المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ تعريف الشرك وأقسامه: - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٣٧

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌ تمهيد

- ‌(العينة والتورق)

- ‌من مسائل السلم

- ‌الفتاوى

- ‌ إقامة احتفال بمناسبة مولده صلى الله عليه وسلم

- ‌ الوعظ في يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ التاريخ الصحيح لمولد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ الكتاب المسمى بالبردة المديح

- ‌ حضور الاحتفالات البدعية

- ‌من فتاوى سماحة الشيخ /عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله

- ‌ الصلاة خلف العاصي

- ‌ من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌ مراعاة المصالح العامة

- ‌ إزالة الشعر الذي ينبت في وجه المرأة

- ‌ ضرب الطالبات لغرض التعليم

- ‌(الوشم)

- ‌ التعاون بالجهر أفضل أم بالسر

- ‌ التعاون على البر والتقوى في البيت

- ‌ العلاج لمن يعصي ويتوب ثم يرجع إلى المعصية

- ‌النص المحقق

- ‌ تعريف الشرك وأقسامه:

- ‌الخاتمة

- ‌المبادرة والمسابقة إلى الأعمال الصالحةفي ضوء الكتاب والسنة

- ‌ المقدمة:

- ‌ الندب إلى المبادرة والمسابقة في الكتاب والسنة

- ‌ الحض على التسابق والتنافس في الباقيات الصالحاتوالتحذير من التنافس في الملذات والشهوات

- ‌ الرسول صلى الله عليه وسلم يتعهد أصحابه بالتربية والقدوة حتى يصبح السبقخلقا من أخلاقهم

- ‌ من نتائج المبادرة والمسابقة وآثارها على الصحابة رضي الله عنهم

- ‌ المبادرة والمسابقة فيها تنشيط للهمم وإذكاء للعزائم وبعث لروح المنافسة بوجود القدوة:

- ‌المراجع

- ‌بطلان علاماته التي ميزوه بها:

- ‌الوضع:

- ‌التبادر إلى الذهن حين الإطلاق:

- ‌صحة النفي:

- ‌اختلاف صيغة الجمع:

- ‌التوقف على المسمى الآخر:

- ‌ما كل ما جاز في اللغة جاز في القرآن:

- ‌المجاز باطل شرعا ولغة وعقلا:

- ‌كيفية وصول اللبن إلى الجوف:

- ‌حكم اللبن إذا خالط غيره أو تبدل طبعه:

- ‌حكم لبن الميتة:

- ‌حكم لبن البكر:

- ‌حكم لبن الرجل:

- ‌حكم لبن الفحل

- ‌ما يثبت به الرضاع:

- ‌المحرمات بسبب الرضاع:

- ‌حديث شريف

الفصل: ‌ تعريف الشرك وأقسامه:

تمهيد: في‌

‌ تعريف الشرك وأقسامه:

أولا: تعريف الشرك:

الشرك لغة: تقول شاركته في الأمر وشركته فيه أشركه شركا وشركة بفتح الأول وكسر الثاني فيها، ويخففان بكسر الأول وسكون الثاني، وذلك: إذا صرت له شريكا.

وأشركته: أي جعلته شريكا، قال تعالى:{وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} (1). أي اجعله شريكي فيه.

والشرك بالتخفيف أغلب في الاستعمال، ويكون مصدرا واسما، جمعه أشراك بمعنى النصيب كما في الحديث:«من أعتق شركا له في عبد (2)» . أي حصة ونصيبا، والشراك: سير النعل على ظهر القدم، يقال: أشركت نعلي وشركتها تشريكا: إذا جعلت لها الشراك.

والشرك بفتحتين حبالة الصائد، الواحدة منها شركة، والشركة أيضا معظم الطريق ووسطه جمعها شرك.

وقال الراغب الأصفهاني في مفرادته:

" الشركة والمشاركة خلط الملكين، وقيل: هو أن يوجد شيء لاثنين فصاعدا، عينا كان ذلك الشيء، أو معنى: كمشاركة الإنسان والفرس

(1) سورة طه الآية 32

(2)

رواه البخاري في العتق باب 4 برقم 2268، جـ 4، ص 281، ومسلم كتاب العتق، والإيمان: 47، 48، 51.

ص: 199

في الحيوانية. . . . . " (1).

وعبارة الراغب الثانية في شرح الشركة أعم من الأولى، لأن كون الشيء لاثنين يشمل ما كان لهما ملكا كالمال، أو وصفا كالبياض، أو جزءا ذاتيا كالحيوانية.

ومرجع مادة الشرك: إلى الخلط والضم.

فإذا كان بمعنى الحصة من الشيء يكون لواحد وباقيه لآخر أو آخرين كما في قوله تعالى. . . {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} (2) الآية فالشريك مخالط لشريكه وحصته منضمة لنصيب الآخر.

وإذا كان بمعنى الحبالة فإن ما يقع فيها من الحيوان يختلط بها وينضم إلى ملك الصائد.

وإذا كان بمعنى معظم الطريق فإن أرجل السائرين تختلط آثارها هنالك وينضم بعضها إلى بعض.

وإذا كان بمعنى سير النعل فإن النعل تنضم به إلى الرجل فيخلط بينهما.

ثم إن اجتماع الشركاء في شيء لا يقتضي تساوي أنصبائهم منه، فموسى عليه السلام سأل ربه إشراك أخيه في الرسالة وقد أجيب سؤاله لقوله تعالى:{قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} (3).

ومعلوم أن حظ هارون من الرسالة دون حظ موسى.

(1) المفردات للراغب الأصفهاني حرف الشين مع الراء ص 380.

(2)

سورة الأحقاف الآية 4

(3)

سورة طه الآية 36

ص: 200

ولهذا تقول: فلان شريك لفلان في دار أو بضاعة ولو لم يكن له إلا معشار العشر، هذا في الحسيات، ومثله في المعنويات تقول: الأبوان شريكان في طاعة ابنهما لهما وإن كان حق الأم في الطاعة أقوى، وتقول: أبنائي شركاء في محبتي، وأنت تحب بعضهم أشد من بعض، هذا تقرير معنى الشرك لغة (1).

وأما في الشرع: فالشرك: هو كل ما ناقض التوحيد أو قدح فيه مما ورد في الكتاب أو السنة تسميته شركا (2).

ثانيا: أقسام الشرك: الشرك قسمان:

(الأول): الشرك الأكبر: وهو أن يجعل الإنسان لله ندا في ربوبيته أو ألوهيته أو أسمائه وصفاته (3).

حكمه: الشرك الأكبر يخرج من الملة وصاحبه حلال الدم والمال، وفي الآخرة يخلد في النار.

قال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} (4) الآية.

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (5) الآية.

وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} (6)

(1) انظر: رسالة في الشرك ومظاهره ص 61 - 62.

(2)

انظر عقيدة المؤمن ص 105.

(3)

انظر: معارج القبول جـ 2 ص 483 وفتاوى اللجنة جـ 1 ص 516 - 517.

(4)

سورة التوبة الآية 5

(5)

سورة النساء الآية 48

(6)

سورة المائدة الآية 72

ص: 201

{وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (1).

ضرره: لهذا الشرك أضرار كثيرة منها:

1 -

أنه يحبط العمل قال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) وقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3).

2 -

أن صاحبه خالد مخلد في النار لا يغفر الله له إلا بالتوبة، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (4) الآية، وقال تعالى:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار} (5)، وقال تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (6) الآية.

3 -

أن هذا المشرك حلال الدم والمال، لقوله تعالى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (7)

(1) سورة المائدة الآية 72

(2)

سورة الأنعام الآية 88

(3)

سورة الزمر الآية 65

(4)

سورة النساء الآية 48

(5)

سورة المائدة الآية 72

(6)

سورة الأنفال الآية 38

(7)

سورة التوبة الآية 5

ص: 202

الآية. وقوله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله (1)» ، وتحرم مناكحته لقوله تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} (2) الآية.

كما تحرم ذبيحته لقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (3) الآية. ويستثنى أهل الكتاب، فحرائر نسائهم العفيفات (4) غير المحاربات، وذبائحهم حلال لقوله تعالى:{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} (5) الآية.

كما أن المشرك لا يرث ولا يورث بل ماله لبيت المال، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين.

(1) رواه البخاري في الإيمان باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة جـ 1 ص 70 - 71. ومسلم في الإيمان باب الأمر بقتال الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله برقم 22 إلا أن مسلما لم يذكر " إلا بحق الإسلام " وانظر: جامع الأصول حديث 35 جـ 1 ص 245.

(2)

سورة البقرة الآية 221

(3)

سورة الأنعام الآية 121

(4)

انظر المغني لابن قدامة جـ 9 ص 545. وفتح القدير جـ 2 ص 15.

(5)

سورة المائدة الآية 5

ص: 203

4 -

أن المشرك قد ارتكب أعظم جريمة وأفظع ظلم، يقول سبحانه وتعالى:{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} (1).

وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (2).

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: " أن تجعل لله ندا وهو خلقك (4)» . الثاني: الشرك الأصغر.

أ - تعريفه: هو كل ما نهى عنه الشرع مما هو ذريعة إلى الشرك الأكبر ووسيلة للوقوع فيه وجاء في النصوص تسميته شركا (5).

ب - حكمه: محرم بل وأكبر الكبائر بعد الشرك الأكبر، لكنه لا يخرج من ارتكبه من ملة الإسلام (6).

ولذا ورد التحذير منه في الكتاب والسنة.

فمن الكتاب قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (7)

(1) سورة النساء الآية 48

(2)

سورة لقمان الآية 13

(3)

رواه البخاري في التوحيد 40، 46 - ومسلم في الإيمان 141، 142. وأبو داود في الطلاق 50 - والترمذي في تفسير سورة الفرقان - 1، 2 - والنسائي في الإيمان 6. وانظر: جامع الأصول حديث 738 جـ 2 ص 285 - ص 286.

(4)

انظر: تفسير ابن كثير جـ 1 ص 508، العقيدة في الله ص 238، فتاوى اللجنة جـ 1 ص 517، ص 519 - 520 (3)

(5)

فتاوى اللجنة جـ 1 ص 517 وانظر: الكواشف الجلية ص 186.

(6)

العقيدة في صفحات ص 41، فتاوى اللجنة جـ 1 ص 518.

(7)

سورة الكهف الآية 110

ص: 204

وقوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1).

والآية في الأكبر إلا أن السلف كابن عباس كانوا يحتجون بها في الأصغر، لأن الكل شرك (2).

وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} (3).

قال مجاهد: هم أهل الرياء (4). ومعلوم أن الرياء هو رأس الشرك الأصغر.

ومن السنة قوله تعالى في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه (5)» . وقوله صلى الله عليه وسلم: «أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الأصغر (6)» . . . الحديث.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر المسيح الدجال فقال: " ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قال: فقلنا: بلى يا رسول الله. قال: الشرك الخفي. . . (7)» الحديث.

(1) سورة البقرة الآية 22

(2)

تيسير العزيز الحميد ص 522 - 523.

(3)

سورة فاطر الآية 10

(4)

انظر: الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر جـ 1 ص 31.

(5)

رواه مسلم في الزهد باب من أشرك في عمله غير الله برقم 2985، وابن ماجه في الزهد باب 21 جـ 2 ص 426 برقم 4255 وانظر: جامع الأصول حديث 2651.

(6)

رواه الإمام أحمد جـ 5، ص 428، 429.

(7)

رواه أحمد في المسند جـ 3 ص 30، وابن ماجه في الزهد باب 21 جـ 2 ص 427 برقم 4257 وإسناده حسن، انظر مشكاة المصابيح حديث 5333 جـ 2 ص 687 " الحاشية ".

ص: 205

جـ - ضرره: من أضرار الشرك الأصغر أنه يبطل ثواب العمل، وقد يعاقب عليه إذا كان العمل واجبا، فإنه ينزله منزلة من لم يعمله، فيعاقب على ترك الأمر، فإن الله سبحانه إنما أمر بعبادة خالصة قال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (1) الآية. فمن لم يخلص لله في عبادته لم يفعل ما أمر به بل الذي أتى به شيء غير المأمور به فلا يصح، ولا يقبل منه. يقول تعالى - في الحديث القدسي -:«أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك فيه معي غيري فهو للذي أشرك به وأنا منه بريء (3)» .

كذلك من أضراره أنه وسيلة قد تؤدي بصاحبها إلى الشرك الأكبر.

د - الفرق بينه وبين الشرك الأكبر.

هناك فروق بين الشرك الأكبر والأصغر، منها:

أولا: أن الأكبر لا يغفر الله لصاحبه، وأما الأصغر فتحت المشيئة. ثانيا: الأكبر محبط لجميع الأعمال، وأما الأصغر فلا يحبط إلا العمل الذي قارنه.

ثالثا: أن الأكبر مخرج عن الملة الإسلامية، وأما الأصغر فلا يخرج منها ولذا فمن أحكامه أن يعامل معاملة المسلمين. فيناكح، وتؤكل ذبيحته ويرث ويورث ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين.

رابعا: أن الشرك الأكبر صاحبه خالد مخلد في النار، وأما الأصغر فلا

(1) سورة البينة الآية 5

(2)

سبق تخريجه.

(3)

انظر الجواب الكافي ص 155. (2)

ص: 206

يخلد في النار إن دخلها كسائر مرتكبي الكبائر (1).

هـ: أنواع الشرك الأصغر. وفيه فصلان:

الفصل الأول: الشرك في النيات والمقاصد. وفيه مبحثان:

المبحث الأول: الرياء.

أولا: تعريفه.

الرياء: لغة: مصدر راءى يرائي، تقول: رائيت الرجل مراءاة ورياء: أي أريته أني على خلاف ما أنا عليه (2).

وفي الشرع: عرف بتعاريف كثيرة (3) متقاربة في المعنى أولاها: تعريف ابن حجر حيث قال: " الرياء هو إظهار العبادة لقصد رؤية الناس فيحمدوا صاحبها "(4).

الفرق بين الرياء والسمعة

السمعة: لغة: مشتقة من الإسماع والمراد بها: الذكر. يقال: فعله رياء وسمعة أي ليراه الناس ويسمعوه فيحصل على الصيت والذكر (5).

وفي الشرع: يراد بها نحو ما يراد بالرياء، لكنها تتعلق بحاسة السمع والرياء بحاسة البصر (6).

(1) الكواشف الجلية عن معاني الواسطية ص 187، وفتاوى اللجنة جـ 1 ص 518.

(2)

انظر: لسان العرب مادة رأي - جـ 1، ص 1094.

(3)

انظر: تفسير القرطبي جـ 2، ص 212، قواعد الأحكام جـ 1، ص 147، وتيسير العزيز الحميد ص 464.

(4)

فتح الباري جـ 11، ص 336.

(5)

انظر: لسان العرب مادة سمع جـ 2 ص 203 - 204 والقاموس المحيط جـ 3 ص 40.

(6)

فتح الباري جـ 11، ص 336.

ص: 207

ثانيا: حكمه: الرياء إما أن يدخل في أساس العمل أو في تحسينه. فإن دخل في أساس العمل - بمعنى أنه لا يأتي بأصل العبادة كالصلاة والزكاة والصوم إلا رياء ولولا ذلك ما صلى ولا صام ولا ذكر الله - فهو مشرك شركا أكبر وهو من المنافقين الذين قال الله فيهم {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (1){مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} (2) إلى أن قال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (3){إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (4).

وإن دخل في تحسين العمل - بمعنى أن العامل إنما أراد بعمله وجه الله تعالى لكن حسنه رياء كأن يطيل في الصلاة ليراه الناس، أو يرفع صوته بالقراءة أو الذكر ليسمعه الناس فيحمدوه - فإن الرياء في هذه الحالة يعتبر شركا أصغر لا يخرج صاحبه من الملة إذ المراد بالرياء (الذي هو شرك أصغر) هو يسير الرياء الداخل في تحسين العمل المراد به وجه الله تعالى (5).

لكن هذا الرياء - الذي هو شرك أصغر - هل يبطل العمل الذي قارنه أم لا؟ إن قارن العبادة من بدايتها واستمر فالنصوص الصحيحة تدل

(1) سورة النساء الآية 142

(2)

سورة النساء الآية 143

(3)

سورة النساء الآية 145

(4)

سورة النساء الآية 146

(5)

انظر: فتاوى اللجنة جـ 1 ص 517 - 518، فتح المجيد ص 369 - 370، 200 سؤال وجواب حافظ حكمي ص 16.

ص: 208

على بطلانها كقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (1).

وقوله تعالى في الحديث القدسي الذي رواه أبو هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه (2)» .

وإن كان الدافع للعبادة وجه الله تعالى وحده لكن طرأ عليه نية الرياء، فإن كان خاطرا ثم دفعه فلا يضره بغير خلاف وإن استرسل معه نقص العمل وحصل لصاحبه من ضعف الإخلاص بحسب ما قام في قلبه من الرياء، لكن لا يحبط العمل على القول الراجح من أقوال العلماء. والله أعلم.

ثالثا: بعض ما ورد من النصوص في ذم الرياء والتحذير منه:

أ - من الكتاب:

يقول عز وجل محذرا من الشرك - ومعلوم أن الرياء من الشرك - {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (3).

(1) سورة الكهف الآية 110

(2)

رواه مسلم في الزهد باب من أشرك في عمله غير الله حديث 2985 وابن ماجه في الزهد باب 21جـ 2 ص 426 برقم 4255. وانظر: جامع الأصول حديث 2651.

(3)

سورة الكهف الآية 110

ص: 209

ويقول عز وجل محذرا عباده المؤمنين أن يبطلوا صدقاتهم بالمن والأذى كما يبطل المرائي عمله بالرياء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} (1) الآية.

ويقول عز من قائل مبينا أن الرياء من صفات المنافقين: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (2).

ويقول سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} (3).

قال مجاهد: هم أهل الرياء (4).

والآية - كما نرى - وعيد لهم بالعذاب الشديد.

ويقول سبحانه متوعدا الساهين عن صلاتهم المرائين فيها بويل وهو واد في جهنم - أعاذنا الله منه -: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} (5){الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} (6){الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} (7).

ب - من السنة:

1 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا - «قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته

(1) سورة البقرة الآية 264

(2)

سورة النساء الآية 142

(3)

سورة فاطر الآية 10

(4)

انظر: الزواجر لابن حجر جـ 1 ص 31.

(5)

سورة الماعون الآية 4

(6)

سورة الماعون الآية 5

(7)

سورة الماعون الآية 6

ص: 210

وشركه (1)».

2 -

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر المسيح الدجال، فقال: " ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قال: فقلنا: بلى يا رسول الله، قال: الشرك الخفي أن يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل (2)» .

3 -

وعن أسامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان، ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه (3)» .

4 -

وعن شداد بن أوس مرفوعا «من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك، وإن الله عز وجل يقول: أنا خير قسيم لمن أشرك بي فمن أشرك بي شيئا فإن حشده عمله

(1) رواه مسلم في الزهد باب من أشرك في عمله غير الله برقم 2985 وابن ماجه في الزهد باب 21 جـ 2، ص 426 برقم 4255، وانظر جامع الأصول حديث 2651.

(2)

رواه الإمام أحمد في المسند جـ 3، ص 30 وابن ماجه في الزهد باب 21 جـ 2، ص 427 برقم 4257. وإسناده حسن انظر: مشكاة المصابيح حديث 5333، جـ 2، ص 687 (الحاشية).

(3)

رواه البخاري في بدء الخلق 10، وفي الفتن 17، ومسلم في الزهد 51، وأحمد جـ 5 ص205، 207، 209.

ص: 211

قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به أنا عنه غني (1)».

5 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتي به فعرفه نعمته فعرفها، قال: فما عملت بها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء! فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال: قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار (2)» .

(1) رواه الإمام أحمد في المسند جـ 4 ص 126، وأبو داود الطيالسي ص 153، وروى الطبراني في الكبير الحديث إلى قوله (فقد أشرك) برقم 7139 جـ 7، ص 337 - 338. والحاكم في المستدرك، والبيهقي في شعب الإيمان عن شداد بن أوس انظر: كنز العمال حديث 7528، ومشكاة المصابيح حديث 5331.

(2)

رواه مسلم برقم 1905 في الإمارة باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار، والترمذي برقم 2383 في الزهد باب ما جاء في الرياء والسمعة، والنسائي جـ 6/ 23 - 24 في الجهاد باب من قاتل ليقال فلان جريء، وانظر جامع الأصول حديث 2645.

ص: 212

6 -

وعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سمع سمع الله به ومن يرائي يرائي الله به (1)» . ومعناه: من أظهر للناس العمل الصالح ليعظم عندهم أظهر الله سريرته على رؤوس الخلائق (2).

7 -

وعن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أخوف ما أتخوف على أمتي الإشراك بالله، أما إني لست أقول: يعبدون شمسا ولا قمرا ولا وثنا، ولكن أعمالا لغير الله وشهوة خفية (3)» . هذه بعض النصوص من الكتاب والسنة، التي تحذر من الرياء، وتبين خطره على عقيدة المسلم.

رابعا: أمثلة لبيان بعض ما يرائي به المراءون:

مما يرائي به المراءون في الغالب ما يلي:

أ - الرياء من جهة البدن: كأن يرائي بإظهار النحول والصفار ليوهم الناس أنه جاد في العبادة كثير الخوف والحزن، أو يرائي بتشعيث الشعر ليظهر أنه مستغرق في هم الدين لا يتفرغ لتسريح شعره، أو يرائي بحلق الشارب واستئصال الشعر ليظهر بذلك تتبع زي العباد

(1) رواه البخاري في صحيحه جـ 11 ص 288 كتاب الرقاق باب الرياء والسمعة. ومسلم في الزهد باب من أشرك في عمله غير الله برقم 2987. وابن ماجه برقم 4260.

(2)

انظر: الكفر والمكفرات ص 24.

(3)

رواه ابن ماجه في الزهد باب 21 برقم 4205 جـ 2 ص 427، والإمام أحمد في مسنده، والحاكم في المستدرك، وأبو نعيم في الحلية، والطبراني في الكبير، والبيهقي في شعب الإيمان (بنحوه) انظر كنز العمال حديث (7489، 7505).

ص: 213

والنساك، أو يرائي بخفض الصوت وإغارة العينين وذبول الشفتين ليدلك على أنه مواظب على الصوم.

ب - الرياء من جهة الزي: كإبقاء أثر السجود على جبهته، ولبس الغليظ من الثياب وخشنها مع تشميرها كثيرا ليقال عابد زاهد، أو ارتداء نوع معين من الزي ترتديه طائفة يعدهم الناس علماء ليقال عالم.

ج - الرياء من جهة القول: كالرياء بالوعظ والتذكير وحفظ الأخبار والآثار لأجل المحاورة وإظهار غزارة العلم، وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس، وإظهار الغضب للمنكرات بين الناس، وخفض الصوت وترقيقه بقراءة القرآن ليدل بذلك على الخوف والحزن ونحو ذلك.

د - الرياء بالعمل: كمراءاة المصلي بطول القيام وتطويل الركوع والسجود وإظهار الخشوع ونحو ذلك، وكذلك المراءاة بالصوم والغزو والحج والصدقة ونحو ذلك.

هـ - الرياء بالأصحاب والزائرين: كالذي يتكلف أن يستزير عالما أو عابدا ليقال، إن فلانا قد زار فلانا، ودعوة الناس لزيارته كي يقال: إن أهل الخير يترددون عليه، وكذلك من يرائي بكثرة الشيوخ ليقال: لقي فلان شيوخا كثيرين واستفاد منهم فيباهي بذلك.

ص: 214

هذه مجامع ما يرائي به المراءون - غالبا - يطلبون بذلك الجاه والمنزلة في قلوب العباد (1).

خامسا: مضار الرياء:

للرياء مضار كثيرة منها ما يلي:

1 -

الرياء إما أن يكون شركا أكبر كرياء المنافقين، أو يكون شركا أصغر، فإن كان شركا أكبر فإن أغلب مضار الشرك الأكبر تعتبر مضارا له.

كعدم المغفرة له إذا مات على هذه الحالة كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (2). وكونه من أهل النار كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (3).

وإن كان شركا أصغر فإنه يحبط العمل الذي يصاحبه لما روى أبو هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم: «قال تبارك وتعالى: " أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه (4)» .

2 -

كذلك من مضاره أنه وسيلة قد تفضي بصاحبها إلى الشرك الأكبر.

(1) انظر: مختصر منهاج القاصدين ص 215 - 217. مقاصد المكلفين ص 442 - 443. فتح المجيد ص 369 - 370.

(2)

سورة النساء الآية 48

(3)

سورة النساء الآية 145

(4)

رواه مسلم في الزهد باب من أشرك في عمله غير الله برقم 2985 وابن ماجه في الزهد باب 21 جـ 2، ص 426 برقم 4255، وانظر جامع الأصول حديث 2651.

ص: 215

3 -

كذلك من مضاره أنه قد يفضي بصاحبه إلى استهزاء الناس به، كما حكي أن طاهر بن الحسين قال لعبد الله بن المروزي: منذ كم صرت إلى العراق يا أبا عبد الله؟ قال: دخلت العراق منذ عشرين سنة وأنا منذ ثلاثين سنة صائم فقال: يا أبا عبد الله: سألناك عن مسألة، فأجبتنا عن مسألتين. وحكى الأصمعي أن أعرابيا صلى فأطال، وإلى جانبه قوم، فقالوا ما أحسن صلاتك! فقال: وأنا مع ذلك صائم.

سادسا: علاجه:

عرفنا آنفا أن من أضرار الرياء إحباط العمل ووسيلة قد تفضي بصاحبها إلى الشرك الأكبر، وإذا كانت هذه حالته فجدير بالمسلم أن يجد في إزالته وأن يبحث عن علاج يقيه هذا المرض الخطير، ومن وسائل علاجه ما يلي:

1 -

تعظيم الله سبحانه ومراقبته في كل عمل وتقديم ذلك على تعظيم الناس ومراقبتهم وعدم المبالاة بما يترتب على ذلك من فوت الحمد أو وجود الذم، وذلك أن من أسباب الرياء حب الحمد والخوف من الذم، فيعظم الناس ويراقبهم في عمله ليحصل على المدح والثناء، وإذا انتفى السبب انتفى المسبب.

ص: 216

2 -

الاستعانة بالله على الإخلاص ودعاؤه والتعوذ به من الرياء. قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} (1) فإليه الملجأ والمفر من كل مرض يفسد إخلاصنا ويبطل أعمالنا وهو المستعان وحده في دفع كل مكروه وفي فعل كل مأمور يقول تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (2).

كما أرشدنا عليه الصلاة والسلام إلى طريقة للتخلص من هذا المرض وذلك بأن نتعوذ به سبحانه وتعالى، ففي الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:«أيها الناس اتقوا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل ": قالوا: وكيف نتقيه يا رسول الله؟ قال: " قولوا: اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه (3)» .

3 -

معرفة الرياء وأسبابه (4)، ثم التحرز منه دائما، وذلك أن الإنسان قد يؤتى من جهله، وقد يؤتى من قلة حذره.

4 -

معرفة عاقبة الرياء في الدنيا.

فإن مما ينفي الرياء ويكرهه أن يعلم المرائي أن رياءه لن يجلب له نفع الناس، ولن يدفع عنه ضررهم، بل قد يجلب له سخطهم وكراهيتهم ومقتهم له، وذلك معاملة من الله له بنقيض قصده. يقول عمر - رضي

(1) سورة الذاريات الآية 50

(2)

سورة الفاتحة الآية 5

(3)

رواه أحمد في مسنده جـ 4/ 403 والطبراني عن أبي موسى. كنز العمال حديث 7521، وهو حديث صحيح انظر: صحيح الجامع الصغير للألباني حديث 3625.

(4)

أسباب الرياء أرجعها الحارث المحاسبي إلى حب المحمدة وخوف المذمة - انظر: الرعاية للمحاسبي ص 139.

ص: 217

الله عنه -: " ومن تزين بما ليس فيه شانه الله ". كما يجلب له كراهية الله وسخطه ومقته وما يترتب على ذلك من التعاسة في الدنيا فيخسر الدنيا والآخرة، فإذا علم المرائي أن هذه هي عاقبة الرياء في الدنيا، وأن النفع والمنع بيد الله وحده فإنه جدير بالحذر من الرياء لانتفاء السبب الدافع إلى الرياء وهو جلب النفع أو دفع الضر، وكذلك الخوف من هذه العاقبة للمرائي.

5 -

معرفة عاقبة الرياء في الآخرة.

كذلك مما يدفع الرياء معرفة عاقبته في الآخرة، والتي منها: رد عمله كما في حديث الثلاثة (1) الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة مع أنهم كانوا فعالين للخير إلا أنهم لم يريدوا به وجه الله وإنما أرادوا به العباد، وفضيحته، كما في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من سمع سمع الله به ومن يرائي يرائي الله به (2)» .

يقول ابن حجر: قال الخطابي: " معناه: من عمل عملا على غير إخلاص وإنما يريد أن يراه الناس ويسمعوه جوزي على ذلك بأن يشهره الله ويفضحه ويظهر ما كان يبطنه "(3). فإذا علم الإنسان أن هناك يوم حساب، وعلم شدة حاجته في ذلك اليوم إلى العمل الصالح، وعلم

(1) سبق في النصوص التي تحذر من الرياء ص 16 - 17.

(2)

رواه البخاري في صحيحه جـ 11 ص 288 كتاب الرقاق باب الرياء والسمعة. ومسلم في الزهد باب من أشرك في عمله غير الله برقم 2987. وابن ماجه برقم 4260.

(3)

فتح الباري جـ 11 ص 336.

ص: 218

عاقبة الرياء غلب على نفسه الحذر من الرياء كي يقبل عمله وكيلا ينفضح في ذلك اليوم.

6 -

كتمان العمل وإسراره.

كذلك ومن وسائل الوقاية من الرياء كتمان العمل وإسراره، حتى لا يخالطه رياء ولا يكون للشيطان مدخل يشوش على صاحبه في نيته.

وقد نص سبحانه وتعالى على أفضلية الصدقة المخفاة على صدقة العلانية في قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (1)«وعد صلى الله عليه وسلم المسر بالصدقة حتى لا تعلم شماله ما تنفق - يمينه أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله (2)» .

ويروى إنه قيل لبعضهم: ما دواء الرياء؟

قال: كتمان العمل، قيل له: فكيف يكتم العمل؟ قال: ما كلفت إظهاره من العمل فلا تدخل فيه إلا بالإخلاص، وما لم تكلف إظهاره أحب أن لا يطلع عليه إلا الله (3).

وقد خص العلماء أفضلية الإخفاء بالنوافل دون الفرائض (4).

واستثنى بعض العلماء أولئك الذين يقتدى بهم، فهؤلاء يستحب في حقهم الإعلان دون الإسرار بشرط أن يأمنوا على أنفسهم الرياء، وقد فصل

(1) سورة البقرة الآية 271

(2)

صحيح البخاري الأذان (660)، صحيح مسلم الزكاة (1031)، سنن الترمذي الزهد (2391)، سنن النسائي آداب القضاة (5380)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 439)، موطأ مالك الجامع (1777).

(3)

الكفر والمكفرات ص 38.

(4)

تفسير القرطبي جـ 3/ 332.

ص: 219

القول في هذه المسألة العز ابن عبد السلام رحمه الله حيث قال: فإن قيل: هل الإخفاء أفضل من الإعلان لما فيه من اجتناب الرياء أم لا؟ فالجواب:

أن الطاعات ثلاثة أضرب: أحدها: ما شرع مجهورا كالأذان والإقامة. . . وإقامة الجمعة والجماعات والأعياد والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. . . فهذا لا يمكن إخفاؤه، فإن خاف فاعله الرياء جاهد نفسه في دفعه إلى أن تحضره نية الإخلاص فيأتي به مخلصا كما شرع.

الثاني: ما يكون إسراره خيرا من إعلانه كإسرار القراءة في الصلاة، أو إسرار أذكارها، فهذا إسراره خير من إعلانه.

الثالث: ما يخفى تارة ويظهر أخرى كالصدقات، فإن خاف على نفسه الرياء. . . كان الإخفاء أفضل من الإبداء لقوله تعالى {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (1).

ومن أمن الرياء فله حالان:

إحداهما: ألا يكون ممن يقتدى به، فإخفاؤها أفضل إذ لا يأمن الرياء عند الإظهار.

(1) سورة البقرة الآية 271

ص: 220

والثاني: أن يكون ممن يقتدى به، فالإبداء أولى لما فيه من سد خلة الفقراء مع مصلحة الاقتداء، فيكون قد نفع الفقراء بصدقته وبتسببه إلى تصدق الأغنياء عليهم، وقد نفع الأغنياء بتسببه إلى اقتدائهم به في نفع الفقراء.

سابعا: في بيان بعض الأمور التي يظن أنها من الرياء وهي ليست منه.

اعلم - رحمك الله - أن هناك أمورا يعملها العبد قد يظنها البعض أنها من الرياء وهي ليست منه، أحببت التنبيه عليها رفعا للبس.

منها ما يلي:

1 -

تحسين الثوب الذي يلبسه الإنسان عند الخروج إلى الناس إنما هو ليراه الناس، وكذلك كل تجمل لأجلهم، ولا يقال: إنه من الرياء أو منهي عنه، حيث إن كثيرا من الناس لا يحبون أن يراهم أحد بعين نقص في أي حال، ومن الناس من يؤثر إظهار نعمة الله عليه - كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك في الحديث الذي رواه ابن مسعود أنه قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله

ص: 221

حسنا، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس (1)».

2 -

كذلك كتمان الذنوب وعدم إظهارها لا يعتبر من الرياء، بل هو واجب شرعي، لأن الله يكره ظهور المعاصي ويحب سترها فعن ابن عمر مرفوعا قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله وليتب إلى الله، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله (2)» .

3 -

كذلك نشاط العبد بالعبادة عند رؤية العابدين، كأن يبيت الرجل مع المتهجدين فيصلون أكثر الليل وعادته قيام ساعة فيوافقهم، أو يصومون فيصوم، ولولا الله ثم هم ما انبعث هذا النشاط، هذا ليس رياء على الإطلاق بل فيه تفصيل، ولمعرفة العبد ذلك عليه في مثل هذه الحالة أن يمثل القوم في مكان يراهم ولا يرونه فإذا رأى نفسه تسخو بالتعبد فهو لله وليس رياء، وإن لم تسخ كان سخاؤها عندهم رياء، وعلى هذا فقس (3).

(1) رواه مسلم برقم 91 في الإيمان باب تحريم الكبر وبيانه، وأبو داود برقم 4091 في الأدب باب ما جاء في الكبر، والترمذي برقم 1999 في البر والصلة باب ما جاء في الكبر، وانظر: جامع الأصول حديث 8210.

(2)

أخرجه الحاكم في المستدرك جـ 4/ 383 من حديث ابن عمر. والموطأ جـ 2/ 825 مرسلا في الحدود باب في من اعترف على نفسه بالزنى عن زيد بن أسلم (بنحوه) وانظر جامع الأصول حديث 1926.

(3)

انظر: مختصر منهاج القاصدين ص 217 - 224، العقيدة في صفحات ص 44 - 45.

ص: 222

4 -

كذلك إذا عمل العبد العمل لله خالصا ثم ألقى الله له الثناء الحسن في قلوب المؤمنين ففرح بفضل الله ورحمته لم يضره ذلك ولم يعد ذلك من الرياء، قال تعالى:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (1). وعن أبي ذر «أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يعمل العمل من الخير فيحمده الناس عليه، فقال: " تلك عاجل بشرى المؤمن (2)» .

المبحث الثاني: إرادة الإنسان بعمله الدنيا.

المراد به: هو أن يعمل الإنسان أعمالا صالحة يريد بها الدنيا، إما قصد المال أو الجاه، كالذي يجاهد أو يتعلم العلم ليأخذ مالا، أو ليحتل منصبا، أو يتعلم القرآن، أو يواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد، أو نحو ذلك من الأعمال الصالحة لكن نيته الحصول على مصالح دنيوية لا لطلب مرضاة الله.

الفرق بينه وبين الرياء:

قد يظن البعض أن هذا المبحث داخل في الرياء وأن هذا مجرد تكرار وهو ظن خاطئ، وذلك أن المرائي إنما يعمل لأجل المدح والثناء، والمريد بعمله الدنيا يعمل لدنيا يصيبها كالمال أو المنصب (3).

(1) سورة يونس الآية 58

(2)

رواه مسلم في البر 166، وأحمد في مسنده جـ 5 / ص 156 - 157، ص 68 وابن ماجه في الزهد باب 25 جـ 2/ 430 برقم 4225.

(3)

تيسير العزيز الحميد ص 273 (بتصرف).

ص: 223

حكمه: العمل لأجل الدنيا لا يخلو من ثلاثة أمور:

الأول: أن تكون إرادة العبد من عمله كلها منحصرة في العمل لأجل الدنيا ولولا هذا المقصد لم يعمل، وهذا ليس له في الآخرة نصيب، وذلك أن العمل على هذا الوصف لا يصدر من مؤمن فإن المؤمن وإن كان ضعيف الإيمان فإنه لا بد أن يريد الله والدار الآخرة وإن كان يريد مع ذلك الدنيا.

الثاني: أن تكون إرادته من عمله وجه الله والدنيا، والقصدان متساويان أو متقاربان، وهذا شرك أصغر مناف لكمال التوحيد يحبط الأعمال التي قارنها، وذلك لأن إخلاص العمل لوجه الله شرط من شروط صحة العبادة، فإذا كان مراد العامل من عمله وجه الله والدنيا فقد اختل شرط الإخلاص ففسد العمل.

الثالث: أن تكون إرادة العبد من عمله وجه الله وحده وأخلص فيه إخلاصا تاما، لكنه يأخذ على عمله جعلا معلوما يستعين به على العمل كالجعالات التي تجعل على أعمال الخير كالمجاهد الذي يترتب على جهاده غنيمة أو رزق، وكالأوقاف التي تجعل على المساجد والمدارس والوظائف الدينية والدنيوية النافعة لمن يقوم بها.

فهذا لا يضر أخذه في إيمان العبد وتوحيده لكونه لم يرد بعمله الدنيا وإنما أراد الدين، وقصده أن يكون ما حصل له معينا له على قيام الدين، ولهذا جعل الله تعالى في الأموال الشرعية كالزكاة وأموال الفيء وغيرها جزءا

ص: 224

لمن يقوم بالوظائف الدينية والدنيوية النافعة. والله أعلم.

الأدلة على تحريمه

نظرا لأن العمل لأجل الدنيا مناف للإخلاص، لذا جاء التحذير منه في نصوص كثيرة من الكتاب والسنة، منها ما يلي:

من الكتاب: قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} (1){أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2).

يخبر سبحانه وتعالى في هاتين الآيتين أن من قصد بعمله الحصول على مطامع الدنيا فقط فإن الله يوفر له ثواب عمله في الدنيا بالصحة والسرور في الأهل والمال والولد، وهذا مقيد بالمشيئة (3) كما في قوله تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} (4) الآية وهؤلاء ليس لهم في الآخرة إلا النار، لأنهم لم يعملوا ما يخلصهم أما أعمالهم التي عملوها فإنها باطلة لا ثواب لها؛ لأنهم لم يريدوا بها الآخرة.

قال قتادة: يقول تعالى: من كانت الدنيا همه وطلبته ونيته جازاه الله بحسناته في الدنيا ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء، وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة (5).

(1) سورة هود الآية 15

(2)

سورة هود الآية 16

(3)

انظر مختصر شعب الإيمان ص 92 (الحاشية).

(4)

سورة الإسراء الآية 18

(5)

انظر: تفسير ابن كثير جـ 2 ص 439.

ص: 225

وقد سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن هذه الآية، فأجاب بما ملخصه: ذكر عن السلف في معنى هذه الآية أنواع مما يفعله الناس اليوم ولا يعرفون معناه:

النوع الأول: من ذلك العمل الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه الله من صدقة وصلاة وإحسان إلى الناس وترك الظلم ونحو ذلك مما يفعله الإنسان أو يتركه خالصا لله، لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة إنما يريد أن يجازيه الله بحفظ ماله وتنميته أو حفظ أهله وعياله أو إدامة النعمة عليهم، ولا همة له في طلب الجنة والهرب من النار، فهذا يعطى ثواب عمله في الدنيا، وليس له في الآخرة نصيب، وهذا النوع ذكره ابن عباس.

النوع الثاني: وهو أكبر من الأول وأخوف، وهو الذي ذكره مجاهد في الآية أنها نزلت فيه، وهو أن يعمل أعمالا صالحة، ونيته رياء الناس لا طلب ثواب الآخرة.

النوع الثالث: أن يعمل أعمالا صالحة يقصد بها مالا، مثل أن يحج لمال يأخذه، أو يهاجر لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، أو يجاهد لأجل المغنم فقد ذكر هذا النوع أيضا في تفسير هذه الآية، وكما يتعلم الرجل لأجل مدرسة أهله أو مكتبهم أو رئاستهم، أو يتعلم القرآن ويواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد، كما هو واقع كثيرا.

النوع الرابع: أن يعمل بطاعة الله مخلصا في ذلك لله وحده لا شريك له لكنه على عمل يكفره كفرا يخرج عن الإسلام مثل اليهود والنصارى إذا

ص: 226

عبدوا الله أو تصدقوا أو صاموا ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، ومثل كثير من هذه الأمة الذين فيهم كفر أو شرك يخرجهم من الإسلام بالكلية إذا أطاعوا الله طاعة خالصة يريدون بها ثواب الله في الدار الآخرة لكنهم على أعمال تخرجهم من الإسلام وتمنع قبول أعمالهم، وهذا النوع أيضا قد ذكر في هذه الآية عن أنس بن مالك وغيره، وكان السلف يخافون منها. قال بعضهم: لو أعلم أن الله تقبل مني سجدة واحدة لتمنيت الموت لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (1)(2). والآيتان تتناولان هذه الأنواع الأربعة لأن لفظها عام، لذا يجب الحذر من أن نطلب بعمل الآخرة طمع الدنيا (3).

ومن السنة:

1 -

ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش (10)» . . . الحديث.

(1) سورة المائدة الآية 27

(2)

انظر: تيسير العزيز الحميد ص 475 - 476.

(3)

انظر: الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد ص 102 - 103.

(4)

رواه البخاري في الجهاد باب 70، والرقاق باب 10، برقم 2887 و 6435، وابن ماجه في الزهد باب 8 جـ 2 ص 414.

(5)

تعس: أي سقط والمراد هنا هلك. (4)

(6)

الخميصة: الكساء المربع. (5)

(7)

الخميلة: هي القطيفة، وهي ثوب له خمل من أي شيء كان. انظر فتح الباري جـ 11 ص 254. (6)

(8)

وانتكس: أي عاوده السقوط. (7)

(9)

إذا شيك: أي دخلت فيه شوكة. (8)

(10)

فلا انتقش: لم يجد من يخرجها بالمنقاش، فتح الباري جـ 11 ص 254 - 255. (9)

ص: 227

والحديث كما نرى: دعاء على من جعل الدنيا قصده وهمه بالتعاسة والانتكاس، وإصابته بالعجز عن انتقاش الشوك من جسده، ولا بد أن يجد أثر هذه الدعوات كل من اتصف بهذه الصفة الذميمة فيقع فيما يضره في دنياه وآخرته كما أنها ذم له بتسميته عبد الدينار والدرهم. . . . وسماه صلى الله عليه وسلم عبدا لهذه الأشياء، لأنها استيسرت قلبه واستعبدته، فلا هم له إلا جمعها والحصول عليها ليرضي نفسه وهواه فصار فيه شعبة من العبادة لغير الله، ولم يبق معه حقيقة العبادة لله، ولا حقيقة التوكل عليه (1).

2 -

وقال صلى الله عليه وسلم: «من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة (2)» .

3 -

ويقول عليه الصلاة والسلام: «من كانت الآخرة همه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله ولا يأتيه منها إلا ما قدر له (3)» والحديثان الأخيران - كما نرى - وعيد لمن أراد بعمله الدنيا: الأول: بأنه لا يجد عرف الجنة يوم القيامة. والثاني: وعيد بالفقر وتشتيت الأمر، أعاذنا الله من ذلك والله أعلم.

(1) العبودية لابن تيمية ص 278 تيسير العزيز الحميد ص 478 الإرشاد ص 103.

(2)

أخرجه أبو داود برقم 3664 في العلم باب في طلب العلم لغير الله، وابن ماجه برقم 252 في المقدمة باب الانتفاع في العلم والعمل، وأحمد جـ 2 ص 338 وانظر: جامع الأصول حديث 2648.

(3)

رواه الترمذي برقم 2467 في صفة القيامة باب 31 عن أنس بن مالك بسند ضعيف انظر: جامع الأصول حديث 8472، وأحمد: انظر مشكاة المصابيح برقم 5320.

ص: 228

الفصل الثاني: الشرك في الألفاظ.

ومنه ما يلي: المبحث الأول: الحلف بغير الله.

مثاله: كقول الرجل: وحياتي، وحياة النبي، والكعبة، والسيد فلان، ونحو ذلك.

حكمه: هو من الشرك الأصغر في الألفاظ، إذا كان الحالف بلسانه ولم يعتقد بقلبه تعظيم من حلف به، وكان عالما الحكم أما إذا كان جاهلا فإنه يعلم، فإن أصر فهو والعالم ابتداء، سواء كل منهما مشرك شركا أصغر.

ومن الشرك الأكبر: إن قام بقلبه تعظيم من حلف به من المخلوقات مثل تعظيم الله، وكان عالما الحكم، أما إذا كان جاهلا فإنه يعلم فإن أصر فهو والعالم ابتداء سواء كل منهما مشرك شركا أكبر (1).

الأدلة على تحريمه: اتفق الكتاب والسنة والإجماع على تحريم الحلف بغير الله.

فمن الكتاب: قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2). أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية: " الأنداد: هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله وحياتك يا فلان. . . إلى أن قال: هذا كله

(1) انظر الجواب الكافي ص 158. فتاوى اللجنة (العقيدة) جـ 1 ص 224.

(2)

سورة البقرة الآية 22

ص: 229

شرك ".

فإن قيل الآية نزلت في الأكبر، قيل: السلف يحتجون بما نزل في الأكبر على الأصغر، كما فسرها ابن عباس رضي الله عنه وغيره وذلك لأن الكل شرك (1).

ومن السنة ما يلي:

1 -

وفي الصحيحين من حديث ابن عمر مرفوعا «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب، وهو يسير في ركب يحلف بأبيه فقال: " ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت (2)» .

2 -

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم. قال عمر: فوالله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها ذاكرا ولا آثرا (3)» .

3 -

وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان

(1) تيسير العزيز الحميد ص 522 - 523.

(2)

رواه البخاري جـ 3 ص 162، جـ 7 ص 221، ومسلم شرح النووي جـ 11 ص 105 - 106. وأبو داود جـ 3/ 569 النذور باب 5. برقم 3249، والترمذي ج 3 ص 45 برقم 1573 وقال حديث حسن صحيح.

(3)

رواه البخاري جـ 7 ص 221. ومسلم (شرح النووي) كتاب الإيمان جـ 11 ص 104 - 105. وأبو داود جـ 3/ 570 برقم 3250. والترمذي برقم 1572 جـ 3/ 45 وقال: حديث حسن صحيح.

ص: 230

حالفا فلا يحلف إلا بالله (1)» وكانت قريش تحلف بآبائها فقال: «لا تحلفوا بآبائكم (2)» .

4 -

وعن سعيد بن عبيدة قال: «كنت عند ابن عمر فقمت وتركت رجلا عنده من كندة، فأتيت سعيد بن المسيب فجاء الكندي فزعا فقال: جاء رجل إلى ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن أعلي جناح أن أحلف بالكعبة؟ قال: ولم تحلف بالكعبة؟ إذا حلفت بالكعبة احلف برب الكعبة، فإن عمر كان إذا حلف قال: كلا وأبي، فحلف بها يوما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تحلف بأبيك ولا بغير الله فإنه من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك (3)» .

5 -

وعن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحلفوا بالطواغي ولا بآبائكم (4)» .

6 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد. . . . . (5)» الحديث.

(1) صحيح البخاري المناقب (3836)، صحيح مسلم الأيمان (1646)، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534)، سنن النسائي الأيمان والنذور (3766)، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249)، سنن ابن ماجه الكفارات (2094)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 76)، موطأ مالك النذور والأيمان (1037)، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341).

(2)

رواه البخاري جـ 7 ص 222، ومسلم (بشرح النووي) كتاب الإيمان جـ 11 ص 106.

(3)

رواه الإمام أحمد في المسند جـ 2 ص 69، 86 - 87، 125، وأبو داود برقم 3251 جـ 3 ص 570، والترمذي جـ 3 ص 45 - 46 كتاب النذور باب 8 برقم 1574 وقال: حديث حسن.

(4)

رواه مسلم (بشرح النووي) كتاب الإيمان باب النهي عن الحلف بغير الله جـ 11 ص 108، والنسائي جـ 7 ص 7 في الإيمان باب الحلف بالطواغيت.

(5)

رواه أبو داود برقم 3248 كتاب النذور باب 5 جـ 3 ص 569، والنسائي جـ 7 ص 5 في الإيمان باب الحلف بالأمهات، وإسناده صحيح انظر: جامع الأصول حديث 9282.

ص: 231

7 -

وعن بريدة مرفوعا «من حلف بالأمانة فليس منا (1)» .

8 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف منكم فقال في حلفه باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله (2)» .

9 -

وعن قتيلة «أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " إنكم تشركون. . . وتقولون: والكعبة " فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة. . . (3)» الحديث.

10 -

وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: «حلفت مرة باللات والعزى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثم انفث عن يسارك ثلاثا وتعوذ ولا تعد (4)» .

وقال كعب (5): " إنكم تشركون في قول الرجل: كلا وأبيك، كلا والكعبة، كلا وحياتك، وأشباه هذا، احلف بالله صادقا أو كاذبا ولا تحلف بغيره " رواه ابن أبي الدنيا في الصمت (6).

(1) رواه الإمام أحمد جـ 5 ص 352، وأبو داود برقم 3253 جـ 3 ص 571، وإسناده صحيح انظر: جامع الأصول حديث 9284.

(2)

رواه البخاري في الأيمان باب لا يحلف باللات والعزى ولا بالطواغيت جـ 7 ص 97 - 98، 222، ومسلم كتاب الأيمان جـ 11 ص 106 - 107، والترمذي جـ 4، ص 109 - 110. وأبو داود برقم 3247 جـ 3 ص 568 كتاب الأيمان والنذور باب الحلف بالأنداد، وابن أبي الدنيا في الصمت ص 423 برقم 360 بإسناد صحيح.

(3)

أخرجه النسائي جـ 7 ص 6 في الأيمان والنذور باب الحلف بالكعبة، وإسناده صحيح انظر: جامع الأصول حديث 9277.

(4)

أخرجه النسائي جـ 7 ص 7 - 8 في الأيمان باب الحلف باللات والعزى وهو حديث حسن. انظر: جامع الأصول حديث 9314.

(5)

هو كعب الأحبار.

(6)

كتاب الصمت لابن أبي الدنيا برقم 358 ص 422.

ص: 232

الإجماع: لقد أجمع العلماء على أن اليمين الشرعية لا تكون إلا بالله أو اسم من أسمائه أو بصفة من صفاته، وأنه لا يجوز الحلف بغيره.

قال ابن عبد البر: (لا يجوز الحلف بغير الله إجماعا)(1).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما الحلف بغير الله من الملائكة والأنبياء والمشائخ والملوك وغيرهم فإنه منهي عنه غير منعقد باتفاق الأئمة)(2).

وقال شيخ الإسلام - في موضع آخر: (. . . ذكر غير واحد الإجماع على أنه لا يقسم بشيء من المخلوقات، وذكروا إجماع الصحابة على ذلك. . .)(3).

ولا اعتبار بمن قال من المتأخرين: إن النهي على سبيل كراهة التنزيه فإنه قول باطل، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:(. . . والصحيح أنه نهي تحريم)(4) وكيف يقال ذلك لما أطلق عليه الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كفر أو شرك.

ولهذا اختار ابن مسعود رضي الله عنه أن يحلف بالله كاذبا ولا يحلف بغيره صادقا مما يدل على أن الحلف بغير الله أكبر من الكذب مع أن الكذب من المحرمات في جميع الملل، فدل ذلك على أن الحلف بغير الله من أكبر المحرمات (5).

(1) تيسير العزيز الحميد ص 526.

(2)

الفتاوى جـ 11 ص 506.

(3)

الفتاوى جـ 1 ص 290.

(4)

الفتاوى جـ 1 ص 536.

(5)

انظر: تيسير العزيز الحميد ص 526.

ص: 233

اعتراض وجوابه.

اعتراض: فإن قيل: إن الله تعالى أقسم بالمخلوقات في القرآن.

الجواب: قيل: ذلك يختص بالله سبحانه وتعالى، فإنه - سبحانه - يقسم بما يقسم به من مخلوقاته لأنها آياته ومخلوقاته، فهي دليل على ربوبيته وألوهيته ووحدانيته وعلمه وقدرته، ومشيئته، وغير ذلك من صفات كماله، فهو سبحانه يقسم بها لأن إقسامه بها تعظيم له سبحانه وتنبيه على شرفه، وأما نحن المخلوقين فليس لنا أن نقسم بها بالنص والإجماع كما سبق ذكره (1) آنفا، بل ذلك شرك منهي عنه، وإنا نقسم به سبحانه وتعالى وحده، فيجب علينا التسليم والإذعان لما جاء من عنده سبحانه وتعالى.

أضف إلى ذلك أن الحلف يقتضي تعظيم المحلوف به، وحقيقة العظمة مختصة بالله تعالى فلا يضاهى به غيره (2).

اعتراض: وإن قيل: قد جاء في الحديث: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي الذي سأله عن أمور الإسلام، فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أفلح وأبيه إن صدق (3)» «وقال للذي سأله عن أحق الناس بحسن الصحبة؟ فقال:

(1) في الأدلة الدالة على تحريم الحلف بغير الله.

(2)

انظر: الفتاوى جـ 1 ص 290، وشرح صحيح مسلم للإمام النووي جـ 11 ص 105.

(3)

رواه مسلم عن طلحة بن عبيد الله في كتاب الإيمان باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام جـ 1 ص 168، وأخرجه أبو داود عن طلحة بن عبيد الله برقم 392 في الصلاة، وبرقم 3252 في الأيمان والنذور باب في كراهية الحلف بالآباء، وهو حديث صحيح. انظر: جامع الأصول حديث 7، وحديث 9279.

ص: 234

" نعم وأبيك لتنبأن. . . (1)» الحديث ". الجواب: قيل: إن العلماء أجابوا عنها بأجوبة منها:

الأول: أن هذه كلمة تجري على اللسان دعامة للكلام لا يقصد بها حقيقة اليمين، كاليمين المعفو عنها من قبل اللغو، قال تعالى:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} (2) الآية (3). والنهي إنما ورد فيمن قصد حقيقة الحلف لما فيه من إعظام المحلوف به ومضاهاته بالله سبحانه وتعالى.

الثاني: وقيل: إن هذا - أي الحلف بغير الله - كان في أول الأمر ثم نسخ، فما جاء من الأحاديث فيه ذكر شيء من الحلف بغير الله، فإنما هو قبل النسخ ثم نسخ ذلك ونهي عن الحلف بغير الله.

وهذا الجواب هو الأظهر، يؤيده أن ذلك كان مستعملا شائعا حتى ورد النهي عن ذلك كما في حديث ابن عمر «أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب يحلف بأبيه، فقال: " ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت (4)» .

وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: «حلفت مرة باللات والعزى فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له ثم انفث

(1) رواه مسلم في البر باب بر الوالدين وأنهما أحق به برقم 2548، كما أخرجه ابن ماجه بسند صحيح في كتاب الوصايا باب 4 حديث 2738، انظر: صحيح سنن ابن ماجه للألباني جـ2 صـ110

(2)

سورة البقرة الآية 225

(3)

آية 225 سورة البقرة، وانظر شرح صحيح مسلم للنووي جـ 11 ص 105، جـ 16 ص 103.

(4)

رواه البخاري جـ 3 ص 162، جـ 7 ص 221، ومسلم شرح النووي جـ 11 ص 105 - 106. وأبو داود جـ 3/ 569 النذور باب 5. برقم 3249، والترمذي ج 3 ص 45 برقم 1573 وقال حديث حسن صحيح.

ص: 235

عن يسارك ثلاثا وتعوذ ولا تعد (1)» وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة، فما ورد فيه ذكر الحلف بغير الله فهو جار على العادة قبل النهي، لأن ذلك هو الأصل حتى ورد النهي عن ذلك.

هل تنعقد اليمين بغير الله؟.

الجواب: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما الحلف بغير الله من الملائكة والأنبياء والمشائخ والملوك وغيرهم فإنه منهي عنه غير منعقد باتفاق الأئمة، ولم يتنازعوا إلا في الحلف برسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، والجمهور على أنه لا تنعقد اليمين لا به ولا بغيره، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت (2)» . . . . فمن حلف بشيخه أو بتربته أو بحياته أو بحقه على الله. . . أو بالكعبة أو بأبيه أو تربة أو نحو ذلك كان منهيا عن ذلك، ولم تنعقد يمينه باتفاق المسلمين (3).

المبحث الثاني: قول ما شاء الله وشئت ولولا الله وأنت ونحوهما.

تمهيد: ومن الشرك في الألفاظ أيضا: قول ما شاء الله وشئت، ولولا الله وأنت، وما لي إلا الله وأنت، ونحو ذلك مما فيه مساواة بين الخالق والمخلوق.

(1) أخرجه النسائي جـ 7 ص 7 - 8 في الأيمان باب الحلف باللات والعزى وهو حديث حسن. انظر: جامع الأصول حديث 9314.

(2)

رواه البخاري جـ 3 ص 162، جـ 7 ص 221، ومسلم شرح النووي جـ 11 ص 105 - 106. وأبو داود جـ 3/ 569 النذور باب 5. برقم 3249، والترمذي ج 3 ص 45 برقم 1573 وقال حديث حسن صحيح.

(3)

الفتاوى جـ 11 ص 506 وانظر: الفتاوى جـ 1 ص 140، 204، 335 - 336.

ص: 236

حكمه: قائل ذلك: إما أن يقوم بقلبه تعظيم لذلك المسوى بينه وبين الله أو لا، فإن قام بقلبه تعظيم لذلك المسوى بينه وبين الله، وكان عالما فهو شرك أكبر، وإن كان جاهلا علم، فإن أصر فهو والعالم ابتداء سواء، كل منهما مشرك شركا أكبر.

وإن لم يقم بقلبه تعظيم لذلك المسوى بينه وبين الله فهو شرك أصغر، فإن كان جاهلا علم، فإن أصر فهو والعالم ابتداءا سواء كل منهما مشرك شركا أصغر (1).

الأدلة على تحريمه.

الأدلة على تحريم قول ما شاء الله وشئت، ولولا الله وأنت، ونحوهما كثيرة منها ما يلي: من الكتاب قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2).

قال ابن عباس في هذه الآية: (الأنداد: هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله وحياتك. . . وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان. . . . هذا كله شرك). رواه ابن أبي حاتم.

والآية نزلت في الشرك الأكبر إلا أنها حجة في الشرك الأصغر كما فسرها ابن عباس وغيره لأن الكل شرك (3).

(1) فتاوى اللجنة ج 1 ص 224.

(2)

سورة البقرة الآية 22

(3)

تيسير العزيز الحميد ص 522 - 523.

ص: 237

ومن السنة:

ا - عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان (1)» .

2 -

عن قتيلة بنت صيفي قالت: «إن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون والكعبة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت (2)» .

3 -

وعن الطفيل أخي عائشة لأمها قال: «رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود قلت: إنكم لأنتم القوم لولا إنكم تقولون عزير ابن الله قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، ثم مررت بنفر من النصارى فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله، قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، قال: هل أخبرت بها أحدا؟ قلت: نعم، قال: فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " أما بعد: فإن طفيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن

(1) أخرجه أبو داود برقم 4980 في الأدب باب لا يقال خبثت نفسي وإسناده صحيح، انظر: جامع الأصول حديث 9435.

(2)

أخرجه النسائي جـ 7 ص 6 في الأيمان والنذور باب الحلف بالكعبة وإسناده صحيح، انظر جامع الأصول حديث 9277.

ص: 238

أنهاكم عنها، فلا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا ما شاء الله وحده (1)».

4 -

وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: «قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده (2)» .

وفي رواية: «أجعلتني لله عدلا؟ بل ما شاء الله وحده (3)» .

وقد اتفق جمهور (4) العلماء على النهي عن هذا القول ونحوه مما فيه تسوية بين الخالق والمخلوق.

وأما قول من قال بالجواز محتجا بقوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} (5) وقوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} (6) الآية.

فقول مردود، إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم أنكره، وقال لمن قال ذلك أجعلتني لله ندا، فمن المحال أن يقال إن ذلك جائز مع إنكار الرسول صلى الله عليه وسلم له ونهيه عنه.

(1) رواه الإمام أحمد والدارمي وأبو يعلى والطبراني في الكبير عن طفيل بن سخبره، انظر: كنز العمال حديث 8378.

(2)

سنن ابن ماجه الكفارات (2117)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 214).

(3)

رواه الإمام أحمد في المسند جـ 1 ص 214. والبيهقي في السنن الكبرى جـ 3 ص 217، وابن أبي الدنيا في الصمت برقم 345 ص 414 بإسناد حسن، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة جـ 1 ص 57 (إسناده حسن).

(4)

انظر: تيسير العزيز الحميد ص 535.

(5)

سورة التوبة الآية 74

(6)

سورة الأحزاب الآية 37

ص: 239

وأما احتجاجهم بالآيات، فقد ذكر العلماء عن ذلك أجوبة منها.

الأول: أن ذلك لله وحده لا شريك له، كما أنه تعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته فكذلك هذا.

الثاني: أن في قوله (ما شاء الله وشئت) تشريكا في المشيئة بين مشيئة الله ومشيئة العبد.

وأما الآيتان: فإنما أخبر بهما عن فعلين متغايرين، فأخبر تعالى أنه أغناهم وأن رسوله أغناهم، وهو من الله حقيقة، لأنه الذي قدر ذلك ومن الرسول حقيقة باعتبار تعاطي الفعل، وكذلك الإنعام أنعم الله على زيد بالإسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم أنعم عليه بالعتق.

وهذا بخلاف المشاركة في الفعل الواحد، فالكلام إنما هو فيه، والمنع إنما هو منه (1).

كيفية اتقائه:

يمكن اتقاء هذا النوع من الشرك باستبدال الواو بثم، فإذا أردنا أن نقول: ما شاء الله وشئت، نقول: ما شاء الله ثم شئت، وإذا أردنا أن نقول: لولا الله وأنت، نقول: لولا الله ثم أنت ونحوهما. وبذلك يمكن التخلص من هذا الشرك، وذلك لأن الواو تقتضي تسوية المخلوق بالخالق، ومن المعلوم أنه لا يجوز أن نجعل المخلوق مثل الخالق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى.

(1) انظر: تيسير العزيز الحميد ص 535 - 536.

ص: 240

أما ثم فتقتضي العطف مع الترتيب والتراخي، فمثلا: إذا قلنا: ما شاء الله وشئت إن عطفنا بالواو اقتضى التسوية بين مشيئة الله ومشيئة المخلوق، أما إذا عطفنا بثم فإنه يقتضي تقديم مشيئة الله وأنها فوق مشيئة المخلوق (1).

المبحث الثالث: إسناد بعض الحوادث إلى غير الله عز وجل واعتقاد تأثيره فيها.

ومن الشرك في اللفظ إسناد بعض الحوادث إلى غير الله عز وجل واعتقاد تأثيره فيها، كأن يقول مثلا لولا وجود فلان لحصل كذا ولولا يقظة الحارس لدهمنا الجيش، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، ونحو ذلك من الألفاظ التي فيها نسبة بعض الحوادث إلى أسبابها القريبة، على أنها هي وحدها التي أدت إلى وقوعها.

وليس معنى ذلك نفي تأثير الأسباب في مسبباتها، فإن ذلك جهل بحكمة الله تعالى الذي وضعها وجعلها أسبابا، وإنما المقصود الاعتقاد أن تأثيرها إنما هو بمشيئة الله وحكمته لا أنها مستقلة بالتأثير (2).

الدليل على تحريمه:

1 -

يقول سبحانه وتعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (3). يقول ابن عباس في الآية -: الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب

(1) دعوة التوحيد محمد خليل هراس ص 65 تيسير العزيز الحميد ص 536.

(2)

انظر: دعوة التوحيد محمد خليل هراس ص 65 - 66.

(3)

سورة البقرة الآية 22

ص: 241

النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول:. . . لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص. . . إلى أن قال: هذا كله شرك.

والآية نزلت في الأكبر إلا أنها حجة في الشرك الأصغر - كما فسرها ابن عباس - لأن الكل شرك (1).

2 -

روى ابن أبي الدنيا - في كتابه الصمت - عن ابن عباس أنه قال: (إن أحدكم ليشرك حتى يشرك في كلبه يقول: لولاه لسرقنا الليلة)(2).

كيفية اتقائه:

للتخلص من هذا الشرك يجب أن نسند الحوادث إلى الله ثم إلى المخلوق، فمثلا إذا أردنا أن نقول: لولا وجود فلان لحصل كذا. نقول: لولا الله ثم وجود فلان لحصل كذا، مع الاعتقاد بأن الأسباب ليست مستقلة بذاتها في التأثير، وإنما يكون تأثيرها بقدرة الله ومشيئته.

المبحث الرابع: قول البعض مطرنا بنوء كذا وكذا على طريق المجاز.

كذلك من الشرك الأصغر في اللفظ قول البعض: مطرنا بنوء كذا وكذا على طريق المجاز، وبيان ذلك: أن يقولها البعض مع عدم اعتقاده بأن

(1) انظر: تيسير العزيز الحميد ص 522 - 523.

(2)

رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت برقم 359، ص 422 - 423.

ص: 242

للنجم تأثيرا في إنزال المطر، وإنما المؤثر هو الله وحده، ولكنه أجرى العادة بوجود المطر عند سقوط ذلك النجم، فقوله هذا يعتبر شركا أصغر، لأنه نسب نعمة الله إلى غيره ولأن الله لم يجعل النوء سببا لإنزال المطر فيه، وإنما هو فضل منه ورحمة، يحبسه إذا شاء وينزله إذا شاء (1).

والدليل على ذلك: ما روي عن زيد بن خالد رضي الله عنه قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: " هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب (2)» .

(1) انظر: فتح المجيد ص 324.

(2)

رواه البخاري جـ 2 ص 277 في صفة الصلاة باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم، ومسلم برقم 71 في الإيمان باب بيان كفر من يقول مطرنا بالنوء، والموطأ جـ 1/ 192 الاستسقاء باب الاستمطار بالنجوم، وأبو داود برقم 3906 في الطب باب في النجوم، والنسائي جـ 3/ 165 في الاستسقاء باب كراهية الاستمطار بالكواكب، وانظر: جامع الأصول حديث 9198.

ص: 243