الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التَّأْخِيرُ لِطَلَبِ الرِّفْقِ بَيْنَ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَكَانَ ذَلِكَ عُبُودِيَّةً لَا رُبُوبِيَّةً وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَإِنَّمَا يَثْبُتُ هَذَا الْحُكْمُ بِالسَّفَرِ إذَا اتَّصَلَ بِسَبَبِ الْوُجُوبِ حَتَّى ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي أَصْلِهِ وَهُوَ الْأَدَاءُ فَظَهَرَ فِي قَضَائِهِ إذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ فَلَا وَلَمَّا كَانَ السَّفَرُ مِنْ الْأُمُورِ الْمُخْتَارَةِ وَلَمْ يَكُنْ مُوجِبًا ضَرُورَةً لَازِمَةً قِيلَ لَهُ إنَّ الْمُسَافِرَ إذَا نَوَى الصِّيَامَ فِي رَمَضَانَ وَشَرَعَ فِيهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْفِطْرُ بِخِلَافِ الْمَرِيضِ إذَا تَكَلَّفَ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُفْطِرَ حَلَّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ ضَرُورِيٌّ لِلْمَشَقَّةِ وَهَذَا مَوْضُوعٌ لَهَا وَلَكِنَّهُ إذَا أَفْطَرَ كَانَ قِيَامُ السَّفَرِ الْمُبِيحِ عُذْرًا وَشُبْهَةً فِي الْكَفَّارَةِ وَإِذَا أَصْبَحَ مُقِيمًا وَعَزَمَ عَلَى الصَّوْمِ ثُمَّ سَافَرَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْفِطْرُ بِخِلَافِ مَا إذَا مَرِضَ وَإِذَا أَفْطَرَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَنَا وَإِذَا أَفْطَرَ ثُمَّ سَافَرَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ بِخِلَافِ الْمَرَضِ لِمَا قُلْنَا إنَّ السَّفَرَ مُكْتَسَبٌ وَهَذَا سَمَاوِيٌّ وَأَحْكَامُ السَّفَرِ تَثْبُتُ بِنَفْسِ الْخُرُوجِ بِالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام وَإِنْ لَمْ يُتِمَّ السَّفَرُ عِلَّةً بَعْدُ تَحْقِيقًا لِلرُّخْصَةِ.
ــ
[كشف الأسرار]
دُونَ صِفَةِ الْقُرْبَةِ فِي الْمَشْرُوعِ مَقْصُودَةٌ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ لِلتَّقَرُّبِ، وَصِفَةُ الْحِلِّ فِي السَّبَبِ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِنَفْسِهِ بَلْ هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى الْمَقْصُودِ وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى صِفَةِ الْحِلِّ لِيَصْلُحَ سَبَبًا لِلْمَشْرُوعِ، وَمُنَافَاةُ النَّهْيِ الْقُرْبَةُ أَقْوَى مِنْ مُنَافَاتِهِ الْحِلَّ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ لَا تَثْبُتُ بِدُونِ الطَّلَبِ وَالنَّدْبِ وَالْحِلُّ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْإِبَاحَةِ فَكَانَ النَّهْيُ الَّذِي هُوَ لِلْمَنْعِ أَقْوَى مُنَافَاةً لِلطَّلَبِ مِنْ مُنَافَاتِهِ لِلْحِلِّ ثُمَّ النَّهْيُ الَّذِي وَرَدَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا يُوجِبَ زَوَالَ صِفَةِ الْقُرْبَةِ عَنْ الْمَشْرُوعِ وَلَا يَمْنَعُ تَحَقُّقَهُ كَالنَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ فَلَأَنْ لَا يُوجِبَ زَوَالَ صِفَةِ الْحِلِّ عَنْ السَّبَبِ وَلَا يَمْنَعَ تَحَقُّقَهُ كَانَ أَوْلَى أَوْ يُقَالُ زَوَالُ صِفَةِ الْقُرْبَةِ عَنْ الْمَشْرُوعِ بِمِثْلِ هَذَا النَّهْيِ لَا يَمْنَعُ تَحَقُّقَ الْمَشْرُوعِ كَالطَّلَاقِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ فَلَأَنْ لَا يَمْنَعَ زَوَالَ صِفَةِ الْحِلِّ عَنْ السَّبَبِ بِهَذَا النَّهْيِ عَنْ تَحَقُّقِ السَّبَبِ كَانَ أَوْلَى كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ.
وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ وَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {غَيْرَ بَاغٍ} [البقرة: 173] فِي نَفْسِ الْفِعْلِ يَعْنِي تَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْله تَعَالَى {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة: 173] الْبَغْيُ وَالْعَدَاءُ فِي نَفْسِ الْفِعْلِ وَكَذَلِكَ أَيْ الْبَغْيُ وَالْعَدَاءُ فِي نَفْسِ الْفِعْلِ أَنْ يَتَعَدَّى الْمُضْطَرُّ إلَى الْمَيْتَةِ فِي الْأَكْلِ عَمَّا يُمْسِكُ بِهِ مُهْجَتَهُ فَعَلَى هَذَا كَانَ الْبَغْيُ وَالْعَدَاءُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ قَالَ الْإِمَامُ نَجْمُ الدِّينِ رحمه الله فِي التَّيْسِيرِ قِيلَ هُمَا وَاحِدٌ وَمَعْنَاهُمَا مُجَاوَزَةُ قَدْرِ الْحَاجَةِ وَالتَّكْرَارُ لِلتَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] وَقِيلَ {غَيْرَ بَاغٍ} [البقرة: 173] أَيْ طَالِبٍ لِلْمُحَرَّمِ وَهُوَ يَجِدُ غَيْرَهُ وَلَا عَادٍ أَيْ مُجَاوِزٍ قَدْرَ مَا يَقَعُ بِهِ دَفْعُ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ.
وَقِيلَ هُمَا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ {فَمَنِ اضْطُرَّ} [البقرة: 173] أَيْ الْمُضْطَرُّ هُوَ الَّذِي يَكُونُ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فِي الْأَكْلِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء: 25] فَإِنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلْمُحْصَنَاتِ وَقِيلَ {غَيْرَ بَاغٍ} [البقرة: 173] أَيْ مُتَلَذِّذٍ وَلَا عَادٍ أَيْ مُتَزَوِّدٍ وَفِي الْكَشَّافِ غَيْرَ بَاغٍ عَلَى مُضْطَرٍّ آخَرَ بِالِاسْتِيثَارِ عَلَيْهِ وَلَا عَادٍ سَدًّا لِجَوْعَةٍ فَتَبَيَّنَ بِهَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْبَغْيِ وَالْعَدْوِ عَنْ نَفْسِ الْفِعْلِ وَهُوَ الْأَكْلُ وَأَنَّ التَّقْدِيرَ فَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى الْمُحَرَّمِ فَأَكَلَهُ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فِي أَكْلِهِ وَصِيغَةُ الْكَلَامِ أَدَلُّ عَلَى هَذَا أَيْ عَلَى رُجُوعِ الْبَغْيِ وَالْعَدْوِ إلَى الْأَكْلِ مِمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ رُجُوعِهِمَا إلَى الِاضْطِرَارِ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ سِيقَتْ لِبَيَانِ حُرْمَةِ الْأَكْلِ وَحِلِّهِ فَكَانَ صَرْفُ الْبَغْيِ وَالْعَدْوِ إلَى الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ مَقْصُودُ الْكَلَامِ أَوْلَى مِنْ صَرْفِهِ إلَى مَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فِيهِ وَذَكَرَ فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّهُ لَا فَتْوَى أَضْيَعُ مِنْ فَتْوَاهُ هَذِهِ؛ لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ الْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ لَا يَأْخُذُ بِفُتْيَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْتَنِعْ عَنْ الْبَغْيِ أَوْ قَطْعِ الطَّرِيقِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ كَثِيرُ ضَرَرٍ فِي الِامْتِنَاعِ عَنْهُ فَكَيْفَ يَمْتَنِعُ عَنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَفِي ذَلِكَ هَلَاكُهُ ثُمَّ هَذَا مُنَاقَضَةٌ مِنْهُ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْبَاغِي الْمُقِيمِ يَمْسَحُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَإِذَا سَافَرَ هَذَا الْبَاغِي لَمْ يُرَخَّصْ لَهُ الْمَسْحُ وَالْمَسْحُ كَمَا هُوَ رُخْصَةٌ فِي السَّفَرِ رُخْصَةٌ فِي الْحَضَرِ فَمَا بَالُهُ حَرَّمَ إحْدَى الرُّخْصَتَيْنِ وَأَبَاحَ الْأُخْرَى مَعَ وُجُودِ الظُّلْمِ وَالْبَغْيِ وَلَمْ يُعْتَبَرْ مَا ذُكِرَ مِنْ الْمَعْنَى.
[الْخَطَأُ مِنْ الْعَوَارِض الْمُكْتَسِبَة]
(الْفَصْلُ السَّادِسُ وَهُوَ الْخَطَأُ)
قَالَ الْإِمَامُ اللَّامِشِيُّ الصَّوَابُ مَا أُصِيبَ بِهِ الْمَقْصُودُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ وَالْخَطَأُ ضِدُّ الصَّوَابِ وَالْعُدُولِ عَنْهُ وَقِيلَ الْخَطَأُ فِعْلٌ أَوْ قَوْلٌ يَصْدُرُ عَنْ الْإِنْسَانِ بِغَيْرِ قَصْدِهِ بِسَبَبِ تَرْكِ التَّثَبُّتِ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ أَمْرٍ مَقْصُودٍ سِوَاهُ قَالَ السَّيِّدُ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ رحمه الله الْخَطَأُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ ضِدُّ الصَّوَابِ وَمِنْهُ يُسَمَّى الذَّنْبُ خَطِيئَةً وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء: 31] هُوَ ضِدُّ الصَّوَابِ لَا ضِدُّ الْعَمْدِ وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ ضِدُّ الْعَمْدِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} [النساء: 92] .
وَقَوْلُهُ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» ثُمَّ قَالَ وَالْخَطَأُ أَنْ يَكُونَ عَامِدًا إلَى الْفِعْلِ لَا إلَى الْمَفْعُولِ كَمَنْ رَمَى إلَى إنْسَانٍ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ صَيْدٌ فَهُوَ قَاصِدٌ إلَى الرَّمْيِ لَا إلَى
أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا نَوَى رَفْضَهُ صَارَ مُقِيمًا وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ لَمَّا لَمْ يُتِمَّ عِلَّةً كَانَتْ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ نَقْضًا لِلْعَارِضِ لِإِقَامَةِ ابْتِدَاءِ عِلَّةٍ وَإِذَا سَارَ ثُلُثًا ثُمَّ نَوَى الْمُقَامَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ إقَامَةٍ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ هَذَا ابْتِدَاءُ إيجَابٍ فَلَا يَصِحُّ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ وَإِذَا اتَّصَلَ بِهَذَا السَّفَرِ عِصْيَانٌ مِثْلُ سَفَرِ الْآبِقِ وَقَاطِعُ الطَّرِيقِ كَانَ مِنْ أَسْبَابِ التَّرَخُّصِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ التَّرَخُّصِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة: 173] وَلِأَنَّهُ عَاصٍ فِي هَذَا السَّبَبِ فَلَمْ يَصْلُحْ سَبَبَ رُخْصَةٍ وَجُعِلَ مَعْدُومًا زَجْرًا وَتَنْكِيلًا كَمَا سَبَقَ فِي السُّكْرِ وَقُلْنَا نَحْنُ إنَّ سَبَبَ وُجُوبِ التَّرَخُّصِ مَوْجُودٌ وَهُوَ السَّفَرُ.
وَأَمَّا الْعِصْيَانُ فَلَيْسَ فِيهِ بَلْ فِي أَمْرٍ يَنْفَصِلُ عَنْهُ وَهُوَ التَّمَرُّدُ عَلَى مَنْ يَلْزَمُهُ طَاعَتُهُ وَالْبَغْيُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالتَّعَدِّي عَلَيْهِمْ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ، أَلَا تَرَى أَنَّ ذَلِكَ يَنْفَصِلُ عَنْهُ فَإِنَّ التَّمَرُّدَ عَلَى الْمَوْلَى فِي الْمِصْرِ بِغَيْرِ سَفَرٍ مَعْصِيَةٌ، وَكَذَلِكَ الْبَغْيُ وَقَطْعُ الطَّرِيقِ صَارَ جِنَايَةً لِوُقُوعِهِ عَلَى مَحَلِّ الْعِصْمَةِ مِنْ النَّفْسِ وَالْمَالِ
ــ
[كشف الأسرار]
الْمَرْمِيِّ إلَيْهِ وَهُوَ الْإِنْسَانُ هَذَا النَّوْعُ جُعِلَ عُذْرًا. اُخْتُلِفَ فِي جَوَازِ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى الْخَطَأِ فَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ لَا يَجُوزُ الْمُؤَاخَذَةُ عَلَيْهِ فِي الْحِكْمَةِ؛ لِأَنَّ الْخَاطِئَ غَيْرُ قَاصِدٍ الْخَطَأَ، وَالْجِنَايَةُ لَا تَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْقَصْدِ وَعِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ تَجُوزُ الْمُؤَاخَذَةُ عَقْلًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِأَنْ نَسْأَلَهُ عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْخَطَأِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ إخْبَارًا عَنْ قَوْلِ الرَّسُولِ أَوْ تَعْلِيمًا لِلْعِبَادِ {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] وَلَوْ كَانَ الْخَطَأُ غَيْرَ جَائِزِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ فِي الْحِكْمَةِ لَكَانَتْ الْمُؤَاخَذَةُ جَوْرًا وَصَارَ الدُّعَاءُ فِي التَّقْدِيرِ رَبَّنَا لَا تَجُرْ عَلَيْنَا بِالْمُؤَاخَذَةِ لَكِنَّ الْمُؤَاخَذَةَ مَعَ جَوَازِهَا فِي الْحِكْمَةِ سَقَطَتْ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا اُسْتُجِيبَ لَهُ فِي دُعَائِهِ فَالشَّيْخُ رحمه الله بِقَوْلِهِ جُعِلَ عُذْرًا أَشَارَ إلَى مَا ذَكَرْنَا يَعْنِي أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ جَائِزَ الْمُؤَاخَذَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ تَقْصِيرٍ جُعِلَ عُذْرًا صَالِحًا لِسُقُوطِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى إذَا حَصَلَ عَنْ اجْتِهَادٍ حَتَّى لَوْ أَخْطَأَ فِي الْقِبْلَةِ بَعْدَمَا اجْتَهَدَ جَازَتْ صَلَاتُهُ وَلَا إثْمَ وَلَوْ أَخْطَأَ فِي الْفَتْوَى بَعْدَمَا اجْتَهَدَ لَا يَأْثَمُ وَيَسْتَحِقُّ أَجْرًا وَاحِدًا وَكَذَا لَوْ رَمَى إلَى إنْسَانٍ عَلَى اجْتِهَادٍ أَنَّهُ صَيْدٌ فَقَتَلَهُ لَا يَأْثَمُ الْقَتْلَ الْعَمْدَ وَإِنْ كَانَ يَأْثَمُ إثْمَ تَرْكِ التَّثَبُّتِ وَلَا يُؤَاخَذُ حَتَّى لَوْ زُفَّتْ إلَيْهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ فَوَطِئَهَا عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ.
وَلَمْ يُجْعَلْ الْخَطَأُ عُذْرًا فِي سُقُوطِ حُقُوقِ الْعِبَادِ حَتَّى لَوْ أَتْلَفَ مَالَ إنْسَانٍ خَطَأً بِأَنْ رَمَى إلَى شَاةٍ أَوْ بَقَرَةٍ عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا صَيْدٌ وَأَكَلَ مَالَ إنْسَانٍ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ مِلْكُهُ يَجِبُ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَالٍ جَزَاءَ فِعْلٍ فَيَعْتَمِدُ عِصْمَةَ الْمَحَلِّ، وَكَوْنُهُ خَاطِئًا مَعْذُورٌ لَا يُنَافِي عِصْمَةَ الْمَحَلِّ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ بَدَلُ الْمَحَلِّ لَا جَزَاءُ الْفِعْلِ أَنَّ جَمَاعَةً لَوْ أَتْلَفُوا مَالَ إنْسَانٍ يَجِبُ عَلَى الْكُلِّ ضَمَانُ وَاحِدٍ كَمَا لَوْ كَانَ الْمُتْلِفُ وَاحِدًا وَلَوْ كَانَ جَزَاءُ الْفِعْلِ لَوَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ ضَمَانٌ كَامِلٌ كَمَا فِي الْقِصَاصِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَوَجَبَتْ بِهِ أَيْ بِسَبَبِ الْخَطَأِ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ وَجَبَتْ ضَمَانٌ لِلْمَحَلِّ فَلَا يَمْتَنِعُ وُجُوبُهَا بِعُذْرِ الْخَطَإِ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ فِي الْحَالِ فِي مَالِ الْقَاتِلِ كَضَمَانِ الْأَمْوَالِ لَكِنَّهَا وَجَبَتْ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ وَالْخَطَأُ فِي نَفْسِهِ عُذْرٌ صَالِحٌ فِي سُقُوطِ بَعْضِ الْحُقُوقِ فَيَصْلُحُ سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ أَيْ فِي الْفِعْلِ وَهُوَ الْأَدَاءُ فِيمَا هُوَ صِلَةٌ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الصِّلَاتِ عَلَى التَّوَسُّعِ وَالتَّخْفِيفِ وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ فِي أَصْلِ الْبَدَلِ فَلِذَلِكَ وَجَبَتْ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ وَوَجَبَتْ عَلَى الْخَاطِئِ الْكَفَّارَةُ وَلَمْ يُجْعَلْ الْخَطَأُ عُذْرًا فِي وُجُوبِهَا؛ لِأَنَّ الْخَاطِئَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ ضَرْبِ تَقْصِيرٍ وَهُوَ تَرْكُ التَّثَبُّتِ وَالِاحْتِيَاطِ فَصَلَحَ الْخَطَأُ سَبَبًا بِالْوُجُوبِ مَا يُشْبِهُ الْعِبَادَةَ وَالْعُقُوبَةَ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ جَزَاءٌ قَاصِرٌ فَيَسْتَدْعِي سَبَبًا مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ وَالْخَطَأِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْفِعْلِ وَهُوَ الرَّمْيُ إلَى الصَّيْدِ مُبَاحٌ وَتَرْكُ التَّثَبُّتِ فِيهِ مَحْظُورٌ فَكَانَ قَاصِرًا فِي مَعْنَى الْجِنَايَةِ فَصَلَحَ سَبَبًا لِلْجَزَاءِ الْقَاصِرِ.
قَوْلُهُ (وَصَحَّ طَلَاقُ الْخَاطِئِ) بِأَنْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ مَثَلًا اسْقِنِي فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِالْكَلَامِ، وَالْكَلَامُ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا صَدَرَ عَنْ قَصْدٍ صَحِيحٍ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَبَّغَاءَ إذَا لُقِّنَ فَهُوَ وَالْآدَمِيُّ سَوَاءٌ فِي صُورَةِ الْكَلَامِ وَكَذَا الْمَجْنُونُ وَالْعَاقِلُ سَوَاءٌ فِي أَصْلِ الْكَلَامِ إلَّا أَنَّهُ فَسَدَ لِعَدَمِ قَصْدِ الصَّحِيحِ وَالْمُخْطِئُ غَيْرُ قَاصِدٍ فَلَا يَصِحُّ طَلَاقُهُ كَطَلَاقِ النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَأَصْحَابُنَا قَالُوا الْقَصْدُ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فَلَا يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهِ حَقِيقَةً بَلْ يَتَعَلَّقُ بِالسَّبَبِ الظَّاهِرِ الدَّالِ عَلَيْهِ وَهُوَ أَهْلِيَّةُ الْقَصْدِ بِالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ نَفْيًا لِلْحَرَجِ كَمَا فِي السَّفَرِ مَعَ الْمَشَقَّةِ فَأَجَابَ الشَّافِعِيُّ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَلَوْ قَامَ الْبُلُوغُ أَيْ الْبُلُوغُ عَنْ عَقْلٍ مَقَامَ اعْتِدَالِ الْعَقْلِ أَيْ مَقَامَ الْعَمَلِ بِاعْتِدَالِ الْعَقْلِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ عَنْ قَصْدٍ يَعْنِي لَوْ كَانَ الْبُلُوغُ عَنْ عَقْلٍ مَقَامَ الْقَصْدِ فِي حَقِّ طَلَاقِ الْخَاطِئِ يَصِحُّ طَلَاقُ النَّائِمِ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَلَقَامَ الْبُلُوغُ يَعْنِي عَنْ عَقْلٍ مَقَامَ الرِّضَا فِيمَا يُعْتَمَدُ الرِّضَا مِنْ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهِمَا كَمَا قَامَ مَقَامَ الْقَصْدِ؛ لِأَنَّ
وَالسَّفَرُ فِعْلٌ يَقَعُ عَلَى مَحَلٍّ آخَرَ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَخْرُجُ غَازِيًا ثُمَّ قَدْ يَسْتَقْبِلُهُ عِيرٌ فَيَبْدُو لَهُ فَيَقْطَعُ عَلَيْهِمْ فَصَارَ النَّهْيُ عَنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ نَهْيًا لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَبِذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُ الْفِعْلِ مَشْرُوعًا فَلَا يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُ الْفِعْلِ سَبَبًا لِلرُّخْصَةِ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْحِلِّ فِي السَّفَرِ دُونَ صِفَةِ الْقُرْبَةِ فِي الْمَشْرُوعِ بِخِلَافِ السُّكْرِ؛ لِأَنَّهُ عِصْيَانٌ بِعَيْنِهِ فَلَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَتَعَلَّقَ الرُّخْصَةُ بِأَثَرِهِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ عز وجل {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة: 173] فِي نَفْسِ الْفِعْلِ أَنْ يَتَعَدَّى الْمُضْطَرُّ عَنْ الَّذِي بِهِ يُمْسِكُ مُهْجَتَهُ، وَصِيغَةُ الْكَلَامِ أَدَلُّ عَلَى هَذَا مِمَّا قَالَ وَأَحْكَامُ السَّفَرِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى.
(الْفَصْلُ السَّادِسُ) وَهُوَ الْخَطَأُ هَذَا النَّوْعُ نَوْعٌ جُعِلَ عُذْرًا صَالِحًا لِسُقُوطِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى إذَا حَصَلَ عَنْ اجْتِهَادٍ وَشُبْهَةٍ فِي الْعُقُوبَةِ حَتَّى قِيلَ إنَّ الْخَاطِئَ لَا يَأْثَمُ وَلَا يُؤَاخَذُ بِحَدٍّ وَلَا قِصَاصٍ؛ لِأَنَّهُ جَزَاءٌ كَامِلٌ مِنْ أَجْزِئَةِ الْأَفْعَالِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَعْذُورِ وَلَمْ يُجْعَلْ عُذْرًا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ حَتَّى وَجَبَ ضَمَانُ الْعُدْوَانِ عَلَى الْخَاطِئِ؛
لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَالٍ لَا جَزَاءُ فِعْلٍ
ــ
[كشف الأسرار]
الرِّضَا أَمْرٌ بَاطِنٌ كَالْقَصْدِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ وَحَيْثُ لَمْ يَقُمْ مَقَامَهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَقِيقَةُ الْقَصْدِ كَحَقِيقَةِ الرِّضَا وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهِ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَيْ عَنْ جَوَابِ الشَّافِعِيِّ لِكَلَامِنَا أَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يَقُومُ مَقَامَ غَيْرِهِ بِشَرْطَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ فِي الْوُقُوفِ عَلَى الْأَصْلِ حَرَجٌ لِخَفَائِهِ فَيُنْقَلُ الْحُكْمُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطَيْنِ إلَى دَلِيلٍ وَيُقَامُ مَقَامَ الْمَدْلُولِ تَيْسِيرًا وَدَفْعًا لِلْحَرَجِ وَأَحَدُ الشَّرْطَيْنِ فِي حَقِّ النَّائِمِ مَفْقُودٌ؛ لِأَنَّهُ لَا حَرَجَ فِي الْوُقُوفِ عَلَى الْعَمَلِ بِأَصْلِ الْعَقْلِ فَإِنَّهُ يُعْرَفُ بِالنَّظَرِ فِيمَا يَأْتِيهِ وَيَذَرُهُ وَنَحْنُ نَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ النَّوْمَ يُنَافِي أَصْلَ الْعَمَلِ بِالْعَقْلِ؛ لِأَنَّ النَّوْمَ مَانِعٌ عَنْ اسْتِعْمَالِ نُورِ الْعَقْلِ فَكَانَتْ أَهْلِيَّةُ الْقَصْدِ مَعْدُومَةً بِيَقِينٍ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ فِي دَرْكِهِ فَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّهِ إقَامَةُ الْبُلُوغِ عَنْ عَقْلٍ مَقَامَ الْقَصْدِ لِانْتِفَاءِ الشَّرْطِ.
وَالرِّضَا عِبَارَةٌ عَنْ امْتِلَاءِ الِاخْتِيَارِيِّ أَيْ بُلُوغِهِ نِهَايَتَهُ بِحَيْثُ يُفْضِي أَثَرُهُ إلَى الظَّاهِرِ مِنْ ظُهُورِ الْبَشَاشَةِ فِي الْوَجْهِ وَنَحْوِهَا كَمَا يُفْضِي أَثَرُ الْغَضَبِ إلَى الظَّاهِرِ مِنْ حَمَالِيقِ الْعَيْنِ وَالْوَجْهِ بِسَبَبِ غَلَيَانِ دَمِ الْقَلْبِ وَلِهَذَا أَيْ وَلِأَنَّ مَعْنَى الرِّضَا مَا ذَكَرْنَا كَانَ الرِّضَا وَالْغَضَبُ الَّذِي هُوَ ضِدُّهُ مِنْ الْمُتَشَابِهِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ عز وجل؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِثُبُوتِهِمَا فِي حَقِّهِ جل جلاله بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ امْتِلَاءِ الِاخْتِيَارِ وَعَنْ غَلَيَانِ دَمِ الْقَلْبِ كَمَا لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِثُبُوتِ الْيَدِ وَالْوَجْهِ فِي حَقِّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى الْجَارِحَةِ وَالْعُضْوِ الَّذِي هُوَ مَوْضُوعُهُمَا فَلَمْ يَجُزْ إقَامَةُ غَيْرِ الرِّضَا وَهُوَ الْبُلُوغُ عَنْ عَقْلٍ مُقَامَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَمْرٍ بَاطِنٍ بَلْ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِذَلِكَ السَّبَبِ الظَّاهِرِ وَهُوَ ظُهُورُ أَثَرِهِ لَا بِأَهْلِيَّةِ الرِّضَا. وَلِهَذَا أَيْ وَلِأَنَّ الْخَطَأَ لَمْ يَصْلُحْ سَبَبًا لِلْكَرَامَةِ قُلْنَا إنَّ مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا لِلصَّوْمِ اسْتَوْجَبَ بَقَاءَ الصَّوْمِ مِنْ غَيْرِ أَدَاءً وَهَذَا كَرَامَةٌ ثَبَتَتْ لَهُ شَرْعًا فَلَمْ يُلْحَقْ بِهِ الْخَاطِئُ وَهُوَ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يُمَضْمِضَ فَسَبَقَ الْمَاءُ حَلْقَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ هَذِهِ الْكَرَامَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى النَّاسِي لِتَمَكُّنِ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّهِ بِخِلَافِ النَّاسِي.
وَإِذَا جَرَى الْبَيْعُ عَلَى لِسَانِ الْمَرْءِ خَطَأً بِأَنْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ سُبْحَانَ اللَّهِ فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ بِعْت هَذَا الْعَيْنَ بِكَذَا وَقَالَ الْآخَرُ قَبِلْت وَصَدَّقَهُ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى الْخَطَإِ خَصْمُهُ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ يَجِبُ أَنْ يَنْعَقِدَ يَعْنِي لَا رِوَايَةَ فِيهِ عَنْ أَصْحَابِنَا وَلَكِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَنْعَقِدَ انْعِقَادَ بَيْعِ الْمُكْرَهِ فَاسِدًا لِوُجُودِ الِاخْتِيَارِ وَضْعًا يَعْنِي جَرَيَانَ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى لِسَانِهِ فِي أَصْلِ وَضْعِهِ اخْتِيَارِيٌّ وَلَيْسَ بِطَبْعِيٍّ كَجَرَيَانِ الْمَاءِ وَطُولِ الْقَامَةِ فَيَنْعَقِدُ الْبَيْعُ لِوُجُودِ أَصْلِ الِاخْتِيَارِ وَيَفْسُدُ لِفَوَاتِ الرِّضَا أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّ الِاخْتِيَارَ مَوْجُودٌ تَقْدِيرًا بِإِقَامَةِ الْبُلُوغِ عَنْ عَقْلٍ مُقَامَ الْقَصْدِ وَلَكِنَّ الرِّضَا فَاتَتْ لِعَدَمِ الْقَصْدِ حَقِيقَةً فَيَنْعَقِدُ وَلَا يَنْفُذُ.
قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْفَصْلُ الْآخَرُ) مِنْ أَقْسَامِ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ فَهُوَ فَصْلُ الْإِكْرَاهِ قِيلَ الْإِكْرَاهُ حَمْلُ الْغَيْرِ عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ وَلَا يُرِيدُ مُبَاشَرَتَهُ لَوْلَا الْمَحَلُّ عَلَيْهِ وَيَدْخُلُ فِي هَذَا التَّعْرِيفِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْكِتَابِ وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ هُوَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ بِغَيْرِهِ فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاؤُهُ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْقِسْمُ الثَّالِثُ الَّذِي ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ مِنْ أَقْسَامِ الْإِكْرَاهِ لِعَدَمِ تَرَتُّبِ أَحْكَامِهِ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ فِي الْإِكْرَاهِ يُعْتَبَرُ مَعْنًى فِي الْمُكْرِهِ وَمَعْنًى فِي الْمُكْرَهِ وَمَعْنًى فِيمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ وَمَعْنًى فِيمَا أُكْرِهَ بِهِ.
فَالْمُعْتَبَرُ فِي الْمُكْرِهِ تَمَكُّنُهُ مِنْ إيقَاعِ مَا هَدَّدَهُ بِهِ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ ذَلِكَ فَإِكْرَاهُهُ هَذَيَانٌ وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْمُكْرَهِ أَنْ يَصِيرَ خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُكْرِهِ فِي إيقَاعِ مَا هَدَّدَهُ بِهِ عَاجِلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مَلْجَأً مَحْمُولًا عَلَيْهِ طَبْعًا إلَّا بِذَلِكَ وَفِيمَا أُكْرِهَ بِهِ أَنْ يَكُونَ مُتْلِفًا أَوْ مُزْمِنًا أَوْ مُتْلِفًا عُضْوًا أَوْ مُوجِبًا عَمَّا يَنْعَدِمُ الرِّضَا بِاعْتِبَارِهِ وَفِيمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْمُكْرَهُ مُمْتَنِعًا مِنْهُ قَبْلَ الْإِكْرَاهِ إمَّا لِحَقِّهِ أَوْ لِحَقِّ إنْسَانٍ آخَرَ أَوْ لِحَقِّ الشَّرْعِ وَبِحَسَبِ اخْتِلَافِ
وَوَجَبَتْ بِهِ الدِّيَةُ لَكِنَّ الْخَطَأَ لَمَّا كَانَ عُذْرًا صَلَحَ سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ بِالْفِعْلِ فِيمَا هُوَ صِلَةٌ لَا يُقَابِلُ مَالًا وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ الْخَاطِئَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ ضَرْبِ تَقْصِيرٍ يَصْلُحُ سَبَبًا لِمَا يُشْبِهُ الْعِبَادَةَ وَالْعُقُوبَةَ؛ لِأَنَّهُ جَزَاءٌ قَاصِرٌ.
وَصَحَّ طَلَاقُهُ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَصِحُّ لِعَدَمِ الِاخْتِيَارِ مِنْهُ وَصَارَ كَالنَّائِمِ وَلَوْ قَامَ الْبُلُوغُ مَقَامَ اعْتِدَالِ الْعَقْلِ لَصَحَّ طَلَاقُ النَّائِمِ وَلَقَامَ الْبُلُوغُ مَقَامَ الرِّضَا أَيْضًا فِيمَا يَعْتَمِدُ الرِّضَا.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يَقُومُ مَقَامَ غَيْرِهِ إذَا صَلَحَ دَلِيلًا وَكَانَ فِي الْوُقُوفِ عَلَى الْأَصْلِ حَرَجٌ فَيَقِلُّ تَيْسِيرًا وَلَيْسَ فِي أَصْلِ الْعَمَلِ بِالْعَقْلِ حَرَجٌ فِي دَرْكِهِ وَلِنَوْمٍ يُنَافِي أَصْلَ الْعَمَلِ بِهِ وَلَا حَرَجَ فِي مَعْرِفَتِهِ فَلَمْ يَقُمْ الْبُلُوغُ مَقَامَهُ وَالرِّضَا عِبَارَةٌ عَنْ امْتِلَاءِ الِاخْتِيَارِ حَتَّى يُفْضِيَ إلَى الظَّاهِرِ وَلِهَذَا كَانَ الرِّضَا وَالْغَضَبُ مِنْ الْمُتَشَابِهِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ عز وجل فَلَمْ يَجُزْ إقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ فَأَمَّا دَوَامُ الْعَمَلِ بِالْعَقْلِ بِلَا سَهْوٍ وَلَا غَفْلَةٍ فَأَمْرٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا بِحَرَجٍ فَأُقِيمَ الْبُلُوغُ مَقَامَهُ عِنْدَ قِيَامِ كَمَالِ الْعَقْلِ وَلَمَّا كَانَ الْخَطَأُ لَا يَخْلُو عَنْ ضَرْبِ
ــ
[كشف الأسرار]
هَذِهِ الْأَحْوَالِ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فَعَلَى هَذِهِ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ الْإِكْرَاهُ حَمْلُ الْغَيْرِ عَلَى أَمْرٍ يَمْتَنِعُ عَنْهُ بِتَخْوِيفٍ بِقَدْرِ الْحَامِلِ عَلَى إيقَاعِهِ وَيَصِيرُ الْغَيْرُ خَائِفًا بِهِ فَأَتَتْ الرِّضَاءُ بِالْمُبَاشَرَةِ فَيَتِمُّ التَّعْرِيفُ بِهَذِهِ الْقُيُودِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ فَوَاتُ الرِّضَا دَاخِلًا فِي الِامْتِنَاعِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُمْتَنِعًا عَنْهُ قَبْلَ الْإِكْرَاهِ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِهِ فَيَكْفِي بِذِكْرِ أَحَدِ الْقَيْدَيْنِ نَوْعٌ بِعَدَمِ الرِّضَا وَيَفْسُدُ الِاخْتِيَارُ، نَحْوُ التَّهْدِيدِ بِمَا يَخَافُ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْأَعْضَاءِ كَحُرْمَةِ النَّفْسِ تَبَعًا لَهَا وَالِاخْتِيَارُ هُوَ الْقَصْدُ إلَى أَمْرٍ مُتَرَدِّدٍ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ دَاخِلٍ فِي قُدْرَةِ الْفَاعِلِ بِتَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ كَذَا قِيلَ.
وَالصَّحِيحُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ فِي قَصْدِهِ مُسْتَبِدًّا وَالْفَاسِدُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ اخْتِيَارُهُ مَبْنِيًّا عَلَى اخْتِيَارِ الْآخَرِ فَإِذَا اُضْطُرَّ إلَى مُبَاشَرَةِ أَمْرِ الْإِكْرَاهِ كَانَ قَصْدُهُ فِي الْمُبَاشَرَةِ دَفْعَ الْإِكْرَاهِ حَقِيقَةً فَيَصِيرُ الِاخْتِيَارُ فَاسِدًا لِابْتِنَائِهِ عَلَى اخْتِيَارِ الْمُكْرَهِ وَإِنْ لَمْ يَنْعَدِمْ أَصْلًا وَنَوْعٌ بِعَدَمِ الرِّضَاءِ وَلَا يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ، نَحْوُ الْإِكْرَاهِ بِالْقَيْدِ أَوْ الْحَبْسِ مُدَّةً مَدِيدَةً أَوْ بِالضَّرْبِ الَّذِي لَا يَخَافُ بِهِ التَّلَفَ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنَّمَا لَمْ يَفْسُدُ بِهِ الِاخْتِيَارُ لِعَدَمِ الِاضْطِرَارِ إلَى مُبَاشَرَةِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى مَا هُدِّدَ بِهِ. وَنَوْعٌ آخَرُ لَا يَعْدَمُ الرِّضَا فَلَا يَفْسُدُ بِهِ الِاخْتِيَارُ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّ الرِّضَا مُسْتَلْزِمٌ لِصِحَّةِ الِاخْتِيَارِ وَهُوَ أَنْ يَهْتَمَّ أَيْ يَقْصِدَ الْمُكْرِهُ بِحَبْسِ أَبِي الْمُكْرَهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ يَغْتَمَّ الْمُكْرَهُ بِسَبَبِ حَبْسِ أَبِيهِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مِنْ حَبْسِ زَوْجَتِهِ وَأُخْتِهِ وَأُمِّهِ وَأَخِيهِ وَكُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ الْمُتَأَبِّدَةَ بِالْمَحْرَمِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْوِلَادِ.
وَكَانَ مَا ذَكَرَ جَوَابَ الْقِيَاسِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَلَوْ قِيلَ لَهُ لَنَحْبِس أَبَاك وَابْنَك فِي السِّجْنِ أَوْ لَتَبِيعَنَّ عَبْدَك هَذَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَفَعَلَ فَفِي الْقِيَاسِ الْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ فَإِنَّهُ لَمْ يُهَدِّدْهُ بِشَيْءٍ فِي نَفْسِهِ وَحَبْسُ أَبِيهِ فِي السِّجْنِ لَا يُلْحِقُ ضَرَرًا بِهِ فَالتَّهْدِيدُ بِهِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ بَيْعِهِ وَإِقْرَارِهِ وَهِبَتِهِ وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ ذَلِكَ إكْرَاهٌ وَلَا يَنْفُذُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ؛ لِأَنَّ حَبْسَ أَبِيهِ يُلْحِقُ بِهِ مِنْ الْحُزْنِ وَالْهَمِّ مَا يُلْحِقُ بِهِ حَبْسُ نَفْسِهِ أَوْ أَكْثَرَ فَإِنَّ الْوَلَدَ إذَا كَانَ بَارًّا يَسْعَى فِي تَخْلِيصِ أَبِيهِ مِنْ السِّجْنِ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ حُبِسَ وَرُبَّمَا يَدْخُلُ السِّجْنَ مُخْتَارًا وَيَجْلِسُ مَكَانَ أَبِيهِ لِيَخْرُجَ أَبُوهُ فَكَمَا أَنَّ التَّهْدِيدَ بِالْحَبْسِ فِي حَقِّهِ بِعَدَمِ تَمَامِ الرِّضَا فَكَذَلِكَ التَّهْدِيدُ بِحَبْسِ أَبِيهِ.
قَوْلُهُ (وَالْإِكْرَاهُ بِجُمْلَتِهِ) أَيْ بِجَمِيعِ أَقْسَامِهِ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ أَيْ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ وَلَا أَهْلِيَّةَ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّهَا ثَابِتَةٌ بِالذِّمَّةِ، وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْإِكْرَاهُ لَا يَحِلُّ بِشَيْءٍ مِنْهَا وَلَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْخِطَابِ عَنْ الْمُكْرَهِ بِحَالٍ سَوَاءٌ كَانَ مَلْجَأً أَوْ لَمْ يَكُنْ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَيْ الْمُكْرَهَ فِي الْإِتْيَانِ بِمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ فَرْضٍ أَيْ بَيْنَ كَوْنِهِ مُبَاشِرَ فَرْضٍ كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ بِمَا يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ فَإِنَّهُ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ الْإِقْدَامُ عَلَى مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ صَبَرَ وَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى قُتِلَ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ لِثُبُوتِ الْإِبَاحَةِ فِي حَقِّهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْله تَعَالَى {إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] وَمِنْ أُكْرِهَ عَلَى مُبَاحٍ يُفْرَضُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ فَكَذَا هَاهُنَا وَحَظْرٍ أَيْ مَحْظُورٍ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا وَقَتْلِ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ وَإِبَاحَةٍ كَمَا فِي إكْرَاهِ الصَّائِمِ عَلَى إفْسَادِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ يُبِيحُ لَهُ الْفِطْرَ وَرُخِّصَتْ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ فَإِنَّهُ تُرَخَّصَ لَهُ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ وَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ الْإِبَاحَةِ فِي التَّحْقِيقِ؛ لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْفَرْضِ أَوْ فِي الرُّخْصَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِهَا أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْفِعْلِ يُبَاحُ لَهُ بِالْإِكْرَاهِ وَلَوْ صَبَرَ حَتَّى قُتِلَ لَا يَأْثَمُ فَهُوَ مَعْنَى الرُّخْصَةِ.
وَإِنْ أَرَادَ بِهَا أَنَّهُ يُبَاحُ وَلَوْ تَرَكَهُ يَأْثَمُ فَهُوَ مَعْنَى الْفَرْضِ فَإِكْرَاهُ الصَّائِمُ عَلَى الْفِطْرِ إنْ كَانَ مُسَافِرًا مِنْ قَبِيلِ الْإِكْرَاهِ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ حَتَّى لَوْ لَمْ يُفْطِرْ حَتَّى قُتِلَ كَانَ آثِمًا وَإِنْ كَانَ مُقِيمًا فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الْإِكْرَاهِ
تَقْصِيرٍ لَمْ يَصْلُحْ سَبَبًا لِلْكَرَامَةِ، أَلَا تَرَاهُ صَالِحًا لِلْجَزَاءِ وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ النَّاسِيَ اسْتَوْجَبَ بَقَاءَ الصَّوْمِ مِنْ غَيْرِ أَدَاءٍ وَجُعِلَ الْمُنَاقِضُ عَدَمًا فِي حَقِّهِ فَلَمْ يُلْحَقْ بِهِ الْخَاطِئُ.
وَإِذَا جَرَى الْبَيْعُ عَلَى لِسَانِ الْمَرْءِ خَطَأً بِلَا قَصْدٍ وَصَدَّقَهُ عَلَيْهِ خَصْمُهُ يَجِبُ أَنْ يَنْعَقِدَ وَيَكُونَ كَبَيْعِ الْمُكْرَهِ لِوُجُودِ الِاخْتِيَارِ وَضْعًا وَلِعَدَمِ الرِّضَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْفَصْلُ الْآخَرُ فَهُوَ فَصْلُ الْإِكْرَاهِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ نَوْعٌ بِعَدَمِ الرِّضَا وَيُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ وَهُوَ الْمُلْجِئُ وَنَوْعٌ بِعَدَمِ الرِّضَا وَلَا يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ وَهُوَ الَّذِي لَا يُلْجِئُ وَنَوْعٌ آخَرُ لَا يَعْدَمُ الرِّضَا وَهُوَ أَنْ يَهْتَمَّ بِحَبْسِ أَبِيهِ أَوْ وَلَدِهِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ.
وَالْإِكْرَاهُ بِجُمْلَتِهِ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةً وَلَا يُوجِبُ وَضْعَ الْخِطَابِ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ مُبْتَلًى وَالِابْتِلَاءُ يُحَقِّقُ الْخِطَابَ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ فَرْضٍ وَحَظْرٍ وَإِبَاحَةٍ وَرُخْصَةٍ وَذَلِكَ آيَةُ الْخِطَابِ فَيَأْثَمُ مَرَّةً وَيُؤْجَرُ أُخْرَى وَلَا يُنَافِي الِاخْتِيَارَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَقَطَ لَبَطَلَ الْإِكْرَاهُ.
أَلَا يُرَى أَنَّهُ حُمِلَ عَلَى الِاخْتِيَارِ وَقَدْ وَافَقَ الْحَامِلُ فَكَيْفَ لَا يَكُونُ مُخْتَارًا وَلِذَلِكَ كَانَ مُخَاطَبًا فِي عَيْنِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَصْلُحُ لِإِبْطَالِ حُكْمِ شَيْءٍ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ جُمْلَةً إلَّا بِدَلِيلِ غَيْرِهِ عَلَى مِثَالِ فِعْلِ الطَّائِعِ وَإِنَّمَا أَثَّرَ الْإِكْرَاهُ إذَا تَكَامَلَ فِي تَبْدِيلِ النِّسْبَةِ وَأَثَرُهُ إذَا قَصَّرَ فِي تَفْوِيتِ الرِّضَا وَأَمَّا فِي الْإِهْدَارِ فَلَا فَهَذَا أَصْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ثُمَّ الْحَاجَةُ إلَى التَّفْصِيلِ وَتَرْتِيبِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَالْجُمْلَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْإِكْرَاهَ الْبَاطِلَ مَتَى جُعِلَ عُذْرًا فِي الشَّرِيعَةِ كَانَ مُبْطِلًا لِلْحُكْمِ
ــ
[كشف الأسرار]
الْكُفْرِ حَتَّى لَوْ صَبَرَ عَلَيْهِ وَقُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا وَلَا يُؤَجَّلُ هُنَا مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِ ثَوَابٌ وَلَا بِتَرْكِهِ عِقَابٌ فَيَثْبُتُ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ لَفْظِ الْإِبَاحَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَ الْإِمَامُ الْبُرْغَرِيُّ مُسْتَدِلًّا عَلَى أَنَّهُ مُخَاطَبٌ أَنَّ أَفْعَالَ الْمُكْرَهِ مُنْقَسِمَةٌ مِنْهَا مَا هُوَ حَرَامٌ عَلَيْهِ كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَمِنْهَا فَرْضٌ عَلَيْهِ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ مِنْهَا مَا هُوَ مُرَخَّصٌ لَهُ فِيهِ كَإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَالْإِفْطَارِ وَإِتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ وَهَذَا عَلَامَةُ كَوْنِ الشَّخْصِ مُخَاطَبًا فَذَكَرَ الْفَرْضَ وَالْحَظْرَ وَالرُّخْصَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْإِبَاحَةَ فَعَرَفْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِقِسْمٍ آخَرَ إلَّا أَنَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَيْنَ الْإِفْطَارِ وَبَيْنَ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ فَرْقًا فِي غَيْرِ حَالِ الْإِكْرَاهِ فَإِنَّ حُرْمَةَ الْإِفْطَارِ قَدْ تَسْقُطُ بِعُذْرِ السَّفَرِ وَالْمَرَضِ وَحُرْمَةِ الْكُفْرِ لَا يَسْقُطُ بِحَالٍ فَلَعَلَّ الشَّيْخَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَذَلِكَ أَيْ تَرَدُّدُ الْمُكْرَهِ بَيْنَ هَذِهِ الْأُمُورِ عَلَامَةٌ لِثُبُوتِ الْخِطَابِ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تَثْبُتُ بِدُونِ الْخِطَابِ وَيَأْثَمُ الْمُكْرَهُ مَرَّةً بِالْإِقْدَامِ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا وَقَتْلِ النَّفْسِ وَيُؤْجَرُ أُخْرَى كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ فَإِنَّ الْإِقْدَامَ لَمَّا صَارَ فَرْضًا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْإِجْرَاءَ كَمَا فِي سَائِرِ الْفُرُوضِ أَوْ يَأْثَمُ بِالِامْتِنَاعِ مَرَّةً كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْفِطْرِ لِلْمُسَافِرِ وَالْإِكْرَاهِ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَإِنَّ الصَّبْرَ عَنْهُمَا إلَى أَنْ قُتِلَ حَرَامٌ وَيُؤْجَرُ أُخْرَى كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ فَإِنَّ الصَّبْرَ عَنْهُ عَزِيمَةٌ وَالْإِثْمُ وَالْأَجْرُ مُتَعَلِّقَانِ بِالْخِطَابِ.
وَلَا يُنَافِي أَيْ الْإِكْرَاهُ الِاخْتِيَارَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ لَوْ سَقَطَ لَتَعَطَّلَ الْإِكْرَاهُ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ فِيمَا لَا اخْتِيَارَ فِيهِ لَا يُتَصَوَّرُ فَإِنَّ الطَّوِيلَ لَا يُكْرَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ قَصِيرًا وَلَا لِقَصِيرٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ طَوِيلًا وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُكْرِهَ حَمَلَهُ عَلَى اخْتِيَارِ الْفِعْلِ وَقَدْ وَافَقَ الْمُكْرَهُ الْحَامِلُ فَيَكُونُ مُخْتَارًا فِي الْفِعْلِ ضَرُورَةً إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُخْتَارًا لَمْ يَكُنْ مُوَافِقًا بَالُهُ فَلَا يَكُونُ مُكْرَهًا. وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِكَوْنِهِ مُخْتَارًا كَانَ مُخَاطَبًا فِي عَيْنِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ كَمَا بَيَّنَّا؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ كَمَا يَعْتَمِدُ الْأَهْلِيَّةَ يَعْتَمِدُ الِاخْتِيَارَ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُ الْقُدْرَةَ وَهِيَ بِدُونِ الِاخْتِيَارِ لَا يَتَحَقَّقُ فَيَثْبُتُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ وَهِيَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّتَهُ وَلَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْخِطَابِ وَلَا يُنَافِي الِاخْتِيَارَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ بِنَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ لِإِبْطَالِ حُكْمِ شَيْءٍ مِنْ الْأَقْوَالِ مِثْلِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْبَيْعِ وَنَحْوِهَا وَالْأَفْعَالِ مِثْلِ الْقَتْلِ وَإِتْلَافِ الْمَالِ وَإِفْسَادِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا فَيَثْبُتُ مُوجِبُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِكَوْنِهَا صَادِرَةً عَنْ أَهْلِيَّةٍ وَاخْتِيَارٍ إلَّا بِدَلِيلِ غَيْرِهِ عَلَى مِثَالِ فِعْلِ الطَّابَعِ الضَّمِيرِ لِلْحُكْمِ أَيْ لَكِنْ يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ بِدَلِيلِ غَيْرِهِ بَعْدَمَا صَحَّ الْفِعْلُ فِي نَفْسِهِ كَمَا يَتَغَيَّرُ فِعْلُ الطَّابَعِ بِدَلِيلٍ يَلْحَقُ بِهِ يُوجِبُ تَغْيِيرَ مُوجِبِهِ فَإِنَّ مُوجِبَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ أَنْتَ حُرٌّ وَهُوَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ يَثْبُتُ عَقِيبَ التَّكَلُّمِ بِهِ إلَّا إذَا لَحِقَ بِهِ مُغَيِّرٌ مِنْ تَعْلِيقٍ أَوْ اسْتِثْنَاءٍ وَكَذَا مُوجِبُ فِعْلِهِ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ إلَّا إذَا تَحَقَّقَ مَانِعٌ بِأَنْ تَحَقَّقَتْ هَذِهِ الْأَفْعَالُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ تَحَقَّقَتْ فِيهَا شُبْهَةٌ فَكَذَا يَثْبُتُ مُوجِبُ أَقْوَالِ الْمُكْرَهِ وَأَفْعَالِهِ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْمُغَيِّرِ لِمَا قُلْنَا إنَّهَا صَادِرَةٌ عَنْ عَقْلٍ، وَالْأَهْلِيَّةُ خِطَابٌ وَاخْتِيَارٌ كَأَفْعَالِ الطَّابَعِ وَأَقْوَالِهِ.
قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا أَثَّرَ الْإِكْرَاهُ) أَيْ الْإِكْرَاهُ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَمَّا لَمْ يُؤَثِّرْ الْإِكْرَاهُ فِي إبْطَالِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ فَأَيْنَ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فَقَالَ لَا أَثَرَ لَهُ إلَّا فِي أَمْرَيْنِ فَأَثَرُهُ إذَا تَكَامَلَ بِأَنْ كَانَ مُلْجِئًا فِي تَبْدِيلِ النِّسْبَةِ إذَا احْتَمَلَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَمْ يَمْنَعْ عَنْهُ مَانِعٌ حَتَّى يَصِيرَ الْفِعْلُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرَهِ وَأَثَرُهُ إذَا قَصَّرَ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مُلْجِئًا كَالْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ أَوْ الْقَيْدِ فِي تَفْوِيتِ الرِّضَا لَا فِي تَبْدِيلِ النِّسْبَةِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْإِكْرَاهُ مُؤَثِّرًا فِي إهْدَارِ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ فَلَا.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ لَا يُجْعَلُ فِعْلُهُ لَغْوًا بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ الْبَهِيمَةِ
عَنْ الْمُكْرَهِ أَصْلًا فِعْلًا كَانَ أَوْ قَوْلًا لِمَا قُلْنَا إنَّ الْإِكْرَاهَ يُبْطِلُ الِاخْتِيَارَ وَصِحَّةُ الْقَوْلِ بِالْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ لِيَكُونَ تَرْجَمَةً عَمَّا فِي الضَّمِيرِ فَتَبْطُلُ عِنْدَ عَدَمِهِ وَالْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ مِثْلُ الْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ عِنْدَهُ.
أَلَا يُرَى أَنَّهُ يَعْدَمُ الرِّضَا وَتَحْقِيقَ الْعِصْمَةِ فِي دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ عِنْدَ عَدَمِ الرِّضَا وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ وَالْأَقَارِيرُ كُلُّهَا وَإِذَا وَقَعَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْفِعْلِ فَإِذَا تَمَّ الْإِكْرَاهُ بَطَلَ حُكْمُ الْفِعْلِ عَنْ الْفَاعِلِ وَتَمَامِهِ بِأَنْ يُجْعَلَ عُذْرًا يُبِيحُ الْفِعْلَ فَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُنْسَبَ إلَى الْمُكْرَهِ نُسِبَ إلَيْهِ وَإِلَّا فَيَبْطُلُ حُكْمُهُ أَصْلًا وَلِهَذَا قَالَ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْمُكْرَهِ وَقَالَ فِي الْأَقْوَالِ أَجْمَعَ أَنَّهَا تَبْطُلُ وَقَالَ فِي إتْلَافِ صَيْدِ الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ وَالْإِفْطَارِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى الْفَاعِلِ وَلَكِنَّ الْجَزَاءَ عَلَى الْمُكْرَهِ وَقَالَ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا أَنَّهُ يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَى الْفَاعِلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحِلَّ بِهِ الْفِعْلَ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْمُكْرَهِ عَلَى الْقَتْلِ أَنَّهُ يُقْتَلُ لِمَا قُلْنَا.
وَأَمَّا الْمُكْرِهُ فَإِنَّمَا يَقْتُلُ بِالتَّسْبِيبِ وَقَالَ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِسْلَامِ أَنَّ الْمُكْرَهَ إذَا كَانَ ذِمِّيًّا لَمْ يَصِحَّ إسْلَامُهُ وَإِنْ كَانَ حَرْبِيًّا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ إكْرَاهِ الذِّمِّيِّ بَاطِلٌ وَإِكْرَاهُ الْحَرْبِيِّ جَائِزٌ فَعُدَّ الِاخْتِيَارُ قَائِمًا وَكَذَلِكَ الْقَاضِي إذَا أَكْرَهَ الْمَدْيُونَ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ فَبَاعَهُ صَحَّ؛ لِأَنَّ هَذَا إكْرَاهُ حَقٍّ وَكَذَلِكَ الْمَوْلَى إذَا أُكْرِهَ فَطَلَّقَ صَحَّ لِمَا قُلْنَا
ــ
[كشف الأسرار]
وَلَكِنْ يُجْعَلُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرَهِ فَلَوْ اُعْتُبِرَ الْإِكْرَاهُ لِإِعْدَامِ الْفِعْلِ فِي جَانِبِ الْمُكْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِيرَ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرَهِ لَكَانَ تَأْثِيرُهُ فِي الْإِلْغَاءِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ هَذَا أَصْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَيْ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ أَثَرَ الْإِكْرَاهِ تَبْدِيلُ النِّسْبَةِ أَوْ تَفْوِيتُ الرِّضَا أَصْلُ جُمْلَةِ أَنْوَاعِ الْإِكْرَاهِ عِنْدَنَا لَا إبْطَالَ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَثَرِ الْإِكْرَاهِ هُوَ الْأَصْلُ فِي جُمْلَةِ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِكْرَاهِ وَالْجُمْلَةُ أَيْ الْأَصْلُ الْجَامِعُ فِي هَذَا الْبَابِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله أَنَّ الْإِكْرَاهَ الْبَاطِلَ وَهُوَ الَّذِي يَحْرُمُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ حَتَّى جُعِلَ عُذْرًا فِي الشَّرْعِيَّةِ بِقَوْلِهِ عليه السلام «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وَبِالْإِجْمَاعِ حَتَّى سَقَطَ الْإِثْمُ عَنْ الْمُكْرَهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ بِلَا خِلَافٍ كَانَ مُبْطِلًا لِلْحُكْمِ عَنْ الْمُكْرَهِ أَصْلًا فِعْلًا كَانَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ أَوْ قَوْلًا لِمَا قُلْنَا يَعْنِي فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ يُبْطِلُ الِاخْتِيَارَ.
أَوْ لِمَا قُلْنَا فِي أَوَّلِ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ يُبْطِلُ الِاخْتِيَارَ أَيْ يُفْسِدُهُ وَصِحَّةُ الْقَوْلِ بِالْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ لِيَكُونَ الْقَوْلُ بِاعْتِبَارِ الْقَصْدِ تَرْجَمَةً عَمَّا فِي الضَّمِيرِ وَدَلِيلًا عَلَيْهِ فَيَبْطُلُ أَيْ الْقَوْلُ عِنْدَ عَدَمِ الْقَصْدِ أَلَا يُرَى أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَصِحُّ مِنْ النَّائِمِ لِعَدَمِ الِاخْتِيَارِ وَلَا مِنْ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ لِعَدَمِ الْقَصْدِ الصَّحِيحِ فَعَرَفْنَا أَنَّ صِحَّةَ الْكَلَامِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ تَرْجَمَةً عَمَّا فِي الْقَلْبِ وَالْإِكْرَاهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُكْرَهَ مُتَكَلِّمٌ لِدَفْعِ الشَّرِّ لَا لِبَيَانِ مَا هُوَ مُرَادُ قَلْبِهِ فَصَارَ فِي الْإِفْسَادِ فَوْقَ الَّذِي لَا قَصْدَ لَهُ وَلَمْ يُرِدْ شَيْئًا آخَرَ وَكَانَ كُلُّ كَلَامِهِ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ لَمَّا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُقِرَّ لَمْ يُرِدْ إظْهَارَ أَمْرٍ قَدْ سَبَقَ بَلْ قَصَدَ دَفْعَ الشَّرِّ عَنْ نَفْسِهِ كَانَ إقْرَارُهُ كَإِقْرَارِ الْمَجْنُونِ فَكَذَلِكَ سَائِرُ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ دَالٌّ عَلَى عَدَمِ قَصْدِ الْقَلْبِ الَّذِي صِحَّةُ الْكَلَامِ تُبْتَنَى عَلَيْهِ، وَالْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ الدَّائِمِ مِثْلُ الْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ عِنْدَهُ فِي إبْطَالِ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ عَنْ الْمُكْرَهِ أَصْلًا، أَلَا يُرَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ بِالْحَبْسِ بِعَدَمِ الرِّضَا بِالِاتِّفَاقِ وَبُطْلَانِ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ عَنْ الْمُكْرَهِ فِي الْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ لِتَحْقِيقِ عِصْمَةِ حُقُوقِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَفُوتَ حُقُوقُهُ بِدُونِ اخْتِيَارِهِ، وَتَحْقِيقُ الْعِصْمَةِ هَاهُنَا فِي دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُكْرَهِ عِنْدَ عَدَمِ الرِّضَا بِزَوَالِ حَقِّهِ فَيَجِبُ إلْحَاقُ الْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ.
قَالَ الشَّيْخُ رحمه الله فِي شَرْحِ كِتَابِ الْإِكْرَاهِ فِي جَانِبِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله الْإِكْرَاهُ بِعَدَمِ الرِّضَاءِ فَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّهُ يُزِيلُ حُقُوقَهُمْ وَأَمْلَاكَهُمْ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُمْ بِهِ أَدَّى إلَى أَنْ لَا تَظْهَرَ فَائِدَةُ حُرْمَةِ الْحُقُوقِ، وَالرِّضَا شَرْطٌ فِي التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ فَيَكُونُ شَرْطًا فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى يَجْمَعُ الْكُلَّ وَهُوَ صِيَانَةُ الْحُقُوقِ الْمُحْتَرَمَةِ فَوَجَبَ إلْحَاقُ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ لِفَوَاتِ الرِّضَا فِيهِ بِالْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ.
وَذَكَرَ الْإِمَامُ مُحْيِي السُّنَّةِ رحمه الله وَحَدُّ الْإِكْرَاهِ أَنْ يُخَوِّفَهُ بِعُقُوبَةٍ تَنَالُ مِنْ بَدَنِهِ عَاجِلًا لَا طَاقَةَ لَهُ بِهَا، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ إنْ فَعَلْت كَذَا وَإِلَّا لَأَقْتُلَنَّكَ أَوْ لَأَقْطَعَنَّ عُضْوًا مِنْك وَلَأَضْرِبَنَّكَ ضَرْبًا مُبَرِّحًا أَوْ لَأُخَلِّدَنَّكَ فِي السِّجْنِ وَكَانَ الْقَائِلُ مِمَّنْ يُمْكِنُهُ تَحْقِيقَ مَا يُخَوِّفُهُ بِهِ فَإِنْ خَوَّفَهُ بِعُقُوبَةٍ آجِلَةٍ بِأَنْ قَالَ لَأَضْرِبَنَّكَ غَدًا أَوْ بِضَرْبٍ غَيْرِ مُبَرِّحٍ بِأَنْ قَالَ لَأَضْرِبَنَّكَ سَوْطًا أَوْ سَوْطَيْنِ أَوْ بِمَا لَا يَنَالُ مِنْ بَدَنِهِ بِأَنْ قَالَ لَأَقْتُلَنَّ وَلَدَك أَوْ زَوْجَتَك فَلَا يَكُونُ إكْرَاهًا. وَالنَّفْيُ عَنْ الْبُلْدَانِ كَانَ فِيهِ تَفْرِيقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ فَهُوَ إكْرَاهٌ كَالتَّخْلِيدِ فِي السِّجْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَجْهَانِ، أَمَّا مَا يَئُولُ إلَى إذْهَابِ الْجَاهِ، مِثْلُ أَنْ تَقُولَ لِلْمُحْتَشِمِ لَأُسَوِّدَنَّ وَجْهَك أَوْ لَأَطُوفَنَّ بِك فِي الْبَلَدِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ أَوْ لَأُتْلِفَنَّ مَالَك فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إكْرَاهًا إذَا كَانَ يُكْرِهُهُ عَلَى قَتْلٍ أَوْ قَطْعٍ وَإِنْ كَانَ يُكْرِهُهُ عَلَى إتْلَافِ مَالٍ أَوْ عَلَى طَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ فَهُوَ إكْرَاهٌ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُصِيبُ بَدَنَهُ بِهِ مَا لَا يُطِيقُهُ هَذَا كُلُّهُ مِنْ التَّهْذِيبِ.
قَوْلُهُ (وَتَمَامُهُ) بِأَنْ يُجْعَلَ عُذْرًا يُبِيحُ الْفِعْلُ شَرْعًا كَالْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ أَوْ الْحَبْسِ الدَّائِمِ عَلَى إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ الْإِفْطَارِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ أَوْ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ فَإِنَّهُ يُبِيحُ الْفِعْلَ عِنْدَهُ وَلَكِنْ لَا يَجِبُ كَلِمَةُ
وَذَلِكَ بَعْدَ الْمُدَّةِ عِنْدَهُ وَقَدْ ذَكَرْنَا نَحْنُ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَعْدَمُ الِاخْتِيَارَ لَكِنَّهُ يَعْدَمُ الرِّضَا فَكَانَ دُونَ الْهَزْلِ وَشَرْطِ الْخِيَارِ وَدُونَ الْخَطَإِ لَكِنَّهُ يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ فَإِذَا عَارَضَهُ اخْتِيَارٌ صَحِيحٌ وَجَبَ تَرْجِيحُ الصَّحِيحِ عَلَى الْفَاسِدِ إنْ أَمْكَنَ فَيُجْعَلُ الِاخْتِيَارُ الْفَاسِدُ مَعْدُومًا فِي مُقَابَلَتِهِ وَإِذَا جُعِلَ مَعْدُومًا صَارَ بِمَنْزِلَةِ عَدِيمِ الِاخْتِيَارِ فَيَصِيرُ آلَةً لِلْمُكْرِهِ فِيمَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَفِيمَا لَا يَحْتَمِلُهُ لَا يَسْتَقِيمُ نِسْبَتُهُ إلَى الْمُكْرَهِ فَلَا يَقَعُ الْمُعَارَضَةُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحُكْمِ فَبَقِيَ مَنْسُوبًا إلَى الِاخْتِيَارِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّهُ صَالِحٌ لِذَلِكَ وَإِنَّمَا كَانَ يَسْقُطُ بِالتَّرْجِيحِ.
أَلَا يُرَى أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الِاخْتِيَارِ صَالِحٌ لِلْخِطَابِ وَصَارَتْ التَّصَرُّفَاتُ كُلُّهَا مُنْقَسِمَةً إلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ الْأَقْوَالُ قِسْمٌ وَاحِدٌ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ فِيهَا لَا يَصْلُحُ آلَةً لِغَيْرِهِ فَاقْتَصَرَتْ عَلَيْهِ وَالْأَفْعَالُ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا مِثْلُ الْأَقْوَالِ.
وَالثَّانِي مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ فِيهِ آلَةً لِغَيْرِهِ وَالْأَقْوَالُ قِسْمَانِ أَيْضًا مَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى الرِّضَا وَمَا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ دُونَ الرِّضَا وَالْإِكْرَاهُ
نَوْعَانِ كَامِلٌ يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ وَيُوجِبُ الْإِلْجَاءَ وَقَاصِرٌ يَعْدَمُ الرِّضَا وَلَا يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ وَالْحُرُمَاتُ أَنْوَاعٌ حُرْمَةٌ لَا تَنْكَشِفُ وَلَا يَدْخُلُهَا رُخْصَةٌ بَلْ هِيَ مُحْكَمَةٌ وَحُرْمَةٌ تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ أَصْلًا وَحُرْمَةٌ لَا تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ لَكِنْ تَحْتَمِلُ الرُّخْصَةَ وَحُرْمَةٌ تَحْتَمِلُ
ــ
[كشف الأسرار]
الرِّدَّةِ بِالْإِكْرَاهِ وَيَجِبُ غَيْرُهَا وَلَا يُبَاحُ الْقَتْلُ وَالزِّنَا بِالْإِكْرَاهِ كَذَا فِي مُلَخَّصِهِمْ وَإِنَّمَا جَعَلَ الْإِبَاحَةَ دَلِيلًا عَلَى تَمَامِ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى تَمَامِ الْعُذْرِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي حَقِّ الْمُضْطَرِّ فَإِذَا ثَبَتَتْ الْإِبَاحَةُ فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ عُرِفَ أَنَّ الِاضْطِرَارَ قَدْ تَحَقَّقَ وَأَنَّ الْإِكْرَاهَ صَارَ مُلْجِئًا فَكَانَ تَامًّا وَلِهَذَا أَيْ وَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَصْلِ لَهُ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ أَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ عَلَى الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّ الْفَاعِلَ يَصْلُحُ آلَةً لَهُ فِي الْإِتْلَافِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُنْسَبَ الْفِعْلُ إلَيْهِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ فِي إتْلَافِ صَيْدِ الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ وَالْإِفْطَارِ بِأَنَّ إكْرَاهَ الْحَلَالِ عَلَى قَتْلِ صَيْدِ الْحَرَمِ أَوْ إكْرَاهَ الْمُحْرِمِ عَلَى قَتْلِ صَيْدٍ أَوْ إكْرَاهَ الصَّائِمِ عَلَى الْإِفْطَارِ فَفَعَلُوا لَا شَيْءَ عَلَى الْفَاعِلِ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَلَكِنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا ضَمَانُ بَهِيمَةٍ مَضْمُونَةٍ بِالْإِتْلَافِ فَأَشْبَهَ ضَمَانَ الشَّاةِ وَيُتَصَوَّرُ قَتْلُ الصَّيْدِ مِنْ الَّذِي أَكْرَهَ بِيَدِ الَّذِي بَاشَرَ فَيُنْسَبُ الْقَتْلُ إلَى الْمُكْرِهِ إذَا تَمَّ الْإِكْرَاهُ وَقَدْ تَمَّ؛ لِأَنَّ الَّذِي بَاشَرَ أُبِيحَ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ وَلَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ فِي صُورَةِ الْإِفْطَارِ؛ لِأَنَّ الْحَظْرَ يَزُولُ بِالْإِكْرَاهِ فَالْتُحِقَ الْإِفْطَارُ بِابْتِلَاعِ الْبُزَاقِ وَالْأَكْلِ نَاسِيًا بِخِلَافِ بِالْمَرَضِ؛ لِأَنَّ الْحَظْرَ وَإِنْ زَالَ فَصَوْمُ الْعِدَّةِ لَزِمَهُ بِالنَّصِّ فَالشَّرْعُ أَقَامَ الْعِدَّةَ فِي حَقِّهِ مَقَامَ الشَّهْرِ لَا أَنَّ صَوْمَ الْعِدَّةِ يَلْزَمُهُ قَضَاءً بِحُكْمِ الْإِفْطَارِ مَعَ زَوَالِ الْحَظْرِ أَلَا يُرَى أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْأَدَاءِ حَتَّى لَوْ مَاتَ فِي بَعْضِ الْعِدَّةِ لَمْ يَلْزَمُهُ قَضَاءً مَا بَقِيَ وَمَا يَجِبُ بِحُكْمِ الْإِفْطَارِ لَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَمَا قَالَ فِي الزِّنَا قَالَ فِي الْمُكْرَهِ عَلَى الْقَتْلِ إنَّ الْمُكْرَهَ يُقْتَلُ لِمَا قُلْنَا إنَّهُ لَمْ يَحِلَّ بِهِ الْفِعْلُ فَلَمْ يَتِمَّ الْإِكْرَاهُ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ الْمُبَاشِرُ آلَةً وَلِهَذَا يَأْثَمُ بِالِاتِّفَاقِ وَلَوْ صَارَ آلَةً لَمَا أَثِمَ.
قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْمُكْرَهُ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ كَمَا اقْتَصَرَ الْفِعْلُ عَلَى الْمُكْرَهِ حَتَّى وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْتَصَّ مِنْ الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُبَاشِرٍ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا لِاقْتِصَارِ الْفِعْلِ عَلَى الْمُكْرَهِ فَقَالَ إنَّمَا يُقْتَلُ الْمُكْرَهُ بِالتَّسْبِيبِ لَا بِالْمُبَاشَرَةِ حَقِيقَةً فَإِنَّ التَّسْبِيبَ إذَا تَعَيَّنَ لِلْقَتْلِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاشَرَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقِصَاصَ شُرِعَ لِلْإِحْيَاءِ بِسَدِّ بَابِ الْقَتْلِ عُدْوَانًا ابْتِدَاءً خَوْفًا مِنْ الْقِصَاصِ، وَالْقَتْلُ بِالْإِكْرَاهِ بَابٌ مَفْتُوحٌ فِي النَّاسِ لِلْأَكَابِرِ وَالْمُتَغَلِّبَةِ فَلَوْ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقِصَاصُ لَمَا انْسَدَّ الْبَابُ بِقَتْلِ الْمُبَاشِرِ؛ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَيْهِ وَالِاضْطِرَارُ جَاءَ مِنْ جِهَةِ الْمُتَغَلِّبِ وَهَذَا كَمَا يُقْتَلُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ قَتْلَ الْآدَمِيِّ فِي الْعَادَاتِ إنَّمَا يَكُونُ بِالتَّغَالُبِ وَالِاجْتِمَاعِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ يَدْفَعُ الْوَاحِدَ عَنْ نَفْسِهِ فَلَوْ لَمْ تُقْتَلْ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ قِصَاصًا لَمَا انْسَدَّ بَابُ الْقَتْلِ عُدْوَانًا بِالْقِصَاصِ ثُمَّ أَنَّهُ سَبَبٌ عَلَى وَجْهِ التَّعْيِينِ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ لَا يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ إلَّا بِقَتْلِ ذَلِكَ الشَّخْصِ بِعَيْنِهِ فَصَارَ كَالسَّيْفِ لَهُ بِخِلَافِ حَفْرِ الْبِئْرِ وَوَضْعِ الْحَجَرِ عَلَى الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ إكْرَاهَ الذِّمِّيِّ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّا أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ وَإِكْرَاهُ الْحَرْبِيِّ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ بِقِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ جَبْرًا لَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ فَعُدَّ الِاخْتِيَارُ قَائِمًا فِي حَقِّهِ إعْلَاءً لِلْإِسْلَامِ كَمَا عُدَّ قَائِمًا فِي حَقِّ السَّكْرَانِ زَجْرًا لَهُ حَتَّى صَحَّتْ تَصَرُّفَاتُهُ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ إذَا كَانَ بِحَقٍّ فَقَدْ أَمَرَنَا الشَّرْعُ بِإِكْرَاهِهِ عَلَى ذَلِكَ التَّصَرُّفِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الشَّرْعِ طَلَبًا لِلتَّصَرُّفِ وَمَا كَانَ مَطْلُوبًا شَرْعًا يَكُونُ مَحْكُومًا بِصِحَّتِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَا يَأْمُرُ بِشَيْءٍ غَيْرِ صَحِيحٍ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ بَاطِلًا فَهُوَ مَحْظُورٌ وَذَلِكَ التَّصَرُّفُ مَمْنُوعٌ عَنْهُ شَرْعًا فَلَا يَثْبُتُ وَلَا يَصِحُّ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَالْمَدْيُونِ الْمَوْلَى إذَا أُكْرِهَ عَلَى التَّطْلِيقِ فَطَلَّقَ صَحَّ طَلَاقُهُ لِمَا قُلْنَا إنَّ الْإِكْرَاهَ حَقٌّ وَذَلِكَ أَيْ وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِالْإِكْرَاهِ بَعْدَ الْمُدَّةِ عِنْدَهُ أَيْ يُتَصَوَّرُ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ عَلَى أَصْلِهِ؛ لِأَنَّ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عِنْدَهُ وَلَكِنَّهَا تَسْتَحِقُّ التَّفْرِيقَ عَلَيْهِ كَامْرَأَةِ الْعِنِّينِ بَعْدَ الْحَوْلِ فَإِذَا امْتَنَعَ عَنْ ذَلِكَ فَأُكْرِهَ عَلَيْهِ كَانَ الْإِكْرَاهُ حَقًّا لَا بَاطِلًا فَلَا يَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فَأَمَّا قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَالْإِكْرَاهُ بَاطِلٌ فَيَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ.
قَوْلُهُ (وَقَدْ ذَكَرْنَا نَحْنُ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَعْدَمُ الِاخْتِيَارَ) فِي السَّبَبِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ طُلِبَ مِنْهُ أَنْ يَخْتَارَ أَهْوَنَ الْأَمْرَيْنِ عَلَيْهِ
السُّقُوطَ لَكِنَّهَا لَمْ تَسْقُطْ بِعُذْرِ الْمُكْرَهِ وَاحْتَمَلَتْ الرُّخْصَةَ أَيْضًا وَجُمْلَةُ الْفِقْهِ فِيهِ مَا قُلْنَا إنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُوجِبُ تَبْدِيلَ الْحُكْمِ بِحَالٍ وَلَا تَبْدِيلَ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ وَلَا يُوجِبُ النِّسْبَةَ إلَّا بِطَرِيقٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنْ تَجْعَلَ الْمُكْرَهَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ لَا وَجْهَ لِنَقْلِ الْحُكْمِ بِدُونِ نَقْلِ الْفِعْلِ وَلَا وَجْهَ لِنَقْلِ الْفِعْلِ ذَاتِهِ إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ فَإِنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا وَجَبَ الْقَصْرُ عَلَى الْمُكْرَهِ فَفِي الْأَقْوَالِ كُلِّهَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَتَكَلَّمَ الْمَرْءُ بِلِسَانِ غَيْرِهِ فَاقْتَصَرَ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا لَا يَنْفَسِخُ
ــ
[كشف الأسرار]
فَكَيْفَ لَا يَكُونُ مُخْتَارًا أَوْ لَكِنَّهُ بِعَدَمِ الرِّضَاءِ فِي السَّبَبِ وَالْحُكْمِ فَكَانَ الْإِكْرَاهُ دُونَ الْهَزْلِ وَشَرْطُ الْخِيَارِ دُونَ الْخَطَإِ فِي الْمَانِعِيَّةِ وَقَدْ شَبَّهَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا بِالْهَزْلِ؛ لِأَنَّ الْهَزْلَ بِعَدَمِ الرِّضَا بِحُكْمِ السَّبَبِ مَعَ وُجُودِ الْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ فِي نَفْسِ السَّبَبِ وَشَبَّهَهُ بَعْضُهُمْ بِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فَإِنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ بِعَدَمِ الرِّضَا بِحُكْمِ السَّبَبِ دُونَ نَفْسِ السَّبَبِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ فَقَالَ الشَّيْخُ هُوَ دُونَهُمَا دُونَ الْخَطَإِ؛ لِأَنَّ فِي الْهَزْلِ وَشَرْطِ الْخِيَارِ عَمَّ اخْتِيَارُ الْحُكْمِ وَالرِّضَا بِهِ أَصْلًا وَإِنْ وُجِدَ الرِّضَا بِالسَّبَبِ وَفِي الْخَطَإِ الِاخْتِيَارُ مَوْجُودٌ تَقْدِيرًا لَا تَحْقِيقًا فَأَمَّا فِي الْإِكْرَاهِ فَالِاخْتِيَارُ فِي السَّبَبِ وَالْحُكْمِ مَوْجُودٌ حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا فَكَانَ دُونَ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ فِي الْمَنْعِ وَأَقْرَبَ إلَى فِعْلِ الطَّابَعِ مِنْهَا فَكَانَ تَصَرُّفُ الْمُكْرَهِ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ تَصَرُّفِ الْهَازِلِ وَالْخَاطِئِ وَلَا يُقَالُ الرِّضَا بِالسَّبَبِ مَوْجُودٌ فِي الْهَزْلِ وَشَرْطُ الْخِيَارِ دُونَ الْإِكْرَاهِ وَاخْتِيَارُ الْحُكْمِ مَوْجُودٌ فِي الْإِكْرَاهِ دُونَ الْهَزْلِ وَشَرْطِ الْخِيَارِ فَيَسْتَوِي الْكُلُّ فَلَا يَكُونُ الْإِكْرَاهُ دُونَهُمَا؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْحُكْمُ هُوَ الْمَقْصُودُ دُونَ السَّبَبِ فَلَا يُعَادَلُ الرِّضَا بِالسَّبَبِ فِي الْهَزْلِ وَشَرْطِ خِيَارِ اخْتِيَارِ الْحُكْمِ فِي الْإِكْرَاهِ فَلَا تَثْبُتُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الْإِكْرَاهِ وَالْهَزْلِ وَشَرْطِ الْخِيَارِ بَلْ كَانَ الْإِكْرَاهُ دُونَهُمَا كَمَا بَيَّنَّا وَقَوْلُهُ لَكِنَّهُ أَيْ الْإِكْرَاهَ يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَمَّا كَانَ الْإِكْرَاهُ دُونَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي الْمَنْعِ لِوُجُودِ الِاخْتِيَارِ فِيهِ يَنْبَغِي أَنْ يَقْتَصِرَ الْحُكْمُ عَلَى الْمُكْرَهِ كَمَا فِي الْهَزْلِ وَالْخَطَأِ.
فَقَالَ الْإِكْرَاهُ لَا يَعْدَمُ الِاخْتِيَارَ وَلَكِنَّهُ يُفْسِدُهُ لِمَا بَيَّنَّا فَإِذَا عَارَضَ الِاخْتِيَارَ الْفَاسِدَ اخْتِيَارٌ صَحِيحٌ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُكْرَهِ وَجَبَ تَرْجِيحُ الصَّحِيحِ عَلَى الْفَاسِدِ إنْ أَمْكَنَ وَذَلِكَ بِاحْتِمَالِ الْفِعْلِ النِّسْبَةَ إلَى الْمُكْرَهِ بِجَعْلِ الْمُكْرَهِ آلَةً لَهُ نِسْبَتُهُ أَيْ نِسْبَةُ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ أَيْ الِاخْتِيَارَ الْفَاسِدَ صَالِحٌ لِذَلِكَ أَيْ لِاسْتِحْقَاقِ الْحُكْمِ صَالِحٌ لِلْخِطَابِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُكْرَهَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ فَرْضٍ وَحَظْرٍ وَرُخْصَةٍ
وَلَمَّا فَرَغَ الشَّيْخُ رحمه الله مِنْ تَمْهِيدِ أَصْلِهِ وَتَأْسِيسِ قَاعِدَتِهِ شَرَعَ فِي تَرْتِيبِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ وَتَفْصِيلِ الْجُمْلَةِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي قَوْلِهِ ثُمَّ الْحَاجَةُ إلَى التَّفْصِيلِ وَتَرْتِيبِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَقَالَ وَصَارَتْ التَّصَرُّفَاتُ الصَّادِرَةُ مِنْ الْمُكْرَهِ كُلُّهَا مُنْقَسِمَةً إلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ مَا يُمْكِنُ نِسْبَتُهُ إلَى الْمُكْرِهِ بِجَعْلِ الْمُكْرَهِ آلَةً لَهُ وَمَا لَا يُمْكِنُ نِسْبَتُهُ إلَيْهِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْمُكْرِهِ وَالْإِكْرَاهُ نَوْعَانِ أَيْ الْإِكْرَاهُ الَّذِي لَهُ أَثَرٌ فِي الْأَحْكَامِ نَوْعَانِ حُرْمَةٌ لَا تَنْكَشِفُ أَيْ لَا تَزُولُ وَلَا تَسْقُطُ نَحْوَ حُرْمَةِ الزِّنَا وَالْقَتْلِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ لَا يَحِلُّ لِضَرُورَةٍ مَا فَلَا يَحِلُّ بِهَذِهِ الضَّرُورَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ نَفْسِ غَيْرِهِ مِثْلُ حُرْمَةِ نَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ إهْلَاكَ نَفْسِ غَيْرِهِ طَرِيقًا لِصِيَانَةِ نَفْسِهِ وَالزِّنَا فِي حُكْمِ الْقَتْلِ أَيْضًا وَحُرْمَةٌ تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ أَصْلًا مِثْلُ حُرْمَةِ الْمَيْتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ لِمَا مَرَّ.
وَحُرْمَةٌ لَا تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ لَكِنَّهَا تَحْتَمِلُ الرُّخْصَةَ نَحْوُ حُرْمَةِ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ فَإِنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ أَبَدًا لَكِنْ تَدْخُلُهَا الرُّخْصَةُ أَيْ تَسْقُطُ الْمُؤَاخَذَةُ بِالْمُبَاشَرَةِ مَعَ قِيَامِ الْحُرْمَةِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي بَابِ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ وَحُرْمَةٌ تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ لَكِنَّهَا لَمْ تَسْقُطْ بِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ وَاحْتَمَلَتْ الرُّخْصَةَ كَحُرْمَةِ إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ فَإِنَّهَا تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِإِبَاحَةِ صَاحِبِهِ وَلَمْ تَسْقُطْ بِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ كَمَا لَمْ تَسْقُطْ بِعُذْرِ الْمَخْمَصَةِ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهُ لِحَقِّ الْغَيْرِ وَحَقُّهُ بَاقٍ فِي حَالَةِ الْإِكْرَاهِ وَالِاضْطِرَارِ لَكِنَّهَا تَحْتَمِلُ الرُّخْصَةَ حَتَّى رُخِّصَ لَهُ الْإِتْلَافُ بِالْإِكْرَاهِ وَالْأَكْلُ بِالْمَخْمَصَةِ مَعَ بَقَاءِ الْحُرْمَةِ.
قَوْلُهُ (وَجُمْلَةُ الْفِقْهِ) أَيْ الْمَعْنَى الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ أَنَّ الْإِكْرَاهَ عِنْدَنَا لَا يُوجِبُ تَبْدِيلَ الْحُكْمِ بِحَالٍ أَيْ لَا يُوجِبُ تَغَيُّرَ حُكْمِ السَّبَبِ وَإِبْطَالِهِ عَنْهُ مُلْجِئًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُلْجِئٍ بَلْ يَبْقَى حُكْمُهُ كَمَا لَوْ كَانَ طَائِعًا لِصُدُورِهِ عَنْ عَقْلٍ وَتَمْيِيزٍ وَأَهْلِيَّةِ خِطَابٍ مِثْلُ صُدُورِهِ عَنْ الطَّائِعِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ قَدْ أَوْجَبَ تَبْدِيلَ الْحُكْمِ حَتَّى لَا يُحْكَمَ بِكُفْرِ الْمُكْرَهِ وَلَا تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ وَلَوْ صَدَرَ عَنْ الطَّائِعِ حُكِمَ بِكُفْرِهِ وَبِالْبَيْنُونَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ
وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ الرِّضَا وَالِاخْتِيَارُ لَمْ يَبْطُلْ بِالْإِكْرَاهِ مِثْلُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَبْطُلُ بِالْهَزْلِ وَهُوَ يُنَافِي الِاخْتِيَارَ وَالرِّضَا بِالْحُكْمِ وَلَا يَبْطُلُ شَرْطُ الْخِيَارِ وَهُوَ يُنَافِي الِاخْتِيَارَ أَصْلًا فَلَأَنْ لَا يَبْطُلُ بِمَا يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ أَوْلَى.
ــ
[كشف الأسرار]
الرِّدَّةُ فِي الْحَقِيقَةِ تَثْبُتُ بِتَبْدِيلِ الِاعْتِقَادِ، وَالتَّكَلُّمُ بِاللِّسَانِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَقِيَامُ الْإِكْرَاهِ هَاهُنَا مَنَعَ كَوْنَ التَّكَلُّمِ دَلِيلًا عَلَى تَبَدُّلِ الِاعْتِقَادِ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِقْرَارِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ الِارْتِدَادُ فَلَا تَقَعُ الْبَيْنُونَةُ وَلَا يُوجِبُ تَبْدِيلَ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ فِي تَبْدِيلِ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ تَبْدِيلَ مَحَلِّ الْحُكْمِ أَيْضًا عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي مَسْأَلَةِ إكْرَاهِ الْمُحْرِمِ عَلَى قَتْلِ الصَّيْدِ وَلَا يُوجِبُ تَبْدِيلَ النِّسْبَةِ إلَّا بِطَرِيقٍ وَاحِدٍ كَأَنَّهُ أَشَارَ بِهِ إلَى رَدِّ مَا ذَكَرَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّ أَثَرَ الْإِكْرَاهِ التَّامِّ فِي نَقْلِ الْفِعْلِ عَنْ الْمُكْرَهِ إلَى الْمُكْرِهِ فَأَشَارَ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّهُ لَا تَصَوُّرَ لِنَقْلِ الْفِعْلِ الْمَوْجُودِ حَقِيقَةً مِنْ شَخْصٍ إلَى غَيْرِهِ وَالْمَسَائِلُ تَشْهَدُ بِخِلَافِ هَذَا أَيْضًا فَإِنَّ الْبَالِغَ إذَا أَكْرَهَ صَبِيًّا عَلَى قَتْلِ الْغَيْرِ يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرِهِ وَهَذَا الْفِعْلُ فِي مَحَلِّهِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْقَوَدِ فَلَا يَصِيرُ مُوجِبًا بِانْتِقَالِهِ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ.
بَلْ الصَّحِيحُ أَنَّ تَأْثِيرَ الْإِكْرَاهِ فِي جَعْلِ الْمُكْرَهِ آلَةً لِلْمُكْرِهِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ فَيَصِيرُ الْفِعْلُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ ابْتِدَاءً بِهَذَا الطَّرِيقِ لَا بِطَرِيقِ النَّقْلِ وَجَعْلُ الْمُكْرَهِ آلَةً لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ بِالْإِكْرَاهِ يَفُوتُ اخْتِيَارُهُ أَصْلًا وَلَكِنْ؛ لِأَنَّهُ يَفْسُدُ اخْتِيَارُهُ بِهِ لِتَحَقُّقِ الْإِلْجَاءِ إذْ الْإِنْسَانُ مَجْبُولٌ عَلَى حُبِّ حَيَاتِهِ وَذَلِكَ بِحَمْلِهِ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ فَيَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَالْفَاسِدُ فِي مُعَارَضَةِ الصَّحِيحِ كَالْمَعْدُومِ فَيَصِيرُ الْفِعْلُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرَهِ لِوُجُودِ الِاخْتِيَارِ الصَّحِيحِ وَالْمُكْرَهُ يَصِيرُ آلَةً لَهُ لِعَدَمِ اخْتِيَارِهِ حُكْمًا فِي مُعَارَضَةِ الِاخْتِيَارِ الصَّحِيحِ وَإِلَى مَا ذَكَرَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ وَلَا وَجْهَ لِنَقْلِ الْفِعْلِ ذَاتِهِ إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ فَإِنْ أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِالنَّقْلِ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ وَإِلَّا وَجَبَ قَصْرُ الْفِعْلِ بِحُكْمِهِ عَلَى الْمُكْرَهِ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْفَضْلِ الْكَرْمَانِيُّ رحمه الله فِي الْإِيضَاحِ وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِنَا يَصْلُحُ آلَةً أَنَّ الْمُكْرِهَ يُمْكِنُهُ إيجَادُ الْفِعْلِ الْمَطْلُوبِ بِنَفْسِهِ فَإِذَا حَمَلَ غَيْرُهُ عَلَيْهِ بِوَعِيدِ التَّلَفِ صَارَ كَأَنَّهُ فِعْلُ نَفْسِهِ وَمِنْ قَوْلِنَا لَا يَصْلُحُ آلَةً أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ مُبَاشَرَةُ ذَلِكَ الْفِعْلِ بِنَفْسِهِ فَإِذَا حَمَلَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ يَبْقَى مَقْصُورًا عَلَيْهِ فَفِي الْأَقْوَالِ كُلِّهَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَتَكَلَّمَ الْمَرْءُ بِلِسَانِ غَيْرِهِ حِسًّا عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى لِلِسَانِ الْمُتَكَلِّمِ اخْتِيَارٌ فَاقْتَصَرَ الْأَقْوَالُ بِأَحْكَامِهَا عَلَى الْمُتَكَلِّمِ وَلَا يُجْعَلُ كَأَنَّ الْمُكْرِهَ طَلَّقَ امْرَأَةَ الْمُكْرَهِ أَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ فَإِنْ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يَصْلُحُ آلَةً لِلْمُكْرَهِ فَإِنَّ مَنْ وَكَّلَ رَجُلًا بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ وَإِعْتَاقِ عَبْدِهِ يَصِحُّ وَمَتَى طَلَّقَ الْوَكِيلُ كَانَ عَامِلًا لِلْمُوَكِّلِ حَتَّى لَوْ حَلَفَ الرَّجُلُ لَا يُطَلِّقُ وَلَا يَعْتِقُ فَوَكَّلَ غَيْرَهُ بِالطَّلَاقِ وَالْإِعْتَاقِ حَنِثَ فَعُلِمَ أَنَّ الْوَكِيلَ صَارَ آلَةً لِلْمُوَكِّلِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُكْرِهَ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ عَلَى الْمُكْرَهِ وَفِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ يَرْجِعُ بِضَمَانِ نِصْفِ الصَّدَاقِ عَلَى الْمُكْرَهِ وَلَوْ لَمْ يَصِرْ آلَةً لَهُ لِمَا رَجَعَ وَإِذَا صَارَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ صَارَ كَأَنَّ الْمُكْرِهَ طَلَّقَ امْرَأَةَ الْمُكْرَهِ أَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْغُوَ.
قُلْنَا الْمُكْرَهُ إنَّمَا يَصْلُحُ آلَةَ الْمُكْرِهِ فِيمَا لَوْ أَرَادَ الْمُكْرَهُ مُبَاشَرَتَهُ بِنَفْسِهِ لَقَدَرَ عَلَيْهِ فَيَنْزِلُ فَاعِلًا بِمُبَاشَرَةِ غَيْرِهِ تَقْدِيرًا وَاعْتِبَارًا، فَأَمَّا فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ فَاعِلًا حُكْمًا فَفِي تَطْلِيقِ امْرَأَةِ نَفْسِهِ وَإِعْتَاقِ عَبْدِهِ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ مُتَصَرِّفًا بِنَفْسِهِ فَإِذَا وَكَّلَ غَيْرَهُ بِذَلِكَ وَاسْتَعْمَلَهُ جُعِلَ عَامِلًا تَقْدِيرًا وَاعْتِبَارًا فَأَمَّا فِي تَطْلِيقِ امْرَأَةِ الْمُكْرَهِ وَإِعْتَاقِ عَبْدِهِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُبَاشِرًا بِنَفْسِهِ فَكَيْفَ يُجْعَلُ الْمُكْرَهُ آلَةً لَهُ فَبَقِيَ الْفِعْلُ مُقْتَصِرًا عَلَى الْمُكْرَهِ وَهَكَذَا نَقُولُ فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ نَحْوِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهِمَا فَنَحْنُ لَا نَنْظُرُ إلَى التَّكَلُّمِ بِلِسَانِ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ وَإِمَّا نَنْظُرُ إلَى الْمَقْصُودِ بِالْكَلَامِ وَإِلَى الْحُكْمِ فَمَتَى كَانَ فِي وُسْعِهِ تَحْصِيلُ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِنَفْسِهِ يُجْعَلُ غَيْرُهُ آلَةً لَهُ وَمَتَى لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِ لَمْ يُجْعَلْ غَيْرُهُ آلَةً لَهُ كَذَا فِي الطَّرِيقَةِ الْبُرْغَرِيَّةِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ كَلَامُ الرَّسُولِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ كَلَامِ الْمُرْسِلِ عَلَى مَا قِيلَ لِسَانُ الرَّسُولِ لِسَانُ الْمُرْسِلِ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا هُوَ الْأَمْرُ الْحَقِيقِيُّ وَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنْ الْمَجَازِ فَلَا يَرِدُ نَقْضًا عَلَيْهِ وَذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّبْلِيغِ لَا مِنْ بَابِ التَّكَلُّمِ بِلِسَانِ الْغَيْرِ إذْ التَّبْلِيغُ قَدْ يَكُونُ بِلَا وَاسِطَةٍ كَالْمُشَافَهَةِ وَقَدْ يَكُونُ بِوَاسِطَةٍ كَالْكِتَابِ وَالْإِرْسَالِ عَلَى وُجُودِ
وَإِذَا اتَّصَلَ الْإِكْرَاهُ بِقَبُولِ الْمَالِ فِي الْخُلْعِ فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ وَالْمَالُ لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَعْدَمُ الِاخْتِيَارَ فِي السَّبَبِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا وَيَعْدَمُ الرِّضَا بِالسَّبَبِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا أَوْ الْتِزَامُ الْمَالِ يَنْعَدِمُ عِنْدَ عَدَمِ الرِّضَا فَكَأَنَّ الْمَالَ لَمْ يُوجَدْ فَلَمْ يَتَوَقَّفْ الطَّلَاقُ عَلَيْهِ بَلْ وَقَعَ كَطَلَاقِ الصَّغِيرَةِ عَلَى مَالٍ بِخِلَافِ الْبَدَلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه؛ لِأَنَّهُ يَعْدَمُ الرِّضَا وَالِاخْتِيَارِ جَمِيعًا بِالْحُكْمِ وَلَا يُمْنَعُ الرِّضَا وَلَا الِاخْتِيَارُ فِي السَّبَبِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ إيجَابُ الْمَالِ فَيَتَوَقَّفُ الطَّلَاقُ كَشَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنَّهُ لَمَّا دَخَلَ عَلَى الْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ أَوْجَبَ تَوَقُّفَ الطَّلَاقِ عَلَى الْمَالِ كَذَلِكَ هَهُنَا وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ يَعْدَمُ الرِّضَا بِالسَّبَبِ وَالْحُكْمِ وَلَا يَمْنَعُ الِاخْتِيَارَ فِيهِمَا أَيْضًا فَلَمْ يَصِحَّ إيجَابُ الْمَالِ لِعَدَمِ الرِّضَا بِلُزُومِ الْمَالِ فَكَأَنْ لَمْ يُوجَدْ فَوَقَعَ بِغَيْرِ مَالٍ بِخِلَافِ الْبَدَلِ؛ لِأَنَّهُ يَعْدَمُ الرِّضَا وَالِاخْتِيَارَ فِي الْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ وَعِنْدَهُمَا مَا يَدْخُلُ عَلَى الْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ لَا يُؤَثِّرُ فِي بَدَلِ الْخُلْعِ أَصْلًا كَشَرْطِ الْخِيَارِ وَمَا دَخَلَ عَلَى السَّبَبِ يُؤَثِّرُ فِي الْمَالِ دُونَ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا بِالشَّرْطِ فَكَانَ فِي الْإِيجَابِ مِثْلَ الثَّمَنِ وَبَعْدَ صِحَّةِ الْإِيجَابِ الطَّلَاقَ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ
ــ
[كشف الأسرار]
الرِّضَا وَالِاخْتِيَارِ أَيْ الِاخْتِيَارِ الصَّحِيحِ وَلَا يَبْطُلُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَهُوَ يُنَافِي الِاخْتِيَارَ أَيْ اخْتِيَارَ الْحُكْمِ وَالرِّضَا بِهِ أَيْضًا فَلَأَنْ لَا يَبْطُلُ بِمَا يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ وَلَا يُعْدِمُهُ أَوْلَى.
قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: الْهَزْلُ ضِدُّ الْجِدِّ كَالْكَذِبِ ضِدُّ الصِّدْقِ وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْجِدِّ فَلَمَّا صَحَّتْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ مَعَ الْهَزْلِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْجِدِّ فَلَأَنْ تَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ جَادٌّ فِي تَصَرُّفِهِ؛ لِأَنَّهُ دُعِيَ إلَى التَّصَرُّفِ بِطَرِيقِ الْجِدِّ فَإِنْ أَجَابَ إلَى مَا دُعِيَ إلَيْهِ فَهُوَ جَادٌّ وَإِنْ أَتَى بِشَيْءٍ آخَرَ فَهُوَ طَابِعٌ.
قَوْلُهُ (وَإِذَا اتَّصَلَ الْإِكْرَاهُ بِقَبُولِ الْمَالِ فِي الْخُلْعِ) إلَى آخِرِهِ إنَّمَا تَعَرَّضَ بِجَانِبِ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ إذَا أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يُخَالِعَ امْرَأَتَهُ عَلَى أَلْفٍ وَقَدْ دَخَلَ بِهَا وَالْمَرْأَةُ غَيْرُ مُكْرَهَةٍ فَالْخُلْعُ وَاقِعٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ طَلَاقٌ وَالْإِكْرَاهُ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَالْمَالُ لَازِمٌ عَلَى الْمَرْأَةِ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا الْتَزَمَتْ الْمَالَ طَائِعَةً بِإِزَاءِ مَا سَلَّمَ لَهَا مِنْ الْبَيْنُونَةِ فَأَمَّا إذَا أُكْرِهَتْ امْرَأَةٌ بِوَعِيدِ تَلَفٍ أَوْ حَبْسٍ عَلَى أَنْ تَقْبَلَ مِنْ زَوْجِهَا الْخُلْعَ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَبِلَتْ لَك مِنْهُ وَقَدْ دَخَلَ بِهَا فَالطَّلَاقُ يَقَعُ وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ الْمَالِ يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا وَبِالْإِكْرَاهِ يَفُوتُ الرِّضَا سَوَاءٌ كَانَ الْإِكْرَاهُ بِحَبْسٍ أَوْ بِقَتْلٍ وَلَكِنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ يَعْتَمِدُ وُجُودَ الْقَبُولِ لَا وُجُودَ الْمَقْبُولِ كَمَا لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الصَّغِيرَةَ عَلَى مَالٍ يَتَوَقَّفُ الطَّلَاقُ عَلَى قَبُولِهَا فَإِذَا قَبِلَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَلَا يَجِبُ الْمَالُ وَبِالْإِكْرَاهِ لَا يَنْعَدِمُ الْقَبُولُ فَلِهَذَا كَانَ الطَّلَاقُ وَاقِعًا ثُمَّ إنَّ أَصْحَابَنَا جَمِيعًا احْتَاجُوا إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْإِكْرَاهِ وَالْهَزْلِ فِي الْخُلْعِ فَأَشَارَ إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ الْهَزْلِ فِي أَصْلِ الْخُلْعِ وَبَدَلِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله حَيْثُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ مَا لَمْ تَرْضَ الْمَرْأَةُ بِالْتِزَامِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْهَزْلَ يُعْدِمُ الرِّضَا وَالِاخْتِيَارَ بِالْحُكْمِ وَلَا يَمْنَعُ الرِّضَا وَالِاخْتِيَارَ فِي السَّبَبِ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَيْ كَانَ الْهَزْلُ غَيْرَ مَانِعٍ لِلرِّضَى وَالِاخْتِيَارِ فِي السَّبَبِ صَحَّ إيجَابُ الْمَالِ أَيْ الْتِزَامُهُ بِالْهَزْلِ مَوْقُوفًا عَلَى أَنْ يَلْزَمَ عِنْدَ تَمَامِ الرِّضَا بِهِ فَيَتَوَقَّفُ الطَّلَاقُ عَلَيْهِ كَشَرْطِ الْخِيَارِ لَمَّا دَخَلَ عَلَى الْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ وُجِدَ الِاخْتِيَارُ وَالرِّضَا بِالسَّبَبِ دُونَ الْحُكْمِ فَيَتَوَقَّفُ الْحُكْمُ وَهُوَ وُجُوبُ الْمَالِ وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَى وُجُودِ الِاخْتِيَارِ وَالرِّضَا بِهِ فَأَمَّا الْإِكْرَاهُ فَلَا يُعْدِمُ الِاخْتِيَارَ فِي السَّبَبِ وَالْحُكْمِ وَإِنَّمَا يُعْدِمُ الرِّضَا بِالْحُكْمِ فَلِوُجُودِ الِاخْتِيَارِ فِي السَّبَبِ وَالْحُكْمِ تَمَّ الْقَبُولُ وَوَقَعَ الطَّلَاقُ وَلِعَدَمِ الرِّضَا لَا يَجِبُ الْمَالُ فَكَأَنَّ الْمَالَ لَمْ يُذْكَرْ أَصْلًا.
هَذَا هُوَ الْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله بَيْنَ الْإِكْرَاهِ وَالْهَزْلِ فِي الْخُلْعِ أَمَّا بَيَانُ الْفَرْقِ لَهُمَا بَيْنَهُمَا فَهُوَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ بِعَدَمِ الرِّضَا بِالسَّبَبِ وَالْحُكْمِ وَلَا يُعْدِمُ الِاخْتِيَارَ فِيهِمَا أَيْضًا يَعْنِي جَوَابُهُمَا فِي الْإِكْرَاهِ كَجَوَابِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فَلَمْ يَصِحَّ إيجَابُ الْمَالِ لِعَدَمِ الرِّضَا فَصَارَ كَأَنَّ الْمَالَ لَمْ يُذْكَرْ أَصْلًا فَوَقَعَ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ مَالٍ ثُمَّ إنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى قَبُولِ الطَّلَاقِ بِمَالٍ بِأَنْ أُكْرِهَتْ عَلَى أَنْ تَقْبَلَ مِنْ زَوْجِهَا تَطْلِيقَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ كَانَ الْوَاقِعُ رَجْعِيًّا بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ الْوَاقِعَ بِصَرِيحِ اللَّفْظِ رَجْعِيٌّ إذَا لَمْ يَجِبْ عِوَضٌ بِمُقَابِلَتِهِ وَإِنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى قَبُولِ الْخُلْعِ بِمَالٍ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَاقِعُ بَائِنًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْكِنَايَاتِ بِخِلَافِ الْهَزْلِ حَيْثُ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَيَجِبُ الْمَالُ عِنْدَهُمَا عَلَى مَا مَرَّ؛ لِأَنَّ الْهَزْلَ يُعْدِمُ الرِّضَا وَالِاخْتِيَارَ فِي الْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ فَصَحَّ إيجَابُ الْمَالِ لِوُجُودِ الرِّضَا فِي السَّبَبِ.
وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّ مَا يَدْخُلُ عَلَى الْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ لَا يُؤَثِّرُ فِي بَدَلِ الْخُلْعِ بِالْمَنْعِ أَصْلًا كَشَرْطِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّ أَثَرَهُ فِي الْمَنْعِ وَلَمْ تُؤَثِّرْ فِي أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ وَهُوَ الطَّلَاقُ بِالْمَنْعِ حَتَّى لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى الِاخْتِيَارِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ الْآخَرِ وَهُوَ لُزُومُ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ فِيهِ تَابِعٌ فَيَتْبَعُ الطَّلَاقَ وَيَلْزَمُ حَسَبَ لُزُومِهِ فَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ الْهَزْلُ وَشَرْطُ الْخِيَارِ وَمَا دَخَلَ عَلَى السَّبَبِ مِثْلُ الْإِكْرَاهِ يُؤَثِّرُ فِي الْمَالِ دُونَ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَجِبُ فِي الْخُلْعِ إلَّا بِالشَّرْطِ بِالذِّكْرِ فِيهِ كَمَا أَنَّ الثَّمَنَ لَا يَجِبُ فِي الْبَيْعِ إلَّا بِالذِّكْرِ.
فَكَانَ الْمَالُ فِي الْإِيجَابِ أَيْ فِي الْإِثْبَاتِ فِي
وَأَمَّا الَّذِي يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى الرِّضَا مِثْلُ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فَإِنَّهُ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمُبَاشِرِ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ يَفْسُدُ لِعَدَمِ الرِّضَا وَلَا يَصِحُّ الْأَقَارِيرُ كُلُّهَا؛ لِأَنَّ صِحَّتَهَا تَعْتَمِدُ قِيَامَ الْمُخْبَرِ بِهِ وَقَدْ قَامَتْ دَلَالَةُ عَدَمِهِ وَلَا نُسَلِّمُ قَوْلَ الْخَصْمِ أَنَّ الضَّرَرَ مَوْقُوفٌ عَلَى الرِّضَا بَلْ عَلَى الِاخْتِيَارِ.
أَلَا يُرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَخْتَارُ الضَّرَرَ كَارِهًا غَيْرَ رَاضٍ كَالْفَصْدِ وَشُرْبِ الدَّوَاءِ وَإِنَّمَا الرِّضَا لِلُّزُومِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ لَا غَيْرُ وَهَذَا بِخِلَافِ أَقَارِيرِ السَّكْرَانِ فَإِنَّهَا تَصِحُّ عَلَى مَا قُلْنَا؛ لِأَنَّ السُّكْرَ لَمَّا لَمْ يَصْلُحْ عُذْرًا لَمْ يَصْلُحْ دَلَالَةً عَلَى عَدَمِ الْمُخْبَرِ بِهِ بَلْ جُعِلَ دَلَالَةً عَلَى الرُّجُوعِ بِخِلَافِ السَّكْرَانِ إذَا ارْتَدَّ فَإِنَّ امْرَأَتَهُ لَا تَبِينُ وَجُعِلَ السُّكْرُ دَلَالَةً عَلَى عَدَمِ الْمُخْبَرِ بِهِ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ تَعْتَمِدُ مَحْضَ الِاعْتِقَادِ وَقَدْ وَقَعَ فِيهِ الشَّكُّ وَالشُّبْهَةُ فَلَمْ يَثْبُتْ وَمَا يَعْتَمِدُ الْعِبَارَةَ لَا يَبْطُلُ بِالشُّبْهَةِ أَيْضًا وَالْكَامِلُ مِنْ الْإِكْرَاهِ وَالْقَاصِرِ فِي هَذَا سَوَاءٌ.
ــ
[كشف الأسرار]
الْخُلْعِ مِثْلَ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مِثْلَ الْيَمِينِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ فَكَمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ صِحَّةِ الْإِيجَابِ لِثُبُوتِ الثَّمَنِ فِي الْمَبِيعِ لَا بُدَّ مِنْ صِحَّتِهِ أَيْضًا لِثُبُوتِ الْمَالِ فِي الْخُلْعِ وَمَا دَخَلَ عَلَى السَّبَبِ بِمَنْعِ صِحَّةِ الْإِيجَابِ فِي الْبَيْعِ فَكَذَلِكَ فِي الْخُلْعِ وَمَا دَخَلَ عَلَى الْحُكْمِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِيجَابِ فِي الْبَيْعِ فَلَا يَمْنَعُ فِي الْخَلْعِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ فِي الْبَيْعِ مَا دَخَلَ عَلَى الْحُكْمِ يَمْنَعُ اللُّزُومَ وَفِي الْخُلْعِ لَا يَمْنَعُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الطَّلَاقُ هَاهُنَا وَالْمَالُ تَابِعٌ وَهَذَا الْمَانِعُ لَا يُؤَثِّرُ فِي مَنْعِ لُزُومِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي مَنْعِ لُزُومِ التَّابِعِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ حُكْمَ التَّابِعِ يُؤْخَذُ مِنْ الْمَتْبُوعِ أَبَدًا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَبَعْدَ صِحَّةِ الْإِيجَابِ يَتْبَعُ الطَّلَاقَ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ.
قَوْلُهُ (فَأَمَّا الَّذِي) أَيْ التَّصَرُّفُ الَّذِي يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى الرِّضَا مِثْلُ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّهُ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمُبَاشِرِ أَيْضًا كَاَلَّذِي لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ؛ لِأَنَّ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا تَقْتَصِرُ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ إلَّا أَنَّهُ أَيْ لَكِنَّ الَّذِي يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى الرِّضَا يَفْسُدُ أَيْ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ إلَّا أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ أَصْلِ التَّصَرُّفِ لِصُدُورِهِ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ وَلَكِنَّهُ يَمْنَعُ نَفَاذَهُ لِفَوَاتِ الرِّضَا الَّذِي هُوَ شَرْطُ النَّفَاذِ بِالْإِكْرَاهِ فَيَنْعَقِدُ بِصِفَةِ الْفَسَادِ فَلَوْ أَجَازَ التَّصَرُّفَ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً صَحَّ؛ لِأَنَّ رِضَاءَهُ قَدْ تَمَّ وَلِلْفَسَادِ كَانَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ مَا يَتِمُّ بِهِ الْعَقْدُ فَيَزُولُ الْمَعْنَى الْمُفْسِدُ بِالْإِجَازَةِ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ أَجَلٍ فَاسِدٍ أَوْ خِيَارٍ فَاسِدٍ إذَا أَسْقَطَ مَنْ لَهُ الْأَجَلُ أَوْ الْخِيَارُ مَا شُرِطَ لَهُ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا فَكَذَا هَذَا وَلَا يَصِحُّ الْأَقَارِيرُ كُلُّهَا حَتَّى لَوْ أُكْرِهَ بِقَتْلٍ أَوْ إتْلَافِ عُضْوٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ قَيْدٍ عَلَى أَنْ يُقِرَّ بِعِتْقٍ مَاضٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ رَجْعَةٍ أَوْ فَيْءٍ فِي إيلَاءٍ أَوْ عَفْوٍ عَنْ دَمِ عَمْدٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ دَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ لِإِنْسَانٍ أَوْ إبْرَاءٍ عَنْ دَيْنٍ أَوْ عَلَى أَنْ يُقِرَّ بِإِسْلَامٍ مَاضٍ كَانَ الْإِقْرَارُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ إذَا هُدِّدَ بِمَا يَخَافُ التَّلَفَ عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ مُلْجِئٌ إلَى الْإِقْرَارِ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ وَالْإِقْرَارُ خَبَرٌ مُتَمَيِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَإِنَّمَا يُوجِبُ الْحَقَّ بِاعْتِبَارِ رُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ وَدَلَالَتِهِ عَلَى وُجُودِ الْمُخْبَرِ بِهِ وَذَلِكَ يَفُوتُ بِالْإِلْجَاءِ؛ لِأَنَّ قِيَامَ السَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إقْرَارَهُ هَذَا لَا يَصْلُحُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمُخْبَرِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِهِ دَفْعًا لِلسَّيْفِ عَنْ نَفْسِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَقَدْ قَامَتْ دَلَالَةُ عَدَمِهِ أَيْ عَدَمِ الْمُخْبَرِ بِهِ بِهَذَا الْإِقْرَارِ.
وَكَذَا إنْ هُدِّدَ بِحَبْسٍ أَوْ قَيْدٍ؛ لِأَنَّ الرِّضَا يَنْعَدِمُ بِالْحَبْسِ وَالْقَيْدِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْهَمِّ، وَعَدَمُ الرِّضَا يَمْنَعُ تَرْجِيحَ جَانِبِ الصِّدْقِ فِي إقْرَارِهِ ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِكْرَاهَ مِثْلُ الْهَزْلِ فِي تَفْوِيتِ الرِّضَا وَمَنْ هَزَلَ بِإِقْرَارٍ لِغَيْرِهِ وَتَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ هَزْلٌ بِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ فَكَذَا إذَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله إذَا قَالَ لِمَنْ هُوَ أَكْبَرُ سِنًّا مِنْهُ هَذَا ابْنِي يَعْتِقُ عَلَيْهِ وَهُنَاكَ يَتَيَقَّنُ بِكَذِبِهِ فِيمَا قَالَ فَوْقَ مَا يَتَيَقَّنُ بِالْكَذِبِ عِنْدَ الْإِقْرَارِ مُكْرَهًا فَإِذَا نَفَذَ الْعِتْقُ ثَمَّةَ يَنْفُذُ هَاهُنَا بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى قُلْنَا أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله جَعَلَ ذَلِكَ الْكَلَامَ مَجَازًا فِي الْإِقْرَارِ بِالْعِتْقِ كَأَنَّهُ قَالَ عَتَقَ عَلَيَّ مِنْ حِينِ مَلَكْته وَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَجَازِ لَا يَظْهَرُ رُجْحَانُ جَانِبِ الْكَذِبِ فِي إقْرَارِهِ فَأَمَّا عِنْدَ الْإِكْرَاهِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ إقْرَارُهُ مَجَازًا فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالتَّكَلُّمِ بِالْحَقِيقَةِ وَقَدْ يُرَجِّحُ جِهَةَ الْكَذِبِ فِيهِ بِالْإِكْرَاهِ فَبَطَلَ.
قَوْلُهُ (بِخِلَافِ السَّكْرَانِ إذَا ارْتَدَّ) جَوَابٌ عَنْ نَقْضٍ يَرُدُّ عَلَى إقْرَارِ السَّكْرَانِ فَإِنَّ السُّكْرَ لَمَّا لَمْ يَصْلُحْ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ الْمُخْبَرِ بِهِ فِي الْإِقْرَارِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصْلُحَ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِهِ فِي الرِّدَّةِ أَيْضًا فَقَالَ الرِّدَّةُ تَعْتَمِدُ مَحْضَ الِاعْتِقَادِ أَيْ اعْتِقَادِ الْكُفْرِ وَالتَّكَلُّمُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ دَلِيلٌ مَحْضٌ عَلَيْهِ وَقَدْ وَقَعَ فِي الِاعْتِقَادِ الشَّكُّ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ بِالنَّظَرِ إلَى أَصْلِ عَقْلِهِ يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الِاعْتِقَادِ مِثْلَ كَلَامِ الصَّاحِي وَبِالنَّظَرِ إلَى انْطِمَاسِ نُورِ الْعَقْلِ بِالسُّكْرِ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَيْهِ فَلَا يَثْبُتُ اعْتِقَادُ الْكُفْرِ بِالشَّكِّ فَلَا تَثْبُتُ الرِّدَّةُ وَلَا الْبَيْنُونَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ بِالشَّكِّ وَمَا يَعْتَمِدُ الْعِبَارَةَ نَحْوُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِهِمَا لَا يَبْطُلُ بِالشُّبْهَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ صُدُورَ كَلَامِهِ
وَالْقِسْمُ الَّذِي يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ آلَةً لِغَيْرِهِ فَمِثْلُ إتْلَافِ الْمَالِ وَإِتْلَافِ النَّفْسِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَأْخُذَهُ فَيَضْرِبَ بِهِ نَفْسًا أَوْ مَالًا فَيُتْلِفَهُ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ مَا أَوْجَبَ جُرْحُهُ وَجَبَ بِهِ الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ بِالْإِجْمَاعِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَبْدِيلُ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ أَيْضًا فَلِذَلِكَ جُعِلَ آلَةً فَإِذَا جُعِلَ آلَةً لَهُ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا صَارَ ابْتِدَاءُ وُجُودِ الْفِعْلِ مُضَافًا إلَيْهِ فَلَزِمَهُ حُكْمُ الْفِعْلِ ابْتِدَاءً وَخَرَجَ الْمُكْرَهُ مِنْ الْوَسَطِ وَلِذَلِكَ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ
ــ
[كشف الأسرار]
عَنْ عَقْلٍ وَأَهْلِيَّةِ خِطَابٍ يُوجِبُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَصِحَّةَ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ إلَّا أَنَّ قِيَامَ السُّكْرِ يُورِثُ شُبْهَةَ عَدَمِ الصِّحَّةِ فِيهِ فَلَا يَبْطُلُ مَا ثَبَتَ بِأَصْلِ الْكَلَامِ بِهَذِهِ الشُّبْهَةِ وَالْكَامِلُ مِنْ الْإِكْرَاهِ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ بِالْقَتْلِ أَوْ الْقَطْعِ وَالْقَاصِرُ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ أَوْ الْقَيْدِ فِي هَذَا أَيْ فِي الَّذِي يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى الرِّضَا وَالْأَقَارِيرُ كُلُّهَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْقَاصِرَ يُعْدِمُ الرِّضَا وَعَدَمُهُ يَمْنَعُ النَّفَاذَ وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمُخْبَرِ بِهِ وَالْحَدُّ فِي الْحَبْسِ الَّذِي هُوَ الْإِكْرَاهُ مَا يَجِيءُ مِنْهُ الِاغْتِمَامُ الْبَيِّنُ بِهِ وَفِي الضَّرْبِ الَّذِي هُوَ إكْرَاهٌ مَا يَجِدُ مِنْهُ الْأَلَمَ الشَّدِيدَ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ حَدٌّ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ وَلَا يَنْقُصُ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ وَلَكِنَّ ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى الْحَاكِمُ إذَا رُفِعَ ذَلِكَ إلَيْهِ فَمَا رَأَى أَنَّهُ إكْرَاهٌ أَفْسَدَ الْعَقْدَ وَأَبْطَلَ الْإِقْرَارَ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ فَلِلْوَجِيهِ الَّذِي يَضَعُ الْحَبْسَ مِنْ جَاهِهِ تَأْثِيرُ الْحَبْسِ وَالْقَيْدِ يَوْمًا فِي حَقِّهِ فَوْقَ تَأْثِيرِ حَبْسِ شَهْرٍ فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَلِهَذَا لَمْ يُقَدَّرْ فِيهِ بِشَيْءٍ وَجُعِلَ مَوْكُولًا إلَى رَأْيِ الْقَاضِي لِيَبْنِيَ ذَلِكَ عَلَى حَالِ مَنْ اُبْتُلِيَ بِهِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ.
قَوْلُهُ (وَالْقَسَمُ الَّذِي يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الْمُكْرَهُ فِيهِ آلَةً لِغَيْرِهِ فَمِثْلُ إتْلَافِ الْمَالِ وَإِتْلَافِ النَّفْسِ) ؛ لِأَنَّهُ أَيْ الْمُكْرِهَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَأْخُذَهُ فَيَضْرِبُ الْمُكْرِهُ بِهِ نَفْسًا أَوْ مَالًا فَيُتْلِفُهُ فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمُكْرَهِ أَيْ مَعَهُ مَا أَوْجَبَ جُرْحَ الْمَقْتُولِ بِأَنْ قَالَ اُقْتُلْهُ بِالسَّيْفِ أَوْ لَأَقْتُلَنَّكَ فَقَتَلَهُ بِهِ وَجَبَ بِهِ أَيْ بِسَبَبِ هَذَا الْإِكْرَاهِ أَوْ الْقَتْلِ أَوْ الْجُرْحِ الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرَهِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا شَرَطَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى الْقَتْلِ بِعَصًا أَوْ بِحَجَرٍ كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَتْلِ الْمُثَقَّلِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله ثُمَّ أَنَّهُ ذَكَرَ الْإِجْمَاعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ وَالْمَبْسُوطِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرَهِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله لَا يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى أَحَدٍ بَلْ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْمُكْرَهِ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ وَعِنْدَ زُفَرَ رحمه الله يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرَهِ دُونَ الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ لِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ عَمْدًا فَيَلْزَمُهُ الْقَوَدُ كَمَا لَوْ أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ فَقَتَلَ إنْسَانًا وَأَكَلَ مِنْ لَحْمِهِ.
أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْ الْمُكْرَهِ بِالْإِكْرَاهِ بِسَائِرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَتْلِ مِنْ الْأَحْكَامِ كَالْإِثْمِ وَالتَّفْسِيقِ وَرَدِّ الشَّهَادَةِ وَإِبَاحَةِ قَتْلِهِ لِلْمَقْصُودِ بِالْقَتْلِ فَكَذَا الْقَوَدُ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الضَّرُورَةِ فِي إسْقَاطِ الْإِثْمِ دَوْمُ الْحُكْمِ حَتَّى أَنَّ مَنْ أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ تُبَاحُ لَهُ تَنَاوُلُ مَالِ الْغَيْرِ وَلَا يَسْقُطُ الضَّمَانُ وَإِثْمُ الْقَتْلِ هَاهُنَا لَمْ يَسْقُطْ عَنْ الْمُكْرَهِ بِالْإِكْرَاهِ فَلَأَنْ لَا يَسْقُطَ عَنْهُ حُكْمُ الْقَتْلِ أَوْلَى وَاسْتَدَلَّ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله بِأَنَّ بَقَاءَ الْإِثْمِ فِي حَقِّ الْمُكْرَهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ كُلَّهُ لَمْ يَصِرْ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرَهِ وَالْقِصَاصُ لَا يَجِبُ إلَّا بِمُبَاشَرَةِ جِنَايَةٍ تَامَّةٍ وَقَدْ عُدِمَتْ مِنْ الْمُكْرَهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَلَا يَلْزَمُهُ الْقَوَدُ.
وَلَنَا أَنَّ الْمُكْرَهَ مُلْجَأٌ إلَى هَذَا الْفِعْلِ وَالْإِلْجَاءُ بِأَبْلَغِ الْجِهَاتِ يَجْعَلُ الْمُلْجَأَ آلَةَ الْمُلْجِئِ فِيمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لَهُ إذَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ تَغْيِيرُ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَجْبُولٌ عَلَى حُبِّ الْحَيَاةِ فَلَمَّا هُدِّدَ بِالْقَتْلِ يَطْلُبُ لِنَفْسِهِ مَخْلَصًا عَنْ الْهَلَاكِ وَلَمَّا لَمْ يَتَوَصَّلْ إلَيْهِ إلَّا بِالْإِقْدَامِ عَلَى مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ يُقْدِمُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا طَلَبًا لِلْخَلَاصِ فَيَفْسُدُ اخْتِيَارَهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَيَصِيرُ مَجْبُولًا عَلَى هَذَا الْفِعْلِ بِقَضِيَّةِ الطَّبْعِ وَإِذَا فَسَدَ اخْتِيَارُهُ اُلْتُحِقَ بِالْآلَةِ الَّتِي لَا اخْتِيَارَ لَهَا وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ سَيْفٍ فِي يَدِ الْمُكْرِهِ اسْتَعْمَلَهُ فِي قَتْلِهِ فَيَصِيرُ الْفِعْلُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ لَا إلَى الْآلَةِ ثُمَّ الْمُكْرَهُ هَاهُنَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ فِي الْقَتْلِ بِأَنْ يَأْخُذَ يَدَهُ مَعَ السِّكِّينِ فَيَقْتُلَ بِهِ غَيْرَهُ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ أَيْ فِي جَعْلِهِ آلَةً تَبْدِيلُ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَتْلَ لَوْ كَانَ طَوْعًا مِنْ الْفَاعِلِ لَكَانَ جِنَايَةً عَلَى الْمَقْتُولِ مُوجِبَةً لِلْقَوَدِ وَبِأَنْ جَعْلَ الْفَاعِلَ آلَةً وَنَسَبَ الْفِعْلَ إلَى الْمُكْرَهِ لَا يُفَوِّتُ الْجِنَايَةَ عَلَى الْقَتِيلِ بَلْ مَحَلُّ الْجِنَايَةِ نَفْسُ الْمَقْتُولِ كَمَا كَانَتْ فَلِذَلِكَ أَيْ فَلِصَلَاحِهِ لِلْآلَةِ وَعَدَمِ لُزُومِ تَبَدُّلِ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ جُعِلَ الْمُكْرَهُ آلَةً لِلْمُكْرِهِ وَنُسِبَ الْفِعْلُ إلَيْهِ وَإِذَا جُعِلَ الْمُكْرَهُ آلَةً بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا صَارَ ابْتِدَاءُ وُجُودِ الْفِعْلِ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ لَا أَنَّهُ نُقِلَ مِنْ الْمُكْرِهِ إلَيْهِ كَمَا
وَلِذَلِكَ قُلْنَا فِيمَنْ أُكْرِهَ عَلَى رَمْيِ صَيْدٍ فَرَمَاهُ فَأَصَابَ إنْسَانًا أَنَّ الدِّيَةَ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُكْرِهِ وَالْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ ضَمَانُ الْمُتْلِفِ وَالْكَفَّارَةُ جَزَاءُ الْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ لِحُرْمَةِ هَذَا الْمَحَلِّ أَيْضًا وَكَذَلِكَ إتْلَافُ الْمَالِ يُنْسَبُ إلَى الْمُكْرِهِ ابْتِدَاءً وَهَذِهِ نِسْبَةٌ ثَبَتَتْ شَرْعًا لِمَا قُلْنَا وَهَذَا كَالْأَمْرِ فَإِنَّهُ مَتَى صَحَّ اسْتَقَامَ نَقْلُ الْجِنَايَةِ بِهِ أَيْضًا كَمَنْ أَمَرَ عَبْدَهُ بِأَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فِي فِنَائِهِ وَذَلِكَ مَوْضِعُ إشْكَالٍ قَدْ يَخْفَى عَلَى النَّاسِ أَنَّهُ مِلْكُهُ أَوْ حَقُّ الْمُسْلِمِينَ فَحَفَرَ فَوَقَعَ فِيهِ إنْسَانٌ وَمَاتَ أَنَّ الْمَوْلَى هُوَ الْقَاتِلُ لِمَا قُلْنَا مِنْ صِحَّةِ الْأَمْرِ
ــ
[كشف الأسرار]
اخْتَارَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا فَلَزِمَ الْمُكْرَهَ حُكْمُ الْفِعْلِ وَهُوَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ ابْتِدَاءً وَخَرَجَ الْمُكْرَهُ مِنْ الْوَسَطِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ حُكْمِ الْفِعْلِ مِنْ قِصَاصٍ وَلَا دِيَةٍ وَلَا كَفَّارَةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ شَيْئًا مِنْ الْمَقْصُودِ لَا يَحْصُلُ لِلْمُكْرَهِ فَلَعَلَّ الْمَقْتُولَ مِنْ أَخَصِّ أَصْدِقَائِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ لَهُ.
وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِصَيْرُورَةِ الْفِعْلِ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ كَأَنَّهُ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ إنَّ الْمُكْرَهَ مَعَ فَسَادِ اخْتِيَارِهِ يَبْقَى مُخَاطَبًا فَلِبَقَائِهِ مُخَاطَبًا كَانَ عَلَيْهِ إثْمُ الْقَتْلِ وَلِفَسَادِ اخْتِيَارِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ حُكْمِ الْقَتْلِ وَلَا يَدُلُّ لُزُومُ الْإِثْمِ عَلَى بَقَاءِ الْحُكْمِ كَمَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ اقْطَعْ يَدِي فَقَطَعَهَا كَانَ آثِمًا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ حُكْمِ الْقَطْعِ بَلْ فِي الْحُكْمِ يُجْعَلُ كَأَنَّ الْآمِرَ فَعَلَ بِنَفْسِهِ كَذَا هُنَا وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو يُوسُفَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ مُبَاشِرٌ شَرْعًا بِدَلِيلِ أَنَّ سَائِرَ الْأَحْكَامِ سِوَى الْقَوَدِ نَحْوَ حِرْمَانِ الْمِيرَاثِ وَالدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ تَجِبُ عَلَيْهِ فَكَذَا الْقَوَدُ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص: 4] فَقَدْ نُسِبَ الْفِعْلُ إلَى اللَّعِينِ وَهُوَ مَا كَانَ يُبَاشِرُ صُورَتَهُ وَلَكِنَّهُ كَانَ مُطَاعًا يَأْمُرُ بِهِ وَأَمْرُهُ إكْرَاهٌ.
قَوْلُهُ (وَلِذَلِكَ) أَيْ وَلِأَنَّ الْفِعْلَ مَنْسُوبٌ إلَى الْمُكْرَهِ قُلْنَا كَذَا وَالْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ ضَمَانُ الْمُتْلِفِ وَالْإِتْلَافُ مَنْسُوبٌ إلَى الْمُكْرَهِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ وَالْكَفَّارَةُ جَزَاءُ الْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ لِأَجْلِ حُرْمَةِ هَذَا الْمَحَلِّ يَعْنِي أَنَّ حُرْمَةَ قَتْلِ الْآدَمِيِّ لَمْ تَثْبُتْ مِنْ جِهَةِ الْفَاعِلِ لِيَقْتَصِرَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْفَاعِلِ كَمَا فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ بَلْ تَثْبُتُ لِاحْتِرَامِ الْمَحَلِّ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَحَلَّ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَرَمًا لَمَا ثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ وَلَمْ تَجِبْ الْكَفَّارَةُ كَمَا فِي قَتْلِ الْمُرْتَدِّ وَإِذَا كَانَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بِاعْتِبَارِ حُرْمَةٍ فِي الْمَحَلِّ وَجَبَتْ عَلَى الْمُكْرَهِ كَالدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ جُعِلَ آلَةً فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمَحَلِّ وَإِتْلَافُ الْمَحَلِّ بِجَمِيعِ أَحْكَامِهِ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الصَّيْدِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا وَجَبَتْ لِمَعْنًى فِي الْفَاعِلِ وَهُوَ كَوْنُهُ مُحْرِمًا لَا لِمَعْنًى فِي الْمَحَلِّ فَلَا يَصْلُحُ الْمُكْرَهُ أَنْ يَصِيرَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْفَاعِلِ كَمَا سَتَعْرِفُهُ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَقَتْلِ النَّفْسِ إتْلَافُ الْمَالِ يُنْسَبُ إلَى الْمُكْرَهِ ابْتِدَاءً حَتَّى لَا يَكُونَ عَلَى الْمُكْرِهِ شَيْءٌ مِنْ حُكْمِ الْإِتْلَافِ بِالْإِجْمَاعِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُبَاشِرَ وَالْمُسَبِّبَ إنْ اجْتَمَعَنَا فِي الْإِتْلَافِ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُبَاشِرِ دُونَ الْمُسَبِّبِ لَمَّا وَجَبَ ضَمَانُ الْمَالِ عَلَى الْمُكْرَهِ عُلِمَ أَنَّ الْإِتْلَافَ مَنْسُوبٌ إلَى الْمُكْرَهِ شَرْعًا وَلَا طَرِيقَ لِلنِّسْبَةِ سِوَى جَعْلِ الْمُكْرَهِ آلَةً فَعَرَفْنَا أَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي بَابِ الْإِكْرَاهِ.
فَإِنْ قِيلَ نَحْنُ لَا نَقُولُ بِأَنَّ الْمُكْرَهَ آلَةٌ فِي الْإِتْلَافِ بَلْ الْمُتْلِفَ وَالضَّمَانُ عَلَيْهِ أَلَا أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ فَكَذَا الْقَاتِلُ هُوَ الْمُبَاشِرُ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ ثُمَّ الرُّجُوعُ بِالْقِصَاصِ لَا يُتَصَوَّرُ قُلْنَا لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِإِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرَهِ الْمُبَاشِرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ لَمَا رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ فَاسِدٌ فَلَا يُجْعَلُ مُسْتَعْمِلًا إيَّاهُ لِيَرْجِعَ بِحُكْمِ الِاسْتِعْمَالِ فَعُلِمَ أَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرَهِ بِحُكْمِ أَنَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ لَا بِحُكْمِ الْآمِرِ كَذَا فِي الطَّرِيقَةِ الْبُرْغَرِيَّةِ.
قَوْلُهُ (وَهَذَا) أَيْ الْإِكْرَاهُ فِي كَوْنِهِ مُؤَثِّرًا فِي تَبْدِيلِ النِّسْبَةِ مِثْلُ الْأَمْرِ فَإِنَّ الْأَمْرَ مَتَى صَحَّ بِأَنْ صَدَرَ مِمَّنْ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى الْمَأْمُورِ شَرْعًا اسْتَقَامَ نَقْلُ الْجِنَايَةِ إلَى الْآمِرِ أَيْضًا كَمَا اسْتَقَامَ نِسْبَةُ الْفِعْلِ إلَى الْمُكْرَهِ بِالْإِكْرَاهِ كَمَنْ أَمَرَ عَبْدَهُ بِأَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فِي فِنَائِهِ وَهُوَ سَعَةٌ أَمَامَ الْبُيُوتِ اخْتَصَّ صَاحِبُ الْبَيْتِ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ مِنْ حَيْثُ كَسْرُ الْحَطَبِ وَإِيقَافُ الدَّابَّةِ وَإِلْقَاءُ الْكُنَاسَةِ فِيهِ وَذَلِكَ الْفِنَاءُ مَوْضِعُ إشْكَالٍ كَمَا بَيَّنَهُ فِي الْكِتَابِ وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالْفِنَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي غَيْرِ فِنَائِهِ كَانَ الضَّمَانُ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ يَدْفَعُ بِهِ أَوْ يَفْدِي كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَأَمْرِ الْعَبْدِ إذَا اسْتَأْجَرَ حُرًّا لِلْحَفْرِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَوْ اسْتَعَانَ بِالْحُرِّ عَلَى الْحَفْرِ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ مَلَكَهُ أَمْ لَا فَإِنَّ ضَمَانَ مَا يَعْطَبُ بِهِ أَيْ بِالْحَفْرِ أَوْ بِالْمَحْفُورِ عَلَى الْآمِرِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الضَّمَانُ عَلَى الْأَجِيرِ أَوْ الْمُعَيِّنِ؛ لِأَنَّهُ
وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَ حُرًّا أَوْ اسْتَعَانَ بِهِ وَذَلِكَ مَوْضِعُ إشْكَالٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ فَإِنَّ ضَمَانَ مَا يَعْطَبُ بِهِ عَلَى الْآمِرِ اسْتِحْسَانًا لِمَا قُلْنَا مِنْ صِحَّةِ الْأَمْرِ وَإِذَا كَانَ فِي جَادَّةِ الطَّرِيقِ لَا يُشْكِلُ حَالُهُ بَطَلَ الْأَمْرُ وَاقْتَصَرَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى الْمُبَاشِرِ وَكَذَلِكَ مَنْ قَتَلَ عَبْدَ غَيْرِهِ بِأَمْرِ الْمَوْلَى انْتَقَلَ إلَى الْمَوْلَى نَفْسُ الْقَتْلِ فِي حَقِّ حُكْمِهِ كَأَنَّهُ بَاشَرَهُ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ شُبْهَةٍ بِخِلَافِ مَا إذَا قَتَلَ حُرًّا بِأَمْرِ حُرٍّ آخَرَ فِي أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْمُبَاشِرِ وَالْإِكْرَاهُ صَحِيحٌ بِكُلِّ حَالٍ فَوَجَبَ أَنْ يُنْسَبَ الْفِعْلُ إلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ الَّذِي لَا يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ فَلَا يُوجِبُ النَّقْلَ؛ لِأَنَّهُ يُعْدِمُ الرِّضَا وَلَا يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ وَالْمَشِيئَةَ فَلِذَلِكَ لَمْ يُجْعَلْ آلَةً لَهُ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُجْعَلَ الْفَاعِلُ فِيهِ آلَةً لِغَيْرِهِ فَذَلِكَ مِثْلُ الْأَكْلِ وَالْوَطْءِ وَالزِّنَا؛ لِأَنَّ الْأَكْلَ بِفَمِ غَيْرِهِ لَا يُتَصَوَّرُ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ نَفْسُ الْفِعْلِ مِمَّا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ فِيهِ آلَةً لِغَيْرِهِ صُورَةً إلَّا أَنَّ الْمَحَلَّ غَيْرُ الَّذِي يُلَاقِيهِ الْإِتْلَافُ صُورَةً وَكَانَ ذَلِكَ يَتَبَدَّلُ بِأَنْ يُجْعَلَ آلَةً بَطَلَ ذَلِكَ وَاقْتَصَرَ الْفِعْلُ عَلَى الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ الَّذِي إذَا تَبَدَّلَ كَانَ فِي تَبْدِيلِهِ بُطْلَانُ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ (رَابِعٌ) لَا أَثَرَ لَهُ فِي تَبْدِيلِ الْمَحَالِّ وَفِي تَبْدِيلِ الْمَحَلِّ خِلَافٌ لِلْإِكْرَاهِ وَفِي خِلَافِهِ بُطْلَانُ الْإِكْرَاهِ وَإِذَا بَطَلَ اقْتَصَرَ الْفِعْلُ عَلَى الْفَاعِلِ وَعَادَ الْأَمْرُ إلَى الْمَحَلِّ الْأُولَى وَبَطَلَ التَّبْدِيلُ
ــ
[كشف الأسرار]
بَاشَرَ إحْدَاثَهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَصَاحِبُ الدَّارِ مَمْنُوعٌ عَنْ إحْدَاثِهِ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ أَمْرُهُ فِيمَا لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ بِنَفْسِهِ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْأَجِيرَ يَعْمَلُ لِلْآجِرِ وَلِهَذَا يَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ الْأَجْرَ وَقَدْ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ حِينَ لَمْ يُعْلِمْهُ أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ لَيْسَ فِي مِلْكِهِ أَوْ تَصَرُّفِهِ وَإِنَّمَا حَفَرَ اعْتِمَادًا عَلَى أَمْرِهِ وَعَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِنَائِهِ فَلِدَفْعٍ ضَرَرِ الْغُرُورِ يُنْقَلُ فِعْلُهُمْ إلَى الْآمِرِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ حَفَرَ بِنَفْسِهِ وَإِذَا كَانَ الْحَفْرُ فِي جَادَّةِ الطَّرِيقِ لَا يُشْكِلُ حِلُّهُ أَيْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي فِنَائِهِ بَطَلَ الْأَمْرُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لِلْحَفْرِ بِنَفْسِهِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ أَمْرُهُ لِإِثْبَاتِ صِفَةِ الْحِلِّ بِهِ أَوْ لِدَفْعِ الْغُرُورِ عَنْ الْحَافِرِ وَقَدْ عُدِمَا جَمِيعًا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ أَمْرِهِ فَاقْتَصَرَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى الْمُبَاشِرِ فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَالْحُرِّ الْمُسْتَأْجِرِ مَنْ قَتَلَ عَبْدَ غَيْرِهِ بِأَمْرِ مَوْلَاهُ انْتَقَلَ إلَى الْمَوْلَى نَفْسُ الْقَتْلِ فِي حَقِّ حُكْمِهِ كَأَنَّ الْمَوْلَى بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَنْتَقِلْ فِي حَقِّ الْإِثْمِ حَتَّى لَمْ يَجِبْ ضَمَانٌ وَلَا قَوَدٌ؛ لِأَنَّهُ أَيْ قَتْلَ الْعَبْدِ بِأَمْرِ مَوْلَاهُ مَوْضِعُ شُبْهَةٍ أَيْ اشْتِبَاهٍ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ وَإِنْ كَانَ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِي حَقِّ الدَّمِ وَالْحَيَاةِ فَلَا يَصِحُّ الْأَمْرُ بِقَتْلِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَكِنَّ مَالِيَّتَهُ لِلْمَوْلَى فَيَصِحُّ أَمْرُهُ بِإِتْلَافِهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَمَا يَصِحُّ الْأَمْرُ بِقَتْلِ شَاةٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُ فَيَصِيرُ هَذَا الْوَجْهُ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ وَالضَّمَانِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَتَلَ حُرًّا بِأَمْرِ حُرٍّ آخَرَ يَعْنِي مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ فَإِنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْمُبَاشِرِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَمْ يَصِحَّ بِوَجْهٍ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ فَلَا يَصِيرُ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ وَالضَّمَانِ.
وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْآمِرُ ذَا سَلْطَنَةٍ فَإِنْ كَانَ سُلْطَانًا فَأَمْرُهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِكْرَاهِ إذَا كَانَ الْمَأْمُورُ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ بِمُخَالَفَةِ أَمْرِهِ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْمُتَجَبِّرِينَ التَّرَفُّعَ عَنْ التَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ وَلَكِنَّهُمْ يَأْمُرُونَ ثُمَّ لَا يُعَاقِبُونَ مَنْ خَالَفَ أَمْرَهُمْ إلَّا بِالْقَتْلِ فَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْعَادَةِ كَانَ الْأَمْرُ مِنْ مِثْلِهِ بِمَنْزِلَةِ التَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَالْإِكْرَاهُ صَحِيحٌ كُلَّ حَالٍ يَعْنِي إنَّمَا يُنْسَبُ الْفِعْلُ إلَى الْآمِرِ بِالْأَمْرِ إذَا صَحَّ الْأَمْرُ وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ اقْتَصَرَ عَلَى الْفَاعِلِ كَمَا بَيَّنَّا فَأَمَّا فِي الْإِكْرَاهِ فَيُنْسَبُ الْفِعْلُ إلَى الْمُكْرِهِ إذَا أَمْكَنَ بِكُلِّ حَالٍ سَوَاءٌ أَكْرَهَ حُرًّا عَلَى قَتْلِ عَبْدِهِ أَوْ عَلَى قَتْلِ حُرٍّ آخَرَ وَسَوَاءٌ أَكْرَهَ عَلَى الْحَفْرِ فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ أَوْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ كَجَادَّةِ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ صَحِيحٌ أَيْ مُتَحَقِّقٌ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ فَوَجَبَ نِسْبَةُ الْفِعْلِ إلَى الْمُكْرَهِ.
قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ الَّذِي لَا يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ) كَالْإِكْرَاهِ بِحَبْسٍ أَوْ بِقَيْدٍ أَوْ بِضَرْبٍ لَا يَخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يُوجِبُ نَقْلَ الْفِعْلِ إلَى الْمُكْرِهِ حَتَّى اقْتَصَرَ الضَّمَانُ وَالْقَوَدُ عَلَى الْفَاعِلِ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ إنَّمَا يَصِيرُ كَالْآلَةِ عِنْدَ تَمَامِ الْإِلْجَاءِ لِفَسَادِ الِاخْتِيَارِ بِاعْتِبَارِ خَوْفِ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ وَلَيْسَ فِي التَّهْدِيدِ بِالْحَبْسِ وَالْقَيْدِ مَعْنَى خَوْفِ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ فَبَقِيَ الْفِعْلُ مَقْصُورًا عَلَى الْمُكْرَهِ.
قَوْلُهُ (مِثْلُ الْأَكْلِ وَالْوَطْءِ) الْأَكْلُ يَحْتَمِلُ النِّسْبَةَ إلَى الْمُكْرَهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ أَكَلَ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَصْحَابِنَا حَتَّى لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْأَكْلِ وَهُوَ صَائِمٌ يَفْسُدُ صَوْمُهُ وَلَا يَفْسُدُ صَوْمُ الْمُكْرِهِ لَوْ كَانَ صَائِمًا؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ لَا يَصْلُحُ آلَةً لِلْمُكْرِهِ فِي نَفْسِ الْأَكْلِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْمُكْرَهِ فَأَمَّا نِسْبَتُهُ إلَى الْمُكْرَهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إتْلَافٌ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فَذَكَرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَالْخُلَاصَةِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُكْرَهِ دُونَ الْمُكْرِهِ وَإِنْ كَانَ الْمُكْرَهُ يَصْلُحُ آلَةً لَهُ مِنْ حَيْثُ الْإِتْلَافُ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْأَكْلِ هَاهُنَا حَصَلَتْ لِلْمُكْرَهِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ.
كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الزِّنَا لَا يَجِبُ الْحَدُّ وَيَجِبُ الْعُقْرُ عَلَى الزَّانِي وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْوَطْءِ حَصَلَتْ لَهُ بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِعْتَاقِ حَيْثُ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ مَالِيَّةَ الْعَبْدِ تَلِفَتْ بِالْإِكْرَاهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَحْصُلَ الْمَنْفَعَةُ لِلْمُكْرَهِ، وَذَكَرَ صَاحِبُ
وَذَلِكَ مِثْلُ إكْرَاهِ الْمُحْرِمِ عَلَى قَتْلِ الصَّيْدِ أَوْ إكْرَاهِ الْحَلَالِ عَلَى قَتْلِ صَيْدِ الْحَرَمِ أَنَّ ذَلِكَ الْقَتْلَ يَقْتَصِرُ عَلَى الْفَاعِلِ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ إنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى أَنْ يَجْنِيَ عَلَى إحْرَامِ نَفْسِهِ أَوْ عَلَى دِينِ نَفْسِهِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ آلَةً لِغَيْرِهِ وَلَوْ جُعِلَ آلَةً لَتَبَدَّلَ مَحَلُّ الْجِنَايَةِ فَيَصِيرُ مَحَلُّ الْجِنَايَةِ إحْرَامَ الْمُكْرَهِ وَدِينِهِ
ــ
[كشف الأسرار]
الْمُحِيطِ فِي التَّتِمَّةِ أَنَّهُ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِ طَعَامِ نَفْسِهِ فَأَكَلَ إنْ كَانَ جَائِعًا لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرَهِ بِشَيْءٍ وَإِنْ كَانَ شَبْعَانَ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ حَصَلَتْ مَنْفَعَةُ الْأَكْلِ لِلْمُكْرَهِ وَلَمْ يَحْصُلْ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي.
قَالَ وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِ طَعَامِ الْغَيْرِ فَأَكَلَ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُكْرِهِ لَا عَلَى الْمُكْرَهِ وَإِنْ كَانَ الْمُكْرَهُ جَائِعًا وَحَصَلَ لَهُ مَنْفَعَةُ الْأَكْلِ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ أَكَلَ طَعَامَ الْمُكْرِهِ بِإِذْنِهِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْأَكْلِ إكْرَاهٌ عَلَى الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْأَكْلُ بِدُونِ الْقَبْضِ فِي الْغَالِبِ وَكَمَا قَبَضَ الْمُكْرِهُ الطَّعَامَ صَارَ قَبْضُهُ مَنْقُولًا إلَى الْمُكْرَهِ فَكَأَنَّ الْمُكْرِهَ قَبَضَهُ بِنَفْسِهِ وَقَالَ لَهُ كُلْ وَلَوْ قَبَضَ بِنَفْسِهِ صَارَ غَاصِبًا ثُمَّ مَالِكًا لِلطَّعَامِ بِالضَّمَانِ ثُمَّ أَذِنَ لَهُ بِالْأَكْلِ وَهُنَاكَ لَا يَضْمَنُ الْآكِلُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ أَكَلَ طَعَامَ الْغَاصِبِ بِإِذْنِهِ كَذَا هَاهُنَا وَفِي طَعَامِ نَفْسِهِ لَمْ يَصِرْ آكِلًا طَعَامَ الْمُكْرِهِ بِإِذْنِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْمُكْرَهُ غَاصِبًا لِلطَّعَامِ قَبْلَ الْأَكْلِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ لَا يَجِبُ إلَّا بِإِزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ وَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِزَالَةُ مَا دَامَ الطَّعَامُ فِي يَدِهِ أَوْ فَمِهِ فَتَعَذَّرَ إيجَابُ ضَمَانِ الْغَصْبِ قَبْلَ الْأَكْلِ فَلَا يَصِيرُ الطَّعَامُ مِلْكًا لَهُ قَبْلَ الْأَكْلِ وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ سَبَبُ الضَّمَانِ صَارَ آكِلًا طَعَامَ نَفْسِهِ لَا طَعَامَ الْمُكْرِهِ إلَّا أَنَّ الْمُكْرَهَ مَتَى كَانَ شَبْعَانَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَنْفَعَةُ الْأَكْلِ فَكَانَ هَذَا إكْرَاهًا عَلَى إتْلَافِ مَالِهِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ كُلِّهِ مِنْ التَّتِمَّةِ وَكَذَلِكَ أَيْ وَمِثْلُ الْقِسْمِ الَّذِي لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الْمُكْرَهُ آلَةً فِي أَنَّ الْحُكْمَ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ كَوْنُ الْفِعْلِ مِمَّا يُتَصَوَّرُ إلَى آخِرِهِ إلَّا أَنَّ الْمَحَلَّ أَيْ مَحَلَّ الْإِكْرَاهِ وَكَانَ ذَلِكَ أَيْ مَحَلُّ الْإِكْرَاهِ بَطَلَ ذَلِكَ أَيْ جَعْلُهُ آلَةً وَفِي تَبْدِيلِ الْمَحَلِّ أَيْ مَحَلِّ الْإِكْرَاهِ خِلَافُ الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَكْرَهَهُ عَلَى إيقَاعِ فِعْلٍ فِي مَحَلٍّ كَانَ إيقَاعُهُ فِي مَحَلٍّ آخَرَ مُخَالَفَةً لَهُ ضَرُورَةً.
قَوْلُهُ (وَذَلِكَ) أَيْ مِثَالُ هَذَا الْفَصْلِ إكْرَاهُ الْمُحْرِمِ عَلَى قَتْلِ الصَّيْدِ وَإِكْرَاهُ الْحَلَالِ عَلَى قَتْلِ صَيْدِ الْحَرَمِ أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَصِرُ عَلَى الْفَاعِلِ يَعْنِي فِي حَقِّ الْإِثْمِ وَالْجَزَاءِ جَمِيعًا فِي مَسْأَلَةِ الْمُحْرِمِ وَفِي حَقِّ الْإِثْمِ دُونَ الْجَزَاءِ فِي حَقِّ الْحَلَالِ. فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَلَوْ أَنَّ مُحْرِمًا قِيلَ لَهُ لَنَقْتُلَنَّكَ أَوْ لَتَقْتُلَنَّ هَذَا الصَّيْدَ فَقَتَلَهُ لَا شَيْءَ عَلَى الَّذِي أَمَرَهُ؛ لِأَنَّهُ حَلَالٌ لَوْ بَاشَرَ قَبْلَ الصَّيْدِ بِيَدِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ فَكَذَا إذَا أَكْرَهَ غَيْرُهُ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَأْمُورِ فِي الْقِيَاسِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ صَارَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ بِالْإِلْجَاءِ التَّامِّ فَيَنْعَدِمُ الْفِعْلُ فِي جَانِبِهِ.
أَلَا يُرَى أَنَّ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ لَا يَكُونُ الْمُكْرَهُ ضَامِنًا شَيْئًا لِهَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ لَا يَسَعُهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْقَتْلِ فَفِي قَتْلِ الصَّيْدِ أَوْلَى وَفِي الِاسْتِحْسَانِ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ؛ لِأَنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ مِنْهُ جِنَايَةٌ عَلَى إحْرَامِهِ وَهُوَ بِالْجِنَايَةِ عَلَى إحْرَامِ نَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لِغَيْرِهِ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ إذْ لَا يُمْكِنُ لِلْمُكْرَهِ أَنْ يَجْنِيَ عَلَى إحْرَامِ الْغَيْرِ بِنَفْسِهِ فَكَذَلِكَ بِالْإِكْرَاهِ وَلَمَّا لَمْ تَجِبْ الْكَفَّارَةُ هَاهُنَا عَلَى الْآمِرِ لَا بُدَّ مِنْ إيجَابِهَا عَلَى الْمَأْمُورِ إذَا لَوْ لَمْ تَجِبْ كَانَ تَأْثِيرُ الْإِكْرَاهِ فِي الْإِهْدَارِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلْإِكْرَاهِ فِي الْإِهْدَارِ وَإِنْ كَانَا مُحْرِمَيْنِ جَمِيعًا فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفَّارَةٌ.
وَأَمَّا عَلَى الْمُكْرَهِ فَلِمَا بَيَّنَّاهُ وَأَمَّا عَلَى الْمُكْرَهِ فَلِأَنَّهُ لَوْ بَاشَرَ قَتْلَ الصَّيْدِ بِيَدِهِ يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ فَكَذَا إذَا بَاشَرَ بِالْإِكْرَاهِ وَلَا حَاجَةَ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ هَاهُنَا إلَى نِسْبَةِ أَصْلِ الْفِعْلِ إلَى الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِالدَّلَالَةِ وَالْإِشَارَةِ وَإِنْ لَمْ يَصِرْ أَصْلُ الْفِعْلِ مَنْسُوبًا إلَيْهِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا.
وَبِهِ فَارَقَ كَفَّارَةَ الْقَتْلِ إذَا كَانَ خَطَأً فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى الْمُكْرَهِ دُونَ الْمُكْرِهِ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الدِّيَةِ وَالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ إلَّا بِمُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ وَمِنْ ضَرُورَةِ نِسْبَةِ الْمُبَاشَرَةِ إلَى الْمُكْرِهِ أَنْ لَا يَبْقَى فِعْلٌ فِي جَانِبِ الْمُكْرَهِ وَهَاهُنَا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ لَا يَعْتَمِدُ مُبَاشَرَةَ الْقَتْلِ فَيَجُوزُ إيجَابُهَا عَلَى الْمُكْرَهِ بِالْمُبَاشَرَةِ وَعَلَى الْمُكْرِهِ بِالتَّسْبِيبِ.
وَلِأَنَّ السَّبَبَ هَاهُنَا الْجِنَايَةُ عَلَى الْإِحْرَامِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَانٍ عَلَى إحْرَامِ نَفْسِهِ فَأَمَّا السَّبَبُ هُنَاكَ فَهُوَ الْجِنَايَةُ عَلَى
وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الْقَتْلِ يَأْثَمُ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُوجِبُ الْمَأْثَمَ جِنَايَةٌ عَلَى دِينِ الْقَاتِلِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ آلَةً فَصَارَ مَحَلُّ الْجِنَايَةِ دِينُ الْمُكْرَهِ لَوْ جُعِلَ آلَةً فَصَارَهُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ الْمُكْرِهُ فَاعِلًا وَصَارَ الْمُكْرَهُ فِي حَقِّ الْمَأْثَمِ فَاعِلًا فَقِيلَ لَهُ لَا تَفْعَلُ وَصَارَ الْمُكْرَهُ آثِمًا؛ لِأَنَّهُ اخْتَارَ مَوْتَهُ وَحَقَّقَهُ بِمَا فِي وُسْعِهِ فَلَحِقَهُ الْمَأْثَمُ وَالْمَأْثَمُ يَعْتَمِدُ عَزَائِمَ الْقُلُوبِ إذَا اتَّصَلَتْ بِالْفِعْلِ وَلِهَذَا قُلْنَا فِي الْمُكْرَهِ عَلَى الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ أَنَّ تَسْلِيمَهُ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فِعْلًا؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ تَصَرُّفٌ فِي الْبَيْعِ وَإِنَّمَا أُكْرِهَ لِيَتَصَرَّفَ فِي بَيْعِ نَفْسِهِ بِالْإِتْمَامِ وَهُوَ فِيهِ لَا يَصْلُحُ آلَةً وَلَوْ جُعِلَ آلَةً لَتَبَدَّلَ الْمَحَلُّ وَلَتَبَدَّلَ دَأْبُ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَصِيرُ غَصْبًا مَحْضًا وَقَدْ نَسَبْنَاهُ إلَى الْمُكْرَهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ غَصْبٌ
ــ
[كشف الأسرار]
الْمَحَلِّ وَالْمَحَلُّ وَاحِدٌ فَإِذَا أَوْجَبْنَا الْكَفَّارَةَ بِاعْتِبَارِهِ عَلَى الْمُكْرَهِ قُلْنَا لَا تَجِبُ عَلَى الْمُكْرِهِ.
وَلَوْ تَوَعَّدَهُ بِالْحَبْسِ وَهُمَا مُحْرِمَانِ فَفِي الْقِيَاسِ الْجَزَاءُ عَلَى الْقَاتِلِ دُونَ الْآمِرِ؛ لِأَنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ فِعْلٌ وَلَا أَثَرَ لِلْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ فِي الْأَفْعَالِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الْجَزَاءُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَّا عَلَى الْقَاتِلِ فَلَا يُشْكِلُ وَأَمَّا عَلَى الْمُكْرِهِ فَلِأَنَّ تَأْثِيرَ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ أَكْثَرُ مِنْ تَأْثِيرِ الدَّلَالَةِ وَالْإِشَارَةِ وَيَجِبُ الْجَزَاءُ بِهِمَا فَبِالْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ أَوْلَى وَلَوْ كَانَا حَلَالَيْنِ فِي الْحَرَمِ وَقَدْ تَوَعَّدَهُ بِقَتْلٍ كَانَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْجَزَاءَ فِي حُكْمِ ضَمَانِ الْمَالِ وَلِهَذَا لَا يَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ وَلَا يَجِبُ بِالدَّلَالَةِ وَلَا يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْفَاعِلِينَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ بِاعْتِبَارِ حُرْمَةِ الْمَحَلِّ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الْمَالِ وَبِمَنْزِلَةِ الْكَفَّارَةِ فِي قَتْلِ الْآدَمِيِّ خَطَأً فَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْفَاعِلِ فِي قَتْلِ صَيْدِ الْحَرَمِ الِاقْتِصَارُ فِي حَقِّ الْإِثْمِ دُونَ الْجَزَاءِ عَلَى إحْرَامِ نَفْسِهِ أَيْ فِي صُورَةِ الْمُحْرِمِ أَوْ عَلَى دَيْنِ نَفْسِهِ أَيْ فِي صُورَةِ الْحَلَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لِلصَّيْدِ فِي نَفْسِهِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْحَلَالَ لَوْ اصْطَادَ يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ أَكْلُهُ إذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ صُنْعٌ مِنْ الْإِشَارَةِ وَنَحْوِهَا.
وَكَذَا الصَّيْدُ إذَا خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ يَحِلُّ اصْطِيَادُهُ فَكَانَ مَحَلُّ الْجِنَايَةِ هُوَ الْإِحْرَامُ أَوْ الدَّيْنُ فِي الْحَقِيقَةِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ أَيْ الْجِنَايَةُ عَلَى الْإِحْرَامِ أَوْ عَلَى الدَّيْنِ لَا يَصْلُحُ آلَةً لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْمُكْرِهُ وَلَوْ جُعِلَ آلَةً يَعْنِي مَعَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ آلَةً لَوْ جُعِلَ آلَةً لَتَبَدَّلَ مَحَلُّ الْجِنَايَةِ فَيَصِيرُ مَحَلُّ الْجِنَايَةِ إحْرَامَ الْمُكْرَهِ لَوْ كَانَ مُحْرِمًا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَدَيْنَهُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي وَفِي ذَلِكَ بُطْلَانُ الْإِكْرَاهِ.
قَوْلُهُ (وَلِهَذَا قُلْنَا) أَيْ وَلِأَنَّ مَحَلَّ الْجِنَايَةِ إذَا تَبَدَّلَ بِالنِّسْبَةِ يَقْتَصِرُ الْفِعْلُ عَلَى الْفَاعِلِ قُلْنَا إنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الْقَتْلِ يَأْثَمُ إثْمَ الْقَتْلِ وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ مِمَّا يَصْلُحُ الْفَاعِلُ فِيهِ آلَةً لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُوجِبُ الْمَأْثَمَ جِنَايَةٌ عَلَى دَيْنِ الْقَتْلِ وَالْمُكْرَهُ فِي ذَلِكَ أَيْ فِي الْإِثْمِ لَا يَصْلُحُ آلَةً لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الدَّيْنِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لِغَيْرِهِ إذْ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَكْتَسِبَ الْإِثْمَ عَلَى غَيْرِهِ وَلَوْ جَعَلْنَا الْمُكْرَهَ آلَةً كَانَتْ الْجِنَايَةُ وَاقِعَةً عَلَى دَيْنِ الْمُكْرَهِ وَأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ فَتَبَيَّنَ أَنَّا لَوْ أَخْرَجْنَا الْمُكْرَهَ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا فِي حَقِّ الْإِثْمِ لَتَبَدَّلَ بِهِ مَحَلُّ الْجِنَايَةِ فَصَارَ فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَهُوَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ وَحِرْمَانِ الْإِرْثِ الْمُكْرَهُ فَاعِلًا بِنِسْبَةِ الْفِعْلِ إلَيْهِ يُجْعَلُ الْمُكْرَهُ آلَةً لَهُ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَبَدُّلُ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ وَصَارَ الْمُكْرَهُ فِي حَقِّ الْمَأْثَمِ فَاعِلًا لِتَعَذُّرِ النِّسْبَةِ إلَى الْمُكْرَهِ بِلُزُومِ تَبَدُّلِ الْمَحَلِّ فَقِيلَ لَهُ أَيْ لِلْمُكْرَهِ لَا تَفْعَلْ يَعْنِي لَمَّا بَقِيَ فَاعِلًا صَحَّ أَنْ يُنْهَى عَنْهُ شَرْعًا وَيَلْحَقُهُ الْإِثْمُ بِالْمُبَاشَرَةِ ثُمَّ بَيَّنَ جِهَةَ تَأْثِيمِهِ فَقَالَ وَصَارَ الْمُكْرَهُ آثِمًا؛ لِأَنَّهُ اخْتَارَ مَوْتَ الْمَقْتُولِ وَحَقَّقَ مَوْتَهُ بِمَا فِي وُسْعِهِ وَهُوَ الْجُرْحُ الصَّالِحُ لِزَهُوقِ الرُّوحِ وَآثَرَ رُوحَ نَفْسِهِ عَلَى مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي الْحُرْمَةِ وَأَطَاعَ الْمَخْلُوقَ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى نَهَاهُ عَنْ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ وَقَصَدَ ذَلِكَ وَحَقَّقَهُ بِالْفِعْلِ وَالْقَصْدُ عَمَلُ الْقَلْبِ وَهُوَ لَمْ يَصْلُحْ فِيهِ آلَةً لِغَيْرِهِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَقْصِدَ الْإِنْسَانُ تَقَلُّبَ غَيْرِهِ كَمَا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِلِسَانِ غَيْرِهِ فَلِهَذَا بَقِيَ الْإِثْمُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ إذَا اتَّصَلَتْ بِالْفِعْلِ إشَارَةٌ إلَى مَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ.
قَوْلُهُ (وَلِهَذَا قُلْنَا) أَيْ وَلَمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ عِنْدَ تَبَدُّلِ الْمَحَلِّ يَقْتَصِرُ الْفِعْلُ عَلَى الْفَاعِلِ قُلْنَا كَذَا إذَا بَاعَ مُكْرَهًا وَسَلَّمَ مُكْرَهًا مَلَكَهُ الْمُشْتَرِي مِلْكًا فَاسِدًا حَتَّى نَفَذَ فِيهِ إعْتَاقُهُ وَتَدْبِيرُهُ وَاسْتِيلَادُهُ عِنْدَنَا.
وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله لَا يَمْلِكُهُ وَلَوْ سَلَّمَ طَائِعًا يَنْفُذُ الْبَيْعُ وَيَقَعُ الْمِلْكُ بِهِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ إجَازَةً لِلْبَيْعِ دَلَالَةً بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْهِبَةِ فَوَهَبَ وَسَلَّمَ طَائِعًا حَيْثُ لَا يَكُونُ إجَازَةً؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْهِبَةِ إكْرَاهٌ عَلَى التَّسْلِيمِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّا حَكَمْنَا بِانْعِقَادِ بَيْعِ الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ فِيهِ آلَةً لِغَيْرِهِ فَيَبْقَى مَقْصُورًا عَلَيْهِ فَأَمَّا التَّسْلِيمُ فَأَمْرٌ حِسِّيٌّ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الْمُكْرَهُ فِيهِ آلَةً لِلْمُكْرَهِ فَيَنْتَقِلُ إلَيْهِ وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ الَّذِي هُوَ مِنْ أَحْكَامِ التَّسْلِيمِ وَإِذَا انْتَقَلَ
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ صِرْنَا إلَيْهِ اسْتَقَامَ ذَلِكَ فِيمَا يَعْقِلُ وَلَا يُحِسُّ قُلْنَا إنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الْإِعْتَاقِ بِمَا فِيهِ إلْجَاءٌ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ وَمَعْنَى الْإِتْلَافِ مِنْهُ مَنْقُولٌ إلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ فَصْلٍ فِي الْجُمْلَةِ يَحْتَمِلُ لِلنَّقْلِ بِأَصْلِهِ.
وَأَمَّا بَيَانُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقْسِيمِ الْحُرُمَاتِ
ــ
[كشف الأسرار]
إلَيْهِ صَارَ كَأَنَّهُ سَلَّمَ بِنَفْسِهِ مَالَ الْمُكْرَهِ إلَى الْمُشْتَرِي فَلَا يَقَعُ بِهِ الْمِلْكُ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَقَعُ بِهَذَا التَّسْلِيمِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ وَهَبَهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ أَوْ بَاعَهُ تُفْسَخُ عَلَيْهِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ وَلَوْ وَقَعَ الْمِلْكُ بِهَذَا التَّسْلِيمِ لَكَانَ لَا تُفْسَخُ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَلَنَا أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ مُنْعَقِدٌ بِصِفَةِ الْفَسَادِ فَيُوجِبُ الْمِلْكَ عِنْدَ اتِّصَالِ الْقَبْضِ كَسَائِرِ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ أَمَّا الِانْعِقَادُ فَلِمُسَاعِدَةِ الْخَصْمِ عَلَيْهِ فَلِهَذَا لَوْ أَجَازَ أَوْ سَلَّمَ طَائِعًا يَنْفُذُ.
وَأَمَّا الْفَسَادُ فَلِفَوَاتِ شَرْطِهِ وَهُوَ الرِّضَا فَإِنَّ فَوَاتَ الشَّرْطِ يُوجِبُ الْفَسَادَ فِي الْبَيْعِ كَفَوَاتِ شَرْطِ الْمُسَاوَاةِ فِي بَدَلَيْ الرِّبَا يُوجِبُ الْفَسَادَ دُونَ الْبُطْلَانِ وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ يُفِيدُ الْمِلْكَ وَقَدْ وُجِدَ فَإِنَّ التَّسْلِيمَ قَدْ تَحَقَّقَ مِنْ الْبَائِعِ وَلَمْ يَنْتَقِلْ إلَى الْمُكْرَهِ بِالْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ مِنْ الْبَائِعِ مُتَمِّمٌ سَبَبَ الْمِلْكِ وَلِهَذَا كَانَ لَهُ شُبْهَةٌ بِابْتِدَاءِ الْعَقْدِ عَلَى مَا عُرِفَ وَقَدْ أَكْرَهَهُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي بَيْعِ نَفْسِهِ بِالْإِتْمَامِ وَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا يَصْلُحُ آلَةً لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُكْرِهَ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَمْلِيكِ مَالِ الْغَيْرِ وَإِتْمَامِ تَصَرُّفِهِ لِيُجْعَلَ الْمُكْرَهُ آلَةً لَهُ فِيهِ وَلَوْ جُعِلَ آلَةً لَتَبَدَّلَ الْمَحَلُّ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ حِينَئِذٍ تَصَرُّفًا فِي الْمَغْصُوبِ وَقَدْ أَمَرَ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ وَلَتَبَدَّلَ ذَاتُ الْفِعْلِ فَأَنَّا لَوْ خَرَّجْنَا هَذَا التَّسْلِيمَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَمِّمًا لِلْعَقْدِ جَعَلْنَاهُ غَصْبًا مَحْضًا ابْتِدَاءً بِنِسْبَتِهِ إلَى الْمُكْرَهِ وَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَبَدَّلَ مَحَلُّ الْفِعْلِ بِالْإِكْرَاهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَتَبَدَّلَ ذَاتُهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ بَقِيَ التَّسْلِيمُ مُقْتَصِرًا عَلَى الْبَائِعِ فَيَحْصُلُ الْمِلْكُ بِهِ لِلْمُشْتَرِي كَمَا لَوْ سَلَّمَ طَائِعًا وَقَدْ نَسَبْنَاهُ إلَى الْمُكْرَهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ غَصْبٌ يَعْنِي أَنَّ هَذَا التَّسْلِيمَ مُتَمِّمٌ لِلتَّصَرُّفِ مِنْ وَجْهٍ وَمُفَوِّتٌ يَدَ الْمَالِكِ مِنْ وَجْهٍ فَجَعَلْنَاهُ مُقْتَصِرًا عَلَى الْبَائِعِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إتْمَامٌ لِلْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ آلَةً لِلْغَيْرِ فِيهِ وَنَسَبْنَاهُ إلَى الْمُكْرَهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ غَصْبٌ؛ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ آلَةً لَهُ فِيهِ فَيَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَيْهِ فَأَمَّا أَنْ يَجْعَلَهُ غَصْبًا مَحْضًا حَتَّى لَا يَنْفُذَ إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي أَوْ تَسْلِيمًا مَحْضًا حَتَّى لَا يَكُونَ لِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُكْرَهِ بِالضَّمَانِ فَلَا.
ثُمَّ هُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُكْرَهَ قِيمَتَهُ يَوْمَ سَلَّمَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تُفْسَخُ التَّصَرُّفَاتُ هَاهُنَا وَفِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لَا تُفْسَخُ فَهُوَ أَنَّ الْقَبْضَ مَعَ كَوْنِ الْبَيْعِ فَاسِدًا حَصَلَ بِغَيْرِ رِضَا الْبَائِعِ وَفِي الْبَيْعِ الْجَائِزِ لَوْ حَصَلَ الْقَبْضُ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ بِدُونِ رِضَا الْبَائِعِ وَتَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي فِيهِ تَصَرُّفًا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ يُفْسَخُ فَفِي الْفَاسِدِ أَوْلَى وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وُجُوبَ الْفَسْخِ لِحَقِّ الشَّرْعِ فَإِذَا بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِهِ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْعَبْدِ فَإِذَا اجْتَمَعَ الْحَقَّانِ يُرَجَّحُ حَقُّ الْعَبْدِ عَلَى حَقِّ الشَّرْعِ إذْ الْأَصْلُ هُوَ تَرْجِيحُ حَقِّ الْعَبْدِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْحَقَّيْنِ لِحَاجَةِ الْعَبْدِ وَغِنَاءِ الشَّرْعِ فَبَطَلَ حَقُّ الْفَسْخِ فَأَمَّا هَاهُنَا فَحَقُّ الْفَسْخِ لِحَقِّ الْبَائِعِ وَإِذَا بَاعَهُ مِنْ غَيْرِهِ وَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُشْتَرِي أَيْضًا فَتَرَجَّحَ حَقُّ الْبَائِعِ لِكَوْنِهِ أَسْبَقَ فَبَقِيَتْ لَهُ وِلَايَةُ الْفَسْخِ إذَا كَانَ التَّصَرُّفُ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ وَكَذَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وُجِدَ التَّصَرُّفُ مِنْ الْمُشْتَرِي بِتَسْلِيطٍ صَحِيحٍ مِنْ الْبَائِعِ إيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ التَّصَرُّفِ وَلَمْ يُوجَدْ التَّسْلِيطُ هَاهُنَا وَلَوْ وُجِدَ فَهُوَ تَسْلِيطٌ فَاسِدٌ فَافْتَرَقَا (قَوْلُهُ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ) أَيْ انْتِقَالُ الْفِعْلِ مِنْ الْمُكْرَهِ إلَى الْمُكْرِهِ يَعْنِي نِسْبَتُهُ إلَيْهِ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ صِرْنَا إلَيْهِ فِي إتْلَافِ النَّفْسِ وَالْمَالِ لَا حِسِّيٌّ اسْتَقَامَ ذَلِكَ الِانْتِقَالُ فِيمَا يُعْقَلُ وَلَا يُحَسُّ أَيْ فِيمَا يَعْقِلُ وُجُودُهُ مِنْ الْمُكْرَهِ وَلَا يُحَسُّ وُجُودُهُ مِنْهُ يَعْنِي مِنْ شَرْطِ هَذِهِ النِّسْبَةِ أَنْ يَتَصَوَّرَ ذَلِكَ الْفِعْلَ مِنْ الْمُكْرَهِ وَلَكِنْ لَا يُوجَدُ مِنْهُ حِسًّا إذْ لَوْ لَمْ يُتَصَوَّرْ وُجُودُهُ مِنْهُ لَا يَسْتَقِيمُ النِّسْبَةُ إلَيْهِ أَصْلًا وَلَوْ تَصَوَّرَ وُجُودَهُ مِنْهُ وَوُجِدَ مِنْهُ حِسًّا كَانَتْ النِّسْبَةُ حَقِيقِيَّةً لَا حُكْمِيَّةً.
فَقُلْنَا إنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الْإِعْتَاقِ بِمَا فِيهِ الْإِلْجَاءُ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ حَتَّى كَانَ الْوَلَاءُ لَهُ؛ لِأَنَّ التَّكَلُّمَ بِالْإِعْتَاقِ أَعْنِي التَّكَلُّمَ بِمَا يُوجِبُ عِتْقَ هَذَا الْعَبْدِ لَا يُعْقَلُ وَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ لِلْعَبْدِ وَالْإِعْتَاقُ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ لَا يُتَصَوَّرُ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ بِأَنْ يُجْعَلَ الْمُكْرَهَ آلَةً لَهُ فِيهِ
وَمَعْنَى الْإِتْلَافِ مِنْهُ أَيْ مِنْ هَذَا الْإِعْتَاقِ مَنْقُولٌ إلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ أَيْ هَذَا الْإِعْتَاقُ
فَإِنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ هُوَ الزِّنَا بِالْمَرْأَةِ وَالْقَتْلِ وَالْجُرْحِ لَا يَحِلُّ ذَلِكَ بِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ وَلَا يُرَخَّصُ فِيهِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الرُّخْصَةِ خَوْفُ التَّلَفِ وَالْمُكْرِهُ وَالْمُكْرَهُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ فَسَقَطَ الْإِكْرَاهُ فِي حَقِّ تَنَاوُلِ دَمِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ لِلتَّعَارُضِ وَفِي الزِّنَا فَسَادُ الْفِرَاشِ وَضَيَاعُ النَّسْلِ وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْقَتْلِ أَيْضًا حَتَّى إنَّ مَنْ قِيلَ لَهُ لَنَقْتُلَنَّكَ أَوْ لَنَقْطَعَنَّ يَدَك حَلَّ لَهُ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ نَفْسِهِ فَوْقَ حُرْمَةِ يَدِهِ عِنْدَ التَّعَارُضِ وَيَدُ غَيْرِهِ وَنَفْسِهِ سَوَاءٌ وَالْحُرْمَةُ الَّتِي تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ أَصْلًا هِيَ حُرْمَةُ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ الْمُلْجِئَ
ــ
[كشف الأسرار]
يَتَضَمَّنُ إتْلَافَ مَالِيَّةِ الْعَبْدِ مَعْنًى فَيُنْقَلُ ذَلِكَ الْإِتْلَافُ الْمَعْنَوِيُّ إلَى الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْإِتْلَافُ حِسًّا فَيُمْكِنُ نِسْبَتُهُ إلَيْهِ بِجَعْلِ الْمُكْرَهِ آلَةً لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَيْ الْإِتْلَافَ مُنْفَصِلٌ عَنْ الْإِعْتَاقِ فِي الْجُمْلَةِ لِتَحَقُّقِهِ بِالْقَتْلِ بِلَا إعْتَاقٍ مُحْتَمِلٍ لِلنَّقْلِ إلَى الْمُكْرَهِ بِأَصْلِهِ لِتَصَوُّرِهِ مِنْ الْمُكْرَهِ ابْتِدَاءً كَمَا بَيَّنَّا فَلِذَلِكَ يَرْجِعُ الْمُكْرِهُ عَلَى الْمُكْرَهِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ مُوسِرًا كَانَ الْمُكْرَهُ أَوْ مُعْسِرًا؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْإِتْلَافِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْإِيسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَيَجُوزُ أَنْ يَجِبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ وَيَثْبُتُ الْوَلَاءُ لِلْغَيْرِ كَمَا فِي الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ عَلَى الْعِتْقِ فَإِنَّ الضَّمَانَ عَلَى الشَّاهِدِ وَالْوَلَاءِ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ
وَهَذَا لِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فَلَا يَمْنَعُ ثُبُوتُهُ لِلْغَيْرِ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ؛ وَلَا سِعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ لِأَحَدٍ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ نَفَذَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ مَالِكِهِ وَلَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِي مَالِهِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا الْمُحْرِمَ إذَا قَتَلَ الصَّيْدَ حَيْثُ لَا يَثْبُتُ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُكْرَهِ بِالضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ ضَمَانًا يُفْتَى بِهِ وَلَا يُقْضَى بِهِ فَلَوْ رَجَعَ بِضَمَانٍ يُقْضَى بِهِ وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ ضَمَانَ الْعُدْوَانِ مُقَدَّرٌ بِالْمِثْلِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا أَتْلَفَ.
قَوْلُهُ (فَإِنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ) وَهُوَ الْحُرْمَةُ الَّتِي لَا تَنْكَشِفُ وَلَا تَحْتَمِلُ الرُّخْصَةَ هُوَ كَالزِّنَاءِ بِالْمَرْأَةِ قُيِّدَ بِالْمَرْأَةِ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ زِنَا الرَّجُلِ فَإِنَّ زِنَا الْمَرْأَةِ يَحْتَمِلُ الرُّخْصَةَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ
لَا يَحِلُّ ذَلِكَ أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ بِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ كَمَا يَحِلُّ شُرْبُ الْخَمْرِ وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ بِهِ وَلَا يُرَخَّصُ فِيهِ مَعَ بَقَاءِ الْحُرْمَةِ كَمَا رُخِّصَ فِي إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ مَعَ الْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ ثُبُوتِ الرُّخْصَةِ خَوْفُ التَّلَفِ فَإِنَّهُ إذَا خَافَ تَلَفَ النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ جَازَ لَهُ التَّرَخُّصُ بِالْمُحَرَّمِ وَصِيَانَةً لِلنَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ عَنْ التَّلَفِ
وَالْمُكْرَهُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْمُكْرَهُ عَلَيْهِ بِفَتْحِهَا أَيْضًا وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْقَتْلِ فِي ذَلِكَ أَيْ فِي اسْتِحْقَاقِ الصِّيَانَةِ عِنْدَ خَوْفِ التَّلَفِ سَوَاءٌ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَبْذُلَ نَفْسَ غَيْرِهِ لِصِيَانَةِ نَفْسِهِ فَسَقَطَ الْإِكْرَاهُ فِي حَقِّ تَنَاوُلِ دَمِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ لِلتَّعَارُضِ أَيْ صَارَ الْإِكْرَاهُ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ فِي حَقِّ إبَاحَةِ قَتْلِ الْمَقْصُودِ بِالْقَتْلِ وَالتَّرَخُّصِ بِهِ لِتَعَارُضِ الْحُرْمَتَيْنِ فَإِنَّ التَّرَخُّصَ لَوْ ثَبَتَ بِالْإِكْرَاهِ لِصِيَانَةِ حُرْمَةِ نَفْسِ الْمُكْرَهِ مَنَعَ ثُبُوتُهُ وُجُوبَ صِيَانَةِ حُرْمَةِ نَفْسِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِثْلُهُ فِي اسْتِحْقَاقِ الصِّيَانَةِ فَلَا يَثْبُتُ لِلتَّعَارُضِ
وَفِي الزِّنَا فَسَادُ الْفِرَاشِ إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَنْكُوحَةَ الْغَيْرِ وَضَيَاعُ النَّسْلِ إنْ لَمْ تَكُنْ وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْقَتْلِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ لَمَّا انْقَطَعَ عَنْ الزَّانِي لَا يُمْكِنُ إيجَابُ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ وَلَمْ تَكُنْ لِلْمَرْأَةِ قُوَّةُ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْوَلَدِ لِعَجْزِهَا عَنْ الْكَسْبِ فَيَهْلِكُ الْوَلَدُ ضَرُورَةً فَكَانَ الزِّنَا بِمَنْزِلَةِ الْإِهْلَاكِ حُكْمًا فَلَا يَثْبُتُ التَّرْخِيصُ فِيهِ بِالْإِكْرَاهِ لِلتَّعَارُضِ أَيْضًا قِيلَ فَإِنَّ أُلْحِقَ الزِّنَا بِالْقَتْلِ فِيمَا إذَا لَمْ تَكُنْ الْمَرْأَةُ ذَاتَ زَوْجٍ مُسَلَّمٍ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مَنْكُوحَةً فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ حِينَئِذٍ يُنْسَبُ إلَى الْفِرَاشِ وَإِنْ خُلِقَ مِنْ الزِّنَا لِقَوْلِهِ عليه السلام «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَتْ نَفَقَةُ الْوَلَدِ وَتَرْبِيَتُهُ عَلَى صَاحِبِ الْفِرَاشِ فَلَا يَكُونُ الزِّنَا إهْلَاكًا.
قُلْنَا الْأَصْلُ أَنْ يُنْسَبَ الْوَلَدُ إلَى مَنْ خُلِقَ مِنْ مَائِهِ وَتَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ جُزْؤُهُ فَلَمَّا انْقَطَعَ النَّسَبُ عَنْ الزَّانِي كَانَ إهْلَاكًا حُكْمًا بِالنَّظَرِ إلَى الْأَصْلِ وَقَدْ يَنْفِي صَاحِبُ الْفِرَاشِ نَسَبَ مِثْلِ هَذَا الْوَلَدِ عَنْ نَفْسِهِ عَادَةً فَيُؤَدِّي إلَى الْهَلَاكِ أَيْضًا وَقَوْلُهُ حَتَّى إنَّ مَنْ قَتَلَ مُتَعَلِّقٌ بِالتَّعَارُضِ يَعْنِي لَوْ لَمْ يَثْبُتْ التَّعَارُضُ فِي صُورَةِ التَّعَارُضِ ثَبَتَ التَّرَخُّصُ كَمَا لَوْ أُكْرِهَ بِالْقَتْلِ عَلَى قَطْعِ يَدِهِ حَلَّ لَهُ الْقَطْعُ
وَفِي الْمَبْسُوطِ كَانَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الطَّرَفِ تَابِعَةٌ لِحُرْمَةِ النَّفْسِ وَالتَّابِعُ لَا يُعَارِضُ الْأَصْلَ وَلَكِنْ يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الْأَصْلِ فَفِي إقْدَامِهِ عَلَى قَطْعِ الْيَدِ مُرَاعَاةُ حُرْمَةِ نَفْسِهِ وَفِي امْتِنَاعِهِ مِنْ ذَلِكَ تَعْرِيضُ النَّفْسِ عَلَى التَّلَفِ وَتَلَفُهَا يُوجِبُ تَلَفَ الْأَطْرَافِ لَا مَحَالَةَ وَلَا شَكَّ أَنَّ إتْلَافَ الْبَعْضِ لِإِبْقَاءِ
يُوجِبُ إبَاحَتَهُ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَمْ يَثْبُتْ بِالنَّصِّ إلَّا عِنْدَ الِاخْتِيَارِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] قَالَ تَعَالَى {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] وَإِنْ كَانَ التَّحْرِيمُ فِي الْأَصْلِ يَثْبُتُ مُقَيَّدًا بِالِاسْتِثْنَاءِ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ خَارِجَةً عَنْ التَّحْرِيمِ فَيَبْقَى عَلَى الْإِبَاحَةِ الْمُطْلَقَةِ كَاَلَّذِي لَا يَضْطَرُّ إلَى ذَلِكَ لِجُوعٍ أَوْ عَطَشٍ يَرَى أَنَّ رِفْقَ التَّحْرِيمِ يَعُودُ إلَى الْمُتَنَاوَلِ مِنْ خُبْثٍ فِي الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] .
وَقَالَ تَعَالَى {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] فَإِذَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى فَوْتِ الْكُلِّ كَانَ فَوْتُ الْبَعْضِ أَوْلَى مِنْ فَوْتِ الْكُلِّ عَلَى مِثَالِ قَوْلِنَا لَنَقْطَعَنَّ يَدَك أَنْتَ أَوْ لَنَقْتُلَنَّكَ نَحْنُ فَإِذَا سَقَطَتْ الْحُرْمَةُ أَصْلًا كَانَ الْمُمْتَنِعُ مِنْ تَنَاوُلِهِ وَهُوَ مُكْرَهٌ مُضَيِّعًا لِدَمِهِ فَصَارَ آثِمًا وَهَذَا إذَا تَمَّ الْإِكْرَاهُ فَأَمَّا إذَا قَصُرَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ التَّنَاوُلُ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ إلَّا أَنَّهُ إذَا تَنَاوَلَ لَمْ يُحَدَّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَكَامَلَ أَوْجَبَ الْحِلَّ فَإِذَا قَصُرَ صَارَ شُبْهَةً بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ عَلَى الْقَتْلِ بِالْحَبْسِ إذَا قَتَلَ فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَمَّ لَمْ يَحِلَّ لَكِنَّهُ انْتَقَلَ عَنْهُ فَإِذَا قَصُرَ لَمْ يَنْتَقِلْ وَلَمْ يَصِرْ شُبْهَةً.
ــ
[كشف الأسرار]
الْكُلِّ أَوْلَى مِنْ إتْلَافِ الْكُلِّ كَمَنْ وَقَعَتْ فِي يَدِهِ آكِلَةٌ يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ لِيَدْفَعَ بِهِ الْهَلَاكَ عَنْ نَفْسِهِ فَهَذَا الْمُكْرَهُ فِي مَعْنَاهُ مِنْ وَجْهٍ؛
لِأَنَّهُ يَدْفَعُ الْهَلَاكَ عَنْ نَفْسِهِ بِقَطْعِ يَدِهِ إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا رحمه الله عَلَّقَهُ بِالْمَشِيئَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْآكِلَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَحُرْمَةُ النَّفْسِ كَحُرْمَةِ الطَّرَفِ مِنْ وَجْهٍ فَلِهَذَا تَحَرَّزَ عَنْ الْإِثْبَاتِ وَقَالَ هُوَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ وَيَدُ غَيْرِهِ وَنَفْسُهُ أَيْ نَفْسُ الْغَيْرِ أَوْ نَفْسُ الْمُكْرَهِ سَوَاءٌ حَتَّى لَوْ قِيلَ لَهُ لَتَقْطَعَنَّ يَدَ فُلَانٍ أَوْ لَنَقْتُلَنَّكَ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ وَلَوْ فَعَلَ كَانَ آثِمًا كَمَا لَوْ قِيلَ لَهُ لَتَقْتُلَنَّ فُلَانًا أَوْ لَنَقْتُلَنَّكَ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ وَلَوْ فَعَلَ كَانَ آثِمًا؛ لِأَنَّ لِطَرَفِ الْمُؤْمِنِ مِنْ الْحُرْمَةِ مَا لِنَفْسِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ.
أَلَا يُرَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ طَرَفَ الْغَيْرِ لِيَأْكُلَهُ كَمَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ فَيَتَحَقَّقَ التَّعَارُضُ فَلَا يَثْبُتُ التَّرَخُّصُ إلَّا أَنَّ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى قَطْعِ يَدِ نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ مُقَابَلَةِ طَرَفِهِ بِنَفْسِهِ جَوَّزْنَا لَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَدْنَى الضَّرَرَيْنِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَهُ مُقَابَلَةُ طَرَفِ الْغَيْرِ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ أَشَدُّ عَلَى الْغَيْرِ مِنْ قَتْلِ الْمُكْرَهِ بَلْ مَنْ قَتْلِ جَمِيعِ الْخَلْقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ فَوَاتُ طَرَفِهِ فَثَبَتَ أَنَّهُمَا فِي الْحُرْمَةِ سَوَاءٌ عِنْدَ مُقَابَلَةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ
وَلَا يُقَالُ الْأَطْرَافُ مُلْحَقَةٌ بِالْأَمْوَالِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُرَخَّصَ فِي قَطْعِ يَدِ الْغَيْرِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ التَّامِّ كَمَا رُخِّصَ فِي إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ إلْحَاقُ الطَّرَفِ بِالْمَالِ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ لَا فِي حَقِّ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَبْذُلُونَ أَطْرَافَهُمْ صِيَانَةً لِنَفْسِ الْغَيْرِ وَيَبْذُلُونَ أَمْوَالَهُمْ فِيهَا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الرُّخْصَةِ فِي إتْلَافِ الْمَالِ ثُبُوتُهَا فِي إتْلَافِ طَرَفِهِ.
قَوْلُهُ (يُوجِبُ إبَاحَتَهُ) أَيْ إبَاحَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَالَ اللَّهُ {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] اسْتَثْنَى حَالَةَ الضَّرُورَةِ وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ التَّحْرِيمِ إبَاحَةٌ إذَا الْكَلَامُ صَارَ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى وَقَدْ كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ التَّحْرِيمِ فَبَقِيَ عَلَى مَا كَانَ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ.
وَقَالَ تَعَالَى {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] نَفَى الْإِثْمَ الَّذِي هُوَ نَتِيجَةُ الْحُرْمَةِ عَنْ الْمُضْطَرِّ فَيَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُرْمَةِ كَاَلَّذِي يُضْطَرُّ إلَى ذَلِكَ أَيْ إلَى الْأَكْلِ أَوْ الشُّرْبِ لِجُوعٍ أَوْ عَطَشٍ الْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ مَا يُبَاحُ تَنَاوُلُهُ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ يُبَاحُ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ إذَا كَانَ مُلْجِئًا وَمَا لَا فَلَا وَمَعْنَى الضَّرُورَةِ فِي الْمَخْمَصَةِ أَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ عَنْ التَّنَاوُلِ يَخَافُ تَلَفَ النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ فَمَتَى أُكْرِهَ بِالْقَتْلِ أَوْ بِقَطْعِ الْعُضْوِ عَلَى الْأَكْلِ أَوْ الشُّرْبِ فَقَدْ تَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ الْمُبِيحَةُ لِتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ؛ لِأَنَّهُ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ فَدَخَلَ تَحْتَ النَّصِّ.
فَصَارَ آثِمًا يَعْنِي إذَا كَانَ عَالِمًا بِسُقُوطِ الْحُرْمَةِ فَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ يَسَعُهُ يُرْجَى أَنْ لَا يَكُونَ آثِمًا؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ إقَامَةَ حَقِّ الشَّرْعِ فِي التَّحَرُّزِ عَنْ ارْتِكَابِ الْحَرَامِ فِي زَعْمِهِ
وَهَذَا لِأَنَّ انْكِشَافَ الْحُرْمَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَدَلِيلُهُ خَفِيٌّ فَيُعْذَرُ فِيهِ بِالْجَهْلِ كَمَا أَنَّ عَدَمَ وُصُولِ الْخِطَابِ إلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَهِرَ يُجْعَلُ عُذْرًا فِي تَرْكِ مَا ثَبَتَ بِخِطَابِ الشَّرْعِ كَالصَّلَاةِ فِي حَقِّ مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ هَذَا أَيْ سُقُوطُ الْحُرْمَةِ إذَا تَمَّ الْإِكْرَاهُ بِأَنْ كَانَ مُلْجِئًا.
فَإِنْ قَصَّرَ بِأَنْ أُكْرِهَ بِالْحَبْسِ سَنَةً أَوْ بِالْحَبْسِ الْمُؤَبَّدِ أَوْ بِالْقَيْدِ مَعَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُمْنَعُ عَنْهُ طَعَامٌ وَلَا شَرَابٌ لَا يَسَعُهُ الْإِقْدَامُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ إذْ الْحَبْسُ أَوْ الْقَيْدُ يُوجِبُ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ وَلَا يُخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسٍ وَلَا عُضْوٍ وَلَا يَسَعُهُ تَنَاوُلُ الْحَرَامِ لِدَفْعِ الْحُزْنِ، أَلَا يُرَى أَنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ فِي الْعَادَةِ إنَّمَا يَقْصِدُ بِشُرْبِهَا دَفْعَ الْهَمِّ وَالْحُزْنِ عَنْ نَفْسِهِ وَلَوْ تَحَقَّقَ الْإِلْجَاءُ بِالْحَبْسِ لَتَحَقَّقَ بِحَبْسِ يَوْمٍ أَوْ نَحْوِهِ وَذَلِكَ بَعِيدٌ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ.
وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخ بَلْخٍ إنَّمَا أَجَابَ مُحَمَّدٌ رحمه الله بِنَاءً عَلَى مَا كَانَ مِنْ الْحَبْسِ فِي زَمَانِهِ فَأَمَّا الْحَبْسُ الَّذِي أَحْدَثُوهُ الْيَوْمَ فِي زَمَانِنَا فَإِنَّهُ يُبِيحُ التَّنَاوُلَ؛ لِأَنَّهُمْ يُحْبَسُونَ تَعْذِيبًا كَذَا فِي الْمُغْنِي إلَّا أَنَّهُ أَيْ الْمُكْرَهَ بِالْإِكْرَاهِ الْقَاصِرِ إذَا تَنَاوَلَ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ بِأَنْ شَرِبَ
وَأَمَّا الَّذِي لَا يَسْقُطُ وَيَحْتَمِلُ الرُّخْصَةَ فَمِثْلُ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ وَالْقَلْبُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ فَإِنَّ هَذَا ظُلْمٌ فِي الْأَصْلِ لَكِنَّهُ رُخِّصَ فِيهِ بِالنَّصِّ فِي قِصَّةِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَبَقِيَ الْكُفْرُ عَزِيمَةً بِحَدِيثِ خُبَيْبٍ وَذَلِكَ أَنَّ حُرْمَتَهُ لَا تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ وَفِي هَتْكِ الظَّاهِرِ مَعَ قَرَارِ الْقَلْبِ ضَرْبُ جِنَايَةٍ لَكِنَّهُ دُونَ الْقَتْلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هَتْكٌ صُورَةً وَهَذَا هَتْكٌ صُورَةً وَمَعْنًى فَوَجَبَتْ الرُّخْصَةُ وَبَقِيَ الْكَفُّ عَنْهُ عَزِيمَةً لِبَقَاءِ الْحُرْمَةِ نَفْسِهَا فَإِذَا صَبَرَ فَقَدْ بَذَلَ نَفْسَهُ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ عز وجل فَكَانَ شَهِيدًا وَإِذَا أَجْرَى فَقَدْ تَرَخَّصَ بِالْأَدْنَى صِيَانَةً لِلْأَعْلَى وَكَذَلِكَ هَذَا فِي سَائِرِ حُقُوقِ اللَّهِ عز وجل مِثْلَ إفْسَادِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَقَتْلِ صَيْدِ الْحَرَمِ أَوْ فِي الْإِحْرَامِ لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ فِي اسْتِهْلَاكِ أَمْوَالِ النَّاسِ يُرَخَّصُ فِيهِ بِالْإِكْرَاهِ التَّامِّ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ فَوْقَ حُرْمَةِ الْمَالِ فَاسْتَقَامَ أَنْ يُجْعَلَ وِقَايَةً لَهَا وَلَكِنَّ أَخْذَ الْمَالِ وَإِتْلَافَهُ ظُلْمٌ وَعِصْمَةُ صَاحِبِهِ فِيهِ قَائِمَةٌ فَبَقِيَ حَرَامًا فِي نَفْسِهِ لِبَقَاءِ دَلِيلِهِ وَالرُّخْصَةُ مَا يُسْتَبَاحُ بِعُذْرٍ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرَّمِ فَإِذَا صَبَرَ حَتَّى قُتِلَ فَقَدْ بَذَلَ نَفْسَهُ لِدَفْعِ الظُّلْمِ وَلِإِقَامَةِ حَقٍّ مُحْتَرَمٍ فَصَارَ شَهِيدًا.
ــ
[كشف الأسرار]
الْخَمْرَ لَمْ يُحَدَّ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ يُحَدُّ؛ لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ فِي الْأَفْعَالِ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ أَلَا يُرَى أَنَّ الْعَطْشَانَ الَّذِي لَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْهَلَاكَ إذَا شَرِبَ الْخَمْرَ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ فَالْمُكْرَهُ بِالْحَبْسِ كَذَلِكَ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَوْ تَكَامَلَ بِأَنْ كَانَ مُلْجِئًا أَوْجَبَ الْحِلَّ فَإِذَا وُجِدَ جُزْءٌ مِنْهُ يَصِيرُ شُبْهَةً كَالْمِلْكِ فِي الْجُزْءِ فِي الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ يَصِيرُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهُ بِوَطْئِهَا فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ وَلَا يَصِيرُ قِيَامُ الْإِكْرَاهِ شُبْهَةً؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَوْ تَمَّ لَمْ يَحِلَّ لِلْمُكْرَهِ قَتْلُ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ كَمَا بَيَّنَّا.
لَكِنَّهُ أَيْ الْقَتْلَ يَنْتَقِلُ بِهِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ عَنْ الْمُكْرَهِ إلَى الْمُكْرِهِ فَإِذَا قَصَّرَ لَا يُؤَثِّرُ فِي نِسْبَةِ الْفِعْلِ إلَى الْمُكْرَهِ وَلَا فِي إبَاحَةِ الْقَتْلِ فَلَا يَصِيرُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ عَنْ الْقَاتِلِ.
قَوْلُهُ (وَأَمَّا الَّذِي) أَيْ الْقِسْمُ الَّذِي لَا يَسْقُطُ مِنْ الْحُرُمَاتِ وَيَحْتَمِلُ الرُّخْصَةَ فَمِثْلُ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ بِشَرْطِ اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ فَإِنَّ هَذَا أَيْ الْإِجْرَاءَ عَلَى اللِّسَانِ ظُلْمٌ فِي أَصْلِ وَضْعِهِ؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَالْكُفْرُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْكَافِرَ ظَالِمًا فِي آيٍ كَثِيرَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ لَكِنَّهُ رَخَّصَ فِي الْإِجْزَاءِ بِالنَّصِّ فِي قِصَّةِ عَمَّارٍ وَقَدْ بَيَّنَّا قِصَّتَهُ وَقِصَّةَ خُبَيْبٍ رضي الله عنهما فِي بَابِ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ.
وَذَلِكَ أَنَّ حُرْمَتَهُ أَنَّ حُرْمَةَ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ لَا تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ؛ لِأَنَّ التَّوْحِيدَ وَاجِبٌ عَلَى الْعِبَادِ إلَى الْأَبَدِ وَهُوَ اعْتِقَادُ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِقْرَارُ بِهَا بِاللِّسَانِ.
وَالْكُفْرُ بِاَللَّهِ تَعَالَى حَرَامٌ دَائِمًا إلَى الْأَبَدِ لَا تَسْقُطُ حُرْمَتُهُ بِالْإِكْرَاهِ بَلْ بَقِيَ حَرَامًا مَعَ الْإِكْرَاهِ إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ لِلْعَبْدِ إجْرَاءَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ فِيهِ فَوَاتَ التَّوْحِيدِ صُورَةً لَا مَعْنًى؛ لِأَنَّهُ مُعْتَقِدٌ وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْقَلْبِ وَهُوَ الْأَصْلُ وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ مَرَّةً وَاحِدَةً كَافٍ لِتَمَامِ الْإِيمَانِ وَمَا بَعْدَهَا دَوَامٌ عَلَى ذَلِكَ الْإِقْرَارِ وَبِالْإِجْرَاءِ يَفُوتُ الدَّوَامُ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ خَلَلًا فِي أَصْلِ الْإِيمَانِ لِبَقَاءِ الطُّمَأْنِينَةِ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْإِجْرَاءُ كُفْرًا صُورَةً كَانَ حَرَامًا؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ حَرَامٌ صُورَةً وَمَعْنًى وَلَوْ امْتَنَعَ عَنْهُ يَفُوتُ حَقُّهُ فِي النَّفْسِ صُورَةً وَمَعْنًى فَاجْتَمَعَ هَاهُنَا حَقَّانِ حَقُّ الْعَبْدِ فِي النَّفْسِ وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْإِيمَانِ فَتَرَجَّحَ حَقُّهُ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَوْ اسْتَوَى الْحَقَّانِ لِشِدَّةِ حَاجَتِهِ وَغَنَاءِ اللَّهِ عز وجل فَكَيْفَ إذَا تَرَجَّحَ حَقُّهُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ يَفُوتُ فِي الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَفُتْ مَعْنًى فَلِهَذَا رُخِّصَ لَهُ الْإِقْدَامُ مَعَ كَوْنِهِ حَرَامًا كَذَا فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ.
لَكِنَّهُ الضَّمِيرُ لِلضَّرْبِ دُونَ الْقَتْلِ هُوَ مَصْدَرُ قَتَلَ لَا مَصْدَرُ قَتَّلَ أَيْ الْإِجْرَاءُ عَلَى اللِّسَانِ فِي هَتْكِ حُرْمَةِ الشَّرْعِ وَكَوْنُهُ جِنَايَةً عَلَى حَقِّهِ دُونَ أَنْ يُقْتَلَ الْمُكْرَهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ فَوَاتَ الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى وَفِي الْأُولَى فَوَاتُ الصُّورَةِ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْ الْإِجْرَاءُ وَهَذَا أَيْ الْقَتْلُ فَكَانَ شَهِيدًا لِمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ أَنَّ «الْمُخَيَّرَ فِي نَفْسِهِ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنْ أَبَى الْكُفْرَ حَتَّى يُقْتَلَ» وَلِحَدِيثِ خُبَيْبٍ رضي الله عنه.
وَكَذَلِكَ هَذَا أَيْ وَكَمَا بَيَّنَّا مِنْ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ هُوَ الْحُكْمُ فِي سَائِرِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى لَوْ أُكْرِهَ بِمَا فِيهِ الْإِلْجَاءُ عَلَى إفْسَادِ الصَّلَاةِ أَوْ عَلَى تَرْكِهَا أَوْ عَلَى إفْسَادِ الصَّوْمِ وَهُوَ مُقِيمٌ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَرَخَّصَ بِمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي نَفْسِهِ يَفُوتُ أَصْلًا وَحَقُّ صَاحِبِ الشَّرْعِ يَفُوتُ إلَى خَلَفٍ فَإِنْ صَبَرَ وَلَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ حَتَّى قُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا؛ لِأَنَّهُ تَمَسَّكَ بِالْعَزِيمَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ بِالْإِكْرَاهِ وَفِيمَا فَعَلَهُ إظْهَارُ الصَّلَابَةِ فِي الدِّينِ.
وَإِنْ كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَى الْإِفْطَارِ مُسَافِرًا فَأَبَى أَنْ يُفْطِرَ حَتَّى قُتِلَ كَانَ آثِمًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ لَهُ الْفِطْرَ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] فَعِنْدَ خَوْفِ الْهَلَاكِ أَيَّامَ رَمَضَانَ فِي حَقِّهِ كَلَيَالِيِهِ وَكَأَيَّامِ شَعْبَانَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَيَكُونُ آثِمًا فِي الِامْتِنَاعِ بِمَنْزِلَةِ الْمُضْطَرِّ فِي فَصْلِ الْمَيْتَةِ بِخِلَافِ الْمُقِيمِ الصَّحِيحِ
وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إذَا أُكْرِهَتْ عَلَى الزِّنَا بِالْقَتْلِ أَوْ الْقَطْعِ رُخِّصَ لَهَا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَعَرُّضٌ لِحَقٍّ مُحْتَرَمٍ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَعْنَى الْقَتْلِ؛ لِأَنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ عَنْهَا لَا يَنْقَطِعُ وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّهَا إذَا أُكْرِهَتْ عَلَى الزِّنَا بِالْحَبْسِ أَنَّهَا لَا تُحَدُّ؛ لِأَنَّ الْكَامِلَ يُوجِبُ الرُّخْصَةَ فَصَارَ الْقَاصِرُ شُبْهَةً بِخِلَافِ الرَّجُلِ فَصَارَ هَذَا الْقِسْمُ قِسْمَيْنِ قِسْمُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي الْإِيمَانِ الْقَائِمِ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِحَالٍ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقِيدَةِ ضَرُورَةٌ لَمْ تَحْتَمِلْ الرُّخْصَةُ بِالتَّبْدِيلِ وَدَخَلَتْ الرُّخْصَةُ فِي الْأَدَاءِ لِلضَّرُورَةِ
ــ
[كشف الأسرار]
لِأَنَّ الصَّوْمَ فِي حَقِّهِ عَزِيمَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وَالْفِطْرُ لَهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ رُخْصَةٌ فَإِنْ تَرَخَّصَ بِالرُّخْصَةِ فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ تَمَسَّكَ بِالْعَزِيمَةِ فَهُوَ أَفْضَلُ لَهُ.
قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَمِثْلُ إفْسَادِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى اسْتِهْلَاكُ أَمْوَالِ النَّاسِ يُرَخَّصُ فِيهِ أَيْ اسْتِهْلَاكِهَا بِالْإِكْرَاهِ التَّامِّ دُونَ الْقَاصِرِ حَتَّى لَوْ قِيلَ لَهُ لَنَقْتُلَنَّكَ أَوْ لَتَأْخُذَنَّ مَالَ هَذَا الرَّجُلِ فَتَدْفَعُهُ إلَيَّ أَوْ تَرْمِيهِ فِي مُهْلِكَةٍ كَانَ فِي سَعَةٍ مِنْ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ فَوْقَ حُرْمَةِ الْمَالِ فَاسْتَقَامَ أَنْ يَجْعَلَ الْمَالَ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ وَإِنْ كَانَ مَالُ الْغَيْرِ بِخِلَافِ طَرَفِ الْغَيْرِ حَيْثُ لَا يَسْتَقِيمُ جَعْلُهُ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ مُبْتَذَلٌ فِي نَفْسِهِ وَالْحُرْمَةُ لِحَقِّ الْغَيْرِ وَلِهَذَا يُبَاحُ بِإِبَاحَتِهِ فَأَمَّا الطَّرَفُ فَمُحْتَرَمٌ احْتِرَامَ النَّفْسِ وَلِهَذَا لَا يُبَاحُ قَطْعُهُ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ فَلَا يَصْلُحُ جَعْلُهُ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ وَلَكِنَّ أَخْذُ الْمَالِ ظُلْمٌ يَعْنِي كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ الصَّبْرُ عَنْهُ كَمَا فِي مَالِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لِلِابْتِذَالِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَحُرْمَتُهُ دُونَ حُرْمَةِ النَّفْسِ لَكِنَّ أَخْذَ مَالِ الْغَيْرِ وَإِتْلَافِهِ ظُلْمٌ وَعِصْمَةُ صَاحِبِ الْمَالِ فِي الْمَالِ قَائِمَةٌ أَيْ عِصْمَتُهُ لِأَجْلِ صَاحِبِ الْمَالِ بَاقِيَةٌ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ لِلْحَاجَةِ وَحَاجَتُهُ إلَيْهِ بَاقِيَةٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَبَقِيَ الْمَالُ حَرَامَ التَّعَرُّضِ فِي نَفْسِهِ لِبَقَاءِ دَلِيلِ الِاحْتِرَامِ.
وَالرُّخْصَةُ مَا يُسْتَبَاحُ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرَّمِ أَيْ يُعَامَلُ بِهِ مُعَامَلَةَ الْمُبَاحِ فَإِذَا صَبَرَ عَنْ التَّعَرُّضِ حَتَّى قُتِلَ فَقَدْ بَذَلَ نَفْسَهُ لِدَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ مَالِ الْغَيْرِ وَلِإِقَامَةِ حَقٍّ مُحْتَرَمٍ وَهُوَ حَقُّ صَاحِبِ الْمَالِ فَصَارَ شَهِيدًا وَأَلْحَقَ مُحَمَّدٌ رحمه الله الِاسْتِثْنَاءَ بِهَذَا الْجَوَابِ فَقَالَ كَانَ مَأْجُورًا إنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله إنَّمَا قَيَّدَ بِالِاسْتِثْنَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ فِيهِ نَصًّا بِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا قَالَهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَلَيْسَ هَذَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ الْأَخْذِ هَاهُنَا لَا يَرْجِعُ إلَى إعْزَازِ الدِّينِ فَلِهَذَا قَيَّدَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ
قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ) أَيْ وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ الْمَرْأَةُ إذَا أُكْرِهَتْ عَلَى الزِّنَا بِالْقَتْلِ أَوْ بِالْقَطْعِ رُخِّصَ لَهَا فِي ذَلِكَ أَيْ فِي التَّمْكِينِ مِنْ الزِّنَا حَتَّى سَقَطَ الْحَدُّ وَالْإِثْمُ عَنْهَا وَلَوْ صَبَرَتْ كَانَتْ مَأْجُورَةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْ تَمْكِينَهَا مِنْ الزِّنَا تَعَرُّضٌ لِحَقٍّ مُحْتَرَمٍ فِي الْمَحَلِّ لِصَاحِبِ الشَّرْعِ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ حُقُوقِهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَيَكُونُ حَرَامًا وَلَيْسَ فِي التَّمْكِينِ مَعْنَى الْقَتْلِ الَّذِي هُوَ الْمَانِعُ مِنْ التَّرَخُّصِ فِي جَانِبِ الرَّجُلِ لِمَا ذَكَرَ فَيَثْبُتُ التَّرَخُّصُ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ الْكَامِلِ وَلِهَذَا أَيْ وَلِأَنَّ الْإِكْرَاهَ الْكَامِلَ فِي جَانِبِهَا يُوجِبُ التَّرَخُّصَ صَارَ الْقَاصِرُ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ أَوْ بِالْقَيْدِ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْهَا كَمَا فِي شُرْبِ الْخَمْرِ بِخِلَافِ الرَّجُلِ فَإِنَّ الْكَامِلَ لَمَّا لَمْ يُوجِبْ التَّرَخُّصَ فِي حَقِّهِ لَا يَصِيرُ الْقَاصِرُ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهُ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْقَتْلِ وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَسْقُطَ الْحَدُّ عَنْهُ بِالْكَامِلِ أَيْضًا كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَوَّلًا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ الزِّنَا لَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الرَّجُلِ إلَّا بِانْتِشَارِ الْآلَةِ وَذَلِكَ دَلِيلُ الطَّوَاعِيَةِ فَإِنَّ الِانْتِشَارَ لَا يَحْصُلُ عِنْدَ الْخَوْفِ بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّ التَّمْكِينَ يَتَحَقَّقُ مِنْهَا مَعَ الْخَوْفِ فَلَا يَكُونُ تَمْكِينُهَا دَلِيلَ الطَّوَاعِيَةِ.
إلَّا أَنَّ فِي الِاسْتِحْسَانِ يَسْقُطُ كَمَا رَجَعَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله وَهُوَ قَوْلُهُمَا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ مَشْرُوعٌ لِلزَّجْرِ وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِي حَالَةِ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُنْزَجِرًا إلَى أَنْ تَحَقَّقَ الْإِكْرَاهُ وَخَوْفُ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنَّمَا قَصَدَ بِالْإِقْدَامِ دَفْعَ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ لَا اقْتِضَاءَ الشَّهْوَةِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ بِشُبْهَةٍ فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهُ وَانْتِشَارُ الْآلَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْخَوْفِ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ طَبْعًا بِالْفُحُولِيَّةِ الْمُرَكَّبَةِ فِي الرِّجَالِ وَقَدْ يَكُونُ طَوْعًا أَلَا يَرَى أَنَّ النَّائِمَ قَدْ تَنْتَشِرُ آلَتُهُ طَبْعًا مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ لَهُ وَلَا قَصْدٍ فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ الْخَوْفِ.
قَوْلُهُ (فَصَارَ هَذَا الْقِسْمُ) أَيْ الَّذِي لَا يَسْقُطُ وَيَحْتَمِلُ الرُّخْصَةَ قِسْمَيْنِ قِسْمٌ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ أَصْلًا مِثْلُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْإِيمَانِ الْقَائِمِ أَيْ الْمَوْجُودِ فَإِنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى رُكْنَيْنِ أَحَدُهُمَا الِاعْتِقَادُ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ فِيهِ وَحُرْمَةُ
وَلَمَّا سَبَقَ أَنَّ أَصْلَ الشَّرْعِ التَّوْحِيدُ وَالْإِيمَانُ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ الِاعْتِقَادُ وَالْأَدَاءُ فِيهِ رُكْنٌ ضُمَّ إلَيْهِ فَصَارَتْ عُمْدَةَ الشَّرْعِ وَهُوَ أَسَاسُ الدِّينِ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ وَالتَّعَدِّيَ مِنْ الْبَشَرِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَصَارَ غَيْرُهُ عُرْضَةً لِلْعَوَارِضِ وَمَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ مِنْ جِنْسِ مَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ وَمِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى قِسْمًا آخَرَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِأَصْلِهِ لَكِنَّ دَلِيلَ السُّقُوطِ لَمَّا لَمْ يُوجَدْ وَعَارَضَهُ أَمْرٌ فَوْقَهُ وَجَبَ الْعَمَلُ بِإِثْبَاتِ الرُّخْصَةِ وَالْعَمَلُ وَجَبَ بِأَصْلِهِ بِأَنْ جُعِلَ أَصْلُهُ عَزِيمَةً وَهَذَا كَمَنْ أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ حُلَّ لَهُ تَنَاوُلُ طَعَامِ غَيْرِهِ رُخْصَةً لَا إبَاحَةً مُطْلَقَةً حَتَّى إذَا تَرَكَ فَمَاتَ كَانَ شَهِيدًا بِخِلَافِ طَعَامِ نَفْسِهِ وَإِذَا اسْتَوْفَاهُ ضَمِنَهُ لِكَوْنِهِ مَعْصُومًا فِي نَفْسِهِ وَذَلِكَ مِثْلُ تَنَاوُلِ مَحْظُورِ الْإِحْرَامِ عَنْ ضَرُورَةٍ بِالْمُحْرِمِ أَنَّهُ يُرَخَّصُ لَهُ وَيَضْمَنُ الْجَزَاءَ فَكَذَلِكَ هَهُنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
ــ
[كشف الأسرار]
تَبْدِيلِهِ بِضِدِّهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِوَجْهٍ وَلَا يَحْتَمِلُ الرُّخْصَةَ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ الدَّاعِيَةَ إلَى التَّرَخُّصِ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ لِعَدَمِ احْتِمَالِهِ التَّعَدِّي مِنْ الْبَشَرِ.
وَالرُّكْنُ الثَّانِي الْأَدَاءُ وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ وَحُرْمَةُ تَبْدِيلِهِ بِضِدِّهِ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ أَيْضًا وَلَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ التَّرَخُّصَ لِاحْتِمَالِهِ التَّعَدِّي مِنْ الْبَشَرِ فَهَذَا الرُّكْنُ هُوَ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ الْمَذْكُورِينَ وَالثَّانِي مِنْهُمَا مَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ فِي نَفْسِهِ وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ دَلِيلُ السُّقُوطِ بَقِيَ فَعِنْدَ الضَّرُورَةِ يَثْبُتُ التَّرَخُّصُ فِيهِ مَعَ بَقَاءِ الْحُرْمَةِ وَذَلِكَ مِثْلُ حُقُوقِ الْعِبَادِ وَمَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَحُرْمَةِ تَرْكِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَإِنَّهَا تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ فِي ذَاتِهَا كَمَا سَقَطَتْ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ دَلِيلُ السُّقُوطِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ بَقِيَتْ فَتَثْبُتُ الرُّخْصَةُ مَعَ بَقَاءِ الْحُرْمَةِ وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ الرُّكْنَ الْأَوَّلَ مِنْ إيمَانٍ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ رُخْصَةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقِسْمَ فِي بَيَانِ مَا لَا يَحْتَمِلُ التَّرَخُّصَ مَعَ تَحْقِيقِ الضَّرُورَةِ وَهَذَا الرُّكْنُ لَا يَحْتَمِلُ التَّرَخُّصَ لِعَدَمِ احْتِمَالِهِ التَّعَدِّي مِنْ الْبَشَرِ الْمُؤَدِّي إلَى الضَّرُورَةِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ الْقِسْمِ وَلِمَا سَبَقَ بِكَسْرِ اللَّامِ وَلِأَنَّ فِيهِ أَيْ فِي الْإِيمَانِ رُكْنًا ضُمَّ إلَى الِاعْتِقَادِ أَيْ هُوَ رُكْنٌ زَائِدٌ وَصَارَ غَيْرُهُ أَيْ غَيْرُ الِاعْتِقَادِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ وَعَارَضَهُ أَيْ هَذَا الْقِسْمَ أَمْرٌ آخَرُ فَوْقَهُ وَهُوَ تَلَفُ النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ أَيْ بِالْأَمْرِ الَّذِي فَوْقَهُ وَهُوَ صِيَانَةُ النَّفْسِ عَنْ التَّلَفِ وَالْعَمَلُ وَجَبَ بِأَصْلِهِ أَيْ بِأَصْلِ الْحَقِّ بِإِبْقَاءِ الْحُرْمَةِ وَهَذَا أَيْ إبْقَاءُ الْعَزِيمَةِ وَإِثْبَاتُ التَّرَخُّصِ بِالْإِكْرَاهِ فِيمَا ذَكَرْنَا مِثْلَ إثْبَاتِ التَّرَخُّصِ وَإِبْقَاءِ الْعَزِيمَةِ بِالْمَخْمَصَةِ فِيمَنْ اُضْطُرَّ إلَى تَنَاوُلِ طَعَامِ الْغَيْرِ حَيْثُ ثَبَتَ لَهُ التَّنَاوُلُ رُخْصَةً لَا إبَاحَةً مُطْلَقَةً وَلَا يَصِيرُ كَطَعَامِ نَفْسِهِ فِي الْإِبَاحَةِ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ بِالتَّنَاوُلِ لَوْ صَبَرَ كَانَ مَأْجُورًا بِخِلَافِ طَعَامِ نَفْسِهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[كشف الأسرار]
قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ أَدَامَ اللَّهُ عَلَيْهِ عَافِيَتَهُ وَخَتَمَ بِالْخَيْرِ عَاقِبَتَهُ هَذَا آخِرُ مَا يَسَّرَ اللَّهُ لِي مِنْ شَرْحِ مُشْكِلَاتِ هَذَا الْكِتَابِ وَكَشْفِ مُعْضِلَاتِهِ وَوَفَّقَ لِي عَلَى حِلِّ عُقَدِهِ وَفَسْرِ مُجْمَلَاتِهِ فَبَذَلْت مَجْهُودِي فِي تَصْحِيحِ أَلْفَاظِهِ وَتَنْقِيحِ مَعَانِيهِ وَأَنْجَزْت مَوْعِدِي فِي تَشْيِيدِ قَوَاعِدِهِ وَتَمْهِيدِ مَبَانِيهِ وَاجْتَهَدْت فِي إيضَاحِ مَا اسْتَبْهَمَ مِنْ خَفَايَاهُ بِتَفْسِيرٍ كَاشِفٍ عَنْ أَسْرَارِهَا وَبَالَغْت فِي إفْصَاحِ مَا اسْتَعْجَمَ مِنْ خَبَايَاهُ بِبَيَانٍ رَافِعٍ لِأَسْتَارِهَا بَعْدَ مُطَالَعَاتٍ طَوِيلَةٍ لِكُتُبِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ السَّلَفِ وَمُرَاجَعَاتٍ كَثِيرَةٍ إلَى الْمُدَقَّقَيْنِ فِي فُحُولِ الْخَلَفِ فِي طَلَبِ مَا يُزِيلُ الْإِغْفَالَ وَتَحْصِيلِ مَا يُزِيحُ الْإِشْكَالَ.
وَقَدْ كَانَ يَهْجِسُ فِي قَلْبِي وَيَدُورُ فِي خُلْدِي مِنْ قَدِيمِ الدَّهْرِ أَنْ أَكْتُبَ لِهَذَا الْكِتَابِ شَرْحًا شَافِيًا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُتَنَبِّهُ الْمُبْتَدِئُ وَيَرْجِعُ إلَيْهِ الْمُنَبِّهُ الْمُنْتَهِي وَكَانَ يُثَبِّطُنِي عَنْ ذَلِكَ قِلَّةُ الْبِضَاعَةِ وَيَمْنَعُنِي عَنْهُ عِرْفَانِي أَنِّي لَسْت مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ حَتَّى أَفْضَى بِهِ قَضَاءُ اللَّهِ وَقَدَرُهُ إلَى أَنْ شَرَعْت فِي هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي يَحَارُ فِيهِ نَحَارِيرُ الْعُلَمَاءِ وَيَقْصُرُ دُونَهُ خَطْوُ الْفُصَحَاءِ وَالْبُلَغَاءِ فَتَيَسَّرَ لِي هَذَا الْأَمْرُ الْعَظِيمُ بِفَضْلِ اللَّهِ وَطَوْلِهِ وَاسْتَتَمَّ هَذَا الْخَطْبُ الْجَسِيمُ بِقُوَّتِهِ وَحَوْلِهِ وَوَصَلْت إلَى مَا قَصَدْت بِبِرِّهِ وَإِحْسَانِهِ وَوَفَّيْت بِمَا عَلَيْهِ عَقَدْت بِجُودِهِ وَامْتِنَانِهِ فَبَرَزَ مُصَنَّفِي هَذَا خَرِيدَةً حَسْنَاءَ أَرْسَلْتهَا إلَى خُطَّابِهَا وَفَرِيدَةً زَهْرَاءَ أَهْدَيْتهَا إلَى طُلَّابِهَا وَتُحْفَةً لِلْأَصْحَابِ أَبْهَى مِنْ الدُّرِّ وَالْجَوْهَرِ وَهَدِيَّةً إلَى الْأَحْبَابِ أَزْكَى مِنْ الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ لِاحْتِوَائِهِ عَلَى حَقَائِقِ الْمَعَانِي الْفِقْهِيَّةِ وَانْطِوَائِهِ عَلَى دِقَاقِ اللَّطَائِفِ الْمَلِيَّةِ وَاطِّلَاعِهِ عَلَى خَفِيَّاتٍ لَمْ يُفْطَنْ قَبْلُ بِمَسَالِكِهَا وَمَنَاهِجِهَا وَإِبْرَازِهِ عَنْ مُهِمَّاتٍ لَمْ يُفْطَنْ بِمَدَاخِلِهَا وَمَخَارِجِهَا فَمَنْ أَحَاطَ بِمَا ضُمِّنَ فِيهِ مِنْ اللَّطَائِفِ الْغَرِيبَةِ وَأَتْقَنَ مَا بُيِّنَ فِيهِ مِنْ الطَّرَائِفِ الْعَجِيبَةِ تَبَيَّنَّ لَهُ فِي الْخِطَابِ مِنْهَاجُ التَّحْقِيقِ وَسَهُلَ عَلَيْهِ فِي تَخْرِيجِ الصِّعَابِ سُلُوكُ مَسَالِكِ التَّدْقِيقِ.
وَهَذَا وَإِنِّي وَإِنْ بَذَلْت طَاقَتِي فِي التَّهْذِيبِ وَالتَّنْقِيحِ وَحَرَّفْت هِمَّتِي إلَى التَّوْضِيحِ وَالتَّصْحِيحِ مُتَيَقِّنٌ بِأَنَّ غَيْرِي قَدْ يُطْلِعُ مَا أُخْفِيَ عَلَيَّ مِنْ مَعْنًى أَدَقَّ وَوَجْهٍ أَحَقَّ وَتَفْسِيرٍ أَوْضَحَ وَتَقْرِيرٍ أَفْصَحَ وَمُعْتَرِفٌ بِأَنَّ بَعْضَ الْآحَادِ فَضْلًا عَنْ الْأَفْرَادِ قَدْ يَقِفُ فِيهِ عَلَى عَثَرَاتٍ أَوْ يَعْثُرُ عَلَى زَلَّاتٍ فَإِنَّ التَّصَوُّنَ عَنْ الْخَطَأِ وَالْخَلَلِ فِي التَّصْنِيفِ وَالتَّحَرُّزَ عَنْ الْهَفْوَةِ وَالزَّلَلِ فِي التَّأْلِيفِ نَجَزَتْ عَنْ إحَاطَتِهِ الْقُوَى وَالْقَدَرُ وَيَعْجِزُ عَنْهُ كَافَّةُ الْبَشَرِ إلَّا مَنْ اُخْتُصَّ بِالْهِدَايَةِ إلَى مَسَالِكِ الرُّشْدِ وَالسَّدَادِ وَالْوِقَايَةِ عَنْ مَهَالِكِ الْغَيِّ وَالْفَسَادِ فَالْمُتَوَقَّعُ مِمَّنْ نَظَرَ فِيهِ وَعَثَرَ عَلَى مَا لَا يَرْتَضِيهِ أَنْ يَكُونَ عَاذِرًا لَا عَاذِلًا وَنَاصِرًا لَا خَاذِلًا فَيَسْعَى فِي إصْلَاحِ مَا عَثَرَ عَلَيْهِ مِنْ الْفَسَادِ مُتَجَنِّبًا فِي ذَلِكَ طَرِيقَ التَّحَاسُدِ وَالْعِنَادِ رَاجِيًا حُسْنَ الثَّوَابِ مِنْ الْمَلِكِ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ.
وَأَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ الَّذِي شَمِلَ إحْسَانُهُ كَافَّةَ الْبَرَايَا وَالرَّبَّ الْكَرِيمَ الَّذِي عَمَّ غُفْرَانُهُ جَمِيعَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا أَنْ يَجْعَلَ مَا قَاسَيْت فِي هَذَا التَّصْنِيفِ وَعَانَيْت فِي هَذَا التَّأْلِيفِ مُوجِبًا لِلثَّنَاءِ الْجَمِيلِ فِي الدُّنْيَا وَسَبَبًا لِلثَّوَابِ الْجَزِيلِ فِي الْعُقْبَى وَأَنْ يَحْفَظَنَا مِنْ اخْتِلَالِ الْآرَاءِ وَيَعْصِمَنَا مِنْ اتِّبَاعِ الْأَهْوَاءِ وَأَنْ يَجْعَلَ مَطْرَحَ أَبْصَارِنَا كَمَالَ ذَاتِهِ وَمَسْرَحَ أَفْكَارِنَا جَلَالَ صِفَاتِهِ وَيُصَيِّرَنَا مِنْ الذَّاكِرِينَ لِقَسْمِهِ وَالشَّاكِرِينَ لِنِعَمِهِ وَيَجْعَلَ مَرَاتِعَنَا رِيَاضَ الْيُمْنِ وَالْكَرَامَةِ وَمَشَارِعَنَا حِيَاضَ الْأَمْنِ وَالسَّلَامَةِ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ وَمَنِّهِ وَرَأْفَتِهِ إنَّهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَأَكْرَمُ الْغَافِرِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ أَجْمَعِينَ.