الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَهَذِهِ وُجُوهٌ مُتَقَارِبَةٌ فِي ضَبْطِهَا مَعْرِفَةُ حُدُودِ الْفِقْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(بَابُ تَقْسِيمِ الشَّرْطِ)
وَهُوَ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ شَرْطٌ مَحْضٌ وَشَرْطٌ لَهُ حُكْمُ الْعِلَلِ وَشَرْطٌ لَهُ حُكْمُ الْأَسْبَابِ وَشَرْطٌ اسْمًا لَا حُكْمًا فَكَانَ مَجَازًا فِي الْبَابِ وَشَرْطٌ هُوَ بِمَعْنَى الْعَلَامَةِ الْخَالِصَةِ أَمَّا الشَّرْطُ الْمَحْضُ فَمَا يَمْتَنِعُ بِهِ وُجُودُ الْعِلَّةِ فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ وُجِدَتْ الْعِلَّةُ فَيَصِيرُ الْوُجُودُ مُضَافًا إلَى الشَّرْطِ دُونَ الْوُجُوبِ
ــ
[كشف الأسرار]
الِاسْتِبْرَاءَ كَاسْمِهِ لِتَبَيُّنِ فَرَاغِ الرَّحِمِ وَقَاسَ بِالْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهَا الْعِدَّةُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْعِدَّةِ فِي حَالِ الدُّخُولِ تَبَيُّنُ فَرَاغِ الرَّحِمِ.
وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذِهِ حِكْمَةُ الِاسْتِبْرَاءِ وَالْحُكْمُ يَتَعَلَّقُ بِالْعِلَّةِ لَا بِالْحِكْمَةِ وَالْعِلَّةُ اسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ كَمَا بَيَّنَّا ثُمَّ الشَّيْخُ رحمه الله سَمَّى الِاسْتِحْدَاثَ سَبَبًا لِلشُّغْلِ قُبَيْلَ هَذَا بِخُطُوطٍ وَوَجْهُهُ مَا بَيَّنَّا ثُمَّ جَعَلَهُ دَلِيلًا عَلَى الشُّغْلِ حَيْثُ أَوْرَدَهُ فِي هَذَا الْقِسْمِ وَوَجْهُهُ أَنَّ الِاسْتِحْدَاثَ يَدُلُّ عَلَى مِلْكِ مَنْ يُسْتَحْدَثُ مِنْهُ وَيُتَلَقَّى مِنْ جِهَتِهِ وَمِلْكُهُ يُمَكِّنُهُ مِنْ الْوَطْءِ وَالْوَطْءُ سَبَبٌ لِلشُّغْلِ الَّذِي هُوَ الْعِلَّةُ فَكَانَ الِاسْتِحْدَاثُ بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ دَلِيلًا عَلَى عِلَّةِ وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ فَأُقِيمَ مَقَامَ الْمَدْلُولِ لِلضَّرُورَةِ وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ سَبَبًا بِالنَّظَرِ إلَى مُطْلَقِ الشُّغْلِ وَكَوْنَهُ دَلِيلًا بِالنَّظَرِ إلَى الشُّغْلِ بِمَاءِ الْمَالِكِ الْأَوَّلِ وَلِهَذَا جَمَعَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ فَقَالَ فَقَامَ السَّبَبُ الظَّاهِرُ الدَّالُّ عَلَيْهِ مَقَامَ كَذَا وَلَكِنْ جَعْلُهُ دَلِيلًا أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ سَبَبًا؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الِاسْتِبْرَاءِ الشُّغْلُ بِمَاءِ الْغَيْرِ لَا مُطْلَقُ الشُّغْلِ وَالِاسْتِحْدَاثُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلشُّغْلِ بِمَاءِ الْغَيْرِ بَلْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا فَكَانَ جَعْلُهُ دَلِيلًا أَوْلَى وَطَرِيقُ ذَلِكَ أَيْ طَرِيقُ وَضْعِ الشَّيْءِ مَقَامَ غَيْرِهِ وَفِقْهُهُ أَيْ الْمَعْنَى الَّذِي جَوَّزَ ذَلِكَ شَرْعًا كَذَا أَحَدُهَا لِدَفْعِ الضَّرُورَةِ أَيْ جَوَّزَ ذَلِكَ لِدَفْعِ الضَّرُورَةِ وَالْعَجْزِ عَنْ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَةِ الْعِلَّةِ كَمَا فِي الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ.
وَلِلِاحْتِيَاطِ كَمَا قِيلَ فِي تَحْرِيمِ الدَّوَاعِي فِي الْحُرُمَاتِ فَإِنَّ الزِّنَا حُرِّمَ صَوْنًا لِلْفُرُشِ عَنْ الْفَسَادِ وَحِفْظًا لِلنَّسْلِ عَنْ الضَّيَاعِ ثُمَّ أُقِيمَتْ الدَّوَاعِي مِنْ الْمَسِّ وَالْقُبْلَةِ وَالنَّظَرِ مَقَامَهُ فِي الْحُرْمَةِ وَكَذَلِكَ فِي الظِّهَارِ وَالْعِبَادَاتِ أَيْ أُقِيمَتْ الدَّوَاعِي مَقَامَ الْوَطْءِ فِي الْعِبَادَاتِ فَإِنَّ الْجِمَاعَ فِي حَالَتَيْ الِاعْتِكَافِ وَالْإِحْرَامِ حَرَامٌ ثُمَّ أَحْدَثُ الدَّوَاعِي حِكْمَةً لِلِاحْتِيَاطِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ فِي الْعِبَادَاتِ قَدْ يُقَامُ الشَّيْءُ مَقَامَ غَيْرِهِ لِلِاحْتِيَاطِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ بِالْجَمَاعَةِ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْإِسْلَامِ حَتَّى وَجَبَ لِلْحُكْمِ بِالْإِسْلَامِ بِهَا وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ مِنْهُ تَصْدِيقٌ وَلَا إقْرَارٌ وَكَذَا الْإِقْرَارُ الْمُجَرَّدُ أُقِيمَ مَقَامَ الْإِسْلَامِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا حَتَّى وَجَبَ الْعِبَادَاتُ بِهِ احْتِيَاطًا وَإِعْلَاءً لِلدِّينِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَلِدَفْعِ الْحَرَجِ أَيْ الضِّيقِ وَالْمَشَقَّةِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَنَّ فِي الْقَسَمِ الْأَوَّلِ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَصْلًا وَفِي هَذَا الْقِسْمِ يُمْكِنُ ذَلِكَ وَلَكِنْ مَعَ نَوْعِ مَشَقَّةٍ وَهُمَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْحَرَجَ مَدْفُوعٌ فِي الشَّرْعِ كَالضَّرُورَةِ وَهَذِهِ أَيْ الْأَقْسَامُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي تَقْسِيمِ السَّبَبِ وَالْعِلَّةِ وُجُوهٌ مُتَقَارِبَةٌ.
[بَابُ تَقْسِيمِ الشَّرْطِ]
قَوْلُهُ (فَمَا يَمْتَنِعُ بِهِ وُجُودُ الْعِلَّةِ) أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ بِالتَّعْلِيقِ بِهِ وُجُودُ الْعِلَّةِ لَا أَنْ يَمْتَنِعَ بِوُجُودِهِ وُجُودُهَا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ فَإِنَّهَا لَا يَمْتَنِعُ بِوُجُودِ الشَّرْطِ بَلْ تُوجَدُ بِهِ وَلِهَذَا قَالَ فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ وُجِدَتْ الْعِلَّةُ
وَذَلِكَ أَيْ وُجُودُ الشَّرْطِ بِالصِّفَةِ الَّتِي قُلْنَا يُوجَدُ فِي كُلِّ تَعْلِيقٍ بِحَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الشَّرْطِ مِثْلُ قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ وَمَتَى دَخَلْت أَوْ إذَا دَخَلْت فَالدُّخُولُ الَّذِي دَخَلَ عَلَيْهِ حَرْفُ الشَّرْطِ شَرْطٌ وَامْتَنَعَتْ الْعِلَّةُ وَهِيَ قَوْلُهُ أَنْتَ حُرٌّ عَنْ الِانْعِقَادِ بَعْدَ وُجُودِ صُورَتِهَا مِنْ حَيْثُ التَّكَلُّمُ لِعَدَمِ الشَّرْطِ فِي الْحَالِ فَإِذَا وُجِدَ الدُّخُولُ يَنْعَقِدُ
وَذَلِكَ فِي كُلِّ تَعْلِيقٍ بِحَرْفِ مِنْ حُرُوفِ الشُّرُوطِ نَحْوُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَكُلَّمَا دَخَلْت وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ أَلَا يُرَى أَنَّ وُجُوبَ الْعِبَادَاتِ يَتَعَلَّقُ بِأَسْبَابِهَا ثُمَّ يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى شَرْطِ الْعِلْمِ حَتَّى إنَّ النَّصَّ النَّازِلَ لَا حُكْمَ لَهُ قَبْلَ الْعِلْمِ مِنْ الْمُخَاطَبِ فَإِنْ أَسْلَمَ مَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ مِنْ الشَّرَائِعِ قَبْلَ الْعِلْمِ فَصَارَتْ الْأَسْبَابُ وَالْعِلَلُ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْدُومِ لِعَدَمِ الشَّرْطِ وَكَذَلِكَ رُكْنُ الْعِبَادَاتِ يَنْعَدِمُ لِعَدَمِ شُرُوطِهَا وَهِيَ النِّيَّةُ وَالطَّهَارَةُ لِلصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ رُكْنُ النِّكَاحِ وَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ يَنْعَدِمُ عِنْدَ عَدَمِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَثَرَ الشَّرْطِ عِنْدَنَا انْعِدَامُ الْعِلَّةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَرَاخِي الْحُكْمِ وَكَذَلِكَ هَذَا فِي كُلِّ الشُّرُوطِ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الشَّرْطُ بِصِيغَتِهِ أَوْ دَلَالَتِهِ وَقَطُّ لَا تَنْفَكُّ صِيغَتُهُ عَنْ مَعْنَاهُ فَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] فَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ شَرْطٌ عَادَةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَهَذَا قَوْلٌ بِأَنَّهُ لَغْوٌ وَكِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ
ــ
[كشف الأسرار]
عِلَّةً وَيَصِيرُ تَحْرِيرًا فَيَثْبُتُ بِهِ الْعِتْقُ وَذَلِكَ أَيْ الشَّرْطُ الْمَحْضُ الَّذِي يَتَوَقَّفُ وُجُودُ الْعِلَّةِ عَلَى وُجُودِهِ دَاخِلٌ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ جَمِيعًا
أَلَا تَرَى أَنَّ وُجُوبَ الْعِبَادَاتِ يَتَعَلَّقُ بِأَسْبَابِهَا عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي بَابِ بَيَانِ أَسْبَابِ الشَّرَائِعِ ثُمَّ يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ أَيْ صَيْرُورَةُ السَّبَبِ سَبَبًا عَلَى شَرْطِ عِلْمِ الْعَبْدِ بِالْخِطَابِ الَّذِي بِهِ صَارَ السَّبَبُ سَبَبًا نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] أَوْ عَلَى مَا يَقُومُ مَقَامَ الْعِلْمِ مِنْ شُيُوعِ الْخِطَابِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا شَرَطَ الْعِلْمَ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالْقُدْرَةِ وَهِيَ لَا تَحْصُلُ بِدُونِ الْعِلْمِ فَشَرَطَ الْعِلْمَ لِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ.
وَلَا يُقَالُ إنَّ الْمُتَوَقِّفَ عَلَى الْعِلْمِ وُجُوبُ الْأَدَاءِ الَّذِي هُوَ الثَّابِتُ بِالْخِطَابِ لَا كَوْنُهُ سَبَبًا وَلَا نَفْسُ الْوُجُوبِ بِدَلِيلِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَوُجُوبُ الصَّوْمِ عَلَى الْمَجْنُونِ الَّذِي لَمْ يَسْتَغْرِقْ جُنُونُهُ الشَّهْرَ مَعَ عَدَمِ حُصُولِ الْعِلْمِ لِهَؤُلَاءِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْعِلْمُ ثَابِتٌ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ تَقْدِيرًا؛ لِأَنَّ شُيُوعَ الْخِطَابِ وَبُلُوغَهُ إلَى الدَّهْمَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْبُلُوغِ إلَى كُلِّ أَحَدٍ فَإِنَّ مَنْ أَسْلَمَ يَعْنِي مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ مِنْ الشَّرَائِعِ قَبْلَ الْعِلْمِ حَتَّى لَوْ عَلِمَ بِهَا بَعْدَ مُدَّةٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَمَّا فَاتَ فِي حَقِّهِ مَنَعَ السَّبَبَ مِنْ الِانْعِقَادِ فَلَمْ يَثْبُتْ الْوُجُوبُ وَلَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالشَّرَائِعِ حَتَّى مَضَى عَلَيْهِ زَمَانٌ ثُمَّ عَلِمَ بِهَا وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى لَا لِأَنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَلَكِنْ؛ لِأَنَّ شُيُوعَ الْخِطَابِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَتَيَسُّرَ الْوُصُولِ إلَيْهِ بِأَدْنَى طَلَبٍ يَقُومُ مَقَامَ وُجُودِهِ فَتَصِيرُ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةً حَقِيقَةً بِوُجُودِ الشَّرْطِ حُكْمًا فَصَارَتْ الْأَسْبَابُ مِثْلَ الْوَقْتِ لِلصَّلَاةِ وَشُهُودِ الشَّهْرِ لِلصَّوْمِ وَالْبَيْتِ لِلْحَجِّ وَالْعِلَلُ وَمِثْلُ الْكَيْلِ وَالْجِنْسِ لِلرِّبَا بِمَنْزِلَةِ الْمَعْدُومِ أَيْ الشَّيْءِ الْمَعْدُومِ فِي حَقِّهِ لِعَدَمِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْعِلْمُ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَمَا يَنْعَدِمُ الْأَسْبَابُ وَالْعِلَلُ فِي حَقِّ الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِعَدَمِ الشَّرْطِ يَنْعَدِمُ رُكْنُ الْعِبَادَاتِ وَكَذَلِكَ أَيْ وَمِثْلُ انْعِدَامِ رُكْنِ الْعِبَادَاتِ انْعِدَامُ رُكْنِ النِّكَاحِ لِعَدَمِ الشَّرْطِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا يَعْنِي فِي بَيَانِ التَّمَسُّكَاتِ الْفَاسِدَةِ أَنَّ أَثَرَ الشَّرْطِ أَيْ أَثَرَ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ كَذَا وَكَذَلِكَ هَذَا فِي كُلِّ الشُّرُوطِ أَيْ وَمِثْلُ الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ هُنَاكَ الِاخْتِلَافُ فِي كُلِّ الشُّرُوطِ أَوْ وَمِثْلُ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الشُّرُوطِ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الشَّرْطُ بِصِيغَتِهِ بِأَنْ دَخَلَ فِي الْكَلَامِ حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الشَّرْطِ فَكَانَ الْفِعْلُ الَّذِي دَخَلَ عَلَيْهِ شَرْطًا أَوْ دَلَالَتَهُ كَمَا بَيَّنَّا فِي قَوْلِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ.
قَوْلُهُ (وَقَطُّ لَا تَنْفَكُّ صِيغَةُ الشَّرْطِ عَنْ مَعْنَى الشَّرْطِ) ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ رحمه الله أَنَّ صِيغَةَ الشَّرْطِ قَدْ تَخْلُو عَنْ مَعْنَى الشَّرْطِ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ الشَّرْطَ شَرْطَ تَغْلِيبٍ عَلَى مَعْنَى أَنَّ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ الشَّرْطُ لَا يَخْلُو فِي الْغَالِبِ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِدُونِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] فَإِنَّهُ مَذْكُورٌ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ وَالْعَادَةِ إذْ الْعَادَةُ الْغَالِبَةُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يُكَاتِبُ الْعَبْدَ إذَا رَأَى فِيهِ خَيْرًا إلَّا أَنَّهُ شَرْطٌ حَقِيقِيٌّ بِدَلِيلِ جَوَازِ كِتَابَةِ الْعَبْدِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ فِيهِ خَيْرٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْفِقْهِ وَلَوْ كَانَ شَرْطًا حَقِيقَةً لَمْ يَجُزْ وَكَمَا فِي
وَلَكِنْ أَدْنَى دَرَجَاتِ الْحُكْمِ اسْتِحْبَابُ الْمَأْمُورِ بِهِ وَاسْتِحْبَابُ الْكِتَابِ مُتَعَلِّقٌ بِهَذَا الشَّرْطِ لَا يُوجَدُ إلَّا بِهِ وَيَنْعَدِمُ قَبْلَهُ فَأَمَّا الْإِبَاحَةُ فَتَسْتَغْنِي عَنْهُ وَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ الِاسْتِحْبَابُ أَلَا يُرَى أَنَّ قَوْلَهُ {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] سُنَّةٌ وَاسْتِحْبَابٌ
ــ
[كشف الأسرار]
قَوْله تَعَالَى {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ} [النساء: 101] أَيْ يَقْتُلَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَإِنَّهُ شَرْطُ تَغْلِيبٍ وَمَذْكُورٌ عَلَى وِفَاقِ الْعَادَةِ فَإِنَّ عَامَّةَ أَسْفَارِ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لَمْ يَكُنْ يَخْلُو عَنْ خَوْفِ الْعَدُوِّ لَا أَنَّهُ شَرْطٌ حَقِيقِيٌّ بِدَلِيلِ جَوَازِ الْقَصْرِ حَالَةَ الْأَمْنِ بِالْإِجْمَاعِ إلَّا مَا نُقِلَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ كَانَ يَشْتَرِطُ الْخَوْفَ لِجَوَازِ الْقَصْرِ وَكَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} [النساء: 23] .
فَإِنَّ ذِكْرَ الْحَجْرِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الشَّرْطِ إذْ الْقَيْدُ شَرْطٌ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ عَلَى سَبِيلِ الْعَادَةِ إذْ الرَّبِيبَةُ تُرَبَّى فِي حِجْرِ الرَّبِّ فِي الْعَادَةِ الْغَالِبَةِ لَا أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ الشَّرْطَ حَقِيقَةً بِدَلِيلِ حُرْمَةِ الرَّبِيبَةِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِهِ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ إذَا كَانَ دَخَلَ بِأُمِّهَا قَالُوا وَالْفَائِدَةُ فِي تَخْصِيصِ اللَّهِ تَعَالَى حَالَ الِابْتِلَاءِ بِتِلْكَ الْحَادِثَةِ فِي الْعَادَاتِ بِالذِّكْرِ كَوْنُهَا أَوْلَى بِالْبَيَانِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَيْهَا أَمَسُّ فَرَدَّ الشَّيْخُ ذَلِكَ وَقَالَ صِيغَةُ الشَّرْطِ لَا تَخْلُو عَنْ مَعْنَى الشَّرْطِ قَطُّ خُصُوصًا فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِهِ يُؤَدِّي إلَى الْغَايَةِ وَإِدْخَالِهِ فِي جِنْسِ مَا لَا مَعْنَى لَهُ مِنْ الْأَصْوَاتِ.
وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ لَغْوٌ ثُمَّ أَشَارَ إلَى الْجَوَابِ عَنْ مُتَمَسَّكِهِمْ فَقَالَ فِي الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِ {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] أَنَّ أَدْنَى دَرَجَاتِ الْأَمْرِ أَيْ أَدْنَى دَرَجَاتِهِ الَّتِي يُوجَدُ فِيهَا مَعْنَى الْحَقِيقَةِ وَهُوَ الطَّلَبُ كَذَا وَعِبَارَةُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ حَيْثُ قَالَ الْأَمْرُ لِلْإِيجَابِ تَارَةً وَلِلنَّدَبِ أُخْرَى أَبْعَدُ عَنْ الِاشْتِبَاهِ لَا يُوجَدُ الِاسْتِحْبَابُ إلَّا بِهَذَا الشَّرْطِ وَهُوَ رُؤْيَةُ الْخَيْرِيَّةِ وَيُعْدَمُ الِاسْتِحْبَابُ قَبْلَ هَذَا الشَّرْطِ فَكَانَ هَذَا الشَّرْطُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَأَمَّا الْإِبَاحَةُ أَيْ إبَاحَةُ الْكِتَابَةِ فَتَسْتَغْنِي عَنْ هَذَا الشَّرْطِ أَيْ هِيَ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِالشَّرْطِ فَيَجُوزُ الْكِتَابَةُ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ خَيْرٌ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ إعْتَاقُهُ فَالْكِتَابَةُ أَوْلَى وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرِ الْمَالُ عِنْدَ الْبَعْضِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] وَمَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ كَسُوبًا يَقْدِرُ عَلَى أَدَاءِ الْبَدَلِ.
وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْهُ الدِّيَانَةُ وَحُسْنُ خِدْمَةِ الْمَوْلَى فَإِذَا رَأَى الْمَوْلَى ذَلِكَ مِنْهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُكَاتِبَهُ جَزَاءً عَلَى فِعْلِهِ وَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ الِاسْتِصْحَابُ إلَّا عِنْدَ دَاوُد بْنِ عَلِيٍّ وَعَطَاءٍ وَابْنُ سِيرِينَ فَإِنَّهُمْ حَمَلُوهُ عَلَى الْوُجُوبِ إذَا عَلِمَ الْمَوْلَى فِيهِ خَيْرًا وَطَلَبَ الْعَبْدُ الْكِتَابَةَ وَنُقِلَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ عَزْمَةٌ مِنْ عَزَمَاتِ اللَّهِ أَيْ وَاجِبٌ مِنْ وَاجِبَاتِهِ أَلَا تَرَى قَوْله تَعَالَى {وَآتُوهُمْ} [النور: 33] أَيْ حُطُّوا عَنْهُمْ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ شَيْئًا مَا أَحَبَبْتُمْ رُبْعًا فَمَا دُونَهُ سُنَّةً وَاسْتِحْبَابًا فَكَذَا الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَلَامِ الِانْتِظَامُ وَالِاتِّسَاقُ وَإِنْ كَانَ الْقِرَانُ فِي النَّظْمِ لَا يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ وَهَذَا التَّوْضِيحُ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا حُمِلَ الْإِيتَاءُ عَلَى الْحَطِّ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ كَمَا قُلْنَا وَإِنْ حُمِلَ عَلَى الْإِعَانَةِ مِنْ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ وَإِعْطَائِهِمْ سَهْمَهُمْ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ بِقَوْلِهِ فِي الرِّقَابِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ فَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَالْخِطَابُ عَامٌّ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا يَصِحُّ التَّوْضِيحُ وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا} [النساء: 25] فَإِنَّهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ عَلَى وِفَاقِ الْعَادَةِ عِنْدَنَا بَلْ لِبَيَانِ النَّدْبِ فَإِنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ مَعَ طَوْلِ الْحُرَّةِ إنْ كَانَ مُبَاحًا لَكِنَّهُ غَيْرُ مَنْدُوبٍ إلَيْهِ وَإِنَّمَا يُنْدَبُ إلَيْهِ بِشَرْطِ عَدَمِ طَوْلِ الْحُرَّةِ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] وَيُقَالُ اسْتِحْبَابُ شَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ مُتَعَلِّقٌ
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] لَيْسَ بِشَرْطٍ عَادَةً بَلْ هُوَ شَرْطٌ أُرِيدَ بِهِ حَقِيقَةُ مَا وُضِعَ لَهُ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّصِّ قَصْرُ الْأَحْوَالِ وَهُوَ أَنْ يُومِئَ عَلَى الدَّابَّةِ وَيُخَفِّفَ الْقِرَاءَةَ وَالتَّسْبِيحَ. أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ} [البقرة: 239] .
وَقَالَ تَعَالَى {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء: 103] وَقَصْرُ الْأَحْوَالِ يَتَعَلَّقُ بِقِيَامِ الْخَوْفِ عِيَانًا لَا بِنَفْسِ السَّفَرِ فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} [النساء: 23] فَلَمْ يَذْكُرْ الْحُجُورَ شَرْطًا وَإِنَّمَا الشَّرْطُ قَوْلُهُ {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] وَهُوَ شَرْطٌ اسْمًا وَحُكْمًا
ــ
[كشف الأسرار]
بِعَدَمِ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ كَمَا قُلْنَا فِي الْكِتَابَةِ.
قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَمِثْلُ قَوْله تَعَالَى {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33] الْآيَةَ قَوْلُهُ {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] غَيْرُ مَذْكُورٍ عَلَى وِفَاقِ الْعَادَةِ بَلْ هُوَ شَرْطٌ أُرِيدَ بِهِ حَقِيقَةُ مَا وُضِعَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ قَصْرُ الْأَحْوَالِ لَا قَصْرُ الذَّاتِ كَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَقَصْرُ الْأَحْوَالِ أَنْ يَقْصُرَ عَنْ بَعْضِ أَوْصَافِ الصَّلَاةِ كَالْأَدَاءِ رَاكِبًا بِإِيمَاءٍ وَالْإِيجَازِ فِي الْقِرَاءَةِ وَتَخْفِيفِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَتَرْكِ الِاعْتِدَالِ فِي الْأَرْكَانِ ثُمَّ اسْتَوْضَحَ مَا ذَكَرَ بِقَوْلِهِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ خِفْتُمْ} [البقرة: 239] أَيْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ خَوْفٌ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ غَيْرِهِ فَرِجَالًا جَمْعُ رَاجِلٍ كَقَائِمٍ وَقِيَامٍ أَيْ عَلَى أَقْدَامِكُمْ أَوْ رُكْبَانًا بِإِيمَاءٍ {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} [البقرة: 196] فَإِذَا زَالَ خَوْفُكُمْ فَاذْكُرُوا أَيْ صَلُّوا كَمَا عَلَّمَكُمْ مِنْ صَلَاةِ الْأَمْنِ فَعَلَّقَ بِالْخَوْفِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَصْرَ الْأَحْوَالِ لَا قَصْرَ الذَّاتِ فَيَكُونُ هُوَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا.
وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ} [النساء: 103] أَيْ أَمِنْتُمْ مِنْ الْعَدُوِّ {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء: 103] أَيْ أَطِيلُوا قِيَامَهَا وَرُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا عَلَى حَسَبِ مَا يَلِيقُ بِحَالِ الْحَضَرِ هَكَذَا نُقِلَ عَنْ السُّدِّيَّ وَغَيْرِهِ فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ لِبَيَانِ مَا يُبَاحُ بِالْخَوْفِ مِنْ قَصْرِ الْأَحْوَالِ وَقَصْرُ الْأَحْوَالِ أَيْ جَوَازُهُ وَسُقُوطُ كَرَاهَتِهِ يَتَعَلَّقُ بِقِيَامِ الْخَوْفِ عِيَانًا فَكَانَ هَذَا الشَّرْطُ عَلَى حَقِيقَتِهِ أَيْضًا فَإِنْ قِيلَ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ شَرْطَانِ الْخَوْفُ وَالضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ وَالْقَصْرُ مُتَعَلِّقٌ بِهِمَا ثُمَّ الْمُتَعَلِّقُ بِالضَّرْبِ قَصْرُ الذَّاتِ لَا قَصْرُ الْأَحْوَالِ إذْ هُوَ ثَابِتٌ فِي حَالَةِ الْإِقَامَةِ أَيْضًا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِالْخَوْفِ قَصْرُ الذَّاتِ أَيْضًا قُلْنَا الشَّرْطُ الْأَوَّلُ لَيْسَ لِتَعْلِيقِ الْقَصْرِ بِهِ بَلْ الشَّرْطُ الثَّانِي هُوَ الَّذِي تَعَلَّقَ الْقَصْرُ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ إذَا دَخَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْت زَيْدًا كَانَ الطَّلَاقُ مُتَعَلِّقًا بِالْكَلَامِ لَا بِالدُّخُولِ وَكَانَ الدُّخُولُ شَرْطَ الِانْعِقَادِ فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا يَتَعَلَّقُ الْقَصْرُ بِالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ بَلْ بِالْخَوْفِ هَذَا مُوجِبُ اللُّغَةِ وَالْقَصْرُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْخَوْفِ قَصْرُ الْأَحْوَالِ لَا قَصْرُ الذَّاتِ غَيْرَ أَنَّهُ يَقْتَضِي تَعَلُّقَ الْقَصْرِ بِالْخَوْفِ بَعْدَ وُجُودِ الضَّرْبِ لَكِنْ تُرِكَ هَذَا بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ فَإِنَّ الْقَصْرَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْخَوْفِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ تَقَدُّمُ السَّفَرِ بِالْإِجْمَاعِ وَفِي قَصْرِ الذَّاتِ يُشْتَرَطُ السَّفَرُ دُونَ الْخَوْفِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ النَّصِّ.
وَلَا يُقَالُ نَحْنُ نُعَلِّقُ قَصْرَ الذَّاتِ بِالضَّرْبِ وَنَتْرُكُ مُقْتَضَى قَوْلِهِ إنْ خِفْتُمْ بِالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ وَالْإِجْمَاعِ أَيْضًا؛ لِأَنَّا نَقُولُ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ لَا يَصْلُحُ لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِ بَلْ هُوَ شَرْطٌ لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالشَّرْطِ الثَّانِي فَكَانَ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ أَوْلَى وَلَكِنْ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ يَلْزَمُ مِمَّا ذَهَبْتُمْ إلَيْهِ خُلُوُّ صِيغَةِ الشَّرْطِ عَنْ مَعْنَاهُ أَيْضًا فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ} [النساء: 101] كَمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ مِمَّا ذَهَبْنَا إلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 3] فَلَا يُجْدِيكُمْ هَذَا التَّأْوِيلُ نَفْعًا؛ لِأَنَّ خُلُوَّ الصِّيغَةِ عَنْ مَعْنَى الشَّرْطِ لَازِمٌ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ وَلَا يَنْفَعُكُمْ التَّمَسُّكُ بِالدَّلِيلِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النِّزَاعَ وَاقِعٌ فِيهِ فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يَقُلْ بِجَوَازِ خُلُوِّهِ عَنْ مَعْنَاهُ بِلَا دَلِيلٍ فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23] فَلَمْ يَذْكُرْ الْحُجُورَ فِيهِ عَلَى سَبِيلِ الشَّرْطِ أَيْ لَيْسَ بِشَرْطِ صِيغَةٍ إذْ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ أَلْفَاظِ الشَّرْطِ وَلَا دَلَالَةَ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَرَبَائِبُكُمُ} [النساء: 23] مُعَرَّفٌ وَالْوَصْفُ فِي الْمُعَرَّفِ لَا يُفِيدُ مَعْنَى الشَّرْطِ كَمَا فِي قَوْلِهِ هَذِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي أَتَزَوَّجُهَا طَالِقٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى
وَكَذَلِكَ دَلَالَةُ الشَّرْطِ لَا تَنْفَكُّ عَنْ مَدْلُولِهِ وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ الرَّجُلِ الْمَرْأَةُ الَّتِي أَتَزَوَّجُ طَالِقٌ ثَلَاثًا هَذَا الْكَلَامُ بِمَعْنَى الشَّرْطِ دَلَالَةً لِوُقُوعِ الْوَصْفِ فِي النَّكِرَةِ وَلَوْ وَقَعَ فِي الْعَيْنِ لَمَا صَلَحَ دَلَالَةً وَنَصُّ الشَّرْطِ بِجَمِيعِ الْوَجْهَيْنِ.
وَأَمَّا الشَّرْطُ الَّذِي هُوَ فِي حُكْمِ الْعِلَلِ فَإِنَّ كُلَّ شَرْطٍ لَمْ يُعَارِضْهُ عِلَّةٌ صَلَحَ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً يُضَافُ إلَيْهِ الْحُكْمُ وَمَتَى عَارَضَهُ عِلَّةٌ لَمْ يَصْلُحْ عِلَّةً وَذَلِكَ لِمَا قُلْنَا إنَّ الشَّرْطَ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُودُ دُونَ الْوُجُوبِ فَصَارَ شَبِيهًا بِالْعِلَلِ وَالْعِلَلُ أُصُولٌ لَكِنَّهَا لَمَّا لَمْ تَكُنْ عِلَلًا بِذَوَاتِهَا اسْتَقَامَ أَنْ يُخْلِفَهَا الشُّرُوطَ وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ لِعُلَمَائِنَا رحمهم الله
ــ
[كشف الأسرار]
أَنَّهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ عَلَى سَبِيلِ الشَّرْطِ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الْحَجْرَ فِي عَكْسِهِ أَعْنِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] فَلَوْ كَانَتْ الْحُرْمَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْوَصْفَيْنِ جَمِيعًا لِذِكْرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ ذِكْرِ الْإِبَاحَةِ بِأَنْ قِيلَ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ أَوْ لَمْ تَكُنْ الرَّبَائِبُ فِي حُجُورِكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِالشَّرْطَيْنِ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِاخْتِصَاصِ الدُّخُولِ بِالنَّفْيِ دُونَ الْحُجُورِ فَائِدَةٌ لَوْ كَانَ الْحَجْرُ مَذْكُورًا عَلَى سَبِيلِ الشَّرْطِ.
قَالَ الشَّيْخُ رحمه الله فِي بَعْضِ تَصَانِيفِهِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْحَجْرَ لِمُرَاعَاةِ حَقِّ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْإِنْسَانِ أَنْ يُضَيِّعَ الشَّيْءَ الَّذِي يُحَرَّمُ عَلَيْهِ وَلَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ فَاَللَّهُ تَعَالَى أَشَارَ بِمُرَاعَاةِ مَنْ فِي حَجْرِهِ مَعَ كَوْنِهِ حَرَامًا عَلَيْهِ وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَبْغَضُ الرَّبِيبَ وَالرَّبِيبَةَ طَبْعًا وَيَتَنَفَّرُ عَنْهُمَا عَادَةً فَكَانَ ذِكْرُ الْحَجْرِ تَحْرِيضًا لَهُ عَلَى التَّرْبِيَةِ وَتَرْغِيبًا إلَى مُخَالَفَةِ مَا يَدْعُو إلَيْهِ الطَّبْعُ إذْ فِي ذَلِكَ تَضْيِيعُ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ وَهُوَ شَرْطٌ اسْمًا وَحُكْمًا أَيْ عَدَمُ الدُّخُولِ بِالْمَرْأَةِ شَرْطٌ حَقِيقِيٌّ مَحْضٌ لِإِبَاحَةِ الْبِنْتِ صِيغَةً لِوُجُودِ حَرْفِ الشَّرْطِ فِيهِ وَحُكْمًا لِتَوَقُّفِ الْحُكْمِ وَهُوَ الْإِبَاحَةُ عَلَى تَحَقُّقِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْحُكْمِ إذْ مَعْنَى الشَّرْطِ لَيْسَ إلَّا تَوَقُّفَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهَا التَّأْثِيرُ وَهُوَ غَيْرُ الْحُكْمِ.
قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ دَلَالَةُ الشَّرْطِ) أَيْ كَمَا لَا يَنْفَكُّ صِيغَةُ الشَّرْطِ عَنْ مَعْنَاهُ لَا يَنْفَكُّ دَلَالَةُ الشَّرْطِ عَنْ مَدْلُولِهَا وَهُوَ مَعْنَى الشَّرْطِ وَذَلِكَ أَيْ ثُبُوتُ الشَّرْطِ دَلَالَةً وَعَدَمُ انْفِكَاكِهِ عَنْ الْمَدْلُولِ مِثْلُ قَوْلِ الرَّجُلِ الْمَرْأَةُ الَّتِي أَتَزَوَّجُهَا طَالِقٌ أَوْ مِثْلُ قَوْلِهِ لِنِسَائِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي تَدْخُلُ مِنْكُنَّ الدَّارَ فَهِيَ طَالِقٌ هَذَا الْكَلَامُ بِمَعْنَى التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ دَلَالَةً وَالتَّزَوُّجُ وَدُخُولُ الدَّارِ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ حَتَّى يَتَوَقَّفَ وُجُودُ الْعِلَّةِ عَلَى وُجُودِ التَّزَوُّجِ وَالدُّخُولِ أَوْ الدُّخُولُ دَخَلَ عَلَى امْرَأَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ فَكَانَتْ نَكِرَةً وَالْوَصْفُ فِي النَّكِرَةِ مُعْتَبَرٌ لِتَعَرُّفِهَا بِهِ فَصَلَحَ دَلَالَةً عَلَى الشَّرْطِ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي بَابِ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ تَزَوَّجْت امْرَأَةً فَهِيَ طَالِقٌ أَوْ قَالَ إنْ دَخَلَتْ وَاحِدَةٌ مِنْكُنَّ الدَّارَ فَهِيَ طَالِقٌ.
وَلَوْ وَقَعَ الْوَصْفُ فِي الْعَيْنِ بِأَنْ أَشَارَ إلَى امْرَأَةٍ وَقَالَ هَذِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي أَتَزَوَّجُهَا أَوْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي تَدْخُلُ الدَّارَ فَكَذَا لَمْ يَصْلُحْ دَلَالَةً عَلَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ فِي الْعَيْنِ لَغْوٌ فَيَبْقَى قَوْلُهُ هَذِهِ الْمَرْأَةُ طَالِقٌ فَيَلْغُو فِي الْأَجْنَبِيَّةِ وَيَتَنَجَّزُ فِي الْمَنْكُوحَةِ ثُمَّ أَشَارَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ دَلَالَةِ الشَّرْطِ وَصَرِيحِ الشَّرْطِ فَقَالَ وَنَصُّ الشَّرْطِ لِجَمْعِ الْوَجْهَيْنِ يَعْنِي لَوْ أَتَى بِصَرِيحِ الشَّرْطِ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِهِ فِي الْمُعَيَّنِ وَغَيْرِ الْمُعَيَّنِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ إنْ تَزَوَّجْت امْرَأَةً فَهِيَ كَذَا أَوْ يَقُولُ إنْ تَزَوَّجْت هَذِهِ الْمَرْأَةَ فَهِيَ كَذَا يَتَعَلَّقُ الطَّلَاقُ بِالشَّرْطِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا.
قَوْلُهُ (وَأَمَّا الشَّرْطُ الَّذِي هُوَ فِي حُكْمِ الْعِلَلِ) وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ أَقْسَامِ الشَّرْطِ فَإِنَّ كُلَّ شَرْطٍ لَمْ يُعَارِضْهُ عِلَّةٌ صَالِحَةٌ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا صَلَحَ ذَلِكَ الشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً يُضَافُ إلَيْهِ الْحُكْمُ أَيْ صَلَحَ عِلَّةً فِي حَقِّ إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ خَلَفًا عَنْ الْعِلَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَمَتَى عَارَضَ الشَّرْطَ عِلَّةٌ صَالِحَةٌ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا لَمْ يَصْلُحْ الشَّرْطُ عِلَّةً لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى إثْبَاتِ الْخِلَافَةِ
وَذَلِكَ أَيْ عَدَمُ صَلَاحِيَةِ الشَّرْطِ لِلْخِلَافَةِ عِنْدَ صَلَاحِيَةِ الْعِلَّةِ لِلْإِضَافَةِ إلَيْهَا لَمَّا قُلْنَا إنَّ الشَّرْطَ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُودُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُوجَدُ عِنْدَ وُجُودِهِ دُونَ الْوُجُوبِ أَيْ الْإِثْبَاتِ إذْ لَا تَأْثِيرَ لَهُ
فَقَدْ قَالُوا فِي شُهُودِ الشَّرْطِ وَالْيَمِينِ إذَا رَجَعُوا بَعْدَ الْحُكْمِ إنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ عَلَى شُهُودِ الْيَمِينِ لِأَنَّهُمْ شُهُودُ الْعِلَّةِ وَكَذَلِكَ الْعِلَّةُ وَالسَّبَبُ إذَا اجْتَمَعَا سَقَطَ حُكْمُ السَّبَبِ كَشُهُودِ التَّخْيِيرِ وَالِاخْتِيَارِ إذَا اجْتَمَعُوا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ثُمَّ رَجَعُوا بَعْدَ الْحُكْمِ فَإِنَّ الضَّمَانَ عَلَى شُهُودِ الِاخْتِيَارِ لِأَنَّهُ هُوَ الْعِلَّةُ وَالتَّخْيِيرُ سَبَبٌ
ــ
[كشف الأسرار]
فِيهِ.
فَصَارَ الشَّرْطُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ شَبِيهًا بِالْعِلَلِ وَالْعِلَلُ أُصُولٌ يَعْنِي فِي إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ وَإِضَافَتِهَا إلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا مُؤَثِّرَةٌ فِي الْإِثْبَاتِ وَالْإِيجَابِ فَلَا يَجُوزُ مَعَ وُجُودِ حَقِيقَةِ الْعِلَّةِ وَصَلَاحِهَا لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا أَنْ يُضَافَ إلَى مَالِهِ شَبَهُ الْعِلَّةِ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْلُفَهَا الشَّرْطُ أَصْلًا إذْ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي إيجَادِ الْحُكْمِ بِوَجْهٍ كَمَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ لَكِنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مَالًا بِذَوَاتِهَا بَلْ هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ أَمَارَاتٌ عَلَى الْأَحْكَامِ كَالشُّرُوطِ اسْتَقَامَ أَنْ يَخْلُفَهَا الشُّرُوطُ فِي حَقِّ إضَافَةِ الْحُكْمِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْإِضَافَةِ إلَيْهَا لِتَحَقُّقِ الشَّبَهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَمَا بَيَّنَّاهُ
وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ أَيْ اعْتِبَارُ الْعِلَّةِ عِنْدَ صَلَاحِهَا لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا وَتَرْجِيحُهَا عَلَى الشَّرْطِ أَصْلٌ كَبِيرٌ لِعُلَمَائِنَا فَقَدْ قَالُوا فِي شُهُودِ الشَّرْطِ وَالْيَمِينِ إذَا رَجَعُوا بِأَنْ شَهِدَ فَرِيقٌ لِامْرَأَةٍ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا بِتَعْلِيقِ الزَّوْجِ طَلَاقَهَا بِدُخُولِ الدَّارِ أَوْ شَهِدُوا لِعَبْدٍ بِتَعْلِيقِ الْمَوْلَى عِتْقَهُ بِشَرْطٍ ثُمَّ شَهِدَ آخَرُونَ بِوُجُودِ الشَّرْطِ ثُمَّ رَجَعُوا جَمِيعًا بَعْدَ الْحُكْمِ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَلُزُومِ نِصْفِ الْمَهْرِ أَوْ بِالْحُرِّيَّةِ أَنَّ الضَّمَانَ أَيْ ضَمَانَ الْعَبْدِ وَضَمَانَ مَا أَدَّاهُ الزَّوْجُ إلَى الْمَرْأَةِ وَهُوَ نِصْفُ الْمَهْرِ عَلَى شُهُودِ الْيَمِينِ أَيْ التَّعْلِيقَ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُمْ شُهُودُ الْعِلَّةِ فَإِنَّهُمْ أَثْبَتُوا قَوْلَ الزَّوْجِ أَنْتِ طَالِقٌ وَقَوْلَ الْمَوْلَى أَنْتَ حُرٌّ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَالِحٌ لِإِضَافَةِ الطَّلَاقِ أَوْ الْعِتْقِ إلَيْهِ فَلَمْ يَجُزْ إضَافَتُهُ إلَى الشَّرْطِ فَلَمْ يَضْمَنْ شُهُودُ الشَّرْطِ شَيْئًا وَسُمِّيَ شُهُودُ التَّعْلِيقِ شُهُودَ الْعِلَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عِلَّةً قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ إمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِعَرْضٍ أَنْ يَصِيرَ عِلَّةً فَكَانَ هَذَا تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِمَا يَئُولُ إلَيْهِ أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْفَرِيقَيْنِ لَمَّا شَهِدُوا أَوْ قَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ قَدْ ثَبَتَ لِلْمُعَلَّقِ اتِّصَالٌ بِالْمَحَلِّ بِوُجُودِ الشَّرْطِ فِي زَعْمِهِمْ وَصَارَ عِلَّةً حَقِيقَةً فَيَصِحُّ تَسْمِيَتُهُمْ بِشُهُودِ الْعِلَّةِ.
وَإِنَّمَا وَجَبَ الضَّمَانُ فِيمَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِأَنَّهُ تَزَوَّجَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ دَخَلَ بِهَا ثُمَّ رَجَعُوا بَعْدَ الْحُكْمِ عَلَى شَاهِدَيْ الدُّخُولِ وَإِنْ كَانَا شَاهِدَيْ شَرْطٍ وَالْعِلَّةُ فِي إيجَابِ الْمَهْرِ هُوَ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ شَاهِدَيْ الدُّخُولِ أَبْرَآ شُهُودَ النِّكَاحِ عَنْ الضَّمَانِ حَيْثُ أَدْخَلَا فِي مِلْكِ الزَّوْجِ عِوَضَ مَا غَرِمَ مِنْ الْمَهْرِ وَهُوَ اسْتِيفَاءُ مَنَافِعِ الْبُضْعِ وَهَاهُنَا شُهُودُ الشَّرْطِ لَمْ يُبَرِّئُوا شُهُودَ التَّعْلِيقِ عَنْ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُدْخِلُوا فِي مِلْكِ الزَّوْجِ عِوَضَ مِلْكِ النِّكَاحِ الْمُوجِبِ لِاسْتِيفَاءِ مَنَافِعِ الْبُضْعِ فَيَبْقَى هَذِهِ شَهَادَةٌ عَلَى شَرْطٍ مَحْضٍ فَلَمْ يُضَفْ الضَّمَانُ إلَيْهِمْ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَمَا سَقَطَ اعْتِبَارُ الشَّرْطِ عِنْدَ صَلَاحِ الْعِلَّةِ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا سَقَطَ حُكْمُ السَّبَبِ إذَا اجْتَمَعَ السَّبَبُ وَالْعِلَّةُ الصَّالِحَةُ لِلْإِضَافَةِ أَيْضًا كَشُهُودِ التَّخْيِيرِ وَالِاخْتِيَارِ إذَا اجْتَمَعُوا فِي الطَّلَاقِ بِأَنْ شَهِدَ جَمَاعَةٌ بِأَنَّ الزَّوْجَ قَالَ لِامْرَأَتِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فِي الْمَجْلِسِ الْفُلَانِيِّ اخْتَارِي نَفْسَك وَشَهِدَ آخَرُونَ بِأَنَّهَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَالْعَتَاقُ بِأَنْ شَهِدَ فَرِيقٌ بِأَنَّ الْمَوْلَى قَالَ لِعَبْدِهِ فِي الْمَجْلِسِ الْفُلَانِيِّ أَنْتَ حُرٌّ إنْ شِئْت أَوْ قَالَ لَهُ اخْتَرْ عِتْقَك وَشَهِدَ آخَرُونَ بِأَنَّ الْعَبْدَ قَالَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ قَدْ شِئْت أَوْ قَالَ اخْتَرْت الْعِتْقَ ثُمَّ رَجَعُوا جَمِيعًا بَعْدَ الْحُكْمِ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ فَإِنَّ الضَّمَانَ أَيْ ضَمَانَ نِصْفِ الْمَهْرِ فِي الطَّلَاقِ وَضَمَانَ الْعَبْدِ فِي الْعَتَاقِ عَلَى شُهُودِ الِاخْتِيَارِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ هُوَ الْعِلَّةُ؛ لِأَنَّ لُزُومَ الْمَهْرِ وَفَوَاتَ مَالِيَّةِ الْعَبْدِ يَحْصُلُ بِهِ لَا بِالتَّخْيِيرِ وَالتَّخْيِيرُ سَبَبٌ؛ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ مُفْضٍ إلَيْهِ فَكَانَ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَى
فَأَمَّا إذَا سَلِمَ الشَّرْطُ عَنْ مُعَارَضَةِ الْعِلَّةِ صَلَحَ عِلَّةً لِمَا قُلْنَا وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ عُلَمَائِنَا فِي رَجُلٌ قَيَّدَ عَبْدَهُ ثُمَّ حَلَفَ فَقَالَ إنْ كَانَ قَيْدُهُ عَشَرَةَ أَرْطَالٍ فَهُوَ حُرٌّ ثُمَّ قَالَ وَإِنْ حَلَّهُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ فَهُوَ حُرٌّ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ الْقَيْدَ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ فَقَضَى الْقَاضِي ثُمَّ حَلَّهُ وَوَزَنَهُ فَإِذَا هُوَ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ يَضْمَنَانِ قِيمَتَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْإِعْتَاقِ يَنْفُذُ عِنْدَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَقَدْ وَجَبَ الْعِتْقُ بِشَهَادَتِهِمَا وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنَانِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَمْ يَنْفُذْ فِي الْبَاطِنِ فَوَقَعَ الْعِتْقُ بِحَلِّ الْقَيْدِ وَهَذَانِ الشَّاهِدَانِ أَثْبَتَا شَرْطَ الْعِتْقِ لَا عِلَّةَ الْعِتْقِ وَمَعَ ذَلِكَ ضَمِنَا مِنْ قِبَلِ أَنَّ عِلَّةَ الْعِتْقِ لَا يَصْلُحُ لِضَمَانِ الْعِتْقِ وَهُوَ يَمِينُ الْمَوْلَى فَجُعِلَ الشَّرْطُ عِلَّةً
ــ
[كشف الأسرار]
الْعِلَّةِ دُونَ السَّبَبِ فَلَا يَضْمَنُ شُهُودُ السَّبَبِ شَيْئًا كَمَا لَا يَضْمَنُ شُهُودُ الشَّرْطِ.
قَوْلُهُ (فَأَمَّا إذَا سَلِمَ الشَّرْطُ عَنْ مُعَارَضَةِ الْعِلَّةِ) أَيْ الْعِلَّةِ الصَّالِحَةِ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا صَلَحَ الشَّرْطُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ لِمَا قُلْنَا مِنْ شَبَهِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرْطِ وَالْعِلَّةِ بِالْآخَرِ فَكَانَ هَذَا الْقِسْمُ عِلَّةً حُكْمًا لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ لَا اسْمًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ لَهُ شَرْعًا وَلَا مَعْنًى؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُؤَثِّرٍ فِي الْحُكْمِ لَكِنَّ الشَّيْخَ أَوْرَدَهُ فِي أَقْسَامِ الشَّرْطِ لِكَوْنِهِ شَرْطًا اسْمًا وَمَعْنًى وَذَلِكَ أَيْ الشَّرْطُ الَّذِي سَلِمَ عَنْ مُعَارَضَةِ الْعِلَّةِ وَصَلَحَ عِلَّةً مِثْلُ قَوْلِ عُلَمَائِنَا إلَى آخِرِهِ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ يَضْمَنَانِ قِيمَتَهُ لِلْمَوْلَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رحمه الله لَا يَضْمَنَانِ لَهُ شَيْئًا وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي يَنْفُذُ بِالْحُجَّةِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ يَنْفُذُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْقَضَاءِ بِالْحُجَّةِ وَالْحُجَّةُ بَاطِلَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ لِكَوْنِهَا كَذِبًا وَلَكِنَّ الْعَدَالَةَ الظَّاهِرَةَ دَلِيلُ الصِّدْقِ ظَاهِرًا فَاعْتُبِرَتْ حُجَّةً فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ دُونَ تَنْفِيذِ الْقَضَاءِ حَقِيقَةً وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ يَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ بَنَى الْقَضَاءَ عَلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَأَمَرَ بِالْعَمَلِ بِهِ فَيَجِبُ صَوْنُ قَضَائِهِ عَنْ الْبُطْلَانِ وَتَصْحِيحُهُ مَا أَمْكَنَ وَقَدْ أَمْكَنَ ذَلِكَ بِإِثْبَاتِ التَّصَرُّفِ الْمَشْهُودِ سَابِقًا عَلَى الْقَضَاءِ فَيَجِبُ إثْبَاتُهُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ صَوْنًا لِلْقَضَاءِ عَنْ الْبُطْلَانِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ.
وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ كَانَ الْقَضَاءُ بِالْحُرِّيَّةِ عِنْدَهُمَا نَافِذًا فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ وَكَانَ الْعِتْقُ وَاقِعًا بِحَلِّ الْقَيْدِ لَا بِالشَّهَادَةِ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ وَعِنْدَهُ كَانَ الْقَضَاءُ بِالْعِتْقِ نَافِذًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَالْقَضَاءُ كَانَ بِشَهَادَتِهِمَا وَقَدْ وَجَبَ الْعِتْقُ أَيْ ثَبَتَ بِشَهَادَتِهِمَا قَبْلَ حَلِّ الْقَيْدِ وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمَا شَهِدَا بِالْبَاطِنِ فَيَضْمَنَانِ قِيمَةَ الْعَبْدِ فَإِنْ قِيلَ قَضَاءُ الْقَاضِي إنَّمَا يَنْفُذُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله إذَا لَمْ يَتَيَقَّنْ بِبُطْلَانِهِ وَبَعْدَ التَّيَقُّنِ لَا يَنْفُذُ كَمَا لَوْ ظَهَرَ أَنَّ الشُّهُودَ عَبِيدٌ أَوْ كُفَّارٌ وَهَاهُنَا تَيَقَّنَّا بِبُطْلَانِ الْحُجَّةِ حِينَ كَانَ وَزْنُ الْقَيْدِ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ أَرْطَالٍ فَلَا يَنْفُذُ الْقَضَاءُ بَاطِنًا فَيَعْتِقُ الْعَبْدُ بِالْحَلِّ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ قُلْنَا لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ نُفُوذُ الْقَضَاءِ عِنْدَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَسْقُطُ مِنْ الْقَاضِي بِعُرْفِ مَا لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى مَعْرِفَتِهِ وَهُوَ حَقِيقَةُ صِدْقِ الشُّهُودِ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْوُقُوفُ عَلَى مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مِنْ كُفْرِهِمْ وَرِقِّهِمْ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُقُوفُ هَاهُنَا عَلَى حَقِيقَةِ وَزْنِ الْقَيْدِ إذْ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ الْحَلِّ وَأَدْخَلَهُ عِتْقُ الْعَبْدِ فَسَقَطَ عَنْهُ حَقِيقَةُ مَعْرِفَةِ وَزْنِ الْقَيْدِ وَنَفَذَ قَضَاؤُهُ بِالْعِتْقِ بِشَهَادَتِهِمَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ قَوْلُهُ (وَهَذَانِ الشَّاهِدَانِ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ بِشَهَادَتِهِمَا وَجَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ سَلَّمْنَا أَنَّ الْقَضَاءَ يَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا إلَّا أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ أَثْبَتَا شَرْطَ الْعِتْقِ وَهُوَ كَوْنُ الْقَيْدِ عَشَرَةَ أَرْطَالٍ لَا عِلَّةَ الْعِتْقِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى شُهُودِ الشَّرْطِ فَقَالَ إنَّهُمَا ضَمِنَا مِنْ قِبَلِ أَنَّ عِلَّةَ الْعِتْقِ لَا يَصْلُحُ لِضَمَانِ الْعِتْقِ لِزَوَالِ صِفَةِ التَّعَدِّي عَنْهَا؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ وَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ كَمَا إذَا بَاعَ مَالَ نَفْسِهِ أَوْ أَكَلَ طَعَامَ نَفْسِهِ فَجَعَلَ الشَّرْطَ عِلَّةً لِخُلُوِّهِ عَنْ مُعَارَضَةِ مَا يَصْلُحُ عِلَّةً كَمَا فِي حَفْرِ الْبِئْرِ.
وَفِي مَسْأَلَةِ رُجُوعِ الْفَرِيقَيْنِ أَيْ رُجُوعِ شُهُودِ الشَّرْطِ وَشُهُودِ الْيَمِينِ إيجَابُ كَلِمَةِ الْعِتْقِ أَيْ إثْبَاتُهَا وَهِيَ قَوْلُهُ أَنْتَ حُرٌّ يَصْلُحُ عِلَّةً لِضَمَانِ الْعُدْوَانِ؛ لِأَنَّهَا ثَبَتَتْ بِطَرِيقِ التَّعَدِّي لِظُهُورِ كَوْنِهَا كَذِبًا بِالرُّجُوعِ فَلَمْ يَكُنْ الشَّرْطُ عِلَّةً أَيْ فِي حُكْمِ الْعِلَّةِ
وَفِي مَسْأَلَةِ رُجُوعِ الْفَرِيقَيْنِ إيجَابُ كَلِمَةِ الْعِتْقِ يَصْلُحُ لِضَمَانِ الْعُدْوَانِ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ بِطَرِيقِ التَّعَدِّي فَلَمْ يُجْعَلْ الشَّرْطُ عِلَّةً وَإِذَا رَجَعَ شُهُودُ الشَّرْطِ وَحْدَهُمْ يَجِبُ أَنْ يَضْمَنُوا لِمَا قُلْنَا فَأَمَّا شُهُودُ الْإِحْصَانِ إذَا رَجَعُوا فَلَا يَضْمَنُونَ بِحَالٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ رحمه الله لِأَنَّ الْإِحْصَانَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبٌ وَإِلَّا فَلَا يَضْمَنُونَ وَجُوِّدَ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ حَفْرُ الْبِئْرِ هُوَ شَرْطٌ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الثِّقَلَ عِلَّةُ السُّقُوطِ وَالْمَشْيَ سَبَبٌ مَحْضٌ لَكِنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ مُمْسِكَةً مَانِعَةً عَمَلَ الثِّقَلِ فَيَكُونُ حَفْرُ الْبِئْرِ إزَالَةً لِلْمَانِعِ وَكَذَلِكَ شَقُّ الزِّقِّ شَرْطٌ لِلسَّيَلَانِ لِأَنَّ الزِّقَّ كَانَ مَانِعًا وَكَذَلِكَ الْقِنْدِيلُ الثَّقِيلُ ثِقَلُهُ عِلَّةٌ لِلسُّقُوطِ وَإِنَّمَا الْحَبْلُ مَانِعٌ فَإِذَا قُطِعَ الْحَبْلُ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَعَمَلُ الثَّقِيلِ عَمَلُهُ فَثَبَتَ أَنَّهُ شَرْطٌ لَكِنَّ الْعِلَّةَ لَيْسَتْ بِصَالِحَةٍ لِلْحُكْمِ لِأَنَّ الثِّقَلَ
ــ
[كشف الأسرار]
لِمُعَارَضَتِهِ مَا يَصْلُحُ عِلَّةً بِنَفْسِهِ وَإِذَا رَجَعَ شُهُودُ الشَّرْطِ وَحْدَهُمْ وَثَبَتَ شُهُودُ الْيَمِينِ عَلَى شَهَادَتِهِمْ يَجِبُ أَنْ يَضْمَنُوا لِمَا قُلْنَا إنَّ الْعِلَّةَ وَهِيَ يَمِينُ الزَّوْجِ أَوْ الْمَوْلَى لَا يَصْلُحُ عِلَّةً لِلضَّمَانِ لِخُلُوِّهِمَا عَنْ وَصْفِ التَّعَدِّي إذْ شُهُودُ الْيَمِينِ ثَابِتُونَ عَلَى شَهَادَتِهِمْ فَيَجِبُ إضَافَتُهُ إلَى الشَّرْطِ لِظُهُورِ صِفَةِ التَّعَدِّي فِيهِ بِرُجُوعِ شُهُودِهِ عَنْ شَهَادَتِهِمْ فَلِذَلِكَ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ وَإِنَّمَا قَالَ يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ فِيهِ رِوَايَةٌ وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله أَنَّ شُهُودَ الشَّرْطِ لَا يَضْمَنُونَ شَيْئًا سَوَاءٌ رَجَعَ الْفَرِيقَانِ أَوْ رَجَعَ شُهُودُ الشَّرْطِ خَاصَّةً وَهَكَذَا ذَكَرَ أَبُو الْيُسْرِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَيْضًا فَقَالَ وَلَوْ رَجَعَ شُهُودُ الشَّرْطِ وَحْدَهُمْ لَا يَضْمَنُونَ هَكَذَا نَصَّ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَذَكَرَ فِي الطَّرِيقَةِ الْبَرْغَرِيَّةِ وَإِنْ رَجَعَ شُهُودُ الشَّرْطِ وَحْدَهُمْ عِنْدَ زُفَرَ يَضْمَنُونَ وَعِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ لَا يَضْمَنُونَ نَصَّ عَلَى هَذَا فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ قُلْت وَوَجْهُهُ أَنَّ الْعِلَّةَ وَإِنْ خَلَتْ عَنْ صِفَةِ التَّعَدِّي وَلَمْ تَصْلُحْ لِإِيجَابِ الضَّمَانِ فَهِيَ صَالِحَةٌ لَقَطَعَ الْحُكْمِ عَنْ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهَا فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ كَمَا فِي فَتْحِ بَابِ الْقَفَصِ وَالْإِصْطَبْلِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَكَمَا فِي إرْسَالِ الْكَلْبِ عَلَى صَيْدٍ مَمْلُوكٍ حَتَّى قَتَلَهُ أَوْ عَلَى رَجُلٍ حَتَّى مَزَّقَ ثِيَابَهُ.
بِخِلَافِ حَفْرِ الْبِئْرِ وَأَمْثَالِهِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ هُنَاكَ طَبْعٌ لَا اخْتِيَارَ فِيهِ لِأَحَدٍ فَلَا يَصْلُحُ لِإِيجَابِ الضَّمَانِ وَلَا لِقَطْعِ الْحُكْمِ عَنْ الشَّرْطِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَنْ اخْتَارَ هَذَا الْوَجْهَ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَى الشَّرْطِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِي الْمَسْأَلَةِ الْخِلَافِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فَإِنَّ الْعِلَّةَ فِيهَا وَهِيَ يَمِينُ الْمَوْلَى اخْتِيَارِيَّةٌ ثُمَّ لَمْ يَقْطَعْ ذَلِكَ إضَافَةُ الْحُكْمِ عَنْ شَاهِدَيْ الشَّرْطِ
؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ هُمَا فِي الصُّورَةِ شَاهِدُ الشَّرْطِ وَلَكِنَّهُمَا مُثْبِتَانِ عِلَّةَ الْعِتْقِ فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا أَنَّ الْمَوْلَى عَلَّقَ الْعِتْقَ بِشَرْطٍ مَوْجُودٍ وَالتَّعْلِيقُ بِشَرْطٍ مَوْجُودٍ يَكُونُ تَنْجِيزًا حَتَّى يَمْلِكَهُ الْوَكِيلُ بِالتَّنْجِيزِ فَكَأَنَّهُمَا شَهِدَا تَنْجِيزَ الْعِتْقِ فَضَمِنَا لِإِثْبَاتِهِمَا عِلَّةَ الْعِتْقِ فِي التَّحْقِيقِ وَإِنْ شَهِدَا بِالشَّرْطِ صُورَةً قَالَ أَبُو الْيُسْرِ رحمه الله إنَّهُمَا أَثْبَتَا وَزْنَ الْقَيْدِ وَوَزْنُهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلْعِتْقِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الشَّيْءِ مَا لَا يُوجَدُ إلَّا بِوُجُودِهِ وَيَكُونُ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ وَوَزْنُ الْقَيْدِ مَوْجُودٌ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا بَلْ هُوَ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ كَمَا بَيَّنَّا.
قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ) وَهُوَ أَنَّ الشَّرْطَ إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ مَا يَصْلُحُ عِلَّةً بِانْفِرَادِهِ صَلَحَ عِلَّةً وَأُضِيفَ الْحُكْمُ إلَيْهِ حَفْرُ الْبِئْرِ فَإِنَّهُ شَرْطُ التَّلَفِ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الثِّقَلَ عِلَّةُ السُّقُوطِ فِي الْبِئْرِ وَالْمَشْيَ سَبَبٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّهُ مُفْضٍ إلَيْهِ وَلَيْسَ بِعِلَّةٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ نَامَ فِي مَوْضِعٍ فَحُفِرَ تَحْتَهُ أَوْ نَامَ عَلَى سَقْفٍ فَقُطِعَ مَا حَوْلَهُ أَوْ كَانَ عَلَى غُصْنٍ فَقُطِعَ الْغُصْنُ يَحْصُلُ الْوُقُوعُ بِدُونِ الْمَشْيِ فَعُلِمَ أَنَّهُ سَبَبٌ وَلَيْسَ بِعِلَّةٍ
لَكِنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ مُمْسِكَةً مَانِعَةً عَمَلَ الثِّقَلِ الَّذِي هُوَ الْعِلَّةُ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ كَانَتْ مُسْكَةً وَهِيَ مَا يُتَمَسَّكُ بِهِ فَيَكُونُ حَفْرُ الْبِئْرِ إزَالَةً لِلْمَانِعِ وَإِيجَادُ الشَّرْطِ السُّقُوطَ كَدُخُولِ الدَّارِ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَحَفْرِ الْبِئْرِ شَقُّ الزِّقِّ الَّذِي فِيهِ مَائِعٌ شَرْطٌ لَلسَّيَلَانِ؛ لِأَنَّ الزِّقَّ كَانَ مَانِعًا لِمَا فِيهِ مِنْ السَّيَلَانِ فَكَانَ شَقُّهُ إزَالَةً لِلْمَانِعِ فَكَانَ شَرْطًا أَيْضًا وَكَذَلِكَ الْقِنْدِيلُ الْمُعَلَّقُ ثِقَلُهُ عِلَّةٌ لِلسُّقُوطِ وَقَطْعُ الْحَبْلِ إزَالَةُ الْمَانِعِ أَيْضًا فَكَانَ شَرْطًا أَيْضًا
وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُضَافَ الْحُكْمُ إلَى الْعِلَّةِ لَا إلَى الشَّرْطِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ لَكِنَّ الْعِلَّةَ لَيْسَتْ بِصَالِحَةٍ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ الثِّقَلَ طَبْعٌ ثَابِتٌ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَعَدِّي فِيهِ فَلَا يَصْلُحُ لِإِضَافَةِ
طَبْعٌ لَا تَعَدِّي فِيهِ وَالْمَشْيُ مُبَاحٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ فَلَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُجْعَلَ عِلَّةً بِوَاسِطَةِ الثِّقَلِ وَإِذَا لَمْ يُعَارِضْ الشَّرْطُ مَا هُوَ عِلَّةٌ وَالشَّرْطُ شُبِّهَ بِالْعِلَلِ لِمَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ الْوُجُودِ أُقِيمَ مَقَامَ الْعِلَّةِ فِي ضَمَانِ النَّفْسِ وَالْأَمْوَالِ جَمِيعًا
ــ
[كشف الأسرار]
ضَمَانِ الْعُدْوَانِ إلَيْهِ وَلَيْسَ بِأَمْرٍ اخْتِيَارِيٍّ أَيْضًا كَطَيَرَانِ الطَّيْرِ فِي فَتْحِ بَابِ الْقَفَصِ لِيَنْقَطِعَ بِهِ نِسْبَةُ الْحُكْمِ إلَى غَيْرِهِ وَالْمَشْيُ مُبَاحٌ بِلَا شُبْهَةٍ.
يَعْنِي كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُضَافَ الْحُكْمُ إلَى الْمَشْيِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ بَعْدَ تَعَذُّرِ إضَافَتِهِ إلَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْعِلَّةِ مِنْ الشَّرْطِ إلَّا أَنَّ الْمَشْيَ مُبَاحٌ بِلَا شُبْهَةٍ فَلَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُجْعَلَ عِلَّةً بِوَاسِطَةِ النَّقْلِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ ضَمَانُ جِنَايَةٍ وَضَمَانُ الْجِنَايَةِ لَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ بِدُونِ الْجِنَايَةِ فَتَعَذَّرَ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ أَيْضًا حَتَّى لَوْ وُجِدَ صِفَةُ التَّعَدِّي فِيهِ بِأَنْ تَعَمَّدَ الْمُرُورَ عَلَى الْبِئْرِ فَوَقَعَ فِيهَا وَهَلَكَ يُنْسَبُ التَّلَفُ إلَيْهِ دُونَ الْحَافِرِ وَصَارَ كَأَنَّهُ أَتْلَفَ نَفْسَهُ وَكَذَلِكَ ثِقَلُ الْقِنْدِيلِ وَسَيَلَانُ الْمَائِعِ أَمْرَانِ طَبِيعِيَّانِ ثَابِتَانِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَصْلُحُ إضَافَةُ الضَّمَانِ إلَيْهِمَا لِمَا ذَكَرْنَا فَيُقَامُ الشَّرْطُ الْمَوْصُوفُ بِالتَّعَدِّي وَهُوَ حَفْرُ الْبِئْرِ فِي الطَّرِيقِ وَشَقُّ الزِّقِّ وَقَطْعُ الْحَبْلِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ مَقَامَ الْعِلَّةِ فِي إضَافَةِ الضَّمَانِ إلَيْهِ خَلْفًا عَنْ الْعِلَّةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْإِضَافَةِ إلَيْهَا لِشَبَهِهِ بِالْعِلَّةِ مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُ الْوُجُودِ بِهِ وَشَبَهُ الْعِلَّةِ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا غَيْرُ مُوجِبَةٍ بِذَاتِهَا إلَى آخِرِ مَا قَرَّرَنَا.
وَقَوْلُهُ: أُقِيمَ مَقَامَ الْعِلَّةِ فِي ضَمَانِ النَّفْسِ يَعْنِي فِيمَا إذَا تَلِفَ فِي الْبِئْرِ إنْسَانٌ وَالْأَمْوَالُ يَعْنِي فِيمَا إذَا وَقَعَ فِيهَا شَيْءٌ آخَرُ وَفِي شَقِّ الزِّقِّ وَقَطْعِ الْحَبْلِ وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ قَوْلَهُ وَالْمَشْيُ مُبَاحٌ احْتِرَازٌ عَنْ الْمَشْيِ الْمَوْصُوفِ بِالتَّعَدِّي كَمَا إذَا حَفَرَ بِئْرًا فِي أَرْضِ نَفْسِهِ فَعَطِبَ فِيهَا إنْسَانٌ فَإِنَّ التَّلَفَ يُضَافُ إلَى الْمَشْيِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لَا إلَى الْحَفْرِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ حَتَّى لَا يَجِبَ الضَّمَانُ عَلَى الْحَافِرِ؛ لِأَنَّ الْمَشْيَ لَيْسَ بِمُبَاحٍ بَلْ هُوَ مَوْصُوفٌ بِالتَّعَدِّي فَيَصْلُحُ عِلَّةً فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِوَاسِطَةِ الثِّقَلِ.
قُلْت وَهَذَا لَا يَصْلُحُ احْتِرَازًا عَنْهُ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الْحُكْمِ إلَى الْمَشْيِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَيْسَتْ بِاعْتِبَارِ وُجُودِ صِفَةِ التَّعَدِّي فِيهِ بَلْ بِاعْتِبَارِ زَوَالِ صِفَةِ التَّعَدِّي عَنْ الْحَفْرِ وَعَدَمِ صَلَاحِيَتِهِ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ صِفَةَ التَّعَدِّي لَوْ لَمْ تَثْبُتْ فِي الْمَشْيِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِأَنْ كَانَ مَأْذُونًا بِالْمُرُورِ وَالدُّخُولِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَانَ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَيْهِ أَيْضًا إلَى الْحَفْرِ حَتَّى كَانَ دَمُهُ هَدَرًا كَمَا إذَا كَانَ الْمَشْيُ مَوْصُوفًا بِالتَّعَدِّي وَإِنَّمَا يَصْلُحُ احْتِرَازًا عَنْ الْمَشْيِ الْمَوْصُوفِ بِالتَّعَدِّي إذَا وُجِدَ صِفَةُ التَّعَدِّي فِي الْحَفْرِ أَيْضًا وَمَعَ ذَلِكَ يُضَافُ إلَى الْمَشْيِ كَمَا إذَا حَفَرَ بِئْرًا فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَمَشَى فِيهَا إنْسَانٌ لِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ وَوَقَعَ فِي الْبِئْرِ وَهَلَكَ فَهَاهُنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْحَفْرِ وَالْمَشْيِ مَوْصُوفٌ بِالتَّعَدِّي فَلَوْ كَانَ التَّلَفُ مُضَافًا إلَى الْمَشْيِ دُونَ الْحَفْرِ حَتَّى كَانَ دَمُهُ هَدَرًا وَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْحَافِرِ ضَمَانٌ لَصَلَحَ قَوْلُهُ وَالْمَشْيُ مُبَاحٌ احْتِرَازًا عَنْهُ لَكِنْ لَوْ كَانَ التَّلَفُ مُضَافًا إلَى الْحَفْرِ وَوَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الْحَافِرِ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ وَالْمَشْيُ مُبَاحٌ احْتِرَازًا عَنْ الْمَشْيِ الْمَوْصُوفِ بِالتَّعَدِّي وَمَا ظَفِرْت بِرِوَايَةٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَّا مَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَإِذَا احْتَفَرَ الرَّجُلُ بِئْرًا فِي دَارٍ لَا يَمْلِكُهَا بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِهَا فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا وَقَعَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالْحَفْرِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ كَمَا هُوَ مُتَعَدٍّ بِالْحَفْرِ فِي الطَّرِيقِ فَإِطْلَاقُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْحَافِرِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَشْيُ تَعَدِّيًا أَوْ لَمْ يَكُنْ فَعَلَى هَذَا لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ وَالْمَشْيُ مُبَاحٌ احْتِرَازًا عَنْ شَيْءٍ بَلْ كَانَ زِيَادَةَ تَقْرِيرٍ وَبَيَانًا لِصَلَاحِيَةِ الشَّرْطِ لِلْعِلِّيَّةِ.
وَذُكِرَ فِي التَّهْذِيبِ وَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ أَوْ وَضَعَ حَجَرًا فَهَلَكَ بِهِ شَيْءٌ لِمَالِكِ الدَّارِ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْحَافِرِ وَلَوْ دَخَلَهُ رَجُلٌ فَهَلَكَ بِهِ نُظِرَ
وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ عَلَى حَافِرِ الْبِئْرِ كَفَّارَةٌ وَلَمْ يُحْرَمْ الْمِيرَاثَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُبَاشَرَةٍ فَلَا يَلْزَمُهُ جَزَاؤُهَا وَأَمَّا، وَضْعُ الْحَجَرِ، وَإِشْرَاعُ الْجَنَاحِ، وَالْحَائِطُ الْمَائِلُ بَعْدَ الْإِشْهَادِ فَمِنْ قِسْمِ الْأَسْبَابِ الَّتِي جُعِلَتْ عِلَلًا فِي الْحُكْمِ عَلَى مَا مَرَّ لَا مِنْ هَذَا الْقِسْمِ.
وَعَلَى هَذَا
ــ
[كشف الأسرار]
إنْ دَخَلَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْحَافِرِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا يَجِبُ لِتَعَدِّيهِ بِالْحَفْرِ وَالثَّانِي لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ الدَّاخِلَ مُتَعَدِّيًا بِالدُّخُولِ وَإِنْ دَخَلَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ فَإِنْ أَعْلَمَهُ الْمَالِكُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ وَإِنْ لَمْ يُعْلِمْهُ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْحَافِرِ فَعَلَى هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَالْمَشْيُ مُبَاحٌ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْخِلَافِ فَإِنَّ عِنْدَ إبَاحَةِ الْمَشْيِ مُتَقَرِّرٌ عَلَى الْحَافِرِ بِالِاتِّفَاقِ.
قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ الْحَفْرَ شَرْطٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَيْسَ بِمُبَاشَرَةٍ لِلْإِتْلَافِ لَا يَجِبُ عَلَى حَافِرِ الْبِئْرِ كَفَّارَةٌ وَلَمْ يُحْرَمْ مِنْ الْمِيرَاثِ بِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله تَجِبُ وَيُحْرَمُ؛ لِأَنَّ الْحَفْرَ لَمَّا جُعِلَ كَالْمُبَاشَرَةِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ يُجْعَلُ كَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْكَفَّارَةِ وَحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ وَنَحْنُ نَقُولُ هُمَا جَزَاءُ مُبَاشَرَةِ قَتْلٍ مَحْظُورٍ وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ إنَّمَا تَحْصُلُ بِاتِّصَالِ الْفِعْلِ بِالْمَقْتُولِ وَقَدْ عَدِمَ ذَلِكَ فِي الْحَفْرِ بَلْ الْمُتَّصِلُ بِهِ أَثَرُ مَا حَصَلَ بِفِعْلِهِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ بِهِ مُبَاشِرًا أَوْ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ قَاتِلًا بِالْحَفْرِ وَقَدْ يَكُونُ الْحَافِرُ مَيِّتًا عِنْدَ وُقُوعِ الْوَاقِعِ فِي الْبِئْرِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُبَاشَرَةً لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ جَزَاءُ الْمُبَاشَرَةِ مِنْ الْكَفَّارَةِ وَحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ.
وَأَمَّا وَضْعُ الْحَجَرِ فِي الطَّرِيقِ وَإِشْرَاعُ الْجَنَاحِ أَيْ إخْرَاجُهُ إلَى الشَّارِعِ وَالْحَائِطُ الْمَائِلُ إلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الْإِشْهَادِ أَيْ بَعْدَ التَّقَدُّمِ إلَى صَاحِبِهِ فِي الْهَدْمِ وَالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ فَمِنْ قِسْمِ الْأَسْبَابِ الَّتِي جُعِلَتْ عِلَلًا فِي الْحُكْمِ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ الْحَفْرِ فِي الْحُكْمِ حَتَّى وَجَبَ بِهَا ضَمَانُ النَّفْسِ وَالْمَالِ وَلَا يَجِبُ بِهَا كَفَّارَةٌ وَلَا يُحْرَمُ بِهَا مِنْ الْمِيرَاثِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي الْعُقُوبَاتِ الْقَاصِرَةِ لَا مِنْ هَذَا الْقِسْمِ أَيْ مِنْ الشَّرْطِ الَّذِي لَهُ حُكْمُ الْعِلَلِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ إزَالَةً لِلْمَانِعِ بَلْ هِيَ طُرُقٌ مُفْضِيَةٌ إلَى التَّلَفِ فَكَانَتْ أَسْبَابًا أَخَذَتْ حُكْمَ الْعِلَلِ بِخِلَافِ الْحَفْرِ فَإِنَّهُ إزَالَةٌ لِلْمَانِعِ فَكَانَ شَرْطًا لَهُ حُكْمُ الْعِلَلِ
وَالْإِشْهَادُ فِي الْحَائِطِ الْمَائِلِ لَيْسَ بِلَازِمٍ لِصَيْرُورَتِهِ فِي حُكْمِ الْعِلَّةِ بَلْ الشَّرْطُ هُوَ التَّقَدُّمُ إلَى صَاحِبِهِ فِي الْهَدْمِ وَالْإِشْهَادُ لِلِاحْتِيَاطِ حَتَّى إذَا جَحَدَ صَاحِبُ الْحَائِطِ التَّقَدُّمَ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ أَمْكَنَ إثْبَاتُهُ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ بِمَنْزِلَةِ الشَّفِيعِ فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي حَقِّهِ طَلَبُ الشُّفْعَةِ وَلَكِنْ يُؤْمَرُ بِالْإِشْهَادِ عَلَى ذَلِكَ احْتِيَاطًا.
قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ) وَهُوَ أَنَّ الشَّرْطَ يُقَامُ مَقَامَ الْعِلَّةِ فِي إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ إضَافَتِهِ إلَى الْعِلَّةِ قُلْنَا فِي الْغَاصِبِ إذَا بَذَرَ حِنْطَةَ غَيْرِهِ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى الْغَيْرِ الْأَوَّلِ أَيْ فِي أَرْضِ غَيْرِ صَاحِبِ الْحِنْطَةِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إلَى الْغَاصِبِ كَالضَّمِيرِ الْأَوَّلِ أَنَّ الزَّرْعَ لِلْغَاصِبِ عِنْدَنَا وَعَلَيْهِ ضَمَانُ الْحِنْطَةِ وَلَا سَبِيلَ لِلْمَالِكِ عَلَى الزَّرْعِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله الزَّرْعُ لِمَالِكِ الْحِنْطَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَ بِغَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ بِأَنْ هَبَّتْ الرِّيحُ بِالْحِنْطَةِ وَأَلْقَتْهَا فِي أَرْضٍ فَنَبَتَتْ؛ كَانَ الْخَارِجُ لِصَاحِبِ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ فَرْعُ أَصْلِهِ كَوَلَدِ الْجَارِيَةِ وَثَمَرِ الشَّجَرَةِ فَكَذَلِكَ إذَا حَصَلَ بِصُنْعِ صَانِعٍ؛ لِأَنَّ التَّوَلُّدَ مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ لَا مِنْ الصُّنْعِ فَإِنَّ الصُّنْعَ حَرَكَاتٌ لَا يَتَوَلَّدُ مِنْهَا أَجْسَامٌ وَصَارَ كَمَا لَوْ أَصْلَحَ أَشْجَارَ رَجُلٍ وَسَقَاهَا حَتَّى أَثْمَرَتْ وَنَحْنُ نَقُولُ الزَّرْعُ غَيْرُ الْحِنْطَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَأَنَّهُ أَمْرٌ حَادِثٌ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بِأَصْلِ الْحِنْطَةِ أَوْ بِقُوَّةِ الْأَرْضِ وَالْهَوَاءِ وَالْمَاءِ أَوْ بِعَمَلِ الزَّارِعِ.
وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ لَا تَكُونُ عِلَّةً لِبَقَائِهَا كَذَلِكَ حِنْطَةً فَكَيْفَ تَكُونُ عِلَّةً لِلْهَلَاكِ وَصَيْرُورَتُهَا شَيْئًا آخَرَ وَقُوَّةُ الْأَرْضِ وَالْهَوَاءِ وَالْمَاءِ وَإِنْ صَلَحَتْ عِلَّةً لِحُدُوثِ الزَّرْعِ لِكَوْنِهَا مُؤَثِّرَةً
قُلْنَا فِي الْغَاصِبِ إذَا بَذَرَ حِنْطَةَ غَيْرِهِ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ أَنَّ الزَّرْعَ لِلْغَاصِبِ وَإِنْ كَانَ التَّغَيُّرُ بِطَبْعِ الْأَرْضِ وَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ
وَأَمَّا الْإِلْقَاءُ فَشَرْطٌ لَكِنَّ الْعِلَّةَ لَمَّا كَانَ مَعْنًى مُسَخَّرًا لَا اخْتِيَارَ لَهُ لَمْ يَصْلُحْ عِلَّةً مَعَ وُجُودِ فِعْلٍ عَنْ اخْتِيَارٍ وَإِنْ كَانَ شَرْطًا فَجُعِلَ لِلشَّرْطِ حُكْمُ الْعِلَلِ. .
وَأَمَّا الشَّرْطُ الَّذِي لَهُ حُكْمُ الْأَسْبَابِ فَإِنْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ فِعْلٌ مُخْتَارٌ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إلَيْهِ وَأَنْ يَكُونَ سَابِقًا عَلَيْهِ وَذَلِكَ مِثْلُ رَجُلٍ حَلَّ قَيْدَ عَبْدٍ حَتَّى أَبَقَ لَمْ يَضْمَنْ قِيمَتَهُ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْإِبَاقِ هُوَ الْقَيْدُ فَكَانَ حَلُّهُ إزَالَةً لِلْمَانِعِ فَكَانَ شَرْطًا فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا سَبَقَ الْإِبَاقُ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ التَّلَفِ نَزَلَ مَنْزِلَةَ الْأَسْبَابِ فَالسَّبَبُ مِمَّا يَتَقَدَّمُ
ــ
[كشف الأسرار]
فِيهِ لَكِنَّهَا بِتَسْخِيرِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِتَقْدِيرِهِ بِدُونِ اخْتِيَارٍ لَهَا فِي ذَلِكَ فَلَا يُضَافُ الْإِتْلَافُ وَالْحُدُوثُ إلَيْهَا فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ كَمَا لَا يُضَافُ التَّلَفُ إلَى الثِّقَلِ فِي مَسْأَلَةِ الْحَفْرِ يَبْقَى عَمَلُ الزَّارِعِ وَهُوَ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي الْبَذْرِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْبَذْرِ وَالزَّارِعُ بِعَمَلِهِ يَجْمَعُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحُكْمَ يُضَافُ إلَى الشَّرْطِ عِنْدَ تَعَذُّرِ إضَافَتِهِ إلَى الْعِلَّةِ فَيُضَافُ إلَى الشَّرْطِ وَهُوَ صَالِحٌ لِلْإِضَافَةِ إلَيْهِ خَلَفًا عَنْ الْعِلَّةِ لِكَوْنِهِ فِعْلًا اخْتِيَارِيًّا دَاخِلًا تَحْتَ التَّكْلِيفِ فَيُمْكِنُ بِنَاءُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَيْهِ.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُضَافٌ إلَى عَمَلِ الزَّارِعِ كَانَ هُوَ مُكْتَسِبًا الزَّرْعَ وَالْكَسْبُ مِلْكٌ لِلْمُكْتَسِبِ وَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا اسْتَهْلَكَهُ بِعَمَلِهِ وَقَوْلُهُ إذَا بَذَرَ حِنْطَةَ غَيْرِهِ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ يُوهِمُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَوْ زَرَعَهَا فِي أَرْضِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ يَكُونُ الزَّرْعُ لَهُ لَكِنْ إطْلَاقُ عِبَارَةِ الْمَبْسُوطِ وَالْأَسْرَارِ وَأُصُولِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ حَيْثُ قِيلَ فِيهَا وَإِنْ غَصَبَ حِنْطَةً فَزَرَعَهَا مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْكُلِّ سَوَاءٌ وَكَذَا الدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَا لَا يَفْصِلُ بَيْنَ أَرْضٍ وَأَرْضٍ أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَهُ الْحِنْطَةَ الْمَغْصُوبَةَ وَإِنْ زَرَعَهَا فِي أَرْضِ مَالِكِهَا؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَهْلِكًا لَهَا بِالزِّرَاعَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَتَمَلَّكُهَا بِالِاسْتِهْلَاكِ وَصَارَ كَأَنَّهُ زَرَعَ حِنْطَةَ نَفْسِهِ فِي أَرْضِ الْغَيْرِ
وَقَوْلُهُ مَعَ وُجُودِ فِعْلٍ عَنْ اخْتِيَارٍ احْتِرَازًا عَنْ سُقُوطِ الْحَبِّ فِي الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ بِأَنْ هَبَّتْ بِهِ الرِّيحُ حَيْثُ يَكُونُ الزَّرْعُ لِصَاحِبِ الْحِنْطَةِ دُونَ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ سُقُوطَهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ لَكِنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلْخِلَافَةِ عَنْ الْعِلَّةِ فَلَا يُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ وَلَكِنْ يُجْعَلُ مَحَلَّ حُصُولِ الزَّرْعِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ وَهُوَ الْحِنْطَةُ إذْ الْمُحَالُ شُرُوطٌ خَلَفًا عَنْ الْعِلَّةِ فَيَكُونُ الْخَارِجُ لِصَاحِبِ الْحِنْطَةِ لِكَوْنِهَا مَحَلًّا لِلْخَارِجِ فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ تَغَيُّرَ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِفِعْلِهِ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ وَالْمِلْكِ وَهَاهُنَا لَمْ يُوجَدْ لَكِنْ وُجِدَ شَرْطُ التَّغَيُّرِ بِفِعْلِهِ وَهُوَ الْإِلْقَاءُ فِي الْأَرْضِ فَأُقِيمَ مَقَامَهُ.
قَوْلُهُ (وَأَمَّا الشَّرْطُ الَّذِي لَهُ حُكْمُ الْأَسْبَابِ) وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ فَإِنْ يَعْتَرِضْ أَيْ فَهُوَ الشَّرْطُ الَّذِي يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ فِعْلُ مُخْتَارٍ وَاحْتَرَزَ بِهِ عَنْ الْفِعْلِ الطَّبِيعِيِّ كَسَيَلَانِ الْمَائِعِ وَسُقُوطِ الْقِنْدِيلِ فِي مَسْأَلَتَيْ شَقِّ الزِّقِّ وَقَطْعِ الْحَبْلِ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إلَيْهِ أَيْ إلَى الشَّرْطِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مَنْسُوبًا إلَى الشَّرْطِ كَانَ ذَلِكَ الشَّرْطُ فِي حُكْمِ الْعِلَلِ كَمَا فِي فَتْحِ بَابِ الْقَفَصِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رحمه الله فَإِنَّ فِعْلَ الطَّيَرَانِ وَإِنْ حَصَلَ عَنْ اخْتِيَارٍ فَهُوَ مَنْسُوبٌ إلَى الْفَتْحِ عِنْدَهُ كَسَيْرِ الدَّابَّةِ فِي مَسْأَلَةِ السَّوْقِ مَنْسُوبٌ إلَى السَّائِقِ وَإِنْ حَصَلَ عَنْ اخْتِيَارٍ.
وَأَنْ يَكُونَ أَيْ الشَّرْطُ سَابِقًا أَيْ عَلَى الْفِعْلِ الْمُعْتَرِضِ وَاحْتَرَزَ بِهِ عَنْ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ بِدُخُولِ الدَّارِ مَثَلًا فَإِنَّهُ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إلَى الشَّرْطِ وَلَكِنَّ وُجُودَ الشَّرْطِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ صُورَةِ الْعِلَّةِ فَلِذَلِكَ كَانَ شَرْطًا مَحْضًا خَالِيًا عَنْ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ وَالْعِلِّيَّةِ وَذَلِكَ أَيْ الشَّرْطُ الْمَوْصُوفُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِثْلُ رَجُلٍ حَلَّ قَيْدَ عَبْدٍ أَيْ مِثْلُ حَلِّ قَيْدِ الْعَبْدِ فِي رَجُلٍ حَلَّ قَيْدَ عَبْدٍ حَتَّى أَبَقَ فَإِنَّ الْحَالَّ لَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الْعَبْدِ لِمَالِكِهِ بِاتِّفَاقٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ عِبَارَةُ الْأَسْرَارِ إلَّا أَنَّهُ احْتَرَزَ عَنْ فَتْحِ بَابِ الْقَفَصِ؛ لِأَنَّهَا نَظِيرَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَفِيهَا خِلَافٌ بَيْنَ أَصْحَابِنَا كَمَا سَتَقِفُ عَلَيْهِ وَهَذَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ عَاقِلًا فَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا فَالْحَالُّ ضَامِنٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ كَمَا فِي فَتْحِ بَابِ الْقَفَصِ فَالسَّبَبُ أَيْ فَالسَّبَبُ الْحَقِيقِيُّ مِمَّا يَتَقَدَّمُ
وَالشَّرْطُ مِمَّا يَتَأَخَّرُ ثُمَّ هُوَ سَبَبٌ مَحْضٌ لِأَنَّهُ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ مَا هُوَ عِلَّةٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا غَيْرُ حَادِثَةٍ بِالشَّرْطِ وَكَانَ هَذَا كَمَنْ أَرْسَلَ دَابَّةً فِي الطَّرِيقِ فَجَالَتْ ثُمَّ أَتْلَفَتْ شَيْئًا لَمْ يَضْمَنْهُ الْمُرْسِلُ إلَّا أَنَّ الْمُرْسِلَ صَاحِبَ سَبَبٍ فِي الْأَصْلِ وَهَذَا صَاحِبُ شَرْطٍ جُعِلَ مُسَبِّبًا
ــ
[كشف الأسرار]
عَلَى الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ مُفْضٍ إلَى الشَّيْءِ وَوَسِيلَةٌ إلَيْهِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَابِقًا عَلَيْهِ وَالشَّرْطُ مِمَّا يَتَأَخَّرُ أَيْ الشَّرْطُ الْحَقِيقِيُّ الْمَحْضُ يَتَأَخَّرُ وُجُودُهُ عَنْ وُجُودِ صُورَةِ الْعِلَّةِ وَإِنْ كَانَ يَتَقَدَّمُ عَلَى انْعِقَادِهَا عِلَّةً كَمَا فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ فَإِنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ أَنْتَ حُرٌّ هُوَ الَّذِي يَنْعَقِدُ عِلَّةً عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَوُجُودُهَا تَكَلُّمًا سَابِقٌ عَلَى وُجُودِ الشَّرْطِ.
وَلَا يُقَالُ: الشَّرْطُ كَمَا يَكُونُ مُتَأَخِّرًا عَنْ وُجُودِ صُورَةِ الْعِلَّةِ قَدْ يَكُونُ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ كَالْإِشْهَادِ فِي النِّكَاحِ فَإِنَّهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعِلَّةِ وَهِيَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ صُورَةً وَمَعْنًى؛ لِأَنَّا نَقُولُ نَحْنُ لَا نُنْكِرُ تَقَدُّمَ الشَّرْطِ عَلَى صُورَةِ الْعِلَّةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ إذَا تَقَدَّمَ لَمْ يَتَمَحَّضْ شَرْطًا بَلْ كَانَ شَرْطًا مُشَابَهًا بِالسَّبَبِ مِنْ حَيْثُ إنَّ تَقَدُّمَ وُجُودِهِ لَا يَخْلُو عَنْ مَعْنَى الْإِفْضَاءِ إلَى الْحُكْمِ بِوَاسِطَةِ وُجُودِ الْعِلَّةِ كَالسَّبَبِ الْحَقِيقِيِّ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِلَّةَ لَوْ وُجِدَتْ بَعْدَ وُجُودِهِ لَا يَتَوَقَّفُ انْعِقَادُهَا عَلَى شَيْءٍ فَكَانَ وُجُودُهُ سَابِقًا وَسِيلَةً إلَى حُصُولِ الْحُكْمِ بِوَاسِطَةِ الْعِلَّةِ فَثَبَتَ أَنَّ فِيهِ مَعْنَى السَّبَبِ بِخِلَافِ مَا إذَا تَأَخَّرَ وُجُودُهُ عَنْ صُورَةِ الْعِلَّةِ فَإِنَّ انْعِقَادَ الْعِلَّةِ بَعْدَ وُجُودِ صُورَتِهَا مُتَوَقِّفٌ عَلَيْهِ فَلِذَلِكَ تَمَحَّضَ شَرْطًا وَرَأَيْت فِي بَعْضِ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ لِأَصْحَابِنَا أَنَّ الشَّرْطَ إذَا عَارَضَهُ عِلَّةٌ لَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ ثُمَّ إنْ كَانَ سَابِقًا كَانَ فِي مَعْنَى السَّبَبِ وَإِنْ كَانَ مُقَارِنًا أَوْ مُتَرَاخِيًا كَانَ شَرْطًا مَحْضًا ثُمَّ هُوَ أَيْ حَلُّ الْقَيْدِ وَإِنْ شَابَهَ السَّبَبَ لِمَا قُلْنَا لَكِنَّهُ شَابَهَ السَّبَبَ الْخَالِصَ لَا السَّبَبَ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الْعِلَّةِ مَا كَانَتْ الْعِلَّةُ مُضَافَةً إلَى السَّبَبِ وَحَادِثَةً بِهِ كَقَوْدِ الدَّابَّةِ وَسَوْقِهَا وَهَاهُنَا مَا هُوَ الْعِلَّةُ وَهُوَ الْإِبَاقُ غَيْرُ حَادِثَةٍ بِالشَّرْطِ وَهُوَ حَلُّ الْقَيْدِ بَلْ هِيَ حَادِثَةٌ بِاخْتِيَارٍ صَحِيحٍ فَانْقَطَعَ بِهِ نِسْبَتُهُ عَنْ الشَّرْطِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ السَّبَبِ الْمَحْضِ فَكَانَ التَّلَفُ مُضَافًا إلَى مَا اعْتَرَضَ مِنْ الْعِلَّةِ دُونَ مَا سَبَقَ مِنْ الشَّرْطِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مَا إذَا أَمَرَ عَبْدَ الْغَيْرِ بِالْإِبَاقِ فَأَبَقَ حَيْثُ يَضْمَنُ الْآمِرُ وَإِنْ اعْتَرَضَ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ عَلَى الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِبَاقِ اسْتِعْمَالٌ لِلْعَبْدِ فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ الْإِبَاقُ يَصِيرُ غَاصِبًا لَهُ بِاسْتِعْمَالِهِ كَمَا إذَا اسْتَخْدَمَهُ فَخَدَمَ وَيَصِيرُ الْعَبْدُ إذَا عَمِلَ وَفْقَ اسْتِعْمَالِهِ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ الَّتِي لَا اخْتِيَارَ لَهَا فَيُضَافُ التَّلَفُ إلَى الْمُسْتَعْمِلِ فَأَمَّا حَلُّ الْقَيْدِ فَإِزَالَةٌ لِلْمَانِعِ فَلَا يُضَافُ إلَيْهِ عِنْدَ اعْتِرَاضِ فِعْلٍ مُخْتَارٍ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ (وَهَذَا) أَيْ حَلُّ الْقَيْدِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ كَإِرْسَالِ الدَّابَّةِ مِمَّنْ أَرْسَلَهَا فِي الطَّرِيقِ فَجَالَتْ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً عَنْ سَنَنِ الطَّرِيقِ ثُمَّ سَارَتْ أَوْ وَقَفَتْ ثُمَّ سَارَتْ فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ فَأَصَابَتْ شَيْئًا لَمْ يَضْمَنْهُ الْمُرْسِلُ؛ لِأَنَّ بِالْجَوَلَانِ وَالْوُقُوفِ قَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ إرْسَالِهِ ثُمَّ إنَّهَا أَنْشَأَتْ سَيْرًا بِاخْتِيَارِهَا فَكَانَتْ كَالْمُنْفَلِتَةِ إلَّا أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا طَرِيقٌ غَيْرُ الَّذِي أَخَذَتْ فِيهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ ضَامِنًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا سَيَّرَهَا فِي الطَّرِيقِ الَّذِي يُمْكِنُهَا أَنْ تَسِيرَ فِيهِ وَقَدْ سَارَتْ فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ فَكَانَ هُوَ سَائِقًا لَهَا كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ فَجَالَتْ عَمَّا إذَا أَرْسَلَ دَابَّةً فِي الطَّرِيقِ فَأَصَابَتْ فِي وَجْهِهَا شَيْئًا ضَمِنَ الْمُرْسِلُ كَمَا إذَا أَشَارَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ سَائِقٌ لَهَا مَا دَامَتْ تَسِيرُ عَلَى سُنَنِ إرْسَالِهِ إلَّا أَنَّ أَيْ: لَكِنْ الْمُرْسِلُ، وَكَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ كَيْفَ يَكُونُ حَلُّ الْقَيْدِ وَهُوَ شَرْطٌ كَإِرْسَالِ الدَّابَّةِ وَهُوَ سَبَبٌ فَقَالَ الْمُرْسِلُ صَاحِبُ سَبَبٍ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ لَيْسَ بِإِزَالَةِ الْمَانِعِ وَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِعْلٌ مِنْ مُخْتَارٍ وَهُوَ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إلَى السَّبَبِ حَيْثُ لَمْ يَذْهَبْ عَلَى سُنَنِ إرْسَالِهِ
وَإِذَا انْتَقَلَتْ الدَّابَّةُ فَأَتْلَفَتْ زَرْعًا بِالنَّهَارِ كَانَ هَدَرًا وَكَذَلِكَ بِاللَّيْلِ عِنْدَنَا لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّابَّةِ لَيْسَ بِصَاحِبِ شَرْطٍ وَلَا سَبَبٍ وَلَا عِلَّةٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِيمَنْ فَتَحَ بَابَ قَفَصٍ فَطَارَ الطَّيْرُ أَوْ بَابَ إصْطَبْلٍ فَخَرَجَتْ الدَّابَّةُ فَضَلَّتْ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ جَرَى مَجْرَى السَّبَبِ لِمَا قُلْنَا وَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِعْلُ مُخْتَارٍ فَبَقِيَ الْأَوَّلُ سَبَبًا خَالِصًا فَلَمْ يُجْعَلْ التَّلَفُ مُضَافًا إلَيْهِ بِخِلَافِ السُّقُوطِ فِي الْبِئْرِ لِأَنَّهُ لَا اخْتِيَارَ لَهُ فِي السُّقُوطِ حَتَّى إذَا أَسْقَطَ نَفْسَهُ فَدَمُهُ هَدَرٌ
كَمَنْ مَشَى عَلَى قَنْطَرَةٍ وَاهِيَةٍ وُضِعَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ فَخُسِفَ بِهِ أَوْ عَلَى مَوْضِعٍ رُشَّ الْمَاءُ عَلَيْهِ فَزَلَقَ فَعَطِبَ هُدِرَ دَمُهُ لِأَنَّ الْإِلْقَاءَ هُوَ الْعِلَّةُ وَقَدْ صَلَحَ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ
ــ
[كشف الأسرار]
وَهَذَا الَّذِي حَلَّ الْقَيْدَ صَاحِبُ شَرْطٍ؛ لِأَنَّ الْحَلَّ إزَالَةُ الْمَانِعِ عَنْ الْإِبَاقِ جُعِلَ مُسَبَّبًا بِاعْتِبَارِ تَقَدُّمِ الشَّرْطِ عَلَى الْعِلَّةِ وَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِعْلُ مُخْتَارٍ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إلَيْهِ فَكَانَا فِي انْقِطَاعِ الْحُكْمِ عَنْهُمَا وَإِضَافَتِهِ إلَى مَا اعْتَرَضَ مِنْ الْفِعْلِ سَوَاءٌ.
قَوْلُهُ (وَإِذَا انْفَلَتَتْ الدَّابَّةُ فَأَتْلَفَتْ زَرْعَهَا بِالنَّهَارِ كَانَ هَدَرًا) بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ وَكَذَلِكَ بِاللَّيْلِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ مَالِكَ الدَّابَّةِ لَيْسَ بِصَاحِبِ سَبَبٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلْ وَلَا شَرْطٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْتَحْ بَابَ الْإِصْطَبْلِ وَلَا عِلَّةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَاشِرْ الْإِتْلَافَ بِنَفْسِهِ فَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله يَضْمَنُ فِي الْإِتْلَافِ بِاللَّيْلِ لِحَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه «أَنَّ نَاقَةً لَهُ دَخَلَتْ زَرْعَ إنْسَانٍ فَأَفْسَدَتْهُ فَقَضَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِضَمَانِهِ وَقَالَ حِفْظُ الزُّرُوعِ عَلَى أَرْبَابِهَا نَهَارًا وَحِفْظُ الدَّوَابِّ عَلَى أَرْبَابِهَا لَيْلًا»
وَقُلْنَا هُوَ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ عليه السلام «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ» وَأَنَّهُ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ وَمُؤَوَّلٌ بِأَنَّ صَاحِبَهَا كَانَ يُرِيدُ أَخْذَهَا فَانْفَلَتَتْ بِقَصْدِهِ أَبَاهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّاقَةَ أَفْسَدَتْ الزَّرْعَ لَيْلًا وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ الْحِفْظَ عَلَى أَصْحَابِ الدَّوَابِّ لَيْلًا حَتَّى لَوْ تَرَكُوا أَتَمُّوا وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمْ يَضْمَنُونَ؛ لِأَنَّ فَسَادَ الزَّرْعِ لَمْ يَكُنْ بِتَرْكِ الْحِفْظِ بَلْ بِذَهَابِ الدَّابَّةِ وَهِيَ مُخْتَارَةٌ فِيهِ وَلَمْ يَتَوَلَّدْ ذَلِكَ مِنْ الْإِرْسَالِ فَكَانَ كَدَلَالَةِ السَّارِقِ عَلَى مَالِ إنْسَانٍ إلَيْهِ أُشِيرُ فِي الْأَسْرَارِ.
قَوْلُهُ (فِيمَنْ فَتَحَ بَابَ قَفَصٍ فَطَارَ الطَّيْرُ) يَعْنِي فِي فَوْرِ الْفَتْحِ إذَا الْخِلَافُ فِيهِ فَإِنَّهُ إذَا طَارَ بَعْدَ سَاعَةٍ لَا يَضْمَنُ الْفَاتِحُ بِلَا خِلَافٍ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ.
وَفِي ذِكْرِ الْفَاءِ إشَارَةٌ إلَيْهِ وَكَذَا فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا أَيْ فَتْحَ بَابِ الْقَفَصِ وَالْإِصْطَبْلِ شَرْطٌ؛ لِأَنَّ إزَالَةُ الْمَانِعِ مِنْ الْخُرُوجِ وَالطَّيَرَانِ جَرَى مَجْرَى السَّبَبِ لِمَا قُلْنَا أَنَّ الشَّرْطَ إذَا تَقَدَّمَ كَانَ لَهُ حُكْمُ السَّبَبِ وَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فِعْلُ مُخْتَارٍ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إلَى هَذَا الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ الَّذِي بِهِ تَلَفُ الطَّيْرِ وَالدَّابَّةِ لَمْ يَحْصُلْ بِالْفَتْحِ بَلْ بِاخْتِيَارِهِمَا الطَّيَرَانَ وَالْخُرُوجَ فَبَقِيَ الْأَوَّلُ وَهُوَ فَتْحُ الْبَابِ سَبَبًا خَالِصًا أَيْ شَرْطًا فِي مَعْنَى السَّبَبِ الْخَالِصِ فَلَمْ يُجْعَلْ التَّلَفُ مُضَافًا إلَى الْفَتْحِ بَلْ قُصِرَ عَلَى الْخُرُوجِ كَمَا قُصِرَ عَلَى الْإِبَاقِ فِي مَسْأَلَةِ حَلِّ الْقَيْدِ بِخِلَافِ السُّقُوطِ فِي الْبِئْرِ حَيْثُ يُضَافُ التَّلَفُ فِيهِ إلَى الشَّرْطِ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ مَا اعْتَرَضَ عَلَى الشَّرْطِ مِنْ السُّقُوطِ هُنَاكَ حَصَلَ لَا عَنْ اخْتِيَارٍ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِعُمْقِ ذَلِكَ الْمَكَانِ فَلَمْ يَصْلُحْ لِقَطْعِ الْحُكْمِ عَنْ الشَّرْطِ وَإِضَافَتِهِ إلَيْهِ حَتَّى إذَا أَسْقَطَ نَفْسَهُ فِي الْبِئْرِ هَدَرَ دَمُهُ وَلَمْ يَضْمَنْ الْحَافِرُ؛ لِأَنَّ مَا اعْتَرَضَ عَلَى الشَّرْطِ وَهُوَ الْإِلْقَاءُ فِي الْبِئْرِ عِلَّةٌ صَالِحَةٌ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ لِصُدُورِهِ مِنْ مُخْتَارٍ عَلَى وَجْهِ الْقَصْدِ إلَيْهِ فَانْقَطَعَ بِهِ نِسْبَةُ الْحُكْمِ عَنْ الشَّرْطِ وَاقْتَصَرَ عَلَى الْعِلَّةِ وَبِخِلَافِ سَوْقِ الدَّابَّةِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ؛ لِأَنَّ السَّوْقَ مَعْنًى حَامِلٌ عَلَى الذَّهَابِ كَرْهًا فَيَنْتَقِلُ إلَى الْمُكْرَهِ وَالْفَتْحُ رَفْعٌ لِلْمَانِعِ وَلَيْسَ بِحَمْلٍ عَلَى الْخُرُوجِ وَكَذَا إذَا أَرْسَلَ كَلْبًا عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَهُ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ فَعَلَ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ سَبَبٌ حَامِلٌ عَلَى الذَّهَابِ بَعْدَ التَّعْلِيمِ كَالسَّوْقِ قَبْلَ ذَلِكَ فَأَمَّا فَتْحُ الْبَابِ فَلَا.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ فَتَحَ بَابَ الْكَلْبِ حَتَّى خَرَجَ فَصَادَ لَمْ يَحِلَّ وَلَمْ يَمْلِكْ بِخِلَافِ الْإِرْسَالِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ كَمَنْ مَشَى عَلَى قَنْطَرَةٍ وَهِيَ مَا يُبْنَى عَلَى الْمَاءِ لِلْعُبُورِ وَالْجِسْرُ عَامٌّ مَبْنِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَبْنِيٍّ وُضِعَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ بِأَنْ وُضِعَتْ فِي
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله طَيَرَانُ الطَّيْرِ هَدَرٌ شَرْعًا وَكَذَلِكَ فِعْلُ كُلِّ بَهِيمَةٍ فَيُجْعَلُ كَالْخَارِجِ بِلَا اخْتِيَارٍ وَصَارَ كَسَيَلَانِ مَا فِي الزِّقِّ فَإِنْ خَرَجَ عَلَى فَوْرِ الْفَتْحِ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى صَاحِبِ الشَّرْطِ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ فِعْلَ الْبَهِيمَةِ لَا تُعْتَبَرُ لِإِيجَابِ حُكْمٍ مَا فَأَمَّا لِقَطْعِهِ فَنَعَمْ كَالْكَلْبِ تَمِيلُ عَنْ سُنَنِ الْإِرْسَالِ وَكَالدَّابَّةِ تَجُولُ بَعْدَ الْإِرْسَالِ فَكَذَلِكَ هَذَا.
وَلِهَذَا قُلْنَا فِيمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْوَلِيُّ وَالْحَافِرُ فَقَالَ الْوَلِيُّ سَقَطَ وَقَالَ الْآخَرُ أَسْقَطَ نَفْسَهُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْحَافِرِ اسْتِحْسَانًا لِمَا قُلْنَا إنَّ الْحَفْرَ شَرْطٌ جُعِلَ خَلَفًا عَنْ الْعِلَّةِ لِتَعَذُّرِ نِسْبَةِ الْحُكْمِ إلَى الْعِلَّةِ فَإِذَا ادَّعَى صَاحِبُ الشَّرْطِ أَنَّ الْعِلَّةَ صَالِحَةٌ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا فَقَدْ تَمَسَّكَ بِالْأَصْلِ وَجَحَدَ حُكْمًا ضَرُورِيًّا فَجَعَلْنَا الْقَوْلَ قَوْلَهُ بِخِلَافِ الْجَارِحِ إذَا ادَّعَى الْمَوْتَ بِسَبَبٍ آخَرَ لَمْ يُصَدَّقْ لِأَنَّهُ صَاحِبُ عِلَّةٍ
ــ
[كشف الأسرار]
غَيْرِ مِلْكٍ وَفِيمَا لَا تَصَرُّفَ لِوَاضِعِهَا فِيهِ وَاحْتَرَزَ بِهِ عَنْ الْمَوْضُوعَةِ فِي الْمِلْكِ فَإِنَّهَا لَا تَصْلُحُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ وَاضِعَهَا لَيْسَ بِمُتَعَدٍّ فِيمَا أَحْدَثَهُ فِي مِلْكِهِ وَالْمُسَبِّبُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا لَا يَكُونُ ضَامِنًا.
وَقَوْلُهُ عَالِمًا بِهِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَسْأَلَتَيْنِ أَيْ عَالِمًا بِوَهَاءِ الْقَنْطَرَةِ وَوَضَعَهَا بِغَيْرِ حَقٍّ وَعَالِمًا بِالرَّشِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنْ مَشَى عَلَى جِسْرِهِ إنْسَانٌ مُتَعَمِّدًا لِذَلِكَ فَانْخَسَفَ بِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَاشِيَ تَعَمَّدَ الْمَشْيَ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ وُقُوعُهُ مُضَافًا إلَى فِعْلِهِ لَا إلَى تَسَبُّبِ مَنْ اتَّخَذَ الْجِسْرَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا يَضْمَنُ وَاضِعُ الْجِسْرِ لِكَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا فِي التَّسْبِيبِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّ وَاضِعَ الْجِسْرِ لَا يَكُونُ ضَامِنًا لِمَا عَطِبَ بِهِ وَإِنْ أَحْدَثَهُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ إذَا كَانَ بِحَيْثُ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَسِبٌ فِيمَا صَنَعَ فَإِنَّ النَّاسَ يَنْتَفِعُونَ بِمَا أَحْدَثَهُ فَلَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا.
وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّمَا كَانَ مُحْتَسِبًا إذَا فَعَلَهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ بِمَنْزِلَةِ حَفْرِ الْبِئْرِ فَإِنَّهُ مُحْتَسِبٌ أَيْضًا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُحْتَاجُ إلَيْهِ وَمَعَ ذَلِكَ إذَا فَعَلَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ كَانَ ضَامِنًا لِمَا يَعْطَبُ بِهَا وَقَوْلُهُ لِأَنَّ الْإِلْقَاءَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ هَدَرَ دَمُهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا كَانَ الطَّيَرَانُ وَالْخُرُوجُ فِي فَوْرِ الْفَتْحِ يَضْمَنُ الْفَاتِحُ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الدَّابَّةِ وَالطَّيْرِ هَدَرٌ شَرْعًا فَلَمْ يَصْلُحْ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ فَكَانَ مُضَافًا إلَى الشَّرْطِ وَلِأَنَّ الدَّابَّةَ أَوْ الطَّيْرَ لَا يَصْبِرُ عَنْ الْخُرُوجِ وَالطَّيَرَانِ عَادَةً وَالْعَادَةُ إذَا تَأَكَّدَتْ صَارَتْ طَبِيعَةً لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا فَإِذَا خَرَجَ عَلَى الْفَوْرِ وَاسْتَعْمَلَ عَادَتَهُ كَانَ الْخُرُوجُ عَلَى الْعَادَةِ بِمَنْزِلَةِ سَيَلَانِ الدُّهْنِ عِنْدَ شَقِّ الزِّقِّ فَيَكُونُ الْفَتْحُ سَبَبَ ضَمَانٍ كَالشَّقِّ وَلَمْ يُبْطِلْ الْإِضَافَةَ إلَيْهِ بِاخْتِيَارِ الطَّيْرِ وَالدَّابَّةِ فِي الطَّيَرَانِ وَالْخُرُوجِ؛ لِأَنَّهُ اخْتِيَارٌ فَاسِدٌ كَمَا إذَا صَاحَ بِالدَّابَّةِ فَذَهَبَتْ صَارَ ضَامِنًا وَإِنْ ذَهَبَتْ مُخْتَارَةً؛ لِأَنَّهُ اخْتِيَارٌ فَاسِدٌ وَالصِّيَاحُ وَالصَّوْتُ سَائِقٌ فَأَشْبَهَ الْقَوْدَ جَبْرًا وَكَمَا لَوْ أَلْقَى حَيَّةً عَلَى إنْسَانٍ فَلَسَعَتْهُ يَجِبُ الضَّمَانُ وَإِنْ كَانَتْ الْحَيَّةُ فِي اللَّسْعِ مُخْتَارَةً؛ لِأَنَّ اللَّسْعَ لَهَا عَادَةٌ مُتَأَكِّدَةٌ فَالْتَحَقَتْ بِالطَّبِيعَةِ وَسَقَطَ اخْتِيَارُهَا وَإِذَا لَمْ يَخْرُجْ فِي فَوْرِ الْفَتْحِ لَا يَضْمَنُ الْفَاتِحُ؛ لِأَنَّ الدَّابَّةَ إذَا لَمْ تَخْرُجْ فِي فَوْرِ الْفَتْحِ عُلِمَ أَنَّهَا تَرَكَتْ عَادَتَهَا وَكَانَ الْخُرُوجُ بَعْدَ ذَلِكَ بِحُكْمِ الِاخْتِيَارِ فَأَشْبَهَ حَلَّ قَيْدِ الْعَبْدِ وَالْجَوَابُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَإِمَّا يَذْكُرُ وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يُضَافَ الْحُكْمُ إلَى الْعِلَّةِ لَا إلَى الشَّرْطِ وَالسَّبَبِ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ هَذَا الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَيْسَ هَذَا كَالسَّوْقِ؛ لِأَنَّ السَّوْقَ حَمْلٌ عَلَى الذَّهَابِ كَرْهًا كَمَا بَيَّنَّا فَيَنْتَقِلُ الْفِعْلُ إلَى الْمُكْرِهِ وَلَا كَإِلْقَاءِ الْحَيَّةِ؛ لِأَنَّهُ مُبَاشَرَةُ الْإِتْلَافِ إذْ الْإِلْقَاءُ عَلَيْهِ تَصَرُّفٌ فِيهِ بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا.
وَنَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا فَتْحُ جُحْرِ الْحَيَّةِ حَتَّى لَوْ فَتَحَ جُحْرَ الْحَيَّةِ فَخَرَجَتْ وَلَسَعَتْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ أَيْضًا كَالْكَلْبِ يَمِيلُ عَنْ سَنَنِ الْإِرْسَالِ يَعْنِي إذَا أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَى صَيْدٍ فَمَالَ عَنْ سُنَنِهِ ثُمَّ اتَّبَعَهُ فَأَخَذَهُ لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي حَقِّ إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ وَلَكِنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّ مَنْعِ الْإِضَافَةِ عَنْ الْمُرْسِلِ وَنَظِيرُهُ مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَجَاءَ حَرْبِيٌّ لَا أَمَانَ لَهُ وَأَلْقَى فِيهِ غَيْرَهُ لَمْ يَضْمَنْ الْحَافِرُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْحَرْبِيِّ إنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ فِي نَسْخِ حُكْمِ فِعْلِ الْحَافِرِ بِهِ فَكَذَلِكَ هَذَا أَيْ فَكَمَيْلِ الْكَلْبِ عَنْ سُنَنِ الْإِرْسَالِ وَجَوَلَانِ الدَّابَّةِ بَعْدَ الْإِرْسَالِ طَيَرَانُ الطَّيْرِ وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ بَعْدَ الْفَتْحِ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ رحمه الله فِي بَيَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ قِيَاسٌ
وَلِهَذَا قُلْنَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِيمَنْ أَشْلَى كَلْبًا عَلَى صَيْدٍ مَمْلُوكٍ فَقَتَلَهُ أَوْ عَلَى نَفْسٍ فَقَتَلَهَا أَوْ مَزَّقَ ثِيَابَ رَجُلٍ لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّهُ صَاحِبُ سَبَبٍ وَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِعْلُ مُخْتَارٍ غَيْرُ مُضَافٍ إلَيْهِ لِأَنَّ الْكَلْبَ يَعْمَلُ بِطَبْعِهِ وَلَيْسَ الَّذِي أَشْلَاهُ بِسَائِقٍ بِخِلَافِ مَا إذَا أَشْلَى عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَهُ أَنَّ صَاحِبَهُ جُعِلَ كَأَنَّهُ ذَبَحَهُ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ الِاصْطِيَادَ مِنْ الْمَكَاسِبِ فِي الْجُمْلَةِ فَبُنِيَ عَلَى نَفْيِ الْحَرَجِ وَقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَوَجَبَ الْمَصِيرُ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ إلَى مَحْضِ الْقِيَاسِ
ــ
[كشف الأسرار]
وَمَا ذَكَرَهُ الْخَصْمُ قَرِيبٌ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ فَقَدْ أَلْحَقَ الْعَادَةَ وَإِنْ كَانَ عَنْ اخْتِيَارٍ بِالطَّبْعِيَّةِ الَّتِي لَا اخْتِيَارَ فِيهَا صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ وَإِهْدَارًا لِاخْتِيَارِ مَا لَا عَقْلَ لَهُ حُكْمًا فَإِنَّهُ جُبَارٌ لَا حُكْمَ لَهُ وَكَذَلِكَ جَعَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ لِأَنَّ مِنْ طَبِيعَةِ الدَّابَّةِ أَنَّهَا لَا تَصْبِرُ عَنْ أَكْلِ الزَّرْعِ إلَّا بِحِفْظٍ فَلَمَّا كَانَ الْحِفْظُ عَلَيْهِ لَيْلًا جُعِلَ تَرْكُ الْحِفْظِ بِمَنْزِلَةِ التَّسْلِيطِ وَالْإِرْسَالِ قُلْت فَعَلَى هَذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَتَرَجَّحُ الْقِيَاسُ فِيهَا عَلَى الِاسْتِحْسَانِ.
قَوْلُهُ (وَلِذَلِكَ قُلْنَا) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ بَيَانِ الْقِسْمِ الثَّانِي وَمَتَى عَارَضَهُ عِلَّةٌ لَمْ يَصْلُحْ عِلَّةً أَيْ وَلَمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحُكْمَ لَا يُضَافُ إلَى الشَّرْطِ عِنْدَ مُعَارَضَتِهِ مَا يَصْلُحُ عِلَّةً قُلْنَا كَذَا. أَوْ هُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْإِلْقَاءَ هُوَ الْعِلَّةُ وَقَدْ صَلَحَ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ أَيْ وَلِكَوْنِ الْإِلْقَاءِ صَالِحًا لِلْعِلِّيَّةِ قُلْنَا كَذَا الْقَوْلُ قَوْلُ الْحَافِرِ اسْتِحْسَانًا وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَوْلَى وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ قَدْ وَجَبَ عَلَى عَاقِلَةِ الْحَافِرِ فَهُوَ بِدَعْوَى إلْقَاءِ النَّفْسِ يُرِيدُ إسْقَاطَ ذَلِكَ الضَّمَانِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلْوَلِيِّ إذْ الْإِنْسَانُ لَا يُلْقِي نَفْسَهُ فِي الْبِئْرِ عَمْدًا فِي الْعَادَةِ فَعِنْدَ الْمُنَازَعَةِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ
إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا فِي قَبُولِ قَوْلِ الْحَافِرِ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ حُجَّةٌ لِلدَّفْعِ وَالْوَلِيُّ يَحْتَاجُ إلَى اسْتِحْقَاقِ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْحَافِرِ فَلَا يَكْفِيهِ التَّمَسُّكُ بِالظَّاهِرِ بَلْ يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ فِيهَا بِغَيْرِ تَعَمُّدٍ مِنْهُ مَعَ أَنَّ هَذَا الظَّاهِرَ يُعَارِضُهُ ظَاهِرٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْبَصِيرَ يَرَى الْبِئْرَ أَمَامَهُ فِي مَمْشَاهُ فَلَا يَقَعُ فِيهَا إلَّا بِالْإِلْقَاءِ قَصْدًا فَتَقَابَلَ الظَّاهِرَانِ وَبَقِيَ الِاحْتِمَالُ فِي سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَلَا نُوجِبُهُ بِالشَّكِّ وَجَحَدَ حُكْمًا ضَرُورِيًّا وَهُوَ خَلِيفَتُهُ الشَّرْطُ عَنْ الْعِلَّةِ وَفِيهِ إنْكَارُ سَبَبِ الضَّمَانِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّهُ أَيْ الْجَارِحَ صَاحِبُ عِلَّةٍ فَإِنَّ الْجَرْحَ عِلَّةٌ مُوجِبَةٌ لِلضَّمَانِ فَعِنْدَ وُجُودِ الْعِلَّةِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ الْعَارِضُ الْمُسْقِطُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْوَلِيِّ لِتَمَسُّكِهِ بِالْأَصْلِ.
قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ. وَلَمَّا قُلْنَا إنَّ اعْتِرَاضَ عِلَّةٍ صَالِحَةٍ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا يُوجِبُ قَطْعَ نِسْبَةِ الْحُكْمِ عَنْ الشَّرْطِ وَالسَّبَبِ قُلْنَا فِيمَنْ أَشْلَى كَلْبًا أَيْ أَغْرَاهُ وَأَرْسَلَهُ فَقَدْ وُضِعَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي الْإِرْسَالِ فَقِيلَ إذَا أَرْسَلَ كَلْبَهُ إرْسَالًا وَلَمْ يَكُنْ سَائِقًا لَهُ فَأَصَابَ فِي فَوْرِهِ يَعْنِي صَيْدًا مَمْلُوكًا لَمْ يَضْمَنْ يَعْنِي سَوَاءٌ كَانَ الْكَلْبُ مُعَلَّمًا أَوْ غَيْرَ مُعَلَّمٍ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ مُعَلَّمًا حَلَّ أَكْلُهُ وَإِلَّا فَلَا وَكَذَلِكَ رَجُلٌ أَشْلَى كَلْبَهُ عَلَى رَجُلٍ حَتَّى عَقَرَهُ أَوْ مَزَّقَ ثِيَابَهُ لَمْ يَضْمَنْ إلَّا أَنْ يَسُوقَهُ
وَلَيْسَ الَّذِي أَشْلَاهُ بِسَائِقٍ يَعْنِي أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ الْإِشْلَاءِ وَالْإِرْسَالِ لَا يَصِيرُ سَائِقًا لِيُنْسَبَ الْفِعْلُ إلَيْهِ بِحُكْمِ السَّوْقِ فَبَقِيَ الْكَلْبُ عَامِلًا بِطَبْعِهِ وَاخْتِيَارِهِ وَعَمَلُ الْبَهِيمَةِ هَدَرٌ حَتَّى لَوْ كَانَ سَائِقًا لَهُ بِأَنْ كَانَ يَعْدُو خَلْفَهُ وَيُشْلِيهِ ضَمِنَ مَا أَتْلَفَهُ الْكَلْبُ مِنْ النَّفْسِ وَالثِّيَابِ وَالصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَرْسَلَ بَازِيًا عَلَى صَيْدٍ مَمْلُوكٍ وَسَاقَهُ فَأَتْلَفَهُ الْبَازِي حَيْثُ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْبَازِيَ لَا يَحْتَمِلُ السَّوْقَ فَهَدَرَ سَوْقُهُ وَبَقِيَ الْفِعْلُ مُنْقَطِعًا عَنْ الْمُرْسِلِ فَأَمَّا الْكَلْبُ فَيَحْتَمِلُهُ كَسَائِرِ الدَّوَابِّ فَيُعْتَبَرُ سَوْقُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ أَوْجَبَ الضَّمَانَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ سَوَاءٌ كَانَ صَاحِبُ الْكَلْبِ سَائِقًا لَهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَجَعَلَ الْإِرْسَالَ بِمَنْزِلَةِ السَّوْقِ وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ رحمه الله أَنَّ الْكَلْبَ إنْ
وَلِهَذَا قُلْنَا فِيمَنْ أَلْقَى نَارًا فِي الطَّرِيقِ فَهَبَّتْ بِهِ الرِّيحُ ثُمَّ أَحْرَقَتْ لَمْ يَضْمَنْ وَإِذَا أَلْقَى شَيْئًا مِنْ الْهَوَامِّ فِي الطَّرِيقِ فَتَحَرَّكَتْ وَانْتَقَلَتْ ثُمَّ لَدَغَتْ لَمْ يَضْمَنْ وَبَعْضُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ تُخَرَّجُ عَلَى مَا سَبَقَ فِي بَابِ تَقْسِيمِ الْأَسْبَابِ فَهِيَ مُلْحَقَةٌ بِذَلِكَ الْبَابِ.
ــ
[كشف الأسرار]
أَصَابَ فِي فَوْرِهِ شَيْئًا يَضْمَنُ صَاحِبُ الْكَلْبِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَائِقًا لَهُ؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ بِمَنْزِلَةِ السَّوْقِ فِي الدَّابَّةِ حَتَّى لَوْ أَرْسَلَ دَابَّةً فِي الطَّرِيقِ فَأَصَابَتْ شَيْئًا فِي وَجْهِهَا يَضْمَنُ كَمَا لَوْ كَانَ سَائِقًا لَهَا فَكَذَلِكَ فِي الْكَلْبِ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى الظَّاهِرِ أَنَّ الْكَلْبَ فِي أَخْذِ الصَّيْدِ وَتَمْزِيقِ الثِّيَابِ عَامِلٌ بِطَبْعِهِ وَاخْتِيَارِهِ لَا بِالْإِرْسَالِ فَكَانَ الْإِرْسَالُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ حَلِّ الْقَيْدِ فِي الْعَبْدِ فَلِذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِيهِ حَقِيقَةُ السَّوْقِ فَأَمَّا الدَّابَّةُ فَلَيْسَ مِنْ طَبْعِهَا الْمَشْيُ فِي الطَّرِيقِ بَلْ مِنْ طَبْعِهَا الْجَوَلَانُ وَتَرْكُ سُنَنِ الطَّرِيقِ لِلرَّعْيِ فَكَانَ مُحَافَظَتُهَا سُنَنَ الطَّرِيقِ بَعْدَ الْإِرْسَالِ عَلَى خِلَافِ طَبْعِهَا بِنَاءً عَلَى الْإِرْسَالِ كَمَا فِي السَّوْقِ فَكَانَ إرْسَالُهَا بِمَنْزِلَةِ السَّوْقِ إذَا ذَهَبَتْ عَلَى سُنَنِ الْإِرْسَالِ وَإِلَى هَذَا الْفَرْقِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْكَلْبَ يَعْمَلُ بِطَبْعِهِ وَوُقُولُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا أَشْلَى أَيْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ الْمُعَلَّمَ عَلَى صَيْدٍ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِعْلُ الْكَلْبِ مُضَافًا إلَى الْمُرْسِلِ فِي حَقِّ الضَّمَانِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فِي حَقِّ الْحَلِّ أَيْضًا حَتَّى لَوْ أَقْبَلَ بِصَيْدٍ بَعْدَ الْإِرْسَالِ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ الْمُرْسِلُ كَانَ مَيْتَةً كَمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُعَلَّمًا فَقَالَ الِاصْطِيَادُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَكَاسِبِ وَبَابُهُ مَفْتُوحٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] الْآيَةَ وَلَا يُمْكِنُهُمْ الِاصْطِيَادُ خُصُوصًا بِالْكَلْبِ عَلَى وَجْهٍ يَقْدِرُونَ عَلَى ذَبْحِهِ بِالْوَجْهِ الْمَسْنُونِ غَالِبًا فَأُضِيفَ فِعْلُهُ إلَى الْمُرْسِلِ لِلضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ وَبُنِيَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى قَدْرِ الْإِمْكَانِ فَتْحًا لَبَابِ الْكَسْبِ فَأَمَّا فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ فَلَا ضَرُورَةَ؛ لِأَنَّهُ شَرَعَ جَبْرًا فَيَعْتَمِدُ الْفَوْتُ مِنْ جِهَةِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُوجَدْ لِتَخَلُّلِ فِعْلِ الْمُخْتَارِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ فِيهِ إلَى مَحْضِ الْقِيَاسِ أَيْ الدَّلِيلُ الظَّاهِرُ وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُبَاشِرٍ وَلَا مُسَبِّبٍ وَمَعَ الشَّكِّ فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ الضَّمَانُ بِحَالٍ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْجَوَابَ الْمَذْكُورَ فِي الِاصْطِيَادِ جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ وَالْقِيَاسُ فِيهِ أَنْ لَا يَحِلَّ أَيْضًا.
قَوْلُهُ (وَهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ اعْتِرَاضَ الْعِلَّةِ يُوجِبُ قَطْعَ نِسْبَةِ الْحُكْمِ عَنْ غَيْرِهَا قُلْنَا كَذَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ إذَا وَضَعَ جَمْرًا فِي الطَّرِيقِ فَأَحْرَقَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي إحْدَاثِ النَّارِ فِي الطَّرِيقِ فَإِنْ حَرَّكَتْهُ الرِّيحُ فَذَهَبَتْ بِهِ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ ثُمَّ أَحْرَقَ شَيْئًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ فِعْلِهِ قَدْ انْتَسَخَ بِالتَّحَوُّلِ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْيَوْمُ رِيحًا فَإِنْ كَانَ رِيحًا فَهُوَ ضَامِنٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَالِمًا حِينَ أَلْقَاهُ أَنَّ الرِّيحَ تَذْهَبُ بِهِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ فَلَا يَنْتَسِخُ حُكْمُ فِعْلِهِ بِذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الدَّابَّةِ الَّتِي جَالَتْ فِي رِبَاطِهَا وَإِذَا أَلْقَى شَيْئًا مِنْ الْهَوَامِّ فِي الطَّرِيقِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا تَلِفَ بِهِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرُ عَنْ حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا التَّسْبِيبِ وَاخْتِيَارُهُ فِي اللَّسْعِ لَا يَقْطَعُ النِّسْبَةَ؛ لِأَنَّهُ طَبْعٌ لَهُ وَلَوْ تَحَرَّكَتْ أَيْ الْهَامَّةُ الْمُلْقَاةُ وَانْتَقَلَتْ مِنْ مَكَانِهَا إلَى مَكَان آخَرَ ثُمَّ لَدَغَتْهُ أَيْ لَدَغَتْ إنْسَانًا فَهَلَكَ لَمْ يَضْمَنْ الْمُلْقِي شَيْئًا لِانْقِطَاعِ نِسْبَتِهِ عَنْهُ بِتَخَلُّلِ فِعْلِ الْمُخْتَارِ وَهُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان آخَرَ وَبَعْضُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَيْ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْقِسْمِ مِثْلُ مَسْأَلَةِ إشْلَاءِ الْكَلْبِ وَإِلْقَاءِ النَّارِ وَالْهَامَّةِ فِي الطَّرِيقِ وَإِرْسَالِ الدَّابَّةِ فِي الطَّرِيقِ وَنَحْوِهَا يَخْرُجُ عَلَى مَا سَبَقَ فِي بَابِ تَقْسِيمِ الْأَسْبَابِ وَهُوَ السَّبَبُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي اعْتَرَضَ عَلَيْهِ عِلَّةٌ كَدَلَالَةِ السَّارِقِ وَنَحْوِهَا فَهِيَ مُلْحَقَةٌ بِذَلِكَ الْبَابِ وَلَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ خَلَتْ عَنْ مَعْنَى الشَّرْطِ إذْ الْإِشْلَاءُ وَالْإِلْقَاءُ فِي الطَّرِيقِ وَالْإِرْسَالُ لَيْسَتْ
وَأَمَّا الَّذِي هُوَ شَرْطٌ اسْمًا لَا حُكْمًا فَإِنَّ كُلَّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِشَرْطَيْنِ فَإِنَّ أَوَّلَهُمَا شَرْطٌ اسْمًا لَا حُكْمًا لِأَنَّ حُكْمَ الشَّرْطِ أَنْ يُضَافَ الْوُجُودُ إلَيْهِ وَذَلِكَ مُضَافٌ إلَى آخِرِهِمَا فَلَمْ يَكُنْ الْأَوَّلُ شَرْطًا لَا اسْمًا وَلِهَذَا قُلْنَا فِيمَنْ
قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ وَهَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ أَبَانَهَا ثُمَّ دَخَلَتْ أَحَدَيْهِمَا ثُمَّ نَكَحَهَا ثُمَّ دَخَلَتْ الثَّانِيَةَ أَنَّهَا تَطْلُقُ خِلَافًا لِزُفَرَ رحمه الله لِأَنَّ الْمِلْكَ شَرْطٌ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لِصِحَّةِ وُجُودِ الْجَزَاءِ لَا لِصِحَّةِ وُجُودِ الشَّرْطِ وَلَمْ يُوجَدْ هَا هُنَا جَزَاءٌ فَيَفْتَقِرُ إلَى الْمِلْكِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ الْمِلْكُ شَرْطًا لِغَيْرِ الشَّرْطِ لِأَنَّ عَيْنَهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْمِلْكِ وَلَمْ يَجُزْ شَرْطُهُ لِبَقَاءِ الْيَمِينِ كَمَا قَبْلَ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ.
ــ
[كشف الأسرار]
لِلْمَانِعِ بِوَجْهٍ وَلَكِنَّهَا أُورِدَتْ هَاهُنَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ لِلْمُنَاسَبَةِ.
قَوْلُهُ (وَأَمَّا الَّذِي) أَيْ الْقِسْمُ الَّذِي أَوْ الشَّرْطُ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ اسْمًا لَا حُكْمًا فَكَذَا وَهَذَا يُسَمَّى شَرْطًا مَجَازًا لِتَخَلُّفِ حُكْمِهِ وَهُوَ وُجُودُ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِهِ عَنْهُ إلَّا أَنَّ وُجُودَ الْحُكْمِ لَمَّا كَانَ يَفْتَقِرُ إلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ كَانَ شَرْطًا صُورَةً لَا مَعْنًى وَفِي أَقْسَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَعْنَى الشَّرْطِ مَوْجُودٌ مَعَ شَيْءٍ آخَرَ وَلِهَذَا أَيْ وَلِأَنَّ الشَّرْطَ الْأَوَّلَ لَيْسَ بِشَرْطٍ مَعْنًى وَحَقِيقَةً قُلْنَا كَذَا وَالْمَسْأَلَةُ عَلَى أَوْجُهٍ إنْ دَخَلَتْهُمَا فِي الْمِلْكِ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِلَا شُبْهَةٍ وَإِنْ دَخَلَتْهُمَا فِي غَيْرِ الْمِلْكِ انْحَلَّتْ الْيَمِينُ لَا إلَى أَجْزَاءٍ وَإِنْ دَخَلَتْ الْأُولَى فِي الْمِلْكِ ثُمَّ بَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا ثُمَّ دَخَلَتْ الْأُخْرَى فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لَمْ يُطَلِّقْ بِالِاتِّفَاقِ أَيْضًا وَإِنْ دَخَلَتْ الْأُولَى فِي غَيْرِ الْمِلْكِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ دَخَلَتْ الْأُخْرَى طَلُقَتْ عِنْدَنَا.
وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله لَا تَطْلُقُ؛ لِأَنَّ حَظَّ الشَّرْطَيْنِ مِنْ الْحُكْمِ عَلَى السَّوَاءِ؛ لِأَنَّهُ صَيَّرَهَا شَيْئًا وَاحِدًا فِي وُجُودِ الْجَزَاءِ وَفِي أَحَدِهِمَا يُشْتَرَطُ الْمِلْكُ فَكَذَلِكَ فِي الْآخَرِ وَمَذْهَبُهُ أَنَّهُ يُجْرِي الشُّرُوطَ مَجْرَى الْعِلَلِ كَمَا قَالَ فِي الْإِحْصَانِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ وَأَنَّ السَّارِقَ لَا يُقْطَعُ بِخُصُومَةِ الْمُودَعِ؛ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطُ ظُهُورِ السَّرِقَةِ فَلَا يَجْرِي فِيهَا النِّيَابَةُ عِنْدَهُ كَمَا لَا تَجْرِي فِي الشَّهَادَةِ الَّتِي هِيَ مُثَبِّتَةٌ لِلسَّرِقَةِ فَلِذَلِكَ سَوَّى بَيْنَ الشَّرْطَيْنِ وَوَجْهُ قَوْلِنَا مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْمِلْكَ شَرْطٌ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لِصِحَّةِ وُجُودِ الْجَزَاءِ لَا لِصِحَّةِ وُجُودِ الشَّرْطِ وَلِهَذَا لَوْ دَخَلَتْ الدَّارَيْنِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ انْحَلَّتْ الْيَمِينُ.
وَلَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا أَيْ لَيْسَ فِيمَا إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ جَزَاءٌ يَفْتَقِرُ إلَى الْمِلْكِ لِيُشْتَرَطَ الْمِلْكُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ لَا يَنْزِلُ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ الثَّانِي وَلَمْ يَجُزْ شَرْطُهُ لِبَقَاءِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهَا الذِّمَّةُ فَتَبْقَى بِبَقَائِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْيَمِينَ يَبْقَى قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ بِدُونِ الْمِلْكِ بِأَنْ أَبَانَهَا قَبْلَ دُخُولِ الدَّارَيْنِ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَتَبْقَى بِدُونِهِ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ الثَّانِي أَيْضًا وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمِلْكَ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِيجَابِ أَوْ صِحَّةِ الْإِيقَاعِ وَحَالُ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ خَالِيَةٌ عَنْهُمَا فَلَوْ شَرَطَ الْمِلْكَ لِبَقَاءِ الْيَمِينِ أَوْ لِصِحَّةِ عَيْنِ الشَّرْطِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ.
قَوْلُهُ (وَأَمَّا الشَّرْطُ الَّذِي هُوَ عَلَامَةٌ) وَهُوَ الْقِسْمُ الْخَامِسُ مِنْ الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ بِالْإِحْصَانِ قِيلَ إحْصَانُ الزِّنَا عِبَارَةٌ عَنْ اجْتِمَاعِ سَبْعَةِ أَشْيَاءَ الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالنِّكَاحُ الصَّحِيحُ.
وَالدُّخُولُ بِالنِّكَاحِ وَكَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ مِثْلَ الْآخَرِ فِي صِفَةِ الْإِحْصَانِ وَالْإِسْلَامُ قَالَ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ إنَّ شَرْطَ الْإِحْصَانِ عَلَى الْخُصُوصِ شَيْئَانِ الْإِسْلَامُ وَالدُّخُولُ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ بِامْرَأَةٍ هِيَ مِثْلُهُ فَأَمَّا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ فَهُمَا شَرْطَا الْأَهْلِيَّةِ لِلْعُقُوبَةِ لَا شَرْطَا الْإِحْصَانِ عَلَى الْخُصُوصِ وَالْحُرِّيَّةُ شَرْطُ تَكْمِيلِ الْعُقُوبَةِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ الْإِحْصَانَ عَلَامَةٌ أَيْ مُعَرَّفٌ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِأَنَّ الزِّنَا إذَا تَحَقَّقَ عِلَّةٌ لِلرَّجْمِ عَلَى إحْصَانٍ يَحْدُثُ بَعْدَهُ فَإِنَّ الْإِحْصَانَ لَوْ وُجِدَ بَعْدَ الزِّنَا لَا يَثْبُتُ بِوُجُودِهِ الرَّجْمُ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ لَهُ وَلَا سَبَبٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطَرِيقٍ مُفْضٍ إلَيْهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الرَّجْمَ غَيْرُ مُضَافٍ إلَيْهِ وُجُوبًا بِهِ وَلَا وُجُودًا عِنْدَ وُجُودِهِ وَلَكِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ حَالٍ فِي الزَّانِي يَصِيرُ الزِّنَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مُوجِبًا لِلرَّجْمِ فَكَانَ مُعَرَّفًا أَنَّ الزِّنَا حِينَ وُجِدَ كَانَ مُوجِبًا لِلرَّجْمِ فَكَانَ عَلَامَةً لَا شَرْطًا فَلَمْ يَصِحَّ عِلَّةً لِلْوُجُوبِ وَلَا لِلْوُجُودِ أَيْ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُوبُ فَلَا يَكُونُ عِلَّةً وَلَا الْوُجُودُ فَلَا يَكُونُ شَرْطًا وَذَلِكَ أَيْ وَلِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْوُجُوبِ وَالْوُجُودِ بِهِ لَمْ يُجْعَلْ لِهَذَا الْقِسْمِ وَهُوَ الْعَلَامَةُ حُكْمَ الْعِلَّةِ
فَأَمَّا الشَّرْطُ الَّذِي هُوَ عَلَامَةٌ فَالْإِحْصَانُ فِي بَابِ الزِّنَا وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ عَلَامَةٌ لِأَنَّ حُكْمَ الشَّرْطِ أَنْ يَمْنَعَ انْعِقَادَ الْعِلَّةِ إلَى أَنْ يُوجَدَ الشَّرْطُ وَهَذَا لَا يَكُونُ فِي الزِّنَا بِحَالٍ لِأَنَّ الزِّنَا إذَا وُجِدَ لَمْ يَتَوَقَّفْ حُكْمُهُ عَلَى إحْصَانٍ يَحْدُثُ بَعْدَهُ لَكِنَّ الْإِحْصَانَ إذَا ثَبَتَ كَانَ مُعَرِّفًا لِحُكْمِ الزِّنَا فَأَمَّا أَنْ يُوجَدَ الزِّنَا بِصُورَتِهِ فَيَتَوَقَّفَ انْعِقَادُهُ عِلَّةً عَلَى وُجُودِ الْإِحْصَانِ فَلَا يَثْبُتُ أَنَّهُ عَلَامَةٌ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فَلَمْ يَصْلُحْ عِلَّةً لِلْوُجُودِ وَلَا لِلْوُجُوبِ وَلِذَلِكَ لَمْ يُجْعَلْ لَهُ حُكْمُ الْعِلَلِ بِحَالٍ وَلِذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ شُهُودُ الْإِحْصَانِ إذَا رَجَعُوا عَلَى حَالٍ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ الشَّرْطِ الْخَالِصِ
ــ
[كشف الأسرار]
بِحَالٍ يَعْنِي سَوَاءٌ كَانَتْ الْعِلَّةُ صَالِحَةً لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا أَوْ لَمْ تَكُنْ هَذَا هُوَ طَرِيقَةُ الْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ فِي التَّقْوِيمِ وَاخْتَارَهَا الشَّيْخَانِ وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَأَمَّا أَصْحَابُنَا الْمُتَقَدِّمُونَ وَعَامَّةُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ وَمَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ فَقَدْ سَمَّوْا الْإِحْصَانَ شَرْطًا لِوُجُوبِ الرَّجْمِ لَا عَلَامَةً مُسْتَرْوِحِينَ بِأَنَّ شَرْطَ الشَّيْءِ مَا يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَيْهِ وَالْإِحْصَانُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الرَّجْمِ بِالزِّنَا مُتَوَقِّفٌ عَلَى وُجُودِ الْإِحْصَانِ وَكَوْنُهُ سَابِقًا عَلَى الزِّنَا غَيْرَ مُتَأَخِّرٍ عَنْهُ لَا يُخِلُّ بِشَرْطِيَّتِهِ كَالطَّهَارَةِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَالنِّيَّةُ سَابِقَةٌ عَلَى الصَّلَاةِ بِحَيْثُ لَا يُتَصَوَّرُ تَأَخُّرُهَا عَنْ صُورَةِ الصَّلَاةِ وَتَوَقَّفَ انْعِقَادُهَا صَلَاةً عَلَيْهَا وَكَذَا الْإِشْهَادُ فِي النِّكَاحِ سَابِقٌ عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَا يُتَصَوَّرُ تَأَخُّرُهُ عَنْهُ وَتَوَقَّفَ انْعِقَادُهُ عَلَيْهِ بَعْدَ وُجُودِ صُورَتِهِ ثُمَّ إنَّهَا شُرُوطٌ حَقِيقِيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ لِتَوَقُّفِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَالنِّكَاحِ عَلَيْهَا وَلَيْسَتْ بِعَلَامَاتٍ فَكَذَا الْإِحْصَانُ لِلرَّجْمِ.
وَقَوْلُهُمْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ وُجُودٌ غَيْرُ مُسَلَّمٍ عِنْدَهُمْ بَلْ ثُبُوتُ وُجُوبِ الرَّجْمِ بِالزِّنَا مُتَعَلِّقٌ بِهِ إذْ الزِّنَا لَا يُوجِبُ الرَّجْمَ بِدُونِ الْإِحْصَانِ بِحَالٍ كَالسَّرِقَةِ لَا تُوجِبُ الْقَطْعَ بِدُونِ النِّصَابِ وَهُوَ شَرْطٌ بِلَا شُبْهَةٍ فَكَذَا الْإِحْصَانُ وَقَوْلُهُمْ لَا بُدَّ لِلشَّرْطِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا عَنْ صُورَةِ الْعِلَّةِ لِيَتَوَقَّفَ انْعِقَادُهَا عِلَّةً عَلَيْهِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ أَيْضًا بَلْ الشَّرْطُ قَدْ يَكُونُ مُتَقَدِّمًا عَلَى صُورَةِ الْعِلَّةِ كَمَا بَيَّنَّا وَقَدْ يَكُونُ مُتَأَخِّرًا عَنْهَا كَمَا فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ انْعِقَادَ بَعْضِ الْعِلَلِ لَا يَقْبَلُ الِانْفِصَالَ عَنْ وُجُودِ صُورَتِهَا كَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَبَعْضُهَا يَقْبَلُ ذَلِكَ كَالطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ وَالْعَتَاقِ الْمُعَلَّقِ وَسَائِرِ مَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَالشَّرْطُ فِي هَذَا الْقِسْمِ يَتَأَخَّرُ عَنْ صُورَةِ الْعِلَّةِ.
وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ لَا يَتَأَخَّرُ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَابِقًا عَلَى الْمَشْرُوطِ، وَالْمَشْرُوطُ وَهُوَ الِانْعِقَادُ لَمَّا لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْ الصُّورَةِ لَا يُتَصَوَّرُ تَأَخُّرُ الشَّرْطِ عَنْهَا ضَرُورَةً.
قَوْلُهُ (وَلِذَلِكَ) أَيْ وَلِأَنَّ الْإِحْصَانَ عَلَامَةٌ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ لَا يَضْمَنُ شُهُودُ الْإِحْصَانِ إذَا رَجَعُوا عَلَى حَالٍ يَعْنِي سَوَاءٌ رَجَعُوا مَعَ شُهُودِ الزِّنَا أَوْ رَجَعُوا وَحْدَهُمْ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ الشَّرْطِ الْخَالِصِ وَهِيَ مَا إذَا اجْتَمَعَ شُهُودُ الشَّرْطِ وَالْيَمِينِ ثُمَّ رَجَعَ شُهُودُ الشَّرْطِ وَحْدَهُمْ فَإِنَّهُمْ يَضْمَنُونَ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الشَّيْخُ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ صَالِحٌ لِخِلَافَةِ الْعِلَّةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا لِتَعَلُّقِ الْوُجُودِ بِهِ فَأَمَّا الْعَلَامَةُ فَلَيْسَتْ بِصَالِحَةٍ لِخِلَافَتِهَا عَنْ الْعِلَّةِ أَصْلًا لِمَا قُلْنَا إنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا وُجُوبٌ وَلَا وُجُودٌ فَلَا يَجُوزُ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَيْهَا بِوَجْهٍ.
وَعِنْدَ زُفَرَ رحمه الله إنْ رَجَعَ شُهُودُ الْإِحْصَانِ وَحْدَهُمْ ضَمِنُوا دِيَةَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَإِنْ رَجَعَ شُهُودُ الزِّنَا وَالْإِحْصَانِ جَمِيعًا يَشْتَرِكُونَ فِي الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْإِحْصَانَ شَرْطُ الرَّجْمِ وَمِنْ أَصْلِهِ أَنَّ السَّبَبَ أَيْ الْعِلَّةَ وَالشَّرْطَ سَوَاءٌ فِي إضَافَةِ الضَّمَانِ إلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَقِفُ عَلَى الشَّرْطِ كَمَا يَقِفُ عَلَى السَّبَبِ لَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ إلَّا عِنْدَ وُجُودِهِمَا فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَالْإِحْصَانُ مُلْحَقٌ بِالزِّنَا فِي إضَافَةِ الْحَدِّ إلَيْهِ بِدَلِيلِ أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْإِحْصَانِ تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى وَالشَّهَادَةَ عَلَى النِّكَاحِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ لَا تُقْبَلُ بِدُونِهَا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْحَدُّ مُضَافًا إلَيْهِمَا لَمَا قُبِلَتْ كَمَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ وَأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالْإِحْصَانِ ثُمَّ رَجَعَ يَصِحُّ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِالزِّنَا ثُمَّ رَجَعَ يَصِحُّ وَأَنَّ الْقَاضِيَ يَسْأَلُ شُهُودَ الْإِحْصَانِ عَنْ الْإِحْصَانِ مَا هُوَ وَكَيْفَ هُوَ كَمَا يَسْأَلُ عَنْ الزِّنَا
وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ الْإِحْصَانَ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ الذُّكُورُ الْخَالِصَةُ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ بِهِ وُجُوبُ عُقُوبَةٍ وَلَا وُجُودُهَا
ــ
[كشف الأسرار]
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُزَكِّي إذَا رَجَعَ يَضْمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَإِنْ لَمْ يُثْبِتْ عِلَّةَ الْقَتْلِ وَلَكِنَّهُ أَثْبَتَ شَرْطَ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَهُوَ الْعَدَالَةُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُزَكِّينَ وَشُهُودِ الْإِحْصَانِ؛ لِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا خِصَالًا حَمِيدَةً فِي الْجَانِي وَالْمُزَكُّونَ أَثْبَتُوا خِصَالًا حَمِيدَةً فِي الشَّاهِدِ ثُمَّ شَهَادَةُ شُهُودِ الْإِحْصَانِ أَقْرَبُ إلَى مَحَلِّ الْحَدِّ مِنْ التَّزْكِيَةِ فَكَانُوا أَوْلَى بِالضَّمَانِ مِنْ الْمُزَكِّينَ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِحْصَانَ لَيْسَ بِشَرْطٍ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الشَّيْخُ فَلَا يَجُوزُ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَيْهِ بِوَجْهٍ.
وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ شَرْطٌ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ فَلَا يَجُوزُ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ شُهُودَ الشَّرْطِ لَا يَضْمَنُونَ بِالرُّجُوعِ عِنْدَ صَلَاحِ الْعِلَّةِ لِلْإِضَافَةِ إلَيْهَا وَهَاهُنَا شُهُودُ الزِّنَا شُهُودُ الْعِلَّةِ وَهِيَ صَالِحَةٌ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا فَيُضَافُ التَّلَفُ إلَيْهِمْ فَإِنْ رَجَعُوا وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ وَإِنْ ثَبَتُوا انْقَطَعَ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمْ عَنْ الشَّرْطِ عَلَى أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يَسْتَحِيلُ إضَافَةُ الْحَدِّ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ عُقُوبَةٌ مُتَنَاهِيَةٌ وَالْإِحْصَانَ خِصَالٌ حَمِيدَةٌ وَيَسْتَحِيلُ إضَافَةُ الْعُقُوبَةِ إلَى الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ فَصَارَ مُضَافًا إلَى الزِّنَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَإِنَّمَا صَحَّ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْإِحْصَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ شَرْطًا لِلْحَدِّ صَارَ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْحَقِّ وَسَبَبَهُ مِنْ حُقُوقِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَمَنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ رَجَعَ صَحَّ رُجُوعُهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُكَذِّبْهُ فِي الْإِنْكَارِ وَلَمْ يُصَدِّقْهُ فِي الْإِقْرَارِ بِخِلَافِ حُقُوقِ الْعِبَادِ؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ صَدَّقَهُ فِي الْإِقْرَارِ وَكَذَّبَهُ فِي الْإِنْكَارِ فَبَطَلَ الرُّجُوعُ بِمُعَارَضَةِ التَّكْذِيبِ وَلِهَذَا قَبِلْنَا الشَّهَادَةَ فِيهِ بِدُونِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى تُقْبَلُ بِدُونِ الدَّعْوَى وَأَمَّا سُؤَالُ الْقَاضِي عَنْ الْإِحْصَانِ فَلِأَنَّهُ كَلِمَةٌ مُجْمَلَةٌ تُطْلَقُ عَلَى النِّكَاحِ وَعَلَى الْحُرِّيَّةِ وَغَيْرِهِمَا فَيَسْتَفْسِرُهُ لِيَتَبَيَّنَ لَهُ الْمَشْهُودُ بِهِ إذْ الشَّهَادَةُ لَا تُقْبَلُ إلَّا عَلَى الْمَعْلُومِ وَلَيْسَ هَذَا كَالتَّزْكِيَةِ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ عِلَّةِ الْعِلَّةِ كَمَا بَيَّنَّا وَلِلشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي رُجُوعِ شُهُودِ الْإِحْصَانِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ قَالُوا أَحَدُهَا أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا وَهُوَ الْأَصَحُّ وَالثَّانِي أَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ وَإِنْ قَالُوا تَعَمَّدْنَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْقَوَدُ وَالثَّالِثُ أَنَّهُمْ إنْ شَهِدُوا بِالْإِحْصَانِ قَبْلَ ثُبُوتِ الزِّنَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ وَإِنْ شَهِدُوا بَعْدَ ثُبُوتِ الزِّنَا فَعَلَيْهِمْ الضَّمَانُ.
قَوْلُهُ (وَلِهَذَا قُلْنَا) أَيْ وَلِأَنَّ الْإِحْصَانَ لَيْسَ بِعِلَّةٍ لِلرَّجْمِ وَلَا بِشَرْطٍ لَهُ قُلْنَا إنَّ الْإِحْصَانَ يَثْبُتُ يَعْنِي قَبْلَ ثُبُوتِ الزِّنَا وَبَعْدَهُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ.
وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله لَا يَثْبُتُ بَعْدَ ثُبُوتِ الزِّنَا وَبَعْدَهُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْإِحْصَانَ عَلَى أَصْلِهِ مُلْحَقٌ بِالزِّنَا فِي إضَافَةِ الْحَدِّ إلَيْهِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْإِحْصَانِ بَعْدَ ثُبُوتِ الزِّنَا تَكْمِيلُ الْعُقُوبَةِ وَبِاعْتِبَارِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ لَا يَكُونُ لِلنِّسَاءِ فِيهِ شَهَادَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُكَمِّلَ لِلْعُقُوبَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُوجِبِ لِأَصْلِ الْعُقُوبَةِ بِخِلَافِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ بِالنِّكَاحِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ حَيْثُ تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ تَكْمِيلَ الْحَدِّ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بَعْدَ مَوْتِ رَجُلٍ لِآخَرَ أَنَّهُ ابْنُهُ وَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ وَأَحْرَزَ مِيرَاثَهُ ثُمَّ رَجَعَا يَضْمَنَانِ وَلَوْ شَهِدَا بِالنَّسَبِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَلَمَّا مَاتَ وَأَحْرَزَ الْمَشْهُودُ لَهُ الْمِيرَاثَ ثُمَّ رَجَعَا لَا يَضْمَنَانِ؛ لِأَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى شَهِدَا بِحَضْرَةِ الْمِيرَاثِ فَصَارَ كَمَا لَوْ شَهِدَا بِالْمِيرَاثِ وَفِي الثَّانِيَةِ يَشْهَدَانِ بِحَضْرَةِ الْمِيرَاثِ فَلَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا شَهِدَا بِالْمِيرَاثِ وَحُجَّتُنَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِحْصَانَ
فَإِنْ قِيلَ إذَا شَهِدَ كَافِرَانِ عَلَى عَبْدٍ مُسْلِمٍ أَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ وَقَدْ زَنَى الْعَبْدُ أَوْ قَذَفَ فَأَنْكَرَ الْعَبْدُ وَالْمَوْلَى ذَلِكَ وَالْمَوْلَى كَافِرٌ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ وَقَدْ شَهِدُوا عَلَى الْمَوْلَى وَهُوَ كَافِرٌ وَلَمْ يَشْهَدُوا عَلَى الْعَبْدِ بِشَيْءٍ عَلَى مَا قُلْتُمْ إنَّهُ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ وُجُودٌ وَلَا وُجُوبٌ فَهَلَّا قُبِلَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ لِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ خُصُوصًا الْمَشْهُودَ بِهِ دُونَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَخُصُوصًا أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِإِيجَابِ عُقُوبَةٍ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا وُجُوبٌ وَلَا وُجُودٌ وَلَكِنْ فِي هَذِهِ الْحُجَّةِ تَكْثِيرُ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ
ــ
[كشف الأسرار]
لَيْسَ بِسَبَبٍ مُوجِبٍ لِلْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ خِصَالٍ بَعْضُهَا مَأْمُورٌ بِهِ وَبَعْضُهَا مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِإِيجَابِ الْعُقُوبَةِ وَلَا بِشَرْطٍ أَيْضًا لِمَا مَرَّ بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ حَالٍ يَصِيرُ الزِّنَا فِي تِلْكَ الْحَالِ مُوجِبًا لِلرَّجْمِ كَمَا بَيَّنَّا وَلَئِنْ كَانَ شَرْطًا فَالْحَدُّ لَا يُضَافُ إلَيْهِ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ الصَّالِحَةِ لِلْإِضَافَةِ إلَيْهَا فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ بِالنِّكَاحِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِمَنْزِلَتِهَا فِي غَيْرِهَا مِنْ الْأَحْوَالِ فَتُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ.
وَهَذَا بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الشَّهَادَةِ بِالْبُنُوَّةِ؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ يُسْتَحَقُّ بِالنَّسَبِ وَالْمَوْتِ جَمِيعًا فَأَيُّهُمَا كَانَ آخِرًا يُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ فَإِذَا شَهِدُوا بِالنَّسَبِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَانَ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَى النَّسَبِ فَضَمِنُوا عِنْدَ الرُّجُوعِ وَإِذَا شَهِدُوا بِالنَّسَبِ قَبْلَ الْمَوْتِ كَانَ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَى الْمَوْتِ لَا إلَى النَّسَبِ فَلَمْ يَضْمَنُوا فَأَمَّا الْحَدُّ فَمُضَافٌ إلَى الزِّنَا بِكُلِّ حَالٍ لَا إلَى الْإِحْصَانِ فَيُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ بِكُلِّ حَالٍ ثُمَّ اعْتَبَرَ زُفَرُ رحمه الله رَدَّ شَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي الْإِحْصَانِ بِرَدِّ شَهَادَةِ الْكُفَّارِ فِيهِ فَأَدْرَجَ الشَّيْخُ فِي كَلَامِهِ ذَلِكَ بِطَرِيقِ السُّؤَالِ لِيُشِيرَ إلَى الْفَرْقِ فِي الْجَوَابِ فَقَالَ فَإِنْ قِيلَ إذَا شَهِدَ كَافِرَانِ يَعْنِي مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى عَبْدٍ مُسْلِمٍ لِذِمِّيٍّ وَقَدْ زَنَى الْعَبْدُ أَوْ قَذَفَ رَجُلًا بِالزِّنَا أَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ يَعْنِي قَبْلَ الزِّنَا وَالْقَذْفِ وَقَدْ أَنْكَرَ الْعَبْدُ وَالْمَوْلَى الْإِعْتَاقَ لِتَضَرُّرِ الْمَوْلَى بِزَوَالِ مِلْكِهِ وَتَضَرُّرِ الْعَبْدِ بِتَكْمِيلِ الْحَدِّ عَلَيْهِ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ مَعَ أَنَّهُمْ شَهِدُوا عَلَى الْمَوْلَى بِالْعِتْقِ إلَى آخِرِهِ إطْلَاقُ هَذَا الْكَلَامِ وَإِنْ كَانَ يُشِيرُ إلَى أَنَّهَا لَا يُقْبَلُ فِي الْعِتْقِ وَتَكْمِيلِ الْحَدِّ جَمِيعًا وَعَلَيْهِ يَدُلُّ مَا ذُكِرَ فِي الْأَسْرَارِ فِي حُدُودٍ حَيْثُ قِيلَ فِيهِ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّ الزَّانِيَ لَوْ كَانَ عَبْدًا مُسْلِمًا لِكَافِرٍ لَمْ يَثْبُتْ عِتْقُهُ بِشَهَادَةِ الْكُفَّارِ وَإِنْ كَانَتْ شَهَادَتُهُمْ حُجَّةً عَلَى هَذَا الْعِتْقِ لَوْلَا الزِّنَا.
وَلَكِنَّ الْإِمَامَ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ رحمه الله صَرَّحَ فِي الْمَبْسُوطِ بِأَنَّ الْعِتْقَ يَثْبُتُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ وَإِنَّمَا لَا يَثْبُتُ سَبْقُ التَّارِيخِ؛ لِأَنَّ هَذَا تَارِيخٌ يُنْكِرُهُ الْمُسْلِمُ وَمَا يُنْكِرُهُ الْمُسْلِمُ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَيْضًا فَقَالَ يُثْبِتُ الْحُرِّيَّةَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ وَلَا يُثْبِتُ تَمَكُّنَ الْإِمَامِ مِنْ إقَامَةِ الرَّجْمِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا لَا يَدْخُلُ لِشَهَادَةِ الْكُفَّارِ فِي إيجَابِ الرَّجْمِ عَلَى الْمُسْلِمِ لَا مَدْخَلَ بِشَهَادَتِهِمْ فِي إثْبَاتِ التَّمَكُّنِ مِنْ إقَامَةِ الرَّجْمِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي شَهَادَاتِ الْأَسْرَارِ وَالتَّقْوِيمِ أَيْضًا وَهُوَ الصَّحِيحُ كَمَا إذَا شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ بِالسَّرِقَةِ فِي حَقِّ الْقَطْعِ وَتَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمَالِ ثُمَّ تَوْجِيهُ هَذَا السُّؤَالِ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِهِمَا حَيْثُ قَبِلَا الشَّهَادَةَ عَلَى عِتْقِ الْعَبْدِ بِدُونِ دَعْوَاهُ فَكَانَ عَدَمُ الْقَبُولِ هَاهُنَا لِتَضَمُّنِهِ تَكْمِيلَ الْعُقُوبَةِ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فَعَدَمُ الْقَبُولِ لِعَدَمِ شَرْطِهِ وَهُوَ الدَّعْوَى فَلَا يَرِدُ السُّؤَالُ إلَّا إذَا وُضِعَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي الْأَمَةِ فَحِينَئِذٍ يَرِدُ عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ (قَوْلُهُ فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا) أَيْ عَنْ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ أَنَّ لِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ خُصُوصًا فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ بِهِ دُونَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَيُقْبَلُ فِيمَا لَيْسَ بِعُقُوبَةٍ وَلَا يُقْبَلُ إذَا كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ سَبَبَ عُقُوبَةٍ أَوْ شَرْطًا لَهُ أَثَرٌ فِي إيجَادِ الْعُقُوبَةِ لِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ «مَضَتْ السُّنَّةُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ» وَلَكِنَّهَا حُجَّةٌ تَامَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ جَمِيعًا وَالْمَشْهُودُ بِهِ هَاهُنَا هُوَ الْإِحْصَانُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ
وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ زَائِدٌ وَشَهَادَةُ هَؤُلَاءِ حُجَّةٌ لِإِيجَابِ الضَّرَرِ إذَا لَمْ يَكُنْ حَدًّا وَعُقُوبَةً وَلِشَهَادَةِ الْكُفَّارِ اخْتِصَاصٌ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ دُونَ الْمَشْهُودِ بِهِ وَقَدْ تَضَمَّنَتْ شَهَادَتُهُمْ تَكْثِيرَ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ بِالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ إيجَابُ الضَّرَرِ عَلَى الْمُسْلِمِ بِشَهَادَةِ الْكُفَّارِ أَبَدًا.
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إنَّ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ فِرَاشٍ قَائِمٍ وَلَا حَبَلٍ ظَاهِرٍ وَلَا إقْرَارٍ بِالْحَبَلِ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ حُجَّةٌ فِي تَعْيِينِ الْوَلَدِ بِلَا خِلَافٍ وَلَمْ يُوجِبْ هَا هُنَا إلَّا التَّعْيِينَ فَأَمَّا النَّسَبُ فَإِنَّمَا ثَبَتَ بِالْفِرَاشِ فَيَكُونُ انْفِصَالُهُ مُعَرَّفًا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ السَّبَبِ وَلَا وُجُودُهُ كَمَا فِي حَالِ قِيَامِ الْفِرَاشِ أَوْ ظُهُورِ الْحَبَلِ وَالْإِقْرَارُ بِهِ
وَالْجَوَابُ عَنْهُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الْفِرَاشَ إذَا لَمْ يَكُنْ قَائِمًا
ــ
[كشف الأسرار]
وَلَا وُجُودُهُ فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْحَدِّ وَلَا شَرْطًا لَهُ فَلَمْ يَمْتَنِعْ الْقَبُولُ بِاعْتِبَارِ الْمَشْهُودِ بِهِ وَلَكِنْ فِي هَذِهِ الْحُجَّةِ تَكْثِيرُ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ وَهُوَ النِّعْمَةُ فَإِنَّ الْجِنَايَةَ تَقَعُ عَلَى النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فَقَبْلَ هَذِهِ الشَّهَادَةِ كَانَ مَحَلُّ الْجِنَايَةِ نِعْمَةَ الْعَقْلِ وَالْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ وَبَعْدَمَا شَهِدُوا صَارَ مَحَلُّ الْجِنَايَةِ النِّعَمَ الْمَذْكُورَةَ وَنِعْمَةُ الْإِصَابَةِ مِنْ الْحَلَالِ بِطَرِيقِهِ الْمَوْضُوعِ لَهُ.
وَفِي ذَلِكَ أَيْ فِي تَكْثِيرِ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ ضَرَرٌ زَائِدٌ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَإِنَّ مُوجِبَ الْجِنَايَةِ يَتَغَيَّرُ بِهَذَا التَّكْثِيرِ مِنْ الْجَلْدِ إلَى الرَّجْمِ وَشَهَادَةُ هَؤُلَاءِ أَيْ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ حُجَّةٌ فِي إيجَابِ الضَّرَرِ حَدًّا أَوْ عُقُوبَةً كَمَا فِي إيجَابِ الْمَالِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ ثُبُوتُ الْإِحْصَانِ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ بِسَبَبِ تَضَمُّنِهِ إيجَابَ زِيَادَةِ الضَّرَرِ عَلَى الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ الضَّرَرِ ثَبَتَتْ بِمِثْلِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ وَلِشَهَادَةِ الْكُفَّارِ اخْتِصَاصٌ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ دُونَ الْمَشْهُودِ بِهِ فَإِنَّ شَهَادَتَهُمْ حُجَّةٌ عَلَى الْكُفَّارِ دُونَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ وَلَا وِلَايَةَ لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَعَلَا {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141] وَلَكِنَّهَا عَامَّةٌ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ حَتَّى ثَبَتَ بِشَهَادَتِهِمْ الْحُدُودُ وَغَيْرُهَا وَقَدْ تَضَمَّنَتْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ تَكْثِيرَ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ كَانَتْ مُقْتَصِرَةً عَلَى الْعَقْلِ وَالدِّينِ أَوْ عَلَيْهِمَا وَعَلَى إصَابَةِ الْحَلَالِ وَمُوجِبُهَا جَلْدُ خَمْسِينَ فِي الزِّنَا وَجَلْدُ أَرْبَعِينَ فِي الْقَذْفِ وَبِهَذِهِ الشَّهَادَةِ صَارَتْ جِنَايَةً عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَعَلَى الْحُرِّيَّةِ أَيْضًا وَصَارَ مُوجِبُ الْجِنَايَةِ الرَّجْمَ أَوْ جَلْدَ مِائَةٍ فِي الزِّنَا وَجَلْدَ ثَمَانِينَ فِي الْقَذْفِ وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةُ ضَرَرٍ تَثْبُتُ عَلَى الْمُسْلِمِ بِشَهَادَةِ الْكُفَّارِ وَشَهَادَتُهُمْ فِيمَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُسْلِمُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ أَصْلًا.
قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ) وَهُوَ أَنَّ الْمُعَرَّفَ الْمَحْضَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبٌ وَلَا وُجُودٌ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي الْمُعْتَدَّةِ إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَأَنْكَرَ الزَّوْجُ الْوِلَادَةَ فَشَهِدَتْ الْقَابِلَةُ بِالْوِلَادَةِ تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ فِرَاشٍ قَائِمٍ أَيْ نِكَاحٍ ثَابِتٍ بَيْنَهُمَا فِي الْحَالِ وَلَا كَذَا وَكَذَا وَيَثْبُتُ النَّسَبُ بِشَهَادَتِهَا كَمَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ حُجَّةٌ فِي تَعْيِينِ الْوَلَدِ بِلَا خِلَافٍ يَعْنِي إذَا كَانَ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ مَوْجُودًا وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ الْوِلَادَةَ تَثْبُتُ الْوِلَادَةُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ بِالِاتِّفَاقِ وَثَبَتَ نَسَبُ الْمَوْلُودِ لَا بِشَهَادَتِهَا وَلَكِنْ بِذَلِكَ السَّبَبِ الْمَوْجُودِ قَبْلَ الشَّهَادَةِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهَا تَعْيِينُ الْوَلَدِ لَا غَيْرُ فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَمْ يَثْبُتْ بِشَهَادَتِهَا إلَّا تَعْيِينُ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْفِرَاشِ الْقَائِمِ عِنْدَ الْعُلُوقِ فَيَكُونُ انْفِصَالُ الْوَلَدِ مُعَرِّفًا لِلْوَلَدِ الثَّابِتِ نِسْبَةً بِأَحَدِ تِلْكَ الْأَسْبَابِ كَالْإِحْصَانِ مُعَرِّفًا لِلزِّنَاءِ الْمُوجِبِ لِلرَّجْمِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَيْ بِالِانْفِصَالِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ وُجُوبُ النَّسَبِ أَيْ ثُبُوتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِالْعُلُوقِ مِنْ مَائِهِ لَا وُجُودِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ بَعْدَمَا صَحَّ سَبَبُهُ عَلَى الْوِلَادَةِ فَثَبَتَ أَنَّ الْوِلَادَةَ فِي حَقِّ ثُبُوتِ النَّسَبِ عِلْمٌ مَحْضٌ مُظْهِرٌ لِنَسَبٍ ثَابِتٍ قَبْلَ الْوِلَادَةِ مِنْ حِينِ الْعُلُوقِ كَمَا فِي حَالِ قِيَامِ أَحَدِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ النَّسَبُ مُضَافًا إلَى الْوِلَادَةِ وُجُوبًا بِهَا وَلَا وُجُودًا عِنْدَهَا كَانَ ثُبُوتُهَا بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِثْلَ ثُبُوتِهَا فِي حَالِ قِيَامِ أَحَدِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ كَالْإِحْصَانِ لَمَّا كَانَ مُعَرَّفًا كَانَ
وَلَا حَبَلٌ ظَاهِرٌ وَلَا إقْرَارٌ بِهِ كَانَ ثُبُوتُ نَسَبِهِ وَهُوَ بَاطِنٌ لَا يَسْتَنِدُ إلَى سَبَبٍ ظَاهِرٍ حُكْمًا ثَانِيًا فِي حَقِّ صَاحِبِ الشَّرْعِ فَأَمَّا فِي حَقِّنَا فَلَا فَبَقِيَ مُضَافًا إلَى الْوِلَادَةِ فَشُرِطَ لِإِثْبَاتِهَا كَمَالُ الْحُجَّةِ فَأَمَّا عِنْدَ قِيَامِ الْفِرَاشِ وَالْحَبَلُ فَقَدْ وُجِدَ دَلِيلُ قِيَامِ السَّبَبِ ظَاهِرًا فَصَلَحَ أَنْ يَكُونَ الْوِلَادَةُ مُعَرَّفَةً
وَإِذَا عُلِّقَ بِالْوِلَادَةِ طَلَاقٌ أَوْ عَتَاقٌ وَقَدْ شَهِدَتْ امْرَأَتُهَا حَالَ قِيَامِ الْفِرَاشِ وَقَعَ مَا عُلِّقَ بِهِ عِنْدَهُمَا
ــ
[كشف الأسرار]
ثُبُوتُهُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ بَعْدَ ثُبُوتِ الزِّنَا مِثْلَ ثُبُوتِهِ بِهَا قَبْلَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
قَوْلُهُ (وَالْجَوَابُ عَنْهُ) أَيْ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ لِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله كَذَا وَلَا حَبَلٌ ظَاهِرٌ عَطْفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي لَمْ يَكُنْ وَجَازَ الْعَطْفُ بِدُونِ الْمُؤَكِّدِ لِلْفَصْلِ وَحَذْفِ خَبَرِ كَانَ أَيْ إذَا لَمْ يَكُنْ الْفِرَاشُ قَائِمًا وَلَا حَبَلٌ ظَاهِرٌ ثَابِتًا وَلَا إقْرَارٌ بِالْحَبَلِ مَوْجُودًا كَانَ ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ حُكْمًا ثَابِتًا فِي حَقِّ صَاحِبِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِحَقَائِق الْأُمُورِ فَيَعْلَمُ بِعُلُوقِ الْوَلَدِ قَبْلَ الْوِلَادَةِ فَكَانَتْ الْوِلَادَةُ بِمَنْزِلَةِ الْمُعَرِّفِ لِلْوَلَدِ الثَّابِتِ النَّسَبِ بِالنَّظَرِ إلَى عِلْمِهِ جل جلاله فَأَمَّا فِي حَقِّنَا فَلَا أَيْ لَا يَكُونُ ثَابِتًا قَبْلَ الْوِلَادَةِ؛ لِأَنَّا نَبْنِي الْحُكْمَ عَلَى الظَّاهِرِ وَلَا نَعْرِفُ الْبَاطِنَ فَمَا كَانَ بَاطِنًا يُجْعَلُ فِي حَقِّنَا كَالْمَعْدُومِ بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ النَّازِلِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَإِنَّهُ يُجْعَلُ كَالْمَعْدُومِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ وَالنَّسَبُ قَبْلَ الْوِلَادَةِ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا سَبِيلَ لَنَا إلَى مَعْرِفَتِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَنِدٍ إلَى سَبَبٍ ظَاهِرٍ لِعَدَمِ الْفِرَاشِ وَالْحَبَلِ الظَّاهِرِ وَالْإِقْرَارِ بِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْدُومِ فِي حَقِّنَا فَكَانَ ثُبُوتُهُ مُضَافًا إلَى الْوِلَادَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَكَانَتْ الْوِلَادَةُ فِي حَقِّ عِلْمِنَا بِمَنْزِلَةِ الْعِلَّةِ الْمُثْبِتَةِ لِلنَّسَبِ لَا بِمَنْزِلَةِ الْعَلَامَةِ وَإِذَا كَانَ ابْتِدَاءُ وُجُودِهِ بِالْوِلَادَةِ يُشْتَرَطُ لَهَا كَمَالُ الْحُجَّةِ كَمَا لَوْ ادَّعَى أَحَدٌ نَسَبًا عَلَى آخَرَ ابْتِدَاءً بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ مَوْجُودًا؛ لِأَنَّ النَّسَبَ الْبَاطِنَ قَدْ اسْتَنَدَ ثُبُوتُهُ إلَى دَلِيلٍ ظَاهِرٍ قَبْلَ الْوِلَادَةِ؛ لِأَنَّ الْفِرَاشَ مُثْبِتٌ لِلنَّسَبِ وَكَذَا الْحَبَلُ الظَّاهِرُ حَالَ قِيَامِ الْعِدَّةِ دَلِيلٌ عَلَى الْعُلُوقِ حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ وَكَذَا الْإِقْرَارُ بِالْحَبَلِ سَبَبٌ لِثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ فَصَلَحَ أَنْ تَكُونَ الْوِلَادَةُ عَلَامَةً مُعَرِّفَةً لِلنَّسَبِ الثَّابِتِ حَالَ الِاجْتِنَانِ فَلَمْ يَصِرْ وُجُودُ النَّسَبِ مُضَافًا إلَى الْوِلَادَةِ فَلِذَلِكَ يَثْبُتُ النَّسَبُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ.
قَوْلُهُ (وَإِذَا عَلِقَ بِالْوِلَادَةِ) إلَى آخِرِهِ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إذَا وَلَدْت فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ عَبْدِي حُرٌّ وَقَدْ أَقَرَّ الزَّوْجُ بِأَنَّهَا حُبْلَى أَوْ بِهَا حَبَلٌ ظَاهِرٌ فَقَالَتْ قَدْ وَلَدْت يَقَعُ الطَّلَاقُ أَوْ الْعَتَاقُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَعِنْدَهُمَا لَا يَقَعُ إلَّا أَنْ تَشْهَدَ الْقَابِلَةُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ وُقُوعِ الْجَزَاءِ وِلَادَتُهَا وَهِيَ مِمَّا تَقِفُ عَلَيْهَا الْقَابِلَةُ فَلَا يُقْبَلُ فِيهَا مُجَرَّدُ قَوْلِهَا كَمَا لَا يُقْبَلُ فِي ثُبُوتِ نَسَبِ الْمَوْلُودِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ عَلَّقَ الْجَزَاءَ بِبُرُوزٍ مَوْجُودٍ فِي بَاطِنِهَا فَيُقْبَلُ فِيهِ خَبَرُهَا كَمَا لَوْ قَالَ إذَا حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَهَذَا؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْحَبَلِ قَدْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ أَوْ بِالْعِيَانِ فَإِذَا جَاءَتْ فَارِغَةً وَتَقُولُ قَدْ وَلَدْت فَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ لَهَا أَوْ يَتَيَقَّنُ بِوِلَادَتِهَا بِخِلَافِ النَّسَبِ؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهَا يَثْبُتُ مُجَرَّدُ الْوِلَادَةِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ تَعَيُّنُ هَذَا الْوَلَدِ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ وَلَدَتْ غَيْرَ هَذَا مِنْ وَلَدٍ مَيِّتٍ ثُمَّ يَزِيدُ حَمْلُ نَسَبِ هَذَا الْوَلَدِ عَلَيْهِ فَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي تَعْيِينِ الْوَلَدِ إلَّا بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ فَأَمَّا وُقُوعُ الْجَزَاءِ فَيَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْوِلَادَةِ أَيِّ وَلَدٍ كَانَ مِنْ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ وَقَدْ تَيَقَّنَّا بِالْوِلَادَةِ إذَا جَاءَتْ فَارِغَةً فَأَمَّا إذَا قَالَ لَهَا إذَا وَلَدْت فَكَذَا وَلَمْ يَكُنْ بِهَا حَبَلٌ ظَاهِرٌ وَلَمْ يُقِرَّ الزَّوْجُ بِأَنَّهَا حُبْلَى فَقَالَتْ وَلَدْت وَكَذَّبَهَا الزَّوْجُ لَا يَقَعُ الْجَزَاءُ بِقَوْلِهَا فَإِنْ شَهِدَتْ الْقَابِلَةُ بِالْوِلَادَةِ ثَبَتَ نَسَبُ الْمَوْلُودِ مِنْهُ بِشَهَادَتِهَا وَلَا يَقَعُ الْجَزَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله مَا لَمْ يَشْهَدْ بِالْوِلَادَةِ
لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِشَهَادَتِهَا وَقَدْ يَثْبُتُ الْوِلَادَةُ بِشَهَادَتِهَا فَيَثْبُتُ مَا كَانَ تَبَعًا لَهُ وَكَذَلِكَ قَالَا فِي اسْتِهْلَالِ الصَّبِيِّ إنَّهُ تَبَعٌ لِلْوِلَادَةِ فَأَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله فِيهِ بِحَقِيقَةِ الْقِيَاسِ أَنَّ الْوُجُودَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْطِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِكَمَالِ الْحُجَّةِ، وَالْوِلَادَةُ لَمْ يَثْبُتْ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ مُطْلَقًا فَلَا يَتَعَدَّى إلَى التَّوَابِعِ كَشَهَادَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَمَةَ ثَيِّبٌ وَقَدْ اشْتَرَاهَا رَجُلٌ عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ أَنَّهَا لَا تُرَدُّ عَلَى الْبَائِعِ بَلْ يُسْتَحْلَفُ الْبَائِعُ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَكَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
ــ
[كشف الأسرار]
رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ.
وَعِنْدَهُمَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ وَيَقَعُ مَا عَلَّقَ بِهِ أَيْ بِفِعْلِ الْوِلَادَةِ مِنْ الْجَزَاءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْ مُعَلَّقٌ بِالْوِلَادَةِ مِنْ الْجَزَاءِ غَيْرُ مَقْصُودٍ إثْبَاتُهُ بِشَهَادَتِهَا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِشَهَادَتِهَا ظُهُورُ الْوِلَادَةِ وَهُوَ مُعَرَّفٌ لَا يُضَافُ إلَيْهِ الْجَزَاءُ وُجُوبًا بِهِ وَلَا وُجُودًا عِنْدَهُ وَقَدْ تَثْبُتُ الْوِلَادَةُ بِشَهَادَتِهَا يَعْنِي فِي حَقِّ النَّسَبِ حَتَّى ثَبَتَ نَسَبُ الْمَوْلُودِ مِنْ الزَّوْجِ بِالْإِجْمَاعِ فَيَثْبُتُ مَا كَانَ تَبَعًا لَهُ أَيْ لِفِعْلِ الْوِلَادَةِ وَهُوَ الْجَزَاءُ الْمُعَلَّقُ بِهِ الْمُفْتَقِرُ ثُبُوتُهُ إلَيْهِ كَالْإِحْصَانِ لَمَّا ثَبَتَ بِشَهَادَةِ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ يَثْبُتُ مَا كَانَ تَبَعًا لَهُ وَهُوَ وُجُوبُ الرَّجْمِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ الرَّجْمُ بِشَهَادَةِ هَؤُلَاءِ قَصْدًا.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِجَارِيَتِهِ إنْ كَانَ بِهَا حَبَلٌ فَهُوَ مِنِّي فَشَهِدَتْ الْقَابِلَةُ عَلَى وِلَادَتِهَا صَارَتْ هِيَ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ وَلَدَتْ امْرَأَتُهُ وَلَدًا ثُمَّ قَالَ الزَّوْجُ لَيْسَ هُوَ مِنِّي وَلَا أَدْرِي وَلَدَتْهُ أَمْ لَا فَشَهِدَتْ الْقَابِلَةُ بِالْوِلَادَةِ حُكِمَ بِاللِّعَانِ بَيْنَهُمَا وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا أَوْ حُرًّا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَإِذَا جُعِلَتْ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ حُجَّةً فِي حُكْمِ اللِّعَانِ وَالْحَدِّ بِاعْتِبَارِ أَنَّ ثُبُوتَهَا بِشَهَادَتِهَا لَيْسَ بِطَرِيقِ الْقَصْدِ بَلْ يَثْبُتَانِ تَبَعًا فَلَأَنْ يُجْعَلَ حُجَّةً فِي حَقِّ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِهَذَا الطَّرِيقِ كَانَ أَوْلَى.
وَكَذَلِكَ قَالَا أَيْ وَكَمَا قَالَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ أَنَّهُمَا يَثْبُتَانِ بِشَهَادَتِهَا تَبَعًا لِلْوِلَادَةِ قَالَا يَثْبُتُ اسْتِهْلَالُ الصَّبِيِّ أَيْ حَيَاتُهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ بِشَهَادَتِهَا تَبَعًا لِلْوِلَادَةِ حَتَّى يَثْبُتَ الْإِرْثُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِهْلَالَ مُعَرِّفٌ؛ لِأَنَّ حَيَاةَ الْوَلَدِ الَّتِي بِهَا يَسْتَحِقُّ الْإِرْثَ لَا تَكُونُ مُضَافَةً إلَيْهِ وُجُوبًا بِهِ وَلَا وُجُودًا عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ حَيَاتَهُ سَابِقَةٌ عَلَى الْوِلَادَةِ وَلَكِنَّهَا غَيْرُ مَعْلُومَةٍ وَإِذَا كَانَ مُعَرَّفًا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ كَمَا يُقْبَلُ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ حَتَّى يُصَلَّى عَلَى الْمَوْلُودِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ عَلَى الِاسْتِهْلَالِ.
قَوْلُهُ (وَأَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله فِيهِ) أَيْ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَسْأَلَتَيْنِ بِحَقِيقَةِ الْقِيَاسِ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مَا قَالَا نَوْعُ اسْتِحْسَانٍ فَإِنَّ الْقَابِلَةَ شَهِدَتْ بِالْوِلَادَةِ دُونَ الطَّلَاقِ فَإِثْبَاتُ الطَّلَاقِ بِشَهَادَتِهَا عَلَى الْوِلَادَةِ لَا يَخْلُو عَنْ عُدُولٍ عَنْ الدَّلِيلِ الظَّاهِرِ وَبَيَانُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْوِلَادَةَ شَرْطٌ مَحْضٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ عِلَّةِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ حَقِيقَةً إلَى وُجُودِهِ كَدُخُولِ الدَّارِ وَغَيْرِهِ مِنْ الشَّرَائِطِ، وَالْوُجُودُ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْطِ أَيْ وُجُودُ الْمَشْرُوطِ مُتَعَلِّقٌ بِالشَّرْطِ كَمَا يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهُ بِالْعِلَّةِ فَكَانَ وُجُودُهُ مِنْ أَحْكَامِهِ وَكَانَ لَهُ شَبَهٌ بِالْعِلَّةِ فَكَمَا لَا يَثْبُتُ نَفْسُ الْمَشْرُوطِ وَهُوَ الطَّلَاقُ وَلَا عِلَّتُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ كَامِلَةٍ لَا يَثْبُتُ الشَّرْطُ إلَّا بِحُجَّةٍ كَامِلَةٍ لِتَعَلُّقِ وُجُودِهِ بِهِ ثُمَّ أَشَارَ إلَى الْجَوَابِ عَنْ كَلَامِهِمَا فَقَالَ وَالْوِلَادَةُ لَمْ تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ أَصْلِيَّةٍ بَلْ هِيَ حُجَّةٌ يُكْتَفَى بِهَا فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ.
وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ غَيْرُ ثَابِتٍ فِيمَا وَرَاءَ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَالضَّرُورَةُ هَاهُنَا فِي ثُبُوتِ نَفْسِ الْوِلَادَةِ وَمَا هُوَ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا تَنْفَكُّ الْوِلَادَةُ عَنْهَا كَالنَّسَبِ وَأُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ وَاللِّعَانِ عِنْدِ النَّفْيِ لِلْوَلَدِ فَتَثْبُتُ الْوِلَادَةُ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ فَأَمَّا الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالِاسْتِهْلَالُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[كشف الأسرار]
فَلَيْسَتْ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْوِلَادَةِ وَلَا أَثَرَ لِلْوِلَادَةِ فِي إثْبَاتِهَا فَلَا تَثْبُتُ الْوِلَادَةُ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ إلَّا بِحُجَّةٍ تَامَّةٍ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى التَّوَابِعِ أَيْ إلَى التَّوَابِعِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُخْتَصَّةِ بِهَا قَالَ الشَّيْخُ رحمه الله فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ فَتُقْبَلُ فِي أَصْلِ الْوِلَادَةِ لَا فِي وَصْفِهَا فَلَمْ يَثْبُتْ وَصْفُ كَوْنِهَا شَرْطًا فَلَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ النَّسَبُ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَتَعَلَّقُ ثُبُوتُهُ بِالْوِلَادَةِ بَلْ بِالْفِرَاشِ الْقَائِمِ وَقْتَ الْعُلُوقِ فَإِذَا شَهِدَتْ الْقَابِلَةُ عَلَى الْوِلَادَةِ ثَبَتَتْ بِشَهَادَتِهَا وَظَهَرَ أَنَّ النَّسَبَ كَانَ ثَابِتًا بِالْفِرَاشِ فَلَمْ يَكُنْ لِلْوِلَادَةِ اتِّصَالٌ بِالنَّسَبِ مِنْ وَجْهٍ فَلَمْ يَكُنْ نَظِيرَ الطَّلَاقِ.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله اسْتِهْلَالُ الْمَوْلُودِ فِي حُكْمِ الْإِرْثِ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ وَحْدَهَا؛ لِأَنَّ حَيَاةَ الْوَلَدِ كَانَتْ غَيْبًا عَنَّا وَإِنَّمَا يَظْهَرُ عِنْدَ اسْتِهْلَالِهِ فَتَصِيرُ مُضَافَةً لَهُ إلَيْهِ فِي حَقِّنَا وَالْإِرْثُ يَبْتَنِي عَلَيْهَا فَلَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ كَشَهَادَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى كَذَا
إذَا اشْتَرَى أَمَةً عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ ثُمَّ ادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّهَا ثَيِّبٌ وَأَنْكَرَ الْبَائِعُ فَالْقَاضِي يُرِيهَا النِّسَاءَ فَإِنْ قُلْنَ هِيَ بِكْرٌ فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُمَا وَإِنْ قُلْنَ هِيَ ثَيِّبٌ ثَبَتَ الْعَيْبُ فِي حَقِّ تَوَجُّهِ الْخُصُومَةِ دُونَ الرَّدِّ إلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الثُّيُوبَةَ لَمْ تَثْبُتَ مُطَلَّقَةً؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِسَبَبِ الْعَيْبِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فِي الْجُمْلَةِ فَلَمْ يَكُنْ شَهَادَتُهُنَّ حُجَّةً فِيهِ وَلَكِنَّ إثْبَاتَهُ فِي نَفْسِهَا مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالِ فَتَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِنَّ كَتَعَيُّنِ الْوَلَدِ فَيَثْبُتُ عَيْبُ إثْبَاتِهِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَيَصْلُحُ لِتَوَجُّهِ الْخُصُومَةِ لَا لِلرَّدِّ عَلَى الْبَائِعِ وَلَمَّا تَوَجَّهَتْ الْخُصُومَةُ وَلَا سَبِيلَ إلَى دَفْعِهَا إلَّا الِاسْتِحْلَافَ يَحْلِفُ الْبَائِعُ بَعْدَ الْقَبْضِ بِاَللَّهِ لَقَدْ سَلَّمْتهَا بِحُكْمِ الْبَيْعِ وَمَا بِهَا هَذَا الْعَيْبُ وَقَبْلَ الْقَبْضِ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا بِهَا هَذَا الْعَيْبُ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْمُشْتَرِي فِي الْحَالِ فَإِنْ حَلَفَ فَلَا خُصُومَةَ وَإِنْ نَكَلَ فَحِينَئِذٍ يُرَدُّ الْبَيْعُ
فَكَذَلِكَ هَاهُنَا الْوِلَادَةُ ثَابِتَةٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَتُجْعَلُ ثَابِتَةً فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ اللَّازِمَةِ لَهَا دُونَ غَيْرِهَا وَمِثْلُهُ الْبَيْعُ الثَّابِتُ مُقْتَضَى الْأَمْرِ بِالْإِعْتَاقِ فَإِنَّهُ ثَابِتٌ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْإِعْتَاقِ دُونَ خِيَارِ الْعَيْبِ وَالرُّؤْيَةِ وَسَائِرِ أَحْكَامِ الْبَيْعِ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ احْتِرَازٌ عَمَّا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّ الْخُصُومَةَ إنْ كَانَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ يُفْسَخُ الْعَقْدُ بِقَوْلِ النِّسَاءِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلَافِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَبْلَ الْقَبْضِ ضَعِيفٌ حَتَّى يَنْفَرِدَ الْمُشْتَرِي بِالرَّدِّ عِنْدَ ظُهُورِ الْعَيْبِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضَاءٍ وَلِلْقَبْضِ شَبَهٌ بِابْتِدَاءِ الْعَقْدِ لِثُبُوتِ مِلْكِ الْيَدِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ التِّجَارَاتِ بِهِ فَالرَّدُّ قَبْلَ الْقَبْضِ يُشْبِهُ الِامْتِنَاعَ مِنْ الْقَبُولِ فَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ فِيهِ إلَى نَقْلِ الضَّمَانِ مِنْ الْمُشْتَرِي إلَى الْبَائِعِ وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ تَامَّةٍ.
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ ضَرُورِيَّةٌ فَتُجْعَلُ حُجَّةً فِي سَمَاعِ الدَّعْوَى وَلَا يُفْصَلُ الْحُكْمُ بِهَا مَا لَمْ يَتَأَيَّدْ بِمُؤَيِّدٍ وَهُوَ نُكُولُ الْبَائِعِ وَأَمَّا قَبُولُ عَلِيٍّ رضي الله عنه شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ فِي الِاسْتِهْلَالِ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْقَبُولِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا قُبِلَتْ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَخَبَرُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ حُجَّةٌ تَامَّةٌ فِيهَا كَشَهَادَتِهَا عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ فَإِنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَلَا يَثْبُتُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي مَوْضِعٍ يَكُونُ الْمَشْهُودُ بِهِ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ