الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فَعَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ. التَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ الْأَثَرِ، وَالتَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ ثَبَاتِهِ عَلَى الْحُكْمِ الْمَشْهُودِ بِهِ، وَالتَّرْجِيحُ بِكَثْرَةِ أُصُولِهِ، وَالتَّرْجِيحُ بِالْعَدَمِ عِنْدَ عَدَمِهِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْأَثَرَ مَعْنَى حُجَّةٍ فَمَهْمَا قَوِيَ كَانَ أَوْلَى لِفَضْلِ وَصْفٍ فِي الْحُجَّةِ عَلَى مِثَالِ الِاسْتِحْسَانِ فِي مُعَارَضَةِ الْقِيَاسِ هُوَ كَالْخَبَرِ لَمَّا صَارَ حُجَّةً بِالِاتِّصَالِ ازْدَادَ قُوَّةً بِمَا يَزِيدُهُ قُوَّةً فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى بِضَبْطِ الرَّاوِي، وَإِتْقَانِهِ وَسَلَامَتِهِ عَنْ الِانْقِطَاعِ عَلَى مَا مَرَّ ذِكْرُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَضْلُ عَدَالَةِ بَعْضِ الشُّهُودِ عَلَى عَدَالَةِ بَعْضٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِذِي حَدٍّ وَلَا مُتَنَوِّعٍ بَلْ هُوَ التَّقْوَى وَلَا وُقُوفَ عَلَى حُدُودِهِ
ــ
[كشف الأسرار]
الْعَدَالَةِ مِثْلُ فِقْهِ الرَّاوِي وَحُسْنِ ضَبْطِهِ، وَإِتْقَانِهِ وَمِثْلُ التَّأْثِيرِ فِي الْقِيَاسِ.
[الْقِسْمُ الثَّانِي التَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ الْأَثَرِ]
(قَوْلُهُ: وَأَمَّا الثَّانِي) ، وَهُوَ الْوُجُوهُ الَّتِي بِهَا يَقَعُ التَّرْجِيحُ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ فَأَرْبَعَةٌ أَحَدُهَا التَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ الْأَثَرِ يَعْنِي إذَا كَانَ الْقِيَاسَيْنِ الْمُؤَثِّرَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ أَقْوَى تَأْثِيرًا مِنْ الْآخَرِ كَانَ رَاجِحًا عَلَيْهِ وَسَقَطَ الْعَمَلُ بِهِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا مُؤَثِّرًا فَلَا يَكُونُ حُجَّةً فَلَا يَتَأَتَّى التَّرْجِيحُ.
وَالثَّانِي بِقُوَّةِ ثَبَاتِهِ أَيْ ثَبَاتِ الْوَصْفِ الْمُؤَثِّرِ عَلَى الْحُكْمِ الْمَشْهُودِ بِهِ وَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَكُونَ وَصْفُ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ أَلْزَمَ لِلْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ مِنْ وَصْفِ الْقِيَاسِ الْآخَرِ لِحُكْمِهِ وَالثَّالِثُ بِكَثْرَةِ أُصُولِهِ أَيْ أُصُولِ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ أَوْ أُصُولِ الْوَصْفِ وَالرَّابِعُ التَّرْجِيحُ بِالْعَدَمِ أَيْ عَدَمِ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِهِ أَيْ عَدَمِ الْوَصْفِ، وَهُوَ الْعَكْسُ الَّذِي مَرَّ بَيَانُهُ.
أَمَّا الْأَوَّلُ أَيْ صِحَّةُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ؛ فَلِأَنَّ الْأَثَرَ مَعْنَى الْحُجَّةِ يَعْنِي الْمَعْنَى الَّذِي صَارَ الْوَصْفُ بِهِ حُجَّةً هُوَ الْأَثَرُ فَمَهْمَا قَوِيَ أَيْ كَانَ أَقْوَى كَانَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ أَوْلَى لِفَضْلِ وَصْفٍ فِي الْحُجَّةِ أَيْ لِزِيَادَةِ أَثَرٍ، وَكَانَ فِي الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ حُجَّةٌ عَلَى مِثَالِ الِاسْتِحْسَانِ فِي مُعَارَضَةِ الْقِيَاسِ فَإِنَّ الْقِيَاسَ، وَإِنْ كَانَ مُؤَثِّرًا تَرَجَّحَ عَلَيْهِ الِاسْتِحْسَانُ لِزِيَادَةِ قُوَّةٍ فِيهِ، وَكَذَا عَكْسُهُ وَهُوَ أَيْ الْقِيَاسُ فِي تَرَجُّحِهِ بِقُوَّةِ الْأَثَرِ مِثْلُ الْخَبَرِ فِي تَرَجُّحِهِ بِقُوَّةِ الِاتِّصَالِ، أَوْ تَرْجِيحُ الْقِيَاسِ بِقُوَّةِ الْأَثَرِ مِثْلُ تَرْجِيحِ الْخَبَرِ فَإِنَّهُ لَمَّا صَارَ حُجَّةً بِالِاتِّصَالِ بِالرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم ازْدَادَ الْخَبَرُ قُوَّةً بِمَا يَزِيدُ قُوَّةً فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَهُوَ الِاتِّصَالُ بِضَبْطِ الرَّاوِي الْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِيَزِيدَ، وَسَلَامَتُهُ أَيْ سَلَامَةُ الْخَبَرِ عَنْ الِانْقِطَاعِ بِاتِّصَالِ الْإِسْنَادِ عَلَى مَا مَرَّ ذِكْرُهُ فِي بَيَانِ أَقْسَامِ السُّنَّةِ.
قَوْلُهُ: (وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَضْلُ عَدَالَةِ بَعْضِ الشُّهُودِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّ الشَّهَادَةَ صَارَتْ حُجَّةً بِالْعَدَالَةِ كَمَا صَارَ الْوَصْفُ حُجَّةً بِالْأَثَرِ وَالْخَبَرِ بِالِاتِّصَالِ ثُمَّ الشَّهَادَةُ لَا تَتَرَجَّحُ بِقُوَّةِ الْعَدَالَةِ عِنْدَ التَّعَارُضِ حَتَّى لَوْ وُجِدَ أَصْلُ الْعَدَالَةِ فِي الْجَانِبَيْنِ تَحَقَّقَ التَّعَارُضُ، وَإِنْ كَانَتْ الْعَدَالَةُ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ أَقْوَى مِنْهَا فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ فَكَذَا الْقِيَاسَانِ بَعْدَمَا ظَهَرَ تَأْثِيرُهُمَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا بِقُوَّةِ الْأَثَرِ فَقَالَ: وَلَيْسَ كَذَلِكَ أَيْ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قُوَّةِ الْأَثَرِ الِاتِّصَالُ فَضْلُ عَدَالَةِ بَعْضِ الشُّهُودِ؛ لِأَنَّهُ أَيْ الْفَضْلَ أَوْ الْعَدَالَةَ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ لَيْسَ بِذِي حَدٍّ لِيُمْكِنَ مَعْرِفَةُ تَرَجُّحِ الْبَعْضِ بِزِيَادَةِ قُوَّةٍ فِيهِ عِنْدَ الرُّجُوعِ إلَى حَدِّهِ، وَلَا مُتَنَوِّعٍ أَيْ لَيْسَ بِذِي أَنْوَاعٍ مُتَفَاوِتَةٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ لِيَظْهَرَ لِبَعْضِهَا قُوَّةٌ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِالْبَعْضِ بَلْ هُوَ أَيْ الْعَدَالَةُ هِيَ التَّقْوَى وَالِانْزِجَارُ عَنْ ارْتِكَابِ مَا يَعْقِدُ الْحُرْمَةَ فِيهِ، وَلَا تَفَاوُتَ فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَكَذَا الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ مُتَعَذِّرٌ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بَاطِنٌ فَرُبَّمَا كَانَ الَّذِي يَظُنُّ أَنَّهُ أَعْدَلُ أَدْنَى دَرَجَةً فِي التَّقْوَى مِنْ الَّذِي يَظُنُّ أَنَّهُ دُونَهُ فِيهَا بِخِلَافِ تَأْثِيرِ الْعِلَّةِ فَإِنَّ قُوَّةَ الْأَثَرِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ تَظْهَرُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ إنْكَارُهُ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْعِلَّةِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِأَدِلَّةٍ مَعْلُومَةٍ مُتَفَاوِتَةِ الْأَثَرِ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهَا عَلَى أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الشَّهَادَةَ صَارَتْ حُجَّةً بِالْعَدَالَةِ بَلْ بِالْوِلَايَةِ الثَّابِتَةِ بِالْحُرِّيَّةِ.
وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ سَوَاءٌ فِي أَصْلِ الْوِلَايَةِ الثَّابِتَةِ بِأَصْلِ الْحُرِّيَّةِ، وَإِنَّمَا شُرِطَتْ الْعَدَالَةُ لِظُهُورِ جَانِبِ الصِّدْقِ فَإِذَا ظَهَرَ الصِّدْقُ بِأَصْلِ الْعَدَالَةِ وَجَبَ عَلَى الْقَاضِي الْقَضَاءُ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى زِيَادَةِ قُوَّةٍ فِي الْعَدَالَةِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَأَمَّا الْقِيَاسُ فَمَا صَارَ حُجَّةً
مِثَالُهُ مَا قُلْنَا فِي طَوْلِ الْحُرَّةِ إنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْحُرَّ مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: رحمه الله يَمْنَعُ؛ لِأَنَّهُ يَرِقُّ مَاءَهُ عَلَى غُنْيَةً وَذَلِكَ حَرَامٌ عَلَى كُلِّ حُرٍّ كَاَلَّذِي تَحْتَهُ حُرَّةٌ، وَهَذَا وَصْفٌ بَيِّنُ الْأَثَرِ. وَقُلْت: إنَّهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ نِكَاحٌ يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ إذَا دَفَعَ إلَيْهِ مَهْرًا يَصْلُحُ لِلْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ جَمِيعًا، وَقَالَ تَزَوَّجْ مَنْ شِئْت فَيَمْلِكُهُ الْحُرُّ كَسَائِرِ الْأَنْكِحَةِ
ــ
[كشف الأسرار]
إلَّا بِالتَّأْثِيرِ، وَالتَّفَاوُتُ فِيهِ ثَابِتٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
مِثَالُهُ أَيْ مِثَالُ التَّرْجِيحِ بِقُوَّةِ الْأَثَرِ مَا قُلْنَا فِي طَوْلِ الْحُرَّةِ أَيْ الْغَنَاءِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى تَزَوُّجِ الْحُرَّةِ وَفِي الْمُغْرِبِ الطَّوْلُ الْفَضْلُ يُقَالُ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ طَوْلٌ أَيْ زِيَادَةٌ، وَفَضْلٌ وَعَنْ الشَّعْبِيِّ إذَا وُجِدَ الطَّوْلُ إلَى الْحُرَّةِ بَطَلَ نِكَاحُ الْأَمَةِ فَعَدَّاهُ بِإِلَى.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ طَوْلُ الْحُرَّةِ فَمُتَّسِعٌ فِيهِ، أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ الْحُرُّ مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ حَتَّى لَوْ كَانَ مَالِكًا لِمَهْرِ الْحُرَّةِ فَتَزَوَّجَ أَمَةً جَازَ عِنْدَنَا، وَقُيِّدَ بِالْحُرِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْنَعُ الْعَبْدُ بِالِاتِّفَاقِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: رحمه الله يُمْنَعُ يَعْنِي لَمْ يَجُزْ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ مَعَ طَوْلِ الْحُرَّةِ الْمُؤْمِنَةِ أَوْ الْكِتَابِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَرِقُّ مَاءَهُ بِنِكَاحِ الْأَمَةِ إذْ الْوَلَدُ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ عَلَى غُنْيَةً أَيْ حَالِ كَوْنِهِ مُسْتَغْنِيًا عَنْ إرْقَاقِ جُزْئِهِ بِقُدْرَتِهِ عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ، وَذَلِكَ أَيْ اسْتِرْقَاقُ الْجُزْءِ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ حَرَامٌ عَلَى كُلِّ حُرٍّ؛ لِأَنَّهُ كَالْإِهْلَاكِ حُكْمًا إذْ الرِّقُّ فِي الْأَصْلِ عُقُوبَةُ الْكُفْرِ الَّذِي مُوجِبُهُ الْقَتْلُ وَلِهَذَا كَانَ لِلْإِمَامِ الْخِيَارُ فِي الْكَافِرِ الْمَغْنُومِ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْإِرْقَاقِ؛ وَلِأَنَّهُ اسْتِدْلَالُ الْجُزْءِ، وَكَانَ حَرَامًا إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَهِيَ خَوْفُ الْوُقُوعِ فِي الزِّنَا الْمُشَارِ إلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25] .
وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ اقْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ فِي الْأَصْلِ النِّكَاحُ لَا غَيْرُ وَهَذِهِ الشَّهْوَةُ مُرَكَّبَةٌ فِي الطِّبَاعِ فَمَتَى اشْتَهَى، وَهُوَ عَاجِزٌ لَمْ يُؤْمَنْ مِنْ الْوُقُوعِ فِي الزِّنَا فَأُبِيحَ لَهُ حَالَ الْعَدَمِ نِكَاحُ الْأَمَةِ لِدَفْعِ الضَّرُورَةِ وَالضَّرُورَةُ تَرْتَفِعُ بِإِصَابَةِ الطَّوْلِ فَيَرْتَفِعُ الْإِبَاحَةُ كَحِلِّ الْمَيْتَةِ وَفِي قَوْلِهِ عَلَى حُرٍّ احْتِرَازٌ عَنْ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ إرْقَاقُ جُزْئِهِ بِنِكَاحِ الْأَمَةِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ؛ لِأَنَّهُ رَقِيقٌ حَقِيقَةً فَلَا يَكُونُ فِي نِكَاحِهِ لِلْأَمَةِ إرْقَاقَ جُزْئِهِ الْحُرِّ بَلْ كَانَ امْتِنَاعًا مِنْ تَحْصِيلِ صِفَةِ الْحُرِّيَّةِ لِلْجُزْءِ وَذَلِكَ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ.
وَهَذَا وَصْفٌ بَيِّنُ الْأَثَرِ، وَهُوَ مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْإِرْقَاقَ كَالْإِهْلَاكِ إلَى آخِرِهِ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مَا إذَا تَزَوَّجَ حُرَّةً عَلَى أَمَةٍ حَيْثُ يَبْقَى نِكَاحُ الْأَمَةِ صَحِيحًا مَعَ أَنَّ فِيهِ إرْقَاقَ الْوَلَدِ أَيْضًا مَعَ الْغُنْيَةِ؛ لِأَنَّا أَقَمْنَا السَّبَبَ، وَهُوَ الْعَقْدُ مَقَامَ حَقِيقَةِ الْإِرْقَاقِ فِي الْحُرْمَةِ بِلَا ضَرُورَةٍ فَيَكُونُ إذًا لِلْبَقَاءِ عَلَى السَّبَبِ حُكْمُ الْبَقَاءِ عَلَى رِقٍّ ثَبَتَ وَالْإِرْقَاقُ ابْتِدَاءً حَرَامٌ؛ لِأَنَّهُ عُقُوبَةُ الْكُفْرِ لَا الْبَقَاءِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَبْقَى بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَالتَّوْبَةِ، وَلَا يَلْزَمُ أَيْضًا إبَاحَةُ الْعَزْلِ مَعَ أَنَّ فِيهِ إعْدَامَ الْوَلَدِ أَصْلًا لِأَنَّ فِي الْعَزْلِ تَضْيِيعَ الْمَاءِ وَالِامْتِنَاعَ مِنْ تَحْصِيلِ الْوَلَدِ وَكَانَ دُونَ التَّسَبُّبِ لِإِهْلَاكِ الْوَلَدِ الْمَوْجُودِ.
وَلَا يَلْزَمُ أَيْضًا مَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ مَجْبُوبًا أَوْ عِنِّينًا أَوْ كَانَتْ الْأَمَةُ الْمَنْكُوحَةُ عَجُوزًا أَوْ عَقِيمًا أَوْ صَغِيرَةً حَيْثُ لَا يُبَاحُ النِّكَاحُ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ إرْقَاقُ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْإِرْقَاقَ أَمْرٌ يَحْصُلُ بِالْعُلُوقِ مِنْ مَائِهِ وَذَلِكَ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فَأُقِيمَ نِكَاحُ الْأَمَةِ مَقَامَ الْإِرْقَاقِ كَمَا أُقِيمَ النِّكَاحُ مَقَامَ الْوَطْءِ وَالْعُلُوقِ فِي إثْبَاتِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ وَثُبُوتِ النَّسَبِ.
وَقُلْنَا: إنَّهُ أَيْ نِكَاحُ الْأَمَةِ مَعَ طَوْلِ الْحُرَّةِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ نِكَاحٌ يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى فَيَمْلِكُهُ الْحُرُّ كَسَائِرِ الْأَنْكِحَةِ الَّتِي يَمْلِكُهَا الْعَبْدُ، وَهَذَا قَوِيُّ الْأَثَرِ أَيْ هَذَا الْقِيَاسُ أَقْوَى أَثَرًا مِنْ الْقِيَاسِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَإِنَّ الْآدَمِيَّ يَصِيرُ بِهَا أَهْلًا لِلْوِلَايَاتِ وَتَمَلُّكِ الْأَشْيَاءِ وَاسْتِحْقَاقِ الْكَرَامَاتِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْبَشَرِ فَكَانَ تَأْثِيرُهَا فِي الْإِطْلَاقِ، وَفَتْحِ بَابِ النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ مِنْ النِّعَمِ لَا فِي الْمَنْعِ وَالْحَجْرِ، وَالرِّقُّ مِنْ أَسْبَابِ تَنْصِيفِ الْحِلِّ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ إلَّا نِكَاحَ امْرَأَتَيْنِ لِنُقْصَانِ حَالِهِ بِالرِّقِّ وَالْحُرُّ يَمْلِكُ نِكَاحَ أَرْبَعٍ بِشَرَفِ الْحُرِّيَّةِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الرَّقِيقُ فِي النِّصْفِ مِثْلَ الْحُرِّ فِي الْكُلِّ فِي اعْتِبَارِ الشُّرُوطِ
وَهَذَا قَوِيُّ الْأَثَرِ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَأَسْبَابِ الْكَرَامَةِ، وَالرِّقُّ مِنْ أَسْبَابِ تَنْصِيفِ الْحِلِّ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الرَّقِيقُ فِي النِّصْفِ مِثْلَ الْحُرِّ فِي الْكُلِّ فَإِمَّا أَنْ يَزْدَادَ أَثَرُ الرِّقِّ وَيَتَّسِعَ حِلُّهُ فَلَا، وَهَذَا أَثَرٌ ظَهَرَتْ قُوَّتُهُ وَيَزْدَادُ وُضُوحًا بِالتَّأَمُّلِ فِي أَحْوَالِ الْبَشَرِ أَلَا يَرَى أَنَّهُ حَلَّ لِرَسُولِ اللَّهِ عليه السلام التِّسْعُ أَوْ إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى لِفَضْلِهِ وَشَرَفِهِ فَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ الْأَثَرِ فَضَعِيفٌ بِحَقِيقَتِهِ؛ لِأَنَّ الْإِرْقَاقَ دُونَ التَّضْيِيعِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ بِالْعَزْلِ بِإِذْنِ الْحُرَّةِ فَالْإِرْقَاقُ أَوْلَى.
وَضَعِيفٌ بِأَحْوَالِهِ فَإِنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ جَائِزٌ لِمَنْ يَمْلِكُ سُرِّيَّةً يَسْتَغْنِي بِهَا عَنْهُ
ــ
[كشف الأسرار]
لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ فِي أَصْلِ الْحِلِّ لَا فِي الشُّرُوطِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ فِي الثِّنْتَيْنِ مِثْلُ الْحُرِّ فِي الْأَرْبَعِ فِي اشْتِرَاطِ الشُّهُودِ وَوُجُوبِ الْمَهْرِ وَالْخُلُوِّ عَنْ عِدَّةِ الْغَيْرِ وَالْمَوْلَى عَلَى أَصْلِ الْخَصْمِ فَلَوْ كَانَ عَدَمُ الطَّوْلِ شَرْطًا لِجَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ فِي حَقِّ الْحُرِّ لَكَانَ شَرْطًا فِي حَقِّ الْعَبْدِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلرِّقِّ فِي إسْقَاطِ الشُّرُوطِ وَتَنْصِيفِهَا وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَتَّسِعَ الْحِلُّ الَّذِي يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ بِالرِّقِّ الَّذِي هُوَ مِنْ أَوْصَافِ النُّقْصَانِ وَيَتَضَيَّقُ بِالْحُرِّيَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَوْصَافِ الْكَمَالِ وَأَسْبَابِ الْكَرَامَاتِ فَيَحِلُّ لِلْعَبْدِ تَزَوُّجُ الْأَمَةِ مَعَ طَوْلِ الْحُرَّةِ وَتَزَوُّجُ الْأَمَةِ عَلَى أَمَةٍ وَعَلَى حُرَّةٍ، وَلَا يَحِلُّ شَيْءٌ مِنْهُمَا لِلْحُرِّ، وَهَذَا عَكْسُ الْمَعْقُولِ وَنَقْضُ الْأُصُولِ.
وَهَذَا أَيْ مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْحُرِّيَّةَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ إلَى آخِرِهِ أَثَرٌ ظَهَرَتْ قُوَّتُهُ فِي نَفْسِهِ بِالنَّظَرِ إلَى الْأَصْلِ، وَازْدَادَ قُوَّةً وَوُضُوحًا بِالتَّأَمُّلِ فِي أَحْوَالِ الْبَشَرِ فَإِنَّ مَا يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ فِي حَقِّ الْبَشَرِ ازْدَادَ بِزِيَادَةِ الشَّرَفِ حَتَّى إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا كَانَ أَشْرَفَ النَّاسِ أُبِيحَ لَهُ نِكَاحُ تِسْعِ نِسْوَةٍ أَوْ مَا لَا يَتَنَاهَى عَلَى مَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها «مَا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ حَتَّى أُبِيحَ لَهُ مِنْ النِّسَاءِ مَا شَاءَ» فَثَبَتَ أَنَّ زِيَادَةَ الْكَرَامَةِ تُوجِبُ زِيَادَةَ الْحِلِّ فَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِزِيَادَةِ حِلِّ الْعَبْدِ مَعَ نُقْصَانِ حَالِهِ عَلَى الْحُرِّ فَإِنْ قِيلَ نَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ تَأْثِيرَ الرِّقِّ فِي الْمَنْعِ وَتَأْثِيرَ الْحُرِّيَّةِ فِي الْإِطْلَاقِ، وَلَكِنْ مَا لَمْ يُؤَدِّ إلَى الْإِرْقَاقِ فَإِذَا أَدَّى حَرُمَ كَرَامَةً لَهُ لَا بِحِسَابِهِ كَمَا حَرُمَتْ الْمَجُوسِيَّةُ عَلَى الْمُسْلِمِ دُونَ الْكَافِرِ قُلْنَا نَحْنُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إرْقَاقٌ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ إرْقَاقٌ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِرْقَاقَ بِهَذَا الطَّرِيقِ حَرَامٌ لِمَا سَنُبَيِّنُ فَأَمَّا مَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ مِنْ الْأَثَرِ وَهُوَ أَنَّ الْإِرْقَاقَ إهْلَاكٌ حُكْمًا فَضَعِيفٌ بِحَقِيقَتِهِ أَيْ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ إرْقَاقَ الْحُرِّ دُونَ التَّضْيِيعِ؛ لِأَنَّ بِالْإِرْقَاقِ يَفُوتُ صِفَةُ الْحُرِّيَّةِ لَا أَصْلُ الْوَلَدِ مَعَ أَنَّهُ أَمْرٌ يُرْجَى زَوَالُهُ بِالْعِتْقِ وَبِالتَّضْيِيعِ يَفُوتُ أَصْلُ الْوَلَدِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُرْجَى وُجُودُهُ ثُمَّ التَّضْيِيعُ بِالْعَزْلِ بِإِذْنِ الْحُرَّةِ وَبِنِكَاحِ الصَّبِيَّةِ وَالْعَجُوزِ وَالْعَقِيمِ مَعَ أَنَّهُ إتْلَافٌ حَقِيقَةً جَائِزٌ فَالْإِرْقَاقُ الَّذِي هُوَ إهْلَاكٌ حُكْمًا كَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ فَإِنْ قِيلَ فِي الْعَزْلِ امْتِنَاعٌ مِنْ اكْتِسَابِ سَبَبِ الْوُجُودِ لَكِنْ إذَا أَرَادَ مُبَاشَرَةَ سَبَبِ الْوُجُودِ يَنْبَغِي أَنْ يُبَاشِرَ عَلَى وَجْهٍ لَا يُفْضِي إلَى الْإِهْلَاكِ لَا يُوصَفُ بِالرِّقِّ، وَلَا بِالْحُرِّيَّةِ إلَّا بِطَرِيقِ التَّبَعِ لِلْأَصْلِ فَإِذَا انْفَصَلَ لَمْ يُقْبَلْ صِفَةَ الرِّقِّ، وَلَا صِفَةَ الْحُرِّيَّةِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ وَلَدًا بَعْدَ الِاخْتِلَاطِ بِمَائِهَا فَقَبْلَهُ لَهُ حُكْمُ الْعَدَمِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَحَدِ شَطْرَيْ الْعِلَّةِ، وَلَا حُكْمَ بِبَعْضِ الْعِلَّةِ قَبْلَ وُجُودِ الْبَاقِي، وَإِذَا اخْتَلَطَ تَرَجَّحَ مَاؤُهَا عَلَى مَائِهِ بِحُكْمِ الْحَضَانَةِ فَيَتَخَلَّقُ الْوَلَدُ مِنْ الْمَاءَيْنِ رَقِيقًا ابْتِدَاءً فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ صِفَةُ الْحُرِّيَّةِ أَصْلًا فَلَمْ يَكُنْ هَذَا إرْقَاقَ الْحُرِّ، وَمَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَالْإِهْلَاكِ فِي إرْقَاقِ الْحُرِّ.
وَضَعِيفٌ بِأَحْوَالِهِ أَيْ بِأَحْوَالِ الْأَثَرِ فَإِنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ جَائِزٌ لِمَنْ مَلَكَ سُرِّيَّةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ يَسْتَغْنِي بِهَا عَنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ، وَإِرْقَاقِ الْجُزْءِ فَإِنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ يَكُونُ حُرُّ الْأَصْلِ، وَكَذَا لَوْ كَانَتْ تَحْتَهُ أَمَةٌ ثُمَّ تَزَوَّجَ حُرَّةً فَإِنَّ نِكَاحَهَا لَا يَبْطُلُ، وَقَدْ اسْتَغْنَى عَنْ إرْقَاقِ الْوَلَدِ فَإِنَّ الرِّقَّ صِفَةُ الْوَلَدِ فَلَا يَحْدُثُ قَبْلَ وُجُودِهِ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ بِالْوَطْءِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَحْرُمَ الْوَطْءُ، وَإِذَا حَرُمَ الْوَطْءُ يَبْطُلُ النِّكَاحُ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَبْطُلُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَصْفُ الْإِرْقَاقِ مُطَّرِدًا فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ فَتَفْسُدُ الْعِلَّةُ بِفَوَاتِ الْإِطْرَادِ الَّذِي هُوَ شَرْطُ صِحَّتِهَا
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ إنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ مِنْ الْمَوَانِعِ، وَكَذَلِكَ الْكُفْرُ فَإِذَا اجْتَمَعَا أَلْحَقَ بِالْكُفْرِ الْغَلِيظَةَ وَلِأَنَّ الضَّرُورَةَ انْقَضَتْ بِإِحْلَالِ الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ وَقُلْنَا نَحْنُ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ يَصِحُّ مَعَهُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ فَكَذَلِكَ نِكَاحُ الْأَمَةِ كَدِينِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ نِكَاحٌ يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ، وَهَذَا أَثَرٌ ظَهَرَتْ قُوَّتُهُ لِمَا قُلْنَا إنَّ أَثَرَ الرِّقِّ فِي التَّنْصِيفِ فِيمَا يَقْبَلُهُ كَمَا قِيلَ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ وَالْقَسْمِ وَالْحُدُودِ وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِمَا يَقْبَلُ الْعَدَدَ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَنِكَاحُ الْمَرْأَةِ فِي نَفْسِهِ مُقَابَلًا بِالرِّجَالِ لَيْسَ بِمُتَعَدِّدٍ فَلَا يَحْتَمِلُ التَّنْصِيفَ
ــ
[كشف الأسرار]
وَأَمَّا عَدَمُ جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ فَلَيْسَ بِاعْتِبَارِ حُرْمَةِ إرْقَاقِ الْجُزْءِ كَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ بَلْ بِاعْتِبَارِ نُقْصَانِ حَالِهَا بِالرِّقِّ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ رحمه الله مِنْ جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ لِمَنْ مَلَكَ سُرِّيَّةً مَذْهَبُنَا فَأَمَّا عِنْدَ الْخَصْمِ فَلَا يَجُوزُ فَقَدْ ذَكَرَ فِي التَّهْذِيبِ، وَإِنْ كَانَ فِي مِلْكِهِ أَمَةٌ يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا أَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ أَمَةً لَا يَحِلُّ أَنْ يَنْكِحَ الْأَمَةَ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْ إرْقَاقِ وَلَدِهِ بِمَا مَعَهُ فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى الْخَصْمِ؛ لِأَنَّهُ احْتِجَاجٌ بِالْمُخْتَلِفِ عَلَى الْمُخْتَلِفِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ وَالسُّرِّيَّةُ الْأَمَةُ الَّتِي اتَّخَذَهَا مَوْلَاهَا لِلْفِرَاشِ وَحَصَّنَهَا وَطَلَبَ وَلَدَهَا فُعْلِيَّةٌ مِنْ السِّرِّ أَيْ الْجِمَاعِ أَوْ فَعُولَةٌ مِنْ السَّرْوِ السِّيَادَةُ.
قَوْلُهُ: (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ، وَمِنْ التَّرْجِيحِ بِقُوَّةِ الْأَثَرِ قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا بَيَّنَّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَذَا؛ لِأَنَّ مَا بَيَّنَّا هُوَ الَّذِي تَرَجَّحَ بِقُوَّةِ الْأَثَرِ دُونَ قَوْلِهِمْ إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ تَسَامَحَ فِي الْعِبَارَةِ فَإِنَّ بِسِيَاقِ الْكَلَامِ يُفْهَمُ أَنَّ مُرَادَهُ بَيَانُ مِثَالٍ آخَرَ تَرَجَّحَ فِيهِ قَوْلُنَا بِقُوَّةِ الْأَثَرِ فَكَانَ التَّقْدِيرُ، وَمِنْ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي تُرَجِّحُ قَوْلَنَا بِقُوَّةِ الْأَثَرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ يَعْنِي إذَا فَاتَ طَوْلُ الْحُرَّةِ حَتَّى حَلَّ نِكَاحُ الْأَمَةِ إنَّمَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ مِنْ الْمَوَانِعِ يَعْنِي لَهُ تَأْثِيرٌ فِي تَحْرِيمِ النِّكَاحِ حَتَّى لَمْ يَجُزْ نِكَاحُ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ، وَكَذَلِكَ الْكُفْرُ فِي الْجُمْلَةِ حَتَّى لَمْ يَجُزْ نِكَاحُ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمَةِ أَصْلًا، وَلَمْ يَجُزْ لِلْمُسْلِمِ تَزَوُّجُ كُلِّ كَافِرَةٍ فَإِذَا اجْتَمَعَا تَأَيَّدَا أَحَدُهُمَا بِالْآخِرِ وَأُلْحِقَ الْمَجْمُوعُ بِالْكُفْرِ الْغَلِيظِ، وَهُوَ كُفْرُ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ كَالْمَجُوسِيَّةِ وَالِارْتِدَادِ فِي الْمَنْعِ مِنْ النِّكَاحِ؛ وَلِأَنَّ جَوَازَ نِكَاحِ الْأَمَةِ ضَرُورِيٌّ لِمَا فِيهِ مِنْ إرْقَاقِ الْجُزْءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَالضَّرُورَةُ انْقَضَتْ بِإِحْلَالِ الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ الَّتِي هِيَ أَظْهَرُ مِنْ الْكَافِرَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إحْلَالِ الْكَافِرَةِ كَالْمُضْطَرِّ إلَى الطَّعَامِ إذَا وَجَدَ الْمَيْتَةَ وَذَبِيحَةَ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ غَائِبٌ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْمَيْتَةُ؛ لِأَنَّ الذَّبِيحَةَ أَظْهَرُ، وَإِنْ كَانَتْ حَرَامًا بِدُونِ إذْنِ الْمَالِكِ فِي غَيْرِ حَالَةِ الضَّرُورَةِ فَلَمَّا وَقَعَتْ الْغُنْيَةُ بِالْأَظْهَرِ لَمْ تَحِلَّ الْأُخْرَى.
وَقُلْنَا نَحْنُ: لَا بَأْسَ بِهِ أَيْ بِنِكَاحِ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ عِنْدَ عَدَمِ الطَّوْلِ وَوُجُودِهِ، وَإِنْ كَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى عِنْدَ وُجُودِ الطَّوْلِ؛ لِأَنَّهُ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى الْمَفْهُومِ أَيْ؛ لِأَنَّ دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ دِينٌ يَصِحُّ مَعَهُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ فَيَصِحُّ نِكَاحُ الْأَمَةِ كَدِينِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ نِكَاحٌ يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ فَيَمْلِكُهُ الْحُرُّ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ النُّكْتَتَيْنِ فِي مُقَابَلَةِ إحْدَى نُكْتَتَيْ الْخَصْمِ وَقَوْلُهُ، وَهَذَا أَثَرٌ ظَهَرَتْ قُوَّتُهُ بِبَيَانِ تَأْثِيرِ النُّكْتَةِ الْأُولَى فَإِنَّهُ قَدْ بَيَّنَ تَأْثِيرَ النُّكْتَةِ الثَّانِيَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الرِّقَّ لَا يُؤَثِّرُ فِي تَحْرِيمِ أَصْلِ النِّكَاحِ بَلْ أَثَرُهُ فِي التَّنْصِيفِ فِيمَا يَقْبَلُهُ حَتَّى كَانَ طَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَيْنِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَيْنِ، وَقَسْمُهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ قَسْمِ الْحُرَّةِ وَحَدُّ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ فِي الزِّنَا وَالْقَذْفِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَدِّ الْحُرِّ. وَقَوْلُهُ: فِيمَا يَقْبَلُهُ احْتِرَازٌ عَنْ نَحْوِ حَدِّ السُّرِّيَّةِ وَالطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ وَالْحَيْضَةِ الْوَاحِدَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعِبَادَاتِ فَإِنَّهَا لَا تَقْبَلُ التَّنْصِيفَ فَلَمْ يُؤَثِّرْ الرِّقُّ فِيهَا، وَذَلِكَ أَيْ التَّنْصِيفُ يَخْتَصُّ بِمَا يَقْبَلُ الْعَدَدَ مِنْ الْأَحْكَامِ وَالتَّجْزِئَةَ؛ لِأَنَّ تَنْصِيفَ الشَّيْءِ بِدُونِ أَنْ يَكُونَ ذَا عَدَدٍ وَذَا أَجْزَاءٍ لَا يُتَصَوَّرُ وَالنِّكَاحُ الَّذِي يَبْتَنِي عَلَى الْحِلِّ فِي جَانِبِ الرَّجُلِ مُتَعَدِّدٌ حَيْثُ يَجُوزُ لَهُ تَزَوُّجُ أَرْبَعٍ مِنْ النِّسْوَةِ فَيَظْهَرُ التَّنْصِيفُ فِيهِ بِالرِّقِّ فَيَحِلُّ لِلْعَبْدِ نِكَاحُ امْرَأَتَيْنِ فَأَمَّا نِكَاحُ الْمَرْأَةِ فِي نَفْسِهِ مُقَابَلًا بِالرِّجَالِ فَلَيْسَ بِمُتَعَدِّدٍ إذْ لَا تَحِلُّ الْمَرْأَةُ لِرَجُلَيْنِ بِحَالٍ لِيَتَنَصَّفَ بِالرِّقِّ
لَكِنَّهُ ذُو أَحْوَالٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَهِيَ التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ وَالْمُقَارَنَةُ فَصَحَّ مُتَقَدِّمًا، وَلَمْ يَصِحَّ مُتَأَخِّرًا قَوْلًا بِالتَّنْصِيفِ، وَبَطَلَ مُقَارِنًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّنْصِيفَ فَغُلِّبَ التَّحْرِيمُ كَالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَالْأَقْرَاءِ أَنَّهَا صَارَتْ ثِنْتَيْنِ بِالرِّقِّ لِمَا قُلْنَا فَهَذَا وَصْفٌ قَوِيَ أَثَرُهُ.
وَلِذَلِكَ قُلْنَا فِي الْحُرِّ إذَا نَكَحَ أَمَةً عَلَى أَمَةٍ إنَّهُ صَحِيحٌ كَالْعَبْدِ إذَا فَعَلَهُ وَضَعُفَ أَثَرُ وَصْفِهِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ لَكِنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ التَّنْصِيفِ كَرِقِّ الرِّجَالِ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَى الرَّجُلِ شَيْئًا حَلَّ لِلْحُرِّ لَكِنَّهُ أَثَرٌ فِي التَّنْصِيفِ، وَقَدْ جَعَلْت الرِّقَّ مِنْ أَسْبَابِ فَضْلِ الْحِلِّ
ــ
[كشف الأسرار]
إلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ فَتَعَذَّرَ التَّنْصِيفُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَكِنَّهُ أَيْ نِكَاحُ الْمَرْأَةِ ذُو أَحْوَالٍ مُتَعَدِّدَةٍ حَالَ اجْتِمَاعِهَا مَعَ الضَّرَّةِ قَدْ يَكُونُ مُتَقَدِّمًا عَلَى نِكَاحِ الضَّرَّةِ، وَمُتَأَخِّرًا عَنْهُ، وَمُقَارِنًا إيَّاهُ فَيَقْبَلُ التَّنْصِيفَ بِالرِّقِّ بِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ فَيَصِحُّ نِكَاحُ الْأَمَةِ مُتَقَدِّمًا عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ، وَلَمْ يَصِحَّ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ قَوْلًا بِالتَّنْصِيفِ فَبَقِيَ حَالَةُ الْمُقَارَنَةِ، وَهِيَ لَا تُقْبَلُ التَّنْصِيفَ وَقَدْ اجْتَمَعَ فِيهَا مَعْنَى الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّ إلْحَاقَهَا بِحَالَةِ التَّقَدُّمِ اقْتَضَى الْحِلَّ، وَإِلْحَاقُهَا بِحَالَةِ التَّأْخِيرِ اقْتَضَى الْحُرْمَةَ فَيَغْلِبُ مَعْنَى الْحُرْمَةُ احْتِيَاطًا كَالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَالْأَقْرَاءِ لَمَّا أَوْجَبَ الرِّقُّ تَنَصُّفَهَا، وَالطَّلْقَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ، وَالْقُرْءُ الْمُتَوَسِّطُ لَمْ يَقْبَلَا التَّنْصِيفَ.
وَقَدْ اجْتَمَعَ فِيهِمَا جِهَتَا الثُّبُوتِ وَالسُّقُوطِ بِالنَّظَرِ إلَى طَرَفَيْهِمَا رَجَّحْنَا جَانِبَ الثُّبُوتِ احْتِيَاطًا.
أَوْ يُقَالُ لِنِكَاحِ الْأَمَةِ حَالَتَانِ حَالَةُ الِانْفِرَادِ عَنْ الْحُرَّةِ بِالسَّبْقِ وَحَالَةُ الِانْضِمَامِ إلَى الْحُرَّةِ بِالْمُقَارَنَةِ أَوْ التَّأَخُّرِ فَتَكُونُ مُحَلَّةً فِي إحْدَى الْحَالَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى فَإِنْ قِيلَ سَلَّمْنَا أَنَّ رِقَّ الرَّجُلِ يُؤَثِّرُ فِي تَنْقِيصِ الْحِلِّ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ يُؤَثِّرُ فِي تَنْقِيضِ مَالِكِيَّتِهِ الَّتِي عَلَيْهَا يَبْتَنِي الْحِلُّ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ رِقَّ الْمَرْأَةِ فِي تَنْقِيصِ حِلِّهَا؛ لِأَنَّ حِلَّهَا بِنَاءً عَلَى الْمَمْلُوكِيَّةِ، وَالرِّقُّ يَزِيدُ فِي مَمْلُوكِيَّتِهَا فَكَيْفَ يُؤَثِّرُ فِي تَنْقِيصِ الْحِلِّ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الرِّقَّ يَفْتَحُ عَلَيْهَا بَابًا مِنْ الْحِلِّ كَانَ مَسْدُودًا قَبْلَهُ فَإِنَّهَا تَحِلُّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَالنِّكَاحِ جَمِيعًا، وَقَبْلَ الِاسْتِرَاقِ لَمْ تَكُنْ تَحِلُّ إلَّا بِمِلْكِ النِّكَاحِ فَاسْتَحَالَ أَنْ يَسُدَّ عَلَيْهَا بَابًا كَانَ مَفْتُوحًا قَبْلَهُ، وَإِذَا كَانَ يَثْبُتُ حِلٌّ جَدِيدٌ فِيهَا بِالرِّقِّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْتَقَصَ الْحِلُّ الثَّابِتُ فِيهَا بِالرِّقِّ قُلْنَا كَمَا أَنَّ الْحِلَّ فِي الرَّجُلِ كَرَامَةٌ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ كَرَامَةٌ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ نِعْمَةٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عَلَى مَا عُرِفَ فَلَمَّا كَانَ حِلُّ الرَّجُلِ يَتَنَصَّفُ بِرِقِّهِ فَكَذَلِكَ حِلُّ الْأَمَةِ وَقَوْلُهُ انْفَتَحَ بِسَبَبِ رَقِّهَا بَابٌ مِنْ الْحِلِّ قُلْنَا حِلُّ مِلْكِ الْيَمِينِ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ وَلِهَذَا لَا تُطَالِبُهُ بِالْوَطْءِ وَلَا تَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ شَيْئًا فَالِاسْتِمْتَاعُ بِهَا كَالِاسْتِمْتَاعِ بِسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ أَثَرُ الرِّقِّ فِي فَتْحِهِ فَأَمَّا مِلْكُ النِّكَاحِ وَحِلُّهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَقَدْ ثَبَتَ كَرَامَةً فَأَثَرُ الرِّقِّ فِي الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا وَلِهَذَا يُنْتَقَصُ قَسْمُ الْأَمَةِ وَعِدَّتُهَا بِالِاتِّفَاقِ وَطَلَاقُهَا عِنْدَنَا.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ أَثَرَ الرِّقِّ فِي التَّنْصِيفِ لَا فِي تَغْيِيرِ أَصْلِ النِّكَاحِ لَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُ النِّصْفِ الْبَاقِي وَبَقِيَ عَلَى مَا كَانَ فَيَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ مُتَقَدِّمًا عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ لَا مُتَأَخِّرًا أَوْ مُقَارِنًا عَمَلًا بِالتَّنْصِيفِ كَمَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ مُطْلَقًا فَهَذَا وَصْفٌ أَيْ الْوَصْفُ الَّذِي اعْتَمَدْنَا عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ دِينَ الْكِتَابِيَّةِ دِينٌ يَصِحُّ مَعَهُ نِكَاحٌ فَيَصِحُّ نِكَاحُ الْأَمَةِ. وَصْفٌ قَوِيَ أَثَرُهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْحِلَّ الَّذِي بِهِ تَصِيرُ الْمَرْأَةُ مَحَلًّا لِلنِّكَاحِ وَلَا يَخْتَلِفُ بِدِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا فِي الْحُرَّةِ، وَأَصْلُ هَذَا الْحِلِّ لَا يَتَغَيَّرُ بِالرِّقِّ فَبَقِيَتْ كَالْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ، وَكَالْحُرَّةِ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ وَلِذَلِكَ أَيْ؛ وَلِأَنَّ أَثَرَ الرِّقِّ فِي التَّنْصِيفِ لَا غَيْرُ أَوْ؛ لِأَنَّ مَا يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ مِنْ الْأَنْكِحَةِ يَمْلِكُهُ الْحُرُّ قُلْنَا فِي الْحُرِّ إذَا تَزَوَّجَ أَمَةً عَلَى أَمَةٍ إنَّهُ صَحِيحٌ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ كَالْعَبْدِ فِعْلُهُ؛ لِأَنَّ أَثَرَ الرِّقِّ فِي التَّنْصِيفِ لَا فِي إزَالَةِ الْحِلِّ وَإِثْبَاتِهِ، وَقَدْ كَانَتْ الْإِمَاءُ مِنْ الْمُحَلَّلَاتِ فَبَقِينَ عَلَى مَا كُنَّ عَلَيْهِ قَبْلَ الرِّقِّ وَضَعُفَ أَثَرُ وَصْفِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ جَعَلَ الرِّقَّ أَيْ رِقَّ الْمَرْأَةِ مِنْ أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ مِنْ أَسْبَابِ التَّنْصِيفِ كَرِقِّ الرَّجُلِ، وَقَدْ جَعَلَ أَيْ الشَّافِعِيُّ الرِّقَّ مِنْ أَسْبَابِ فَضْلِ الْحِلِّ حَيْثُ أَبَاحَ لِلْعَبْدِ مَعَ نُقْصَانِ
وَهَذَا عَكْسُ الْمَعْقُولِ وَنَقْضُ الْأُصُولِ، وَدِينُ الْكِتَابِيِّ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ أَيْضًا، وَأَثَرُهُمَا مُخْتَلِفٌ أَيْضًا فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُجْعَلَا عِلَّةً وَاحِدَةً وَغَيْرُ مُسَلَّمٍ لَهُ أَنْ يَكُونَ نِكَاحُ الْأَمَةِ فِي حُكْمِ الْجَوَازِ ضَرُورِيًّا لَكِنَّهُ فِي حُكْمِ الِاسْتِحْبَابِ مِثْلُ نِكَاحِ الْحُرَّةِ الْكِتَابِيَّةِ لِمَا قُلْنَا مِنْ سُقُوطِ حُرْمَةِ الْإِرْقَاقِ.
ــ
[كشف الأسرار]
حَالِهِ مِنْ الْأَنْكِحَةِ مَا لَمْ يُبِحْ لِلْحُرِّ مَعَ شَرَفِهِ، وَفَضْلِهِ عَلَى الْعَبْدِ.
وَهَذَا أَيْ جَعْلُ الرِّقِّ مِنْ أَسْبَابِ فَضْلِ الْحِلِّ عَكْسُ الْمَعْقُولِ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ نِعْمَةٌ تُسْتَحَقُّ بِالشَّرَفِ وَالْفَضْلِ، وَالْعَقْلُ يَأْبَى أَنْ يَكُونَ الْحُرُّ الشَّرِيفُ أَنْقَصَ نِعْمَةً مِنْ الْعَبْدِ الْخَسِيسِ وَنَقْضُ الْأُصُولِ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ أَثَرُ الرِّقِّ فِي التَّنْصِيفِ لَا غَيْرُ وَأَنْ يَكُونَ الْحُرُّ أَوْسَعَ حِلًّا مِنْ الْعَبْدِ، وَأَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ أَدْنَى دَرَجَةً مِنْ الْحُرِّ فِي اسْتِحْقَاقِ الْكَرَامَةِ، وَفِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ نَقْضُ هَذِهِ الْأُصُولِ.
وَقَوْلُهُ وَدِينُ الْكِتَابِيِّ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَكَذَلِكَ الْكُفْرُ يَعْنِي كَمَا أَنَّ الرِّقَّ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ دِينُ الْكِتَابِيِّ كَذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ مَعَهُ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً حَتَّى جَازَ لِلْمُسْلِمِ تَزَوُّجُ الْكِتَابِيَّةِ وَبَقِيَ النِّكَاحُ بَعْدَمَا أَسْلَمَ زَوْجُ الْكِتَابِيَّةِ حَتَّى لَوْ أَبَتْ عَنْ الْإِسْلَامِ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُوجِبُ انْضِمَامُ الرِّقِّ الْبَيْعَ تَغَلُّظًا فِيهِ وَتَحْرِيمًا لِلنِّكَاحِ لِعَدَمِ تَأْثِيرِهِمَا فِي التَّحْرِيمِ وَلَوْ كَانَ كُفْرُ الْكِتَابِيَّةِ يَتَغَلَّظُ بِالرِّقِّ فِي حُكْمِ النِّكَاحِ لَكَانَ كَذَلِكَ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ أَيْضًا كَالْمَجُوسِيَّةِ وَأَثَرُهُمَا مُخْتَلِفٌ يَعْنِي إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الرِّقَّ وَالْكُفْرَ مِنْ الْمَوَانِعِ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَيْضًا لِيَصِيرَا بِمَنْزِلَةِ عِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ مَنْعَ الرِّقِّ النِّكَاحَ بِاعْتِبَارِ نُقْصَانِ الْحَالِ، وَمَنْعُ الْكُفْرِ إيَّاهُ بِاعْتِبَارِ خُبْثِ الِاعْتِقَادِ فَكَانَ مَنْعُ الْكُفْرِ بِطَرِيقَةٍ غَيْرِ طَرِيقَةِ مَنْعِ الرِّقِّ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْكُلُّ عِلَّةً وَاحِدَةً وَبِدُونِ الِاتِّحَادِ لَا يَثْبُتُ مَعْنَى التَّغَلُّظِ فَكَانَ اجْتِمَاعُهُمَا بِمَنْزِلَةِ اجْتِمَاعِ عِلَّتَيْنِ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ فَلَمْ يَقْوَ أَحَدُهُمَا بِالْآخِرِ كَابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا زَوْجٌ أَوْ أَخٌ لِأُمٍّ.
قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي الْأَسْرَارِ: أَمَّا اعْتِبَارُ الْخُبْثِ فَفَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْخُبْثَ بِالْكُفْرِ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ وَبِالرِّقِّ لَا يَزْدَادُ خُبْثُ الْكُفْرِ فَالرَّقِيقُ رُبَّمَا يَكُونُ أَنْقَى، وَأَتْقَى مِنْ الْحُرِّ فَيَكُونُ أَطْهَرَ شَرْعًا إنَّمَا سُقُوطُ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ النَّاسِ، وَمَا لَهُ أَثَرٌ فِي تَحْرِيمِ الْحِلِّ.
وَقَوْلُهُ: وَغَيْرُ مُسْلِمٍ جَوَابٌ عَنْ النُّكْتَةِ الثَّانِيَةِ يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّ جَوَازَ نِكَاحِ الْأَمَةِ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الرَّقِيقَ فِي النِّصْفِ مِثْلُ الْحُرِّ، وَكَمَا أَنَّ نِكَاحَ الْحُرَّةِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ لَا بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ فَكَذَلِكَ نِكَاحُ الْأَمَةِ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي لَهَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً ثُمَّ تَزَوَّجَ حُرَّةً لَا يَبْطُلُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَلَوْ كَانَ جَوَازُ نِكَاحِ الْأَمَةِ ضَرُورِيًّا لَمَا بَقِيَ بَعْدَمَا زَالَتْ الضَّرُورَةُ بِنِكَاحِ الْحُرَّةِ كَمَا لَوْ قَدَرَ الْمُتَيَمِّمُ عَلَى الْمَاءِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ أَوْ قَدَرَ الْمُضْطَرُّ عَلَى الطَّعَامِ الْحَلَالِ فِي خِلَالِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَلَا يُقَالُ الْقُدْرَةُ عَلَى الْأَصْلِ لَا يُبْطِلُ حُكْمَ الْبَدَلِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَهَاهُنَا لَمَّا جَازَ الْعَقْدُ وَتَمَّ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: نَحْنُ لَا نُسَلِّمُ حُصُولَ الْمَقْصُودِ فَإِنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ عُمُرٍ، وَحُصُولُ الْمَقْصُودِ عَنْهُ بِانْقِضَاءِ الْعُمُرِ فَقَبْلَ الِانْقِضَاءِ لَا يَتِمُّ الْمَقْصُودُ، لَكِنَّهُ فِي حُكْمِ الِاسْتِحْبَابِ يَعْنِي أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْجَوَازِ لَيْسَ بِضَرُورِيٍّ، وَلَكِنَّهُ فِي حُكْمِ الِاسْتِحْبَابِ ضَرُورِيٌّ مِثْلُ نِكَاحِ الْحُرَّةِ الْكِتَابِيَّةِ مَعَ وُجُودِ الْمُؤْمِنَةِ لِمَا قُلْنَا مِنْ سُقُوطِ حُرْمَةِ الْإِرْقَاقِ هَذَا تَعْلِيلٌ لِكَوْنِهِ غَيْرَ ضَرُورِيٍّ يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ ضَرُورِيٌّ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ ضَرُورِيًّا مَبْنِيٌّ عَلَى ثُبُوتِ حُرْمَةِ الْإِرْقَاقِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حُرْمَةَ الْإِرْقَاقِ سَاقِطَةٌ فَانْتَفَى كَوْنُهُ ضَرُورِيًّا لِانْتِفَاءِ دَلِيلِهِ.
قَوْلُهُ: (وَمِثَالُهُ أَيْضًا) أَيْ مِثَالٌ آخَرُ لِلتَّرْجِيحِ بِقُوَّةِ الْأَثَرِ تَرْجِيحُ دَلِيلِنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُمْكِنُ إبْقَاءُ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا إنْ أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ وَبَقِيَ الزَّوْجُ كَافِرًا أَوْ أَسْلَمَ
وَمِثَالُهُ أَيْضًا مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي إسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ إنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الْفُرْقَةِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَا بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ الرِّدَّةُ سَوَّى بَيْنَهُمَا، وَهَذَا وَصْفٌ ضَعِيفُ الْأَثَرِ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ وَقُلْنَا نَحْنُ إنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ الْفُرْقَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الْعِصْمَةِ وَبَقَاءِ الْآخَرِ عَلَى مَا كَانَ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِهِ أَيْضًا بِالْإِجْمَاعِ فَوَجَبَ إثْبَاتُ الْحُكْمِ مُضَافًا إلَى سَبَبٍ جَدِيدٍ، وَهُوَ فَوَاتُ أَغْرَاضِ النِّكَاحِ مُضَافًا إلَى امْتِنَاعِ الْآخَرِ عَنْ أَدَاءِ الْإِسْلَامِ حَقًّا لِلَّذِي أَسْلَمَ
ــ
[كشف الأسرار]
وَالْمَرْأَةُ وَثَنِيَّةٌ أَوْ مَجُوسِيَّةٌ لَا يَقَعُ الْفُرْقَةُ عِنْدَنَا بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ بَلْ يَجِبُ عَرْضُ الْإِسْلَامِ عَلَى الْآخَرِ فَإِنْ أَسْلَمَ بَقِيَ النِّكَاحُ، وَإِنْ أَبَى فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا، سَوَاءٌ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ أَوْ قَبْلَهُ. وَإِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: رحمه الله إنْ لَمْ تَكُنْ الْمَرْأَةُ مَدْخُولًا بِهَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ لِلْحَالِ فِي الْفَصْلَيْنِ أَعْنِي فِي الْإِسْلَامِ وَالرِّدَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا تَتَوَقَّفُ الْفُرْقَةُ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي الْفَصْلَيْنِ أَيْضًا فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ مِنْ أَسْبَابِ الْفُرْقَةِ إلَى آخِرِهِ أَنَّ الْإِسْلَامَ مِنْ أَسْبَابِ الْفُرْقَةِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْعِدَّةِ بِأَنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ فَالْفُرْقَةُ وَاقِعَةٌ بِمُجَرَّدِ الْإِسْلَامِ وَحُصُولِ الِاخْتِلَافِ وَالْمُرَادُ بِالْعِدَّةِ انْقِضَاءُ ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِهِ.
وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ هَذِهِ فُرْقَةٌ وَجَبَتْ بِسَبَبٍ طَارِئٍ غَيْرِ مُنَافٍ لِلنِّكَاحِ بِحُكْمِهِ مُوجِبٌ حُرْمَةَ الِاسْتِمْتَاعِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَجَّلَ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَيَتَأَجَّلَ إلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا قِيَاسًا عَلَى الْفُرْقَةِ بِطَلَاقٍ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا طَارِئٍ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ لِاخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ، وَأَنَّهُ طَارِئٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهُ غَيْرُ مُنَافٍ حُكْمًا بِدَلِيلِ أَنَّ النِّكَاحَ بَاقٍ مَعَ الِاخْتِلَافِ إلَى الْعَرْضِ وَالْإِبَاءِ عِنْدَكُمْ، وَإِلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ عِنْدِي، وَكَذَلِكَ مَعَ رِدَّتِهَا جَمِيعًا أَصْلُكُمْ، وَمَا يُنَافِي حُكْمًا لَا يُتَصَوَّرُ مَعَهُ الْبَقَاءُ كَمِلْكِ الْيَمِينِ وَحُرْمَةِ الرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ وَهَذَا مَعْنًى مُؤَثِّرٌ؛ لِأَنَّ لِمِثْلِ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَثَرًا فِي إيجَابِ الْفُرْقَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ فَصَحَّتْ إضَافَةُ الْفُرْقَةِ إلَيْهِ، وَقُلْنَا نَحْنُ إنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ الْفُرْقَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الْعِصْمَةِ أَيْ عِصْمَةِ الْحُقُوقِ وَتَأْكِيدِ الْإِمْلَاكِ بِقَوْلِهِ عليه السلام «فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ» فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَحَقَّ بِهِ زَوَالُ الْمِلْكِ بِحَالٍ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ قَرَارَ النِّكَاحِ تَوَقَّفَ عَلَى الْإِسْلَامِ الْآخَرِ حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ بَقِيَا عَلَيْهِ، وَمَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَقَّفَ قَرَارُ النِّكَاحِ عَلَى وُجُودِهِ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلْإِسْلَامِ فِي إيجَابِ الْفُرْقَةِ وَبَقَاءُ الْآخَرِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ الْكُفْرِ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ التَّفْرِيقِ أَيْضًا بِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّ كُفْرَ مَا كَانَ مَوْجُودًا وَصَحَّ مَعَهُ النِّكَاحُ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلْفُرْقَةِ؛ لِأَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ قَاطِعًا لَا يُوجِبُ قَطْعًا ضَرُورَةً فَإِنْ قِيلَ إنَّا نُسَلِّمُ أَنَّ كُفْرَهُ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا مَعَ كُفْرِ الْآخَرِ لِبَقَاءِ الِاتِّفَاقِ فَأَمَّا مَعَ إسْلَامِهِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ مُؤَثِّرٌ.
وَهُوَ اخْتِلَافُ الدِّينَيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّ كُفْرَهُ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ وَمُحَرِّمًا لِلْوَطْءِ مَعَ كُفْرِ الْآخَرِ، وَالْآنَ هُوَ مَانِعٌ وَمُحَرِّمٌ قُلْنَا صَيْرُورَتُهُ مَانِعًا، وَمُحَرِّمًا بِتَبَدُّلِ الْحَالِ لَا تَدُلُّ عَلَى صَيْرُورَتِهِ قَاطِعًا فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَشْيَاءِ يَمْنَعُ، وَلَا يَقْطَعُ، وَالنِّزَاعُ وَقَعَ فِي الْقَطْعِ فَصَارَ فِي حَقِّ الْقَطْعِ كَأَنَّ الْحَالَةَ لَمْ تَتَبَدَّلْ أَلَا تَرَى أَنَّ قِيَامَ الْعِدَّةِ وَعَدَمَ الشُّهُودِ يَمْنَعَانِ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ، وَلَا يَمْنَعَانِ الْبَقَاءَ وَالِاسْتِغْنَاءُ عَنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ بِنِكَاحِ الْحُرَّةِ يَمْنَعُ نِكَاحَهَا ابْتِدَاءً، وَلَا يَمْنَعُ الْبَقَاءَ إذَا تَزَوَّجَ الْحُرَّةَ بَعْدَ الْأَمَةِ، وَلَمَّا لَمْ يَصْلُحْ الْإِسْلَامُ سَبَبًا لِلْفُرْقَةِ، وَلَا كُفْرَ الْبَاقِي لَمْ يَصْلُحْ اخْتِلَافُ الدِّينِ النَّاشِئُ مِنْهُمَا سَبَبًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثَرٌ فِي الْفُرْقَةِ فَإِذَا اجْتَمَعَا يَكُونُ كَذَلِكَ أَيْضًا، وَلَوْ جُعِلَ الِاخْتِلَافُ سَبَبًا وَجَبَ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَى الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ الْوَصْفُ الْأَخِيرُ
وَهُوَ سَبَبٌ ظَاهِرُ الْأَثَرِ كَمَا فِي اللِّعَانِ وَالْإِيلَاءِ وَالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ وَأَمَّا الرِّدَّةُ فَمُنَافِيَةٌ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَسْبَابِ زَوَالِ الْعِصْمَةِ
ــ
[كشف الأسرار]
مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ سَابِقٌ عَلَيْهِ، وَكَذَا الِاخْتِلَافُ وُجِدَ بِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا.
وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ الْفُرْقَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ دَفْعِ ضَرَرِ الظُّلْمِ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنِّكَاحِ، وَهُوَ الِاسْتِمْتَاعُ فَاتَ شَرْعًا وَجَبَ إثْبَاتُ الْحُكْمِ مُضَافًا إلَى سَبَبٍ جَدِيدٍ وَهُوَ فَوَاتُ أَغْرَاضِ النِّكَاحِ مِنْ حِلِّ الْوَطْءِ وَالْمَسِّ وَالتَّقْبِيلِ مُضَافًا إلَى امْتِنَاعِ الْآخَرِ عَنْ أَدَاءِ الْإِسْلَامِ يَعْنِي فَوَاتَ هَذِهِ الْأَغْرَاضِ بِتَحْقِيقٍ بِامْتِنَاعِ الْآخَرِ عَنْ أَدَاءِ الْإِسْلَامِ لَا بِإِسْلَامِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ الثَّانِي بَقِيَ النِّكَاحُ بِأَغْرَاضِهِ بِالْإِجْمَاعِ فَوَجَبَ إصَابَةُ اسْتِحْقَاقِ الْغُرْبَةِ إلَى الِامْتِنَاعِ الْحَادِثِ لَا إلَى الْإِسْلَامِ الْعَاصِمِ وَكُفْرُ الْبَاقِي حَقًّا لِلَّذِي أَسْلَمَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ فَوَجَبَ إثْبَاتُ الْحُكْمِ أَيْ وَجَبَ إثْبَاتُ اسْتِحْقَاقِ الْفُرْقَةِ رِعَايَةً لِحَقِّ الْمُسْلِمِ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ إنْ كَانَ هُوَ الزَّوْجَ وَجَبَ عَلَيْهِ إدْرَارُ النَّفَقَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ فَائِدَةُ الِاسْتِمْتَاعِ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةَ صَارَتْ كَالْمُعَلَّقَةِ بِفَوَاتِ أَغْرَاضِ النِّكَاحِ مَعَ بَقَائِهِ وَالتَّعْلِيقُ ظُلْمٌ وَتَفْوِيتٌ لِلْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ مُفَوَّضًا إلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ لِإِزَالَةِ الظُّلْمِ وَالْقَاضِي قَدْ وُلِّيَ لِإِزَالَةِ الظُّلْمِ عَنْ النَّاسِ، وَهُوَ أَيْ فَوَاتُ الْأَغْرَاضِ سَبَبٌ لِلْفُرْقَةِ ظَاهِرُ الْأَثَرِ فَإِنَّ الْأَسْبَابَ تُرَاعَى لِأَحْكَامِهَا فَإِذَا خَلَتْ عَنْهَا وَجَبَ الْقَوْلُ بِإِلْغَائِهَا كَمَا فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ فَإِنَّ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ فِيهَا بِنَاءً عَلَى فَوَاتِ أَغْرَاضِ النِّكَاحِ مُحَالًا بِهِ عَلَى مَنْ كَانَ فَوَاتُ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ جِهَتِهِ أَمَّا فِي الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِي اللِّعَانِ فَلِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ لَمَّا حَرُمَ بِالتَّلَاعُنِ، وَفَاتَ غَرَضُ النِّكَاحِ بِسَبَبِ فِعْلِ الزَّوْجِ وَهُوَ الرَّمْيُ بَقِيَتْ الْمَرْأَةُ مُعَلَّقَةً مَظْلُومَةً لَا يَصِلُ إلَيْهَا حَقُّهَا فَوَجَبَ دَفْعُ الظُّلْمِ عَنْهَا بِالتَّفْرِيقِ.
وَكَذَا فِي الْإِيلَاءِ فَإِنَّ الزَّوْجَ ظَلَمَهَا بِمَنْعِ حَقِّهَا فِي الْمُدَّةِ فَجُوزِيَ بِزَوَالِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ عِنْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَعَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ صَارَ الزَّوْجُ ظَالِمًا بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ بِمَنْعِ حَقِّهَا فَوَجَبَ التَّفْرِيقُ إذَا أَصَرَّ عَلَى الظُّلْمِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا الْحُرْمَةُ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ وَالْعِدَّةِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ حُرُمَاتٌ لَا تَدُومُ بَلْ هِيَ بِعَرْضِ الزَّوَالِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى تَفْوِيتِ أَغْرَاضِ النِّكَاحِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الظُّلْمُ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (فَأَمَّا الرِّدَّةُ فَمُنَافِيَةٌ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَسْبَابِ زَوَالِ الْعِصْمَةِ) يَعْنِي هِيَ مُوجِبَةٌ لِلْفُرْقَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمُنَافَاةِ لَا لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْفُرْقَةِ فَثَبَتَ بِالْحُرْمَةِ بِنَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى انْقِضَاءِ عِدَّةٍ وَلَا قَضَاءِ قَاضٍ كَمَا فِي طُرُوءِ الرَّضَاعِ وَحُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّا وَجَدْنَا الرِّدَّةَ قَدْ أَبْطَلَتْ النِّكَاحَ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ مُبْطِلَةً وَضْعًا أَوْ بِطَرِيقِ الْمُنَافَاةِ.
وَلَا وَجْهَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمُبْطِلَ لِشَيْءٍ وَضْعًا لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ غَيْرَ مُبْطِلٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ وُضِعَ لِإِبْطَالِهِ فَإِذَا لَمْ يَبْطُلْ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا كَالْعِتْقِ لَمَّا وُضِعَ لِإِبْطَالِ الْمِلْكِ وَإِزَالَةِ الرِّقِّ لَمْ يَكُنْ عِتْقًا عِنْدَ عَدَمِ الْإِبْطَالِ وَالْإِزَالَةِ، وَقَدْ وَجَدْنَا الرِّدَّةَ مُتَحَقِّقَةً غَيْرَ مُبْطِلَةٍ لِلنِّكَاحِ فِيمَا إذَا ارْتَدَّ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ امْرَأَةٌ فَعَلِمْنَا أَنَّهَا لَمْ تُوضَعْ لِإِبْطَالِ مِلْكِ النِّكَاحِ؛ وَلِأَنَّ الْمَوْضِعَ لِإِبْطَالِ أَمْرٍ شَرْعِيٍّ يَكُونُ مَشْرُوعًا لِإِبْطَالِهِ لَا مَحَالَةَ، وَالرِّدَّةُ لَيْسَتْ بِمَشْرُوعَةٍ بِوَجْهٍ وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مَوْضُوعَةً لِإِبْطَالِ مِلْكِ النِّكَاحِ، وَقَدْ أَبْطَلَتْ النِّكَاحَ عَلِمْنَا أَنَّهَا إنَّمَا تُبْطِلُهُ بِطَرِيقِ الْمُنَافَاةِ كَالرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ فَإِنَّهُمَا لَيْسَا بِمَوْضُوعَيْنِ لِإِبْطَالِ النِّكَاحِ لِتَحَقُّقِهِمَا فِي غَيْرِ مِلْكِ النِّكَاحِ، وَلَكِنَّهُمَا مُنَافِيَانِ لِلنِّكَاحِ عَلَى مَعْنَى
وَذَلِكَ أَمْرٌ بَيِّنٌ، وَلَا يَلْزَمُ إذَا ارْتَدَّا مَعًا؛ لِأَنَّا أَثْبَتْنَا حُكْمَهُ بِنَصٍّ آخَرَ، وَهُوَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَالْقِيَاسُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي مُعَارَضَةِ الْإِجْمَاعِ؛ وَلِأَنَّ حَالَ الِاتِّفَاقِ دُونَ حَالِ الِاخْتِلَافِ فَلَنْ يَصِحَّ التَّعْدِيَةُ إلَيْهِ فِي تَضَادِّ حُكْمَيْنِ وَضَعُفَ أَثَرُ قَوْلِهِ إنَّ الرِّدَّةَ غَيْرُ مُنَافِيَةٍ بِدَلَالَةِ ارْتِدَادِهِمَا؛ لِأَنَّا وَجَدْنَا اخْتِلَافَ الدِّينِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى الْكُفْرِ لَا يَمْنَعُ، وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ إنَّهُ رُكْنٌ فِي الْوُضُوءِ
ــ
[كشف الأسرار]
أَنَّهُمَا سَبَبَا الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ، وَالْحُرْمَةُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى الْجُزْئِيَّةِ مُنَافِيَةٌ لِلنِّكَاحِ فَكَذَلِكَ الرِّدَّةُ تَبْدِيلُ الدِّينِ، وَذَلِكَ تُوجِبُ إبْطَالَ عِصْمَةِ الشَّخْصِ وَعِصْمَةَ أَمْلَاكِهِ فَتُوجِبُ بُطْلَانَ عِصْمَةِ مِلْكِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ دُونَ نَفْسِهِ، وَكَذَا الشَّخْصُ بِبُطْلَانِ الْعِصْمَةِ يَلْتَحِقُ بِالْمَوْتَى وَالْجَمَادَاتِ، وَالْمَيِّتُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِمِلْكِ النِّكَاحِ بِوَجْهٍ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَتَعَجَّلَ الْفُرْقَةُ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَبْقَى مَعَ مَا يُنَافِيهِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ بَيِّنٌ أَيْ كَوْنُ الرِّدَّةِ مِنْ أَسْبَابِ زَوَالِ الْعِصْمَةِ الَّتِي عَلَيْهَا مَبْنَى النِّكَاحِ أَمْرٌ ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ فِيهِ إذْ الرِّدَّةُ تُؤَثِّرُ فِي إزَالَةِ عِصْمَةِ النَّفْسِ وَالْمَالِ بِالْإِجْمَاعِ.
وَلَا يَلْزَمُ إذَا ارْتَدَّا مَعًا يَعْنِي لَا يُقَالُ لَوْ كَانَ بُطْلَانُ النِّكَاحِ بِالرِّدَّةِ لِلْمُنَافَاةِ لَزِمَ أَنْ تَبْطُلَ بِارْتِدَادِهِمَا بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى لِازْدِيَادِ الْمُنَافِي كَمَا لَوْ اجْتَمَعَ الرِّضَاءُ وَالنَّسَبُ أَوْ الْمُصَاهَرَةُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ ارْتِدَادُهُمَا مُبْطِلًا أَيْضًا لِلْمُنَافَاةِ كَمَا قَالَ زُفَرُ رحمه الله إلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فَإِنَّ الْعَرَبَ ارْتَدُّوا فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فَلَمَّا أَسْلَمُوا لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِتَجْدِيدِ الْأَنْكِحَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ شَيْئَيْنِ ظَهَرَا، وَلَمْ يُعْرَفْ التَّارِيخُ بَيْنَهُمَا أَنْ يُجْعَلَا كَأَنَّهُمَا وَقَعَا مَعًا كَمَا فِي الْغَرْقَى وَالْحَرْقَى، وَقَدْ تَحَقَّقَ ارْتِدَادُ الْعَرَبِ وَلَمْ يَعْرِفُ التَّارِيخُ أَنَّ الْمَرْأَةَ ارْتَدَّتْ أَوَّلًا أَمْ الرَّجُلُ فَجُعِلَ كَالْوَاقِعِ مَعًا فَصَارَ إجْمَاعًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ؛ وَلِأَنَّ حَالَ الِاتِّفَاقِ دُونَ حَالِ الِاخْتِلَافِ يَعْنِي لَوْ لَمْ يَكُنْ الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدًا لَا يَدُلُّ مُنَافَاةُ ارْتِدَادِ أَحَدِهِمَا لِلنِّكَاحِ عَلَى مُنَافَاةِ ارْتِدَادِهِمَا إيَّاهُ؛ لِأَنَّ حَالَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى الِارْتِدَادِ فِي اقْتِضَاءِ الْحُرْمَةِ دُونَ حَالِ اخْتِلَافِهِمَا فِيهِ؛ لِأَنَّ فِي حَالِ الِاخْتِلَافِ لَيْسَ الْكَافِرُ مِنْهُمَا بِمَعْصُومٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَلِانْقِطَاعِ الْعِصْمَةِ بَيْنَهُمَا بَطَلَ النِّكَاحُ، وَهَذَا الْمَعْنَى فِي حَالِ الِاتِّفَاقِ مَعْدُومٌ فَلَمْ يَصْلُحْ التَّعْدِيَةُ أَيْ تَعْدِيَةُ حُكْمِ الِاخْتِلَافِ إلَيْهِ أَيْ إلَى الِاتِّفَاقِ فِي تَضَادِّ حُكْمَيْنِ أَيْ مَعَ تَضَادِّ حُكْمَيْ الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ فَإِنَّ الِاتِّفَاقَ يَقْتَضِي الْحِلَّ وَبَقَاءَ النِّكَاحِ، وَالِاخْتِلَافُ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ وَالْفُرْقَةَ.
وَضَعُفَ أَثَرُ قَوْلِهِ يَعْنِي ضَعُفَ أَثَرُ قِيَاسِ الشَّافِعِيِّ وَاعْتِبَارُهُ ارْتِدَادَ أَحَدِهِمَا بِارْتِدَادِهِمَا جَمِيعًا فِي عَدَمِ مُنَافَاتِهِ النِّكَاحَ. وَقَوْلُهُ: لِأَنَّا وَجَدْنَا دَلِيلًا عَلَى قَوْلِهِ فَلَمْ يَصِحَّ التَّعْدِيَةُ، وَقَوْلُهُ وَضَعُفَ أَثَرُ قَوْلِهِ إنَّ الرِّدَّةَ كَذَا يَعْنِي لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ ارْتِدَادِهِمَا بِارْتِدَادِ أَحَدِهِمَا فِي إثْبَاتِ الْمُنَافَاةِ فِيهِ، وَلَا ارْتِدَادِ أَحَدِهِمَا بِارْتِدَادِهِمَا فِي نَفْيِ الْمُنَافَاةِ عَنْهُ؛ لِأَنَّا وَجَدْنَا لِاخْتِلَافِ الدِّينِ تَأْثِيرًا فِي الْحُرْمَةِ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ بِلَا خِلَافٍ وَيَقْطَعُهُ أَيْضًا عِنْدَهُ كَمَا بَيَّنَّا وَلِاتِّفَاقِ الدِّينِ تَأْثِيرٌ فِي الْحَالِ حَتَّى جَازَ نِكَاحُ مَجُوسِيَّيْنِ، وَلَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَجُزْ فَثَبَتَ أَنَّ الِاتِّفَاقَ لَيْسَ مِثْلَ الِاخْتِلَافِ فَلَا يُمْكِنُ إلْحَاقُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مُنَافَاةِ أَحَدِهِمَا مُنَافَاةُ الْآخَرِ، وَلَا مِنْ عَدَمِ مُنَافَاةِ أَحَدِهِمَا عَدَمُ مُنَافَاةِ الْآخَرِ وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ امْتِنَاعُ صِحَّةِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا ابْتِدَاءً بَعْدَ الرِّدَّةِ عِلَّةً لِلْمَنْعِ مِنْ بَقَاءِ النِّكَاحِ لَا بِابْتِنَاءِ فَسَادِ اعْتِبَارِ حَالَةِ الْبَقَاءِ بِحَالَةِ الِابْتِدَاءِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ لَا يَسْتَدْعِي دَلِيلًا مُبْقِيًا، وَإِنَّمَا يَسْتَدْعِي الْفَائِدَةَ فِي الْإِبْقَاءِ وَبَعْدَ رِدَّتِهِمَا يُتَوَهَّمُ مِنْهُمَا الرُّجُوعُ إلَى الْإِسْلَامِ وَبِهِ يَظْهَرُ فَائِدَةُ الْبَقَاءِ فَأَمَّا الثُّبُوتُ ابْتِدَاءً فَيَسْتَدْعِي الْحِلَّ فِي الْمَحِلِّ وَذَلِكَ مَعْدُومٌ بَعْدَ الرِّدَّةِ وَعِنْدَ رِدَّةِ أَحَدِهِمَا لَا يَظْهَرُ فِي الْإِبْقَاءِ فَائِدَةٌ مَعَ مَا هُمَا عَلَيْهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ.
وَمِثَالُهُ
وَهَذَا ضَعِيفُ الْأَثَرِ؛ لِأَنَّ الرُّكْنِيَّةَ لَا يُؤَثِّرُ فِي التَّكْرَارِ وَلَا يَخْتَصُّ بِهِ فَقَدْ سُنَّ تَكْرَارُ الْمَضْمَضَةِ، وَأَثَرُ الْمَسْحِ فِي التَّخْفِيفِ بَيِّنٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ قَوِيٌّ لَا ضَعْفَ فِيهِ، وَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى.
وَأَمَّا الثَّانِي، وَهُوَ قُوَّةُ ثَبَاتِهِ عَلَى الْحُكْمِ الْمَشْهُودِ بِهِ فَلِأَنَّ الْأَثَرَ إنَّمَا صَارَ أَثَرًا لِرُجُوعِهِ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَإِذَا ازْدَادَ ثَبَاتًا ازْدَادَ قُوَّةً بِفَضْلِ مَعْنَاهُ وَذَلِكَ فِي قَوْلِنَا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ إنَّهُ مَسْحٌ فَهَذَا أَثْبَتُ فِي دَلَالَةِ التَّخْفِيفِ مِنْ قَوْلِهِمْ رُكْنٌ فِي دَلَالَةِ التَّكْرَارِ أَلَا تَرَى أَنَّ الرُّكْنَ وَصْفٌ عَامٌّ فِي الْوُضُوءِ وَفِي أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، وَهِيَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، وَكَانَ مِنْ قَضِيَّةِ الرُّكْنِ إكْمَالُهُ بِالْإِطَالَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَا تَكْرَارُهُ وَوَجَدْنَاهُ فِي الْبَابِ مَا لَيْسَ رُكْنًا وَيَتَكَرَّرُ، وَهُوَ الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ.
وَأَمَّا أَثَرُ الْمَسْحِ فِي التَّخْفِيفِ فَثَابِتٌ لَازِمٌ لَا مَحَالَةَ فِي كُلِّ مَا لَا يُعْقَلُ تَطْهِيرًا كَالتَّيَمُّمِ، وَمَسْحِ الْخُفِّ، وَمَسْحِ الْجَبَائِرِ، وَمَسْحِ الْجَوَارِبِ
ــ
[كشف الأسرار]
أَيْ مِثَالُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ إنَّ الرِّدَّةَ غَيْرُ مُنَافِيَةٍ فِي النِّصْفِ قَوْلُهُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ: إنَّهُ رُكْنٌ فِي الْوُضُوءِ فَيُسَنُّ فِيهِ التَّكْرَارُ كَالْغَسْلِ. هَذَا أَيْ وَصْفُ الرُّكْنِ ضَعِيفُ الْأَثَرِ؛ لِأَنَّ الرُّكْنِيَّةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي التَّكْرَارِ بِدَلِيلِ عَدَمِ تَأْثِيرِهَا فِيهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بَلْ تَأْثِيرُهَا فِي الْوُجُودِ لَا غَيْرُ، وَلَا يَخْتَصُّ فِيهِ أَيْ لَا يَخْتَصُّ التَّكْرَارُ بِالرُّكْنِ فِي الْوُضُوءِ أَيْضًا فَإِنَّ التَّكْرَارَ مَسْنُونٌ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ وَهُمَا لَيْسَا بِرُكْنَيْنِ يَعْنِي أَنَّهُمَا لَيْسَا بِمُتَلَازِمَيْنِ فَإِنَّ الرُّكْنَ قَدْ يُوجَدُ بِدُونِ التَّكْرَارِ كَمَا فِي أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهَا وَالتَّكْرَارُ قَدْ يُوجَدُ بِدُونِ الرُّكْنِيَّةِ كَمَا فِي الْمَضْمَضَةِ، وَتَعْلِيلُنَا بِأَنَّهُ مَسْحٌ فَلَا يُسَنُّ فِيهِ التَّكْرَارُ تَعْلِيلٌ بِوَصْفٍ قَوِيَ أَثَرُهُ فَإِنَّ أَثَرَ الْمَسْحِ فِي التَّخْفِيفِ بَيِّنٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ إذْ الِاكْتِفَاءُ بِالْمَسْحِ مَعَ إمْكَانِ الْغَسْلِ مَا كَانَ إلَّا لِلتَّخْفِيفِ، وَتَأَدِّي الْفَرْضِ بِبَعْضِ الْمَحَلِّ مَعَ إمْكَانِ الِاسْتِيعَابِ لِلتَّخْفِيفِ أَيْضًا. وَكَذَا سُقُوطُ التَّكْرَارِ فِي مَسْحِ الْخُفِّ وَالْجَبِيرَةِ وَالتَّيَمُّمِ لِلتَّخْفِيفِ فَعَرَفْنَا أَنَّ تَأْثِيرَهُ فِي التَّخْفِيفِ قَوِيٌّ لَا ضَعْفَ فِيهِ، وَهَذَا أَيْ التَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ الْأَثَرِ فِي مَسَائِلِ أَصْحَابِنَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى.
قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الثَّانِي) أَيْ صِحَّةُ الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْ التَّرْجِيحِ، وَهُوَ قُوَّةُ ثَبَاتِهِ أَيْ ثَبَاتِ الْوَصْفِ عَلَى الْحُكْمِ الْمَشْهُودِ بِهِ أَيْ الْحُكْمِ الَّذِي شَهِدَ الْوَصْفُ بِثُبُوتِهِ؛ فَلِأَنَّ الْوَصْفَ الْمُؤَثِّرَ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً بِأَثَرِهِ، وَمَرْجِعُ أَثَرِهِ الْكِتَابُ أَوْ السُّنَّةُ أَوْ الْإِجْمَاعُ يَعْنِي يُعْتَبَرُ أَثَرُهُ لِثُبُوتِهِ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ فَإِذَا ازْدَادَ الْوَصْفُ ثَبَاتًا عَلَى الْحُكْمِ ازْدَادَ قُوَّةً بِفَضْلِ مَعْنَاهُ الَّذِي صَارَ بِهِ حُجَّةً، وَهُوَ رُجُوعُ أَثَرِهِ إلَى هَذِهِ الْأَدِلَّةِ فَإِنَّ وَصْفَ الْمَسْحِ لَمَّا ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي التَّخْفِيفِ كَانَ زِيَادَةُ ثَبَاتِهِ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ ثَابِتَةً بِالنَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ أَيْضًا كَثُبُوتِ أَصْلِ الْأَثَرِ فَيَتَرَجَّحُ عَلَى مَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ هَذِهِ الْقُوَّةُ، وَذَلِكَ أَيْ التَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ الثَّبَاتِ.
أَلَا تَرَى تَوْضِيحٌ لِعَدَمِ ثَبَاتِ وَصْفِ الرُّكْنِيَّةِ عَلَى التَّكْرَارِ، لَازِمٌ تَفْسِيرٌ لِثَابِتٍ إذْ الْمُرَادُ مِنْ الثَّبَاتِ عَلَى الْحُكْمِ لُزُومُهُ لَهُ فِي كُلِّ مَا لَا يُعْقَلُ تَطْهِيرًا أَيْ فِي كُلِّ مَسْحٍ شُرِعَ لِلتَّطْهِيرِ، وَلَمْ يُعْقَلْ مِنْهُ مَعْنَى التَّطْهِيرِ، وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِغَيْرِ الْمَاءِ فَإِنَّهُ مَسْحٌ وَقَدْ شُرِعَ فِيهِ التَّكْرَارُ؛ لِأَنَّهُ عُقِلَ فِيهِ مَعْنَى التَّطْهِيرِ إذَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّنْقِيَةُ، وَالتَّكْرَارُ يُؤَثِّرُ فِي تَحْصِيلِ هَذَا الْمَقْصُودِ، وَمَسْحُ الْجَوَارِبِ، يَعْنِي عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا أَيْ مِثْلُ قَوْلِنَا فِي الْمَسْحِ قَوْلُنَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إنَّهُ مُتَعَيِّنٌ فَلَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُهُ كَصَوْمِ النَّفْلِ فَإِنَّهُ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ صَوْمُ فَرْضٍ فَيُشْتَرَطُ تَعْيِينُهُ كَصَوْمِ الْقَضَاءِ لِكَوْنِهِ أَثْبَتَ عَلَى حُكْمِهِ مِمَّا ذَكَرُوا؛ لِأَنَّ وَصْفَ الْفَرْضِيَّةِ لَا يُوجِبُ إلَّا الِامْتِثَالَ بِهِ أَيْ لَا يَقْتَضِي إلَّا الْإِتْيَانَ بِالْمَفْرُوضِ لَا التَّعْيِينَ لَا مَحَالَةَ أَيْ لَا يَقْتَضِي التَّعْيِينَ أَلْبَتَّةَ فَإِنَّ الْحَجَّ يَجُوزُ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَبِنِيَّةِ النَّفْلِ عَلَى أَصْلِهِ، وَذَلِكَ أَيْ وَصْفُ الْفَرْضِيَّةِ وَصْفٌ خَاصٌّ فِي الْبَابِ أَيْ فِي بَابِ الصَّوْمِ.
يَعْنِي التَّعْلِيلَ بِوَصْفِ الْفَرْضِيَّةِ لِإِيجَابِ التَّعْيِينِ لَوْ صَحَّ إنَّمَا يَصِحُّ فِي بَابِ الصَّوْمِ دُونَ سَائِرِ الْمَوَاضِعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّعْيِينَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ بَلْ التَّعْيِينُ فِي غَيْرِهَا إنَّمَا يَجِبُ بِمَعَانٍ أُخَرَ لَا بِوَصْفِ الْفَرْضِيَّةِ فَأَمَّا التَّعْيِينُ أَيْ سُقُوطُ التَّعْيِينِ فَلَازِمٌ لِوَصْفِ التَّعْيِينِ أَوْ الْمُرَادُ مِنْ التَّعْيِينِ التَّعْيِينُ بِطَرِيقِ إطْلَاقِ اسْمِ السَّبَبِ، وَإِرَادَةِ الْمُسَبَّبِ يَعْنِي التَّعْلِيلَ بِوَصْفِ الْعَيْنِيَّةِ فِي سُقُوطِ اشْتِرَاطِ التَّعْيِينِ لَازِمٌ أَيْ ثَابِتٌ فِي كُلِّ عَيْنٍ حَتَّى تَعَدَّى أَيْ ثَبَتَ فِي رَدِّ الْوَدَائِعِ وَالْغُصُوبِ وَرَدِّ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ حَتَّى
وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ: إنَّهُ مُتَعَيِّنٌ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِمْ صَوْمُ فَرْضٍ؛ لِأَنَّ الْفَرْضِيَّةَ لَا تُوجِبُ إلَّا الِامْتِثَالَ بِهِ وَالتَّعْيِينَ لَا مَحَالَةَ وَذَلِكَ وَصْفٌ خَاصٌّ فِي الْبَابِ.
وَأَمَّا التَّعْيِينُ فَلَازِمٌ حَتَّى تَعَدَّى إلَى الْوَدَائِعِ وَالْغُصُوبِ وَرَدِّ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَعَقْدِ الْأَيْمَانِ وَنَحْوِهَا فَكَانَ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا فِي الْمَنَافِعِ إنَّهَا لَا تُضْمَنُ مُرَاعَاةً لِشَرْطِ ضَمَانِ الْعُدْوَانِ بِالِاحْتِرَازِ عَنْ الْفَضْلِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِمْ إنَّ مَا يُضْمَنُ بِالْعَقْدِ يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ تَحَقَّقَتْ لِلْجَبْرِ، وَإِثْبَاتِ الْمِثْلِ تَقْرِيبًا، وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ؛ لِأَنَّهُ فَضْلٌ عَلَى الْمُتَعَدِّي أَوْ إهْدَارٌ عَلَى الْمَظْلُومِ
ــ
[كشف الأسرار]
لَوْ رَدَّ الْوَدِيعَةَ أَوْ الْمَغْصُوبَ إلَى الْمَالِكِ أَوْ رَدَّ الْمَبِيعَ إلَى الْبَائِعِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُهُ لِأَجْلِ الْوَدِيعَةِ أَوْ الْغَصْبِ أَوْ لِرَدِّ الْبَيْعِ بَلْ بِأَيِّ طَرِيقٍ وُجِدَ يَقَعُ فِي الْجِهَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ لِتَعَيُّنِ الْمَحَلِّ، وَلَوْ أَدَّى الدَّيْنَ يُشْتَرَطُ التَّعْيِينُ.
وَعَقْدُ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى يَعْنِي لَا يُشْتَرَطُ نِيَّةُ التَّعْيِينِ فِي الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ عز وجل بِأَنْ يُعَيِّنَ أَنَّهُ يُؤَدِّي الْفَرْضَ مَعَ أَنَّهُ أَقْوَى الْفُرُوضِ بَلْ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ يَأْتِي بِهِ يَقَعُ عَلَى الْفَرْضِ لِكَوْنِهِ مُتَعَيِّنًا غَيْرَ مُتَنَوِّعٍ إلَى فَرْضٍ وَنَفْلٍ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَعَقْدُ الْأَيْمَانِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ يَعْنِي إذَا حَلَفَ عَلَى فِعْلِ عَيْنٍ أَوْ عَلَى الِامْتِنَاعِ عَنْ فِعْلٍ بِأَنْ حَلَفَ لِيَصُومَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا الْيَوْمَ فَفَعَلَ ذَلِكَ أَوْ امْتَنَعَ عَنْهُ لَا عَلَى قَصْدِ الْبِرِّ يَقَعُ عَنْ الْبِرِّ لِلتَّعَيُّنِ أَوْ مَعْنَاهُ إذَا وُجِدَ الْفِعْلُ الَّذِي هُوَ شَرْطُ الْحِنْثِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ وُجِدَ نِسْيَانًا أَوْ كَرْهًا أَوْ خَطَأً لِتَعَيُّنِهِ وَنَحْوِهَا كَتَصْدِيقِ النِّصَابِ عَلَى الْفَقِيرِ بِدُونِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ مُسْقِطٌ لِلزَّكَاةِ لِتَعَيُّنِ الْمَحَلِّ، وَكَإِطْلَاقِ النِّيَّةِ فِي الْحَجِّ يَتَأَدَّى بِهِ الْفَرْضُ لِتَعَيُّنِ حِجَّةِ الْإِسْلَامِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ، وَكَالسَّيْفِ الْمُحَلَّى بِالذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ إذَا بِيعَ بِجِنْسِ الْحِلْيَةِ، وَقَدْ أَدَّى بَعْضَ ثَمَنِ السَّيْفِ فِي الْمَجْلِسِ ثُمَّ افْتَرَقَا يَتَعَيَّنُ الْمُؤَدَّى لِلْحِلْيَةِ سَوَاءٌ أُطْلِقَ أَوْ عُيِّنَ أَوْ قِيلَ مِنْ ثَمَنِهِمَا لِتَعَيُّنِ ثَمَنِ الْحِلْيَةِ لِلْقَبْضِ.
قَوْلُهُ: (وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا) يَعْنِي، وَكَمَا كَانَ قَوْلُنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَوْلَى وَأَرْجَحَ لِقُوَّةِ ثَبَاتِ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ كَانَ قَوْلُنَا فِي الْمَنَافِعِ أَنَّهَا لَا تُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ لِأَجْلِ مُرَاعَاةِ شَرْطِ ضَمَانِ الْعُدْوَانِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْعُدْوَانِ بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] مُقَدَّرٌ بِالْمِثْلِ صُورَةً، وَمَعْنًى بِلَا صُورَةٍ،، وَإِيجَابُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمِثْلِ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْأَعْيَانُ لَيْسَتْ بِمُمَاثِلَةٍ لِلْمَنَافِعِ فِي الْمَالِيَّةِ لِلتَّفَاوُتِ الْفَاحِشِ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْأَعْيَانَ تَبْقَى وَتَدُومُ، وَلَا بَقَاءَ لِلْمَنَافِعِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إيجَابُ مَا هُوَ فَوْقَ الْمُتْلَفِ فِي صِفَةِ الْمَالِيَّةِ عَلَى الْمُتَعَدِّي كَمَا لَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْجَيِّدِ مَكَانَ الرَّدِيءِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ بِالِاحْتِرَازِ عَنْ الْفَصْلِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِمْ إنَّ مَا يُضْمَنُ بِالْعَقْدِ يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ تَحْقِيقًا لِلْجَبْرِ كَالْأَعْيَانِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ مَالٌ كَالْعَيْنِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بَدَلًا عَنْهَا، وَالنَّاسُ يَتَمَوَّلُونَهَا وَالتَّفَاوُتُ الثَّابِتُ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِيَّةِ وَالْعَرْضِيَّةِ مَجْبُورٌ بِكَثِيرَةِ الْأَجْزَاءِ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ شَهْرٍ وَاحِدٍ أَكْثَرُ أَجْزَاءً عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِالدِّرْهَمِ الْوَاحِدِ فَيُجْبَرُ النُّقْصَانُ بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ فَاسْتَوَيَا قِيمَةً فَبَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ التَّفَاوُتُ فِيمَا وَرَاءَ الْقِيمَةِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ كَالتَّفَاوُتِ فِي الْحِنْطَةِ مِنْ حَيْثُ الْحَبَّاتُ وَاللَّوْنُ وَنَحْوُهَا فِيمَا إذَا أَتْلَفَ حِنْطَةً، وَأَتَى بِمِثْلِهَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ، وَإِثْبَاتُ الْمِثْلِ تَقْرِيبًا يَعْنِي إيجَابَ الْمِثْلِ ثَابِتٌ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ إلَّا بِأَدْنَى تَفَاوُتٍ يُتَحَمَّلُ كَمَا فِي إيجَابِ الْقِيمَةِ عَنْ الْعَيْنِ عِنْدَ تَعَذُّرِ إيجَابِ الْمِثْلِ صُورَةً مَعَ أَنَّهَا تُسْتَدْرَكُ بِالظَّنِّ وَالْحَزْرِ.
وَإِنْ كَانَ فِيهِ أَيْ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ إيجَابُ فَضْلٍ؛ لِأَنَّهُ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى الْمَفْهُومِ أَيْ الْوَاجِبُ فِي الْمَسْأَلَةِ إمَّا إيجَابُ فَضْلٍ عَلَى الْمُتَعَدِّي أَوْ إهْدَارٌ عَلَى الْمَظْلُومِ حَقَّهُ يَعْنِي لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ إيجَابُ الْمِثْلِ بِدُونِ الْفَضْلِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْتِزَامِ أَحَدِ مَحْذُورَيْنِ إمَّا إيجَابُ الْفَضْلِ عَلَى الْمُتَعَدِّي رِعَايَةً لِجَانِبِ الْمَظْلُومِ بِجَبْرِ حَقِّهِ أَوْ إهْدَارُ حَقِّ الْمَظْلُومِ بِعَدَمِ إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُتَعَدِّي احْتِرَازًا عَنْ إيجَابِ الْفَضْلِ فَكَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ إلْحَاقَ الْخُسْرَانِ بِالظَّالِمِ أَحَقُّ، وَفِيهِ دَفْعُ الظُّلْمِ وَسَدُّ بَابِ الْعُدْوَانِ أَوْ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى الْفَضْلِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ ذَلِكَ الْفَضْلَ إنْ اُعْتُبِرَ فَهُوَ فَضْلٌ وَاجِبٌ عَلَى الْمُتَعَدِّي ذَلِكَ لَيْسَ بِمُسْتَبْعَدٍ
وَلِأَنَّهُ إهْدَارُ وَصْفٍ أَوْ إهْدَارُ أَصْلٍ فَكَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْمِثْلِ وَاجِبٌ فِي كُلِّ بَابٍ كَمَا فِي الْأَمْوَالِ كُلِّهَا وَالصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا وَوَضْعُ الضَّمَانِ فِي الْمَعْصُومِ أَمْرٌ جَائِزٌ مِثْلُ الْعَادِلِ يُتْلِفُ مَالَ الْبَاعِي، وَالْحَرْبِيُّ يُتْلِفُ مَالَ الْمُسْلِمِ، وَالْفَضْلُ عَلَى الْمُتَعَدِّي غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ، وَإِنْ قَلَّ فَإِنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ يُنْسَبُ إلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَنِسْبَةُ الْجَوْرِ إلَيْهِ بِدُونِ وَاسِطَةِ فِعْلِ الْعَبْدِ بَاطِلٌ، وَأَنْ لَا يَضْمَنَ مُضَافٌ إلَى عَجْزِنَا عَنْ الدَّرْكِ، وَذَلِكَ سَائِغٌ حَسَنٌ؛ وَلِأَنَّ الْوَصْفَ، وَإِنْ قَلَّ فَائِتٌ أَصْلًا بِلَا بَدَلٍ، وَالْأَصْلُ، وَإِنْ عَظُمَ فَائِتٌ إلَى ضَمَانٍ فِي دَارِ الْجَزَاءِ فَكَانَ تَأَخُّرًا وَالْأَوَّلُ إبْطَالًا وَالتَّأْخِيرُ أَهْوَنُ مِنْ الْإِبْطَالِ
ــ
[كشف الأسرار]
فِي حَقِّهِ لِتَعَدِّيهِ، وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ فَهُوَ إهْدَارٌ لِجِهَةِ الْفَضِيلَةِ عَلَى الْمَظْلُومِ تَحْقِيقًا لِإِيجَابِ الْمِثْلِ جَبْرًا لِحَقِّهِ، وَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا كَإِهْدَارِ الْمَوَدَّةِ فِي بَابِ الرِّبَا تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ؛ وَلِأَنَّهُ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى الْمَفْهُومِ أَيْضًا أَيْ؛ وَلِأَنَّ الثَّابِتَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إمَّا إهْدَارُ وَصْفٍ عَمَّا وَجَبَ عَلَى الظَّالِمِ، وَهُوَ الْعَيْنِيَّةُ الْمُوجِبَةُ لِلْبَقَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ إيجَابِ الضَّمَانِ أَوْ إهْدَارُ أَصْلٍ أَيْ إسْقَاطُ أَصْلِ حَقِّ الْمَظْلُومِ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ إيجَابِ الضَّمَانِ فَكَانَ الْأَوَّلُ، وَهُوَ إهْدَارُ الْوَصْفِ أَوْلَى تَحَمُّلًا لِأَدْنَى الضَّرَرَيْنِ لِدَفْعِ أَعْلَاهُمَا وَلَوْ صَرَفْت الضَّمِيرَ فِي؛ لِأَنَّهُ إلَى شَيْءٍ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ إيجَابِ الضَّمَانِ وَنَحْوِهِ لَفَسَدَ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ مَا حَكَمْت عَلَيْهِ بِأَنَّهُ إهْدَارُ وَصْفٍ غَيْرُ مَا حَكَمْت عَلَيْهِ بِأَنَّهُ إهْدَارُ أَصْلٍ، وَلَا بُدَّ فِي مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ أَنْ يَكُونَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ وَاحِدًا. وَقَوْلُهُ: لِأَنَّ التَّقْيِيدَ دَلِيلٌ عَلَى قَوْلِهِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِمْ يَعْنِي قَوْلَنَا كَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِمْ كَذَا؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْمِثْلِ وَاجِبٌ فِي كُلِّ بَابٍ أَيْ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ الضَّمَانَاتِ مَالِيًّا كَانَ أَوْ بَدَنِيًّا فَإِنَّ ضَمَانَ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالِاعْتِكَافِ وَالْحَجِّ مُقَيَّدٌ بِالْمِثْلِ بِالْإِجْمَاعِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ فَكَانَ هَذَا الْوَصْفُ أَثْبَتَ مِمَّا ذَكَرُوا فَكَانَ أَرْجَحَ.
وَوَضْعُ الضَّمَانِ فِي الْمَعْصُومِ أَيْ إسْقَاطُ الضَّمَانِ عَمَّنْ أَتْلَفَ مَالًا مَعْصُومًا أَمْرٌ جَائِزٌ فِي الشَّرْعِ مِثْلُ الْعَادِلِ يُتْلِفُ مَالَ الْبَاغِي فَإِنَّ مَالَهُ مَعَ بَغْيِهِ مَعْصُومٌ لَا يُبَاحُ لِغَيْرِ الْعَادِلِ إتْلَافُهُ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِغْنَاؤُهُ وَتَمَلُّكُهُ لِأَحَدٍ، وَفِي التَّقْوِيمِ كَإِتْلَافِ الْبَاغِي أَمْوَالَنَا وَنُفُوسَنَا فِي حَالِ الْمَنَعَةِ، وَهُوَ أَظْهَرُ، وَالْفَضْلُ عَلَى الْمُتَعَدِّي أَيْ إيجَابُ الْفَضْلِ عَلَى الْمُتَعَدِّي غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَإِنَّا لَمْ نَجِدْ تَعَدِّيًا أَوْجَبَ زِيَادَةً عَلَى الْمِثْلِ بِعُذْرٍ مِنْ الْأَعْذَارِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَثَبَتَ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا فِي نَفْيِ الزِّيَادَةِ عَنْ الْمُتَعَدِّي أَثْبَتُ مِمَّا ذَكَرُوا، وَهَذَا أَيْ عَدَمُ إيجَابِ الْفَضْلِ؛ لِأَنَّ الْفَضْلَ، وَإِنْ قَلَّ فَإِنَّهُ أَيْ إيجَابُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ يُنْسَبُ إلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَهُوَ ثَابِتُ الشَّرْعِ فَيَكُونُ هَذَا إضَافَةَ الظُّلْمِ إلَى الشَّرْعِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ يَعْنِي بِدُونِ جِنَايَةٍ مِنْ الْعَبْدِ إذْ لَمْ يُوجَدْ مِنْ التَّعَدِّي فِي مُقَابَلَةِ الْفَضْلِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ تَعَدٍّ عَلَى الْغَيْرِ فَيَكُونُ جَوْرًا، وَنِسْبَةُ الْجَوْرِ إلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ بَاطِلَةٌ، وَقَدْ يُظَنُّ أَنَّ قَوْلَهُ بِدُونِ وَاسِطَةٍ فِعْلُ الْعَبْدِ هَاهُنَا غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ نِسْبَةَ الْجَوْرِ إلَيْهِ بِوَاسِطَةِ فِعْلِ الْعَبْدِ جَائِزَةٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ نِسْبَةُ الْجَوْرِ إلَيْهِ لَا تَجُوزُ بِحَالٍ، وَمَا يُضَافُ إلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ مِنْ إيجَابِ الْجَزَاءِ بِوَاسِطَةِ فِعْلِ الْعَبْدِ لَيْسَ بِجَوْرٍ.
وَعِبَارَةُ التَّقْوِيمِ تُؤَيِّدُهُ فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِيهِ أَنَّ الزِّيَادَةَ رَاجِعَةٌ إلَى مَا يَتَبَيَّنُ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ بِفَتْوَانَا وَحُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى مَصُونٌ عَنْ الْجَوْرِ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ فِي نُسْخَةٍ مِنْ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَأَظُنُّهَا لِلشَّيْخِ أَنَّ إضَافَةَ الظُّلْمِ إلَى الشَّرْعِ بِوَاسِطَةِ فِعْلِ الْعَبْدِ يَجُوزُ مِنْ حَيْثُ الْإِرَادَةُ وَالتَّقْدِيرُ وَالْمَشِيئَةُ دُونَ الرِّضَاءِ وَالْأَمْرُ بِهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ذِكْرُهُ مُفِيدًا، وَمُحْتَاجًا إلَيْهِ، وَأَنْ لَا يَضْمَنَ أَيْ عَدَمُ وُجُوبِ الضَّمَانِ وَسُقُوطُهُ مُضَافٌ إلَى عَجْزِنَا عَنْ الدَّرْكِ أَيْ دَرْكِ الْمِثْلِ الْوَاجِبِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ وَجَبَ عَلَى ذِمَّةِ الْمُتْلِفِ ضَمَانُ مَا أَتْلَفَهُ مُقَدَّرًا بِالْمِثْلِ فَإِنَّ إيجَابَ الْمِثْلِ مِنْ الْعَدْلِ، وَلَكِنَّا عَجَزْنَا عَنْ مَعْرِفَتِهِ فَسَقَطَ ذَلِكَ لِلْعَجْزِ، وَذَلِكَ أَيْ عَدَمُ وُجُوبِ الضَّمَانِ وَسُقُوطُهُ لِلْعَجْزِ سَائِغٌ حَسَنٌ كَسُقُوطِ وُجُوبِ الْمِثْلِ صُورَةً عِنْدَ الْعَجْزِ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ وَسُقُوطِ فَضْلِ الْوَقْتِ فِي ضَمَانِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ؛ وَلِأَنَّ الْوَصْفَ، وَهُوَ الْفَضْلُ عَلَى تَقْدِيرِ إيجَابِ الضَّمَانِ فَائِتٌ أَصْلًا بِلَا بَدَلٍ إذْ لَا يَبْقَى لِلْمُتْلِفِ
وَهَذَا كَذَلِكَ فِي عَامَّةِ الْأَحْكَامِ فَأَمَّا ضَمَانُ الْعَقْدِ فَبَابٌ خَاصٌّ فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ أَوْلَى.
وَأَمَّا الثَّالِثُ، وَهُوَ كَثْرَةُ الْأُصُولِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْإِشْهَارِ فِي السُّنَنِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي فِي هَذَا الْبَابِ.
ــ
[كشف الأسرار]
حَقٌّ فِيهِ فِي الدُّنْيَا، وَلَا فِي الْآخِرَةِ لِوُجُوبِهِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ فَكَانَ إيجَابُهُ إبْطَالًا لَهُ أَصْلًا وَالْأَصْلُ، وَهُوَ حَقُّ الْمَظْلُومِ، وَإِنْ عَظُمَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوَصْفِ فَائِتٌ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ إيجَابِ الضَّمَانِ إلَى الضَّمَانِ فِي دَارِ الْجَزَاءِ فَكَانَ عَدَمُ إيجَابِهِ تَأْخِيرًا لَا إبْطَالًا، وَالتَّأْخِيرُ أَهْوَنُ مِنْ الْإِبْطَالِ فِي الضَّرَرِ فَكَانَ أَوْلَى مَعَ أَنَّ تَأْخِيرَ الْحَقِّ بِالْعُذْرِ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] ، وَتَأْخِيرُ الْحُقُوقِ إلَى دَارِ الْآخِرَةِ أَصْلٌ فَإِنَّهَا دَارُ الْجَزَاءِ عَلَى الْحَقِيقَةِ.
وَهَذَا أَيْ اشْتِرَاطُ الْمُمَاثَلَةِ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ كَذَلِكَ أَيْ مِثْلُ اشْتِرَاطِهَا هَاهُنَا أَوْ اشْتِرَاطُهَا هَاهُنَا مِثْلُ اشْتِرَاطِهَا فِي عَامَّةِ الْأَحْكَامِ يَعْنِي مَا اعْتَبَرْنَاهُ مِنْ رِعَايَةِ شَرْطِ الْمُمَاثَلَةِ لَيْسَ بِوَصْفٍ خَاصٍّ بَلْ هُوَ ثَابِتٌ فِي عَامَّةِ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالضَّمَانِ فَأَمَّا ضَمَانُ الْعَقْدِ فَبَابٌ خَاصٌّ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِلْحَاجَةِ مُخْتَصًّا بِالْعَقْدِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ فَلَا يَكُونُ ثَبَاتُهُ عَلَى الْحُكْمِ مِثْلَ ثَبَاتِ الْأَوَّلِ فَكَانَ الْأَوَّلُ أَرْجَحَ.
وَأَمَّا اعْتِبَارُهُ ضَمَانَ الْمَنَافِعِ بِضَمَانِ الْقِيمَةِ عَنْ الْعَيْنِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إيجَابِ الْقِيمَةِ إيجَابُ زِيَادَةٍ بِالْفَتْوَى وَنِسْبَةُ جَوْرٍ إلَى الشَّرْعِ بَلْ الْوَاجِبُ قِيمَةُ عَدْلٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَإِنَّ لِكُلِّ عَيْنٍ مُتَقَوِّمَةٍ قِيمَةَ مِثْلٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَرُبَّمَا يُوصَلُ إلَيْهَا بِاتِّفَاقِ الْحَالِ، وَهِيَ الْوَاجِبَةُ بِالْفَتْوَى إلَّا أَنَّهُ إذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى الِاسْتِيفَاءِ وَذَلِكَ يَبْتَنِي عَلَى الْوُسْعِ قُلْنَا يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْوُسْعِ وَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ أَدْنَى تَفَاوُتٍ فِي الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَطَاعُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَأَمَّا هَاهُنَا فَالتَّفَاوُتُ فِي أَصْلِ الْوَاجِبِ لَا فِي الِاسْتِيفَاءِ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الشَّاهِدُ عَلَى إبْرَاءِ الدَّيْنِ إذَا رَجَعَ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ النَّقْدَ، وَلَهُ فَضْلٌ عَلَى الدَّيْنِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّهُ أَتْلَفَ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ دَيْنًا يَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ فَيَضْمَنُ دِينًا يَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ فَلَيْسَ فِيهِ إيجَابُ فَضْلٍ.
وَأَمَّا مَا اُعْتُبِرَ مِنْ تَرْجِيحِ جَانِبِ الْمَظْلُومِ فَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ الظَّالِمَ لَا يُظْلَمُ، وَلَكِنْ يُنْتَصَفُ مِنْهُ مَعَ قِيَامِ حَقِّهِ فِي مِلْكِهِ فَلَوْ لَمْ يُوجَبْ الضَّمَانُ سَقَطَ حَقُّ الْمَظْلُومِ لَا بِفِعْلٍ مُضَافٍ إلَيْنَا وَعِنْدَ إيجَابِ الضَّمَانِ سَقَطَ حَقُّ الظَّالِمِ فِي الْوَصْفِ بِمَعْنًى مُضَافٍ إلَيْنَا، وَهُوَ أَنَّا نُلْزِمُهُ إذًا ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْحُكْمِ بِهِ عَلَيْهِ، وَمُرَاعَاةُ الْوَصْفِ فِي الْوُجُوبِ كَمُرَاعَاةِ الْأَصْلِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْقِصَاصِ الَّذِي يَبْتَنِي عَلَى الْمُسَاوَاةِ التَّفَاوُتَ فِي الْوَصْفِ يَمْنَعُ جَرَيَانَ الْقِصَاصِ كَالصَّحِيحَةِ مَعَ الشَّلَّاءِ، وَلَا يُنْظَرُ إلَى تَرْجِيحِ جَانِبِ الْمَظْلُومِ، وَإِلَى تَرْجِيحِ جَانِبِ الْأَصْلِ عَلَى الْوَصْفِ فَعَرَفْنَا أَنَّ قُوَّةَ الثَّبَاتِ فِيمَا قُلْنَا، كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله.
قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الثَّالِثُ، وَهُوَ كَثْرَةُ الْأُصُولِ) مَعْنَى التَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ الْأُصُولِ أَنْ يَشْهَدَ لِأَحَدِ الْوَصْفَيْنِ أَصْلَانِ أَوْ أُصُولٌ فَيُرَجَّحُ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي لَمْ يَشْهَدْ لَهُ إلَّا أَصْلٌ وَاحِدٌ مِثْلُ وَصْفِ الْمَسْحِ فِي مَسْأَلَةِ التَّثْلِيثِ فَإِنَّهُ لَمَّا شَهِدَ لِصِحَّةِ التَّيَمُّمِ وَمَسْحِ الْخُفِّ، وَمَسْحِ الْجَبِيرَةِ وَغَيْرِهَا، وَلَمْ يَشْهَدْ لِصِحَّةِ وَصْفِ الْخَصْمِ، وَهُوَ الرُّكْنِيَّةُ إلَّا الْغَسْلُ تَرَجَّحَ عَلَيْهِ ثُمَّ زَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ التَّرْجِيحَ بِكَثْرَةِ الْأُصُولِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ كَثْرَةَ الْأُصُولِ فِي الْقِيَاسِ بِمَنْزِلَةِ كَثْرَةِ الرُّوَاةِ فِي الْخَبَرِ، وَالْخَبَرُ لَا يَتَرَجَّحُ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ.
فَكَذَا هَذَا؛ وَلِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ التَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ كُلِّ أَصْلٍ بِمَنْزِلَةِ عِلَّةٍ عَلَى حِدَةٍ، وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ هُوَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ هِيَ الْوَصْفُ الْمُؤْثِرُ، الْأَصْلَ الْمُسْتَنْبَطَ مِنْهُ لَكِنْ كَثْرَةُ الْأُصُولِ يُوجِبُ زِيَادَةَ تَأْكِيدٍ وَلُزُومٍ لِلْحُكْمِ بِذَلِكَ الْوَصْفِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ شِدَّةِ التَّأْثِيرِ وَالثَّبَاتِ عَلَى الْحُكْمِ فَيَحْدُثُ بِهَا قُوَّةٌ فِي نَفْسِ الْوَصْفِ
وَأَمَّا الرَّابِعُ فَهُوَ الْعَكْسُ الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ أَضْعَفُ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ؛ لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ لَكِنْ الْحُكْمُ إذَا تَعَلَّقَ بِوَصْفٍ ثُمَّ عُدِمَ عِنْدَ عَدَمِهِ كَانَ ذَلِكَ أَوْضَحَ لِصِحَّتِهِ فَصَلُحَ أَنْ يَدْخُلَ فِي أَقْسَامِ التَّرْجِيحِ وَذَلِكَ قَوْلُنَا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ إنَّهُ مَسْحٌ، وَهُوَ يَنْعَكِسُ بِمَا لَا لَيْسَ بِمَسْحٍ وَقَوْلُهُمْ رُكْنٌ لَا يَنْعَكِسُ؛ لِأَنَّ الْمَضْمَضَةَ تَتَكَرَّرُ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا فِي الْأُخُوَّةِ: إنَّهَا قَرَابَةٌ مُحَرِّمَةٌ لِلنِّكَاحِ لِإِيجَابِ الْعِتْقِ أَحَقُّ مِنْ قَوْلِهِمْ يَجُوزُ وَضْعُ زَكَاةِ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ؛ لِأَنَّ مَا قُلْنَا يَنْعَكِسُ فِي بَنِي الْأَعْمَامِ، وَقَوْلُهُمْ لَا يَنْعَكِسُ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الزَّكَاةِ فِي الْكَافِرِ لَا يَحِلُّ وَلَا يَجِبُ بِهِ عِتْقٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا فِي بَيْعِ الطَّعَامِ إنَّهُ مَبِيعُ عَيْنٍ فَلَا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِمْ مَالَانِ لَوْ قُوبِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجِنْسِهِ حَرُمَ رِبَا الْفَضْلِ
ــ
[كشف الأسرار]
فَلِذَلِكَ صَلَحَتْ لِلتَّرْجِيحِ فَهُوَ أَيْ الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنْ التَّرْجِيحِ مِنْ جِنْسِ الِاشْتِهَارِ فِي السِّنِّ فَإِنَّ كَثْرَةَ الرُّوَاةِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ بَلْ الْخَبَرُ هُوَ الْحُجَّةُ، وَلَكِنْ يَحْدُثُ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ قُوَّةٌ وَزِيَادَةُ اتِّصَالٍ فِي نَفْسِ الْخَبَرِ فَيَصِيرُ مَشْهُورًا أَوْ مُتَوَاتِرًا فَيَتَرَجَّحُ عَلَى مَا لَيْسَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ فَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ تَرْجِيحُ الْوَصْفِ الْقَوِيِّ عَلَى مَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ لَا تَرْجِيحُ الْأُصُولِ عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَيْ التَّرْجِيحُ بِكَثْرَةِ الْأُصُولِ قَرِيبٌ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي، وَهُوَ التَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ إثْبَاتٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْ بَابِ التَّرْجِيحِ.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله: وَمَا مِنْ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ إذَا قُرِّرَ بِهِ فِي مَسْأَلَةٍ إلَّا وَيَتَبَيَّنُ بِهِ إمْكَانُ تَقْدِيرِ النَّوْعَيْنِ لِلْآخَرِ فِيهِ أَيْضًا، وَهَكَذَا فِي التَّقْوِيمِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ رَاجِعَةٌ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ التَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ تَأْثِيرِ الْوَصْفِ إلَّا أَنَّ الْجِهَاتِ مُخْتَلِفَةٌ فَتَعَدُّدُهَا بِاعْتِبَارِ الْجِهَاتِ فَالتَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ التَّأْثِيرِ بِالنَّظَرِ إلَى نَفْسِ الْوَصْفِ، وَالتَّرْجِيحُ بِالثَّبَاتِ بِالنَّظَرِ إلَى الْحُكْمِ، وَالتَّرْجِيحُ بِكَثْرَةِ الْأُصُولِ بِالنَّظَرِ إلَى الْأَصْلِ، وَذَكَرَ فِي بَعْضِ فَوَائِدِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا الْقِسْمِ وَالْقِسْمِ الثَّانِي أَنَّ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي أُخِذَ التَّرْجِيحُ مِنْ قُوَّةِ هَذَا الْوَصْفِ، وَفِي هَذَا أُخِذَ مِنْ نَظَائِرِهِ، وَلَا يَكُونُ هَذَا تَرْجِيحَ الْقِيَاسِ بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا لَا يَجُوزُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ قِيَاسٍ عِلَّةٌ عَلَى حِدَةٍ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ الْقِيَاسُ وَاحِدٌ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ إلَّا أَنَّ أُصُولَهُ كَثِيرَةٌ.
قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الرَّابِعُ فَهُوَ الْعَكْسُ) اُخْتُلِفَ فِي التَّرْجِيحِ بِالْعَكْسِ فَعِنْدَ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا عِبْرَةَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ أَيْ لَا يُوجِبُ عَدَمُ الْعِلَّةِ عَدَمَ الْحُكْمِ وَلَا وُجُودَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَلَا يَصْلُحُ مُرَجِّحًا؛ لِأَنَّ الرُّجْحَانَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ.
وَمُخْتَارُ عَامَّةِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ صَالِحٌ لِلتَّرْجِيحِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَصْفِ الَّذِي جُعِلَ حُجَّةً دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِ الْحُكْمِ بِذَلِكَ الْوَصْفِ وَوَكَادَةِ تَعَلُّقِهِ بِهِ فَصَلُحَ مُرَجِّحًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَكِنَّهُ تَرْجِيحٌ ضَعِيفٌ لِاسْتِلْزَامِهِ إضَافَةَ الرُّجْحَانِ إلَى الْعَدَمِ الَّذِي لَيْسَ بِشَيْءٍ كَمَا قَالَ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ، وَيَظْهَرُ ثَمَرَتُهُ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ فَإِنَّهُ إذَا عَارَضَ هَذَا النَّوْعَ تَرْجِيحٌ آخَرُ مِنْ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ كَانَ ذَلِكَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ كَالتَّرْجِيحِ فِي الذَّاتِ عَلَى التَّرْجِيحِ فِي الْحَالِ، وَهُوَ يَنْعَكِسُ بِمَا لَيْسَ بِمَسْحٍ أَيْ يَنْعَدِمُ الْحُكْمُ الْمُرَتَّبُ عَلَى الْمَسْحِ، وَهُوَ سُقُوطُ التَّكْرَارِ بِعَدَمِ وَصْفِ الْمَسْحِ كَمَا فِي غَسْلِ الْوَجْهِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ فَإِنَّهُ يُسَنُّ فِيهِ التَّكْرَارُ، وَكَذَا فِي كُلِّ مَا يُعْقَلُ تَطْهِيرًا يُسَنُّ فِيهِ التَّكْرَارُ أَيْضًا. وَكَذَلِكَ أَيْ، وَمِثْلُ قَوْلِنَا فِي الْمَسْحِ قَوْلُنَا فِيمَا إذَا مَلَكَ الرَّجُلُ أَخَاهُ أَوْ أُخْتَهُ إنَّ قَرَابَةَ الْأُخُوَّةِ مُحَرِّمَةٌ لِلنِّكَاحِ الَّذِي هُوَ اسْتِدْلَالٌ فَيُوجِبُ الْعِتْقَ كَقَرَابَةِ الْوِلَادَةِ.
أَحَقُّ مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ هَذِهِ قَرَابَةٌ يَجُوزُ وَضْعُ زَكَاةِ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ فَلَا تُوجِبُ الْعِتْقَ كَقَرَابَةِ بَنِي الْأَعْمَامِ؛ لِأَنَّ مَا قُلْنَا يَنْعَكِسُ فِي بَنِي الْأَعْمَامِ فَإِنَّ قَرَابَتَهُمْ لَمَّا لَمْ تُوجِبْ حُرْمَةَ النِّكَاحِ لَمْ تُوجِبْ الْعِتْقَ. وَقَوْلُهُمْ لَا يَنْعَكِسُ فَإِنَّ الْوَصْفَ الَّذِي ذَكَرُوهُ، وَهُوَ جَوَازُ وَضْعِ الزَّكَاةِ قَدْ انْعَدَمَ فِي الْكَافِرِ، وَلَمْ يَنْعَدِمْ الْحُكْمُ الْمُرَتَّبُ عَلَيْهِ، وَهُوَ عَدَمُ الْعِتْقِ فَإِنَّ الْكَافِرَ لَا يُعْتَقُ عَلَى الْمُسْلِمِ إذَا مَلَكَهُ. وَكَذَلِكَ أَيْ، وَكَقَوْلِنَا فِيمَا تَقَدَّمَ قَوْلُنَا فِي بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ إلَى آخِرِهِ.
إذَا بَاعَ طَعَامًا بِعَيْنِهِ بِطَعَامٍ بِعَيْنِهِ لَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ أَيْ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَدَلَيْنِ مَبِيعُ عَيْنٍ فَلَا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ كَمَا إذَا بَاعَ ثَوْبًا بِثَوْبٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: رحمه الله يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَيْنِ مَالَانِ لَوْ قُوبِلَ