المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المحرمات بسبب الرضاع: - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٣٧

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌ تمهيد

- ‌(العينة والتورق)

- ‌من مسائل السلم

- ‌الفتاوى

- ‌ إقامة احتفال بمناسبة مولده صلى الله عليه وسلم

- ‌ الوعظ في يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ التاريخ الصحيح لمولد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ الكتاب المسمى بالبردة المديح

- ‌ حضور الاحتفالات البدعية

- ‌من فتاوى سماحة الشيخ /عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله

- ‌ الصلاة خلف العاصي

- ‌ من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌ مراعاة المصالح العامة

- ‌ إزالة الشعر الذي ينبت في وجه المرأة

- ‌ ضرب الطالبات لغرض التعليم

- ‌(الوشم)

- ‌ التعاون بالجهر أفضل أم بالسر

- ‌ التعاون على البر والتقوى في البيت

- ‌ العلاج لمن يعصي ويتوب ثم يرجع إلى المعصية

- ‌النص المحقق

- ‌ تعريف الشرك وأقسامه:

- ‌الخاتمة

- ‌المبادرة والمسابقة إلى الأعمال الصالحةفي ضوء الكتاب والسنة

- ‌ المقدمة:

- ‌ الندب إلى المبادرة والمسابقة في الكتاب والسنة

- ‌ الحض على التسابق والتنافس في الباقيات الصالحاتوالتحذير من التنافس في الملذات والشهوات

- ‌ الرسول صلى الله عليه وسلم يتعهد أصحابه بالتربية والقدوة حتى يصبح السبقخلقا من أخلاقهم

- ‌ من نتائج المبادرة والمسابقة وآثارها على الصحابة رضي الله عنهم

- ‌ المبادرة والمسابقة فيها تنشيط للهمم وإذكاء للعزائم وبعث لروح المنافسة بوجود القدوة:

- ‌المراجع

- ‌بطلان علاماته التي ميزوه بها:

- ‌الوضع:

- ‌التبادر إلى الذهن حين الإطلاق:

- ‌صحة النفي:

- ‌اختلاف صيغة الجمع:

- ‌التوقف على المسمى الآخر:

- ‌ما كل ما جاز في اللغة جاز في القرآن:

- ‌المجاز باطل شرعا ولغة وعقلا:

- ‌كيفية وصول اللبن إلى الجوف:

- ‌حكم اللبن إذا خالط غيره أو تبدل طبعه:

- ‌حكم لبن الميتة:

- ‌حكم لبن البكر:

- ‌حكم لبن الرجل:

- ‌حكم لبن الفحل

- ‌ما يثبت به الرضاع:

- ‌المحرمات بسبب الرضاع:

- ‌حديث شريف

الفصل: ‌المحرمات بسبب الرضاع:

عنهما، ثم اعترفا أن بين الصغيرين رضاعا فسخ العقد، أما إذا أقر أحدهما وأنكر الآخر فإذا كان الشخص المقر معروفا بالعدالة وكان قد فشا منه هذا الخبر قبلت شهادته وقبل إقراره (1).

(1) الفقه على المذاهب الأربعة جـ 1 ص 273

ص: 343

‌المحرمات بسبب الرضاع:

-

إذا أردنا أن نعرف المحرمات بسبب الرضاع وجب علينا أن نعرف المحرمات بسبب النسب، حتى يمكننا أن نعرف المحارم بسبب الرضاع؛ لأن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قال:«يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (1)» . فمن هذا الحديث نستدل على أن الرضاع يحرم جميع الأصناف التي يحرمها النسب، وهي:

أولا: أم الشخص من الرضاع، سواء كانت التي أرضعته أو أمها حيث تكون جدته من الرضاع أو جدة أمه من الرضاع أو أم أبيه من الرضاع أو جدة أبيه من الرضاع، فهذا يشمل الأم والجدات وإن علون وسواء كن من جهة الأم أو من جهة الأب؛ لأن كل هؤلاء يحرمن من النسب فحرمن من الرضاع.

ثانيا: البنت من الرضاع وبنت البنت وبنت الابن من الرضاع مهما نزلن؛ لأن البنات من النسب يحرمن مهما نزلن، فكذلك البنات من الرضاعة.

ثالثا: الأخت من أي جهة كانت، سواء كانت شقيقة أم

(1) صحيح البخاري الشهادات (2645)، صحيح مسلم الرضاع (1447)، سنن النسائي النكاح (3306)، سنن ابن ماجه النكاح (1938)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 275).

ص: 343

أختا لأب أم أختا من جهة الأم، فكل أخت من الرضاع تحرم، فالأخت الشقيقة من الرضاع هي التي رضعت من أم الشخص وهي عند أبيه ولبنها لبن الأب، وأما الأخت من جهة الأب فقط فهي التي رضعت من الأم، وهي عند غير الأب ولبنها من غير الأب، فكل ذلك ينشر الحرمة المؤبدة.

رابعا: بنت الأخت من الرضاع تحرم كما تحرم الأخت من الرضاع، وعلى التفصيل الآنف الذكر في الفقرة الثالثة.

خامسا: بنت الأخ من الرضاع، سواء كان الأخ من جهة الأب واللبن له فقط أو من جهة الأم فقط واللبن فقط لها، أم أن اللبن للأم والأب سواء كانت بنت الأخ قريبة أو بعيدة.

سادسا: العمات، سواء كن شقيقات أم لأب أم لأم، أما عمة العمة أو عمة العم فإنها لا تحرم إلا إذا كانت شقيقة أو لأب، أما إذا كانت لأم فإنها لا تحرم بالنسب، ولما لم تحرم بالنسب فإنها لا تحرم بالرضاع.

سابعا: الخالات، والخالات يحرمن من أي جهة كن، وذلك لأن الخالات النسبيات يحرمن من أي جهة فكذلك الخالات من الرضاع.

ثامنا: خالات الخالات والأخوال، وهؤلاء لا يحرمن إلا إذا كن شقيقات أو لأم، أما إذا كن لأب فقط فإنهن لا يحرمن، فحالتهن بعكس حالة عمات العمات والأعمام، فعمات العمات أو الأعمام

ص: 344

لا يحرمن إلا إذا كن متصلات من جهة الأب، أما خالات الخالات فلا يحرمن إلا إذا كن متصلات من جهة الأم (1).

فكل هذه الأصناف الآنفة الذكر تحرم بسبب الرضاع كما حرمت بسبب النسب، فإذا رضع طفل من امرأة حرمت عليه هي وأمهاتها وجداتها من أي جهة كانت، كما تحرم عليه بناتها وبنات بناتها وبنات أبنائها وإن نزلن، ويحرم عليه أخواتها من أي جهة كن، وكذلك بنات أخواتها وبنات إخوانها من أي جهة، والعمات جميعا وعمات الأب وعمات الأم وعمات الجد وعمات الجدة وعمات الأعمام وعمات العمات إذا كن شقيقات أو لأب فإنهن يحرمن، ويحرم عليه خالاته من الرضاع وخالات أمه وخالات أبيه وخالات أجداده وخالات جداته وخالات أخواله وخالات عماته إذا كن شقيقات أو لأم، أما خالات الخالات من جهة الأب فإنهن لا يحرمن بواسطة الرضاع لأنهن أجنبيات عن الراضع، ويجوز للرجل أن يتزوج بأخت أخيه من الرضاع كما يجوز له أن يتزوج أخت أخيه من النسب لأنه لا علاقة له بها ولا حرمة بينهما.

هؤلاء النسوة اللواتي يحرمن من الرضاع كما يحرمن من النسب وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (2)» .

المحرمات من الرضاع بسبب المصاهرة:

(1) الفقه على المذاهب الأربعة جـ 1 ص 263.

(2)

صحيح البخاري الشهادات (2645)، صحيح مسلم الرضاع (1447)، سنن النسائي النكاح (3306)، سنن ابن ماجه النكاح (1938)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 275).

ص: 345

المحرمات من الرضاع بسبب المصاهرة ليس كما مضى معنا من حيث عمومه، وأن كل من تحرم بسبب المصاهرة تحرم بسبب الرضاع، لذا يقتضينا البحث أن نتعرف على من من النساء يحرمن بواسطة المصاهرة، ومن منهن يحرمن بواسطة الرضاع، ومن لا يحرمن؛ لأننا إذا رجعنا إلى الحرمة بسبب المصاهرة نجد أنها تنقسم قسمين:

القسم الأول: يحرم بالرضاع كما يحرم بالمصاهرة.

القسم الثاني: يحرم بالمصاهرة ولا يحرم بالرضاع.

فمن النساء اللائي يحرمن من الرضاع ويحرمن من المصاهرة هن أم الزوجة وإن علت وبنتها وإن نزلت، فهؤلاء يحرمن بالمصاهرة والرضاع على حد سواء، فإذا رضعت خديجة من عائشة ثم تزوجت خديجة من علي، فعائشة حرمت على علي حرمة مؤبدة ولا يجوز له أن يتزوجها حتى ولو فارق خديجة بسبب الوفاة أو الطلاق، وتحرم عليه بمجرد العقد على خديجة ولا يشترط الدخول، وهكذا جميع أمهاتها وجداتها مهما علون سواء كان ذلك من جهة الرضاع أو من جهة النسب، فأم خديجة النسبية وجدتها النسبية كذلك لا يجوز له أن يتزوج بواحدة منهن.

ولا يجوز أن يجمع الرجل بين زوجته وأختها من الرضاع أو خالتها أو عمتها من الرضاع، ولم يجوز ذلك إلا الجعفرية في زواج البنت على خالتها أو عمتها من الرضاع، وذلك لأنه يجوز

ص: 346

للرجل عندهم أن يتزوج بنت أخت زوجته أو بنت أخيها، غاية ما هنالك أن يأخذ إذن الزوجة إذا كانت عمة أو خالة، أما إذا كانت بنت الأخ هي الأولى وأراد أن يأخذ عمتها أو بنت الأخت أولا وأراد أن يأخذ خالتها لا يجوز له ذلك الجمع، ولا يشترط إذن الزوجة، فهذا عندهم سواء كان في الرضاع أم المصاهرة.

القسم الذي يحرم بالمصاهرة ولا يحرم بالرضاع:

الحالة الأولى:

أم الأخ: لا يجوز للشخص أن يتزوج بأم أخيه نسبا لأنها إما أن تكون أمه أو زوجة أبيه، فالأولى محرمة بقوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} (1) والثانية بقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} (2).

أما إذا رضع شخص من امرأة أجنبية فإنها تحل لأخيه، ومثل أم الأخ من الرضاع أم الأخت من الرضاع، وكذلك يجوز للشخص أن يتزوج من الأم النسبية لأخيه من الرضاع لأنه أجنبي عنها.

الحالة الثانية:

إذا أرضعت امرأة أجنبية ولد ولد الرجل، جاز لهذا الرجل أن يتزوجها لأنها أجنبية عنه، وكذلك لو أرضعت زوجة ابن هذا الرجل ولدا، وكان له أم من النسب جاز له أن يتزوجها.

(1) سورة النساء الآية 23

(2)

سورة النساء الآية 22

ص: 347

الحالة الثالثة: -

جدة الولد: إذا أرضعت ولد شخص ما امرأة، فإن أمها لا تحرم عليه وإن كانت جدة ابنه من الرضاع، بخلاف جدة ولده من النسب؛ فإنها إما أن تكون أمه أو أم زوجته، وهما لا يجوز له أن يتزوج بواحدة منهما لأنهما حرمتا بنص الكتاب.

الحالة الرابعة:

أخت ولد الرجل من الرضاع يجوز له أن يتزوج بها؛ لأنها أجنبية عنه، بخلاف أخت ابنه من النسب فهي إما أن تكون بنته أو بنت زوجته فتكون ربيبته، ولا يجوز له أن يتزوج بإحداهما.

الحالة الخامسة:

أم العم من الرضاع أو العمة من الرضاع: وكذلك لا تحرم أم العم من الرضاع أو العمة، فإذا كانت أجنبية فإنها لا تحرم على الشخص لأنها لا صلة لها بابن أخي الشخص الذي أرضعته وهي أجنبية، بخلاف أم العم أو العمة من النسب؛ لأنها إما أن تكون جدته أو زوجة الجد، وكلتاهما لا يجوز له أن يتزوجهما.

الحالة السادسة:

أم الخال أو الخالة من الرضاع: فكما جاز للشخص أن يتزوج بأم عمه أو عمته من الرضاع جاز له أن يتزوج بأم خاله من الرضاع أو أم خالته من الرضاع، فإذا أرضعت خاله أو خالته امرأة جاز أن يتزوج بها.

بقيت مسألة: وهي أنه إذا أرضعت الطفل جدته لأمه أي " أم

ص: 348

أمه " فهل تحرم أمه على أبيه أم لا؟

والجواب على ذلك: هو أن أم هذا الطفل لا تحرم على أبيه والسبب في ذلك: لأن الطفل أصبح أخا لأمه من الرضاع، وقد عرفنا أن الشخص يجوز له أن يتزوج أخت ابنه من الرضاع؛ لأنها أجنبية عنه.

ص: 349

صفحة فارغة

ص: 350

حكم الاستعانة بالكفار في قتال الكفار

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وإمام المتقين وقائد المجاهدين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: -

فقد اختلف العلماء رحمهم الله في حكم الاستعانة بالكفار في قتال الكفار، على قولين:

أحدهما المنع من ذلك. واحتجوا على ذلك بما يلي: -

أولا: ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها «أن رجلا من المشركين - كان معروفا بالجرأة والنجدة - أدرك النبي صلى الله عليه وسلم مسيره إلى بدر في حرة الوبرة فقال: جئت لأتبعك وأصيب معك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: ارجع فلن أستعين بمشرك، قالت: ثم مضى حتى إذا كنا في الشجرة أدركه الرجل، فقال له كما قال له أول مرة، فقال: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: ارجع فلن أستعين بمشرك، ثم لحقه في البيداء، فقال مثل قوله، فقال له: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: نعم، قال: فانطلق (1)» اهـ.

واحتجوا أيضا بما رواه الحاكم في صحيحه من حديث يزيد بن

(1) صحيح مسلم الجهاد والسير (1817)، سنن الترمذي السير (1558)، سنن أبو داود الجهاد (2732)، سنن ابن ماجه الجهاد (2832)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 149)، سنن الدارمي السير (2496).

ص: 351

هارون أنبأنا مستلم بن سعيد الواسطي عن خبيب بن عبد الرحمن بن خبيب عن أبيه عن جده خبيب بن يساف قال: «أتيت أنا ورجل من قومي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد غزوا، فقلت: يا رسول الله: إنا نستحي أن يشهد قومنا مشهدا لم نشهده معهم، فقال: أسلمتما؟ فقلنا: لا، قال: فإنا لا نستعين بالمشركين قال: فأسلمنا وشهدنا معه. . . الحديث (1)» ، قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وخبيب صحابي معروف. . اهـ. ذكره الحافظ الزيلعي في نصب الراية ص 423 ج 3 ثم قال: ورواه أحمد وابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه في مسانيدهم والطبري في معجمه من طريق ابن أبي شيبة. قال في التنقيح: ومستلم ثقة وخبيب بن عبد الرحمن أحد الثقات الأثبات، والله أعلم.

ثم قال الزيلعي في حديث آخر: روى إسحاق بن راهويه في (مسنده): أخبرنا الفضل بن موسى عن محمد بن عمرو بن علقمة عن سعيد بن المنذر عن أبي حميد الساعدي قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد حتى إذا خلف ثنية الوداع نظر وراءه فإذا كتيبة حسناء، فقال: " من هؤلاء "؟. قالوا: هذا عبد الله بن أبي ابن سلول ومواليه من اليهود، وهم رهط عبد الله بن سلام، فقال: " هل أسلموا "؟ قالوا: لا، إنهم على دينهم، قال: " قولوا لهم: فليرجعوا، فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين» انتهى. ورواه الواقدي في كتاب المغازي، ولفظه: «فقال: " من

(1) مسند أحمد بن حنبل (3/ 454).

ص: 352

هؤلاء "؟ قالوا: يا رسول الله: هؤلاء حلفاء ابن أبي من يهود، فقال عليه الصلاة والسلام: " لا ننتنصر بأهل الشرك على أهل الشرك». انتهى. قال الحازمي في كتاب الناسخ والمنسوخ: وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة: فذهب جماعة إلى منع الاستعانة بالمشركين، ومنهم أحمد مطلقا. وتمسكوا بحديث عائشة المتقدم، وقالوا: إن ما يعارضه لا يوازيه في الصحة، فتعذر ادعاء النسخ. وذهبت طائفة إلى أن للإمام أن يأذن للمشركين أن يغزوا معه، ويستعين بهم بشرطين: أحدهما: أن يكون بالمسلمين قلة، بحيث تدعو الحاجة إلى ذلك.

والثاني: أن يكونوا ممن يوثق بهم في أمر المسلمين. ثم أسند إلى الشافعي أن قال: الذي روى مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم رد مشركا أو مشركين وأبى أن يستعين بمشرك كان في غزوة بدر.

ثم إنه عليه الصلاة والسلام استعان في غزوة خيبر بعد بدر بسنتين بيهود بني قينقاع، واستعان في غزوة حنين سنة ثمان بصفوان بن أمية وهو مشرك، فالرد الذي في حديث مالك إن كان لأجل أنه مخير في ذلك بين أن يستعين به وبين أن يرده كما له رد المسلم لمعنى يخافه - فليس واحد من الحديثين مخالفا للآخر، وإن كان لأجل أنه مشرك فقد نسخه ما بعده من استعانته بالمشركين، ولا بأس أن يستعان بالمشركين على قتال المشركين إذا أخرجوا طوعا ويرضخ لهم، ولا يسهم لهم، ولا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسهم لهم، قال الشافعي: ولعله عليه السلام إنما رد

ص: 353

المشرك الذي رده في غزوة بدر رجاء إسلامه، قال: وذلك واسع للإمام أن يرد المشرك ويأذن له. انتهى. وكلام الشافعي كله نقله البيهقي عنه. . اهـ. وقال النووي رحمه الله في شرحه لصحيح مسلم ص 198، ص 199 ج 12 ما نصه: قوله: «عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج قبل بدر فلما كان بحرة الوبرة (1)» هكذا ضبطناه بفتح الباء، وكذا نقله القاضي عن جميع رواة مسلم، قال: وضبطه بعضهم بإسكانها، وهو موضع على نحو من أربعة أميال من المدينة. قوله صلى الله عليه وسلم:«فارجع فلن أستعين بمشرك (2)» وقد جاء في الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بصفوان ابن أمية قبل إسلامه، فأخذ طائفة من العلماء بالحديث الأول على إطلاقه، وقال الشافعي وآخرون: إن كان الكافر حسن الرأي في المسلمين ودعت الحاجة إلى الاستعانة به استعين به وإلا فيكره، وحمل الحديثين على هذين الحالين، وإذا حضر الكافر بالإذن رضخ له ولا يسهم، والله أعلم. . اهـ.

وقال الوزير ابن هبيرة في كتابه: الإفصاح عن معاني الصحاح ج 2 ص 286 ما نصه: واختلفوا: هل يستعان بالمشركين على قتال أهل الحرب، أو يعاونون على عدوهم؟: فقال مالك وأحمد: لا يستعان بهم ولا يعاونون على الإطلاق. واستثنى مالك: إلا أن يكونوا خدما للمسلمين فيجوز، وقال أبو حنيفة: يستعان بهم ويعاونون على الإطلاق، ومتى كان حكم الإسلام هو الغالب الجاري عليهم، فإن كان حكم الشرك هو الغالب كره، وقال

(1) صحيح مسلم الجهاد والسير (1817)، سنن الترمذي السير (1558)، سنن أبو داود الجهاد (2732)، سنن ابن ماجه الجهاد (2832)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 149)، سنن الدارمي السير (2496).

(2)

صحيح مسلم الجهاد والسير (1817)، سنن الترمذي السير (1558)، سنن أبو داود الجهاد (2732)، سنن ابن ماجه الجهاد (2832)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 149)، سنن الدارمي السير (2496).

ص: 354

الشافعي: يجوز ذلك بشرطين:

أحدهما: أن يكون بالمسلمين قلة وبالمشركين كثرة، والثاني: أن يعلم من المشركين حسن رأي في الإسلام وميل إليه، فإن استعين بهم رضخ لهم ولم يسهم لهم، إلا أن أحمد قال في إحدى روايتيه يسهم لهم، وقال الشافعي: إن استؤجروا أعطوا من مال لا مالك له بعينه، وقال في موضع آخر: ويرضخ لهم من الغنيمة، قال الوزير: وأرى ذلك مثل الجزية والخراج. . اهـ.

القول الثاني: جواز الاستعانة بالمشركين في قتال المشركين عند الحاجة أو الضرورة. واحتجوا على ذلك بأدلة منها: قوله جل وعلا في سورة الأنعام {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (1) الآية، واحتجوا أيضا بما نقله الحازمي عن الشافعي رحمه الله فيما ذكرنا آنفا في حجة أصحاب القول الأول، وسبق قول الحازمي رحمه الله نقلا عن طائفة من أهل العلم أنهم أجازوا ذلك بشرطين: -

أحدهما: أن يكون في المسلمين قلة بحيث تدعو الحاجة إلى ذلك.

الثاني: أن يكونوا ممن يوثق بهم في أمر المسلمين، وتقدم نقل النووي عن الشافعي أنه أجاز الاستعانة بالمشركين بالشرطين المذكورين وإلا كره، ونقل ذلك أيضا عن الشافعي الوزير ابن هبيرة، كما تقدم.

(1) سورة الأنعام الآية 119

ص: 355

واحتج القائلون بالجواز أيضا بما رواه أحمد وأبو داود عن ذي مخمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ستصالحون الروم صلحا آمنا وتغزون أنتم وهم عدوا من ورائكم فتنصرون وتغنمون (1)» الحديث ولم يذمهم على ذلك، فدل على الجواز وهو محمول على الحاجة أو الضرورة كما تقدم.

وقال المجد ابن تيمية في المحرر في الفقه ص 171 جـ 2 ما نصه: (ولا يستعين بالمشركين إلا لضرورة، وعنه: إن قوي جيشه عليهم وعلى العدو ولو كانوا معه ولهم حسن رأي في الإسلام جاز وإلا فلا، انتهى. وقال الموفق في المقنع جـ 1 ص 492 ما نصه: ولا يستعين بمشرك إلا عند الحاجة).

وقال في المغني ج 8 ص 414، ص 415 (فصل) ولا يستعان بمشرك، وبهذا قال ابن المنذر والجوزجاني وجماعة من أهل العلم وعن أحمد ما يدل على جواز الاستعانة به، وكلام الخرقي يدل عليه أيضا عند الحاجة، وهو مذهب الشافعي، لحديث الزهري الذي ذكرناه وخبر صفوان بن أمية، ويشترط أن يكون من يستعان به حسن الرأي في المسلمين، فإن كان غير مأمون عليهم لم تجز الاستعانة به، لأننا إذا منعنا الاستعانة بمن لا يؤمن من المسلمين مثل المخذل والمرجف فالكافر أولى.

ووجه الأول: ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر حتى إذا كان بحرة الوبرة أدركه رجل من المشركين كان يذكر منه جرأة ونجدة، فسر المسلمون به، فقال: يا رسول

(1) سنن أبو داود الجهاد (2767)، سنن ابن ماجه الفتن (4089)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 409).

ص: 356

الله: جئت لأتبعك وأصيب معك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: فارجع فلن أستعين بمشرك. قالت: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالبيداء أدركه ذلك الرجل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: نعم قال: فانطلق (1)» متفق عليه. ورواه الجوزجاني وروى الإمام أحمد بإسناده عن عبد الرحمن بن خبيب قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد غزوة أنا ورجل من قومي ولم نسلم، فقلنا: إنا لنستحي أن يشهد قومنا مشهدا لا نشهده معهم، قال: فأسلمتما؟ قلنا: لا، قال: فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين (2)» قال ابن المنذر: والذي ذكر أنه استعان بهم غير ثابت. . اهـ.

وقال الحافظ في التخليص بعد ما ذكر الأحاديث الواردة في جواز الاستعانة بالمشركين والأحاديث المانعة من ذلك ما نصه: ويجمع بينه - يعني حديث عائشة - وبين الذي قبله - يعني حديث صفوان بن أمية - ومرسل الزهري بأوجه ذكرها المصنف، منها: وذكره البيهقي عن نص الشافعي: أن النبي صلى الله عليه وسلم تفرس فيه الرغبة في الإسلام فرده رجاء أن يسلم، فصدق ظنه، وفيه نظر، من جهة التنكير في سياق النفي. ومنها: أن الأمر فيه إلى رأي الإمام، وفيه النظر بعينه، ومنها: أن الاستعانة كانت ممنوعة ثم رخص فيها، وهذا أقربها وعليه نص الشافعي.

وقال في الفروع ج 6 ص 205 ما نصه: ويكره أن يستعين بكافر

(1) صحيح مسلم الجهاد والسير (1817)، سنن الترمذي السير (1558)، سنن أبو داود الجهاد (2732)، سنن ابن ماجه الجهاد (2832)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 149)، سنن الدارمي السير (2496).

(2)

مسند أحمد بن حنبل (3/ 454).

ص: 357

إلا لضرورة، وذكر جماعة: لحاجة، وعنه: يجوز مع حسن رأي فينا، زاد جماعة وجزم به في المحرر: وقوته بهم بالعدو.

وقال الصنعاني رحمه الله في سبل السلام ج 4 ص 49، ص 50 على شرحه لحديث عائشة رضي الله عنها:(ارجع فلن أستعين بمشرك) ما نصه: والحديث من أدلة من قال: لا يجوز الاستعانة بالمشرك في القتال، وهو قول طائفة من أهل العلم، وذهب الهادوية وأبو حنيفة وأصحابه إلى جواز ذلك، قالوا: لأنه صلى الله عليه وسلم استعان بصفوان بن أمية يوم حنين، واستعان بيهود بني قينقاع ورضخ لهم. أخرجه أبو داود والترمذي عن الزهري مرسلا، ومراسيل الزهري ضعيفة، قال الذهبي: لأنه كان خطاء، ففي إرساله شبهة تدليس، وصحح البيهقي من حديث أبي حميد الساعدي أنه ردهم، قال المصنف: ويجمع بين الروايات بأن الذي رده يوم بدر تفرس فيه الرغبة في الإسلام فرده رجاء أن يسلم، فصدق ظنه، أو أن الاستعانة كانت ممنوعة فرخص فيها، وهذا أقرب، وقد استعان يوم حنين بجماعة من المشركين تألفهم بالغنائم، وقد اشترط الهادوية أن يكون معه مسلمون يستقل بهم في إمضاء الأحكام، وفي شرح مسلم: أن الشافعي قال: إن كان الكافر حسن الرأي في المسلمين ودعت الحاجة إلى الاستعانة استعين به وإلا فيكره، ويجوز الاستعانة بالمنافق إجماعا، لاستعانته صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن أبي وأصحابه، وهذا آخر ما تيسر نقله من كلام أهل العلم. والله ولي التوفيق وصلى الله على

ص: 358

نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

عبد العزيز بن عبد الله بن باز

رئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي والرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد

ص: 359