الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 -
الحض على التسابق والتنافس في الباقيات الصالحات
والتحذير من التنافس في الملذات والشهوات
والمنافسة: مأخوذة من الشيء النفسي، وهو كل ما يتنافس فيه ويرغب، قال تعالى:. . . {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (1) أي: في ذلك فيتراغب المتراغبون (2). وقال أبو السعود عند قوله تعالى: وسابقوا أي: سارعوا مسارعة السابقين لأقرانهم في المضمار (3).
وقال ابن حجر: حقيقة السبق أن يتقدم على غيره في المطلوب (4).
وظاهر أن التسابق والتنافس في عمل الخير مطلوب محمود إذ لا يمكن تصور سبق ومبادرة دون منافسة، وأما التنافس والتسابق على الدنيا وزهرتها وملذاتها فهذا مذموم منهي عنه.
ولما كانت الدنيا مجالا فسيحا للتسابق بين الناس ليس فقط في مجال الخير وعمل الطاعات بل في شتى المجالات بحسب الأهواء والرغبات - إذ للناس فيما يعشقون مذاهب وأهواء - فقد حرص الإسلام على أن يكون التسابق والتنافس في أعمال الآخرة، وحذر من التنافس في الدنيا وزهرتها فقد قال تعالى:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (5).
(1) سورة المطففين الآية 26
(2)
لسان العرب (6/ 238).
(3)
تفسير أبي السعود (5/ 280).
(4)
فتح الباري (9/ 73).
(5)
سورة القصص الآية 77
وقال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} (2).
وقد عاتب الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين إذ استبطأ إسراعهم إلى الخشوع والخوف منه وهم أحب الخلق إليه، وحذرهم من الغفلة وقسوة القلوب فقال تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (5).
قال ابن مسعود: (ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه
(1) سورة يونس الآية 24
(2)
سورة الكهف الآية 46
(3)
سورة لقمان الآية 33
(4)
سورة الحديد الآية 20
(5)
سورة الحديد الآية 16
الآية إلا أربع سنين) (1).
كما جاء التحذير في السنة النبوية من فتنة الدنيا والاغترار بها والتنافس فيها والانشغال بها عن المبادرة في الخيرات والتسابق فيها وذلك في نصوص كثيرة منها:
قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء (2)» .
وعن عبد الله بن مسعود قال: «نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثر في جنبه فقلنا: يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء فقال: ما لي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها (3)» .
وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل (4)» وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك (5).
وقال صلى الله عليه وسلم:. . . . «إني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها (6)» يعني: الدنيا.
وقال مرة لأصحابه: «أبشروا وأملوا ما يسركم فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من
(1) صحيح مسلم " التفسير "(4/ 2319).
(2)
صحيح مسلم " الذكر "(4/ 2098).
(3)
جامع الترمذي " الزهد "(7/ 8) وقال: حسن صحيح.
(4)
صحيح البخاري الرقاق (6416)، سنن الترمذي الزهد (2333)، سنن ابن ماجه الزهد (4114)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 24).
(5)
صحيح البخاري " الرقاق "(11/ 233).
(6)
صحيح البخاري " الرقاق "(11/ 344).
كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم (1)».
فقد جاء التحذير في هذه النصوص الكريمة من التنافس في الدنيا مبينة أن الخشية من الغنى والتنافس في الأموال وجمعها أشد خطورة من الفقر، وذلك لأن فتنة الغنى غالبا ما تكون دينية وفتنة الفقر غالبا ما تكون دنيوية، ولهذا فقد جاء الندب إلى التقلل من الدنيا والحذر منها، وأن حال المسلم في الدنيا كحال الغريب عن وطنه أو المسافر لبعض أموره فإن كلا منهما يكون متقللا مقتصرا على ما هو ضروري من متاع أو طعام متطلعا إلى قضاء حاجته، متعلقا بعد الله بوطنه الذي سيرجع إليه.
والنهي عن الاستباق والتنافس هنا هو: في حالة ما إذا كان ليس فيه خدمة للآخرة ولا المصلحة العامة المشروعة وإلا فهو مباح ويكون من قبيل قوله صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جار له فقال ليتني أوتيت مثلما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل، ورجل آتاه الله مالا فهو يهلكه في الحق فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل (2)» .
ومن معاني الحسد في الحديث: " الاغتباط " وعلى هذا ترجم البخاري لهذا الحديث. أو هو بمعنى قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} (3) ويؤيده ما جاء في لفظ الحديث عند أحمد «لا تنافس بينكم إلا في اثنتين (4)» . . .
(1) صحيح البخاري " الجزية والموادعة "(6/ 258).
(2)
صحيح البخاري " فضائل القرآن "(9/ 73).
(3)
سورة البقرة الآية 148
(4)
المسند (4/ 105).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا -: «لا سبق إلا في نصل، أو خف، أو حافر (1)» كما جاء عند أبي داود (2)، والترمذي (3)، والنسائي (4)، والشافعي (5)، وقال الشافعي: يحرم أن يكون السبق - يعني من أمور الدنيا - إلا في هذا، وهذا داخل في معنى ما ندب الله عز وجل إليه وحمد عليه أهل دينه من الإعداد لعدوه.
(1) سنن الترمذي الجهاد (1700)، سنن أبو داود الجهاد (2574)، سنن ابن ماجه الجهاد (2878)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 474).
(2)
السنن " الجهاد "(3/ 29).
(3)
الجامع " الجهاد "(5/ 352).
(4)
السنن " الخيل "(6/ 226 - 227).
(5)
الأم (4/ 230).