَالُوا إنَّ الْقِيَاسَ لَا يَتَرَجَّحُ بِقِيَاسٍ آخَرَ لِمَا قُلْنَا بَلْ يَتَرَجَّحُ بِقُوَّةِ الْأَثَرِ فِيهِ يَتَأَكَّدُ مَا هُوَ الرُّكْنُ فِي الْقِيَاسِ وَلَا الْقِيَاسُ بِالنَّصِّ؛ لِأَنَّ النَّصَّ مَتَى شَهِدَ لِصِحَّةِ الْقِيَاسِ صَارَتْ الْعِبْرَةُ لِلنَّصِّ وَسَقَطَ الْقِيَاسُ فِي أَنْ يُضَافَ الْحُكْمُ إلَيْهِ فِي الْمَنْصُوصِ نَفْسِهِ عَلَى مَا مَرَّ أَنَّ تَعْلِيلَ النَّصِّ بِعِلَّةٍ لَا تَتَعَدَّى سَاقِطٌ؛ وَلِأَنَّ النَّصَّ فَوْقَ الْقِيَاسِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَتَرَجَّحُ بِقِيَاسٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ تَبَعًا لَهُ فَبِالنَّصِّ أَوْلَى وَلَا نَصُّ الْكِتَابِ بِنَصٍّ آخَرَ يَعْنِي إذَا وَقَعَتْ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ لَا يَتَرَجَّحُ أَحَدَهُمَا بِآيَةٍ أُخْرَى بَلْ تَتَرَجَّحُ بِقُوَّةٍ فِي النَّصِّ بِأَنْ يَكُونَ مُفَسَّرًا أَوْ مُحْكَمًا وَاَلَّذِي يُعَارِضُهُ دُونَهُ بِأَنْ كَانَ مُجْمَلًا أَوْ مُؤَوَّلًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ.

حَتَّى صَارَ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ أَوْلَى مِنْ الْغَرِيبِ أَيْ مِنْ الْخَبَرِ الَّذِي دُونَهُ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ هِيَ الْخَبَرُ الْمَنْقُولُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالِاشْتِهَارُ يُوجِبُ قُوَّةَ ثُبُوتٍ فِي النَّقْلِ الَّذِي بِهِ يُثْبِتُ الْخَبَرَ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام وَيَصِيرُ حُجَّةً وَيَصِيرُ وَصْفًا لِلْخَبَرِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ خَبَرٌ مَشْهُورٌ وَمُتَوَاتِرٌ وَشَاذٌّ وَبِهَذَا خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا يُقَالُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَرَجَّحَ الْخَبَرُ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ حَتَّى لَوْ كَانَ لِخَبَرٍ رَاوٍ وَاحِدٍ وَلِمُعَارِضِهِ رَاوِيَانِ أَوْ رُوَاةٌ يَتَرَجَّحُ عَلَى الْأَوَّلِ إذْ لَيْسَ فِي الِاشْتِهَارِ إلَّا كَثْرَةُ الرُّوَاةِ، وَقَدْ أَنْكَرَ الشَّيْخُ ذَلِكَ فِي بَابِ الْمُعَارَضَةِ؛ لِأَنَّ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ إذَا لَمْ يَبْلُغُوا حَدَّ التَّوَاتُرِ أَوْ الشُّهْرَةِ لَا يَحْدُثُ وَصْفٌ فِي الْخَبَرِ يَتَقَوَّى بِهِ بَلْ هُوَ فِي خَبَرِ الْآحَادِ كَمَا كَانَ فَأَمَّا إذَا بَلَغَ حَدَّ التَّوَاتُرِ أَوْ الشُّهْرَةِ فَقَدْ

ص: 79

وَكَذَلِكَ إذَا جَرَحَ رَجُلٌ رَجُلًا جِرَاحَةً وَجَرَحَهُ آخَرُ جِرَاحَاتٍ فَمَاتَ مِنْهَا وَذَلِكَ خَطَأٌ أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ نِصْفَيْنِ وَلَا بِتَرْجِيحِ صَاحِبِ الْجِرَاحَاتِ حَتَّى يُجْعَلَ وَحْدَهُ قَاتِلًا؛ لِأَنَّ كُلَّ جِرَاحَةٍ تَصْلُحُ عِلَّةً مُعَارِضَةً فَلَمْ تَصْلُحْ وَصْفًا يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ

ــ

[كشف الأسرار]

حَدَثَ فِيهِ وَصْفٌ تَقَوَّى بِهِ حَيْثُ يُقَالُ خَبَرٌ مَشْهُورٌ، وَمُتَوَاتِرٌ فَيُعْتَبَرُ هَذِهِ الْكَثْرَةُ فِي التَّرْجِيحِ دُونَ الْأُولَى.

وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِنَا أَنَّ أَحَدَ النَّصَّيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَرَجَّحُ بِنَصٍّ آخَرَ، وَلَكِنَّهُ يَتَرَجَّحُ بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصْفِ لِلنَّصِّ الَّذِي يُوَافِقُهُ وَتَابِعًا لَهُ فَيَصْلُحُ مُرَجِّحًا.

وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله أَنَّ أَحَدَ الْخَبَرَيْنِ لَا يَتَرَجَّحُ بِالْقِيَاسِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا أَصَحَّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا يَصْلُحُ حُجَّةً بِنَفْسِهِ حَالَةَ الِانْفِرَادِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ حُجَّةً مَعَ النَّصِّ كَالشَّاهِدِ الثَّالِثِ لَا يَصْلُحُ مُرَجِّحًا لِإِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا يَصْلُحُ حُجَّةً بِنَفْسِهِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَكَذَلِكَ أَيْ، وَكَمَا لَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ بِدَلِيلٍ آخَرَ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَمْثِلَةِ لَا يَتَرَجَّحُ صَاحِبُ الْجِرَاحَاتِ عَلَى صَاحِبِهِ فِيمَا إذَا جَرَحَ رَجُلٌ رَجُلًا جِرَاحَةً يَعْنِي جِرَاحَةً يَقْصِدُ بِهَا الْقَتْلَ وَجَرَحَهُ آخَرُ جِرَاحَاتٍ كَذَلِكَ أَيْضًا حَتَّى لَوْ خَدَشَ أَحَدُهُمَا وَجَرَحَ الْآخَرُ فَالضَّمَانُ إنْ كَانَ خَطَأً وَالْقِصَاصُ إنْ كَانَ عَمْدًا عَلَى الْجَارِحِ دُونَ الْخَادِشِ.

فَمَاتَ مِنْهَا أَيْ مِنْ جَمِيعِ الْجِرَاحَاتِ بِأَنْ مَاتَ، وَلَمْ تَنْدَمِلْ وَاحِدَةٌ مِنْهَا حَتَّى لَوْ جَرَحَهُ أَحَدُهُمَا وَانْدَمَلَ ثُمَّ جَرَحَهُ الْآخَرُ أَوْ انْدَمَلَ جُرْحُ أَحَدِهِمَا بَعْدَمَا جَرَحَاهُ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ انْدِمَالِ جُرْحِ الْآخَرِ كَانَ الدِّيَةُ أَوْ الْقِصَاصُ عَلَى مَنْ لَمْ يَنْدَمِلْ جُرْحُهُ دُونَ الْآخَرِ وَذَلِكَ خَطَأٌ إنَّمَا قَيَّدَ بِهِ مَعَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَمْدًا لَا يَتَرَجَّحُ صَاحِبُ الْجِرَاحَاتِ عَلَى الْآخَرِ بَلْ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا أَيْضًا لِيُبَيِّنَ أَنَّ صَاحِبَ الْجِرَاحَاتِ، وَإِنْ لَمْ يَتَرَجَّحْ يُسَاوِي صَاحِبَ الْجِرَاحَةِ الْوَاحِدَةِ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ، وَلَا يُعْتَبَرُ عَدَدُ الْجِرَاحَاتِ مَعَ إمْكَانِ اعْتِبَارِهِ بِقِسْمَةِ الدِّيَةِ عَلَيْهِ وَبَيَانُهُ أَنَّهُ لَوْ جَرَحَ أَحَدُهُمَا جِرَاحَةً وَاحِدَةً وَالْآخَرُ تِسْعَ جِرَاحَاتٍ فَلَوْ قِيلَ بِالتَّرْجِيحِ لَكَانَ الدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ وَالْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ عَلَى صَاحِبِ التِّسْعِ دُونَ الْآخَرِ، وَلَمَّا سَقَطَ التَّرْجِيحُ كَانَ اعْتِبَارُ عَدَدِ الْجِرَاحَاتِ مُمْكِنًا فِي الْخَطَأِ بِقِسْمَةِ الدِّيَةِ عَلَيْهِ، وَإِيجَابِ عُشْرِهَا عَلَى صَاحِبِ الْجِرَاحَةِ الْوَاحِدَةِ وَتِسْعَةُ أَعْشَارِهَا عَلَى الْآخَرِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُعْتَبَرْ بَلْ اُعْتُبِرَ عَدَدُ الْجَانِي لَا عَدَدُ الْجِنَايَاتِ وَفِي الْعَمْدِ بَعْدَ سُقُوطِ التَّرْجِيحِ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ عَدَدِ الْجِنَايَاتِ بِعَدَمِ تَجَزُّؤِ الْقِصَاصِ فَوَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْخَطَأِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ بَعْدَ سُقُوطِ التَّرْجِيحِ الْمَصِيرُ إلَى عَدَدِ الْجَانِي لَا إلَى عَدَدِ الْجِنَايَاتِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى عَدَدِ الْجَانِي دُونَ عَدَدِ الْجِنَايَاتِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَمُوتُ مِنْ جِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَدْ لَا يَمُوتُ مِنْ جِرَاحَاتٍ كَثِيرَةٍ فَلَا يُعْتَبَرُ الْعَدَدُ فِي الْجِرَاحَاتِ وَيُعْتَبَرُ الْجِرَاحَاتُ الْحَاصِلَةُ مِنْ الْوَاحِدِ بِمَنْزِلَةِ جِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ.

أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ انْفَرَدَ صَاحِبُ الْجِرَاحَاتِ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ انْفَرَدَ صَاحِبُ الْجِرَاحَةِ الْوَاحِدَةِ كَانَ عَلَيْهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عَدَدُ الْجَانِي لَا عَدَدُ الْجِنَايَاتِ حَتَّى يُجْعَلَ وَحْدَهُ قَاتَلَا إنَّمَا ذَكَرَ هَذَا لِيُعْلَمَ أَنَّ التَّرْجِيحَ فِي جَعْلِهِ قَاتِلًا وَحْدَهُ، وَإِهْدَارِ جِنَايَةِ الْآخَرِ لَا فِي اعْتِبَارِ عَدَدِ جِنَايَاتِهِ مَعَ اعْتِبَارِ جِنَايَةِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ كُلَّ جِرَاحَةٍ يَعْنِي مِنْ جِرَاحَاتِ صَاحِبِ الْجِنَايَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ يَصْلُحُ مُعَارَضَةً لِجِرَاحَةِ صَاحِبِ الْوَاحِدَةِ فَلَمْ تَصْلُحْ وَصْفًا لِجِنَايَةٍ أُخْرَى فَلَا يَقَعُ بِهَا التَّرْجِيحُ، وَلَوْ قَطَعَ أَحَدُهُمَا يَدَهُ ثُمَّ جَزَّ الْآخَرُ رَقَبَتَهُ فَالْقَاتِلُ هُوَ الَّذِي جَزَّ رَقَبَتَهُ دُونَ الْآخَرِ صَاحَبَ بِزِيَادَةِ قُوَّةٍ فِيمَا هُوَ عِلَّةُ النَّقْلِ مِنْ فِعْلِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُتَوَهَّمُ بَقَاؤُهُ

ص: 80

وَكَذَلِكَ قُلْنَا نَحْنُ فِي الشَّفِيعَيْنِ فِي الشِّقْصِ الشَّائِعِ الْمَبِيعِ بِسَهْمَيْنِ مُتَفَاوِتَيْنِ إنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي اسْتِحْقَاقِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ السَّهْمِ عِلَّةٌ صَالِحَةٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْجُمْلَةِ فَقَامَتْ الْمُعَارَضَةُ بِكُلِّ جُزْءٍ، وَإِنْ قَلَّ فَلَمْ يَصْلُحْ شَيْءٌ مِنْهُ وَصْفًا لِغَيْرِهِ فَقَدْ وَافَقَنَا الشَّافِعِيُّ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرَجِّحْ صَاحِبَ الْكَثِيرِ أَيْضًا لَكِنَّهُ جَعَلَ الشُّفْعَةَ مِنْ مَرَافِقِ الْمِلْكِ كَالثَّمَرِ وَالْوَلَدِ فَجَعَلَهُ مُنْقَسِمًا عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ، وَكَانَ هَذَا مِنْهُ غَلَطًا بِأَنْ جَعَلَ حُكْمَ الْعِلَّةِ مُتَوَلِّدًا مِنْ الْعِلَّةِ، وَمُنْقَسِمًا عَلَى أَجْزَائِهَا، وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ فِي ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا زَوْجُ الْمَرْأَةِ أَنَّ التَّعْصِيبَ لَا يَتَرَجَّحُ بِالزَّوْجِيَّةِ بَلْ يُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ عِلَّةً بِانْفِرَادِهِ

ــ

[كشف الأسرار]

حَيًّا بَعْدَ فِعْلِهِ بِخِلَافِ الْآخَرِ.

قَوْلُهُ: (وَكَذَلِكَ قُلْنَا) أَيْ، وَكَمَا قُلْنَا بِمُسَاوَاةِ صَاحِبِ الْجِرَاحَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ صَاحِبَ الْجِرَاحَةِ الْوَاحِدَةِ قُلْنَا بِمُسَاوَاةِ صَاحِبِ الْقَلِيلِ صَاحِبَ الْكَثِيرِ فِي اسْتِحْقَاقِ الشِّقْصِ الشَّائِعِ الْمَبِيعِ فِي الشُّفْعَةِ، وَالشِّقْصُ الْجُزْءُ مِنْ الشَّيْءِ وَالنَّصِيبُ، وَإِنَّمَا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي الشِّقْصِ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُ الْجَوَازِ عِنْدَنَا كَذَلِكَ حَتَّى مَنْ كَانَ جَوَازُهُ مِنْ جَانِبَيْنِ لَا يَتَرَجَّحُ عَلَى مَنْ كَانَ جَوَازُهُ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ لِيُمْكِنَهُ بَيَانُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله بِقَوْلِهِ، وَقَدْ وَافَقَنَا الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا. وَصُورَتُهُ دَارٌ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ لِأَحَدِهِمْ نِصْفُهَا وَلِلْآخِرِ ثُلُثُهَا وَلِلثَّالِثِ سُدُسُهَا فَبَاعَ صَاحِبُ النِّصْفِ نَصِيبَهُ وَطَلَبَ الْآخَرَانِ الشُّفْعَةَ لَمْ يَتَرَجَّحْ صَاحِبُ الثُّلُثِ عَلَى الْآخَرِ فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ حَتَّى لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ جَمِيعَ الْمَبِيعِ بِالِاتِّفَاقِ لَكِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتِحْقَاقُ الشُّفْعَةِ بِقَدْرِ نَصِيبِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَيُقْضَى بِالشِّقْصِ الْمَبِيعِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا بِقَدْرِ مِلْكِهِمَا، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ صَاحِبَ الثُّلُثِ قَضَى بِهِ بَيْنَ الْبَاقِيَيْنِ أَرْبَاعًا، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ السُّدُسِ قَضَى بِهِ بَيْنَ الْآخَرِينَ أَخْمَاسًا، وَعِنْدَنَا يَقْضِي بِالْمَبِيعِ بَيْنَ الْبَاقِينَ أَنْصَافًا بِكُلِّ حَالٍ.

وَقَوْلُهُ: لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ إلَى آخِرِهِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَفْهُومِ مِنْ هَذَا التَّقْرِيرِ لَا عَلَى الْمَلْفُوظِ، وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ يَعْنِي قُلْنَا إنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي اسْتِحْقَاقِ الشِّقْصِ، وَلَا رُجْحَانَ لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ عَلَى صَاحِبِ الْقَلِيلِ؛ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ السَّهْمِ يَعْنِي السَّهْمَ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِ الْأَكْثَرِ عِلَّةٌ تَامَّةٌ لِاسْتِحْقَاقِ جُمْلَةِ الْمَبِيعِ بِالشُّفْعَةِ فَقَامَتْ الْمُعَارَضَةُ لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ مَعَ صَاحِبِ الْقَلِيلِ بِكُلِّ جُزْءٍ مِمَّا فِي يَدِهِ، وَإِنْ قَلَّ، فَلَمْ يَصْلُحْ شَيْءٌ مِنْ السَّهْمِ الَّذِي فِي يَدِهِ وَصْفًا لِغَيْرِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَهُوَ بَاقِي السَّهْمِ فَلَا يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ إذْ لَمْ يُوجَدْ فِي جَانِبِ صَاحِبِ الْكَثِيرِ إلَّا كَثْرَةُ الْعِلَّةِ، وَهِيَ غَيْرُ صَالِحَةٍ لِلتَّرْجِيحِ.

وَقَوْلُهُ: قَدْ وَافَقَنَا الشَّافِعِيُّ عَلَى هَذَا إشَارَةٌ إلَى الْمَفْهُومِ أَيْضًا أَيْ وَافَقَنَا عَلَى عَدَمِ التَّرْجِيحِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ بِاسْتِحْقَاقِ صَاحِبِ الْكَثِيرِ كُلَّ الْمَبِيعِ أَيْضًا، وَلَوْ رَجَّحَ صَاحِبَ الْكَثِيرِ لَحَكَمَ بِاسْتِحْقَاقِهِ الْجَمِيعَ وَبِحِرْمَانِ صَاحِبِهِ، لَكِنَّهُ جَعَلَ حَقَّ الشُّفْعَةِ مِنْ مَرَافِقِ الْمِلْكِ أَيْ مِنْ مَنَافِعِهِ وَثَمَرَاتِهِ كَالثَّمَرِ وَالْوَلَدِ الْمُتَوَلِّدَيْنِ مِنْ الْأَشْجَارِ وَالْحَيَوَانَاتِ الْمُشْتَرَكَةِ فَجَعَلَهُ أَيْ حَقَّ الشُّفْعَةِ مُنْقَسِمًا عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ، وَكَانَ هَذَا أَيْ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ غَلَطًا بِأَنْ جَعَلَ حُكْمَ الْعِلَّةِ، وَهُوَ اسْتِحْقَاقُ الشُّفْعَةِ مُتَوَلِّدًا مِنْ الْعِلَّةِ، وَهِيَ مِلْكُ الشَّفِيعِ مَا يَشْفَعُ بِهِ، وَمُنْقَسِمًا عَلَى أَجْزَائِهَا وَكِلَاهُمَا غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ بِالْعِلَّةِ لَا بِطَرِيقِ التَّوَلُّدِ بَلْ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ مُقَارِنًا لِلْعِلَّةِ، وَكَذَا الْحُكْمُ لَا يَنْقَسِمُ عَلَى أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ لِاسْتِلْزَامِهِ صَيْرُورَةَ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْعِلَّةِ عِلَّةً لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْحُكْمِ وَالشَّرْعُ جَعَلَ جَمِيعَهَا عِلَّةً لِجَمِيعِ الْحُكْمِ لَا غَيْرُ فَالْقَوْلُ بِالِانْقِسَامِ كَانَ نَصَبًا لِلشَّرْعِ بِالرَّأْيِ وَذَلِكَ فَاسِدٌ بَلْ الشَّفِيعُ يَأْخُذُ الْمَبِيعَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مِلْكَهُ الْقَدِيمَ جَعَلَهُ أَحَقَّ مِنْ الدَّخِيلِ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَأْخُوذَ صَارَ حَقًّا لِمِلْكِهِ شَرْعًا، وَإِذَا لَمْ يَصِرْ الْمَأْخُوذُ مِنْ مَرَافِقِ مِلْكِهِ لَمْ يَتَوَزَّعْ عَلَيْهِ وَلَئِنْ كَانَ مُرْفَقًا فَهُوَ مُرْفَقٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْأَصْلَ عِلَّةٌ وَثُبُوتُ حَقِّ التَّمَلُّكِ لِلْمَبِيعِ حُكْمٌ لَهُ ثُمَّ الْمِلْكُ يَثْبُتُ لَهُ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي يُعْطِيهِ فَكَانَ مُرْفَقًا مِنْ حُكْمِ الْعِلَّةِ لَا مِنْ الْعِلَّةِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ زِيَادَةُ الْعِلَّةِ بِخِلَافِ الثَّمَرَةِ؛ لِأَنَّهَا تَتَوَلَّدُ مِنْ الشَّجَرِ فَثُلُثُ الشَّجَرِ لَا يُولَدُ إلَّا ثُلُثُ الثَّمَرَةِ، وَالْغَلَّةُ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ فَثُلُثُ الْمَنْفَعَةِ لَا يَكُونُ لَهُ إلَّا ثُلُثُ الْبَدَلِ.

قَوْلُهُ: (وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ فِي ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا زَوْجُ الْمَرْأَةِ)

ص: 81

وَقَالَ عَامَّةُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِي ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ إنَّ السُّدُسَ لَهُ بِالْأُخُوَّةِ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا بِالتَّعْصِيبِ خِلَافًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه وَلَمْ يَجْعَلُوا الْأُخُوَّةَ مُرَجِّحَةً لَمَّا كَانَتْ عِلَّةً بِانْفِرَادِهَا لَا يَصْلُحُ وَصْفًا؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ مِنْ الْعُمُومَةِ بِخِلَافِ الْأُخُوَّةِ لِأُمٍّ فَإِنَّهَا جُعِلَتْ وَصْفًا لِلْأُخُوَّةِ لِأَبٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجِهَةَ تَابِعَةٌ، وَالْمَنْزِلُ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا يَجِبُ طَلَبُ الرُّجْحَانِ مِنْ قِبَلِ الْأَوْصَافِ مِثْلُ الْعَدَالَةِ فِي الشَّاهِدِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا.

ــ

[كشف الأسرار]

يَعْنِي مَاتَتْ امْرَأَةٌ وَتَرَكَتْ ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا زَوْجُهَا وَصُورَتُهُ ظَاهِرَةٌ أَنَّ التَّعْصِيبَ الَّذِي فِي الزَّوْجِ لَا يَتَرَجَّحُ بِالزَّوْجِيَّةِ بَلْ يُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ التَّعْصِيبِ وَالزَّوْجِيَّةِ عِلَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ بِانْفِرَادِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَا فِي شَخْصَيْنِ فَيَسْتَحِقُّ النِّصْفَ بِالزَّوْجِيَّةِ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا بِالتَّعْصِيبِ وَتَصِحُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ ثَلَاثَةٌ لِلزَّوْجِ وَسَهْمٌ لِلْآخَرِ وَقَالَ عَامَّةُ الصَّحَابَةِ فِي ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ.

وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَخَوَانِ زَيْدٌ وَعَمْرٌو وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ابْنٌ فَمَاتَ زَيْدٌ وَتَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ الَّتِي هِيَ أُمُّ ابْنِهِ عَمْرٍو فَوَلَدَتْ لَهُ ابْنًا فَهَذَا الِابْنُ الَّذِي كَانَ لِعَمْرٍو مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ ابْنَا عَمٍّ لِابْنِ زَيْدٍ أَحَدُهُمَا أَخُوهُ لِأُمٍّ، وَمَاتَ هَذَا الِابْنُ وَتَرَكَ ابْنَيْ عَمِّهِ هَذَيْنِ لَا غَيْرَ كَانَ لِلَّذِي هُوَ أَخُوهُ لِأُمٍّ السُّدُسُ بِالْفَرْضِيَّةِ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا بِالْعُصُوبَةِ وَيَصِحُّ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا سَبْعَةُ أَسْهُمٍ لِلْأَخِ وَخَمْسَةٌ لِلْآخَرِ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَزَيْدٍ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم.

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه الْمَالُ كُلُّهُ لِابْنِ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ لِلْمَيِّتِ عَصَبَتَانِ اسْتَوَيَا فِي قَرَابَةِ الْأَبِ وَتَفَرَّدَتْ إحْدَاهُمَا بِقَرَابَةِ الْأُمِّ فَتَتَرَجَّحُ عَلَى الْأُخْرَى كَأَخَوَيْنِ لِأَبٍ أَحَدُهُمَا لِأُمٍّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ تَتَرَجَّحُ بِزِيَادَةٍ مِنْ جِنْسِهَا إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ لَا تَصْلُحُ عِلَّةً بِنَفْسِهَا لَوْ انْفَرَدَتْ كَمَا بَيَّنَّا وَالزِّيَادَةُ هَاهُنَا، وَهِيَ الْأُخُوَّةُ لِأُمٍّ مِنْ جِنْسِ الْعُمُومَةِ؛ لِأَنَّهَا قَرَابَةٌ كَالْعُمُومَةِ، وَلَوْ انْفَرَدَتْ لَمْ يَصْلُحْ عِلَّةً لِلتَّعْصِيبِ فَتَصْلُحُ مُرَجِّحَةً لِقَرَابَةِ الْعُصُوبَةِ كَمَا فِي الْأَخَوَيْنِ لِأَبٍ أَحَدُهُمَا لِأُمٍّ. بِخِلَافِ ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا زَوْجٌ حَيْثُ لَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا بِالزَّوْجِيَّةِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْقَرَابَةِ، وَالْعِلَّةُ إنَّمَا تَتَرَجَّحُ بِالزِّيَادَةِ مِنْ جِنْسِهَا لَا مِنْ خِلَافِ جِنْسِهَا. وَجْهُ قَوْلِ الْعَامَّةِ إنَّهُ اجْتَمَعَ فِي ابْنِ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ سَبَبَانِ لِلْمِيرَاثِ الْأُخُوَّةُ وَالْعُمُومَةُ فَيَسْتَحِقُّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا يَصِيرُ أَحَدُهُمَا تَبَعًا لِلْآخَرِ كَمَا لَوْ وُجِدَا فِي شَخْصَيْنِ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّرْجِيحَ إنَّمَا يَقَعُ بِمَا لَمْ يَصْلُحْ عِلَّةً بِانْفِرَادِهِ فَأَمَّا مَا يَصْلُحُ عِلَّةً بِانْفِرَادِهِ فَلَا يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْجِرَاحَاتِ وَالشَّهَادَاتِ.

وَهَاهُنَا الْأُخُوَّةُ بِانْفِرَادِهَا عِلَّةٌ صَالِحَةٌ لِلِاسْتِحْقَاقِ، وَلَا تَصْلُحُ وَصْفًا لِلْعُمُومَةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْعُمُومَةِ، وَهِيَ أَقْرَبُ مِنْ الْعُمُومَةِ فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعَمِّ وَابْنِ الْعَمِّ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ الْأَخِ فَلَا تَصْلُحُ مُرَجِّحَةً لِلْعُمُومَةِ بَلْ تُعْتَبَرُ عِلَّةً بِانْفِرَادِهَا كَالزَّوْجِيَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِخِلَافِ الْأَخَوَيْنِ لِأَبٍ أَحَدُهُمَا لِأُمٍّ حَيْثُ يُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا بِقَرَابَةِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْأُخُوَّةُ وَالْأُخُوَّةُ لِأُمٍّ فِي مَعْنَى زِيَادَةِ وَصْفٍ فِي الْأُخُوَّةِ لِأَبٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَخَ لِأَبٍ وَأُمٍّ لَوْ انْفَرَدَ لَمْ يَكُنْ قَرَابَةُ الْأُمِّ فِيهِ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقٍ حَتَّى لَمْ يَسْتَحِقَّ بِالْفَرْضِيَّةِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِالْعُصُوبَةِ لَا غَيْرُ، وَإِذَا لَمْ يَصْلُحْ عِلَّةً وَالْمَنْزِلُ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْأُخُوَّةُ صَلَحَتْ مُرَجِّحَةً، وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الْأَخَوَانِ لِأُمٍّ أَحَدُهُمَا لِأَبٍ حَيْثُ لَا يَتَرَجَّحُ الْأَخُ الَّذِي لِأَبٍ وَأُمٍّ عَلَى الْأَخِ الَّذِي لِأُمٍّ بَلْ يَرِثُ الَّذِي لِأُمٍّ مَا يُفْرَضُ وَالْآخَرُ بِالْعُصُوبَةِ مَعَ أَنَّ الْمَنْزِلَ وَاحِدٌ، وَهُوَ قَرَابَةُ الْأُخُوَّةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ امْتَنَعَ لِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ قَرَابَةَ الْأَبِ أَقْوَى مِنْ قَرَابَةِ الْأُمِّ فَلَا تَصْلُحُ تَبَعًا لِقَرَابَةِ الْأُمِّ بِوَجْهٍ.

وَالثَّانِي أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَخِ بِالْفَرْضِ وَاسْتِحْقَاقَ الْآخَرِ بِالْعُصُوبَةِ فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُزَاحَمَةٌ لِاخْتِلَافِ الْحُكْمِ فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى التَّرْجِيحِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ أَيْ مَجْرَى الْمَذْكُورِ، وَهُوَ

ص: 82