الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِدِيَانَةٍ بَلْ هُوَ فِسْقٌ فِي دِيَانَتِهِمْ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِ دِيَانَتِهِمْ تَحْرِيمَ الرِّبَا وَذَلِكَ مِثْلُ خِيَانَتِهِمْ فِيمَا اُؤْتُمِنُوا فِي كُتُبِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ نُهُوا عَنْهُ فَكَذَلِكَ الرِّبَا كَاسْتِحْلَالِهِمْ الزِّنَا.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فَ
جَهْلُ صَاحِبِ الْهَوَى فِي صِفَاتِ اللَّهِ عز وجل وَأَحْكَامِ الْآخِرَةِ
وَجَهْلُ الْبَاغِي؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلدَّلِيلِ الْوَاضِحِ الصَّحِيحِ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ
ــ
[كشف الأسرار]
إلَيْهِ يَثْبُتَ. فَلَا يَجِبُ عَلَى الذِّمِّيِّ حَدُّ الشُّرْبِ؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ زَاجِرًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَفِي إيجَابِهِ عَلَيْهِ تَعَرُّضٌ لَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. فَأَمَّا سَائِرُ الْأَحْكَامِ مِثْلُ إثْبَاتِ التَّقَوُّمِ وَإِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُتْلِفِ وَصِحَّةِ الْبَيْعِ وَإِيجَابِ النَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجِ وَإِيجَابِ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ فَلَا يَثْبُتُ؛ لِأَنَّ دِيَانَةَ الْكَافِرِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ عَلَى غَيْرِهِ بَلْ أَثَرُهَا فِي دَفْعِ التَّعَرُّضِ عَنْهُ لَا غَيْرُ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَيْ عَنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ تَقْوِيمَ الْأَمْوَالِ وَإِحْصَانَ النُّفُوسِ مِنْ بَابِ الْعِصْمَةِ وَتَفْسِيرَهَا الْحِفْظَ عَنْ التَّعَرُّضِ فَيَكُونُ فِي تَحْقِيقِ الْعِصْمَةِ لِنُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ تَحْقِيقُ الْحِفْظِ لَهَا عَنْ التَّعَرُّضِ أَيْضًا يَعْنِي كَمَا أَنَّ إسْقَاطَ حَدِّ الشُّرْبِ عَنْ الْكَافِرِ بِدِيَانَتِهِ لَهُ مِنْ بَابِ تَرْكِ التَّعَرُّضِ، وَحِفْظُهُ عَنْهُ إثْبَاتُ تَقَوُّمِ الْخَمْرِ وَإِبْقَاءُ الْإِحْصَانِ بِدِيَانَتِهِ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ عَنْ التَّعَرُّضِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ وَالنُّفُوسَ لَا تَصِيرُ مَعْصُومَةً عَنْ تَعَرُّضِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا بِإِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمْ عِنْدَ الْإِتْلَافِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَاتِ الْحِفْظِ عَنْ التَّعَرُّضِ كَسُقُوطِ حَدِّ الشُّرْبِ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ دِيَانَتَهُمْ مُعْتَبَرَةٌ فِي دَفْعِ التَّعَرُّضِ، وَدَفْعُ الْخِطَابِ عَنْهُمْ عَدَمُ اعْتِبَارِ دِيَانَتِهِمْ فِي اسْتِحْلَالِ الرِّبَا حَتَّى إنَّ الذِّمِّيَّ إذَا بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ مِنْ ذِمِّيٍّ آخَرَ ثُمَّ تَرَافَعَا إلَى الْقَاضِي أَوْ أَسْلَمَا أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا يَجِبُ نَقْضُهُ كَمَا لَوْ بَاشَرَهُ مُسْلِمٌ وَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي ذَلِكَ دِيَانَتُهُ لِحِلِّ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ وَجَوَازِهِ. لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْ اسْتِحْلَالُ الرِّبَا مِنْهُمْ لَيْسَ بِدِيَانَةٍ؛ لِأَنَّ مِنْ دِيَانَتِهِمْ تَحْرِيمُ الرِّبَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى. {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} [النساء: 160] {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161] . وَذَلِكَ أَيْ اسْتِحْلَالُ الرِّبَا مِنْهُمْ فِي كَوْنِهِ فِسْقًا مِثْلُ خِيَانَتِهِمْ فِيمَا اُؤْتُمِنُوا مِنْ كُتُبِهِمْ بِتَغْيِيرِ الْأَحْكَامِ وَتَبْدِيلِ صِفَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. لِأَنَّهُمْ نُهُوا عَنْ ذَلِكَ أَيْ عَنْ الْخِيَانَةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ فَكَانَتْ الْخِيَانَةُ مِنْهُمْ فِسْقًا لَا دِيَانَةً.
وَلِهَذَا ذَمَّهُمْ اللَّهُ بِقَوْلِهِ. {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 46] . فَكَذَلِكَ الرِّبَا وَذَلِكَ الِاسْتِحْلَالُ مِنْهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اسْتَحَلُّوا الزِّنَا أَوْ السَّرِقَةَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِمْ حَتَّى يَجِبَ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ فِسْقٌ مِنْهُمْ وَلَيْسَ بِدِيَانَةٍ؛ لِأَنَّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةَ حِرْمَانٌ فِي الْأَدْيَانِ كُلِّهَا فَكَذَلِكَ اسْتِحْلَالُ الرِّبَا وَلِهَذَا يُسْتَثْنَى عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ فَشَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَقْتُلُوا وَأَنْ لَا يَسْرِقُوا وَأَنْ لَا يَزْنُوا وَأَنْ لَا يَسْتَرْبُوا. وَإِلَّا يُقَالُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ اسْتِحْلَالُ الرِّبَا فِسْقًا مِنْ الْيَهُودِ فَإِنَّ النَّهْيَ تَحَقَّقَ فِي حَقِّهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمَجُوسِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِكِتَابٍ وَلَا نَبِيٍّ. لِأَنَّا نَقُولُ كَانَ شَرْعُ تَحْرِيمِ الرِّبَا عَامًّا وَلَمْ يَكُنْ الرِّبَا مَشْرُوعًا قَطُّ فِي دَيْنٍ مِنْ الْأَدْيَانِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الظُّلْمِ وَهُوَ حَرَامٌ فِي الْأَدْيَانِ كُلِّهَا وَلَمْ يَكُنْ عَقْدُ الذِّمَّةِ مَشْرُوعًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِيُعْتَبَرَ مَانِعًا مِنْ بُلُوغِ الْخِطَابِ فَيَثْبُتُ التَّحْرِيمُ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ.
قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ رحمه الله وَإِنَّمَا اسْتَثْنَى عَلَيْهِمْ أَنْوَاعَ تَصَرُّفٍ يَقَعُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ عَلَى الشَّرِكَةِ كَالرِّبَا وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لَهُمْ مُبَاشَرَتُهَا وَاعْتَادُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ فَعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي عُقُودِهِمْ مَعَنَا فَتَعَذَّرَ عَلَى التَّاجِرِ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَأَمَّا عُقُودُ مُعَامَلَاتٍ تَجْرِي بَيْنَهُمْ خَاصَّةً لَا يَتَعَدَّى شَرُّهَا إلَيْنَا فَتُرِكُوا وَدِيَانَتُهُمْ كَالْأَنْكِحَةِ وَشُرْبُ الْخَمْرِ.
[جَهْل صَاحِبِ الْهَوَى فِي صِفَاتِ اللَّهِ عز وجل وَأَحْكَامِ الْآخِرَةِ]
قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي) وَهُوَ الْجَهْلُ الَّذِي دُونَ جَهْلِ الْكَافِرِ وَلَكِنَّهُ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا أَيْضًا فَجَهْلُ صَاحِبِ الْهَوَى فِي صِفَاتِ اللَّهِ عز وجل مِثْلُ جَهْلِ الْمُعْتَزِلَةِ بِالصِّفَاتِ فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوهَا حَقِيقَةً بِقَوْلِهِمْ أَنَّهُ تَعَالَى عَالَمٌ بِلَا عِلْمٍ قَادِرٌ بِلَا قُدْرَةٍ سَمِيعٌ بِلَا سَمْعٍ بَصِيرٌ بِلَا بَصَرٍ وَكَذَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[كشف الأسرار]
فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ. وَمِثْلُ جَهْلِ الْمُشَبِّهَةِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا بِجَوَازِ حُدُوثِ صِفَاتِ اللَّهِ عز وجل وَزَوَالِهَا عَنْهُ مُشَبِّهِينَ اللَّهَ تَعَالَى بِخَلْقِهِ فِي صِفَاتِهِ. وَهَذَا الْجَهْلُ بَاطِلٌ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا فِي الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلدَّلِيلِ الْوَاضِحِ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ سَمْعًا وَعَقْلًا. أَمَّا السَّمْعُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255] . {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166] . {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58] . {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 243] إلَى غَيْرِهَا مِنْ الْآيَاتِ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى صِفَاتٍ هِيَ مَعَانٍ وَرَاءَ الذَّاتِ.
وَأَمَّا الْعَقْلُ فَهُوَ أَنَّ الْمُحْدَثَاتِ كَمَا دَلَّتْ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ جل جلاله دَلَّتْ عَلَى كَوْنِهِ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا سَمِيعًا بَصِيرًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ وَعِلْمٌ وَقُدْرَةٌ وَسَمْعٌ وَبَصَرٌ وَأَنَّ تَكُونَ هَذِهِ الصِّفَاتُ مَعَانِيَ وَرَاءَ الذَّاتِ إذْ يُحِيلُ الْعَقْلُ أَنْ يُحْكَمَ بِعَالِمٍ لَا عِلْمَ لَهُ وَحَيٍّ لَا حَيَاةَ لَهُ وَقَادِرٍ لَا قُدْرَةَ لَهُ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ لَيْسَ بِعَالِمٍ وَبَيْن قَوْلِهِ لَا عِلْمَ لَهُ وَكَذَا فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ.
وَقَدْ عُرِفَ بِدَلَالَةِ الْعَقْلِ أَيْضًا أَنَّ مَا هُوَ مَحَلُّ الْحَوَادِثِ حَادِثٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ تَعَالَى حَادِثَةً لِاسْتِلْزَامِهِ حُدُوثَ الذَّاتِ الَّذِي هُوَ مُحَالٌ فَثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْوَاضِحِ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مُنَزَّهٌ عَنْ النَّقِيصَةِ وَالزَّوَالِ وَأَنَّ صِفَاتِهِ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ وَلَيْسَتْ بِأَعْرَاضٍ تَحْدُثُ وَتَزُولُ بَلْ هِيَ أَزَلِيَّةٌ لَا أَوَّلَ لَهَا أَبَدِيَّةٌ لَا آخِرَ لَهَا فَكَانَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ بَاطِلًا وَجَهْلًا بَعْدَ وُضُوحِ الدَّلِيلِ فَلَا يَصْلُحُ عُذْرًا فِي الْآخِرَةِ. وَكَذَا جَهْلُهُمْ بِأَحْكَامِ الْآخِرَةِ مِثْلُ جَهْلِ الْمُعْتَزِلَةِ بِسُؤَالِ الْمُنْكَرِ وَالنَّكِيرِ وَعَذَابُ الْقَبْرِ وَالْمِيزَانِ وَالشَّفَاعَةِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ وَجَوَازُ الْعَفْوِ عَمَّا دُونَ الشِّرْكِ وَجَوَازُ إخْرَاجِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ النَّارِ وَإِنْكَارِهِمْ إيَّاهَا. وَمِثْلُ إنْكَارِ الْجَهْمِيَّةِ خُلُودَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَأَهَالِيَهُمَا جَهْلٌ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ النَّاطِقَةَ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرَةٌ وَاضِحَةٌ لَا تَخْفَى عَلَى مَنْ تَأَمَّلَ فِيهَا عَنْ إنْصَافٍ فَالْجَهْلُ بِهَا لَا يَكُونُ عُذْرًا فِي الْآخِرَةِ كَجَهْلِ الْكَافِرِ. وَكَذَلِكَ جَهْلُ الْبَاغِي وَهُوَ الَّذِي خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ الْحَقِّ ظَانًّا أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ وَالْإِمَامَ عَلَى الْبَاطِلِ مُتَمَسِّكًا فِي ذَلِكَ بِتَأْوِيلٍ فَاسِدٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْوِيلٌ فَحُكْمُهُ حُكْمُ اللُّصُوصِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلدَّلِيلِ الْوَاضِحِ فَإِنَّ الدَّلَائِلَ عَلَى كَوْنِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ عَلَى الْحَقِّ مَثَلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقَتَهُمْ لَائِحَةٌ عَلَى وَجْهٍ يُعَدُّ جَاحِدُهَا مُكَابِرًا مُعَانِدًا.
وَتَوْضِيحُهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ قِصَّةِ الْبُغَاةِ وَهِيَ مَا رُوِيَ أَنَّ الْمُخَالَفَةَ لَمَّا اسْتَحْكَمَتْ بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ رضي الله عنهما وَكَثُرَ الْقِتَالُ وَالْقَتْلُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ جَعَلَ أَصْحَابُ مُعَاوِيَةَ الْمَصَاحِفَ عَلَى رُءُوسِ الرِّمَاحِ وَقَالُوا لِأَصْحَابِ عَلِيٍّ رضي الله عنه بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى نَدْعُوكُمْ إلَى الْعَمَلِ بِهِ فَأَجَابَ أَصْحَابُ عَلِيٍّ رضي الله عنه إلَى ذَلِكَ وَامْتَنَعُوا عَنْ الْقِتَالِ ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَأْخُذُوا حَكَمًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فَمَنْ اتَّفَقَ الْحَكَمَانِ عَلَى إمَامَتِهِ فَهُوَ الْإِمَامُ وَكَانَ عَلِيٌّ رضي الله عنه لَا يَرْضَى بِذَلِكَ حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ فَوَافَقَهُمْ عَلَيْهِ فَاخْتِيرَ مِنْ جَانِبِ مُعَاوِيَةَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَكَانَ دَاهِيًا وَمِنْ جَانِبِ عَلِيٍّ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَكَانَ مِنْ شُيُوخِ الصَّحَابَةِ فَقَالَ عَمْرٌو لِأَبِي مُوسَى نَعْزِلُهُمَا أَوَّلًا ثُمَّ نَتَّفِقُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَأَجَابَهُ أَبُو مُوسَى إلَيْهِ ثُمَّ قَالَ لِأَبِي مُوسَى أَنْتَ أَكْبَرُ سِنًّا مِنِّي فَاعْزِلْ
فَكَانَ بَاطِلًا كَالْأَوَّلِ إلَّا أَنَّهُ مُتَأَوَّلٌ بِالْقِرَانِ فَكَانَ دُونَ الْأَوَّلِ وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِمَّنْ يَنْحَلُ الْإِسْلَامَ لَزِمَنَا مُنَاظَرَتُهُ وَإِلْزَامُهُ فَلَمْ نَعْمَلْ بِتَأْوِيلِهِ الْفَاسِدِ وَقُلْنَا فِي الْبَاغِي إذَا أَتْلَفَ مَالَ الْعَادِلِ أَوْ نَفْسَهُ وَلَا مَنَعَةَ لَهُ يَضْمَنُ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَحْكَامِ تَلْزَمُهُ
ــ
[كشف الأسرار]
عَلِيًّا أَوَّلًا عَنْ الْإِمَامَةِ فَصَعِدَ أَبُو مُوسَى الْمِنْبَرَ وَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَدَعَا لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَذَكَرَ الْفِتْنَةَ ثُمَّ أَخْرَجَ خَاتَمَهُ مِنْ أُصْبُعِهِ.
وَقَالَ أَخْرَجْت عَلِيًّا عَنْ الْخِلَافَةِ كَمَا أَخْرَجْت خَاتَمِي مِنْ أُصْبُعِي وَنَزَلَ ثُمَّ صَعِدَ عَمْرٌو الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَدَعَا لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَذَكَرَ الْفِتْنَةَ ثُمَّ أَخَذَ خَاتَمَهُ وَأَدْخُلَهُ فِي أُصْبُعِهِ وَقَالَ أَدْخَلْت مُعَاوِيَةَ فِي الْخِلَافَةِ كَمَا أَدْخَلْت خَاتَمِي هَذَا فِي أُصْبُعِي فَعَرَفَ عَلِيٌّ رضي الله عنه أَنَّهُمْ أَفْسَدُوا عَلَيْهِ الْأَمْرَ فَخَرَجَ عَلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه قَرِيبٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفِ رَجُلٍ مِنْ عَسْكَرِهِ زَاعِمِينَ أَنَّ عَلِيًّا كَفَرَ حِينَ تَرَكَ حُكْمَ اللَّهِ وَأَخَذَ بِحُكْمِ الْحَكَمَيْنِ فَهَؤُلَاءِ هُمْ الْخَوَارِجُ الَّذِينَ تَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ وَزَعَمُوا أَنَّ مَنْ أَذْنَبَ فَقَدْ كَفَرَ.
وَكَانَ هَذَا مِنْهُمْ جَهْلًا بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلدَّلِيلِ الْوَاضِحِ فَإِنَّ إمَامَةَ عَلِيٍّ رضي الله عنه ثَبَتَتْ بِاخْتِيَارِ كِبَارِ الصَّحَابَةِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ كَمَا ثَبَتَتْ إمَامَةُ مَنْ قَبْلَهُ بِهِ وَالرِّضَاءُ بِحُكْمِ الْحَكَمِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ أَمْرٌ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِهِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ فَكَيْفَ يَكُونُ مَعْصِيَةً. وَكَذَا الْمُسْلِمُ لَا يُكَفَّرُ بِالْمَعْصِيَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَقَ اسْمَ الْإِيمَانِ عَلَى مُرْتَكِبِ الذَّنْبِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْآيَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [التحريم: 8] . {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} [النور: 31] وَنَحْوِهَا فَجَهْلُهُمْ بَعْدَ وُضُوحِ الْأَدِلَّةِ لَا يَكُونُ عُذْرًا كَجَهْلِ الْكَافِرِ إلَّا أَنَّهُ أَيْ لَكِنَّ صَاحِبَ الْهَوَى أَوْ الْبَاغِيَ. مُتَأَوِّلٌ بِالْقُرْآنِ أَيْ مُتَمَسِّكٌ بِهِ مُؤَوِّلٌ لَهُ عَلَى وَفْقِ رَأْيِهِ فَإِنَّ نَافِيَ الصِّفَاتِ تَمَسَّكَ بِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ ذَاتَه بِالْوَحْدَانِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ وَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ الشَّرِيكِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ فَلَوْ أَثْبَتْنَا الصِّفَاتِ لَهُ لَكَانَتْ قَدِيمَةً وَلَكَانَتْ أَغْيَارًا لِلذَّاتِ.
، وَإِثْبَاتُ الْأَغْيَارِ فِي الْأَزَلِ مُنَافٍ لِلتَّوْحِيدِ. وَمُجَوِّزُ الْحُدُوثِ فِي الصِّفَاتِ تَعَلَّقَ بِنَحْوِ قَوْله تَعَالَى {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22] . {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210] . {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام: 158] . وَالْبَاغِي احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ} [الأنعام: 57] . {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 14] . {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93] فَكَانَ هَذَا الْجَهْلُ دُونَ الْجَهْلِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا فِي الْآخِرَةِ. وَلَكِنَّهُ أَيْ هَذَا الْجَاهِلُ وَهُوَ الْبَاغِي وَصَاحِبُ الْهَوَى لَمَّا كَانَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ بِالْبَغْيِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ الْإِسْلَامِ وَكَذَلِكَ بِالْهَوَى إذَا لَمْ يَغْلُ فِيهِ. أَوْ مِمَّنْ يَنْتَحِلُ الْإِسْلَامَ يَعْنِي إذَا غَلَا فِي هَوَاهُ حَتَّى كَفَرَ وَلَكِنَّهُ يَنْتَسِبُ إلَى الْإِسْلَامِ مَعَ ذَلِكَ كَغُلَاةِ الرَّوَافِضِ وَالْمُجَسِّمَةِ. لَزِمَنَا مُنَاظَرَتُهُ وَإِلْزَامُهُ قَبُولَ الْحَقِّ بِالدَّلِيلِ فَلَمْ نَعْمَلْ بِتَأْوِيلِهِ الْفَاسِدِ. فَإِذَا اسْتَحَلَّ الْبَاغِي الْأَمْوَالَ أَوْ الدِّمَاءَ بِتَأْوِيلِ أَنَّ مُبَاشَرَةَ الذَّنْبِ كُفْرٌ لَا يُحْكَمُ بِإِبَاحَتِهَا فِي حَقِّهِ بِتَأْوِيلِهِ كَمَا حَكَمْنَا بِإِبَاحَةِ الْخَمْرِ فِي حَقِّ الْكَافِرِ بِدِيَانَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ الْإِسْلَامَ حَقًّا فَأَمْكَنَ مُنَاظَرَتُهُ وَإِلْزَامُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْمُنَاظَرَةِ وَالْإِلْزَامِ مُنْقَطِعَةٌ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِدِيَانَتِهِ فِي حَقِّهِ.
فَلِذَلِكَ قُلْنَا إذَا أَتْلَفَ الْبَاغِي مَالَ الْعَادِلِ أَيْ نَفْسَهُ وَلَا مَنَعَةَ لَهُ يَضْمَنُ كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ غَيْرُهُ لِبَقَاءِ وِلَايَةِ الْإِلْزَامِ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَوُجُوبِ الضَّمَانِ سَائِرُ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَلْزَمُ الْمُسْلِمِينَ تَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ وَوِلَايَةُ الْإِلْزَامِ
فَإِذَا صَارَ لِلْبَاغِي مَنَعَةٌ سَقَطَ عَنْهُ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِتَأْوِيلِهِ الْفَاسِدِ فَلَمْ يُؤْخَذْ بِضَمَانٍ
ــ
[كشف الأسرار]
بَاقِيَةٌ. فَإِذَا صَارَ لِلْبَاغِي مَنَعَةٌ سَقَطَ عَنْهُ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ بِالدَّلِيلِ حِسًّا وَحَقِيقَةً فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِتَأْوِيلِهِ الْفَاسِدِ فَلَمْ يُؤْخَذْ بِضَمَانٍ فِي نَفْسٍ وَلَا مَالٍ بَعْدَ التَّوْبَةِ كَمَا لَمْ يُؤْخَذْ أَهْلُ الْحَرْبِ بِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله يَلْزَمُ الضَّمَانُ وَإِنْ كَانَ لَهُ مَنَعَةٌ؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ مُلْتَزِمٌ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ وَقَدْ أَتْلَفَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ وَلَا عِبْرَةَ لِتَأْوِيلِهِ؛ لِأَنَّهُ مُبْطِلٌ فِي ذَلِكَ وَكَيْفَ يُعْتَبَرُ اعْتِقَادُهُ بَعْدَمَا الْتَزَمَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ لِإِثْبَاتِ أَمْرٍ عَلَى خِلَافِهِ. بِخِلَافِ الْحَرْبِيِّ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ حُكْمَ الْإِسْلَامِ أَصْلًا.
وَلَنَا حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ قَالَ وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا مُتَوَافِرِينَ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ دَمٍ أُرِيقَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ وَكُلَّ مَالٍ أُتْلِفَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ وَكُلَّ فَرْجٍ اُسْتُحِلَّ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ. وَأَنَّ تَبْلِيغَ الْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ قَدْ انْقَطَعَتْ بِمَنْعِهِ قَائِمَةٌ حِسًّا فَلَمْ تَثْبُتْ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّهِمْ كَمَا لَوْ انْقَطَعَتْ بِحَجْرٍ شَرْعِيٍّ بِأَنْ قَبِلَ الْكَافِرُ الذِّمَّةَ؛ لِأَنَّ حُجَجَ الشَّرْعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الثُّبُوتَ وَالسُّقُوطَ لَا تَلْزَمُ إلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ فَإِذَا انْقَطَعَ الْبُلُوغُ عُدِمَتْ الْحُجَّةُ فَكَانَ تَدَيُّنُ كُلِّ قَوْمٍ عَنْ تَأْوِيلٍ بِمَنْزِلَةِ تَدَيُّنِ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ مَزِيَّةٍ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَالِاسْتِحْلَالُ بِحُكْمِ مُخَالَفَةِ الدِّينِ حُكْمٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَمَا جَازَ لَنَا فِي الْبُغَاةِ وَإِنْ كَانُوا مُسْلِمِينَ فَسَاوَى تَدَيُّنُهُمْ تَدَيُّنَنَا حَالَ قِيَامِ الْحَرْبِ وَانْقِطَاعِ وِلَايَةِ الْإِلْزَامِ بِالْمَنَعَةِ الْقَائِمَةِ كَمَا جَعَلَ كَذَلِكَ فِي أَهْلِ الْحَرْبِ وَحَقِّ الْأَنْكِحَةِ. وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِثْمِ فَإِنَّ الْبَاغِيَ يَأْثَمُ وَإِنْ كَانَ لَهُ مَنَعَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَنَعَةَ لَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ الشَّارِعِ وَالْخُرُوجُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى حَرَامٌ أَبَدًا وَالْجَزَاءُ وَاجِبٌ لِلَّهِ تَعَالَى أَبَدًا إلَّا أَنْ يَعْفُوَ فَأَمَّا ضَمَانُ الْعِبَادِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ كَمَا فِي الْخَمْرِ وَإِنَّمَا وَجَبَ شَرْعًا فَلَا يَجِبُ إلَّا بِعِلْمِ الْخِطَابِ وَالتَّأَمُّلِ فِيهِ. وَبِخِلَافِ الْبَاغِي الَّذِي لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ التَّبْلِيغِ وَهُوَ الْمَنَعَةُ لَمْ يَتَحَقَّقُ فَكَانَ جَهْلُهُ بِالْحُجَّةِ بِسَبَبِ تَعَنُّتِهِ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ سَمَاعِ الْحُجَّةِ وَالتَّأَمُّلِ فِيهِ وَلَا عِبْرَةَ لِلتَّعَنُّتِ فَصَارَ الْعَدَمُ بِهِ كَأَنْ لَا عَدَمَ، كَذَا فِي الْأَسْرَارِ.
وَهَذَا إذَا هَلَكَ الْمَالُ فِي يَدِهِ فَإِنْ كَانَ قَائِمًا فِي يَدِهِ وَجَبَ رَدُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ بِالْأَخْذِ كَمَا لَا نَمْلِكُ مَالَ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْفِئَتَيْنِ الْمُقَاتِلَتَيْنِ بِتَأْوِيلِ الدِّينِ فِي الْأَحْكَامِ أَصْلٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهُ قَالَ أُفْتِي فِي أَهْلِ الْبَغْيِ إذَا تَابُوا بِأَنْ يَضْمَنُوا مَا أَتْلَفُوا مِنْ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ وَلَا أُلْزِمُهُمْ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُعْتَقِدِينَ الْإِسْلَامَ وَقَدْ ظَهَرَ لَهُمْ خَطَؤُهُمْ فِي التَّأْوِيلِ إلَّا أَنَّ وِلَايَةَ الْإِلْزَامِ كَانَتْ مُنْقَطِعَةً لِلْمَنَعَةِ فَلَا يُجْبَرُونَ عَلَى أَدَاءِ الضَّمَانِ فِي الْحُكْمِ وَلَكِنْ نُفْتِي بِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ وَلَا نُفْتِي أَهْلَ الْعَدْلِ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُمْ مُحِقُّونَ فِي قِتَالِهِمْ وَقَتْلِهِمْ مُمْتَثِلُونَ لِلْأَمْرِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. وَحَاصِلُ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ الْمُغَيِّرَ لِلْحُكْمِ اجْتِمَاعُ التَّأْوِيلِ وَالْمَنَعَةِ فَإِذَا تَجَرَّدَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ لَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ فِي حَقِّ ضَمَانِ الْمُصَابِ حَتَّى لَوْ أَنَّ قَوْمًا غَيْرَ مُتَأَوِّلِينَ غَلَبُوا عَلَى مَدِينَةٍ فَقَتَلُوا الْأَنْفُسَ وَاسْتَهْلَكُوا الْأَمْوَالَ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْعَدْلِ أَخَذُوا بِجَمِيعِ ذَلِكَ لِتَجَرُّدِ الْمَنَعَةِ عَنْ التَّأْوِيلِ.
قَوْلُهُ (وَوَجَبَتْ الْمُجَاهَدَةُ لِمُحَارَبَتِهِمْ) أَيْ لِأَجْلِ مُحَارَبَتِهِمْ يَعْنِي إنَّمَا وَجَبَتْ مُقَاتَلَتُهُمْ بِطَرِيقِ الدَّفْعِ لَا أَنْ تَجِبَ ابْتِدَاءً كَمَا تَجِبُ مُقَاتَلَةُ الْكُفَّارِ فَإِنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه قَالَ لِلْخَوَارِجِ فِي خُطْبَتِهِ وَلَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تُقَاتِلُونَا يَعْنِي
وَوَجَبَتْ الْمُجَاهَدَةُ لِمُحَارَبَتِهِمْ وَوَجَبَ قَتْلُ أَسْرَاهُمْ وَالتَّذْفِيفُ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَلَمْ نَضْمَنْ نَحْنُ أَمْوَالَهُمْ وَدِمَاءَهُمْ وَلَمْ نُحْرَمْ عَنْ الْمِيرَاثِ بِقَتْلِهِمْ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ جَامِعٌ وَالْقَتْلُ حَقٌّ وَهُمْ لَمْ يُحْرَمُوا أَيْضًا إنْ قُتِلُوا أَيْضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ مِنْهُمْ فِي حُكْمِ الدُّنْيَا بِشَرْطِ الْمَنَعَةِ فِي حُكْمِ الْجِهَادِ بِنَاءً عَلَى دِيَانَتِهِمْ وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا فِي حَقِيقَةٍ
ــ
[كشف الأسرار]
حَتَّى تَعْزِمُوا عَلَى الْقِتَالِ بِالتَّجَمُّعِ وَالتَّحَيُّزِ عَنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فَدَلَّ أَنَّهُمْ مَا لَمْ يَعْزِمُوا عَلَى الْخُرُوجِ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُمْ بِالْقَتْلِ وَالْحَبْسِ فَإِذَا تَجَمَّعُوا وَعَزَمُوا عَلَى الْخُرُوجِ وَجَبَ عَلَى كُلِّ مَنْ يَقْوَى عَلَى الْقِتَالِ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ مَعَ إمَامِ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَلِأَنَّهُمْ قَصَدُوا أَذَى الْمُسْلِمِينَ وَتَهْيِيجَ الْفِتْنَةِ، وَإِمَاطَةُ الْأَذَى وَتَسْكِينُ الْفِتْنَةِ مِنْ أَبْوَابِ الدِّينِ.
وَخُرُوجُهُمْ مَعْصِيَةٌ فَفِي الْقِيَامِ بِقِتَالِهِمْ نَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ وَهُوَ فَرْضٌ. وَالْإِمَامُ فِيهِ عَلِيٌّ رضي الله عنه فَإِنَّهُ قَامَ بِالْقِتَالِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ أُمِرْت بِقِتَالِ الْمَارِقِينَ وَالنَّاكِثِينَ وَالْقَاسِطِينَ. وَوَجَبَ قَتْلُ أُسَرَائِهِمْ وَالتَّذْفِيفِ عَلَى جَرِيحِهِمْ ذَكَرَ هَاهُنَا لَفْظَ الْوُجُوبِ، وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ بِلَفْظِهِ لَا بَأْسَ فَقِيلَ لَا بَأْسَ بِقَتْلِ أَسِيرِهِمْ إذَا كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ؛ لِأَنَّ شَرَّهُ لَمْ يَنْدَفِعْ وَلَكِنَّهُ مَقْهُورٌ لَوْ تَخَلَّصَ لَتَحَيَّزَ إلَى فِئَتِهِ فَإِذَا رَأَى الْإِمَامُ مَصْلَحَةً فِي قَتْلِهِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْتُلَهُ. وَإِذَا لَمْ يَبْقَ لَهُمْ فِئَةٌ لَا يُقْتَلُ؛ لِأَنَّ إبَاحَةَ الْقَتْلِ لِدَفْعِ الْبَغْيِ وَقَدْ انْدَفَعَ وَكَانَ عَلِيٌّ رضي الله عنه يُحَلِّفُ مَنْ بَاشَرَهُ مِنْهُمْ أَنْ لَا يَخْرُجَ عَلَيْهِ ثُمَّ يُخَلِّي سَبِيلَهُ. وَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُجْهِزَ عَلَى جَرِيحِهِمْ إذَا كَانَتْ فِئَتُهُمْ بَاقِيَةً؛ لِأَنَّهُ إذَا بَرِئَ عَادَ إلَى الْفِتْنَةِ وَالشَّرِّ بِقُوَّةِ تِلْكَ الْفِئَةِ. وَلِأَنَّ فِي قَتْلِ الْأَسِيرِ وَالْإِجْهَازِ كَسْرَ شَوْكَةِ أَصْحَابِهِ فَإِذَا بَقِيَتْ لَهُمْ فِئَةٌ يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ تَبْقَ لَهُمْ فِئَةٌ وَالتَّذْفِيفُ الْإِسْرَاعُ فِي الْقَتْلِ وَالْمُرَادُ مِنْ التَّذْفِيفِ هَاهُنَا إتْمَامُ الْقَتْلِ وَلَمْ نَضْمَنْ نَحْنُ أَمْوَالَهُمْ بِالْإِتْلَافِ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَدِمَاءَهُمْ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُمْ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُوجِبُ ضَمَانًا. وَلَمْ نُحَرِّمْ عَنْ الْمِيرَاثِ حَتَّى لَوْ قَتَلَ الْعَادِلُ فِي الْحَرْبِ مُوَرِّثَهُ الْبَاغِيَ وَرِثَهُ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ جَامِعٌ بَيْنَ الْوَارِثِ وَالْمُوَرِّثِ فِي الدِّينِ فَلَمْ يَثْبُتْ اخْتِلَافُ الدِّينُ الَّذِي هُوَ مَانِعٌ مِنْ الْإِرْثِ بِاخْتِلَافِ دِيَانَتِهِمَا وَالْقَتْلُ بِحَقٍّ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْحِرْمَانِ كَالْقَتْلِ رَجْمًا أَوْ قِصَاصًا؛ لِأَنَّ حِرْمَانَ الْمِيرَاثِ عُقُوبَةٌ شُرِعَتْ جَزَاءً عَلَى قَتْلٍ مَحْظُورٍ فَالْقَتْلُ الْمَأْمُورُ بِهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لَهُ.
وَهُمْ أَيْ أَهْلُ الْبَغْيِ لَمْ يُحْرَمُوا عَنْ الْمِيرَاثِ حَتَّى لَوْ قَتَلَ الْبَاغِي أَخَاهُ الْعَادِلَ وَقَالَ كُنْت عَلَى الْحَقِّ وَأَنَا الْآنَ عَلَى الْحَقِّ وَرِثَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَإِنْ قَالَ كُنْت عَلَى بَاطِلٍ لَمْ يَرِثْهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله لَا يَرِثُهُ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ قَتْلٌ بِغَيْرِ حَقٍّ فَيُحْرَمُ بِهِ عَنْ الْمِيرَاثِ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ ظُلْمًا مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ وَهَذَا؛ لِأَنَّ اعْتِقَادَهُ وَتَأْوِيلَهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى مُوَرِّثِهِ الْعَادِلِ وَلَا عَلَى سَائِرِ وَرَثَتِهِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ خَاصَّةً. يُوَضِّحُهُ أَنَّ تَأْوِيلَ أَهْلِ الْبَغْيِ عِنْدَ انْضِمَامِ الْمَنَعَةِ إلَيْهِ يُعْتَبَرُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ أَهْلِ الْحَرْبِ وَتَأْثِيرُ ذَلِكَ فِي إسْقَاطِ ضَمَانِ النَّفْسِ وَالْمَالِ لَا فِي حُكْمِ التَّوْرِيثِ فَكَذَلِكَ تَأْوِيلُ أَهْلِ الْبَغْيِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْمُقَاتَلَةَ بَيْنَ الْفِئَتَيْنِ بِتَأْوِيلِ الدِّينِ فَتَسْتَوِيَانِ فِي الْأَحْكَامِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْإِمَامِ كَمَا فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِلْزَامِ لَمَّا انْقَطَعَتْ بِالْمَنَعَةِ كَانَ الْقَتْلُ مِنْهُمْ فِي حُكْمِ الدُّنْيَا فِي حُكْمِ الْجِهَادِ بِنَاءً عَلَى دِيَانَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَخُصُومَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ فَكَانَتْ مُقَاتَلَتُهُمْ الْخُصُومَ جِهَادًا فِي زَعْمِهِمْ وَأَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيًا عَنْ الْمُنْكَرِ وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا فِي الْحَقِيقَةِ.
وَقَوْلُهُ اعْتِقَادُهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى
وَوَجَبَ حَبْسُ أَمْوَالِهِمْ زَجْرًا لَهُمْ وَلَمْ نَمْلِكْ أَمْوَالَهُمْ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الدَّارِ وَاحِدَةٌ وَهِيَ بِحُكْمِ الدِّيَانَةِ مُخْتَلِفَةٌ فَثَبَتَتْ الْعِصْمَةُ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ الْإِسْلَامُ دُونَ وَجْهٍ فَلَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ بِالشَّكِّ وَلَمْ يَجِبْ الْمِلْكُ بِالشُّبْهَةِ بِخِلَافِ أَهْلِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ الدَّارَ مُخْتَلِفَةٌ وَالْمَنَعَةُ مُتَبَايِنَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَبَطَلَتْ الْعِصْمَةُ لَنَا فِي حَقِّهِمْ وَلَهُمْ فِي حَقِّنَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَكَذَلِكَ جَهِلَ مِنْ خَالَفَ فِي اجْتِهَادِهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ مِنْ عُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ وَأَئِمَّةِ الْفِقْهِ أَوَعَمِلَ بِالْغَرِيبِ مِنْ السُّنَّةِ عَلَى خِلَافِ الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ فَمَرْدُودٌ بَاطِلٌ لَيْسَ بِعُذْرٍ أَصْلًا مِثْلُ الْفَتْوَى بِبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَمِثْلُ الْقَوْلِ بِالْقِصَاصِ فِي الْقَسَامَةِ وَمِثْلُ اسْتِبَاحَةِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا وَالْقَضَاءِ بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّا أُمِرْنَا بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ وَعَلَى هَذَا يُبْتَنَى مَا يَنْفُذُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي وَمَا لَا يَنْفُذُ
ــ
[كشف الأسرار]
مُوَرِّثِهِ الْعَادِلِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ اعْتِقَادَهُ كَمَا لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْعَادِلِ فِي حُكْمِ التَّوْرِيثِ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِي حُكْمِ سُقُوطِ حَقِّهِ عَنْ الضَّمَانِ وَلَكِنْ لَمَّا انْقَطَعَتْ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ بِانْضِمَامِ الْمَنَعَةِ إلَى التَّأْوِيلِ جُعِلَ الْفَاسِدُ مِنْ التَّأْوِيلِ كَالصَّحِيحِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ فَكَذَا فِي حَقِّ التَّوْرِيثِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ.
قَوْلُهُ (وَوَجَبَ حَبْسُ الْأَمْوَالِ) أَيْ أَمْوَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ زَجْرًا لَهُمْ عَنْ الْبَغْيِ وَعُقُوبَةً كَمَا وَجَبَ قَتْلُ نُفُوسِهِمْ. فَإِذَا تَفَرَّقَ جَمْعُهُمْ وَانْكَسَرَتْ شَوْكَتُهُمْ تُرَدُّ عَلَيْهِمْ أَمْوَالُهُمْ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُتَمَلَّكْ لِبَقَاءِ الْعِصْمَةِ وَالْإِحْرَازِ فِيهَا. وَلِأَنَّ الْمِلْكَ بِطَرِيقِ الِاسْتِيلَاءِ لَا يَثْبُتُ مَا لَمْ يَتِمَّ بِالْإِحْرَازِ بِدَارٍ تُخَالِفُ دَارَ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ دَارَ الْفِئَتَيْنِ وَاحِدَةٌ. وَقِيلَ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه يَوْمَ الْجَمَلِ أَلَا تَقْسِمُ بَيْنَنَا مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْنَا قَالَ فَمَنْ يَأْخُذُ مِنْكُمْ عَائِشَةُ وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ اسْتِبْعَادًا لِكَلَامِهِمْ وَإِظْهَارًا لِخَطَئِهِمْ فِيمَا طَلَبُوا وَقَدْ جَمَعَ مَا أَصَابَ مِنْ عَسْكَرِ أَهْلِ النَّهْرَوَانِ فِي رَحْبَةِ الْكُوفَةِ فَمَنْ كَانَ يَعْرِفُ شَيْئًا أَخَذَهُ. وَهِيَ بِحُكْمِ الدِّيَانَةِ مُخْتَلِفَةٌ حَيْثُ اعْتَقَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ أَنَّ الْفَرِيقَ الْآخَرَ عَلَى الْبَاطِلِ وَأَنَّ دِمَاءَهُمْ مُبَاحَةٌ وَقَدْ غَلَبُوا عَلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَجَعَلُوهَا دَارَ الْحَرْبِ حَيْثُ لَزِمَنَا مُحَارَبَتُهُمْ.
قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَمِثْلُ جَهْلِ الْبَاغِي وَصَاحِبِ الْهَوَى جَهْلُ مَنْ خَالَفَ فِي اجْتِهَادِهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ. الْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ مِثْلُ الْفَتْوَى بِبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ. كَانَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيِّ وَدَاوُد الْأَصْبَهَانِيُّ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ يَقُولُونَ بِجَوَازِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ مُتَمَسِّكِينَ فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ «جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ كُنَّا نَبِيعُ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» .
وَبِأَنَّ الْمَالِيَّةَ وَالْمَحَلِّيَّةَ لِلْبَيْعِ قَبْلَ الْوِلَادَةِ مَعْلُومَةٌ فِيهَا بِيَقِينٍ فَلَا تَرْتَفِعُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ بِالشَّكِّ. وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا لِدَلَالَةِ الْآثَارِ الْمَشْهُورَةِ عَلَيْهِ مِثْلُ «قَوْلِهِ عليه السلام لِمَارِيَةَ أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» .
وَقَوْلُهُ عليه السلام «أَيُّمَا أَمَةٍ وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا فَهِيَ مُعْتَقَةٌ عَنْ دُبُرٍ مِنْهُ» رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما. وَمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رحمه الله أَنَّهُ قَالَ «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ مِنْ غَيْرِ الثُّلُثِ وَأَنْ لَا يُبَعْنَ فِي دَيْنٍ» . وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يُنَادِي عَلَى الْمِنْبَرِ إلَّا أَنَّ بَيْعَ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ حَرَامٌ وَلَا رِقَّ عَلَيْهَا بَعْدَ مَوْتِ مَوْلَاهَا وَقَدْ تَلَقَّاهَا الْقَرْنُ الثَّانِي بِالْقَبُولِ وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِهَا فَكَانَ الْقَوْلُ بِالْجَوَازِ مُخَالِفًا لِلْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ وَالْإِجْمَاعِ فَكَانَ مَرْدُودًا. وَمِثْلُ الْقَوْلِ بِالْقِصَاصِ فِي الْقَسَامَةِ. إذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ وَلَا يُدْرَى قَاتِلُهُ تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ وَالدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ عِنْدَنَا وَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ بِحَالٍ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إنْ كَانَ بَيْنَ الْقَتِيلِ وَأَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ أَوْ لَوَثٌ وَهُوَ مَا يَغْلِبُ بِهِ عَلَى ظَنِّ الْقَاضِي وَالسَّامِعِ صِدْقُ الْمُدَّعِي يُؤْمَرُ الْوَلِيُّ بِأَنْ يُعَيِّنَ الْقَاتِلَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَحْلِفَ الْوَلِيُّ خَمْسِينَ يَمِينًا أَنَّهُ قَتَلَهُ عَمْدًا فَإِذَا حَلَفَ يُقْتَصُّ لَهُ مِنْ الْقَاتِلِ.
مُتَمَسِّكِينَ فِي ذَلِكَ بِظَاهِرِ «قَوْلِهِ عليه السلام لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ الَّذِي وُجِدَ فِي خَيْبَرَ أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ» الْحَدِيثُ أَيْ دَمَ قَاتِلِ صَاحِبِكُمْ. وَحُجَّةُ مَنْ أَبَى وُجُوبَ الْقِصَاصِ بِالْقَسَامَةِ الْأَحَادِيثُ الْمَشْهُورَةُ