المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌من مسائل السلم - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٣٧

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌ تمهيد

- ‌(العينة والتورق)

- ‌من مسائل السلم

- ‌الفتاوى

- ‌ إقامة احتفال بمناسبة مولده صلى الله عليه وسلم

- ‌ الوعظ في يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ التاريخ الصحيح لمولد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ الكتاب المسمى بالبردة المديح

- ‌ حضور الاحتفالات البدعية

- ‌من فتاوى سماحة الشيخ /عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله

- ‌ الصلاة خلف العاصي

- ‌ من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌ مراعاة المصالح العامة

- ‌ إزالة الشعر الذي ينبت في وجه المرأة

- ‌ ضرب الطالبات لغرض التعليم

- ‌(الوشم)

- ‌ التعاون بالجهر أفضل أم بالسر

- ‌ التعاون على البر والتقوى في البيت

- ‌ العلاج لمن يعصي ويتوب ثم يرجع إلى المعصية

- ‌النص المحقق

- ‌ تعريف الشرك وأقسامه:

- ‌الخاتمة

- ‌المبادرة والمسابقة إلى الأعمال الصالحةفي ضوء الكتاب والسنة

- ‌ المقدمة:

- ‌ الندب إلى المبادرة والمسابقة في الكتاب والسنة

- ‌ الحض على التسابق والتنافس في الباقيات الصالحاتوالتحذير من التنافس في الملذات والشهوات

- ‌ الرسول صلى الله عليه وسلم يتعهد أصحابه بالتربية والقدوة حتى يصبح السبقخلقا من أخلاقهم

- ‌ من نتائج المبادرة والمسابقة وآثارها على الصحابة رضي الله عنهم

- ‌ المبادرة والمسابقة فيها تنشيط للهمم وإذكاء للعزائم وبعث لروح المنافسة بوجود القدوة:

- ‌المراجع

- ‌بطلان علاماته التي ميزوه بها:

- ‌الوضع:

- ‌التبادر إلى الذهن حين الإطلاق:

- ‌صحة النفي:

- ‌اختلاف صيغة الجمع:

- ‌التوقف على المسمى الآخر:

- ‌ما كل ما جاز في اللغة جاز في القرآن:

- ‌المجاز باطل شرعا ولغة وعقلا:

- ‌كيفية وصول اللبن إلى الجوف:

- ‌حكم اللبن إذا خالط غيره أو تبدل طبعه:

- ‌حكم لبن الميتة:

- ‌حكم لبن البكر:

- ‌حكم لبن الرجل:

- ‌حكم لبن الفحل

- ‌ما يثبت به الرضاع:

- ‌المحرمات بسبب الرضاع:

- ‌حديث شريف

الفصل: ‌من مسائل السلم

‌من مسائل السلم

.

آراء الفقهاء في حكم بيع دين السلم مع التوجيه والمناقشة.

أ - قال صاحب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع رحمه الله (1).

(فصل)

وأما بيان ما يجوز من التصرف في المسلم فيه وما لا يجوز، فنقول وبالله التوفيق: لا يجوز استبدال المسلم فيه قبل قبضه، بأن يأخذ رب السلم مكانه من غير جنسه لما ذكرنا أن المسلم فيه وإن كان دينا فهو مبيع ولا يجوز بيع المبيع المنقول قبل القبض، ويجوز الإبراء عنه لأن قبضه ليس بمستحق على رب السلم وكان هو بالإبراء متصرفا في خالص حقه بالإسقاط فله ذلك بخلاف الإبراء عن رأس المال، لأنه مستحق القبض حقا للشرع فلا يملك إسقاطه بنفسه بالإبراء على ما ذكرنا.

ب - قال ابن رشد رحمه الله في بداية المجتهد ونهاية المقتصد (2):

مسألة - اختلف العلماء - في بيع المسلم فيه إذا حان الأجل من المسلم إليه قبل قبضه فمن العلماء من لم يجز ذلك أصلا، وهم القائلون بأن كل شيء لا يجوز بيعه قبل قبضه، وبه قال أبو حنيفة وأحمد وإسحاق. وتمسك أحمد وإسحاق في منع هذا بحديث عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره (3)» وأما مالك فإنه منع شراء المسلم فيه قبل قبضه في موضعين: أحدهما إذا كان المسلم فيه طعاما، وذلك بناء على مذهبه في أن الذي يشترط في بيعه القبض هو الطعام على ما جاء عليه النص في الحديث.

والثاني: إذا لم يكن المسلم فيه طعاما فأخذ عوضه المسلم ما لا يجوز أن يسلم فيه رأس ماله قبل أن يكون المسلم فيه عرضا، والثمن عرضا مخالفا له، فيأخذ المسلم من المسلم إليه إذا حان الأجل شيئا من جنس ذلك

(1) ج 7 ص 3178.

(2)

ج 2 ص 155.

(3)

سنن أبو داود البيوع (3468)، سنن ابن ماجه التجارات (2283).

ص: 62

العرض الذي هو الثمن وذلك أن هذا يدخله إما سلف أو زيادة وإن كان العوض المأخوذ أكثر من رأس مال السلم، وأما ضمان وسلف إن كان مثله أو أقل وكذلك إن كان رأس مال السلم طعاما لم يجز أن يأخذ فيه طعاما آخر أكثر، لا من جنسه ولا من غير جنسه، فإن كان مثل طعامه في الجنس والكيل والصفة فيما حكاه عبد الوهاب جاز، لأنه يحمله على العوض، وكذلك يجوز عنده أن يأخذ من الطعام المسلم فيه طعاما من صفته، وإن كان أقل جودة، لأنه عنده من باب البدل في الدنانير، والإحسان: مثل أن يكون له عليه قمح فيأخذ بمكيلته شعيرا، وهذا كله من شرطه عند مالك أن لا يتأخر القبض لأنه يدخله الدين بالدين، وإن كان رأس مال السلم عينا وأخذ المسلم فيه عينا من جنسه جاز ما لم يكن أكثر منه، ولم يتهمه على بيع العين بالعين نسيئة إذا كان مثله أو أقل، وإن أخذ دراهم في دنانير لم يتهمه على الصرف المتأخر، وكذلك إن أخذ فيه دنانير من غير صنف الدنانير التي هي رأس مال السلم، وأما بيع السلم من غير المسلم إليه، فيجوز بكل شيء يجوز به التبايع ما لم يكن طعاما، لأنه يدخله ببيع الطعام قبل قبضه، وأما الإقالة فمن شرطها عند مالك أن لا يدخلها زيادة ولا نقصان فإن دخلها زيادة أو نقصان كان بيعا من البيوع ودخلها ما يدخل البيوع، أعني أنها تفسد عنده بما يفسد بيوع الآجال مثل أن يتذرع إلى بيع وسلف، أو إلى وضع وتعجل، أو إلى بيع السلم بما لا يجوز بيعه، مثال ذلك في دخول بيع وسلف به إذا حل الأجل، فأقاله على أن أخذ البعض وأقال من البعض فإنه لا يجوز عنده فإنه يدخله التذرع إلى بيع وسلف، وذلك جائز عند الشافعي وأبي حنيفة، لأنهما لا يقولان بتحريم بيوع الذرائع.

ج - قال صاحب المجموع شرح المهذب (1).

(1) ج 13 ص 119 - 161

ص: 63

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

يجوز فسخ عقد السلم بالإقالة لأن الحق لهما، فجاز لهما الرضا بإسقاطه، فإذا فسخا أو انفسخ بانقطاع الثمرة في أحد القولين أو بالفسخ في القول الآخر رجع المسلم إلى رأس المال فإن كان باقيا وجب رده، وإن كان تالفا، ثبت بدله في ذمة المسلم إليه، فإن أراد أن يسلمه في شيء آخر لم يجز لأنه بيع دين بدين، وإن أراد أن يشتري به عينا نظرت فإن كان تجمعهما علة واحدة في الربا، كالدراهم بالدنانير والحنطة بالشعير لم يجز أن يتفرقا قبل القبض كما لو أراد أن يبيع أحدهما بالآخر عينا بعين، وإن لم تجمعهما علة واحدة في الربا كالدراهم بالحنطة والثوب بالثوب ففيه وجهان. أحدهما يجوز أن يتفرقا من غير قبض كما يجوز إذا باع أحدهما بالآخر عينا بعين أن يتفرقا من غير قبض، والثاني لا يجوز، لأن المبيع في الذمة فلا يجوز أن يتفرقا قبل قبض عوضه كالمسلم فيه، والله تعالى أعلم.

الشرح - الأحكام: الإقالة فسخ وليست ببيع على المشهور من المذهب سواء كان قبل القبض وبعده، وبه قال أبو حنيفة رحمه الله لأنه يقول: هي بيع في حق غير المتعاقدين، فثبتت بها الشفعة، وقال أبو يوسف رحمه الله: إن كان قبل القبض فهي فسخ، وإن كان بعد القبض فهي بيع، وقال مالك رحمه الله: هي بيع بكل حال.

وحكى القاضي أبو الطيب أنه قول قديم للشافعي رحمه الله، وأما أبو حامد فحكاه وجها لبعض أصحابنا، دليلنا أن المبيع عاد إلى البائع بلفظ لا ينعقد به البيع فكان فسخا كالرد بالعيب، إذا ثبت هذا فإن أسلم رجل إلى غيره شيئا في شيء ثم تقايلا في عقد السلم صح، وقد وافقنا مالك رحمه الله على ذلك وهذا من أوضح دليل على أن الإقالة فسخ، لأنها

ص: 64

لو كانت بيعا لما صح في المسلم فيه قبل القبض، كما لا يصح بيعه، وإن أقاله في بعض المسلم فيه صح في القدر الذي أقاله، وقال ابن أبي ليلى: يكون إقالة في الجميع، وقال ربيعة ومالك: لا يصح، دليلنا أن الإقالة مندوب إليها بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:«من أقال نادما في بيع أقاله الله نفسه يوم القيامة (1)» وما جاز في جميع المبيع جاز في بعضه كالإبراء والإنظار، وإن أقاله بأكثر من الثمن أو أقل منه إلى جنس آخر لم تصح الإقالة، وقال أبو حنيفة: تصح الإقالة، ويجب رد الثمن المسمى في العقد، دليلنا أن المسلم والمشتري لم يسقط حقه من المبيع إلا بشرط العوض الذي شرطه، فإذا لم يصح له العوض لم تصح له الإقالة، كما لو اشترى منه داره بألف بشرط العوض الذي شرطه، فإذا لم يصح له العوض لم تصح له الإقالة، كما لو اشترى منه داره بألف بشرط أن يبيعه سيارته بألف.

(فرع) وإن ضمن ضامن عن المسلم إليه المسلم فيه، ثم إن الضامن صالح المسلم عما في ذمة المسلم إليه بمثل رأس مال السلم لم يصح الصلح، لأن الضامن لا يملك المسلم فيه فيعوض عنه، فأما إذا أكد المسلم إليه بمثل رأس مال السلم، قال أبو العباس صح الصلح وكان إقالة، لأن الإقالة هو أن يشتري ما دفع ويعطي ما أخذ، وهذا مثله. (فرع) وإذا انفسخ عقد السلم بالفسخ أو الانفساخ سقط المسلم فيه عن ذمة المسلم إليه، ورجع المسلم إلى رأس مال السلم، فإن كان باقيا أخذه، وإن كان تالفا رجع إلى مثله إن كان له مثل، وإن كان لا مثل له رجع إلى قيمته، وإن أراد أن يسلم في شيء آخر لم يجز لأنه بيع دين بدين.

وإن أراد أن يأخذ ما هو من جنسه جاز أن يأخذ مثله، ولم يجز أن يأخذ أكثر منه ولا أقل منه، ولا يصح أن يتفرقا قبل قبضه، وإن أراد أن يأخذ عنه من غير جنسه إلا أنه لا يصح أن يتفرقا قبل قبضه كما قلنا في

(1) سنن أبو داود البيوع (3460)، سنن ابن ماجه التجارات (2199)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 252).

ص: 65

البيع، وإن أراد أن يأخذ منه عوضا ليس من أموال الربا، كالثياب والدواب، أو كان رأس المال من غير أموال الربا صح ذلك أيضا.

وهل يشترط فيه القبض قبل التفرق؟ فيه وجهان:

أحدهما: أنه يشترط ذلك، فلا يفترقان والعوض المعوض في ضمان واحد.

والثاني: لا يشترط ذلك، كما لو اشترى أحدهما بالآخر، وإن اختلفا في قدر رأس مال السلم فالقول قول المسلم إليه مع يمينه، لأن الأصل براءة ذمته مما زاد على ما أقر به، وإن اختلفا في قدر المسلم فيه أو الأجل أو في قدره تحالفا، وإن اتفقا على الأجل واختلفا في انقضائه وادعى المسلم انقضاء الأجل وادعى المسلم إليه بقاءه فالقول قول المسلم إليه مع يمينه، لأن الأصل بقاؤه والله أعلم.

د - قال صاحب المغني رحمه الله (1):

" مسألة " قال (وبيع المسلم فيه من بائعه أو من غيره قبل قبضه فاسد وكذلك الشركة فيه والتولية والحوالة به طعاما كان أو غيره) أما بيع المسلم فيه قبل قبضه فلا نعلم في تحريمه خلافا، وقد «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه وعن ربح ما لم يضمن» ؛ لأنه مبيع لم يدخل في ضمانه. فلم يجز بيعه كالطعام قبل قبضه.

وأما الشركة فيه والتولية فلا تجوز أيضا؛ لأنهما بيع على ما ذكرنا من قبل وبهذا قال أكثر أهل العلم وحكي عن مالك جواز الشركة والتولية، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى عن بيع الطعام قبل قبضه وأرخص في الشركة والتولية» .

ولنا: أنها معاوضة في المسلم فيه قبل القبض فلم تجز كما لو كانت بلفظ البيع، ولأنهما نوعا بيع فلم يجوزا في السلم قبل قبضه كالنوع الآخر

(1) ص 301 - 303، جـ 4.

ص: 66

والخبر لا نعرفه، وهو حجة لنا، لأنه نهي عن بيع الطعام قبل قبضه، والشركة والتولية بيع، فيدخلان في النهي، ويحمل قوله «وأرخص في الشركة والتولية» على أنه أرخص فيهما في الجملة لا في هذا الموضع.

وأما الإقالة: فإنها فسخ وليست بيعا.

وأما الحوالة به فغير جائزة، لأن الحوالة إنما تجوز على دين مستقر والسلم بعرض الفسخ فليس بمستقر، ولأنه نقل للملك في المسلم فيه على غير وجه الفسخ فلم يجز كالبيع، ومعنى الحوالة به أن يكون لرجل طعام من سلم وعليه مثله من قرض أو سلم آخر أو بيع فيحيل بما عليه من الطعام على الذي له عنده السلم فلا يجوز، وإن أحال المسلم إليه المسلم بالطعام الذي عليه لم يصح أيضا، لأنه معاوضة بالمسلم فيه قبل قبضه فلم يجز كالبيع.

وأما بيع المسلم فيه من بائعه فهو أن يأخذ غير ما أسلم فيه عوضا عن المسلم فيه، فهذا حرام سواء كان المسلم فيه موجودا أو معدوما، سواء كان العوض مثل المسلم فيه في القيمة أو أقل أو أكثر، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وذكر ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى فيمن أسلم في بر فعدمه عند المحل فلو جرى المسلم بأخذ الشعير مكان البر جاز، ولم يجز أكثر من ذلك، وهذا يحمل على الرواية التي فيها أن البر والشعير جنس واحد، والصحيح في المذهب خلافه وقال مالك: يجوز أن يأخذ غير المسلم فيه مكانه بتعجله ولا يؤخره، إلا الطعام قال ابن المنذر: وقد ثبت أن ابن عباس قال: (إذا أسلم في شيء إلى أجل فإن أخذت ما أسلفت فيه وإلا فخذ عوضا أنقص منه ولا تربح مرتين) رواه سعيد في سننه.

ولنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره (1)» رواه أبو داود وابن ماجه، ولأن أخذ العوض عن المسلم فيه بيع، فلم يجز كبيعه

(1) سنن أبو داود البيوع (3468)، سنن ابن ماجه التجارات (2283).

ص: 67

من غيره، فأما إن أعطاه من جنس ما أسلم فيه خيرا منه أو دونه في الصفات جاز، لأن ذلك ليس ببيع، إنما هو قضاء للحق مع تفضل من أحدهما.

قال ابن القيم رحمه الله في تهذيب السنن على حديث من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره (1) اختلف الفقهاء في حكم هذا الحديث، وهو جواز أخذ غير المسلم فيه عوضا عنه وللمسألة صورتان إحداهما: أن يعاوض عن المسلم فيه مع بقاء عقد السلم، فيكون قد باع دين السلم قبل قبضه.

والصورة الثانية: أن ينفسخ العقد بإقالة أو غيرها، فهل يجوز أن يصرف الثمن في عوض آخر غير المسلم فيه؟

فأما المسألة الأولى: فمذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد - في المشهور عنه - أنه لا يجوز بيعه قبل قبضه، لا لمن هو في ذمته ولا لغيره، وحكى بعض أصحابنا ذلك إجماعا، وليس بإجماع، فمذهب مالك جوازه وقد نص عليه أحمد في غير موضع، وجوز أن يأخذ عوضه عرضا بقدر قيمة دين السلم وقت الاعتياض ولا يربح فيه.

وطائفة من أصحابنا خصت هذه الرواية بالحنطة والشعير فقط، كما قال في المستوعب: ومن أسلم في شيء لم يجز أن يأخذ من غير جنسه بحال في إحدى الروايتين، والأخرى: يجوز أن يأخذ ما دون الحنطة من الحبوب كالشعير ونحوه بمقدار كيل الحنطة لا أكثر منها ولا بقيمتها نص عليه في رواية أبي طالب إذا أسلفت في كيل حنطة فأخذت شعيرا فلا بأس وهو دون حقك، ولا يأخذ مكان الشعير حنطة.

وطائفة ثالثة من أصحابنا: جعلت المسألة رواية واحدة وإن هذا النص بناء على قوله في الحنطة والشعير إنهما جنس واحد، وهي طريقة

(1) ص 111 - 118 ج 3.

ص: 68

صاحب المغني.

وطائفة رابعة من أصحابنا: حكوا رواية مطلقة في المكيل والموزون وغيره.

ونصوص أحمد تدل على صحة هذه الطريقة، وهي طريقة أبي حفص الطبري وغيره.

قال القاضي: نقلت من خط أبي حفص في مجموعه: فإن كان ما أسلم فيه مما يكال أو يوزن فأخذ من غير نوعه مثل كيله مما هو دونه في الجودة جاز، وكذلك إن أخذ بثمنه مما لا يكال ولا يوزن كيف شاء.

ونقل أبو القاسم عن أحمد قلت لأبي عبد الله: إذا لم يجد ما أسلم فيه ووجد غيره من جنسه أيأخذه؟ قال: نعم، إذا كان دون الشيء الذي له كما لو أسلم في قفيز حنطة موصلي فقال: آخذ مكانه شلبيا، أو قفيز شعير، فكيلته واحدة لا يزداد، وإن كان فوقه فلا يأخذ. وذكر حديث ابن عباس رواه طاوس عنه:" إذا أسلمت في شيء فجاء الأجل فلم تجد الذي أسلمت فيه فخذ عوضا بأنقص منه ولا تربح مرتين ".

ونقل أحمد بن أصرم: سئل عن رجل أسلم في طعام إلى أجل، فإذا حل الأجل يشتري منه عقارا أو دارا؟ فقال: نعم، يشتري منه ما لا يكال ولا يوزن.

وقال حرب: سألت أحمد فقلت: رجل أسلم إلى رجل دراهم في بر، فلما حل الأجل لم يكن عنده بر؟ فقال: قوم الشعير بالدراهم فخذ من الشعير فقال: لا يأخذ منه الشعير إلا مثل كيل البر أو أنقص، قلت: إذا كان البر عشرة أجربة يأخذ الشعير عشرة أجربة، قال: نعم.

إذا عرف هذا، فاحتج المانعون بوجوه.

أحدها: الحديث.

والثاني: «نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه» .

ص: 69

والثالث: «نهيه صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن (1)» وهذا غير مضمون عليه؛ لأنه في ذمة المسلم إليه.

والرابع: أن هذا المبيع مضمون له على المسلم إليه، فلو جوزنا بيعه صار مضمونا عليه للمشتري فيتولى في المبيع ضمانان.

الخامس: أن هذا إجماع كما تقدم.

هذا جملة ما احتجوا به.

قال المجوزون: الصواب جواز هذا العقد، والكلام معكم في مقامين.

أحدهما: في الاستدلال على جوازه، والثاني في الجواب عما استدللتم به على المنع.

فأما الأول: فنقول: قال ابن المنذر: ثبت عن ابن عباس أنه قال: (إذا أسلفت في شيء إلى أجل فإن أخذت ما سلفت فيه وإلا فخذ عوضا أنقص منه ولا تربح مرتين). رواه شعبة.

فهذا قول صحابي، وهو حجة، ما لم يخالف.

قالوا: وأيضا فلو امتنعت المعاوضة عليه لكان ذلك لأجل كونه مبيعا لم يتصل به القبض، وقد ثبت عن ابن عمر أنه قال:«أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير؟ فقال: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء (2)» . فهذا بيع للثمن ممن هو في ذمته قبل قبضه.

فما الفرق بينه وبين الاعتياض عن دين السلم بغيره؟

قالوا: وقد نص أحمد على جواز بيع الدين لمن هو في ذمته ولغيره وإن كان أكثر أصحابنا لا يحكون عنه جوازا لغير من هو في ذمته، فقد نص عليه في مواضع حكاه شيخنا أبو العباس ابن تيمية رحمه الله عنه.

والذين منعوا جواز بيعه لمن هو في ذمته قاسوه على السلم، وقالوا لأنه

(1) سنن الترمذي البيوع (1234)، سنن أبو داود البيوع (3504)، سنن ابن ماجه التجارات (2188)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 175)، سنن الدارمي البيوع (2560).

(2)

سنن الترمذي البيوع (1242)، سنن النسائي البيوع (4582)، سنن أبو داود البيوع (3354)، سنن ابن ماجه التجارات (2262)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 139)، سنن الدارمي البيوع (2581).

ص: 70

دين، فلا يجوز بيعه كدين السلم، وهذا ضعيف من وجهين:

أحدهما: أنه قد ثبت في حديث ابن عمر جوازه.

والثاني: أن دين السلم غير مجمع على منع بيعه، فقد ذكرنا عن ابن عباس جوازه، ومالك يجوز بيعه من غير المستسلف.

والذين فرقوا بين دين السلم وغيره لم يفرقوا بفرق مؤثر، والقياس التسوية بينهما.

وأما المقام الثاني: فقالوا: أما الحديث: فالجواب عنه من وجهين: أحدهما: ضعفه كما تقدم.

والثاني: أن المراد به أن لا يصرف المسلم فيه إلى سلم آخر أو يبيعه بمعين مؤجل، لأنه حينئذ يصير بيع دين بدين وهو منهي عنه، وأما بيعه بعوض حاضر من غير ربح فلا محذور فيه كما أذن فيه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر.

فالذي نهي عنه من ذلك: هو من جنس ما نهي عنه من بيع الكالئ بالكالئ، والذي يجوز منه هو من جنس ما أذن فيه من بيع النقد لمن هو في ذمته بغيره من غير ربح.

وأما نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه: فهذا إنما هو في المعين أو المتعلق به حق التوفية من كيل أو وزن فإنه لا يجوز بيعه قبل قبضه، وأما ما في الذمة فلا اعتياض عنه من جنس الاستيفاء وفائدته سقوط ما في ذمته عنه لا حدوث ملك له، فلا يقاس بالبيع الذي يتضمن شغل الذمة، فإنه إذا أخذ منه عن دين السلم عرضا أو غيره أسقط ما في ذمته، فكان كالمستوفي دينه لأن بدله يقوم مقامه، ولا يدخل هذا في بيع الكالئ بالكالئ بحال، والبيع المعروف: هو أن يملك المشتري ما اشتراه، وهذا لا يملكه شيئا، بل سقط الدين من ذمته، ولهذا لو وفاه ما في ذمته لم يقل أنه باعه دراهم بدراهم بل يقال وفاه حقه بخلاف ما لو باعه دراهم معينة

ص: 71

بمثلها فإنه بيع، ففي الأعيان إذا عاوض عليها بجنسها أو بعين غير جنسها يسمى بيعا، وفي الدين إذا وفاها بجنسها لم يكن بيعا، فكذلك إذا وفاها بغير جنسها لم يكن بيعا، بل هو إيفاء فيه معنى المعاوضة، ولو حلف ليقضينه حقه غدا فأعطاه عنه عرضا بر في أصح الوجهين.

وجواب آخر: أن النهي عن بيع الطعام قبل قبضه أريد به بيعه من غير بائعه، وأما بيعه من البائع ففيه قولان معروفان، وذلك لأن العلة في المنع إن كانت توالي الضمانين اطرد المنع في البائع وغيره وإن كانت عدم تمام الاستيلاء، وأن البائع لم ينقطع علقه عن المبيع، بحيث ينقطع طمعه في الفسخ ولا يتمكن من الامتناع من الوفاء إذا رأى المشتري قد ربح فيه لم يطرد النهي في بيعه من بائعه قبل قبضه لانتفاء هذه العلة في حقه، وهذه العلة أظهر وتوالي الضمانين ليس بعلة مؤثرة، ولا تنافي بين كون العين الواحدة مضمونة له من وجه وعليه من وجه آخر، فهي مضمونة له وعليه باعتبارين، وأي محذور في هذا؟ كمنافع الإجارة فإن المستأجر له أن يؤجر ما استأجره، فتكون المنفعة مضمونة له وعليه وكالثمار بعد بدو صلاحها، له أن يبيعها على الشجر وإن أصابتها جائحة رجع على البائع، فهي مضمونة له وعليه ونظائره كثيرة.

وأيضا: فبيعه من بائعه شبيه بالإقالة وهي جائزة قبل القبض على الصحة.

وأيضا فدين السلم تجوز الإقالة فيه بلا نزاع، وبيع المبيع لبائعه قبل قبضه غير جائز في أحد القولين، فعلم أن الأمر في دين السلم أسهل منه في بيع الأعيان، فإذا جاز في الأعيان أن تباع لبائعها قبل القبض فدين السلم أولى بالجواز، كما جازت الإقالة فيه قبل القبض اتفاقا، بخلاف الإقالة في الأعيان.

ومما يوضح ذلك: أن ابن عباس لا يجوز بيع المبيع قبل قبضه، واحتج

ص: 72

عليه بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه، وقال " أحسب كل شيء بمنزلة الطعام " ومع هذا فقد ثبت عنه: أنه جوز بيع دين السلم ممن هو عليه إذا لم يربح فيه ولم يفرق بين الطعام وغيره، ولا بين المكيل والموزون وغيرهما، لأن البيع هنا من البائع للبائع الذي هو في ذمته، فهو يقبضه من نفسه لنفسه بل في الحقيقة ليس هنا قبض، بل يسقط عنه ما في ذمته، فتبرأ ذمته، وبراءة الذمم مطلوبة في نظر الشرع لما في شغلها من المفسدة، فكيف يصح قياس هذا على بيع شيء غير مقبوض لأجنبي لم يتحصل بعد، ولم تنقطع علق بائعه عنه؟

وأيضا: فإنه لو سلم المسلم فيه ثم أعاده إليه جاز، فأي فائدة في أخذه منه ثم إعادته إليه؟ وهل ذلك إلا مجرد كلفة ومشقة لم تحصل بها فائدة؟.

ومن هنا يعرف فضل علم الصحابة وفقههم على كل من بعدهم.

قالوا: وأما استدلالكم بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن: فنحن نقول بموجبه وأنه لا يربح فيه كما قال ابن عباس: " خذ عرضا بأنقص منه ولا تربح مرتين ".

فنحن إنما نجوز له أن يعاوض عنه بسعر يومه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر في بيع النقود في الذمة:«لا بأس إذا أخذتها بسعر يومها (1)» فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما جوز الاعتياض عن الثمن بسعر يومه لئلا يربح فيما لم يضمن.

وقد نص أحمد على هذا الأصل في بدل العوض وغيره من الديون: أنه إنما يعتاض عنه بسعر يومه لئلا يربح فيما لم يضمن.

وكذلك قال مالك: يجوز الاعتياض عنه بسعر يومه، كما قال ابن عباس لكن مالكا يستثني الطعام خاصة، لأن من أصله: أن بيع الطعام قبل قبضه لا يجوز، بخلاف غيره.

(1) سنن النسائي البيوع (4582)، سنن أبو داود البيوع (3354)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 139)، سنن الدارمي البيوع (2581).

ص: 73

وأما أحمد: فإنه فرق بين أن يعتاض عنه بعرض أو حيوان أو نحوه دون أن يعتاض بمكيل أو موزون، فإن كان بعرض ونحوه جوزه بسعر يومه كما قال ابن عباس ومالك، وإن اعتاض عن المكيل بمكيل أو عن الموزون بموزون فإنه منعه لئلا يشبه بيع المكيل بالمكيل من غير تقابض إذا كان لم توجد حقيقة التقابض من الطرفين، ولكن جوزه إذا أخذ بقدره مما هو دونه كالشعير عن الحنطة نظرا منه إلى أن هذا استيفاء لا معاوضة كما يستوفى الجيد عن الرديء، ففي العرض جوز المعارضة إذ لا يشترط هناك تقابض، وفي المكيل والموزون منع المعاوضة لأجل التقابض وجوز أخذ قدر حقه أو دونه، لأنه استيفاء، وهذا من دقيق فقهه رضي الله عنه.

قالوا: وأما قولكم إن هذا الدين مضمون له فلو جوزنا بيعه لزم توالي الضمانين فهو دليل باطل من وجهين:

أحدهما: أنه لا توالي ضمانين هنا أصلا، فإن الدين كان مضمونا له في ذمة المسلم إليه، فإذا باعه إياه لم يصر مضمونا عليه بحال، لأنه مقبوض في ذمة المسلم إليه، فمن أي وجه يكون مضمونا على البائع بل لو باعه لغيره لكان مضمونا له على المسلم إليه ومضمونا عليه للمشتري، وحينئذ فيتوالى ضمانان.

الجواب الثاني: أنه لا محذور في توالي الضمانين، وليس بوصف مستلزم لمفسدة يحرم العقد لأجلها، وأين الشاهد من أصول الشرع لتأثير هذا الوصف وأي حكم علق الشارع فساده على توالي الضمانين؟ وما كان من الأوصاف هكذا فهو طردي لا تأثير له.

وقد قدمنا ذكر الصور التي فيها توالي الضمانين، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جوز المعاوضة عن ثمن المبيع في الذمة ولا فرق بينه وبين دين المسلم.

قالوا: وأيضا فالمبيع إذا تلف قبل التمكن من قبضه كان على البائع

ص: 74

أداء الثمن الذي قبضه من المشتري، فإذا كان هذا المشتري قد باعه فعليه أداء الثمن الذي قبضه من المشتري الثاني، فالواجب بضمان هذا غير الواجب بضمان الآخر، فلا محذور في ذلك.

وشاهده: المنافع في الإجارة والثمرة قبل القطع، فإنه قد ثبت بالسنة الصحيحة التي لا معارض لها إلا وضع الثمن عن المشتري إذا أصابتها جائحة، ومع هذا يجوز التصرف فيها، ولو تلف لصارت مضمونة عليه بالثمن الذي أخذه، كما هي مضمونة له بالثمن الذي دفعه.

قالوا: وأما قولكم: إن المنع منه إجماع فكيف يصح دعوى الإجماع مع مخالفة حبر الأمة ابن عباس وعالم المدينة مالك بن أنس؟

فثبت أنه لا نص في التحريم ولا إجماع ولا قياس وأن النص والقياس يقتضيان الإباحة كما تقدم، والواجب عند التنازع: الرد إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم.

(فصل) وأما المسألة الثانية: وهي إذا انفسخ العقد بإقالة أو غيرها فهل يجوز أن يأخذ عن دين المسلم عوضا من غير جنسه؟ فيه وجهان:

أحدهما: لا يجوز ذلك حتى يقبضه ثم يصرفه فيما شاء، وهذا اختيار الشريف أبي جعفر وهو مذهب أبي حنيفة.

والثاني: يجوز أخذ العوض عنه وهو اختيار القاضي أبي يعلى وشيخ الإسلام ابن تيمية وهو مذهب الشافعي وهو الصحيح، فإن هذا عوض مستقر في الذمة فجازت المعاوضة عليه كسائر الديون من القرض وغيره. وأيضا، فهذا مال رجع إليه بفسخ العقد فجاز أخذ العوض عنه كالثمن في المبيع.

وأيضا، فحديث ابن عمر في المعاوضة عما في الذمة صريح في الجواز. واحتج المانعون بقوله صلى الله عليه وسلم:«من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره (1)» . قالوا: ولأنه مضمون على المسلم إليه بعقد السلم فلم تجز المعاوضة

(1) سنن أبو داود البيوع (3468)، سنن ابن ماجه التجارات (2283).

ص: 75

عليه قبل قبضه وحيازته كالمسلم فيه.

قال المجوزون: أما استدلالكم بالحديث: فقد تقدم ضعفه، ولو صح لم يتناول محل النزاع، لأنه لم يصرف المسلم فيه في غيره. وإنما عاوض عن دين السلم بغيره فأين المسلم فيه من رأس مال السلم.

وأما قياسكم المنع على نفس المسلم فيه فالكلام فيه أيضا وقد تقدم: أنه لا نص يقتضي المنع منه ولا إجماع ولا قياس.

ثم لو قدر تسليمه لكان الفرق بين المسلم فيه ورأس مال السلم واضحا، فإن المسلم فيه مضمون بنفس العقد، والثمن إنما يضمن بعد فسخ العقد فكيف يلحق أحدهما بالآخر؟ فثبت أنه لا نص في المنع، ولا إجماع ولا قياس.

فإذا عرف هذا فحكم رأس المال بعد الفسخ حكم سائر الديون لا يجوز أن تجعل سلما في شيء آخر لوجهين:

أحدهما: أنه بيع دين بدين.

والثاني: أنه من ضمان المسلم إليه، فإذا جعله سلما في شي آخر ربح فيه وذلك ربح ما لم يضمن، ويجوز فيه ما يجوز في دين القرض وأثمان المبيعات إذا قسمت فإذا أخذ فيه أحد النقدين عن الآخر وجب قبض العوض في المجلس، لأنه صرف بسعر يومه لأنه غير مضمون عليه، وإن عاوض عن المكيل بمكيل أو عن الموزون بموزون من غير جنسه كقطن بحرير أو كتان وجب قبض عوضه في مجلس التعويض.

وإن بيع بغير مكيل أو موزون كالعقار والحيوان فهل يشترط القبض في مجلس التعويض؟ فيه وجهان أصحهما: لا يشترط، وهو منصوص أحمد. والثاني: يشترط.

ومأخذ القولين: أن تأخير قبض العوض يشبه بيع الدين بالدين فيمنع منه، ومأخذ الجواز وهو الصحيح - أن النساءين ما لا يجمعهما

ص: 76

علة، كالحيوان بالموزون جائز للاتفاق على جواز سلم النقدين في ذلك، والله أعلم.

ونظير هذه المسألة: إذا باعه ما يجري فيه الربا كالحنطة مثلا بثمن مؤجل فحل الأجل فاشترى بالثمن حنطة أو مكيلا آخر من غير الجنس مما يمتنع ربا النساء بينهما فهل يجوز ذلك؟ فيه قولان:

أحدهما: المنع وهو المأثور عن ابن عمر وسعيد بن المسيب وطاوس، وهو مذهب مالك وإسحاق.

والثاني: الجواز، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وابن المنذر، وبه قال جابر بن زيد وسعيد بن جبير وعلي بن الحسين، وهو اختيار صاحب المغني وشيخنا.

والأول: اختيار عامة الأصحاب.

والصحيح: الجواز لما تقدم.

قال عبد الله بن زيد: قدمت على علي بن حسين فقلت له: (إني أجذ نخلي وأبيع ممن حضرني التمر إلى أجل فيقدمون بالحنطة وقد حل الأجل فيوقفونها بالسوق، فأبتاع منهم وأقاصهم؟ قال: لا باس بذلك إذا لم يكن منك على رأي) يعني إذا لم يكن حيلة مقصودة.

فهذا شراء للطعام بالدراهم التي في الذمة بعد لزوم العقد الأول فصح لأنه لا يتضمن ربا بنسيئة ولا تفاضل.

والذين يمنعون ذلك يجوزون أن يشتري منه الطعام بدراهم، ويسلمها إليه ثم يأخذها منه وفاء أو نسيئة منه بدراهم في ذمته، ثم يقاصه بها ومعلوم أن شراءه الطعام منه بالدراهم التي له في ذمته أيسر من هذا وأقل كلفة، والله أعلم.

قال محمد بن إسماعيل الصنعاني في سبل السلام (1) وعن عمر - رضي

(1) ج 3 ص 44 - 45.

ص: 77

الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيع الكالئ بالكالئ يعني الدين بالدين» رواه إسحاق والبزار بإسناد ضعيف، ورواه الحاكم والدارقطني من دون تفسير، لكن في إسناده موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف، قال أحمد: لا تحل الرواية عندي عنه ولا أعرف هذا الحديث لغيره وصحفه الحاكم فقال موسى بن عتبة، فصححه على شرط مسلم وتعجب البيهقي من تصحيحه على الحاكم، قال أحمد: ليس في هذا حديث يصح لكن إجماع الناس أنه لا يجوز بيع دين بدين. وظاهر الحديث أن تفسيره بذلك مرفوع، والكالئ من كلاء الدين كلوا فهو كالئ إذا تأخر، وكلاءته إذا أنسأته وقد لا يهمز تخفيفيا، قال في النهاية: هو أن يشتري الرجل شيئا إلى أجل، فإذا حل الأجل لم يجد ما يقضي به فيقول: بعنيه إلى أجل آخر بزيادة شيء فيبيعه ولا يجري بينهما تقابض، والحديث دل على تحريم ذلك وإذا وقع كان باطلا.

ص: 78

3 -

بيعتان في بيعة

آراء الفقهاء في حكم البيعتين في بيعة مع التوجيه والمناقشة:

1 -

قال النووي رحمه الله في المجموع شرح المهذب (1):

قال المصنف رحمه الله:

(فإن قال بعتك بألف مثقال ذهبا وفضة فالبيع باطل، لأنه لم يبين القدر من كل واحد منهما فكان باطلا، وإن قال: بعتك بألف أو بألفين نسيئة - فالبيع باطل، لأنه لم يعقد على ثمن بعينه، فهو كما لو قال: بعتك أحد هذين العبدين).

(الشرح) هاتان المسألتان كما قالهما باتفاق الأصحاب وهما داخلتان في النهي عن بيع الغرر، وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة (2)» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

(1) ج 9 ص 372.

(2)

سنن الترمذي البيوع (1231)، سنن النسائي البيوع (4632).

ص: 78

قال: وفي الباب عن ابن عمر وابن عباس وأبي سعيد وأنس وفسر الشافعي وغيره من العلماء البيعتين في بيعة تفسيرين (أحدهما) أن يقول: بعتك هذا بعشرة نقدا أو بعشرين نسيئة (والثاني) أن يقول: بعتك بمائة مثلا على أن تبيعني دارك بكذا وكذا، وقد ذكر المصنف التفسيرين في الفصل الذي بعد هذا، وذكرهما أيضا في التنبيه وذكرهما الأصحاب وغيرهم (والأول) أشهر، وعلى التقديرين البيع باطل بالإجماع.

(وأما) الحديث الذي في سنن أبي داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا (1)» فقال الخطابي وغيره: يحتمل أن يكون ذلك في قصة بعينها، كأنه أسلف دينارا في قفيز حنطة إلى شهر فحل الأجل فطالبه فقال: يعني القفيز الذي لك علي إلى شهرين بقفيزين فهذا بيع ثان قد دخل على البيع الأول فصار بيعتين في بيعة فيرد إلى أوكسهما وهو الأصل، فإن تبايعا البيع الثاني قبل فسخ الأول كانا قد دخلا في الربا، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(فرع) في مذاهب العلماء فيمن باع بألف مثقال ذهب وفضة، مذهبنا أنه بيع باطل وقال أبو حنيفة يصح ويكون الثمن نصفين، واحتج أصحابنا بالقياس على ما لو باعه بألف بعضه ذهب وبعضه فضة فإنه لا يصح.

ب - قال عبد الله بن قدامة رحمه الله في المغني (2):

(مسألة) قال (وإذا قال بعتك بكذا على أن آخذ منك الدينار بكذا لم ينعقد البيع وكذلك إن باعه بذهب على أن يأخذ منه دراهم بصرف ذكراه. وجملته: أن البيع بهذه الصفة باطل، لأنه شرط في العقد أن يصارفه بالثمن الذي وقع العقد به والمصارفة عقد بيع فيكون بيعتان في بيعة، قال أحمد هذا معناه، وقد روى أبو هريرة قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة (3)» أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وروي أيضا عن

(1) سنن الترمذي البيوع (1231)، سنن النسائي البيوع (4632)، سنن أبو داود البيوع (3461)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 432).

(2)

233 - 235 ج 4.

(3)

سنن الترمذي البيوع (1231)، سنن النسائي البيوع (4632).

ص: 79

عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم وهكذا كل ما كان في معنى هذا مثل أن يقول: بعتك داري هذه على أن أبيعك داري الأخرى بكذا أو على أن تبيعني دارك أو على أن أؤجرك أو على أن تؤجرني كذا أو على أن تزوجني ابنتك أو على أن أزوجك ابنتي ونحو هذا، فهذا كله لا يصح، قال ابن مسعود (الصفقتان في صفقة ربا) وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور العلماء، وجوزه مالك وقال: لا ألتفت إلى اللفظ الفاسد إذا كان معلوما حلالا، فكأنه باع السلعة بالدراهم التي ذكر أنه يأخذها بالدنانير.

ولنا: الخبر، وأن النهي يقتضي الفساد، ولأن العقد لا يجب بالشرط لكونه لا يثبت في الذمة فيسقط، فيفسد العقد، لأن البائع لم يرض به إلا بذلك الشرط، فإذا فات فات الرضى به، ولأنه شرط عقدا في عقد لم يصح كنكاح الشغار وقوله (لا ألتفت إلى اللفظ) لا يصح لأن البيع هو اللفظ، فإذا كان فاسدا فكيف يكون صحيحا ويتخرج أن يصح البيع ويفسد الشرط بناء على ما لو شرط ما ينافي مقتضى العقد كما سبق، والله أعلم.

(فصل) وقد روي في تفسير بيعتين في بيعة وجه آخر: وهو أن يقول بعتك هذا العبد بعشرة نقدا أو بخمسة عشر نسيئة، أو بعشرة مكسرة أو تسعة صحاحا، هكذا فسره مالك والثوري وإسحاق وهو أيضا باطل. وهو قول الجمهور لأنه لم يجزم له ببيع واحد، فأشبه ما لو قال بعتك هذا أو هذا، ولأن الثمن مجهول فلم يصح كالبيع بالرقم المجهول، ولأن أحد العوضين غير معين ولا معلوم، فلم يصح كما لو قال بعتك أحد عبيدي، وقد روي عن طاوس والحكم وحماد أنهم قالوا لا بأس أن يقول: أبيعك بالنقد بكذا وبالنسيئة بكذا، فيذهب على أحدهما وهذا محمول على أنه جرى بينهما بعد ما يجري في العقد، فكأن المشتري قال أنا آخذه بالنسيئة بكذا فقال: خذه أو قد رضيت ونحو ذلك، فيكون عقدا كافيا، وإن لم

ص: 80

يوجد ما يقوم مقام الإيجاب أو يدل عليه لم يصح لأن ما مضى من القول لا يصلح أن يكون إيجابا لما ذكرناه وقد روي عن أحمد فيمن قال: إن خطته اليوم فلك درهم، وإن خطته غدا فلك نصف درهم: أنه يصح فيحتمل أن يلحق به هذا البيع فيخرج وجها في الصحة، ويحتمل أن يفرق بينهما من حيث إن العقد لا يمكن أن يصح لكونه جعالة يحتمل فيها الجهالة بخلاف البيع، ولأن العمل الذي يستحق به الأجر لا يمكن وقوعه إلا على إحدى الصفقتين فتتعين الأجرة المسماة عوضا له، فلا يفضي إلى التنارع وها هنا بخلافه.

(فصل) ولو باعه بشرط أن يسلفه أو يقرضه أو شرط المشتري ذلك عليه فهو محرم والبيع باطل، وهذا مذهب مالك والشافعي، ولا أعلم فيه خلافا إلا أن مالكا قال: إن ترك مشترط السلف بالسلف صح البيع. ولنا: ما روى عبد الله بن عمر «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن وعن بيع ما لم يقبض وعن بيعتين في بيعة وعن شرطين في بيع وعن بيع وسلف (1)» أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وفي لفظ «لا يحل بيع وسلف (2)» ولأنه اشترط عقدا في عقد، ففسد كبيعتين في بيعة، ولأنه إذا اشترط القرض زاد في الثمن لأجله فتصير الزيادة في الثمن عوضا عن القرض وربحا له، وذلك ربا محرم ففسد كما لو صرح به ولأنه بيع فاسد فلا يعود صحيحا كما لو باع درهما بدرهمين ثم ترك أحدهما.

(فصل)

جـ - قال محمد بن علي الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار (باب بيعتين في بيعة)(3).

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من باع بيعتين في بيعة فله

(1) سنن الترمذي البيوع (1234)، سنن النسائي البيوع (4631)، سنن أبو داود البيوع (3504)، سنن ابن ماجه التجارات (2188)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 175)، سنن الدارمي البيوع (2560).

(2)

سنن الترمذي البيوع (1232)، سنن النسائي البيوع (4611)، سنن أبو داود البيوع (3504)، سنن ابن ماجه التجارات (2188)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 175)، سنن الدارمي البيوع (2560).

(3)

ص 248 - 249 ج 5.

ص: 81

أوكسهما أو الربا (1)» رواه أبو داود وفي لفظ «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة (2)» رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه، وعن سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال:«نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة (3)» قال سماك هو الرجل يبيع البيع فيقول هو بنسأ بكذا وهو بنقد بكذا وكذا، رواه أحمد.

حديث أبي هريرة باللفظ الأول في إسناده محمد بن عمرو بن علقمة وقد تكلم فيه غير واحد قال المنذري: والمشهور عنه من رواية الدراوردي ومحمد بن عبد الله الأنصاري «أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة (4)» انتهى، وهو باللفظ الثاني عند من ذكره المصنف وأخرجه أيضا الشافعي ومالك في بلاغاته، وحديث ابن مسعود أورده الحافظ في التلخيص وسكت عنه، وقال في مجمع الزوائد رجال أحمد ثقات وأخرجه أيضا البزار والطبراني في الكبير والأوسط وفي الباب عن ابن عمر عند الدارقطني وابن عبد البر قوله:«من باع بيعتين (5)» فسره سماك بما رواه المصنف عن أحمد عنه، وقد وافقه على مثل ذلك الشافعي فقال بأن يقول بعتك بألف نقدا أو ألفين إلى سنة فخذ أيهما شئت أنت وشئت أنا، ونقل ابن الرفعة عن القاضي أن المسألة مفروضة على أنه قبل على الإبهام أما لو قال قبلت بألف نقدا أو بألفين بالنسيئة صح ذلك، وقد فسر الشافعي بتفسير آخر فقال: هو أن يقول بعتك ذا العبد بألف على أن تبيعني دارك بكذا أي إذا وجب لك عندي وجب لي عندك، وهذا يصلح تفسيرا للرواية الأخرى من حديث أبي هريرة لا للأولى، فإن قوله «فله أوكسهما (6)» يدل على أنه باع الشيء الواحد بيعتين بيعة بأقل وبيعة بأكثر، وقيل في تفسير ذلك هو أن يسلفه دينارا في قفيز حنطة إلى شهر فلما حل الأجل وطالبه بالحنطة قال بعني القفيز الذي لك علي إلى شهرين بقفيزين، فصار ذلك بيعتين في بيعة لأن البيع الثاني قد دخل على الأول فيرد إليه أوكسهما وهو الأول كذا في

(1) سنن الترمذي البيوع (1231)، سنن النسائي البيوع (4632)، سنن أبو داود البيوع (3461)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 432).

(2)

سنن الترمذي البيوع (1231)، سنن النسائي البيوع (4632).

(3)

مسند أحمد بن حنبل (1/ 398).

(4)

صحيح البخاري الصلاة (368)، سنن النسائي البيوع (4517)، سنن ابن ماجه التجارات (2169)، موطأ مالك الجامع (1704).

(5)

سنن الترمذي البيوع (1231)، سنن النسائي البيوع (4632)، سنن أبو داود البيوع (3461)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 432).

(6)

سنن الترمذي البيوع (1231)، سنن النسائي البيوع (4632)، سنن أبو داود البيوع (3461)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 432).

ص: 82

شرح السنن لابن رسلان قوله «فله أوكسهما (1)» أي أنقصهما قال الخطابي لا أعلم أحدا قال بظاهر الحديث وصحح البيع بأوكس الثمنين إلا ما حكي عن الأوزاعي وهو مذهب فاسد، انتهى، ولا يخفى أن ما قاله هو ظاهر الحديث لأن الحكم له بالأوكس يستلزم صحة البيع به، قوله " أو الربا " يعني أو يكون قد دخل هو وصاحبه في الربا المحرم إذا لم يأخذ الأوكس بل أخذ الأكثر وذلك ظاهر في التفسير الذي ذكره ابن رسلان، وأما في التفسير الذي ذكره أحمد عن سماك وذكره الشافعي ففيه متمسك من قال يحرم بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النسأ وقد ذهب إلى ذلك زين العابدين علي بن الحسين والناصر والمنصور بالله والهادوية والإمام يحيى.

وقالت الشافعية والحنفية وزيد بن علي والمؤيد بالله والجمهور أنه يجوز لعموم الأدلة القاضية بجوازه وهو الظاهر لأن ذلك المتمسك هو الرواية الأولى من حديث أبي هريرة وقد عرفت ما في راويها من المقال، ومع ذلك فالمشهور عنه اللفظ الذي رواه غيره وهو النهي عن بيعتين في بيعة ولا نتيجة فيه على المطلوب، ولو سلمنا أن تلك الرواية التي تفرد بها ذلك الراوي صالحة للاحتجاج لكان احتمالها لتفسير خارج عن محل النزاع كما سلف عن ابن رسلان قادحا في الاستدلال بها على المتنازع فيه، على أن غاية ما فيها الدلالة: على المنع من البيع إذا وقع على هذه الصورة وهي أن يقول نقدا بكذا إلا إذا قال من أول الأمر نسيئة بكذا فقط وكان أكثر من سعر يومه، مع أن المتمسكين بهذه الرواية يمنعون من هذه الصورة ولا يدل الحديث على ذلك فالدليل أخص من الدعوى، وقد جمعنا رسالة في هذه المسألة وسميناها شفاء الغلل في حكم زيادة الثمن لمجرد الأجل وحققناها تحقيقا لم نسبق إليه، والعلة في تحريم بيعتين في بيعة عدم استقرار الثمن في صورة بيع الشيء الواحد بثمنين والتعليق بالشرط المستقبل في

(1) سنن الترمذي البيوع (1231)، سنن النسائي البيوع (4632)، سنن أبو داود البيوع (3461)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 432).

ص: 83

صورة بيع هذا على يبيع منه ذاك ولزوم الربا في صورة لقفيز الحنطة: قوله «أو صفقتين في صفقة (1)» أي بيعتين في بيعة.

د - قال صاحب نصب الراية رحمه الله في أحاديث الهداية:

الحديث الثالث عشر: «روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صفقتين في صفقة (2)» ، قلت: رواه أحمد في " مسنده " حدثنا حسن، وأبو النضر، وأسود بن عامر، قالوا: ثنا شريك عن سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة (3)» ، قال أسود: قال شريك: هو أن يبيع الرجل بيعا فيقول: هو نقدا بكذا، ونسيئة بكذا، انتهى. ورواه البزار في مسنده عن أسود بن عامر به ورواه الطبراني في معجمه الأوسط حدثنا أحمد بن القاسم ثنا عبد الملك بن عبد ربه الطائي ثنا ابن السماك بن حرب عن أبيه مرفوعا:«لا تحل صفقتان في صفقة» . انتهى.

ورواه العقيلي في ضعفائه من حديث عمرو بن عثمان بن أبي صفوان الثقفي ثنا سفيان عن سماك به مرفوعا: «الصفقة في الصفقتين ربا» ، انتهى. وأعله بعمرو بن عثمان هذا، وقال: لا يتابع على رفعه، والموقوف أولى، ثم أخرجه من طريق أبي نعيم ثنا سفيان به موقوفا، وهكذا رواه الطبراني في معجمه الكبير من طريق أبي نعيم به موقوفا وكذلك رواه أبو عبيد القاسم بن سلام حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان به موقوفا، قال أبو عبيد: ومعنى صفقتان في صفقة أن يقول الرجل للرجل: أبيعك هذا نقدا بكذا، أو نسيئة بكذا ويفترقان عليه، انتهى.

وكذلك رواه ابن حبان في صحيحه في النوع الثامن والعشرين، من القسم الأول من حديث شعبة عن سماك به موقوفا «الصفقة في الصفقتين ربا» ، وأعاده في النوع التاسع والمائة من القسم الثاني كذلك بلفظ: «لا

(1) مسند أحمد بن حنبل (1/ 398).

(2)

مسند أحمد بن حنبل (1/ 398).

(3)

مسند أحمد بن حنبل (1/ 398).

ص: 84

تحل صفقتان في صفقة»، انتهى.

حديث آخر: أخرجه الترمذي، والنسائي عن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص عن أبي سلمة عن أبي هريرة «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة (1)» ، انتهى. قال الترمذي: حديث حسن صحيح، قال: وفسره بعض أهل العلم: أن يقول الرجل: أبيعك هذا الثوب نقدا بعشرة، ونسيئة بعشرين، ولا يفارقه على أحد البيعين فإذا فارقه على أحدهما فلا بأس إذا كانت العقدة على أحدهما، وقال الشافعي: معناه أن يقول: أبيعك داري هذه بكذا، على أن تبيعني غلامك بكذا، فإذا وجب لي غلامك وجبت لك داري، انتهى. والمصنف فسره بأن يقول: أبيعك عبدي هذا على أن تخدمني شهرا، أو داري هذه على أن أسكنها شهرا قال: فإن الخدمة والسكنى إن كان يقابلها شيء من الثمن يكون إجارة في بيع، وإلا فهو إعارة في بيع، وقد «نهى النبي صلى الله عليه وسلم (عن صفقتين (2)» الحديث، والحديث في الموطأ بلاغ، قال أبو مصعب: أخبرنا مالك أنه بلغه «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة (3)» أهـ.

4 -

بيع المضطر

أ - جاء في سنن أبي داود (4).

عن شيخ من بني تميم قال: خطبنا علي بن أبي طالب - أو قال علي قال: سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يديه ولم يؤمر بذلك قال الله تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} (5) ويبايع المضطرون وقد «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر وبيع الغرر وبيع الثمر قبل أن تدرك (6)» في إسناده رجل مجهول.

قال الشيخ: بيع المضطر يكون من وجهين.

أحدهما: أن يضطر إلى العقد من طريق الإكراه عليه فهذا فاسد لا ينعقد.

(1) سنن الترمذي البيوع (1231)، سنن النسائي البيوع (4632).

(2)

مسند أحمد بن حنبل (1/ 398).

(3)

سنن الترمذي البيوع (1231)، سنن النسائي البيوع (4632).

(4)

ج 3 ص 47.

(5)

سورة البقرة الآية 237

(6)

سنن أبو داود البيوع (3382)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 116).

ص: 85

والوجه الآخر أن يضطر إلى البيع لدين يركبه أو مؤونة ترهقه فيبيع ما في يده بالوكس من أجل الضرورة، فهذا سبيله في حق الدين والمروءة أن لا يبايع على هذا الوجه وأن لا يفتات عليه بماله، ولكن يعان ويقرض ويستمهل له إلى الميسرة حتى يكون له في ذلك بلاغ فإن عقد البيع مع الضرورة على هذا الوجه جاز في الحكم ولم يفسخ.

وفي إسناد الحديث رجل مجهول لا ندري من هو إلا أن عامة أهل العلم قد كرهوا البيع على هذا الوجه.

قال الشيخ: أصل الغرر: هو ما طوي عنك علمه وخفي عليك باطنه وسره، وهو مأخوذ من قولك طويت الثوب على غرة، أي على كسره الأول، وكل بيع كان المقصود منه مجهولا غير معلوم، ومعجوزا عنه غير مقدور عليه فهو غرر، وذلك مثل أن يبيعه سمكا في الماء أو طيرا في الهواء أو لؤلؤة في البحر أو عبدا آبقا أو جملا شاردا أو ثوبا في جراب لم يره ولم ينشره أو طعاما في بيت لم يفتحه أو ولد بهيمة لم يولد أو ثمر شجرة لم تثمر في نحوها من الأمور التي لا تعلم ولا يدرى هل تكون أم لا؟ فإن البيع مفسوخ فيها.

وإنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه البيوع تحصينا للأموال أن تضيع وقطعا للخصومة والنزاع أن يقعا بين الناس فيها.

ب - قال ابن مفلح في البيع (1) وله شروط:

أحدها الرضى فإن أكره بحق صح، وإن أكره على وزن مال فباع ملكه كره الشراء ويصح على الأصح، وهو المضطر، ونقل حرب تحريمه وكراهته وفسره في روايته فقال: يجيئك محتاج فتبيعه ما يساوي عشرة بعشرين، ولأبي داود عن محمد بن عيسى عن هشيم عن صالح بن عامر - كذا قال محمد قال حدثنا شيخ من بني تميم قال: خطبنا علي أو قال:

(1) ج 4 ص 5.

ص: 86

قال علي: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر وبيع الغرر وبيع الثمرة قبل أن تدرك (1)» .

صالح لا يعرف: تفرد عنه هشيم والشيخ لا يعرف أيضا، ولأبي يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا روح بن حاتم حدثنا هشيم عن الكوثر بن حكيم عن مكحول قال بلغني عن حذيفة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث وفيه «ألا إن بيع المضطرين حرام ألا إن بيع المضطرين حرام (2)» .

الكوثر ضعيف بإجماع قال أحمد أحاديثه بواطيل ليس بشيء وقال ابن هبيرة رأيت بخط ابن عقيل حكى عن كسرى أن بعض عماله أراد أن يجري نهرا، فكتب إليه أنه لا يجرى إلا في بيت لعجوز فأمر أن يشتري منها فضوعف لها الثمن فلم تقبل فكتب كسرى أن خذوا بيتها فإن المصالح الكليات تغفر فيها المفاسد الجزئيات، قال ابن عقيل: وجدت هذا صحيحا فإن الله وهو الغاية في العدل يبعث المطر والشمس فإن كان الحكيم القادر لم يراع نوادر المضار لعموم المصالح، فغيره أولى.

جـ - قال ابن القيم رحمه الله بصدد حديثه عن اعتبار القصود في العقود (3):

الصورة السابعة: إذا اشترى أو استأجر مكرها لم يصح وإن كان في الظاهر قد حصل صورة العقد لعدم قصده وإرادته فدل على أن القصد روح العقد ومصححه ومبطله، فاعتبار القصود في العقود أولى من اعتبار الألفاظ فإن الألفاظ مقصودة لغيرها ومقاصد العقود هي التي تراد لأجلها، فإذا ألغيت واعتبرت الألفاظ التي لا تراد لنفسها كان هذا إلغاء لما يجب اعتباره واعتبارا لما قد يسوغ إلغاؤه، وكيف يقدم اعتبار اللفظ

(1) سنن أبو داود البيوع (3382)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 116).

(2)

سنن أبو داود البيوع (3382)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 116).

(3)

ج 3 ص 106 إعلام الموقعين.

ص: 87

الذي قد ظهر كل الظهور أن المراد خلافه؟ بل قد يقطع بذلك على المعنى الذي قد ظهر بل قد يتيقن أنه المراد. هـ

تقدم بعض الكلام في بيع المضطر في الحديث عن العينة والتورق.

5 -

بيع الإنسان ما لم يقبض وبيعه ما ليس عنده وذكر آراء الفقهاء في ذلك.

أ - قال صاحب بدائع الصنائع وترتيب الشرائع رحمه الله بصدد كلامه عن شروط صحة البيع: ومنها القبض في بيع المشترى المنقول فلا يصح بيعه قبل القبض لما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام «نهى عن بيع ما لم يقبض (1)» (1672) والنهي يوجب فساد المنهي ولأنه بيع فيه غرر الانفساخ بهلاك المعقود عليه، لأنه إذا هلك المعقود عليه قبل القبض يبطل البيع الأول فينفسخ الثاني لأنه بناء على الأول، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع فيه غرر (1673) وسواء باعه من غير بائعه لأن النهي مطلق لا يوجب الفصل بين البيع من غير بائعه وبيع البيع من بائعه، وكذا معنى الغرر لا يفصل بينهما فلا يصح الثاني والأول على حاله ولا يجوز إشراكه وتوليته لأن كل ذلك بيع اهـ المقصود منه (2).

ب - قال ابن رشد رحمه الله في بداية المجتهد ونهاية المقتصد: (3).

وأما بيع الطعام قبل قبضه فإن العلماء مجمعون على منع ذلك إلا ما يحكى عن عثمان البتي، وإنما أجمع العلماء على ذلك لثبوت النهي عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:«من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه (4)» واختلف من هذه المسألة في ثلاثة مواضع أحدها: فيما يشترط فيه القبض من المبيعات. والثاني: في الاستفادات التي يشترط في بيعها القبض من التي لا يشترط. والثالث: في الفرق بين ما يباع من الطعام

(1) صحيح البخاري البيوع (2135)، صحيح مسلم البيوع (1525)، سنن الترمذي البيوع (1291)، سنن النسائي البيوع (4600)، سنن أبو داود البيوع (3497)، سنن ابن ماجه التجارات (2227)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 356).

(2)

ص 3197 - 3098 ج 7.

(3)

ج 2 ص 108 - 111.

(4)

صحيح البخاري البيوع (2133)، صحيح مسلم البيوع (1526)، سنن النسائي البيوع (4596)، سنن أبو داود البيوع (3499)، سنن ابن ماجه التجارات (2229)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 56)، موطأ مالك البيوع (1336)، سنن الدارمي البيوع (2559).

ص: 88

مكيلا وجزافا، ففيه ثلاثة فصول:

الفصل الأول - فيما يشترط فيه القبض من المبيعات.

وأما بيع ما سوى الطعام قبل القبض فلا خلاف في مذهب مالك في إجازته، وأما الطعام الربوي فلا خلاف في مذهبه أن القبض شرط في بيعه، وأما غير الربوي من الطعام فعنه في ذلك روايتان: إحداهما: المنع وهي الأشهر، وبها قال أحمد وأبو ثور إلا أنهما اشترطا مع الطعم الكيل والوزن، والرواية الأخرى الجواز، وأما أبو حنيفة فالقبض عنده شرط في كل مبيع ما عدا المبيعات التي لا تنقل ولا تحول من الدور والعقار، وأما الشافعي فإن القبض عنده شرط في كل مبيع، وبه قال الثوري، وهو مروي عن جابر بن عبد الله وابن عباس، وقال أبو عبيد وإسحاق: كل شيء لا يكال ولا يوزن فلا بأس ببيعه قبل قبضه، فاشترط هؤلاء القبض في المكيل والموزون، وبه قال ابن حبيب وعبد العزيز بن أبي سلمة وربيعة، وزاد هؤلاء مع الكيل والوزن المعدود، فيتحصل في اشتراط القبض سبعة أقوال: الأول: في الطعام الربوي فقط، والثاني: في الطعام بإطلاق. والثالث: في الطعام المكيل والموزون. الرابع: في كل شيء ينقل. الخامس: في كل شيء. السادس: في المكيل والموزون. السابع: في المكيل والموزون والمعدود.

أما عمدة مالك في منعه ما عدا المنصوص عليه فدليل الخطاب في الحديث المتقدم، وأما عمدة الشافعي في تعميم ذلك في كل بيع فعموم قوله عليه الصلاة والسلام «لا يحل بيع وسلف ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك (1)» وهذا من باب بيع ما لم يضمن، وهذا مبني على مذهبه من أن القبض شرط في دخول المبيع في ضمان المشتري، واحتج أيضا بحديث حكيم بن حزام قال:«قلت يا رسول الله إني أشتري بيوعا فما يحل لي منها وما يحرم؟ فقال: يا ابن أخي إذا اشتريت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه (2)»

(1) سنن الترمذي البيوع (1232)، سنن النسائي البيوع (4611)، سنن أبو داود البيوع (3504)، سنن ابن ماجه التجارات (2188)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 175)، سنن الدارمي البيوع (2560).

(2)

سنن الترمذي البيوع (1232)، سنن النسائي البيوع (4603)، سنن أبو داود البيوع (3503)، سنن ابن ماجه التجارات (2187)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 402).

ص: 89

قال أبو عمر: حديث حكيم بن حزام رواه يحيى بن أبي كثير عن يوسف بن ماهك أن عبد الله بن عصمة حدثه أن حكيم بن حزام قال: ويوسف بن ماهك وعبد الله بن عصمة لا أعرف لهما جرحة إلا أنه لم يرو عنهما إلا رجل واحد فقط، وذلك في الحقيقة ليس بجرحة وإن كرهه جماعة من المحدثين، ومن طريق المعنى أن بيع ما لم يقبض يتطرق منه إلى الربا، وإنما استثنى أبو حنيفة ما يحول وينقل عنده مما لا ينقل، لأن ما ينقل القبض عنده فيه هي التخلية، وأما من اعتبر الكيل والوزن، فلاتفاقهم أن المكيل والموزون لا يخرج من ضمان البائع إلى ضمان المشتري إلا بالكيل أو الوزن وقد نهي عن بيع ما لم يضمن.

الفصل الثاني - في الاستفادات التي يشترط في بيعها القبض من التي لا يشترط.

وأما ما يعتبر ذلك فيه مما لا يعتبر، فإن العقود تنقسم أولا إلى قسمين: قسم يكون بمعاوضة، وقسم يكون بغير معاوضة كالهبات والصدقات، والذي يكون بمعاوضة ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها يخص بقصد المغابنة والمكايسة وهي البيوع والإجارات والمهور والصلح والمال المضمون بالتعدي وغيره، والقسم الثاني لا يختص بقصد المغابنة وإنما يكون على جهة الرفق وهو القرض، والقسم الثالث: فهو ما يصح أن يقع على الوجهين جميعا: أعني على قصد المغابنة وعلى قصد الرفق كالشركة والإقالة والتولية. وتحصيل أقوال العلماء في هذه الأقسام، أما ما كان بيعا ويعوض فلا خلاف في اشتراط القبض فيه، وذلك في الشيء الذي يشرط فيه القبض واحدا واحدا من العلماء، وأما ما كان خالصا للرفق أعني القرض، فلا خلاف أيضا أن القبض ليس شرطا في بيعه، أعني أنه يجوز للرجل أن يبيع القرض قبل أن يقبضه، واستثنى أبو حنيفة مما يكون بعوض المهر والخلع فقال: يجوز بيعهما قبل القبض، وأما

ص: 90

العقود التي تتردد بين قصد الرفق والمغابنة، وهي التولية والشركة والإقالة، فإذا وقعت على وجه الرفق من غير أن تكون الإقالة أو التولية بزيادة أو نقصان فلا خلاف أعلمه في هذا المذهب أن ذلك جائز قبل القبض وبعده، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا تجوز الشركة ولا التولية قبل القبض، وتجوز الإقالة عندهما لأنهما قبل القبض فسخ بيع لا بيع، فعمدة من اشترط القبض في جميع المعاوضات أنها في معنى البيع المنهي عنه وإنما استثنى مالك من ذلك التولية والإقالة والشركة للأثر والمعنى. وأما الأثر فما رواه من مرسل سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من ابتاع طعاما فلا يبع حتى يستوفيه (1)» إلا ما كان من شركة أو تولية أو إقالة، وأما من طريق المعنى فإن هذه إنما يراد بها الرفق لا المغابنة إذا لم تدخلها زيادة ولا نقصان وإنما استثنى من ذلك أبو حنيفة الصداق والخلع والجعل، لأن العوض في ذلك ليس بينا إذا لم يكن عينا.

الفصل الثالث: في الفرق بين ما يباع من الطعام مكيلا وجزافا.

وأما اشتراط القبض فيما بيع من الطعام جزافا، فإن مالكا رخص فيه وأجازه وبه قال الأوزاعي ولم يجز ذلك أبو حنيفة والشافعي، وحجتهما عموم الحديث المتضمن للنهي عن بيع الطعام قبل قبضه لأن الذريعة موجودة في الجزاف وغير الجزاف، ومن الحجة لهما ما روي عن ابن عمر أنه قال:«كنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم نبتاع الطعام جزافا، فبعث إلينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه (2)» قال أبو عمر: وإن كان مالك لم يرو عن نافع في هذا الحديث ذكر الجزاف، فقد روته جماعة وجوده عبيد الله بن عمر وغيره، وهو مقدم في حفظ حديث نافع. وعمدة المالكية أن الجزاف ليس فيه حق توفية، فهو عندهم من ضمان المشتري بنفس العقد، وهذا من باب تخصيص العموم بالقياس المظنون العلة، وقد يدخل في هذا الباب إجماع العلماء على منع

(1) صحيح البخاري البيوع (2126)، صحيح مسلم البيوع (1526)، سنن النسائي البيوع (4604)، سنن أبو داود البيوع (3495)، سنن ابن ماجه التجارات (2226)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 56)، موطأ مالك البيوع (1335)، سنن الدارمي البيوع (2559).

(2)

صحيح البخاري البيوع (2124)، صحيح مسلم البيوع (1527)، سنن النسائي البيوع (4605)، سنن أبو داود البيوع (3493)، سنن ابن ماجه التجارات (2229)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 113)، موطأ مالك البيوع (1337)، سنن الدارمي البيوع (2559).

ص: 91

بيع الرجل شيئا لا يملكه، وهو المسمى عينة عند من يرى فقله (1) من باب الذريعة إلى الربا، وأما من رأى منعه من جهة أنه قد لا يمكنه نقله فهو داخل في بيوع الغرر، وصورة التذرع منه إلى الربا المنهي عنه أن يقول رجل لرجل: أعطني عشرة دنانير على أن أدفع لك إلى مدة كذا ضعفها فيقول له: هذا لا يصلح، ولكن أبيع منك سلعة كذا لسلعة يسميها ليست عنده بهذا العدد، ثم يعمد هو فيشتري تلك السلعة فيقبضها له بعد أن كمل البيع بينهما، وتلك السلعة قيمتها قريبة مما كان سأله أن يعطيه من الدراهم قرضا فيرد عليه ضعفها، وفي المذهب في هذا تفصيل ليس هذا موضع ذكره، ولا خلاف في هذه الصورة التي ذكرنا أنها غير جائزة في المذهب: أعني إذا تقارا على الثمن الذي يأخذ به السلعة قبل شرائها. وأما الدين بالدين، فأجمع المسلمون على منعه، واختلفوا في مسائل هل هي منه أم ليست منه؟ مثل ما كان ابن القاسم لا يجيز أن يأخذ الرجل من غريمه في دين له عليه تمرا قد بدا صلاحه ولا سكنى دار ولا جارية تتواضع، ويراه من باب الدين بالدين، وكان أشهب يجيز ذلك ويقول: ليس هذا من باب الدين بالدين، وإنما الدين بالدين ما لم يشرع في أخذ شيء منه، وهو القياس عند كثير من المالكيين وهو قول الشافعي وأبي حنيفة، ومما أجاز مالك من هذا الباب وخالفه فيه جمهور العلماء ما قاله في المدونة من أن الناس كانوا يبيعون اللحم بسعر معلوم والثمن إلى العطاء، فيأخذ المبتاع كل يوم وزنا معلوما قال: ولم ير الناس بذلك بأسا، وكذلك كل ما يبتاع في الأسواق، وروى ابن القاسم أن ذلك لا يجوز إلا فيما خشي عليه الفساد من الفواكه إذا أخذ جميعه، أما القمح وشبهه فلا، فهذه هي أصول هذا الباب، وهذا الباب كله إنما حرم في الشرع لمكان الغبن الذي يكون طوعا وعن علم.

(1) لعله: فعله.

ص: 92

جـ - قال صاحب المجموع شرح المهذب

(فرع) في مذاهب العلماء في بيع المبيع قبل القبض، قد ذكرنا أن مذهبنا بطلانه مطلقا سواء كان طعاما أو غيره وبه قال ابن عباس ثبت ذلك عنه ومحمد بن الحسن، قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن من اشترى طعاما فليس له بيعه حتى أن يقبضه، قال: واختلفوا في غير الطعام على أربعة مذاهب (أحدها) لا يجوز بيع شيء قبل قبضه سواء جميع المبيعات كما في الطعام قاله الشافعي ومحمد بن الحسن (والثاني) يجوز بيع كل مبيع قبل قبضه إلا المكيل والموزون قاله عثمان بن عفان وسعيد بن المسيب والحسن والحكم وحماد والأوزاعي وأحمد وإسحاق (والثالث) لا يجوز بيع مبيع قبل قبضه إلا الدور والأرض قاله أبو حنيفة وأبو يوسف (والرابع) يجوز بيع كل مبيع قبل قبضه إلا المأكول والمشروب قاله مالك وأبو ثور قال ابن المنذر وهو أصح المذاهب لحديث النهي عن بيع الطعام قبل أن يستوفى.

واحتج لمالك وموافقيه بحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه (1)» رواه البخاري ومسلم، وعنه قال:«لقد رأيت الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبايعون جزافا يعني الطعام فضربوا أن يبيعوه في مكانهم حتى يؤووه إلى رحالهم (2)» رواه البخاري ومسلم، وعن ابن عباس قال:«أما الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فهو الطعام أن يباع حتى يقبض (3)» قال ابن عباس: وأحسب كل شيء مثله) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم عن ابن عباس قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من ابتاع طعاما ما فلا يبعه حتى يقبضه (4)» ، قال ابن عباس: وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام) وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يكيله» ، رواه مسلم، وفي رواية قال:«نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يستوفى (5)» وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا

(1) صحيح البخاري البيوع (2133)، صحيح مسلم البيوع (1526)، سنن النسائي البيوع (4596)، سنن أبو داود البيوع (3499)، سنن ابن ماجه التجارات (2229)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 56)، موطأ مالك البيوع (1336)، سنن الدارمي البيوع (2559).

(2)

صحيح البخاري البيوع (2137)، صحيح مسلم البيوع (1526)، سنن النسائي البيوع (4606)، سنن أبو داود البيوع (3498)، سنن ابن ماجه التجارات (2229)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 7)، سنن الدارمي البيوع (2559).

(3)

صحيح البخاري البيوع (2135)، صحيح مسلم البيوع (1525)، سنن الترمذي البيوع (1291)، سنن النسائي البيوع (4599)، سنن أبو داود البيوع (3497)، سنن ابن ماجه التجارات (2227)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 221).

(4)

صحيح البخاري البيوع (2133)، صحيح مسلم البيوع (1526)، سنن النسائي البيوع (4596)، سنن أبو داود البيوع (3499)، سنن ابن ماجه التجارات (2229)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 56)، موطأ مالك البيوع (1336)، سنن الدارمي البيوع (2559).

(5)

صحيح مسلم البيوع (1528)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 349).

ص: 93

ابتعت طعاما فلا تبعه حتى تستوفيه (1)»، رواه مسلم قالوا: فالتنصيص في هذه الأحاديث يدل على أن غيره بخلافه قالوا: وقياسا على ما ملكه بإرث أو وصية، وعلى إعتاقه وإجارته قبل قبضه، وعلى بيع الثمر قبل قبضه.

واحتج أصحابنا بحديث حكيم بن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبع ما لم تقبضه» وهو حديث حسن كما سبق بيانه في أول هذا الفصل، وبحديث زيد بن ثابت:«أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تباع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (2)» ، رواه أبو داود بإسناد صحيح إلا أنه من رواية محمد بن إسحاق بن يسار عن أبي الزناد، وابن إسحاق مختلف في الاحتجاج به وهو مدلس وقد قال: عن أبي الزناد والمدلس إذا قال: عن لا يحتج به، لكن لم يضعف أبو داود هذا الحديث، وقد سبق أن ما لم يضعفه فهو حجة عنده فلعله أعضد عنده أو ثبت عنده بسماع ابن إسحاق له من أبي الزناد وبالقياس على الطعام.

(والجواب) عن احتجاجهم بأحاديث النهي عن بيع الطعام من وجهين (أحدها) أن هذا استدلال بداخل الخطاب والتنبيه مقدم عليه، فإنه إذا نهى عن بيع الطعام مع كثرة الحاجة إليه فغيره أولى (والثاني) أن النطق الخاص مقدم عليه وهو حديث حكيم وحديث زيد (وأما) قياسهم على العتق ففيه خلاف سبق فإن سلمناه فالفرق أن العتق له قوة وسراية، ولأن العتق إتلاف للمالية والإتلاف قبض (والجواب) عن قياسهم على الثمن أن فيه قولين فإن سلمناه فالفرق أنه في الذمة مستقر لا يتصور تلفه ونظير المبيع إنما هو الثمن المعين ولا يجوز بيعه قبل القبض، وأما بيع الميراث والموصى به فجوابه أن الملك فيهما مستقر بخلاف المبيع، والله أعلم.

واحتج لأبي حنيفة بإطلاق النصوص ولأنه لا يتصور تلف العقار

(1) صحيح مسلم البيوع (1529)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 327).

(2)

صحيح البخاري البيوع (2124)، صحيح مسلم البيوع (1526)، سنن النسائي البيوع (4606)، سنن أبو داود البيوع (3499)، سنن ابن ماجه التجارات (2229)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 56)، موطأ مالك البيوع (1337).

ص: 94

بخلاف غيره. واحتج أصحابنا بما سبق في الاحتجاج على مالك وأجابوا عن النصوص بأنها مخصوصة بما ذكرناه (وأما) قولهم: لا يتصور تلفه. فينتقض بالجديد الكثير، والله سبحانه وتعالى أعلم.

قال المصنف رحمه الله:

(وأما الديون فينظر فيها، فإن كان الملك عليها مستقرا كغرامة المتلف وبدل القرض، جاز بيعه ممن عليه قبل القبض لأن ملكه مستقر عليه، فجاز بيعه كالمبيع بعد القبض وهل يجوز من غيره؟ فيه وجهان (أحدهما) يجوز، لأن ما جاز بيعه ممن عليه جاز بيعه من غيره كالوديعة (والثاني) لا يجوز، لأنه لا يقدر على تسليمه إليه لأنه ربما منعه أو جحده وذلك غرر لا حاجة به إليه فلم يجز والأول أظهر لأن الظاهر أنه يقدر على تسليمه إليه من غير منع ولا جحود، وإن كان الدين غير مستقر نظرت فإن كان مسلما فيه لم يجز بيعه لما روي أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن رجل أسلف في حلل دقاق فلم يجد تلك الحلل فقال: آخذ منك مقام كل حلة من الدقاق حلتين من الجل فكرهه ابن عباس، وقال: خذ برأس المال علفا أو غنما، ولأن الملك في المسلم فيه غير مستقر لأنه ربما تعذر فانفسخ البيع فيه فلم يجز بيعه كالمتبع قبل القبض.

وإن كان ثمنا في بيع ففيه قولان قال في الصرف: يجوز بيعه قبل القبض لما روى ابن عمر قال: «كنت أبيع الأول بالبقيع بالدنانير، فآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم فآخذ الدنانير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا بأس ما لم تتفرقا وبينكما شيء (1)» ، ولأنه لا يخشى انفساخ العقد فيه بالهلاك فصار كالبيع بعد القبض، وروى المزني في جامعه الكبير أنه لا يجوز لأن ملكه غير مستقر عليه: لأنه قد ينفسخ البيع فيه بتلف المبيع أو بالرد بالعيب، فلم يجز بيعه كالمبيع قبل القبض، وفي بيع نجوم المكاتب قبل القبض طريقان (أحدهما) أنه على قولين بناء على القولين في بيع رقبته (والثاني)

(1) سنن الترمذي البيوع (1242)، سنن النسائي البيوع (4582)، سنن أبو داود البيوع (3354)، سنن ابن ماجه التجارات (2262)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 139)، سنن الدارمي البيوع (2581).

ص: 95

أنه لا يصح ذلك قولا واحدا وهو المنصوص في المختصر لأنه لا يملكه ملكا مستقرا فلم يصح بيعه كالمسلم فيه.

(الشرح) حديث ابن عمر صحيح رواه أبو داود والترمذي والنسائي وآخرون بأسانيد صحيحة عن سماك بن حرب عن سعيد عن ابن عمر بلفظه هنا، قال الترمذي وغيره: لم يرفعه غير سماك وذكر البيهقي في معرفة السنن والآثار أن أكثر الرواة وقفوه على ابن عمر (قلت) وهذا لا يقدح في رفعه، وقد قدمنا مرات أن الحديث إذا رواه بعضهم مرسلا وبعضهم متصلا وبعضهم موقوفا مرفوعا كان محكوما بوصله ورفعه على المذهب الصحيح الذي قاله الفقهاء والأصوليون ومحققو المحدثين من المتقدمين والمتأخرين بالبقيع هو بالباء الموحدة، وإنما قيدته لأني رأيت من يصحفه (وقوله) المسلم في حلل هو جمع حلة بضم الحاء وهي ثوبان ولا يكون إلا ثوبان كذا قاله أهل اللغة، والمدق بكسر الدال والجل بكسر - الجيم - وهو الغليظ (وقوله) من غير حاجة إليه يحترز من أساس الدار فإنه يصح بيعه وهو غرر للحاجة، وهذا الاحتراز يكرره المصنف في كتاب البيوع كثيرا.

(أما) الأحكام فقد لخصها الرافعي أحسن تلخيص وهذا مختصر كلامه قال: الدين في الذمة ثلاثة أضرب مثمن وثمن وغيرهما، وفي حقيقة الثمن ثلاثة أوجه (أحدها) أنه ما ألصق به الباء كقولك بعت كذا بكذا والأول مثمن. والثاني ثمن وهذا قول القفال (والثاني) أنه النقد مطلقا والمثمن ما يقابله على الوجهين (أصحهما) أن الثمن النقد والمثمن ما يقابله فإن لم يكن في العقد نقدا وكان العوضان نقدين فالثمن ما ألصقت به الباء والمثمن ما يقابله، فلو باع أحد النقدين بالآخر فلا مثمن فيه على الوجه الثاني ولو باع عرضا بعرض فعلى الوجه الثاني لا ثمن فيه وإنما هو مبادلة، ولو قال بعتك هذه الدراهم بهذا العبد فعلى الوجه الأول العبد ثمن والدراهم مثمن وعلى الوجه الثاني والثالث في صحة هذا العقد وجهان كالسلم في الدراهم والدنانير (الأصح) الصحة في الموضعين،

ص: 96

فإن صححناه فالعبد مثمن.

ولو قال: بعتك هذا الثوب بهذا العبد ووصفه صح العقد (فإن قلنا) الثمن ما ألصق به الباء فالعبد ثمن ولا يجب تسليم الثوب في المجلس وإلا ففي وجوب تسليم الثوب وجهان لأنه ليس فيه لفظ السلم لكن فيه معناه. فإذا عرف عدنا إلى بيان الأضرب الثلاثة (الضرب الأول) المثمن وهو المسلم فيه فلا يجوز بيعه ولا الاستبدال عنه، وهل تجوز الحوالة به؟ بأن يحيل المسلم إليه بحقه على من له عليه دين قرض أو إتلاف، أو الحوالة عليه بأن يحيل المسلم من له عليه دين قرض أو إتلاف على المسلم إليه، فيه ثلاثة أوجه (أصحها) لا (والثاني) نعم (والثالث) لا يجوز عليه ويجوز به، هكذا حكموا الثالث وعكسه الغزالي في الوسيط فقال: يجوز عليه لا به ولا أظن نقله ثابتا.

(الضرب الثاني) الثمن فإذا باع بدراهم أو دنانير في الذمة ففي الاستبدال عنها طريقان (أحدهما) القطع بالجواز قاله القاضي أبو حامد وابن القطان (وأشهرهما) على قولين (أصحهما) وهو الجديد جوازه (والقديم) منعه، ولو باع في الذمة بغير الدراهم والدنانير (فإن قلنا) الثمن ما ألصقت به الباء صح الاستبدال عنه كالنقدين، وادعى البغوي أنه المذهب وإلا فلا لأن ما ثبت في الذمة مثمنا لم يجز الاستبدال عنه (وأما) الأجرة فكالثمن (وأما) الصداق وبدل الخلع فكذلك إن قلنا أنهما مضمونان ضمان العقد وإلا فهما كبدل الإتلاف.

(التفريع) إن منعنا الاستبدال عن الدراهم فذلك إذا استبدل عنها عرضا فلو استبدل نوعا منها بنوع أو استبدل الدراهم عن الدنانير فوجهان لاستوائهما في الزواج، وإن جوزنا الاستبدال فلا فرق بين بدل وبدل ثم ينظر إن استبدل ما يوافقهما في علة الربا كدنانير عن دراهم اشترط قبض البدل في المجلس، وكذا إن استبدل عن الحنطة المبيعة شعيرا إن جوزنا ذلك، وفي اشتراط تعيين البدل عند العقد وجهان

ص: 97

(أحدهما) يشترط وإلا فهو بيع دين بدين (وأصحهما) لا يشترط كما لو تصارفا في الذمة ثم عينا وتقابضا في المجلس، وإن استبدل ما ليس موافقا لها في علة الربا كالطعام والثياب عن الدراهم نظر إن عين البدل في الاستبدال جاز، وفي اشتراط قبضه في المجلس وجهان (صحح) الغزالي وجماعة الاشتراط وهو ظاهر نصه في المختصر وصحح الإمام والبغوي عدمه، قلت: هذا الثاني أصح، وصححه الرافعي في المحرر، وإن لم يعين بل وصف في الذمة فعلى الوجهين السابقين وإن جوزناه اشترط التعيين في المجلس وفي اشتراط القبض الوجهان.

(الضرب الثالث) ما ليس ثمنا ولا مثمنا كدين القرض والإتلاف فيجوز الاستبدال عنه بلا خلاف كما لو كان له في يد غيره مال بغصب أو عارية فإنه يجوز بيعه له، ثم الكلام في اعتبار التعيين والقبض على ما سبق، وذكر صاحب الشامل أن القرض إنما يستبدل عنه إذا تلف، فإن بقي في يده فلا ولم يفرق الجمهور بينهما ولا يجوز استبدال المؤجل عن الحال - يجوز عكسه - وهذا الذي ذكرنا كله في الاستبدال، وهو بيع الدين ممن هو عليه فأما بيعه لغيره كمن له على رجل مائة فاشترى من آخر عبدا بتلك المائة ففي صحته قولان مشهوران (أصحهما) لا يصح لعدم القدرة على التسليم (والثاني) يصح بشرط أن يقبض مشتري الدين بالدين ممن هو عليه وأن يقبض بائع الدين العوض في المجلس. فإن تفرقا قبل قبض أحدهما بطل العقد، ولو كان له دين على إنسان ولآخر مثله على ذلك الإنسان فباع أحدهما ما له عليه بما لصاحبه لم يصح، سواء اتفق الجنس لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ، هذا آخر كلام الرافعي (قلت: قد صحح المصنف هنا وفي التنبيه جواز بيع الدين لغير من هو عليه وصحح الرافعي في الشرح والمحرر أنه لا يجوز).

ص: 98

(فرع) قال الشيخ أبو حامد في تعليقه في آخر باب بيع الطعام قبل أن يستوفي: إذا باع طعاما بثمن مؤجل فحل الأجل فأخذ بالثمن طعاما جاز عندنا، قال الشافعي: وقال مالك: لا يجوز لأنه يصير في معنى بيع طعام بطعام مؤجل، دليلنا أنه إنما يأخذ منه الطعام بالثمن الذي له عليه لا بالطعام وهذا الذي جزم به أبو حامد تفريعا على الصحيح وهو الاستبدال عن الثمن، وقد صرح بهذا جماعة منهم القاضي أبو الطيب في تعليقه قال صاحب البيان قال الصيمري والعبيدلاني: فلو أراد أن يأخذ ثمن الدين المؤجل عوضا من نقد وعرض قبل حلوله لم يصح (أما) تقديم الدين نفسه فيجوز لأنه لا يملك المطالبة به قبل الحلول فكأنه أخذ العوض عما لا يستحقه. والله سبحانه وتعالى أعلم.

قال المصنف رحمه الله: (والقبض فيما ينقل النقل لما روى زيد بن ثابت «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (1)» وفيما لا ينقل كالعقار والثمر قبل أوان الجذاذ التخلية لأن القبض ورد به الشرع وأطلقه فحمل على العرف، والعرف فيما ينقل النقل وفيما لا ينقل التخلية).

(الشرح) أما حديث زيد فسبق بيانه قريبا في فرع مذاهب العلماء في بيع المبيع قبل القبض وفي التجار لغتان - كسر التاء مع تخفيف الجيم. وضمها مع التشديد، والجذاذ - بفتح الجيم وكسرها - (أما) الأحكام فقال أصحابنا: الرجوع في القبض إلى العرف وهو ثلاثة أقسام (أحدها) العقار والثمر على الشجرة تقبضه بالتخلية (والثاني) ما ينقل في العادة كالأخشاب والحبوب والحيتان ونحوها فقبضه بالنقل إلى مكان لا اختصاص للبائع به سواء نقل إلى ملك المشتري أو موات أو شارع أو مسجد أو غيره. وفيه قول حكاه الخراسانيون أنه يكفي فيه التخلية وهو مذهب أبي حنيفة (والثالث) ما يتناول باليد كالدراهم والدنانير والمنديل

(1) صحيح البخاري البيوع (2124)، صحيح مسلم البيوع (1526)، سنن النسائي البيوع (4606)، سنن أبو داود البيوع (3499)، سنن ابن ماجه التجارات (2229)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 56)، موطأ مالك البيوع (1337)، سنن الدارمي البيوع (2559).

ص: 99

والثوب والإناء الخفيف والكتاب ونحوها فقبضه بالتناول بلا خلاف، صرح بذلك الشيخ أبو حامد في تعليقه والقاضي أبو الطيب والمحاملي والماوردي والمصنف في التنبيه والبغوي وخلائق لا يحصون، وينكر على المصنف كونه أهمله هنا مع شهرته ومع ذكره له في التنبيه، والله تعالى أعلم. وقد فحص الرافعي رحمه الله كلام الأصحاب وجمع متصرفه مختصرا وأنا أنقل مختصره وأضم إليه ما أهمله إن شاء الله تعالى، قال رحمه الله: القول الجملي فيه أن الرجوع فيما يكون قبضا إلى العادة وتختلف بحسب اختلاف المال (وأما) تفصيله فنقول المال إما أن يباع من غير اعتبار تقدير فيه وإما مع اعتبار فيه فهما نوعان، الأول: ما لا يعتبر فيه تقدير إما لعدم إمكانه وإما إمكانه فينظر إن كان المبيع مما لا ينقل كالأرض والدار فقبضه بالتخلية بينه وبين المشتري ويمكنه من اليد والتصرف بتسليم المفتاح إليه، ولا يعتبر دخوله وتصرفه فيه ويشترط كونه فارغا من أمتعة البائع، فلو باع دارا فيها أمتعة للبائع توقف التسليم على تفريغها وكذا لو باع سفينة مشحونة بالقماش. وحكى الرافعي بعد هذا وجها شاذا ضعيفا عند ذكر بيع الدار المذروعة أنه لا يصح بيع الدار المشحونة بالأقمشة وادعى إمام الحرمين أنه ظاهر المذهب.

ولو جمع البائع متاعه في بيت من الدار وخلى بين المشتري وبين الدار حصل القبض فيما عدا ذلك البيت كذا قاله الأصحاب وكذا نقله المتولي عن الأصحاب. وفي اشتراط حضور البائع عند المبيع في حال الإقباض ثلاثة أوجه (أحدها) يشترط، فإن حضرا عنده فقال البائع للمشتري دونك هذا ولا مانع حصل القبض وإلا فلا، والثاني يشترط حضور المشتري دون البائع (وأصحها) لا يشترط حضور واحد منهما. لأن ذلك يشق، فعلى هذا هل يشترط زمان إمكان المضي؟ فيه وجهان (أصحهما) نعم، وبه قطع المتولي وغيره وفي معنى الأرض الشجر الثابت والثمرة

ص: 100

المبيعة على الشجر قبل أوان الجذاذ، والله سبحانه أعلم.

(أما) إذا كان المبيع من المنقولات فالمذهب والمشهور أنه لا تكفي التخلية بل يشترط النقل والتحويل، وفي قول رواه حرملة تكفي التخلية لنقل الضمان إلى المشتري ولا تكفي لجواز تصرفه فعلى المذهب إن كان المبيع عبدا يأمره بالانتقال من موضعه وإن كان دابة ساقها أو قادها (قلت) قال صاحب البيان: لو أمر العبد بعمل لم ينتقل فيه عن موضعه أو ركب البهيمة ولم تنقل عن موضعها فالذي يقتضيه المذهب أنه لا يكون قبضا كما لا يكون غصبا، قال ولو وطئ الجارية فليس قبضا على الصحيح من الوجهين وبهذا قطع الجمهور، وهذا الذي ذكره في الغصب فيه خلاف نذكره في الغصب إن شاء الله تعالى. قال الرافعي: إذا كان المبيع في موضع لا يختص بالبائع كموات ومسجد وشارع أو في موضع يختص بالمشتري فالتحويل إلى مكان منه كاف في حصول القبض وإن كان في بقعة مخصوصة بالبائع فالنقل من زاوية منه إلى زاوية، أو من بيت من داره إلى بيت بغير إذن البائع لا يكفي لجواز التصرف ويكفي لدخوله في ضمانه وإن نقل بإذنه حصل القبض وكأنه استعار ما نقل إليه.

ولو اشترى الدار مع أمتعة فيها صفقة واحدة فخلى البائع بينهما وبينه حصل القبض في الدار، وفي الأمتعة وجهان (أصحهما) يشترط نقلها لأنها منقولة كما لو أفردت (والثاني) يحصل فيها القبض تبعا، وبه قطع الماوردي وزاد، فقال: لو اشترى صبرة ولم ينقلها حتى اشترى الأرض التي عليها الصبرة وخلى البائع بينه وبينها حصل القبض في الصبرة (قلت) قال الماوردي: ولو استأجر الأرض من البائع فوجهان (الصحيح) أنه ليس قبضا للأمتعة، والله سبحانه أعلم.

قال الرافعي: ولو لم يتفقا على القبض فجاء البائع بالمبيع فامتنع

ص: 101

المشتري من قبضه أجبره الحاكم عليه فإن أصر أمر الحاكم من يقبضه كما لو كان غائبا، قال: ولو جاء البائع بالمبيع فقال المشتري: ضعه فوضعه بين يديه حصل القبض فإن وضعه بين يديه ولم يقل المشتري شيئا أو قال: لا أريده فوجهان (أحدهما) لا يحصل القبض كما لا يحصل الإيداع (وأصحها) يحصل لوجوب التسليم، كما لو وضع المغصوب بين يدي المالك فإنه يبرأ من الضمان فعلى هذا للمشتري التصرف فيه، ولو تلف فمن ضمانه لكن لو خرج مستحقا ولم يجر إلا وضعه فليس للمستحق مطالبة المشتري بالضمان، لأن هذا القدر لا يكفي لضمان الغصب.

ص: 102

جـ - قال ابن قدامة رحمه الله في المغني:

(فصل) وقبض كل شيء بحسبه فإن كان مكيلا أو موزونا بيع كيلا أو موزونا فقبضه بكيله ووزنه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة التخلية في ذلك قبض، وقد روى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى أن القبض في كل شيء بالتخلية مع التمييز، لأنه خلى بينه وبين المبيع من غير حائل فكان قبضا له كالعقار، ولنا ما رواه أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إذا بعت فكل، وإذا ابتعت فاكتل (1)» . رواه النجاد وعن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري (2)» . رواه ابن ماجه وهذا فيما بيع كيلا، وإن بيع جزافا فقبضه نقله لأن ابن عمر قال:«كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتروا طعاما جزافا أن يبيعوه حتى يحوله (3)» وفي لفظ: «كنا نبتاع الطعام جزافا فبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من مكانه الذي ابتعناه إلى مكان في مكانه سواء قبل أن نبيعه (4)» . وفي لفظ: «كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله (5)» رواه مسلم.

وهذا يبين أن الكيل إنما وجب فيما بيع بالكيل وقد دل على ذلك أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا سميت

(1) سنن ابن ماجه التجارات (2230)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 62).

(2)

سنن ابن ماجه التجارات (2228).

(3)

صحيح البخاري الحدود (6852)، صحيح مسلم البيوع (1527)، سنن النسائي البيوع (4606)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 7).

(4)

صحيح البخاري البيوع (2124)، صحيح مسلم البيوع (1527)، سنن النسائي البيوع (4605)، سنن أبو داود البيوع (3493)، سنن ابن ماجه التجارات (2229)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 56)، موطأ مالك البيوع (1337)، سنن الدارمي البيوع (2559).

(5)

صحيح البخاري البيوع (2124)، صحيح مسلم البيوع (1526)، سنن النسائي البيوع (4606)، سنن أبو داود البيوع (3499)، سنن ابن ماجه التجارات (2229)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 142)، موطأ مالك البيوع (1337)، سنن الدارمي البيوع (2559).

ص: 102

الكيل فكل (1)» رواه الأثرم. وإن كان المبيع دراهم أو دنانير فقبضها باليد وإن كان ثيابا فقبضها بنقلها وإن كان حيوانا فقبضه تمشيته من مكانه، وإن كان مما لا ينقل ويحول فقبضه التخلية بينه وبين مشتريه لا حائل دونه، وقد ذكره الخرقي في باب الرهن فقال: إن كان مما ينقل فقبضه أخذه إياه من راهنه منقولا، وإن كان مما لا ينقل فقبضه تخلية راهنه بينه وبين مرتهنه لا حائل دونه، ولأن القبض مطلق في الشرع فيجب الرجوع فيه إلى العرف كالإحراز والتفرق والعادة في قبض هذه الأشياء ما ذكرنا. . . . إلى أن قال:

(مسألة) قال (ومن اشترى ما يحتاج إلى قبضه لم يجز بيعه حتى يقبضه)

وقد ذكرنا الذي يحتاج إلى قبض والخلاف فيه وكل ما يحتاج إلى قبض إذا اشتراه لم يجز بيعه حتى يقبضه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه (2)» متفق عليه، ولأنه من ضمان بائعه فلم يجز بيعه كالسلم ولم أعلم بين أهل العلم خلافا إلا ما حكي عن البتي أنه قال: لا بأس ببيع كل شيء قبل قبضه، وقال ابن عبد البر: وهذا قول مردود بالسنة والحجة المجمعة على الطعام وأظنه لم يبلغه هذا الحديث ومثل هذا لا يلتفت إليه، وأما غير ذلك فيجوز بيعه قبل قبضه في أظهر الروايتين ويروى مثل هذا عن عثمان بن عفان رضي الله عنه وسعيد بن المسيب والحكم وحماد والأوزاعي وإسحاق.

وعن أحمد رواية أخرى لا يجوز بيع شيء قبل قبضه اختارها ابن عقيل وروي ذلك عن ابن عباس وهذا قول أبي حنيفة والشافعي إلا أن أبا حنيفة أجاز بيع العقار قبل قبضه، واحتجوا بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه. وبما روى أبو داود:«أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (3)» . وروى ابن ماجه «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شراء الصدقات حتى تقبض (4)» . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما

(1) سنن ابن ماجه التجارات (2230)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 75).

(2)

صحيح البخاري البيوع (2124)، صحيح مسلم البيوع (1526)، سنن النسائي البيوع (4606)، سنن أبو داود البيوع (3499)، سنن ابن ماجه التجارات (2229)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 22)، موطأ مالك البيوع (1337)، سنن الدارمي البيوع (2559).

(3)

صحيح البخاري البيوع (2124)، صحيح مسلم البيوع (1526)، سنن النسائي البيوع (4606)، سنن أبو داود البيوع (3499)، سنن ابن ماجه التجارات (2229)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 56)، موطأ مالك البيوع (1337)، سنن الدارمي البيوع (2559).

(4)

سنن ابن ماجه التجارات (2196)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 42).

ص: 103

بعث عتاب بن أسيد إلى مكة قال: «انههم عن بيع ما لم يقبضوه وعن ربح ما لم يضمنوه» ولأنه لم يتم الملك عليه فلم يجز بيعه كغير المتعين أو كالمكيل والموزون.

ولنا ما روى ابن عمر قال: «كنا نبيع الإبل بالبقيع بالدراهم فنأخذ بدل الدراهم الدنانير ونبيعها بالدنانير فنأخذ بدلها الدراهم فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: " لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما شيء (1)» . وهذا التصرف في الثمن قبل قبضه وهو أحد العوضين، وروى ابن عمر «أنه كان على بكر صعب - يعني لعمر - فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر:" بعنيه " فقال: هو لك يا رسول الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " هو لك يا عبد الله بن عمر فاصنع به ما شئت (2)» وهذا ظاهره التصرف في المبيع بالهبة قبل قبضه، واشترى من جابر جمله ونقده ثمنه ثم وهبه إياه قبل قبضه، ولأنه أحد نوعي المعقود عليه فجاز التصرف فيه قبل قبضه كالمنافع في الإجارة فإنه يجوز له إجارة العين المستأجرة قبل قبض المنافع، ولأنه مبيع لا يتعلق به حق توفية فصح بيعه كالمال في يد مودعه أو مضاربه، فأما أحاديثهم فقد قيل لم يصح منها إلا حديث الطعام وهو حجة لنا بمفهومه فإن تخصيصه الطعام بالنهي عن بيعه قبل قبضه يدل على إباحة ذلك فيما سواه، وقولهم لم يتم الملك عليه ممنوع فإن السبب المقتضي للملك متحقق وأكثر ما فيه تخلف القبض، واليد ليست شرطا في صحة البيع بدليل جواز بيع المال المودع والموروث والتصرف في الصداق وعوض الخلع عند أبي حنيفة.

(فصل) وما لا يجوز بيعه قبل قبضه لا يجوز بيعه لبائعه لعموم الخبر فيه، قال القاضي: لو ابتاع شيئا مما يحتاج إلى قبض فلقيه ببلد آخر لم يكن له مطالبته ولا أخذ بدله وإن تراضيا لأنه مبيع لم يقبض، فإن كان مما لا يحتاج إلا قبض جاز أخذ البدل عنه وإن كان في سلم لم يجز أخذ

(1) سنن الترمذي البيوع (1242)، سنن النسائي البيوع (4582)، سنن أبو داود البيوع (3354)، سنن ابن ماجه التجارات (2262)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 83)، سنن الدارمي البيوع (2581).

(2)

صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2611).

ص: 104

البدل عنه لأنه أيضا لا يجوز بيعه.

(فصل) وكل عوض ملك بعقد ينفسخ بهلاكه قبل القبض لم يجز التصرف فيه قبل قبضه كالذي ذكرنا والأجرة وبدل الصلح إذا كانا من المكيل أو الموزون أو المعدود، وما لا ينفسخ العقد بهلاكه جاز التصرف فيه قبل قبضه كعوض الخلع والعتق على مال وبدل صلح عن دم العمد وأرش الجناية وقيمة المتلف، لأن المطلق للتصرف الملك وقد وجد لكن ما يتوهم فيه غرر الانفساخ بهلاك المعقود عليه لم يجز بناء عقد آخر عليه تحرزا من الغرر، وما لا يتوهم فيه ذلك الغرر انتفى المانع فجاز العقد عليه وهذا قول أبي حنيفة، والمهر كذلك عند القاضي وهو قول أبي حنيفة لأن العقد لا ينفسخ بهلاكه وقال الشافعي: لا يجوز التصرف فيه قبل قبضه ووافقه أبو الخطاب في غير المتعين لأنه يخشى رجوعه بانتقاض سببه بالردة قبل الدخول أو انفساخه بسبب من جهة المرأة أو نصفه بالطلاق أو انفساخه بسبب من غير جهتها، وكذلك قال الشافعي في عوض الخلع وهذا التعليل باطل بما بعد القبض فإن قبضه لا يمنع الرجوع فيه قبل الدخول، وأما ما لك بإرث أو وصية أو غنيمة، أو تعين ملكه فيه فإنه يجوز له التصرف فيه بالبيع وغيره قبل قبضه لأنه غير مضمون بعقد معاوضة فهو كالمبيع المقبوض وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي ولا أعلم عن غيرهم خلافهم، وإن كان لإنسان في يد غيره وديعة أو عارية أو مضاربة أو جعله وكيلا فيه جاز له بيعه ممن هو في يده ومن غيره لأنه عين مال مقدور على تسليمها لا يخشى انفساخ الملك فيها فجاز بيعها كالتي في يده، وإن كان غصبا جاز بيعه ممن هو في يده لأنه مقبوض معه فأشبه بيع العارية ممن هي في يده وأما بيعه لغيره فإن كان عجزا عن استنقاذه أو ظن أنه عاجز لم يصح شراؤه له، لأنه معجوز عن تسليمه إليه فأشبه بيع الآبق والشارد وإن ظن أنه قادر على استنقاذه ممن هو في

ص: 105

يده صح البيع لإمكان قبضه، فإن عجز عن استنقاذه فله الخيار بين الفسخ والإمضاء لأن العقد صح لكونه مظنون القدرة على قبضه، ويثبت له الفسخ للعجز عن القبض فأشبه ما لو باعه فرسا فشردت قبل تسليمها أو غائبا بالصفة فعجز عن تسليمه.

قال ابن حجر رحمه الله في فتح الباري:

باب بيع الطعام قبل أن يقبض وبيع ما ليس عندك، حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان قال: الذي حفظناه من عمرو بن دينار سمع طاوسا يقول سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: أما الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم: فهو الطعام أن يباع حتى يقبض، قال ابن عباس: ولا أحسب كل شيء إلا مثله، حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه (1)» زاد إسماعيل «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه (2)» .

باب من رأى إذا اشترى طعاما جزافا أن لا يبيعه حتى يؤويه إلى رحله والأدب في ذلك

حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب قال: أخبرني سالم بن عبد الله أن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «رأيت الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتاعون جزافا - يعني الطعام - يضربون أن يبيعوه في مكانهم حتى يؤووه إلى رحالهم (3)» .

(قوله)(باب بيع الطعام قبل أن يقبض وبيع ما ليس عندك) لم يذكر في حديثي الباب بيع ما ليس عندك وكأنه لم يثبت على شرطه فاستنبطه من النهي عن البيع قبل القبض ووجه الاستدلال منه بطريق الأولى، وحديث النهي عن بيع ما ليس عندك أخرجه أصحاب السنن من حديث حكيم بن حزام بلفظ قلت: يا رسول الله يأتيني الرجل فيسألني البيع ليس عندي أبيعه منه ثم أبتاعه له من السوق؟ فقال:

(1) صحيح البخاري البيوع (2124)، صحيح مسلم البيوع (1526)، سنن النسائي البيوع (4606)، سنن أبو داود البيوع (3499)، سنن ابن ماجه التجارات (2229)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 22)، موطأ مالك البيوع (1337)، سنن الدارمي البيوع (2559).

(2)

صحيح البخاري البيوع (2133)، صحيح مسلم البيوع (1526)، سنن النسائي البيوع (4596)، سنن أبو داود البيوع (3499)، سنن ابن ماجه التجارات (2229)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 56)، موطأ مالك البيوع (1336)، سنن الدارمي البيوع (2559).

(3)

صحيح البخاري البيوع (2137)، صحيح مسلم البيوع (1527)، سنن النسائي البيوع (4608)، سنن أبو داود البيوع (3499)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 7).

ص: 106

«لا تبع ما ليس عندك (1)» أخرجه الترمذي مختصرا ولفظه: «نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عندي (2)» ، قال ابن المنذر: وبيع ما ليس عندك يحتمل معنيين أحدهما أن يقول أبيعك عبدا أو دارا معينة وهي غائبة فيشبه بيع الغرر لاحتمال أن تتلف أو لا يرضاها، ثانيهما: أن يقول هذه الدار بكذا على أن أشتريها لك من صاحبها أو على أن يسلمها لك صاحبها اهـ.

وقصة حكيم موافقة للاحتمال الثاني: (قوله حدثنا سفيان) هو ابن عيينة وقوله الذي حفظناه من عمر، وكان سفيان يشير إلى أن في رواية غير عمرو بن دينار عن طاوس زيادة على ما حدثهم به عمرو بن دينار عنه كسؤال طاوس من ابن عباس عن سبب النهي وجوابه وغير ذلك.

(قوله عن ابن عباس أما الذي نهى عنه إلخ. .) أي وأما الذي لم أحفظ نهيه فما سوى ذلك " قوله نهى الطعام أن يباع حتى يقبض " في رواية مسعر عن عبد الملك بن ميسرة عن طاوس عن ابن عباس «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه (3)» قال مسعر وأظنه قال: «أو علفا (4)» وهو بفتح المهملة واللام والفاء (قوله قال ابن عباس: لا أحسب كل شيء إلا مثله، ولمسلم من طريق معمر عن ابن طاوس عن أبيه: وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام، وهذا من تفقه ابن عباس، ومال ابن المنذر إلى اختصاص ذلك بالطعام واحتج باتفاقهم على أن من اشترى عبدا فأعتقه قبل قبضه أن عتقه جائز، قال: فالبيع كذلك وتعقب بالفارق وهو تشوف الشارع إلى العتق وقول طاوس في الباب قبله قلت لابن عباس كيف ذاك قال: ذاك دراهم بدراهم والطعام مرجى، معناه أنه استفهم عن سبب هذا النهي فأجابه ابن عباس بأنه إذا باعه المشتري قبل القبض وتأخر المبيع في يد البائع فكأنه باعه دراهم بدراهم، ويبين ذلك ما وقع في رواية سفيان عن ابن طاوس عند مسلم قال طاوس: قلت لابن عباس لم؟ قال: ألا

(1) سنن الترمذي البيوع (1232)، سنن النسائي البيوع (4613)، سنن أبو داود البيوع (3503)، سنن ابن ماجه التجارات (2188)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 402).

(2)

سنن الترمذي البيوع (1233)، سنن النسائي البيوع (4613)، سنن أبو داود البيوع (3504)، سنن ابن ماجه التجارات (2188)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 403)، سنن الدارمي البيوع (2560).

(3)

صحيح البخاري البيوع (2133)، صحيح مسلم البيوع (1526)، سنن النسائي البيوع (4596)، سنن أبو داود البيوع (3499)، سنن ابن ماجه التجارات (2229)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 56)، موطأ مالك البيوع (1336)، سنن الدارمي البيوع (2559).

(4)

مسند أحمد بن حنبل (1/ 369).

ص: 107

تراهم يتبايعون بالذهب والطعام مرجى، أي فإذا اشترى طعاما بمائة دينار مثلا ودفعها للبائع ولم يقبض منه الطعام ثم باع الطعام لآخر بمائة وعشرين دينارا وقبضها والطعام في يد البائع، فكأنه باع مائة دينار بمائة وعشرين دينارا، وعلى هذا التفسير لا يختص النهي بالطعام ولذلك قال ابن عباس: لا أحسب كل شيء إلا مثله ويؤيده نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان، قال القرطبي: هذه الأحاديث حجة على عثمان الليثي حيث أجاز بيع كل شيء قبل قبضه وقد أخذ بظاهرها مالك فحمل الطعام على عمومه وألحق بالشراء جميع المعاوضات، وألحق الشافعي وابن حبيب وسحنون بالطعام كل ما فيه حق توفيه، وزاد أبو حنيفة والشافعي فعدياه إلى كل مشتري إلا أن أبا حنيفة استثنى العقار وما لا ينقل واحتج الشافعي بحديث عبد الله بن عمر وقال:«نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن (1)» أخرجه الترمذي (قلت) وفي معناه حديث حكيم بن حزام المذكور في صدر الترجمة، وفي صفة القبض عن الشافعي تفصيل فما يتناول باليد كالدراهم والدنانير والثوب فقبضه بالتناول وما لا ينقل كالعقار والثمر على الشجر فقبضه بالتخلية وما ينقل في العادة كالأخشاب والحبوب والحيوان فقبضه بالنقل إلى مكان لا اختصاص للبائع به، وفيه قول أنه يكفي فيه التخلية. قوله: عقب حديث ابن عمر زاد إسماعيل: فلا يبعه حتى يقبضه، يعني أن إسماعيل بن أبي أويس روى الحديث المذكور عن مالك بسنده بلفظ حتى يقبضه بدل قوله حتى يستوفيه، وقد وصله البيهقي من طريق إسماعيل كذلك، وقال الإسماعيلي: وافق إسماعيل على هذا اللفظ ابن وهب وابن مهدي

(1) سنن الترمذي البيوع (1234)، سنن النسائي البيوع (4613)، سنن أبو داود البيوع (3504)، سنن ابن ماجه التجارات (2188)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 175)، سنن الدارمي البيوع (2560).

ص: 108

والشافعي وقتيبة (قلت) وقول البخاري زاد إسماعيل يريد الزيادة في المعنى لأن في قوله حتى يقبضه زيادة في المعنى على قوله حتى يستوفيه؛ لأنه قد يستوفيه بالكيل بأن يكيله البائع ولا يقبضه المشتري بل يحبسه عنده لا ينقده الثمن مثلا، وعرف بهذا جواب من اعترضه من الشراح فقال: ليس في هذه الرواية زيادة، وجواب من حمل الزيادة على مجرد اللفظ فقال: معناه زاد لفظا آخر وهو يقبضه وإن كان هو بمعنى يستوفيه، ويعرف من ذلك أن اختيار البخاري أن استيفاء المبيع المنقول من البائع وتبقيته في منزل البائع لا يكون قبضا شرعيا حتى ينقله المشتري إلى مكان لا اختصاص للبائع به. . .

(قوله باب من رأى إذا اشترى طعاما جزافا ألا يبيعه حتى يؤويه إلى رحله والأدب في ذلك) أي تعزير من يبيعه قبل أن يؤويه رحله ذكر فيه حديث ابن عمر في ذلك وهو ظاهر فيما ترجم له، وبه قال الجمهور لكنهم لم يخصوه بالجزاف ولا قيدوه بالإيواء إلى الرحال، أما الأول فلما ثبت من النهي عن بيع الطعام قبل قبضه فدخل فيه المكيل وورد التنصيص على المكيل من وجه آخر عن ابن عمر مرفوعا أخرجه أبو داود، وأما الثاني فلأن الإيواء إلى الرحال خرج مخرج الغالب في بعض طرق مسلم عن ابن عمر «كنا نبتاع الطعام فيبعث إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه (1)» ، وفرق مالك في المشهور عنه بين الجزاف والمكيل فأجاز بيع الجزاف قبل قبضه وبه قال الأوزاعي وإسحاق واحتج لهم بأن الجزاف مربى فتكفي فيه التخلية، والاستيفاء إنما يكون في مكيل أو موزون وقد روى أحمد من حديث ابن عمر مرفوعا «من اشترى طعاما بكيل أو وزن فلا يبعه حتى يقبضه (2)» ورواه أبو داود والنسائي بلفظ «نهى أن يبيع أحد طعاما اشتراه بكيل حتى يستوفيه (3)» والدارقطني من حديث جابر «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع

(1) صحيح البخاري البيوع (2124)، صحيح مسلم البيوع (1527)، سنن النسائي البيوع (4605)، سنن أبو داود البيوع (3493)، سنن ابن ماجه التجارات (2229)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 56)، موطأ مالك البيوع (1337)، سنن الدارمي البيوع (2559).

(2)

صحيح البخاري البيوع (2124)، صحيح مسلم البيوع (1526)، سنن النسائي البيوع (4604)، سنن أبو داود البيوع (3495)، سنن ابن ماجه التجارات (2226)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 111)، موطأ مالك البيوع (1335)، سنن الدارمي البيوع (2559).

(3)

صحيح البخاري البيوع (2124)، صحيح مسلم البيوع (1526)، سنن النسائي البيوع (4604)، سنن أبو داود البيوع (3495)، سنن ابن ماجه التجارات (2229)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 56)، موطأ مالك البيوع (1337)، سنن الدارمي البيوع (2559).

ص: 109

الطعام حتى يجري فيه صاعان صاع البائع وصاع المشتري (1)» ونحوه للبزار من حديث أبي هريرة بإسناد حسن، وفي ذلك دلالة على اشتراط القبض في المكيل بالكيل وفي الموزون بالوزن، فمن اشترى شيئا مكايلة أو موازنة فقبضه جزافا فقبضه فاسد وكذا لو اشترى مكايلة فقبضه موازنة وبالعكس، ومن اشترى مكايلة وقبضه ثم باعه لغيره لم يجز تسليمه بالكيل الأول حتى يكيله على من اشتراه ثانيا، وبذلك كله قال الجمهور وقال عطاء يجوز بيعه بالكيل الأول مطلقا وقيل إن باعه بنقد جاز بالكيل الأول وإن باعه بنسيئة لم يجز الأول.

والأحاديث المذكورة ترد عليه وفي الحديث مشروعية تأديب من يتعاطى العقود الفاسدة وإقامة الإمام على الناس من يراعي أحوالهم في ذلك والله أعلم، وقوله جزافا مثلثة الجيم والكسر أفصح وفي هذا الحديث جواز بيع الصبرة جزافا سواء علم البائع قدرها أم لم يعلم، وعن مالك التفرقة فلو علم لم يصح وقال ابن قدامة: يجوز بيع الصبرة جزافا لا نعلم فيه خلافا إذا جهل البائع والمشتري قدرها فإن اشتراها جزافا ففي بيعها قبل نقلها روايتان عن أحمد ونقلها قبضها (2).

يمكن القضاء على جشع التجار الذين يحتالون بأنواع من البيوع المحرمة على استغلال حاجة المضطرين بالأمور الآتية:

أولا: التوعية الشاملة:

يقوم العلماء بتبيين أنواع البيوع المحرمة، ويحذرون الناس من التعامل بها لما فيها من غضب الله وسخطه ولما يترتب عليها من أخطار على الأمة وخاصة المحتاجين، وما ينشأ عنها من أضرار اجتماعية ومالية من توليد الضغائن والأحقاد وتقطيع أواصر المحبة والإخاء وتكبيل من صاروا

(1) سنن ابن ماجه التجارات (2228).

(2)

المغني ج 4 ص 277 - 279

ص: 110

فريسة للتحايل في البيوع وسائر المعاملات والتلاعب فيها بكثرة الديون وتراكمها على الضعفاء وشغل القضاة وسائر ولاة الأمور بالخصومات.

ويكون ذلك بإلقاء الخطب والدروس بالمساجد والمحاضرات في النوادي والتليفزيون والإذاعة والمجتمعات العامة وبنشر المقالات في الصحف والمجلات فإن لذلك التأثير البين إن شاء الله على ذوي القلوب الحية والنفوس الطيبة وبه يخف الجشع والاحتيال لأكل الأموال بالباطل.

ثانيا: ينصح الجمهور بالاقتصاد في النفقات فلا يتوسعوا في وسائل الترف، وينصح من عنده رأس مال يتجر فيه ألا يدخل في مداينات أو معاملات محرمة ليتوسع بها في رأس ماله، وليستغن بما آتاه الله وما أباحه له من طرق الاتجار والكسب الحلال عما حرمه الله عليه شكرا لنعمة الله عليه عسى أن يزيده سبحانه وتعالى من فضله.

ثالثا: الأخذ على يد المتلاعبين في المعاملات:

يقوم ولاة الأمور بمراقبة الأسواق العامة والمحلات التجارية لمعرفة ما يجري فيها من المعاملات المحرمة ويأخذون على يد من حصل منه ذلك، فيعزرونه بما يردعه من حبس أو ضرب أو غرامات مالية أو بمصادرة العوض في المعاملة المحرمة إلى أمثال هذا مما يرونه زاجرا للمسيء ولأمثاله الذين لم يستجيبوا للتوعية والإرشاد ولم تؤثر فيهم الدروس والمواعظ فلم يعبأوا بالتحذير ولم يبالوا بالوعيد وصارم الجزاء. وهذا مما يقضي على جشعهم أو يقلله إن شاء الله ويجعلهم على حذر مستمر من الاستغلال السيئ والكسب المحرم.

رابعا: توجيه الزراع إلى بنك التسليف الزراعي ليتعاملوا معه فيأخذوا منه ما يحتاجونه لمزارعهم من الآلات الزراعية وغيرها بأسعار معتدلة تدفع على أقساط مناسبة دون ربا أو إرهاق أو استغلال للظروف.

ص: 111

خامسا: توجيه من يريد بناء مسكن له أو من يريد التوسع في بناء مساكن للإسهام في حل أزمة المساكن ولينتفع بذلك، إلى بنك التنمية والاستثمار العقاري ليقدم إليه من المال ما يستعين به في إقامة ما يريد من بناء ثم يسدد ما أخذ أقساطا لا يشق عليه الوفاء بها في مواعيدها دون أن يتقاضى البنك على ذلك منه ربا.

سادسا: إرشاد من يحتاج إلى قرض لشئون أخرى يحتاجها في حياته أن يتقدم إلى البنك الإسلامي أو أحد الأفراد الأغنياء بإبداء حاجته ليعطيه قرضا بلا ربا يسد به حاجته.

هذا ما تيسر إعداده وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا وآله وصحبه وسلم. . .

اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء

عضو

عضو

نائب رئيس اللجنة

الرئيس

عبد الله بن قعود

عبد الله بن غديان

عبد الرزاق عفيفي

عبد العزيز بن عبد الله بن باز

ص: 112