الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ألم تر كيف أن الصحابة - رضوان الله عليهم - خادعوا كعب بن الأشرف، حتى كفوا شره وقتلوه، وكان هذا الخداع منهم حسنا ومحمودا، لأنه كان في سبيل نصرة الله ودينه؟
ألم تر أيضا، كيف خدع نعيم بن مسعود رضي الله عنه المشركين في وقعة الأحزاب، وكان خداعه لهم في منتهى الروعة، وقد استحسنه منه النبي صلى الله عليه وسلم وجميع صحبه الكرام؟
وهكذا هذه الألفاظ - إذا أضيفت إلى البارئ سبحانه - فإنها لا تدل إلا على كمال معاني الحق والعدل، غيرها إذا أضيفت إلى المخلوقين، فقد تحتمل إحدى الحالين: الحمد أو الذم، بحسب حالها في كل واقعة وسياق.
ما كل ما جاز في اللغة جاز في القرآن:
6 -
ثم إنه ليس كل ما جاز وقوعه في اللغة، كان وقوعه جائزا في القرآن الكريم، فهناك أمور كثيرة أجاز العلماء وقوعها في اللغة، ولم يجيزوا وقوعها في القرآن.
(أ) فـ (الرجوع) الذي هو أحد أنواع البديع المعنوي، ويتمثل في نقض السابق باللاحق، بهدف إظهار ما يشعر به المتكلم من وله وحيرة، بديع المعنى في اللغة، ممنوع في القرآن.
ومثاله قول زهير بن أبي سلمى:
قف بالديار ، التي لم يعفها القدم
…
بلى ، وغيرها الأرواح والديم
فقد رجع عن قوله: (لم يعفها القدم) بقوله: (بلى وغيرها الأرواح والديم)، لأنه قال العبارة الأولى من غير شعور، ثم ثاب إلى رشده
وعقله، فرجع إلى الحق، ومثل هذا لا يجوز وقوعه في القرآن الكريم ألبتة.
(ب) و (إيراد الجد في قالب الهزل) جميل في اللغة، غير جائز الوقوع في القرآن أيضا.
ومثاله قول الشاعر:
إذا ما تميمي أتاك مفاخرا
…
فقل: عد عن ذا ، كيف أكلك للضب؟
فقوله: (كيف أكلك للضب؟) جد في قالب الهزل، إذ يقصد تعييرهم بأكلهم للضب، وهذا مما هو ممنوع في القرآن لاستحالة الهزل فيه، والله تعالى يقول:{إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} (1){وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} (2).
(جـ) ومثله (حسن التعليل)، كقول المتنبي:
لم تحك نائلك السحاب ، وإنما
…
حمت به ، فصبيبها الرحضاء
فهو يدعي أن السحاب قد أصابته الحمى، من الغيرة من كرم الممدوح، فانصب منه العرق، وما هذا الماء الذي يتدفق منه إلا ذلك العرق المتصبب من شدة غيرته. والرحضاء: العرق يكون إثر الحمى.
ولا يخفى أن هذا كذب، لا يجوز وقوع مثله في القرآن، وإن كان بديعا معنويا عند أهل اللغة.
(د) ومنه (الغلو والإغراق في المبالغة).
والإغراق: ما أمكن عقلا، واستحال عادة، كقول أبي الطيب:
كفى بجسمي نحولا أنني رجل
…
لولا مخاطبتي إياك لم ترني
(1) سورة الطارق الآية 13
(2)
سورة الطارق الآية 14
فوصول الشخص إلى هذه الحال من النحول جائز عقلا، ولكنه ممتنع الوقوع عادة.
والغلو: ما استحال عقلا وعادة، ويكون مقبولا - عند أهل البلاغة - في بعض الأحوال، كاشتماله على حسن تخييل، كقول أبي العلاء المعري:
يذيب الرعب منه كل عضب
…
فلولا الغمد يمسكه لسالا
فذوبان السيف وانصهاره، فرقا من الممدوح، مستحيل عقلا وعادة، إلا أن هذا القول مقبول - عند أهل اللغة - لما فيه من جمال تصوير وبديع خيال.
وكلا المظهرين من مظاهر المبالغة: الإغراق والغلو لا يجوز وقوعهما في القرآن، لأن القرآن حق، ليس فيه شيء من المبالغة والغلو.
(هـ) و (تجاهل العارف) من هذه الأمثلة، التي يستحسن وقوعها في اللغة، مع عدم جواز وقوعها في القرآن الكريم، ومثاله قول فاطمة الخزرجية:
أيا شجر الخابور ، ما لك مورقا؟
…
كأنك لم تجرع على ابن طريف
وقول الشاعر:
بالله يا ظبيات القاع قلن لنا:
…
ليلاي منكن أم ليلى من البشر؟
(و) ومنه أخيرا، ما يسمونه (الاستعارة التخييلية) حيث يتخيلون شيئا لا وجود له، بل هو أمر وهمي، ثم يستعيرون له، كقول أبي تمام:
لا تسقني ماء الملام ، فإنني
…
صب ، قد استعذبت ماء بكائي
فقد توهم للملام ماء، فأطلق اسمه عليه، على سبيل الاستعارة التخييلية، ومعلوم أن كلام الله لا يجوز في حقه شيء من مثل هذا التخييل، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
ومن هذا كله، يتبين لنا أن ليس كل ما جاز وقوعه في اللغة، جاز