الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} (1){فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (2).
وقال عز وجل: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (3). فعلم بذلك أن الرسل جاءوا بهذا، وأن علينا أن نؤمن بذلك، وأن نقبل ذلك، وألا نفرق بين الرسل في هذه الأشياء، كما قال عز وجل:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (4).
(1) سورة آل عمران الآية 81
(2)
سورة آل عمران الآية 82
(3)
سورة البقرة الآية 136
(4)
سورة البقرة الآية 285
فلما كانت
الشرائع مختلفة متنوعة على حسب حكمة الله وعلمه بأحوال العباد
، وعلى حسب الظروف في الأمم المرسلة إليهم الرسل، وأحوالهم وعقولهم، ومدى تحملهم للشرائع والتكاليف مهما كانت الشرائع مختلفة، قد يجب في هذه الشريعة، ما لا يجب في هذه الشريعة، وقد يحرم في هذه الشريعة ما لا يحرم في هذه الشريعة لحكمة بالغة وأسرار عظيمة اقتضتها حكمة الله وعلمه وقدرته وكمال إحسانه وجوده - جل وعلا -. وقد يكون بعض التشديد في بعض الشرائع وبعض الآصار والأغلال لحكم وأسرار اقتضت ذلك، وقد يكون من أسباب ذلك عصيان الأمة التي أرسل إليها الرسول وجرأتها على الله وعدم مبالاتها بأوامره ونواهيه فيشدد عليهم في التشريع لأسباب ذلك، كما قال عز وجل:
{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} (1){وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} (2)، فبين سبحانه أنه حرم على بني إسرائيل من اليهود طيبات أحلت لهم بأسباب أعمالهم الخبيثة، ولما كان نبينا محمد عليه الصلاة والسلام هو الخاتم للأنبياء والرسل جميعا كانت شريعته أكمل الشرائع وأتمها؛ لكونها شريعة خاتمة للشرائع، ولكونها شريعة عامة لجميع الأمة إلى يوم القيامة، فلما كان عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين، وكان رسولا عاما إلى جميع الثقلين، اقتضت حكمة الله سبحانه أن تكون شريعته أوفى الشرائع وأكملها، وأتمها انتظاما لمصالح العباد في المعاش والمعاد فهو عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء والمرسلين، كما قال تعالى:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (3)، وتواترت الأحاديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام بأنه خاتم النبيين، وهذا أمر بحمد الله مجمع عليه ومعلوم بالضرورة من دين الإسلام.
وقد أجمع المسلمون على أن من ادعى النبوة بعده فهو كافر كاذب يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافرا. والله سبحانه وتعالى قد أرسله إلى الناس كافة بإجماع المسلمين أيضا، وقد دلت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية أنه عليه الصلاة والسلام رسول الله إلى الجميع، إلى العرب والعجم، والأحمر والأسود، والجن والإنس، هو رسول الله إلى الجميع من حين بعثته عليه الصلاة والسلام إلى أن تقوم الساعة، كما يدل على ذلك قوله - جل وعلا -:
(1) سورة النساء الآية 160
(2)
سورة النساء الآية 161
(3)
سورة الأحزاب الآية 40
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (1)، فعلق الله - جل وعلا - الهداية على اتباعه والإيمان به فعلم أن لا هداية ولا إيمان إلا من طريق اتباع محمد عليه الصلاة والسلام والسير على منهاجه بعد ما بعثه الله. قال عز وجل:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (2) أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (3) فعلم أنه لا طريق إلى محبة الله ومغفرته إلا باتباعه عليه الصلاة والسلام، وقال - جل وعلا -:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (4)، يعني إلى الناس كافة. وقال - جل وعلا -:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (5)، فأخبر - جل وعلا - أنه نذير للعالمين، والعالمون: هم جميع الناس، وقيل: إنه القرآن، وقيل: إنه الرسول، وكلاهما حق، فهو نذير للعالمين والقرآن نذير للعالمين. فهو نذير، وكتابه نذير للعالمين، للمخلوقات كلها العقلاء المكلفين من الجن والإنس. وفي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال: قال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: «كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة (6)» وفي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا
(1) سورة الأعراف الآية 158
(2)
سورة آل عمران الآية 31
(3)
سورة آل عمران الآية 31
(4)
سورة سبأ الآية 28
(5)
سورة الفرقان الآية 1
(6)
صحيح البخاري التيمم (335)، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521)، سنن النسائي الغسل والتيمم (432)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 304)، سنن الدارمي الصلاة (1389).
نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار (1)»، وهذا أمر معلوم من دين الإسلام بالضرورة أنه رسول الله إلى الجميع، إلى اليهود والنصارى والعرب والعجم، وجميع أجناس بني آدم، وجميع الجن، من أجاب دعوته وسار في سبيله فله النجاة والسعادة والعاقبة الحميدة، ومن حاد عن سبيله فله الخيبة والندامة والنار، كما قال - جل وعلا -:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (2){وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (3)، وقال عز وجل:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (4)، وقال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام:«كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى (5)» ، قيل: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: «من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى (6)» ، وما ذلك إلا لأن رسالته عامة وهو خاتم النبيين، لهذا كله كانت شريعته أكمل الشرائع وكانت أمته خير الأمم، كما قال - جل وعلا -:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (7)، وقال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (8)، فأخبر سبحانه أنه أكمل لهذه الأمة دينها، والأديان السابقة كل واحد مكمل بالنسبة إلى الرسول الذي أرسل به، والقوم الذين
(1) صحيح مسلم الإيمان (153)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 350).
(2)
سورة النساء الآية 13
(3)
سورة النساء الآية 14
(4)
سورة الحشر الآية 7
(5)
رواه البخاري في صحيحه
(6)
صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7280)، صحيح مسلم الإمارة (1835)، سنن النسائي الاستعاذة (5510)، سنن ابن ماجه المقدمة (3)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 361).
(7)
سورة آل عمران الآية 110
(8)
سورة المائدة الآية 3
أرسل إليهم، إكمالا يناسبهم ويليق بظروفهم وأحوالهم، أما بالنسبة إلى هذه الأمة فقد أكمل لها الدين في جميع المعاني، وجعله دينا صالحا لجميع ظروفهم وأحوالهم وغناهم وفقرهم، وحربهم وسلمهم، وشدتهم ورخائهم، وفي جميع أصقاع الدنيا، وفي جميع الزمان إلى يوم القيامة. وقد أردت أن أذكر شيئا يسيرا من محاسن هذه الشريعة وأسرارها العظيمة. أما الاستقصاء فلا يخفى على من له أدنى علم أنه لا يمكن أن يستقصي أحد محاسن هذه الشريعة، كيف يستطيع أحد أن يحصي فضائلها، وهي شريعة من حكيم عليم قد علم كل شيء فيما مضى وفيما يأتي إلى يوم القيامة، وهو العالم بأحوال عباده وأسرار تشريعه سبحانه وتعالى، ولكن حسب طالب العلم أن يذكر شيئا من محاسن هذه الشريعة فالله - جل وعلا - قال:{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (1){إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} (2)، أخبر الله سبحانه وتعالى أنه جعل نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام على شريعة من الأمر، والمعنى: على طريقة بينة واضحة ظاهرة من الأمر أي من الدين القويم، وهو دين الإسلام، ثم قال: فاتبعها: أي الزمها وتمسك بها، وهو أمر له عليه الصلاة والسلام، وأمر لجميع الأمة بذلك، فالأمر له أمر لنا إلا ما دل الدليل على تخصيصه به عليه الصلاة والسلام، ثم قال:{وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (3) يحذر سبحانه من اتباع أهواء الناس، وكل من خالف الشريعة فهو من الذين لا يعلمون، ثم بين - جل وعلا - أن الناس لن يغنوا عنه من الله شيئا، يعني: لو مال
(1) سورة الجاثية الآية 18
(2)
سورة الجاثية الآية 19
(3)
سورة الجاثية الآية 18
إليهم واتبع أهواءهم والله يعصمه من ذلك فلن يغنوا عنه من الله شيئا. فالأمر بيد الله، وهو القادر على كل شيء - جل وعلا -، فلا يمنع أحد رسوله عليه الصلاة والسلام مما أراده الله به من عزة ونصر، فالمقصود من هذا بيان أن النصر والتأييد بيده سبحانه وتعالى، وأنه كفيل بنصره وتأييده وتبليغ رسالته، وأن الناس مهما كانوا من قوة وكثرة فلن يغنوا عنه من الله شيئا، فلا وجه للميل إليهم واتباع أهوائهم، وهذا من باب التحذير وإلا فالرسول صلى الله عليه وسلم معصوم من اتباع أهوائهم فالله قد عصمه وصانه وحماه وأيده، ولكن المقصود تعليمنا وإرشادنا أن السعادة والنجاة والقوة والعزة والسلامة في اتباع الشريعة، والتمسك بها، والدعوة إليها، والحفاظ عليها، والشريعة في اللغة العربية: الطريقة الظاهرة البينة الموصلة إلى النجاة. وتطلق الشريعة في اللغة العربية أيضا على الطريق الموصل إلى الماء، وما ذلك إلا لأنه يوصل إلى الحياة، كما قال - جل وعلا -:{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} (1).
(1) سورة الأنبياء الآية 30
فالشرائع التي جاء بها الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - طرق ظاهرة بينة واضحة لمن تأملها، توصل من استقام عليها واتبعها وأخذ بها إلى النجاة والسعادة، والحياة الطيبة الكريمة في الدنيا والآخرة، فشريعة نبينا عليه الصلاة والسلام أفضلها وأكملها وليس فيها آصار ولا أغلال، قد وضع الله عن هذا النبي وعن أمته الآصار والأغلال؛ فلله الحمد والمنة شريعة سمحة، كما قال في الحديث الصحيح:«بعثت بالحنيفية السمحة (1)» وقال عليه الصلاة والسلام: «إن هذا الدين يسر ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه (2)» ، وقال: لما بعث
(1) صحيح البخاري الحدود (6773)، صحيح مسلم الحدود (1706)، سنن الترمذي الحدود (1443)، سنن أبو داود الحدود (4479)، سنن ابن ماجه الحدود (2570)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 247)، سنن الدارمي الحدود (2311).
(2)
مسند أحمد بن حنبل (3/ 247).
معاذا وأبا موسى رضي الله عنهما إلى اليمن: «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا (1)» .
فهذه الشريعة: شريعة التيسير، وشريعة المساهمة، وشريعة الرحمة والإحسان، وشريعة المصلحة الراجحة، وشريعة العناية بكل ما فيه نجاة العباد وسعادتهم وحياتهم الطيبة في الدنيا والآخرة.
فالله - جل وعلا - بعث نبينا وإمامنا محمدا عليه الصلاة والسلام بشريعة كاملة منتظمة للمصالح العاجلة والآجلة، فيها الدعوة إلى كل خير، وفيها التحذير من كل شر، وفيها توجيه العباد إلى أسباب السعادة والنجاة في الدنيا والآخرة، وفيها تنظيم العلاقات بين العباد وبين ربهم وبين أنفسهم تنظيما عظيما حكيما، وأهم ذلك وأعظمه ما جاءت به الشريعة العظيمة الكاملة من إصلاح الباطن وتوجيه العباد إلى ما فيه صلاح قلوبهم واستقامتهم على دينهم، وإيجاد وازع قلبي إيماني يزعهم إلى الخير والهدى ويزجرهم عن أسباب الهلاك والردى، فالله عز وجل أمر الناس في كتابه الكريم بما فيه صلاح القلوب وإصلاح البواطن. وعنيت الشريعة بهذا أعظم عناية؛ وفي الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ما يشفي ويغني؛ وما ذلك إلا لأن صلاح الباطن واستقامة القلوب وطهارتها هو الأصل الأصيل والركيزة العظيمة لإصلاح العباد من جميع الوجوه، وتأهيله لتحمله الشريعة وأداء الأمانة وإنصافه من نفسه، ولأدائه الحق الذي عليه لإخوانه، فكل عبد لا يكون عنده وازع قلبي من إيمان يزعه إلى الخير ويزجره عن الشر لا تستقيم حاله مع الله ولا مع العباد، ولهذا جاءت الآيات القرآنية الكريمة بالحث على خشية الله وخوفه، ومراقبته ورجائه، ومحبته والتوكل عليه سبحانه، والإخلاص له والإيمان به، وعلق
(1) صحيح البخاري المغازي (4342)، صحيح مسلم الأشربة (1733)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 417).
سبحانه على ذلك المعرفة والجنة، والرضا والكرامة، لماذا؟ لأن العبد إذا استقام قلبه على الإخلاص لله ومحبته والإيمان به وخشيته والتوكل عليه ومراقبته في جميع الأحوال، إذا استقام قلب العبد على هذا سارع إلى أوامر الله، وتقبل توجيه ربه وتوجيه رسوله عليه الصلاة والسلام بكل انشراح وبكل رضى وبكل طمأنينة من دون قلق ولا ضعف، بل يستقبل ذلك بقوة وارتياح وانبساط، كما قال - جل وعلا -:{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} (1)، يحثهم سبحانه في هذا على أن يخشوه - جل وعلا - ويعظموه ويراقبوه، وقال عز وجل:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} (2)، وقال عز وجل:{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (3){أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (4)، وقال عز وجل:{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (5)، وقال عز وجل:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (6). وكل هذه آيات مكية يوجه الله بها العباد إلى الإخلاص له والإيمان به وخشيته ورجائه سبحانه وتعالى، ويقول الله عز وجل:{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (7)، ويقول - جل وعلا -:{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (8)، ويقول سبحانه:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (9)، ففي هذه
(1) سورة الملك الآية 12
(2)
سورة الرحمن الآية 46
(3)
سورة الزمر الآية 2
(4)
سورة الزمر الآية 3
(5)
سورة غافر الآية 14
(6)
سورة الكهف الآية 110
(7)
سورة المائدة الآية 23
(8)
سورة المائدة الآية 54
(9)
سورة آل عمران الآية 31
الآيات حث الناس على محبة الله واستحضار عظمته والتوكل عليه والتفويض إليه، فالعبد إذا عرف الله حق المعرفة بأسمائه وصفاته وعظيم حقه، وتوكل عليه وفوض إليه أمره واعتمد عليه مع مسارعته إلى الأخذ بالأسباب والعمل بها. فالمتوكل قد فوض أمره إلى الله واعتمد على ربه عز وجل وسارع إلى فعل الأوامر وترك النواهي والأخذ بالأسباب والعناية بها حتى يؤدي الواجب على أكمل وجه عن إخلاص لله، وعن محبة له واعتماد عليه، وعن ثقة به عز وجل، وقال سبحانه وتعالى:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} (1)، وقال عز وجل:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (2)، هذا كله يورث القلوب وازعا عظيما من تعظيم شعائر الله ومن تعظيم حرمات الله، حتى يكون عند العبد وازع من قلبه ودافع من خشيته، وحافز من إيمانه إلى أداء الواجبات وإلى ترك السيئات، وإلى الإنصاف من نفسه وإلى أداء الأمانة، أداء الحق الذي عليه لأخيه.
(1) سورة الحج الآية 30
(2)
سورة الحج الآية 32
ثم إنه سبحانه وتعالى مع ذلك كله شرع للناس عبادات تصلهم بالله، وتقربهم لديه، وتزكيهم، وتقوي في قلوبهم محبته والتوكل عليه، والأنس بمناجاته وذكره، والتلذذ بطاعته سبحانه وتعالى، شرع لهم الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر بما في ذلك من استشعار تعظيم الذي شرع هذه العبادة التي بها تطهيرهم من ذنوبهم، وتطهيرهم من أحداثهم، وتنظيفهم وتنشيطهم على العمل، وجعل هذه الطهارة
مفتاحا للصلاة التي هي أعظم عبادة وأكبر عبادة بعد الشهادتين، وشرع لهم الصلاة في أوقات معينة خمسة، وكانت في الأصل خمسين، فالله - جل وعلا - قد لطف بعباده ويسر ورحم فجعلها خمسا بدل خمسين، وكتب لهم سبحانه أجر الخمسين، وجعلها في أوقات متعددة حتى لا يغفل العبد عن ذكر ربه وحتى لا ينسى ربه. الفجر في أول النهار بعد قيامه من النوم، وعند فراغ قلبه يقبل على آيات الله وسماعها ويستمع للإمام في صلاة الفجر وهو يقرأ جهرا وينتفع بذلك، ويبدأ نهاره بذكر الله وطاعته سبحانه وتعالى فيكون في هذا عون له على ملاحظة حق الله، وعلى تعظيم حرمات الله في صحوته، وفي أعماله، وفي بيعه وشرائه وغير ذلك، ثم يجيء وقت الظهر فيعود إلى الصلاة، وإلى الذكر، وإلى العبادة، وإن كان هناك غفلة زالت بعوده إلى هذه العبادة، ثم كذلك العصر بينما هو قد اشتغل بأعمال داخلية أو خارجية فإذا الوقت الآخر قد حضر فينتبه ويرجع إلى ذكر الله وطاعته عز وجل، ثم يأتي المغرب، ثم يأتي العشاء فلا يزال في عبادة وذكر، فيما بين وقت وآخر يذكر فيها ربه، ويحاسب فيها نفسه ويجاهدها لله، ويتقرب إليه بالأعمال التي يحبها الله سبحانه وتعالى، وشرع له مع ذلك عبادات أخرى بين هذه الأوقات، كصلاة الضحى وراتبة الظهر والمغرب والعشاء، والتهجد بالليل، إلى أنواع من العبادات، والصلاة، والأذكار، والاستغفار، والدعاء، تذكره بالله وتعينه على طاعته وذكره سبحانه وتعالى.
هذا كله من فضله - جل وعلا - وعظيم إحسانه، ثم جعل تعالى لهذه الصلاة نداء عظيما على رءوس الأشهاد ليتضمن تعظيم الله سبحانه بالتكبير والشهادة له بالوحدانية ولنبيه بالرسالة، وفيه الدعوة إلى هذه الصلاة بقوله: حي على الصلاة
حي على الفلاح، ثم التكبير لله، ثم الشهادة له بالوحدانية سبحانه وتعالى، فجعل أصل الدين: الذي هو الإقرار بالشهادتين دعوة للصلاة ونداء لها، فالعباد ينتبهون بهذا الذكر وبهذا النداء في بيوتهم، وفي مضاجعهم، وفي مراكبهم، وفي كل مكان ينبهون لهذه العبادة، ولحق الله وعظمته بهذا النداء العظيم الذي لا يسمعه شجر ولا مدر ولا شيء إلا شهد لصاحبه يوم القيامة، كما جاء بذلك الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم شرع الله للناس أيضا زكاة، وجعلها حقا في أموالهم يربط الأغنياء بالفقراء ويصلهم بهم، وفي ذلك فوائد كثيرة منها مواساة الفقراء والإحسان إليهم، ومنها مواساة أبناء السبيل، ومنها مواساة المؤلفة قلوبهم، وتقوية إيمانهم، ودعوتهم إلى الخير، ومنها مساعدة الرقاب على العتق وفك الأسارى، ومنها أيضا مساعدة الغارمين على قضاء ديونهم، ومنها مساعدة الغزاة على الجهاد في سبيل الله، فهي حق عظيم في المال يزكي صاحبه، وينمي ثروته، ويرضي ربه، والله مع هذا يخلفه عليه سبحانه وتعالى بأحسن خلف، مع هذه الفوائد العظيمة، قال عز وجل:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (1)، ففي هذه الفريضة وفي هذا الحق شكر لله عز وجل على نعمه، وقربة إليه سبحانه وتعالى بأداء هذا الحق والإنفاق من المال طاعة لله إخلاصا له وتقربا إليه - جل وعلا -، ومع ذلك في نفس الوقت فيه إحسان للعباد ومواساة لهم
(1) سورة التوبة الآية 60
ومساعدة على كل خير.
أما الصوم فكلكم يعلم ما فيه من الخير العظيم والمصالح الكبيرة التي منها تطهير النفس من أشرها وبطرها وشحها وبخلها وكبرها، ومن ذلك أن الصائم يعرف بالصيام حاجته وضعفه وشدة ضرورته إلى ما أباح الله من الطعام والشراب وغيرهما، ومنها تذكير العبد بإخوانه الفقراء والمحاويج حتى يواسيهم ويحسن إليهم، ومنها تمرين العبد على مخالفة الهوى وتعويده الصبر على ما يشق على النفس إذا كان في ذلك طاعة ربه ورضاه، فالصائم في الصيام يخالف هواه ويجاهد نفسه ويعودها الصبر عما يوافق هواها من مأكل ومشرب ومنكح في طاعة ربها ومولاها عز وجل.
وفي الصوم من الفوائد والحكم والأسرار ما لا يحصيه إلا الله عز وجل، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، يقول الله عز وجل: إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك (1)» ، والأحاديث في فضله وعظم شأنه كثيرة.
أما الحج ففيه من الفوائد العظيمة من الصلة بالله والتقرب إليه، ومفارقة الأوطان والأهل والعشيرة لأداء هذه الفريضة العظيمة وزيارة البيت العتيق ما لا تحيط به العبارة، فإنه في هذه العبادة يركب الأخطار، ويقطع الفيافي والقفار، ويشق الأجواء، يرجو رحمة ربه ويخاف عقابه سبحانه وتعالى، فما أحراه بالثواب الجزيل والأجر العظيم من المولى الكريم عز وجل، أما ما شرع الله - سبحانه - في هذه العبادة من الإحرام والتلبية، واجتناب كثير من العوائد، وكشف
(1) صحيح البخاري الحدود (6773)، صحيح مسلم الحدود (1706)، سنن الترمذي الحدود (1443)، سنن أبو داود الحدود (4479)، سنن ابن ماجه الحدود (2570)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 247)، سنن الدارمي الحدود (2311).
الرجل رأسه وخلع الثياب المعتادة، والطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفات، ورمي الجمار، والتقرب إلى الله سبحانه بذبح الهدايا، إلى غير ذلك مما شرع الله في الحج، فمما شهدت العقول الصحيحة والفطر المستقيمة بحسنه، وأنه لا حكمة فوق حكمة من شرعه وأمر به عباده. يضاف إلى ذلك ما في الحج من اتصال المسلمين بعضهم ببعض، وتشاورهم في كثير من أمورهم وتعاونهم في مصالحهم العاجلة والآجلة واستفادة بعضهم من بعض، إلى غير ذلك من الفوائد، فكل ذلك شاهد للذي شرعه بأنه سبحانه أرحم الراحمين، وأحكام الحاكمين، وكل ذلك من جملة منافع الحج التي أشار إليها سبحانه بقوله:{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (1).
فالحج مؤتمر إسلامي عظيم وفرصة للمسلمين ينبغي أن يستغلوها في شتى مصالحهم، وأن يستفيدوا منها لأمر دنياهم وأخراهم، فنسأل الله أن يوفقهم لذلك، وأن يجمع كلمتهم على الهدى، إنه خير مسئول وأكرم مجيب.
وقد سبق لنا أن ذكرنا أن الله - جل وعلا - أمر الرسل بإقامة الدين، فالرسل بعثوا لإقامة الدين ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو أكملهم في ذلك، وهو إمامهم وسيدهم وخاتمهم بعث لإقامة الدين أيضا.
فهذه العبادات وهذه التوجيهات من الله عز وجل كلها لإقامة الدين، وأن يكون عندك وازع إيماني يحملك على أداء الواجبات، ومعاملة إخوانك بأحسن المعاملات، وعلى إنصافهم وأداء حقوقهم، وعلى أداء الأمانة في كل شيء والرجوع إلى الله في كل شيء حتى تكون عبدا ممتثلا سائرا
(1) سورة الحج الآية 28
على الوجه الذي شرعه الله، لا تتبع هواك ولا تقف عند حظك.
ومما يتعلق بما تقدم قول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب (1)» فأخبر عليه الصلاة والسلام أن صلاح العبد بصلاح قلبه فمتى صلح قلبه استقام العبد مع الله عز وجل ومع العباد، ومتى خبث القلب وفسد؛ خبث العبد وفسدت حاله، وهذا يبين لنا ما تقدم من أن هذه الشريعة عنيت عناية عظيمة بأسباب إصلاح القلوب. وقال عليه الصلاة والسلام:«إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم (2)» فبين عليه الصلاة والسلام أن موضع النظر من ربنا عز وجل القلب والعمل، أما مالك وبدنك فلا قيمة لهما وليسا محل النظر إلا إذا استعملت مالك وبدنك في طاعة ربك، وإنما محل النظر قلبك وعملك، فإذا استقام قلبك على محبة الله وخشيته ومراقبته والإخلاص له استقامت أعمالك واستقام أمرك، وإن كانت الأخرى فسدت حالك وفسد عملك ولا حول ولا قوة إلا بالله.
(1) صحيح البخاري الإيمان (52)، صحيح مسلم المساقاة (1599)، سنن الترمذي البيوع (1205)، سنن النسائي البيوع (4453)، سنن أبو داود البيوع (3329)، سنن ابن ماجه الفتن (3984)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 270)، سنن الدارمي البيوع (2531).
(2)
صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2564)، سنن أبو داود البيوع (3443).
ثم إن هذه الشريعة العظيمة أيضا نظمت العلاقات بين الأسرة في نفسها، أسرة الإنسان وقراباته بما شرع الله من: صلة الرحم، والمواريث، والتعاون فيما بين الأسرة حتى تكون مرتبطة متعاونة على ما يرضي ربنا عز وجل، متحابة فيما بينها، هذا من رحمته وإحسانه - جل وعلا - أن جعل بين ذوي القرابات صلة خاصة تصل بعضهم ببعض، وتجمع بعضهم إلى بعض، وتربط بعضهم ببعض، فشرع صلة الرحم، وحث على ذلك وتوعد على ترك ذلك، فقال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح:«لا يدخل الجنة قاطع (1)»
(1) صحيح البخاري الأدب (5984)، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2556)، سنن الترمذي البر والصلة (1909)، سنن أبو داود الزكاة (1696)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 83).
يعني: قاطع رحم، وقال - جل وعلا - في كتابه العظيم:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (1){أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} (2)، وفي الحديث أيضا:«من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله، فليصل رحمه (3)» وهكذا شرع العلاقات الطيبة بين المسلمين في جميع المعاملات، فجعلهم إخوة يتحابون في الله، ويتعاونون على الخير في جميع المجالات. وهذه أعظم صلة وأعظم رابطة بين المسلمين، الرابطة الإسلامية والأخوة الإيمانية، وهي أعظم رابطة، وهي فوق رابطة القرابة والصداقات وكل رابطة بين الناس، فالرابطة الإسلامية والأخوة بين المسلمين فوقها، فالله سبحانه وتعالى جعل المسلمين فيما بينهم إخوة وأوجب عليهم أن يحب بعضهم لبعض الخير، ويكره له الشر، وأن يكونوا فيما بينهم متحابين متناصحين متعاونين حتى يكونوا كتلة واحدة، وجماعة واحدة، وصفا واحدا، وأمة واحدة:{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (4)، ويقول - جل وعلا -:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (5)، ويقول عز وجل:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (6)، فيأمرهم بالاجتماع والاعتصام بحبل الله: وهو دينه سبحانه. ويقول عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (7).
(1) سورة محمد الآية 22
(2)
سورة محمد الآية 23
(3)
صحيح البخاري الحدود (6778)، صحيح مسلم الحدود (1707)، سنن أبو داود الحدود (4486)، سنن ابن ماجه الحدود (2569)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 130).
(4)
سورة الأنبياء الآية 92
(5)
سورة التوبة الآية 71
(6)
سورة آل عمران الآية 103
(7)
سورة المائدة الآية 2
فبين سبحانه وتعالى أن الواجب على الجميع أن يتعاونوا على البر والتقوى، وأن يكونوا أولياء لا غل بينهم، ولا حقد ولا حسد، ولا تباغض ولا تقاطع، لكن أولياء يتناصحون ويتعاونون على الخير. وهذا هو التضامن الإسلامي الذي يدعو إليه كل مسلم، وكل مخلص لدينه، وكل مؤمن، وكل محب للإسلام.
فالتضامن الإسلامي: هو التعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق، والتناصح في الله، والتكافل والتكاتف على كل ما فيه صلاح المسلمين ونجاحهم وحفظ حقوقهم وإقامة كيانهم وصيانتهم من شر أعدائهم، هذا هو التضامن، وهذا هو التعاون: أن يكون المسلمون حكومات وشعوبا متعاونين على البر والتقوى متناصحين في الله، متحابين فيه، متكاتفين على كل ما يقيم دينهم، ويحفظ كيانهم، ويوحد صفوفهم، ويجمع كلمتهم، وينصفهم من عدوهم، ويورثهم العزة والكرامة.
فبهذا الاجتماع وهذا التعاون يحميهم الله من شر أعدائهم ومكائدهم ويجعل لهم الهيبة في قلوب الأعداء لاجتماعهم على الحق وتعاونهم وتكاتفهم وتناصرهم على دين الله مخلصين لله قاصدين وجهه الكريم لا لغرض آخر، كما قال عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1)، وقال عز وجل:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (2){الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (3)، فهو سبحانه وتعالى علق نصرهم وحفظهم وحمايتهم بنصرهم دينه واجتماعهم على
(1) سورة محمد الآية 7
(2)
سورة الحج الآية 40
(3)
سورة الحج الآية 41
دينه وتعاونهم واعتصامهم بحبل الله عز وجل. فبالتضامن الإسلامي والتعاون الإسلامي كل خير وكل عزة في الدنيا والآخرة للمسلمين إذا صدقوا في ذلك وتعاونوا عليه.
ومن محاسن هذه الشريعة أيضا أن جعلت المؤمن أخا المؤمن ينصح له ويحب له الخير، يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر ويعينه على الخير ويمنعه من الشر، كما قال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام:«لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه (1)» ، وقال - جل وعلا -:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} (2)، فالمؤمن أخو المؤمن يعينه على الخير ويدعوه إليه، وينهاه عن الشر ويأخذ على يديه، كما قال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام:«انظر أخاك ظالما أو مظلوما، قالوا: يا رسول الله نصرته مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال: تمنعه من الظلم فذلك نصره (3)» . فنصر الظالم: منعه والأخذ على يديه. فالمسلمون إذا قاموا بهذا وتعاونوا عليه حصل لهم الخير العظيم والعزة والكرامة وجمع الكلمة وهيبة الأعداء والعافية من مكائدهم.
ومن محاسن هذه الشريعة أيضا أنها جعلت للمعاملات بين المسلمين نظاما حكيما يتضمن العدل والإنصاف وإقامة الحق فيما بينهم دون محاباة لقريب أو صديق، بل يجب أن يكون الجميع تحت العدل وتحت شريعة الله لا يحابي هذا لقرابته، ولا هذا لصداقته، ولا هذا لوظيفته ولا هذا لغناه، أو فقره، ولكن على الجميع أن يتحروا العدل في معاملاتهم من الإنصاف والصدق وأداء الأمانة، كما قال - جل وعلا -:
(1) صحيح البخاري الإيمان (13)، صحيح مسلم الإيمان (45)، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2515)، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5016)، سنن ابن ماجه المقدمة (66)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 272)، سنن الدارمي الرقاق (2740).
(2)
سورة الحجرات الآية 10
(3)
صحيح البخاري الإكراه (6952)، سنن الترمذي الفتن (2255)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 99).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (1)، وقال - جل وعلا -:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} (2) أي بالعدل {شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} (3)، وقال - جل وعلا -:{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} (4)، فالله سبحانه وتعالى شرع للجميع أن يتعاملوا بالعدل والإنصاف، وأن يقيموا الحق فيما بينهم على طريق العدل والقسط من دون محاباة لزيد أو عمرو أو صديق أو قريب أو كبير أو صغير.
(1) سورة المائدة الآية 8
(2)
سورة النساء الآية 135
(3)
سورة النساء الآية 135
(4)
سورة الأنعام الآية 152
ومن محاسن هذه الشريعة وعظمتها وصلاحها لكل أمة ولكل زمان ومكان أن علق سبحانه وتعالى معاملاتهم على جنس العقود وجنس البيع وجنس الإجارة، ونحو ذلك من دون أن يحدد لهذه العقود ألفاظا معينة خاصة، حتى يتعامل كل قوم وكل أمة بما تقتضيه عوائدهم وعرفهم ومقاصدهم ولغتهم، وما يقتضيه النظر في العواقب، فجعل لمعاملاتهم عقودا شرعها لهم سبحانه وتعالى ولم يحدد ألفاظا بل جعلها مطلقة، كما شرع لهم في أنكحتهم وطلاقهم ونفقاتهم ودعاواهم وخصوماتهم نظاما حكيما يتضمن الإنصاف والعدل، وأن تراعى في ذلك العوائد والعرف، والاصطلاحات والبينات، والمقاصد والظروف، والأزمنة والأمكنة في حدود الشريعة كاملة حتى لا يقضى على أحد بغير حق، فقال - جل وعلا -:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1) فأطلق العقود،
(1) سورة المائدة الآية 1
وقال - جل وعلا -: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1)، وقال - جل وعلا -:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (2)، وجاءت الأحاديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام فيما يتعلق بالمساقاة والمزارعات، والشركات، والجعالات، والضمانات، والأوقاف، والوصايا، والنكاح والطلاق والرضاع غير ذلك بما يطابق ما جاء به القرآن الكريم.
وهذه الأنظمة التي جاء بها القرآن وصحت بها السنة أنظمة واضحة بينة، يستقيم عليها أمر العباد، وتصلح لهم في كل زمان ومكان، ولا تختلف عليهم، بل يكون لهؤلاء عرفهم في بيعهم وشرائهم ونكاحهم وطلاقهم وأوقافهم ووصاياهم وغير ذلك، حتى لا يربط هؤلاء بهؤلاء ولا هؤلاء بهؤلاء، كما قال - جل وعلا - تنبيها على هذا المعنى:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (3)، يعني: بالمتعارف. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث خطبته العظيمة في حجة الوداع: «ولهن عليكم (أي للزوجات) رزقهن (أي كسوتهن) بالمعروف (4)» ، وقال - جل وعلا -:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (5) لإقامة الحجة وقطع المعذرة، وقال سبحانه وتعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} (6)، وقال عز وجل:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (7) فبين سبحانه وتعالى أنه لا بد من بيان، ولا بد من إقامة حجة حتى لا يؤخذ أحد إلا
(1) سورة البقرة الآية 275
(2)
سورة الطلاق الآية 6
(3)
سورة البقرة الآية 233
(4)
صحيح البخاري الحدود (6778)، سنن أبو داود الحدود (4486)، سنن ابن ماجه الحدود (2569)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 130).
(5)
سورة الإسراء الآية 15
(6)
سورة التوبة الآية 115
(7)
سورة النحل الآية 44
بعد إقامة الحجة عليه. وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في هذا المعنى في كتابه: (إعلام الموقعين) فصلا عظيما بين فيه أن الشريعة راعت عوائد الناس ومقاصدهم وعرفهم ولغتهم حتى تكون الأحكام والفتاوى على ضوء ذلك، فقد يكون عرف هذه البلدة وهذا الإقليم غير عرف الإقليم الآخر والبلدة الأخرى. وقد يكون لهذا الشخص من النيات والمقاصد ما ليس لشخص آخر ويكون لهؤلاء من العوائد ما ليس للآخرين، وقد تكون أزمان لا يليق أن يفعل فيها ما يليق أن يفعل في الزمن الآخر، كما كانت الدعوة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في مكة غير حالها في المدينة؛ لاختلاف الزمان والمكان، والقوة والضعف، وهذا من عظيم حكمة الله - جل وعلا - ورعايته لأحوال عباده، فقد يقصد بعض الناس بألفاظ البيع والهبة ما يقصد به آخرون معنى آخر أو عقدا آخر، وهكذا في الطلاق والإجارة وغير ذلك.
وهكذا بعض الأزمان قد يسوغ فيها ما لا يسوغ في أزمان أخرى، ومثل لذلك بأمثلة منها إقامة الحد في أرض العدو إذا وجد من بعض الغزاة ما يوجب الحد في أرض العدو، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إقامة الحد في أرض العدو. لماذا؟
لأنه قد يغضب ويستولي عليه الشيطان فيرتد عن دين الإسلام لذلك ولقربه من العدو. ومن ذلك عام المجاعة فإذا كان عام مجاعة واشتدت الحال بالناس لا ينبغي القطع في هذه الحالة للسارق إذا ادعى أن الذي حمله على ذلك الضيق والحاجة وعدم وجوده شيئا يقيم أوده ويسد حاجته؛ لأن هذا شبهة في جواز القطع، والحدود تدرأ بالشبهات. ولهذا أمر عمر رضي الله عنه وأرضاه في عام الرمادة بعدم القطع، وحكم بذلك رضي الله عنه وأرضاه لهذه الشبهة. وهكذا
تعتبر العواقب، كما قال الله سبحانه:{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} (1)، وقال تعالى:{فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (2)، وقال سبحانه:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (3). فلا بد من رعاية العواقب. ولهذا ذكر ابن القيم رحمه الله: أن الإنسان إذا كان أمره بالمعروف في بعض الأحيان قد يفضي إلى وجود ما هو أنكر من المنكر الذي يريد أن ينهي عنه، فإنه لا يجوز له أن ينهي عن المنكر في هذه الحالة إذا كان إنكار المنكر يفضي إلى ما هو أنكر منه وأشد، فإنك في هذه الحالة لا تنكره لئلا يقع ما هو أنكر منه وهذا من باب مراعاة العواقب. فإذا كان إنسان مثلا يشرب الخمر ولكنك إذا نهيته عن ذلك ومنعته عن ذلك ومنعته منه اشتغل بقتل الناس، فحينئذ يكون ترك الإنكار عليه أولى؛ لأن شرب الخمر أسهل من كونه يتعدى على الناس بالقتل.
والمقصود أن الواجب الرعاية للعواقب كما تراعى عوائد الناس وظروفهم وأحوالهم، ومقاصدهم ونياتهم في عقودهم، وتصرفاتهم فيما بينهم، وفي إقامة الحدود، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يراعى في ذلك تحصيل المصالح ودرء المفاسد، وتحصيل المصلحة الراجحة بتفويت المصلحة المرجوحة، وتعطيل المفسدة الكبرى بارتكاب المفسدة الصغرى عند العجز عن تفويتهما جميعا، هذه أمور عظيمة جاءت بها هذه الشريعة الكاملة، ولاشك أن ذلك من محاسنها، ويجب على ولاة الأمور وعلى كل من له تصرف في أمر الناس أن
(1) سورة الحشر الآية 2
(2)
سورة هود الآية 49
(3)
سورة الأنعام الآية 108
يراعوها من قاض ومفت وأمير وغيرهم، هذا كله من محاسن هذه الشريعة العظيمة.
ومن محاسنها أيضا أنها جعلت للناس الحرية في الكسب والأخذ والعطاء فيكتسب المسلم ويأخذ ويعطي في حدود الشريعة، كما قال تعالى:{لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (1)، له غنم ما أخذ وعليه غرمه، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح:«لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها فيكف بها وجهه خير له من سؤال الناس أعطوه أو منعوه (2)» ، فحث على الكسب وبين أنه خير من سؤال الناس. ولما سئل عليه الصلاة والسلام «أي الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور (3)» وقال عليه الصلاة والسلام:«ما أكل أحد طعاما أفضل من أن يأكل من عمل يده وكان نبي الله داود يأكل من عمل يده (4)» عليه الصلاة والسلام فالشريعة الإسلامية حبذت الكسب والعمل، ودعت إلى الكسب والعمل، وجعلت العامل أحق بكسبه وماله، وحرمت على الإنسان دم أخيه وماله وعرضه إلا بحق.
وهذا كله من محاسن هذه الشريعة وعظمتها أنها صانت أموال الناس وأعراضهم كما صانت أبشارهم ودماءهم، وأمرتهم بالكسب وحثتهم عليه، كما قال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام:«احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا أو كذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل شيطان (5)» خرجه مسلم في صحيحه. ولو ذهبت أذكر
(1) سورة البقرة الآية 286
(2)
مسند أحمد بن حنبل (1/ 446).
(3)
مسند أحمد بن حنبل (4/ 141).
(4)
مسند أحمد بن حنبل (2/ 109).
(5)
صحيح مسلم القدر (2664)، سنن ابن ماجه المقدمة (79)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 370).
ما يتعلق بعظمة هذه الشريعة ومحاسنها ورعايتها لمصالح العباد في أمر المعاش والمعاد لطال بنا المقام كثيرا، ولكن هذه إشارة قليلة تكفي اللبيب في التعرف على عظمة هذه الشريعة، ورعايتها لأحوال العباد ومصالحهم في الحاضر والمستقبل.
ومن ذلك أيضا ما جاء في هذه الشريعة من الأمر بالتوبة؛ لأن فيها إصلاح الماضي والعافية من شره، وقد كان من توبة بعض الماضين قتل النفوس، فرحم الله هذه الأمة وجعل توبتهم الندم والإقلاع، والعزيمة على عدم العودة إلى السيئة، مع رد المظالم إلى أهلها، هذا من إحسان الله ورحمته - جل وعلا - لهذه الأمة، وهذا من محاسن هذه الشريعة أن جعلت لك أيها الإنسان فرجا ومخرجا من ذنوبك وسيئاتك بالتوبة النصوح والاستغفار والرجوع إليه عز وجل والعمل الصالح.
ومن تأمل هذه الشريعة في مواردها ومصادرها ونظر ما جاءت به من الأحكام العظيمة العادلة، والإحسان إلى الخلق، ورعاية الفقراء والمحاويج والصغار والكبار وغيرهم - حتى البهائم اعتنت بها الشريعة وحرمت ظلمها والتعدي عليها - عرف أنها شريعة من حكيم حميد خبير بأحوال عباده عليم بما يصلحهم، وعرف أيضا أنها من الدلائل القاطعة على وجوده سبحانه وتعالى وكمال قدرته وحكمته وعلمه، وعلى صدق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأنه رسول الله حقا.
وهكذا من نظر في ما جاءت به الشريعة من رعاية في أحوال العباد أغنيائهم وفقرائهم، ملاكهم وعمالهم، حكامهم ومحكومهم، أفرادهم وجماعاتهم، قد راعتهم جميعا وجعلت لهم أحكاما مبنية على المصلحة، والعدالة والإنصاف، والإحسان والرحمة، فهذه الشريعة كلها مصالح، كلها حكم، كلها هدى، كلها عدل، وكل شيء خرج
من العدل إلى الجور، ومن المصلحة إلى العبث، ومن الرحمة إلى ضدها فليس من الشريعة في شيء وإن نسب إليها بالتأويل، كما ذكر ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله، فالشريعة كلها رحمة وعدل وحكمة، وكلها رعاية لمصالح العباد بعيدة عن العبث والظلم والمشقة.
ومن تأمل ما تقدم؛ عرف ما أردته في الشق الثاني من عنوان هذه الكلمة. وهو: أن البشر في أشد الضرورة إلى هذه الشريعة؛ لما اشتملت عليه من المصالح العظيمة، وأنها راعت مصالح العباد في المعاش والمعاد وهيأت لهم السبل التي توصلهم إلى النجاة والسعادة، وبين سبحانه وتعالى في كتابه أن شريعته صراط مستقيم، صراط واضح ومنهج قيم من استقام عليه نجا، ومن حاد عنه هلك، ومن تأمل هذا حق التأمل عرف أن هذه الشريعة كسفينة نوح عليه السلام من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق، فهكذا هذه الشريعة العظيمة من تمسك بها واستقام عليها نجا، ومن حاد عنها هلك ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وبذلك يتضح للبيب أن العباد جميعا في أشد الضرورة إلى هذه الشريعة، لما فيها من حل مشاكلهم، ولما فيها من أحكام عادلة، ولما فيها من التوسط بين الاشتراكية الإلحادية الماركسية المنحرفة وبين الرأسمالية الغاشمة الظالمة، فهي وسط في كل شيء، وسط في اقتصادها بين اشتراكية الملحدين وماديتهم، وبين الرأسمالية الغاشمة التي لا حدود لها، فهي وسط بين طرفين، عدل بين جورين، وكذلك وسط في جميع أمورها، لا تطرف في غلو ولا تطرف في جفاء، بل هي وسط في شأنها كله، هذه الشريعة العظيمة وسط في الإنفاق والإمساك لا إسراف وتبذير، ولا إمساك وتقتير، بل هي وسط بين ذلك، كما قال تعالى:{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} (1).
(1) سورة الإسراء الآية 29
وكما قال سبحانه في صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (1). فمن تأمل هذا الأمر وعني به عرف أنها دين ودولة، ومصحف وسيف، عبادة وحسن معاملة، جهاد وأعمال صالحة، إنفاق وإحسان، وطاعة لله عز وجل والرسول صلى الله عليه وسلم، توبة من الماضي وعمل للمستقبل، فيها كل خير، فهي جمعت خير الدنيا والآخرة، لا يجوز أن يفصل ديننا عن دنيانا، ولا دنيانا عن ديننا بل ديننا ودنيانا مرتبطان ارتباطا وثيقا في هذه الشريعة، كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} (2)، فهي حاكمة على الناس كلهم، على الأمراء وغير الأمراء، على الأفراد وعلى الجماعات، عليهم جميعا أن يكونوا تحت حكمها وتحت سلطانها في كل شيء، ومن زعم فصل الدين عن الدولة، وأن الدين محله المساجد والبيوت، وأن للدولة أن تفعل ما يشاء وتحكم بما تشاء فقد أعظم على الله الفرية، وكذب على الله ورسوله، وغلط أقبح الغلط، بل هذا كفر وضلال بعيد، عياذا بالله من ذلك، بل جميع العباد مأمورون بالخضوع لأحكام الشريعة وتشريعاتها في العبادات وغيرها، ويجب على الدولة أن تكون منفذة لحكم الشريعة، سائرة تحت سلطانها في جميع تصرفاتها، وعلى هذا سار النبي الكريم عليه الصلاة والسلام وسار أصحابه الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم - وسار عليه أئمة الإسلام بعد ذلك في كل شيء، وقد جعل الله هذه الشريعة
(1) سورة الفرقان الآية 67
(2)
سورة النساء الآية 58
روحا ونورا وحياة للناس، وبهذا تعرف أنك في أشد الضرورة إلى هذه الشريعة، وأن البشر كلهم في ضرورة إليها؛ لأنها الحياة، ولأنها النور ولأنها الصراط المستقيم المفضي إلى النجاة، وما عداها فظلمة وموت وشقاء، قال الله - جل وعلا - في كتابه العظيم:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} (1)، فجعل من خرج عن الشريعة ميتا، وجعل من هدي إليها حيا، وجعل من أبى الشريعة في ظلمة، وجعل من وفق لها في فوز وهدى، وقال - جل وعلا -:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (2)، فجعل الاستجابة لله ولرسوله حياة، وجعل عدم الاستجابة موتا، فعلم أن هذه الشريعة حياة للأمة، وهي سعادة للأمة، ولا حياة لهم ولا سعادة بدون ذلك. وقال عز وجل:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (3)، فجعل سبحانه ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام روحا للعباد تحصل به حياتهم، ونورا تحصل به بصيرهم ونجاتهم وسيرهم على الصراط المستقيم، فهذه الشريعة روح للأمة، بها حياتها وقيامها ونصرها، وهي أيضا نور لها تدرك به أسباب نجاتها وتهتدي به إلى الصراط المستقيم والصراط المستقيم هو: الطريق الواضح الذي من سار عليه وصل إلى النجاة، ومن حاد عنه هلك. وقال سبحانه وتعالى:
(1) سورة الأنعام الآية 122
(2)
سورة الأنفال الآية 24
(3)
سورة الشورى الآية 52
{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1)، فبين سبحانه أن من عمل العمل الصالح عن إيمان أحياه الله حياة طيبة سعيدة، وفي هذا إشارة إلى أن حياة الكفار الذين حادوا عن الشريعة ليست حياة طيبة، بل حياة خبيثة، حياة مملوءة بالهموم والغموم والأحزان والمشاكل العظيمة والفتن الكثيرة، فهي حياة تشبه حياة البهائم ليس لأهلها هم إلا شهواتهم وحظهم العاجل، فهي حياة من جنس حياة البهائم، بل أسوأ وأضل؛ لكونهم لم ينتفعوا بعقولهم التي ميزوا بها عن البهائم، كما قال جل وعلا:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (2)، وقال جل وعلا {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} (3) هذه حياة من حاد عن الشريعة، حياة في الحقيقة هي شبيهة بالموت لعدم إحساسهم بالواجب وعدم شعورهم بما خلقوا له، وهي حياة في ذاتها تشبه حياة البهائم؛ لكون البهيمة لا هم لها إلا شهواتها وحظها العاجل، فهكذا الكافر المعرض عن الشريعة ليس له هم إلا شهواته وحظه العاجل، ولهذا شبه الله أهل الإيمان والهدى بالمبصرين والسامعين، وشبه من حاد عن الشريعة بالأعمى والأصم، وشبه من وفق إلى الشريعة بالحي، وشبه من خالف الشريعة بالميت، وبهذا نعرف أيها الأخوة أن هذه الشريعة: حياة البشر، وسعادة البشر، ونجاة البشر في الدنيا والآخرة، وأنهم في أشد الضرورة إلى اعتناقها والتزامها والتمسك بها؛ لأن بها حياتهم ونصرتهم ونجاتهم وسعادتهم في الدنيا
(1) سورة النحل الآية 97
(2)
سورة الفرقان الآية 44
(3)
سورة محمد الآية 12
والآخرة، ولأن فيها الحكم بينهم بالحق وإنصاف مظلومهم من ظالمهم، ولهذا كانت هذه الشريعة العظيمة أعظم شريعة وأكمل شريعة، وكان البشر في أشد الضرورة إلى أن يعتنقوها ويلتزموها، ولا حل لمشاكلهم، ولا سعادة لهم أبدا، ولا نجاة للمسلمين مما وقعوا فيه اليوم، من التفرق والاختلاف والضعف والذل إلا بالرجوع إليها، والتمسك بها، والسير على تعاليمها ومنهاجها.
وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا الله جميعا للفقه فيها والعمل بها، وأن يهدينا جميعا وسائر عباده للأخذ بها والسير على ضوئها والاهتداء بنورها إنه جواد كريم، كما أسأله عز وجل أن يصلح ولاة المسلمين جميعا، وأن يوفقهم للتمسك بهذه الشريعة والعمل بها والتحاكم إليها والحكم بها في كل شيء، وأن يعيذنا وإياهم من بطانة السوء ومن دعاة الضلال، إنه على كل شيء قدير. . وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.