الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
متواتر، يفيد أن العرب وضعوا كلمة:(جناح)، ولم يريدوا بها إلا جناح الطائر ذا الريش لا غير؟
إن ادعاء مثل هذا من المحال، ولا يمكن إلا إذا أتانا عن طريق نقل ثابت صدق، كأن يكون وحيا، أما ما عداه فلا شيء يلزمنا بقبوله ألبتة.
ونحن نعرف - وكل العرب تعرف - أن جناح الملك غير جناح الطائر غير جناح الطائرة، غير جناح البناء، غير جناح الذل، غير جناح اليمين أو اليسار في ميدان السياسة، ومن أراد أن يلزمنا بأن الجناح حقيقة في ذي الريش، مجاز في كل هؤلاء، فعليه الدليل، وأعتقد أن قوله هذا لا يعدو أن يكون قولا بغير علم.
التبادر إلى الذهن حين الإطلاق:
والعلامة الثانية التي يتميز بها المجاز عن الحقيقة: (التبادر إلى الذهن)، فالحقيقة ما تبادر إلى الذهن معناه فور إطلاقه مجردا عن أية قرينة وقيد، والمجاز ما لم يتبادر إلى الذهن معناه عند الإطلاق، بل إن معناه لا يتوصل إليه إلا عن طريق دلالة ما يلازم اللفظ من قرينة أو قيد.
قالوا: فلفظ (الأسد) إذا أطلق، تبادر منه الحيوان المفترس دون الرجل الشجاع.
ولفظ (الرأس) إذا أطلق تبادر إلى الذهن منه رأس الإنسان، دون غيره كرأس المال أو رأس الدرب.
ولذا فإنهما حقيقة في المعنى الأول، مجاز في المعاني الأخرى.
وهذا المعيار - الذي وضعوه - باطل من وجوه:
(أ) إنه مبني على دعوى إمكانية تجريد اللفظ من القرائن بالكلية،
والنطق به وحده - هكذا - من غير قرينة تدل على المراد منه فيتبادر حينئذ - منه الحقيقة عند التجرد، وهذه دعوى باطلة، إذ أن اللفظ المطلق عن جميع القيود محال، فهو لا بد أن يكون في كلام متكلم، مقرونا بغيره من الألفاظ، التي تشير إلى مدلوله ومعناه، وهذه قرائن وقيود لا بد منها في كل كلام يفهم معناه.
(ب) إن اللفظ المجرد من كل قيد وقرينة، لا يمكن أن يكون إلا بمثابة الصوت الذي ينعق به، ولا يفيد معنى، فأنت إذا قلت:(افترس الأسد طفلا) و (رأيت أسدا يجز رقاب الفرسان)، فهمنا من الأولى أنك تريد الحيوان المفترس، ومن الثانية أنك تريد الرجل الشجاع لا غير.
وإذا قلت: (انتظرتك على رأس الدرب) و (وقفت على رأس الجبل) و (قطع الأمير رأس المجرم) فهمنا - وفهم كل عربي مثلنا - أنك تريد من رأس الدرب أوله، ومن رأس الجبل قمته، ومن رأس المجرم هذا العضو المعروف في الإنسان ليس غير، وكل من فهم غير هذا الفهم كان فاسد العقل سقيم الإدراك. إن العرب لم تستعمل الألفاظ إلا مقيدة، ولم يرو أبدا أنهم استعملوا لفظا مطلقا من كل قيد، بل ومن أعلمنا أن العرب وضعوا - أول ما وضعوا - لفظ (الرأس) أو (الأسد) مجردا من كل قرينة، وأنهم عندما وضعوها هكذا مجردة، أرادوا بها هذا المعنى المعين بالذات دون غيره من المعاني الكثيرة، التي يدل عليها ذلك اللفظ؟
إنها مجرد دعوى فارغة، اختلقها خيال مهوم، لا يسندها دليل ثبت، ولا واقع حال.
ولو أني قلت: (رأيت أسدا) و (أبصرت رأسا)، فمن من العقلاء
يستطيع أن يحدد مرادي بلفظي، الأسد والرأس، إذا لم يسمع مني بقية كلامي، بحيث يربط كل عبارة بالسابق واللاحق من ذلك الكلام؟
(ج) إن المتكلم إذا اعتاد أن يعبر بلفظ ما، عن معنى معين مخصوص، صار اعتياده هذا قرينة دالة على إرادته لذلك المعنى، وكذا لو أن أهل بلد أو عصر، اعتادوا إرادة معنى معين، باستخدام لفظ مخصوص له، دون غيره كان عرفهم هذا وما اعتادوه قرينة تكشف عن المعنى المقصود، وهكذا فإن أعراف المتكلم أو المتكلمين في خطابهم قرائن دالة على مرادات ألفاظهم، وبذا لا يكون اللفظ مجردا - إذا أطلق - حيث أضيف إليه عرف المتكلم في استخدامه لهذا اللفظ وعادته بخطابه.
(د) وإذا لم يكن هناك لفظ مجرد من جميع القرائن التجريد الكامل، فإن الذي يسبق إلى فهم المستمع في كل موضع استخدم فيه اللفظ، ما دل عليه دليل في ذلك الموضع.
فأنت إذا قلت: (أشكو من ألم في ظهري) وقلت: (كسر فلان ظهري بعناده) وقلت: (ركبت ظهر الطريق). سبق إلى فهم كل سامع أنك تريد الظهر الذي في الإنسان في العبارة الأولى، وفي الثانية أنه أتعبك، وفي الثالثة أنك علوته مسافرا، وهذا غير قولك:(سافرت بلا ظهر) وقولك: (أنا خفيف الظهر)، فإن الذي يسبق إلى أذهاننا من الأولى أنك بلا ركاب تحمل متاعك، ومن الثانية أنك قليل العيال.
فما دام أنه لا بد لكل لفظ من الارتباط بقرينة أو قيد - أيا كانت هذه القرينة أو هذا القيد - وأن الذي يتبادر إلى الذهن منه ما دل عليه من خلال هذه القرينة أو القيد، فقد تبين فساد معيارهم هذا.