الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6 -
من نتائج المبادرة والمسابقة وآثارها على الصحابة رضي الله عنهم
-
مما لا شك فيه أن الصحابة رضي الله عنهم هم أفضل الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، وكان هذا الفضل بسبب السبق إلى الإسلام وشرف صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم والتضحية بالنفوس وبكل ما هو نفيس لإعلاء كلمة التوحيد، ولا يخفى أن لكل بداية صعوبات إذ مرحلة التكوين أو التأسيس ليست كالمراحل التالية لها، وهكذا فإن السبق والمبادرة إلى فعل الخيرات كان له أثر كبير على حياة الصحابة رضي الله عنهم أفرادا، وجماعات، بل وعلى غيرهم سواء ممن عاصرهم وأدركهم من المسلمين، أو لم يعاصرهم وهذا الأمر وإن كان واضحا ظاهرا من خلال ما مر سابقا في هذا البحث إلا أنني سأبرز بعض هذه النتائج والآثار نظرا لما لها من أهمية بالغة في حياة الأمة، فمن هذه الآثار:
أولا - الفوز بالدرجات العلى والمكانة العظيمة في العاجلة والآجلة:
فمن الثابت في الكتاب والسنة واتفاق الأمة أن الصحابة رضي الله عنهم هم أفضل الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، وهم مع تفضيلهم على غيرهم يتفاضلون - أيضا - فيما بينهم بحسب سبقهم وجهادهم، فالسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار أفضل من غيرهم ممن جاء بعدهم، ولأهل بدر من هؤلاء ما ليس لغيرهم، ولمن أسلم من قبل الفتح وهاجر وجاهد بماله ونفسه من الفضل ما ليس لمن فعل هذا بعد الفتح، وهكذا يوجد أيضا - لبعض الأشخاص من جميع هؤلاء ما لغيرهم بالجملة،
وذلك لسبقهم وشدة بلائهم وتضحياتهم.
ولهذا فقد قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1).
وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} (2){أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} (3){فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (4){ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ} (5){وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} (6).
وقال تعالى:. . . . . {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (7).
وقال تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (8){دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (9).
وقال الحافظ ابن حجر تعليقا على حديث حذيفة رضي الله عنه إذ قال: «يا معشر القراء استقيموا فقد سبقتم سبقا بعيدا (10)» . . . (11) قال ابن حجر: قوله: سبقا بعيدا: أي ظاهرا ووصفه بالبعد لأنه غاية شأو السابقين، والمراد أنه خاطب بذلك من أدرك أوائل الإسلام، فإذا تمسك بالكتاب والسنة سبق إلى كل خير، لأن من جاء بعده إن عمل بعمله لم
(1) سورة التوبة الآية 100
(2)
سورة الواقعة الآية 10
(3)
سورة الواقعة الآية 11
(4)
سورة الواقعة الآية 12
(5)
سورة الواقعة الآية 13
(6)
سورة الواقعة الآية 14
(7)
سورة الحديد الآية 10
(8)
سورة النساء الآية 95
(9)
سورة النساء الآية 96
(10)
صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7282).
(11)
صحيح البخاري " الاعتصام "(13/ 250).
يصل إلى ما وصل إليه من سبقه إلى الإسلام، وإلا فهو أبعد منه حسا وحكما (1).
ولقد عرف الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه فضله على غيره، وذلك لأنه حائز قصب سبق الأمة إلى الإسلام، وإلى مؤازرة الرسول صلى الله عليه وسلم وملازمته ولهذا فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي (2)» قالها مرتين فما أوذي بعدها (3).
ولم يزل الرسول صلى الله عليه وسلم مفضلا خديجة رضي الله عنها على سائر أزواجه وذلك لسبقها وفدائها الإسلام بنفسها ومالها، وتضحيتها البالغة في ذلك، وهذا ما جعل عائشة رضي الله عنها تغار منها إذ قالت:«ما غرت على امرأة للرسول صلى الله عليه وسلم، كما غرت على خديجة لكثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها وثنائه عليها، وقد أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبشرها ببيت لها في الجنة من قصب (4)» .
وقال عمر رضي الله عنه لعدي بن حاتم: أسلمت إذ كفروا وأقبلت إذ أدبروا ووفيت إذ غدروا، وعرفت إذ أنكروا فقال عدي: فلا أبالي إذن (5).
وقال عمر لعدي أيضا: إن أول صدقة بيضت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه أصحابه صدقة طيء جئت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (6)، وقول عمر
(1) فتح الباري (13/ 257).
(2)
صحيح البخاري المناقب (3661).
(3)
انظر القصة ومناسبة هذا الحديث في صحيح البخاري " فضائل الصحابة "(7/ 18).
(4)
صحيح البخاري " نكاح "(9/ 336).
(5)
صحيح البخاري " المغازي "(8/ 102).
(6)
صحيح مسلم " فضائل الصحابة "(4/ 1957).
هذا وإن كان فيه تفضيل نسبي، إلا أنه له دلالته بشكل عام.
وهكذا فإنه لا يخفى ما لاقى الصحابة السابقون من الابتلاءات والمحن والمصاعب والفتن، كل هذا وهم صابرون على قلة عددهم وضيق ذات يدهم، فبقيت قافلة الإيمان سائرة، وكذا قافلة الشهداء إلى أن قوي الإسلام واكتمل نوره، واندحر الشرك وعفا أثره، ولهذا استحق هؤلاء السابقون إلى الخيرات السبق إلى رضوان الله وأعلى الدرجات، إذ الجزاء من جنس العمل فهنيئا لهم رضي الله عنهم.
ثانيا - السبق والمبادرة دليل على وجود الخشية من الله عز وجل لدى الإنسان:
فالصحابة رضي الله عنهم وإن كانوا أفضل الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم إلا أن الصفة الغالبة عليهم هي الخشية والخوف من الله عز وجل، والسبق غالبا ما يدل دلالة واضحة على هذه الخشية، بل هو أثر من آثارها، فكلما وجد السبق أو تكرر كان ذلك مؤشرا على وجود الخشية وحجمها لدى المبادر، ولهذا يقول الله عز وجل:{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} (1){أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} (2).
وقال صلى الله عليه وسلم: «من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة (3)» . فالخشية والسبق متلازمان، ويتأثر كل واحد منهما بالآخر ويتجدد به، وهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم
(1) سورة المؤمنون الآية 60
(2)
سورة المؤمنون الآية 61
(3)
جامع الترمذي " صفة القيامة "(7/ 146) وقال الترمذي: حسن غريب.
في أغلب أحوالهم مبادرة وخشية.
ثالثا - السابق والمبادر غالبا ما يثبت على سبقه، بل قد يتقدم دون تأخر:
إن من طبائع الناس عموما وعلى اختلاف مذاهبهم وأهوائهم حب الازدياد، فمن كانت الدنيا وشهواتها همه ومطلبه لا يزال يسابق وينافس طلبا للمزيد منها دون كلل أو شبع، ومن كان همه طلب العلم والتفوق فيه على أقرانه لا يزال يدأب ويجهد محاولا البقاء على مستواه دونما تأخر أو تراجع، وطلب الآخرة والمبادرة بالخيرات والسبق فيها من باب أولى أن يحرص على الاستمرار وعدم التراجع، بل يطمع في الازدياد والتقدم دون فتور أو ملل مهما كانت الصعوبات والتضحيات.
فهذا كعب بن مالك رضي الله عنه، قد وصل به الحال ما وصل من مقاطعة أصحابه إياه وأمر - أخيرا - باعتزال زوجته وقد جاءه وهو في هذه الحال التي مر ذكرها - كتاب من ملك غسان يدعوه بل يرجوه فيه أن يلحق به، ليواسيه ويعرف له حقه وقدره، ولكنه مع كل هذا أحرق الكتاب، وصبر هو وصاحباه حتى تاب الله عليهم.
وهؤلاء أهل الحديبية مع شدة حبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتسابقهم على إرضائه وحبه يأخذهم موقف الصلح - كما سبق - ويقفون حائرين لأنهم كانوا يعتقدون أنهم سابقون منصورون فلم يسالموا أو يصالحوا، ويرجعون دون أداء نسكهم ودخولهم مكة.
وهذا بلال، وعمار، وياسر، وسمية، وغيرهم من الضعفاء يسامون أشد ألوان العذاب والابتلاء، فكانوا كلما ألهبت جلودهم السياط، أو
الصخور الصماء تطلعوا عليا إلى السماء وكلما ذكرت لهم عبادة الأسياد والآباء ازدادوا لربهم توحيدا وثناء، وهكذا كانوا طوال بقائهم صبرا ومضاء، فرضي الله عنهم وأرضاهم.
رابعا - السبق أو المبادرة فرص ثمينة يفوز بثمراتها المبادرون فيها وإلا فلربما يصرف الإنسان عنها ويندم على فواتها:
ولهذا فقد كان الصحابة رضي الله عنهم سابقين مغتنمين الفرص الطاعات مجندين كل طاقاتهم وقدراتهم لذلك، فكلما لاحت لأحد فرصة في عمل الخير والطاعة سبق إليها من غير انتظار، أو تسويف وذلك خشية من تغير الأحوال وتضييع الفرص إذ قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} (1).
وقال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (2).
ولهذا فقد قال العلماء: إن المرء إذا لاحت له فرصة في الطاعة فحقه أن يبادر إليها ولا يسوف لئلا يحرمها (3)، ولقد جاء في الحديث الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم:«يدخل الجنة سبعون ألفا بغير حساب. . . . . فقال عكاشة ابن محصن: أمنهم أنا يا رسول الله؟ قال: " نعم " فقال آخر: أمنهم أنا؟ قال: " سبقك بها عكاشة (4)» .
(1) سورة الأنفال الآية 24
(2)
سورة الأنعام الآية 110
(3)
فتح الباري (8/ 124).
(4)
صحيح البخاري " الطب "(10/ 155).
وهكذا فقد كان لاستغلال الفرص والمبادرات فيها أكبر الأثر على الصحابة رضي الله عنهم وعلى من بعدهم - كما مر -.
خامسا - السبق أو المبادرة إلى الخيرات يلائم الفطرة:
فالإكثار من هذه المبادرات ينمي هذا الخلق عند صاحبه، ويحول بينه وبين الهبوط إلى الرذائل أو المغريات المادية الدنيوية.
والصحابة - رضوان الله عليهم - طلبوا الدنيا وزهدوا فيها في آن واحد، وذلك أنهم طلبوها واشتغلوا بها من جهة أنها عون على شكر الله عليها، ومركب للآخرة فكان طلبهم لها - والحالة هذه - عبادة من جملة عباداتهم، وتركوها وزهدوا فيها من جهة أنها مقتنص للذات، ومآل للشهوات، ومجرد نوال مأكول ومشروب وملبوس ومركوب فحسب، فكان تركهم لها على هذا المعنى أيضا عبادة من جملة عباداتهم، ولهذا فقد كان انشغالهم بها على معنى أنها عبادة، فبادروا إلى كل ما من شأنه أن يعود عليهم وعلى الأمة بالنفع الأخروي.
سادسا - الشعور بالطمأنينة النفسية والغبطة والسرور:
فنظرا لما في المبادرة أو السبق من إرضاء للرب عز وجل واتباع لنبيه صلى الله عليه وسلم، وإعزاز للإسلام وأهله وإرغام للشيطان وحزبه، فإن المبادرين السابقين بالخيرات يسرون لذلك وتحصل لهم السكينة والطمأينة، بل والغبطة لفعلهم هذا، الأمر الذي يجعلهم يستمرون في عملهم ويزدادون في سبقهم.
وقد ترجم البخاري لحديث: «لا حسد إلا في اثنتين (1)» . . . فقال: باب اغتباط صاحب القرآن، ومما ذكر ابن حجر تعليقا على هذه الترجمة
(1) صحيح البخاري العلم (73)، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (816)، سنن ابن ماجه الزهد (4208)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 432).