الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلِلِاسْتِحْسَانِ أَقْسَامٌ وَهُوَ مَا ثَبَتَ بِالْأَثَرِ مِثْلُ السَّلَمِ وَالْإِجَارَةِ وَبَقَاءِ الصَّوْمِ مَعَ فِعْلِ النَّاسِي
ــ
[كشف الأسرار]
وَهَكَذَا حُكْمُ الطَّرْدِ مَعَ الْأَثَرِ فَإِنَّ الطَّرْدَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَالْأَثَرَ حُجَّةٌ فَكَيْفَ يَجُوزُ الْعَمَلُ بِمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي مُقَابَلَةِ مَا هُوَ حُجَّةٌ بَلْ الْعَمَلُ بِالْأَثَرِ وَاجِبٌ، وَالطَّرْدُ بِمُقَابَلَتِهِ سَاقِطٌ، وَهَذَا هُوَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ مُعَارَضَةٍ فَإِنَّ الدَّلِيلَيْنِ إذَا تَعَارَضَا وَظَهَرَ لِأَحَدِهِمَا رُجْحَانٌ عَلَى الْآخَرِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ وَسَقَطَ الْآخَرُ أَصْلًا فَكَذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ مَعَ الِاسْتِحْسَانِ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ إنَّهُ الْوَجْهُ الْأَوْلَى فِي الْعَمَلِ بِهِ أَنَّهُ هُوَ الْوَجْهُ الْمَأْخُوذُ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَمِنْ قَوْلِهِ إنَّ الْعَمَلَ بِالْآخَرِ جَائِزٌ إنَّ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ جَائِزٌ عِنْدَ سَلَامَتِهِ عَنْ مُعَارَضَةِ الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الطَّرْدِ مَعَ الْأَثَرِ يَعْنِي إذَا لَمْ يُعَارِضْ الطَّرْدَ أَثَرٌ جَازَ الْعَمَلُ بِهِ إذَا كَانَ مُلَائِمًا، وَإِذَا ظَهَرَ الْأَثَرُ فَالْمَعْمُولُ هُوَ الْأَثَرُ وَالطَّرْدُ سَاقِطٌ، وَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ ظَاهِرِ اللَّفْظِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمُنَاقَضَةِ
[أَقْسَامُ الِاسْتِحْسَانِ]
قَوْلُهُ: (وَلِلِاسْتِحْسَانِ أَقْسَامٌ) يَعْنِي لَيْسَ الِاسْتِحْسَانُ مُقْتَصِرًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ نَوْعَيْهِ بَلْ لَهُ أَنْوَاعٌ أُخَرُ مِثْلُ الِاسْتِحْسَانِ الثَّابِتِ بِالْأَثَرِ وَالْإِجْمَاعِ وَالضَّرُورَةِ إلَّا أَنَّ غَرَضَنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ لَمَّا كَانَ تَقْسِيمَ أَنْوَاعِ الْعِلَلِ إذْ نَحْنُ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْعِلَّةِ قَسَّمْنَا الِاسْتِحْسَانَ الَّذِي هُوَ قِيَاسٌ خَفِيٌّ فَانْقَسَمَ عَلَى نَوْعَيْنِ كَمَا بَيَّنَّا، وَهُوَ مَا ثَبَتَ بِالْأَثَرِ الضَّمِيرُ إمَّا أَنْ يَعُودَ إلَى الِاسْتِحْسَانِ أَوْ إلَى أَقْسَامٍ وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ مُشْتَبِهٌ، وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ لَفْظَةَ هُوَ، وَمِنْهُ فِيمَا بَعْدُ لَكَانَ أَوْضَحَ مِثْلُ السَّلَمِ وَالْإِجَارَةِ وَبَقَاءِ الصَّوْمِ مَعَ فِعْلِ النَّاسِي.
فَإِنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَ السَّلَمِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْعَقْدِ مَعْدُومٌ حَقِيقَةً عِنْدَ الْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ لَا يَنْعَقِدُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُ بِالْأَثَرِ الْمُوجِبِ لِلتَّرَخُّصِ، وَهُوَ قَوْلُ الرَّاوِي وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ، وَقَوْلُهُ عليه السلام «مَنْ أَسْلَمَ مِنْكُمْ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ» الْحَدِيثَ، وَأَقَمْنَا الذِّمَّةَ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَقَامَ مِلْكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ جَوَازِ السَّلَمِ.
وَكَذَا الْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ، وَهُوَ النَّفَقَةُ مَعْدُومٌ فِي الْحَالِ، وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْعَقْدِ مُضَافًا إلَى زَمَانِ وُجُودِهِ؛ لِأَنَّ الْمُعَاوَضَاتِ لَا تَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُ بِالْأَثَرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عليه السلام «أَعْطُوا الْأَجِيرَ حَقَّهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ» فَالْأَمْرُ بِإِعْطَاءِ الْأَجْرِ دَلِيلُ صِحَّةِ الْعَقْدِ وَكَذَا الْأَكْلُ نَاسِيًا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّوْمِ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَبْقَى مَعَ وُجُودِ مَا يُنَافِيهِ كَالطَّهَارَةِ مَعَ الْحَدَثِ وَالِاعْتِكَافِ مَعَ الْخُرُوجِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَّا أَنَّهُ مَتْرُوكٌ بِالْأَثَرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عليه السلام «أَتِمَّ عَلَى صَوْمِك فَإِنَّمَا أَطْعَمَك اللَّهُ وَسَقَاك» ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله حَيْثُ قَالَ لَوْلَا قَوْلُ النَّاسِ لَقُلْت يَقْتَضِي يَعْنِي بِهِ رِوَايَةَ الْأَثَرِ. وَمِنْهُ أَيْ وَمِنْ الِاسْتِحْسَانِ مَا ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ مِثْلُ الِاسْتِصْنَاعِ يَعْنِي فِيمَا فِيهِ لِلنَّاسِ تَعَامُلٌ مِثْلُ أَنْ يَأْمُرَ إنْسَانًا لِيُخَرِّزَ لَهُ خُفًّا مَثَلًا بِكَذَا وَيُبَيِّنَ صِفَتَهُ وَمِقْدَارَهُ، وَلَا يَذْكُرُ لَهُ أَجَلًا وَيُسَلِّمُ إلَيْهِ الدَّرَاهِمَ أَوْ لَا يُسَلِّمُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي عَدَمَ جَوَازِهِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ مَعْدُومٌ لِلْحَالِ حَقِيقَةً، وَهُوَ مَعْدُومٌ وَصْفًا فِي الذِّمَّةِ.
وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ إلَّا بَعْدَ تَعَيُّنِهِ حَقِيقَةً أَيْ ثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ كَالسَّلَمِ فَأَمَّا مَعَ الْعَدَمِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ عَقْدٌ لَكِنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا تَرْكَهُ بِالْإِجْمَاعِ الثَّابِتِ بِتَعَامُلِ الْأُمَّةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ؛ لِأَنَّ بِالْإِجْمَاعِ يَتَعَيَّنُ جِهَةُ الْخَطَأِ فِي الْقِيَاسِ كَمَا يَتَعَيَّنُ بِالنَّصِّ فَيَكُونُ وَاجِبَ التَّرْكِ، وَقَصَرُوا الْأَمْرَ عَلَى مَا فِيهِ تَعَامُلٌ؛ لِأَنَّهُ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ. فَإِنْ قِيلَ: الْإِجْمَاعُ وَقَعَ مُعَارِضًا لِلنَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ عليه السلام:«لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك» قُلْنَا: قَدْ صَارَ النَّصُّ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ مَخْصُوصًا
وَمِنْهُ مَا ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ الِاسْتِصْنَاعُ، وَمِنْهُ مَا ثَبَتَ بِالضَّرُورَةِ، وَهُوَ تَطْهِيرُ الْحِيَاضِ وَالْآبَارِ وَالْأَوَانِي، وَإِنَّمَا غَرَضُنَا هُنَا تَقْسِيمُ وُجُوهِ الْعِلَلِ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ وَلَمَّا صَارَتْ الْعِلَّةُ عِنْدَنَا عِلَّةً بِأَثَرِهَا سَمَّيْنَا الَّذِي ضَعُفَ أَثَرُهَا قِيَاسًا وَسَمَّيْنَا الَّذِي قَوِيَ أَثَرُهَا اسْتِحْسَانًا أَيْ قِيَاسًا مُسْتَحْسَنًا، وَقَدَّمْنَا الثَّانِيَ، وَإِنْ كَانَ خَفِيًّا عَلَى الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ جَلِيًّا؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِقُوَّةِ الْأَثَرِ دُونَ الظُّهُورِ وَالْجَلَاءِ أَلَا يُرَى أَنَّ الدُّنْيَا ظَاهِرَةٌ وَالْعُقْبَى بَاطِنَةٌ وَقَدْ تَرَجَّحَ الْبَاطِنُ بِقُوَّةِ الْأَثَرِ، وَهُوَ الدَّوَامُ وَالْخُلُودُ وَالصَّفْوَةُ وَتَأَخُّرُ الظَّاهِرِ لِضَعْفِ أَثَرِهِ، وَكَالنَّفْسِ مَعَ الْقَلْبِ وَالصَّبْرِ مَعَ الْعَقْلِ فَسَقَطَ حُكْمُ الْقِيَاسِ بِمُعَارَضَةِ الِاسْتِحْسَانِ لِعَدَمِهِ فِي التَّقْدِيرِ.
مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ سُؤْرَ سِبَاعِ الطَّيْرِ فِي الْقِيَاسِ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ سُؤْرُ مَا هُوَ سَبُعٌ مُطْلَقٌ فَكَانَ كَسُؤْرِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ، وَهَذَا مَعْنًى ظَاهِرُ الْأَثَرِ؛ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي حُرْمَةِ الْأَكْلِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ هُوَ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ السَّبُعَ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ بِدَلِيلِ جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِهِ شَرْعًا
ــ
[كشف الأسرار]
بِالْإِجْمَاعِ فَبَقِيَ الْقِيَاسُ النَّافِي لِلْجَوَازِ مُعَارِضًا لِلْإِجْمَاعِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ بِمُعَارَضَةِ الْإِجْمَاعِ. وَمِنْهُ مَا ثَبَتَ بِالضَّرُورَةِ، وَهُوَ تَطْهِيرُ الْحِيَاضِ وَالْآبَارِ وَالْأَوَانِي. فَإِنَّ الْقِيَاسَ نَافٍ طَهَارَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بَعْدَ تَنَجُّسِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ صَبُّ الْمَاءِ عَلَى الْحَوْضِ أَوْ الْبِئْرِ لِيَتَطَهَّرَ.
وَكَذَا الْمَاءُ الدَّاخِلُ فِي الْحَوْضِ أَوْ الَّذِي يَنْبُعُ مِنْ الْبِئْرِ تَتَنَجَّسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَسِ وَالدَّلْوُ تَتَنَجَّسُ أَيْضًا بِمُلَاقَاةِ الْمَاءِ فَلَا تَزَالُ تَعُودُ، وَهِيَ نَجِسَةٌ. وَكَذَا الْإِنَاءُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي أَسْفَلِهِ ثَقْبٌ يَخْرُجُ الْمَاءُ مِنْهُ إذَا أُجْرِيَ مِنْ أَعْلَاهُ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ النَّجِسَ يَجْتَمِعُ فِي أَسْفَلِهِ فَلَا يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا تَرْكَ الْعَمَلِ بِمُوجِبِ الْقِيَاسِ لِلضَّرُورَةِ الْمُحْوِجَةِ إلَى ذَلِكَ لِعَامَّةِ النَّاسِ وَلِلضَّرُورَةِ أَثَرٌ فِي سُقُوطِ الْخِطَابِ.
ثُمَّ بَيَّنَ وَجْهَ تَرْجِيحِ الِاسْتِحْسَانِ عَلَى الْقِيَاسِ فَقَالَ: وَلَمَّا صَارَتْ الْعِلَّةُ عِنْدَنَا عِلَّةً بِأَثَرِهَا خِلَافًا لِأَهْلِ الطَّرْدِ وَغَيْرِهِمْ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ. سَمَّيْنَا الَّذِي أَيْ الشَّيْءَ الَّذِي ضَعُفَ أَثَرُهَا قِيَاسًا. وَسَمَّيْنَا الشَّيْءَ الَّذِي قَوِيَ أَثَرُهَا اسْتِحْسَانًا ذَكَرَ الِاسْمَ الْمَوْصُولَ بِتَأْوِيلِ الشَّيْءِ، وَأَنَّثَ الضَّمِيرَ بِتَأْوِيلِ الْعِلَّةِ. وَلَوْ قَالَ سَمَّيْنَا الَّذِي ضَعُفَ أَثَرُهُ أَوْ سَمَّيْنَا الَّتِي ضَعُفَ أَثَرُهَا لَكَانَ أَبْعَدَ مِنْ الِاشْتِبَاهِ. وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ سُمِّيَ الَّذِي ضَعُفَ أَثَرُهُ اسْتِحْسَانًا أَيْضًا وَعَلَى الْعَكْسِ، وَقَدْ مَرَّ الْجَوَابُ عَنْهُ. وَقَدَّمْنَا الثَّانِيَ، وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ الَّذِي قَوِيَ أَثَرُهُ، وَإِنْ كَانَ خَفِيًّا عَلَى الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ الَّذِي ضَعُفَ أَثَرُهُ، وَإِنْ كَانَ جَلِيًّا. وَقَدْ يُرَجَّحُ الْبَاطِنُ بِقُوَّةِ أَثَرِهِ، وَهُوَ الْبَقَاءُ حَتَّى وَجَبَ الِاشْتِغَالُ لِطَلَبِهِ. وَتَأَخَّرَ الظَّاهِرُ لِضَعْفِ أَثَرِهِ، وَهُوَ الْغَنَاءُ حَتَّى وَجَبَ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ، وَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا مِنْ ذَهَبٍ وَالْآخِرَةُ مِنْ خَزَفٍ لَاخْتَارَ الْعَاقِلُ الْخَزَفَ الْبَاقِيَ عَلَى الذَّهَبِ الْفَانِي كَيْفَ، وَقَدْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى الْعَكْسِ. وَكَالنَّفْسِ مَعَ الْقَلْبِ فَإِنَّ الْقَلْبَ تَرَجَّحَ عَلَى النَّفْسِ، وَإِنْ كَانَتْ النَّفْسُ ظَاهِرَةً وَالْقَلْبُ بَاطِنًا؛ لِأَنَّ أَثَرَ عَمَلِ الْقَلْبِ أَقْوَى مِنْ عَمَلِ النَّفْسِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْعِلْمِ وَالْبَصَرِ مَعَ الْعَقْلِ فَإِنَّ الْعَقْلَ رَاجِحٌ، وَإِنْ كَانَ بَاطِنًا لِقُوَّةِ أَثَرِ إدْرَاكِهِ وَضَعْفِ أَثَرِ إدْرَاكِ الْبَصَرِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ. قَوْلُهُ:(مِثَالُ ذَلِكَ) أَيْ مِثَالُ تَقَدُّمِ الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي قَوِيَ أَثَرُهُ عَلَى الْقِيَاسِ الَّذِي ضَعُفَ أَثَرُهُ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ مِثَالُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ الْقِيَاسِ وَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ. أَنَّ سُؤْرَ سِبَاعِ الطَّيْرِ كَالصَّقْرِ وَالْبَازِي وَالشَّاهِينِ فِي الْقِيَاسِ نَجِسٌ؛ لِأَنَّ السُّؤْرَ مُعْتَبَرٌ بِاللَّحْمِ، وَلَحْمُ هَذِهِ الطُّيُورِ حَرَامٌ كَلَحْمِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ، وَكَانَ سُؤْرُهَا نَجِسًا، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ هُوَ طَاهِرٌ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّ السَّبُعَ كَذَا. اعْلَمْ أَنَّ مَشَايِخَنَا عَلَّلُوا فِي نَجَاسَةِ سُؤْرِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ بِأَنَّ لُعَابَهَا مُتَوَلِّدٌ مِنْ اللَّحْمِ، وَلَحْمَهَا نَجِسٌ فَيَكُونُ السُّؤْرُ نَجِسًا أَيْضًا. وَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّحْمَ إنْ كَانَ نَجِسًا لِذَاتِهِ بِاعْتِبَارِ الْحُرْمَةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ بَيْعُ السَّبُعِ، وَلَا الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَلَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ كَالْخِنْزِيرِ، وَإِنْ كَانَ نَجِسًا بِالْمُجَاوِرِ، وَكَانَتْ عَيْنُهُ طَاهِرَةً كَالْجِلْدِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَنَجَّسَ السُّؤْرُ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ الْمُجَاوِرَةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي نَجَاسَةِ السُّؤْرِ كَمَا فِي سُؤْرِ الشَّاةِ وَالْآدَمِيِّ فَسَلَكَ الشَّيْخُ طَرِيقَةً يَنْدَفِعُ عَنْهُ هَذَا السُّؤَالُ.
فَقَالَ السَّبُعُ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ لِدَلِيلِ جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِهِ يَعْنِي مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ إذْ لَوْ كَانَ نَجِسَ الْعَيْنِ حَرُمَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ كَمَا حَرُمَ بِالْخِنْزِيرِ وَسَائِرِ الْأَنْجَاسِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5]{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج: 30]{رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] وَهَذَا
وَقَدْ ثَبَتَ نَجَاسَتُهُ ضَرُورَةَ تَحْرِيمِ لَحْمِهِ فَأَثْبَتْنَا حُكْمًا بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ، وَهُوَ النَّجَاسَةُ الْمُجَاوِرَةُ فَيَثْبُتُ صِفَةُ النَّجَاسَةِ فِي رُطُوبَتِهِ وَلُعَابِهِ وَسِبَاعُ الطَّيْرِ يَشْرَبُ بِالْمِنْقَارِ عَلَى سَبِيلِ الْأَخْذِ ثُمَّ الِابْتِلَاعِ وَالْعَظْمُ طَاهِرٌ بِذَاتِهِ خَالٍ عَنْ مُجَاوَرَةِ النَّجِسِ أَلَا يُرَى أَنَّ عَظْمَ الْمَيِّتِ طَاهِرٌ فَعَظْمُ الْحَيِّ أَوْلَى فَصَارَ هَذَا بَاطِنًا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ الظَّاهِرُ فِي مُقَابَلَتِهِ فَسَقَطَ حُكْمُ الظَّاهِرِ لِعَدَمِهِ، وَعَدَمُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ دَلِيلِهِ لَا يُعَدُّ مِنْ بَابِ الْخُصُوصِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ فِي بَابِ إبْطَالِ تَخْصِيصِ الْعِلَلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ عز وجل.
ــ
[كشف الأسرار]
يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ السَّبُعُ طَاهِرًا كَالشَّاةِ وَالْآدَمِيِّ. وَقَدْ ثَبَتَ نَجَاسَتُهُ أَيْ نَجَاسَةُ السَّبُعِ بِاعْتِبَارِ حُرْمَةِ لَحْمِهِ فَإِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْحُرْمَةِ تَدُلُّ عَلَى النَّجَاسَةِ فَإِنَّ الْحُرْمَةَ إمَّا أَنْ تَثْبُتَ لِعَدَمِ صَلَاحِيَةِ الْغِذَاءِ كَالذُّبَابِ وَالتُّرَابِ إذْ الْأَكْلُ أُبِيحَ لِلْغِذَاءِ فَيَصِيرُ بِدُونِهِ عَبَثًا. أَوْ لِلْخَبَثِ طَبْعًا كَالضُّفْدَعِ وَالسُّلَحْفَاةِ. أَوْ لِلِاحْتِرَامِ كَالْآدَمِيِّ أَوْ لِلنَّجَاسَةِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ كُلَّ نَجِسٍ بِنَفْسِهِ أَوْ بِمُجَاوِرٍ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالطَّعَامِ النَّجِسِ، وَلَا احْتِرَامَ لِلسِّبَاعِ، وَهِيَ صَالِحَةٌ لِلْغِذَاءِ، وَلَمْ تَسْتَخْبِثْهَا الطِّبَاعُ فَإِنَّهَا كَانَتْ مَأْكُولَةً قَبْلَ التَّحْرِيمِ فَثَبَتَ أَنَّ حُرْمَتَهَا لِلنَّجَاسَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَمْ تَثْبُتْ الْحُرْمَةُ لِلنَّجَاسَةِ بَلْ لِفَسَادِ طَبْعٍ فَإِنَّهَا حَيَوَانَاتٌ نَاهِبَةٌ وَيَتَعَدَّى إلَى الْآكِلِينَ فَحَرَّمَهَا الشَّرْعُ صِيَانَةً عَنْ ذَلِكَ. قُلْنَا هَذِهِ مَصْلَحَةٌ وَحِكْمَةٌ مَطْلُوبَةٌ فِي الْعَاقِبَةِ، وَالْمَصَالِحُ وَالْحِكَمُ أَدِلَّةٌ عَلَى صِحَّةِ الْأَسْبَابِ، وَلَا تَكُونُ عِلَّةً بِأَنْفُسِهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تُنَالُ بِغَالِبِ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسُ قَوْلٌ بِغَالِبِ الرَّأْيِ فَتَثْبُتُ النَّجَاسَةُ لِتَكُونَ الْحُرْمَةُ مَبْنِيَّةً عَلَى سَبَبٍ ظَاهِرٍ دُونَ الْحِكْمَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فِي حَقِّ الْمَشْرُوعِيَّةِ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرْت مِنْ السَّبَبِ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ بِنَجَاسَةٍ لِيَكُونَ آكَدَ فِي إيجَابِ التَّجَنُّبِ كَمَا فِي الْخَمْرِ فَإِنَّهَا حُرِّمَتْ؛ لِأَنَّهَا مُفْسِدَةٌ عُقُولَنَا بِطَبْعِهَا فَحُرِّمَتْ بِنَجَاسَةٍ، وَكَذَلِكَ الْخِنْزِيرُ وَالْكَلْبُ. وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ حُرْمَةَ لَحْمِ السَّبُعِ لِنَجَاسَتِهِ اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ السَّبُعُ نَجِسَ الْعَيْنِ كَالْخِنْزِيرِ.
فَأَثْبَتْنَا يَعْنِي لِلسَّبُعِ حُكْمًا بَيْنَ حُكْمَيْنِ أَيْ بَيْنَ الطَّهَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالنَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَهُوَ النَّجَاسَةُ الْمُجَاوِرَةُ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ مَا لَا يُؤْكَلُ، وَهُوَ طَاهِرٌ كَالْجِلْدِ وَالْعَظْمِ وَالْعَصَبِ وَالشَّعْرِ، وَمَا يُؤْكَلُ، وَهُوَ نَجِسٌ كَاللَّحْمِ وَالشَّحْمِ فَأَشْبَهَ دُهْنًا مَاتَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الدُّهْنِ النَّجِسِ وَالِاسْتِصْبَاحُ بِهِ عِنْدَنَا، وَيَحْرُمُ أَكْلُ لَحْمِهِ لِنَجَاسَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَطْهُرَ لَحْمُهُ بِالذَّكَاةِ كَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَقَدْ نَصَّ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ الْهِدَايَةِ أَنَّهُ يَطْهُرُ بِالذَّكَاةِ كَالْجِلْدِ.
قُلْنَا: مُخْتَارُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ بِالذَّكَاةِ فَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ رحمه الله فِي الْأَسْرَارِ أَنَّ مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ يَقُولُ اللَّحْمُ طَاهِرٌ، وَإِنْ لَمْ يَحِلَّ الْأَكْلُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ نَجِسٌ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ فِي مِثْلِهِ تَدُلُّ عَلَى النَّجَاسَةِ وَنُقِلَ عَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّهُ إذَا صَلَّى، وَمَعَهُ لَحْمُ سَبُعٍ مَذْبُوحٍ مِنْ سِبَاعِ الْوَحْشِ لَا يُجَوِّزُ صَلَاتَهُ، وَلَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ أَفْسَدَهُ، وَهَكَذَا عَنْ النَّاطِفِيِّ كَذَا فِي فَتَاوَى الْقَاضِي الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ صَاحِبِ الْخُلَاصَةِ أَيْضًا.
وَلَمَّا ثَبَتَتْ صِفَةُ النَّجَاسَةِ فِي لَحْمِهِ ثَبَتَتْ فِي رُطُوبَتِهِ وَلُعَابِهِ؛ لِأَنَّ رُطُوبَتَهُ مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ لَحْمِهِ الَّذِي هُوَ نَجِسٌ لَا مِمَّا هُوَ طَاهِرٌ مِنْهُ، وَإِنَّهُ يَشْرَبُ بِلِسَانِهِ الَّذِي هُوَ رَطْبٌ مِنْ لُعَابِهِ فَيَتَنَجَّسُ سُؤْرُهُ ضَرُورَةً بِمُخَالَطَةِ لُعَابِهِ وَسِبَاعُ الطَّيْرِ تَشْرَبُ بِالْمِنْقَارِ عَلَى سَبِيلِ الْأَخْذِ ثُمَّ الِابْتِلَاعِ وَالْمِنْقَارُ طَاهِرٌ بِذَاتِهِ خَالٍ عَنْ مُجَاوَرَةِ النَّجِسِ خِلْقَةً؛ لِأَنَّهُ عَظْمٌ جَافٌّ لَيْسَ فِيهِ رُطُوبَةٌ فَلَا يُجَاوِرُ الْمَاءَ بِمُلَاقَاةِ نَجَاسَةٍ فَيَبْقَى طَاهِرًا. إلَّا أَنَّا أَثْبَتْنَا صِفَةَ الْكَرَاهَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا يُحْتَرَزُ بِهَا عَنْ الْمَيْتَةِ وَالنَّجَاسَةِ فَكَانَتْ كَالدَّجَاجَةِ الْمُخَلَّاةِ.
وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ إنَّ مَا يَقَعُ عَلَى الْجِيَفِ مِنْ سِبَاعِ الطَّيْرِ فَسُؤْرُهُ نَجِسٌ؛ لِأَنَّ مِنْقَارَهُ لَا يَخْلُو عَنْ نَجَاسَةٍ عَادَةً كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّهَا تُدَلِّكُ مِنْقَارَهَا بِالْأَرْضِ بَعْدَ الْأَكْلِ، وَهُوَ شَيْءٌ صَلْبٌ فَيَزُولُ مَا عَلَيْهِ بِذَلِكَ
وَأَمَّا الَّذِي ظَهَرَ فَسَادُهُ وَاسْتَتَرَتْ صِحَّتُهُ، وَأَثَرُهُ فَهُوَ الْقِيَاسُ الَّذِي عَمِلَ بِهِ عُلَمَاؤُنَا رحمهم الله قَابَلَهُ اسْتِحْسَانٌ ظَهَرَ أَثَرُهُ وَاسْتَتَرَ فَسَادُهُ فَسَقَطَ الْعَمَلُ بِهِ مِثَالُهُ أَنَّهُمْ قَالُوا فِيمَنْ تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ فِي الصَّلَاةِ أَنَّهُ يَرْكَعُ بِهَا قِيَاسًا؛ لِأَنَّ النَّصَّ قَدْ وَرَدَ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَخَرَّ رَاكِعًا} [ص: 24] ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَنَا بِالسُّجُودِ، وَالرُّكُوعُ خِلَافُهُ كَمَا فِي سُجُودِ الصَّلَاةِ فَهَذَا أَثَرٌ ظَاهِرٌ. فَأَمَّا وَجْهُ الْقِيَاسِ فَمَجَازٌ مَحْضٌ لَكِنَّ الْقِيَاسَ أَوْلَى بِأَثَرِهِ الْبَاطِنِ، وَالِاسْتِحْسَانُ مَتْرُوكٌ لِفَسَادِهِ الْبَاطِنِ
ــ
[كشف الأسرار]
فَيَطْهُرُ؛ وَلِأَنَّا لَمْ نَتَيَقَّنْ بِالنَّجَاسَةِ عَلَى مِنْقَارِهِ فَيَثْبُتُ الْكَرَاهَةُ بِالْعَادَةِ دُونَ النَّجَاسَةِ كَمَا فِي الدَّجَاجَةِ الْمُخَلَّاةِ. ثُمَّ تَأَيَّدَ مَا ذَكَرْنَا بِالْعِلَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا فِي الْهِرَّةِ فَإِنَّ مَعْنَى الْبَلْوَى يَتَحَقَّقُ فِي سُؤْرِ سِبَاعِ الطَّيْرِ؛ لِأَنَّهَا تَنْقُضُ مِنْ الْهَوَاءِ، وَلَا يُمْكِنُ صَوْنُ الْأَوَانِي عَنْهَا خُصُوصًا فِي الصَّحَارِي بِخِلَافِ سِبَاعِ الْوَحْشِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُسْتَحْسَنًا بِالضَّرُورَةِ أَيْضًا، وَإِثْبَاتُ الْكَرَاهَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ الضَّرُورَةَ فِيهَا لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ فَلِوُجُودِ أَصْلِ الضَّرُورَةِ انْتَفَتْ النَّجَاسَةُ وَلِكَوْنِهَا غَيْرَ لَازِمَةٍ بَقِيَتْ الْكَرَاهَةُ.
طَعَنَ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ أَنَّا سَلَّمْنَا أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ لَيْسَ قَوْلًا بِالتَّشَهِّي، وَلَكِنَّهُ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ إذَا كَانَ ثَابِتًا فِي صُورَةِ الِاسْتِحْسَانِ، وَفِي سَائِرِ الصُّوَرِ ثُمَّ تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي صُورَةِ الِاسْتِحْسَانِ وَبَقِيَ مَعْمُولًا بِهِ فِي غَيْرِ تِلْكَ الصُّورَةِ كَانَ ذَلِكَ تَخْصِيصًا لَهُ، وَهُوَ بَاطِلٌ لِمَا سَنَذْكُرُ. فَأَشَارَ إلَى الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ فَصَارَ هَذَا أَيْ الْمَعْنَى الَّذِي يُوجِبُ الطَّهَارَةَ بِصِفَةِ الْكَرَاهَةِ بَاطِنًا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ الظَّاهِرُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي مُقَابَلَتِهِ فَسَقَطَ حُكْمُ الظَّاهِرِ لِعَدَمِهِ فِي نَفْسِهِ لَا أَنْ يَنْعَدِمَ حُكْمُهُ مَعَ وُجُودِهِ، وَعَدَمُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ لَيْسَ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله: وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ الْقَوْلَ بِالِاسْتِحْسَانِ قَوْلٌ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ فَقَدْ أَخْطَأَ؛ لِأَنَّ بِمَا ذَكَرْنَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ لِنَجَاسَةِ سُؤْرِ سِبَاعِ الْوَحْشِ الرُّطُوبَةُ النَّجِسَةُ فِي الْآلَةِ الَّتِي تَشْرَبُ بِهَا، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ فِي سِبَاعِ الطَّيْرِ فَانْعَدَمَ الْحُكْمُ لِانْعِدَامِ الْعِلَّةِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ مِنْ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ فِي شَيْءٍ وَعَلَى اعْتِبَارِ الصُّورَةِ يَتَرَاءَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ يَتَبَيَّنُ عِنْدَ التَّأَمُّلِ انْعِدَامُ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ وُجُوبُ التَّحَرُّزِ عَنْ الرُّطُوبَةِ النَّجِسَةِ الَّتِي يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ، وَقَدْ صَارَ هَذَا مَعْلُومًا بِالتَّنْصِيصِ عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ فِي الْهِرَّةِ فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَنْعَدِمُ بَعْضُ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ كَانَ انْعِدَامُ الْحُكْمِ لِانْعِدَامِ الْعِلَّةِ فَلَا يَكُونُ تَخْصِيصًا.
قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الَّذِي ظَهَرَ فَسَادُهُ) أَيْ الْقِيَاسُ الَّذِي ظَهَرَ فَسَادُهُ، وَهَذَا بَيَانُ الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ الْقِيَاسِ وَيَتَضَمَّنُ بَيَانَ الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ الِاسْتِحْسَانِ أَيْضًا. مِثَالُهُ أَيْ مِثَالُ الْقِيَاسِ الْمَوْصُوفِ أَنَّهُمْ يَعْنِي عُلَمَاءَنَا قَالُوا فِيمَنْ تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ فِي الصَّلَاةِ إنَّهُ يَرْكَعُ بِهَا قِيَاسًا. ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ إذَا تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ فِي صَلَاتِهِ، وَهِيَ فِي آخِرِ السُّورَةِ إلَّا آيَاتٍ بَقِينَ فَإِنْ شَاءَ رَكَعَ لَهَا، وَإِنْ شَاءَ سَجَدَ. وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ إنْ شَاءَ رَكَعَ، وَإِنْ شَاءَ سَجَدَ بَعْضُهُمْ قَالُوا مَعْنَاهُ إنْ شَاءَ سَجَدَ لَهَا سَجْدَةً عَلَى حِدَةٍ، وَإِنْ شَاءَ رَكَعَ رُكُوعًا عَلَى حِدَةٍ غَيْرَ أَنَّ الرُّكُوعَ يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ يَنْوِي الرُّكُوعَ لِلتِّلَاوَةِ، وَالسَّجْدَةُ لَا تَحْتَاجُ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ السَّجْدَةُ وَالرُّكُوعُ إنْ كَانَ يُخَالِفُ السَّجْدَةَ صُورَةً يُوَافِقُهَا مَعْنًى فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُوَافِقُهَا مَعْنًى يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُخَالِفُهَا صُورَةً يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ بِخِلَافِ السَّجْدَةِ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْوَاجِبَةُ الْأَصْلِيَّةُ فَلَا يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى النِّيَّةِ. وَبَعْضُهُمْ قَالُوا مَعْنَى قَوْلِهِ إنْ شَاءَ رَكَعَ لَهَا، وَإِنْ شَاءَ أَقَامَ رُكُوعَ الصَّلَاةِ مَقَامَ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ. قُلْت: وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ، وَأَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ.
وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنْ كَانَتْ السَّجْدَةُ فِي وَسَطِ السُّورَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدَ لَهَا ثُمَّ يَقُومَ فَيَقْرَأَ مَا بَقِيَ ثُمَّ يَرْكَعُ، وَإِنْ رَكَعَ فِي مَوْضِعِ السَّجْدَةِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ خَتَمَ السُّورَةَ ثُمَّ رَكَعَ لَمْ يُجْزِهِ ذَلِكَ عَنْ السَّجْدَةِ نَوَاهَا أَوْ لَمْ يَنْوِهَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ دَيْنًا
وَبَيَانُهُ أَنَّ السُّجُودَ لَمْ يَجِبْ عِنْدَ التِّلَاوَةِ قُرْبَةً مَقْصُودَةً أَلَا تَرَى أَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ مُجَرَّدُ مَا يَصْلُحُ تَوَاضُعًا عِنْدَ هَذِهِ التِّلَاوَةِ وَالرُّكُوعِ فِي الصَّلَاةِ بِعَمَلِ هَذَا الْعَمَلِ بِخِلَافِ الرُّكُوعِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَبِخِلَافِ سُجُودِ الصَّلَاةِ فَصَارَ الْأَثَرُ الْخَفِيُّ مَعَ الْفَسَادِ الظَّاهِرِ أَحَقَّ مِنْ الْأَثَرِ الظَّاهِرِ مَعَ الْفَسَادِ الْبَاطِنِ
ــ
[كشف الأسرار]
عَلَيْهِ بِفَوَاتِ مَحَلِّ الْأَدَاءِ وَبِصَيْرُورَتِهَا دَيْنًا صَارَتْ مَقْصُودَةً بِنَفْسِهَا؛ لِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ مَقْصُودًا لَا يَجِبُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ كَالطَّهَارَةِ لَا تَصِيرُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بِحَالٍ فَصَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الصُّلْبِيَّةِ فَلَا يَتَأَدَّى بِالرُّكُوعِ، وَلَا بِسَجْدَةِ الصَّلَاةِ.
ثُمَّ قَالَ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ بِالسَّجْدَةِ بِعَيْنِهَا فَالْقِيَاسُ أَنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَبِالْقِيَاسِ نَأْخُذُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُجْزِيهِ إلَّا السَّجْدَةُ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ مُرَادُهُ إذَا تَلَاهَا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَرَكَعَ فِي الْقِيَاسِ يُجْزِيهِ؛ لِأَنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ يَتَقَارَبَانِ فَيَنُوبُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ كَمَا يَنُوبُ فِي الصَّلَاةِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الرُّكُوعُ خَارِجَ الصَّلَاةِ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فَلَا يَنُوبُ عَمَّا هُوَ قُرْبَةٌ بِخِلَافِ الرُّكُوعِ فِي الصَّلَاةِ، وَإِلَّا ظَهَرَ أَنَّ مُرَادَهُ الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ فِي الرُّكُوعِ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ وَضْعِ السَّجْدَةِ فَالشَّيْخُ بِقَوْلِهِ فِي الصَّلَاةِ رَدَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ وَاخْتَارَ الْقَوْلَ الثَّانِيَ. ثُمَّ يَحْتَاجُ هَاهُنَا إلَى بَيَانِ وَجْهِ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ أَوَّلًا ثُمَّ إلَى بَيَانِ قُوَّةِ أَثَرِ الْقِيَاسِ وَضَعْفِ أَثَرِ الِاسْتِحْسَانِ ثَانِيًا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الشَّيْخُ.
فَوَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ يَتَشَابَهَانِ فِي مَعْنَى الْخُضُوعِ وَلِهَذَا أَطْلَقَ اسْمَ الرُّكُوعِ عَلَى السُّجُودِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَخَرَّ رَاكِعًا} [ص: 24] أَيْ سَاجِدًا؛ لِأَنَّ الْخُرُورَ هُوَ السُّقُوطُ، وَإِنَّهُ مَوْجُودٌ فِي السُّجُودِ دُونَ الرُّكُوعِ، وَيُقَالُ رَكَعَتْ النَّخْلَةُ وَسَجَدَتْ إذَا طَأْطَأَتْ رَأْسَهَا، وَلَمَّا ثَبَتَ التَّشَابُهُ بَيْنَهُمَا يَسْقُطُ الْوَاجِبُ عَنْهُ بِالرُّكُوعِ كَمَا يَسْقُطُ بِالسُّجُودِ. أَوْ يُقَالُ لَمَّا ثَبَتَ التَّشَابُهُ يَنُوبُ الرُّكُوعُ عَنْ السُّجُودِ كَمَا تَنُوبُ الْقِيمَةُ عَنْ الْوَاجِبِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ فَهَذَا قِيَاسٌ ظَاهِرٌ لَا حَاجَةَ فِيهِ إلَى زِيَادَةِ تَأَمُّلٍ بَلْ هُوَ اعْتِبَارٌ لِأَحَدِ الْفِعْلَيْنِ بِالْآخَرِ بِظَاهِرِ الشَّبَهِ.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ قَدْ وَرَدَ بِهِ أَيْ بِالرُّكُوعِ فِي مَقَامِ السُّجُودِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24] ، وَإِنْ كَانَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا تَمَسُّكٌ بِظَاهِرِ النَّصِّ، وَلَيْسَ بِقِيَاسٍ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي نُسْخَةٍ أُخْرَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَخَرَّ رَاكِعًا} [ص: 24] يَقْتَضِي وُجُوبَ الرُّكُوعِ عَقِيبَ التِّلَاوَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الصَّلَاةِ أَوْ خَارِجَ الصَّلَاةِ، وَهَذَا لَيْسَ بِقِيَاسٍ. قَوْلُهُ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ مَا ذَكَرْنَا.
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَنَا بِالسُّجُودِ بِقَوْلِهِ: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ} [النجم: 62]{وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19] وَالرُّكُوعُ خِلَافُ السُّجُودِ أَيْ غَيْرُهُ حَقِيقَةً أَلَا تَرَى أَنَّ الرُّكُوعَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَنُوبُ عَنْ سُجُودِ الصَّلَاةِ، وَلَا السُّجُودُ عَنْ الرُّكُوعِ فَلَأَنْ لَا يَنُوبَ عَنْ سُجُودِ التِّلَاوَةِ كَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْقُرْبَ بَيْنَ رُكُوعِ الصَّلَاةِ وَسُجُودِهَا مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوجِبُ التَّحْرِيمَةِ أَظْهَرُ مِنْ الْقُرْبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَلِهَذَا لَوْ تَلَا خَارِجَ الصَّلَاةِ فَرَكَعَ لَهَا لَمْ يَجُزْ عَنْ السَّجْدَةِ فَفِي الصَّلَاةِ أَوْلَى إنْ أَقَامَ رُكُوعَ الصَّلَاةِ مَقَامَ السُّجُودِ؛ لِأَنَّ الرُّكُوعَ مُسْتَحَقٌّ بِجِهَةٍ أُخْرَى. فَهَذَا أَيْ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الرُّكُوعَ خِلَافُ السُّجُودِ حَقِيقَةً إلَى آخِرِهِ أَثَرٌ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ لَا يَتَأَدَّى بِإِتْيَانِ مَا يُخَالِفُهُ فَفَسَدَ بِهِ وَجْهُ الْقِيَاسِ، وَصَارَ مَرْجُوحًا؛ لِأَنَّ هَذَا عَمَلٌ بِحَقِيقَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَأَمَّا وَجْهُ الْقِيَاسِ فَمَجَازٌ مَحْضٌ أَيْ ثَابِتٌ بِدَلِيلٍ هُوَ مَجَازٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّكُوعِ السُّجُودُ بِاتِّفَاقِ الْمُفَسِّرِينَ فَإِثْبَاتُ التَّشَابُهِ وَالْقُرْبِ بَيْنَهُمَا بِهَذَا الدَّلِيلِ، وَبِنَاءُ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعَمَلِ بِالْمَجَازِ فِي مُقَابَلَةِ الْحَقِيقَةِ وَلِهَذَا سَمَّيْنَا الثَّانِيَ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى، وَأَخْفَى بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَوَّلِ كَمَا تَرَى. فَهَذَا بَيَانُ ظُهُورِ أَثَرِ الِاسْتِحْسَانِ وَظُهُورِ فَسَادِ الْقِيَاسِ بِمُقَابَلَتِهِ. لَكِنَّ الْقِيَاسَ أَوْلَى بِالْعَمَلِ بِأَثَرِهِ الْبَاطِنِ أَيْ بِسَبَبِ قُوَّةِ أَثَرِهِ الْبَاطِنِ.
وَالِاسْتِحْسَانُ مَتْرُوكُ الْعَمَلِ
وَهَذَا قِسْمٌ عَزَّ وُجُودُهُ فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَالْأَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى، وَفَرْقٌ مَا بَيْنَ الْمُسْتَحْسَنِ بِالْأَثَرِ أَوْ الْإِجْمَاعِ أَوْ الضَّرُورَةِ، وَبَيْنَ الْمُسْتَحْسَنِ بِالْقِيَاسِ الْخَفِيِّ أَنَّ هَذَا يَصِحُّ تَعْدِيَتُهُ بِخِلَافِ الْأَقْسَامِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَعْلُولَةٍ
ــ
[كشف الأسرار]
لِفَسَادِهِ الْبَاطِنِ أَيْ الْخَفِيِّ. بَيَانُهُ أَيْ بَيَانُ الْأَثَرِ الْبَاطِنِ الَّذِي يَظْهَرُ بِهِ فَسَادُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ السُّجُودَ عِنْدَ التِّلَاوَةِ لَمْ يَجِبْ قُرْبَةً مَقْصُودَةً أَيْ لَمْ يَجِبْ قُرْبَةً لِعَيْنِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ الْمَقْصُودِ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِطَرِيقِ الِاسْتِبْدَادِ بِنَفْسِهِ وَلِهَذَا لَا يَلْتَزِمُ بِالنَّذْرِ كَمَا لَا يَلْتَزِمُ الطَّهَارَةَ بِهِ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ مُجَرَّدُ مَا يَصْلُحُ تَوَاضُعًا لِتَحْصُلَ بِهِ مُخَالَفَةُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ امْتَنَعُوا عَنْ السُّجُودِ اسْتِكْبَارًا إذْ الِاقْتِدَاءُ بِالْمُقَرَّبِينَ الَّذِينَ تَبَادَرُوا إلَى السُّجُودِ تَقَرُّبًا وَافْتِخَارًا كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عز وجل عَنْ الْفَرِيقَيْنِ فِي مَوَاضِعِ السُّجُودِ، وَفِي النُّصُوصِ الْمَذْكُورَةِ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى:{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ} [النحل: 48]{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ - وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ} [الرعد: 18 - 15]{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ} [النحل: 49] إشَارَةً إلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ السُّجُودِ التَّوَاضُعُ وَالْخُضُوعُ وَالِانْقِيَادُ.
وَكَذَا عَدَمُ اقْتِرَانِهِ بِالرُّكُوعِ كَمَا فِي سُجُودِ الصَّلَاةِ، وَشَرْعِيَّةُ التَّدَاخُلِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَيْنَهُ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ بَلْ الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّوَاضُعُ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ عِبَادَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأعراف: 206] وَبِالْإِجْمَاعِ وَلِهَذَا شَرَطَ فِيهِ الْوُضُوءَ وَاسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ. وَالرُّكُوعُ فِي الصَّلَاةِ يَعْمَلُ هَذَا الْعَمَلَ أَيْ يَحْصُلُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ السُّجُودِ بِالرُّكُوعِ فِي الصَّلَاةِ لِحُصُولِ مَعْنَى التَّوَاضُعِ وَالْعِبَادَةِ فِيهِ فَيَسْقُطُ عِنْدَ السُّجُودِ بِهِ كَمَا سَقَطَتْ الطَّهَارَةُ لِلصَّلَاةِ بِطَهَارَةٍ وَقَعَتْ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ، وَكَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ يَسْقُطُ بِالسَّعْيِ لِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ. وَتَأَيَّدَ مَا ذَكَرْنَا بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَانَ إذَا تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ فِي الصَّلَاةِ رَكَعَ. بِخِلَافِ الرُّكُوعِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ بِخِلَافِ سُجُودِ الصَّلَاةِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ إقَامَةُ الرُّكُوعِ مَقَامَهُ، وَلَا عَكْسُهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ بِنَفْسِهِ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] ، وَقَوْلُهُ عليه السلام:«مَكِّنْ جَبْهَتَك مِنْ الْأَرْضِ.» «وَأُمِرْت أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ» وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ فَلَا تَتَأَدَّى بِغَيْرِهِ.
فَصَارَ الْأَثَرُ الْخَفِيُّ لِلْقِيَاسِ، وَهُوَ حُصُولُ الْمَقْصُودِ بِالرُّكُوعِ. مَعَ الْفَسَادِ الظَّاهِرِ، وَهُوَ الْعَمَلُ بِالْمَجَازِ مَعَ إمْكَانِهِ بِالْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ وَاعْتِبَارِ نَفْسِ الشَّبَهِ أَحَقَّ مِنْ الْأَثَرِ الظَّاهِرِ لِلِاسْتِحْسَانِ، وَهُوَ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ مَعَ الْفَسَادِ الْبَاطِنِ، وَهُوَ جَعْلُ غَيْرِ الْمَقْصُودِ مُسَاوِيًا لِلْمَقْصُودِ. قَوْلُهُ:(وَهَذَا) أَيْ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْقِيَاسِ، وَهُوَ الَّذِي تَرَجَّحَ عَلَى الِاسْتِحْسَانِ بِقُوَّةِ أَثَرِهِ الْبَاطِنِ قِسْمٌ عَزَّ وُجُودُهُ. وَسَمِعْت مِنْ شَيْخِي رحمه الله أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ إلَّا فِي سِتِّ مَسَائِلَ أَوْ سَبْعٍ.
مِنْهَا مَا إذَا ادَّعَى الرَّهْنَ الْوَاحِدَ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُولُ رَهَنْتنِي بِأَلْفٍ، وَقَبَضْته وَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ فِي الِاسْتِحْسَانِ يَقْتَضِي بِأَنَّهُ مَرْهُونٌ عِنْدَهُمَا وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا ارْتَهَنَا مَعًا لِجَهَالَةِ التَّارِيخِ كَمَا فِي الْغَرْقَى وَالْهَدْمَى، وَكَمَا لَوْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ، وَفِي الْقِيَاسِ تَبْطُلُ الْبَيِّنَتَانِ لِتَعَذُّرِ الْقَضَاءِ بِالْكُلِّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلِاسْتِحَالَةِ تَعَذُّرِ الْقَضَاءِ لِوَاحِدٍ بِعَيْنِهِ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ بِنِصْفِهِ لِتَأْدِيَتِهِ إلَى الشُّيُوعِ الْمَانِعِ مِنْ صِحَّةِ الرَّهْنِ فَتَعَيَّنَ التَّهَاتُرُ.
وَأَخَذْنَا بِالْقِيَاسِ لِقُوَّةِ أَثَرِهِ الْبَاطِنِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي عَقْدًا عَلَى حِدَةٍ وَيُثْبِتُ بِبَيِّنَتِهِ حَبْسًا يَكُونُ وَسِيلَةً إلَى مِثْلِهِ فِي الِاسْتِيفَاءِ وَبِهَذَا الْقَضَاءِ يَثْبُتُ عَقْدٌ وَاحِدٌ وَحَبْسٌ يَكُونُ وَسِيلَةً إلَى شَطْرِهِ فِي الِاسْتِيفَاءِ فَيَكُونُ قَضَاءً عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْحُجَّةِ. بِخِلَافِ الرَّهْنِ مِنْ رَجُلَيْنِ فَإِنَّ الْعَقْدَ هُنَاكَ وَاحِدٌ فَيُمْكِنُ
أَلَا تَرَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِ الْمُثَمَّنِ لَا يُوجِبُ يَمِينَ الْبَائِعِ قِيَاسًا؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَدَّعِي عَلَيْهِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا الْبَائِعُ هُوَ الْمُدَّعِي، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجِبُ الْيَمِينُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ بِمَا يَدَّعِيهِ الْمُشْتَرِي ثَمَنًا، وَهَذَا حُكْمٌ قَدْ تَعَدَّى إلَى الْوَارِثِينَ
ــ
[كشف الأسرار]
إثْبَاتُ مُوجِبِ الْعَقْدِ بِهِ مُتَّحِدًا فِي الْمَحَلِّ وَبِخِلَافِ دَعْوَى الشِّرَاءِ فَإِنَّا لَمْ نَجْعَلْ ذَلِكَ كَأَنَّهُمَا اشْتَرَيَا مَعًا إذْ لَوْ جُعِلَ كَذَلِكَ لَمَا ثَبَتَ الْخِيَارُ لَهُمَا كَمَا لَوْ بَاعَ مِنْهُمَا جَمِيعًا بِعَقْدٍ وَاحِدٍ.
وَمِنْهَا مَا إذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَبَيْنَ رَبِّ السَّلَمِ فِي دِرْعَانِ الْمُسْلَمِ فِيهِ فِي الْقِيَاسِ يَتَخَالَفَانِ وَبِهِ نَأْخُذُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَبِيعٌ فَالِاخْتِلَافُ فِي دِرْعَانِهِ لَا يَكُونُ اخْتِلَافًا فِي أَصْلِهِ بَلْ فِي صِفَتِهِ مِنْ حَيْثُ الطُّولُ وَالسَّعَةُ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ التَّخَالُفَ كَالِاخْتِلَافِ فِي دِرْعَانِهِ الثَّوْبَ الْمَبِيعَ بِعَيْنِهِ.
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الْمُسْتَحَقِّ بِعَقْدِ السَّلَمِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّخَالُفَ، ثُمَّ أَثَرُ الْقِيَاسِ مُسْتَتِرٌ، وَلَكِنَّهُ قَوِيَ مِنْ حَيْثُ إنَّ عَقْدَ السَّلَمِ إنَّمَا يُعْقَدُ بِالْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ لَا بِالْإِشَارَةِ إلَى الْمُعَيَّنِ، وَكَانَ الْمَوْصُوفُ بِأَنَّهُ خَمْسٌ فِي سَبْعٍ غَيْرَ الْمَوْصُوفِ بِأَنَّهُ أَرْبَعٌ فِي سِتٍّ فَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ هَاهُنَا فِي أَصْلِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّخَالُفَ فَلِذَلِكَ أَخَذْنَا بِالْقِيَاسِ.
وَمِنْهَا مَا إذَا قَرَأَ السَّجْدَةَ فِي رَكْعَةٍ فَسَجَدَهَا ثُمَّ أَعَادَهَا فِي الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى فَفِي الِاسْتِحْسَانِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ سَجْدَةٌ أُخْرَى فِي الْقِيَاسِ لَا يَلْزَمُهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ. وَمِنْهَا أَنَّ الرَّهْنَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ رَهْنٌ بِالْمُتْعَةِ فِي الِاسْتِحْسَانِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَكُونُ رَهْنًا بِهَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَمِنْهَا أَنَّ الْعَبْدَ إذَا جَرَحَ حُرًّا خَطَأً فَخُيِّرَ مَوْلَاهُ بَعْدَ الْبُرْءِ فَاخْتَارَ الْفِدَاءَ ثُمَّ انْتَقَضَتْ الْجِرَاحَةُ وَصَارَتْ نَفْسًا يُخَيَّرُ ثَانِيَةً فِي الِاسْتِحْسَانِ هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يُخَيَّرُ وَيَكُونُ مُخْتَارًا لِلدِّيَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ. وَمِنْهَا غَاصِبُ الْعَقَارِ فِي الِاسْتِحْسَانِ ضَامِنٌ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَفِي الْقِيَاسِ لَيْسَ بِضَامِنٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فَرَجَعَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ إلَى الْقِيَاسِ لِقُوَّتِهِ.
ثُمَّ بَيَّنَ الشَّيْخُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُسْتَحْسَنِ بِالْقِيَاسِ الْخَفِيِّ وَبَيْنَ الْمُسْتَحْسَنِ بِالْأَثَرِ أَوْ الْإِجْمَاعِ أَوْ الضَّرُورَةِ فَقَالَ الْمُسْتَحْسَنُ بِالْقِيَاسِ الْخَفِيِّ يَصِحُّ تَعْدِيَتُهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ التَّعْدِيَةُ، وَهَذَا الْقِسْمُ، وَإِنْ اخْتَصَّ بِاسْمِ الِاسْتِحْسَانِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ قِيَاسًا فَيَكُونُ حُكْمُهُ التَّعْدِيَةَ بِخِلَافِ الْأَقْسَامِ الْأُوَلِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَعْلُولَةٍ بَلْ هِيَ مَعْدُولٌ بِهَا عَنْ الْقِيَاسِ فَلَا يُقْبَلُ التَّعْدِيَةُ.
ثُمَّ بَيَّنَ مِثَالًا لِمَا ذَكَرَ فَقَالَ أَلَا تَرَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِ الْمُثَمَّنِ يَعْنِي قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ إذَا لَمْ يَقْبِضْ الثَّمَنَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُسَلِّمُ الْمَبِيعَ إلَى الْمُشْتَرِي. لَا يُوجِبُ يَمِينَ الْبَائِعِ قِيَاسًا؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا اتَّفَقَا عَلَى الْبَيْعِ قَدْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْمَبِيعَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي فَالْمُشْتَرِي لَا يَكُونُ مُدَّعِيًا عَلَى الْبَائِعِ شَيْئًا فِي الظَّاهِرِ، وَإِنَّمَا الْبَائِعُ هُوَ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ فَكَانَ الْقِيَاسُ نَظَرًا إلَى سَائِرِ الْخُصُومَاتِ أَنْ يُسَلِّمَ الْمَبِيعَ إلَى الْمُشْتَرِي وَيُؤْخَذُ مِنْهُ مَا أَقَرَّ بِهِ وَيَحْلِفُ عَلَى الْبَاقِي. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجِبُ الثَّمَنُ عَلَى الْبَائِعِ كَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي وُجُوبَ التَّسْلِيمِ عِنْدَ إحْضَارِ أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ الَّذِي يُقِرُّ بِهِ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ بِمَا يُقِرُّ بِهِ ثَمَنًا وَالْبَيْعُ كَمَا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْمِلْكِ عَلَى الْبَائِعِ يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْيَدِ عَلَيْهِ عِنْدَ وُصُولِ الثَّمَنِ إلَيْهِ.
وَهَذَا حُكْمُ أَيْ وُجُوبُ التَّحَالُفِ قَبْلَ الْقَبْضِ حُكْمٌ قَدْ تَعَدَّى إلَى الْوَارِثِينَ حَتَّى لَوْ مَاتَ الْمُتَعَاقِدَانِ وَوَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ وَارِثِيهِمَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَجْرِي التَّحَالُفُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ قَائِمٌ
وَإِلَى الْإِجَارَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَأَمَّا مَا بَعْدَ الْقَبْضِ فَلَمْ يَجِبْ يَمِينُ الْبَائِعِ إلَّا بِالْأَثَرِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَلَمْ يَصِحَّ تَعْدِيَتُهُ إلَى الْوَارِثِ، وَإِلَى حَالِ هَلَاكِ السِّلْعَةِ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ عَلَى أَصْحَابِنَا بَعْضُ النَّاسِ اسْتِحْسَانَهُمْ لِجَهْلِهِمْ بِالْمُرَادِ
ــ
[كشف الأسرار]
مَقَامَ الْمُوَرِّثِ فِي حُقُوقِ الْعَقْدِ فَوَارِثُ الْبَائِعِ يُطَالِبُ وَارِثَ الْمُشْتَرِي بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ وَوَارِثُ الْمُشْتَرِي يُطَالِبُهُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ فَيُمْكِنُ تَعْدِيَةُ حُكْمِ التَّحَالُفِ إلَيْهِمَا، وَإِلَى الْإِجَارَةِ حَتَّى لَوْ اخْتَلَفَ الْقَصَّارُ وَرَبُّ الثَّوْبِ فِي مِقْدَارِ الْأُجْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ الْقَصَّارُ فِي الْعَمَلِ يَتَحَالَفَانِ؛ لِأَنَّ التَّحَالُفَ مَشْرُوعٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِطَرِيقِ الْفَسْخِ لِيَعُودَ إلَيْهِ رَأْسُ مَالِهِ وَعَقْدُ الْإِجَارَةِ مُحْتَمِلٌ لِلْفَسْخِ قَبْلَ إقَامَةِ الْعَمَلِ كَالْبَيْعِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعِيًا، وَمُنْكِرًا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا فَيَجْرِي التَّحَالُفُ بَيْنَهُمَا.
وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِثْلُ مَا إذَا اخْتَلَفَتْ الزَّوْجَانِ فِي مِقْدَارِ الْمَهْرِ يَجِبُ التَّحَالُفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَحْتَمِلُ لِلْفَسْخِ فِي الْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ يَقَعُ بِخِيَارِ الْعِتْقِ وَخِيَارِ الْبُلُوغِ وَعَدَمِ الْكَفَّارَةِ وَيَسْتَحِقُّ فِيهِ التَّسْلِيمَ، وَالتَّسْلِيمُ يُشْبِهُ الْبَيْعَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَيُمْكِنُ جَعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعِيًا، وَمُنْكِرًا فَيَجْرِي فِيهِ التَّحَالُفُ أَيْضًا.
وَمِثْلُ مَا إذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَعْدَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ، وَقَدْ اخْتَلَفَتَا بَدَلًا بِأَنْ قَبِلَ الْعَبْدُ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ يَجْرِي التَّحَالُفُ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ الْوَاجِبَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمَّا وَرَدَ عَلَيْهَا الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ كَانَتْ فِي حُكْمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَكَانَتْ مِثْلَ الْعَيْنِ فِي إمْكَانِ فَسْخِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا.
فَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ أَيْ الِاخْتِلَافِ الَّذِي وَقَعَ بَعْدَ الْقَبْضِ فِي الثَّمَنِ فَلَمْ يَجِبْ أَيْ لَمْ يَجِبْ بِهِ يَمِينُ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَدَّعِي لِنَفْسِهِ عَلَى الْبَائِعِ شَيْئًا إذْ الْمَبِيعُ مُسَلَّمٌ إلَيْهِ فَكَانَ ثُبُوتُ التَّحَالُفِ بِالْأَثَرِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ لَا يَتَعَدَّى إلَى الْوَارِثِ حَتَّى لَوْ اخْتَلَفَ وَارِثُ الْبَائِعِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَالْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ. أَوْ وَارِثُ الْمُشْتَرِي بَعْدَ مَوْتِهِ مَعَ الْبَائِعِ.
أَوْ اخْتَلَفَ الْوَارِثَانِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَالسِّلْعَةُ مَقْبُوضَةٌ قَائِمَةٌ فِي الْمَسَائِلِ كُلِّهَا كَانَ مِنْ الْقَوْلِ قَوْلَ الْمُشْتَرِي أَوْ وَارِثِهِ، وَلَا يَجْرِي التَّحَالُفُ بَيْنَهُمَا، وَلَا إلَى مَا بَعْدَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ سَوَاءٌ أَخَلَفَتْ بَدَلًا أَوْ لَمْ تَخْلُفْ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّخَالُفَ بَعْدَ الْقَبْضِ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ مُسْتَحْسَنٌ بِالْأَثَرِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: عَدَمُ جَرَيَانِ التَّحَالُفِ فِي الْوَارِثِ بَعْدَ الْقَبْضِ مُسَلَّمٌ، وَلَكِنَّهُ حَالَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لِدُخُولٍ تَحْتَ إطْلَاقِ النَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ عليه السلام:«إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا» قُلْنَا: النَّصُّ الْمُقَيَّدُ بِقِيَامِ السِّلْعَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عليه السلام:«إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا» يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ قِيَامِ السِّلْعَةِ. وَكَذَا الْمُطْلَقُ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ التَّرَادِّ إنْ كَانَ رَدُّ الْمَأْخُوذِ حِسًّا وَحَقِيقَةً فَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إلَّا عِنْدَ قِيَامِ السِّلْعَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ رَدَّ الْعَقْدِ فَالْفَسْخُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ قِيَامِ السِّلْعَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ لَا يَرِدُ إلَّا عَلَى مَا وَرَدَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ فَإِذَا فَاتَ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ فَقَدْ فَاتَ مَحَلُّ الْفَسْخِ، وَلَا يُمْكِنُ إبْقَاءُ الْمَحَلِّ بِإِقَامَةِ الْقِيمَةِ مَقَامَهُ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ قَبْلَ الْفَسْخِ عَلَى أَحَدٍ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله يَجْرِي التَّحَالُفُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ؛ لِأَنَّ التَّحَالُفَ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي عَقْدًا يُنْكِرُهُ الْآخَرُ إذْ الْبَيْعُ بِأَلْفٍ غَيْرُ الْبَيْعِ بِأَلْفَيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّ شَاهِدَيْ الْبَيْعِ إذَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ لَا تُقْبَلُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ انْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
وَإِذَا صَحَّ الْمُرَادُ عَلَى مَا قُلْنَا بَطَلَتْ الْمُنَازَعَةُ فِي الْعِبَارَةِ وَثَبَتَ أَنَّهُمْ لَمْ يَتْرُكُوا الْحُجَّةَ بِالْهَوَى وَالشَّهْوَةِ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي بَعْضِ كُتُبِهِ أَسْتَحِبُّ كَذَا، وَمَا بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ فَرْقٌ وَالِاسْتِحْسَانُ أَفْصَحُهُمَا، وَأَقْوَاهُمَا وَالِاسْتِحْسَانُ بِالْأَثَرِ لَيْسَ مِنْ بَابِ خُصُوصِ الْعِلَلِ أَيْضًا
ــ
[كشف الأسرار]
بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَجَبَ قَبُولُ بَيِّنَتِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي عَقْدًا يُنْكِرُهُ صَاحِبُهُ فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَتَحَقَّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ وَحَالَ قِيَامِ السِّلْعَةِ وَحَالَ هَلَاكِهَا فَيَثْبُتُ التَّحَالُفُ فِي الْجَمِيعِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي عَقْدًا آخَرَ فَإِنَّ الْعَقْدَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الثَّمَنِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ بِأَلْفٍ يَمْلِكُ الْبَيْعَ بِأَلْفَيْنِ، وَأَنَّ الْبَيْعَ بِأَلْفٍ قَدْ يَصِيرُ بِأَلْفَيْنِ بِالزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ وَالْبَيْعَ بِأَلْفَيْنِ يَصِيرُ بِأَلْفٍ عِنْدَ حَطِّ بَعْضِ الثَّمَنِ.
وَكَذَا لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي جَارِيَةً حَلَّ لِلْمُشْتَرِي وَطْؤُهَا، وَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الثَّمَنِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْعَقْدِ لَمَا حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا كَمَا إذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ وَالْآخَرُ الْهِبَةَ.
وَاخْتِلَافُ الشَّاهِدَيْنِ فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ لِاخْتِلَافِ الْعَقْدِ بَلْ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يُكَذِّبُ أَحَدَهُمَا، وَقَبُولُ بَيِّنَةِ الْمُشْتَرِي عِنْدَ الِانْفِرَادِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مُدَّعٍ صُورَةً لَا مَعْنًى وَذَلِكَ كَانَ لِقَبُولِ بَيِّنَتِهِ، وَلَكِنْ لَا يَتَوَجَّهُ بِهِ الْيَمِينُ عَلَى خَصْمِهِ، وَإِنْ كَانَتْ بَيِّنَتُهُ تُقْبَلُ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ:(وَإِذَا صَحَّ الْمُرَادُ) أَيْ ثَبَتَ وَظَهَرَ عَلَى مَا قُلْنَا إنَّهُ اسْمٌ لِأَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ أَوْ اسْمٌ لِلدَّلِيلِ الْأَقْوَى فِي مُقَابَلَةِ الْقِيَاسِ، وَلَا خِلَافَ لِأَحَدٍ فِي صِحَّةِ الْعَمَلِ بِهِ بَطَلَتْ الْمُنَازَعَةُ فِي الْعِبَارَةِ. وَهُوَ جَوَابٌ عَمَّا قَالَ بَعْضُ الطَّاعِنِينَ نَحْنُ لَا نُنَازِعُكُمْ فِي الِاسْتِحْسَانِ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْتُمْ، وَلَكِنْ لَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الدَّلِيلِ بِتَسْمِيَتِهِ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ كُلَّ الشَّرْعِ اسْتِحْسَانٌ كَذَا فِي الْقَوَاطِعِ. فَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ نِزَاعٌ فِي الْعِبَارَةِ، وَهُوَ بَاطِلٌ إذْ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ.
عَلَى أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمْ وَضَعُوا هَذَا الِاسْمَ لِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الدَّلِيلِ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ بِاعْتِبَارِ وُجُودِ الْحُسْنِ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ كَمَا أَنَّ الْخُصُومَ وَضَعُوا لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ الْأَقْيِسَةِ اسْمًا كَقِيَاسِ الدَّلَالَةِ، وَقِيَاسِ الْعِلَّةِ، وَقِيَاسِ الشَّبَهِ وَنَحْوِهَا بِاعْتِبَارِ مَعْنًى. وَوُجُودُ مَعْنَى الِاسْمِ فِي غَيْرِ مَا وَضَعُوهُ لَهُ بِاعْتِبَارِهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ فَإِنَّ الْعَرَبَ سَمَّتْ الزُّجَاجَ قَارُورَةً لِقَرَارِ الْمَائِعِ فِيهِ مَعَ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَوَانِي، وَكَيْفَ يَصِحُّ الطَّعْنُ بِاسْتِعْمَالِ هَذَا اللَّفْظِ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ سَائِرِ الْمُجْتَهِدِينَ فَإِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه كَانَ يَسْتَعْمِلُ هَذَا اللَّفْظَ كَثِيرًا فِي الْمَسَائِلِ. وَذَكَرَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رحمه الله لَفْظَ الِاسْتِحْسَانِ فِي كِتَابِهِ فِي مَوْضِعٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي الْمُتْعَةِ أَسْتَحْسِنُ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، وَقَالَ فِي بَابِ الشَّفِيعِ أَسْتَحْسِنُ أَنْ تَثْبُتَ لِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَقَالَ فِي الْمُكَاتَبِ أَسْتَحْسِنُ تَرْكَ شَيْءٍ لِلْمُكَاتَبِ مِنْ نُجُومِ الْكِتَابَةِ.
وَذَكَرَ مُحْيِي السُّنَّةِ فِي التَّهْذِيبِ وَوَضْعُ الْمُصْحَفِ فِي حِجْرِ الْحَالِفِ عِنْدَ التَّحْلِيفِ اسْتَحْسَنَهُ الشَّافِعِيُّ تَغْلِيظًا. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي بَعْضِ كُتُبِهِ أَسْتَحِبُّ كَذَا، وَلَيْسَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ فَرْقٌ بَلْ الِاسْتِحْسَانُ أَفْصَحُهُمَا؛ لِأَنَّهُ أَوْفَقُ لِكَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ الَّذِي هُوَ أَفْصَحُ الْكَلَامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر: 55] {فَبَشِّرْ عِبَادِ} [الزمر: 17]{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18]{وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} [الأعراف: 145] . وَقَالَ عليه السلام: «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» وَأَقْوَاهُمَا يَعْنِي فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَقْصُودِ إذْ الْمُرَادُ بَيَانُ حُسْنِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الدَّلِيلُ، وَهَذَا اللَّفْظُ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِوَضْعِهِ إذْ الِاسْتِحْسَانُ وُجْدَانُ الشَّيْءِ وَعَدُّهُ حَسَنًا فَأَمَّا الِاسْتِحْبَابُ فَيَدُلُّ بِوَضْعِهِ عَلَى مَيَلَانِ الطَّبْعِ إلَى الشَّيْءِ وَالْمَحَبَّةِ لَهُ