المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

متواضعة، على طريق توضيح الرؤية، وجلاء الصورة، وإزالة بعض ما - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٤٥

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌ الشرائع مختلفة متنوعة على حسب حكمة الله وعلمه بأحوال العباد

- ‌الفقه الحنفي

- ‌الفقه المالكي

- ‌الفقه الشافعي

- ‌الفقه الحنبلي

- ‌الفتاوى

- ‌ أخذ جوائز في مسابقة لحفظ القرآن

- ‌ حافظ القرآن يصلي بالناس أو يقرأ للميت بأجرة

- ‌ أجرة المدرسين الذين يعلمون الناس كتاب الله

- ‌تعلم الرجل القرآن على يد شيخ نظير أجر معين

- ‌ أخذ أجرة على قراءة القرآن الكريم

- ‌ المصاحف المغلوطة أيهما أفضل: حرقها أم دفنها في التراب

- ‌ قراءة القرآن الكريم لمن كان مضطجعا أو قائما أو ماشيا

- ‌ قراءة القرآن في المسجد جماعة

- ‌ قراءة القرآن جماعة

- ‌ قول: (صدق الله العظيم) بعد الفراغ من قراءة القرآن

- ‌ تقبيل القرآن

- ‌ حكم سماع قراءة المرأة المسجل

- ‌ إقامة مباريات ترتيل القرآن الكريم بالنسبة للنساء بحضور الرجال

- ‌ ترجمة القرآن أو بعض آياته إلى لغة أجنبية أو عجمية

- ‌ تعدد القراءات في القرآن

- ‌ الغيبة المحرمة

- ‌ الكتب المفيدة النافعة في الدنيا والدين

- ‌مس الكافر ترجمة معاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزية

- ‌التوبة النصوح

- ‌الأمية في المنظور الإسلامي

- ‌النبي الأمي:

- ‌أمته عليه الصلاة والسلام أمة أمية:

- ‌الإسلام وتعلم الكتابة:

- ‌الأمية: مصدر صناعي، والأمي: الذي لا يحسن الكتابة، ولا يقرأ من الكتاب

- ‌ الأميون: هم المسلمون، والأمة الأمية: هي الأمة المسلمة

- ‌الأميون: ما سوى اليهود من الأمم والشعوب

- ‌ الأمي: هو المنسوب إلى ما عليه جبلته الأولى، يوم ولدته أمه

- ‌الأمي: هو المتصف بقلة المعرفة

- ‌خطأ (المعجم الوسيط) في تحديد مفهوم الأمية:

- ‌ نحن أمة أمية

- ‌رحمة اللهأسبابها وآثارها

- ‌بين يدي البحث

- ‌مفهوم الرحمة:

- ‌أسرار اقتران اسم " الرحيم " بغيره من الأسماء الحسنى:

- ‌أولا: الرحمن الرحيم:

- ‌ ورود الاسمين مقترنين:

- ‌ ورود اسم " الرحمن " منفردا:

- ‌ ورود اسم " الرحيم " منفردا:

- ‌ثانيا: ورود الاسمين الحسنيين " التواب، الرحيم " مقترنين:

- ‌ثالثا: ورود الاسمين الحسنيين " الرؤوف الرحيم " مقترنين:

- ‌رابعا: ورود الاسمين الحسنيين " الغفور الرحيم " مقترنين:

- ‌خامسا: ورود الاسمين الحسنيين " العزيز الرحيم " مقترنين:

- ‌سادسا: ورود الاسمين الحسنيين " البر، الرحيم " مقترنين:

- ‌سابعا: مناسبة الاقتران:

- ‌سعة رحمة الله:

- ‌سبق رحمة الله غضبه:

- ‌علاقة الرحم بالرحمن:

- ‌محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة:

- ‌حاجة الأنبياء إلى الرحمة:

- ‌مظاهر رحمة الله وآثارها:

- ‌من أنواع الرحمة ومظاهرها وآثارها

- ‌أسباب الرحمة:

- ‌الخاتمة

- ‌المبحث الأول: كونها سنة

- ‌المبحث الثانيالحكمة من الفتنة والابتلاء

- ‌المسألة الأولى: هل التكفير خاص بالصغائر أم للصغائر والكبائر

- ‌المسألة الثانية: هل المصائب مكفرات أو مثيبات

- ‌المبحث الثالث:هل للمسلم أن يستدعي البلاء على نفسه

- ‌المبحث الرابع: أنواع الفتن:

- ‌فتنة اتباع المتشابه:

- ‌فتن الشهوات:

- ‌تحذير وبيان عن مؤتمر بكين للمرأة

- ‌حكم الإسلام في شعر الرأس الصناعيالمسمى اليوم (الباروكة)

- ‌ كشاف المجلة:

- ‌حديث شريف

الفصل: متواضعة، على طريق توضيح الرؤية، وجلاء الصورة، وإزالة بعض ما

متواضعة، على طريق توضيح الرؤية، وجلاء الصورة، وإزالة بعض ما علق بمرآة الحق والصواب، من غبش وقتام وغبار، بعيدا عن كل أساليب المبالغة، وطرق التهويش، غير عابئين - إن شاء الله تعالى - بلغط العابثين، وصولة الحمقى، وزعيق جحافل لبلاب العلم وفلول المستهترين.

ص: 123

‌النبي الأمي:

وردت النصوص القرآنية الكريمة، تصف نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه (النبي الأمي)، جاعلة أميته عليه الصلاة والسلام دليلا على صدق نبوته، وشاهدا حيا لا جدال فيه، على قوة المعجزة التي أجراها الله تبارك وتعالى على يديه، ومبعث فخر واعتزاز له ولأمته صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، ويكفيه صدقا وفخرا عليه الصلاة والسلام، أنه - رغم كونه أميا لا يكتب ولا يقرأ من كتاب - كان يتلو على الناس كتاب الله الكريم، وبالنظم الذي أنزل عليه، دون تغيير أو تبديل، دون زيادة أو نقص، في حين أن أكثر الخطباء فحولة - من العرب - وأبلغهم فصاحة وبيانا، كان إذا ارتجل خطبة، ثم أعادها، زاد فيها ونقص، وغير وبدل، وعجز عن أن يأتي بها - مرة ثانية - على نظمها الأول، رغم كونها من إبداعه ونتاج فكره وجهده، وكونه قارئا مجيدا وكاتبا، فجاء حفظ الله تعالى لنبيه الأمي الكريم صلى الله عليه وسلم، من أن يقع في شيء من ذلك دليلا آخر ناصعا على صدقه في تبليغه ما أوحي إليه من ربه تبارك وتعالى.

قال تعالى:

ص: 123

(أ){وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} (1){الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2).

(ب){قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (3).

(ج){هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (4).

فهذه الآيات تصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه (النبي الأمي)، وأن صفته هذه مذكورة في الكتب السماوية السالفة، وأهل الكتاب يعرفونها فيه عن طريق كتبهم، وقد بشرهم ببعثته أنبياؤهم، وأمروهم بمتابعته والإيمان به، وأن صفته هذه لم تزل في كتبهم، يعرفها علماؤهم وأحبارهم.

قال الإمام الطبري رحمه الله: (لا يعلم من رسول وصف

(1) سورة الأعراف الآية 156

(2)

سورة الأعراف الآية 157

(3)

سورة الأعراف الآية 158

(4)

سورة الجمعة الآية 2

ص: 124

بهذه الصفة - أعني الأمي - غير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم (1).

وقد فسر الإمام الشوكاني المراد بـ النبي الأمي في هذه الآيات فقال: (والأمي: إما نسبة إلى الأمة التي لا تكتب ولا تحسب وهم العرب، أو نسبة إلى الأم، والمعنى أنه باق على حالته التي ولد عليها لا يكتب ولا يقرأ المكتوب، وقيل: نسبة إلى أم القرى وهي مكة)(2).

وفي موضع آخر من تفسيره قال: (أخرج ابن أبي حاتم عن النخعي في قوله: النبي الأمي قال: كان لا يقرأ ولا يكتب، وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال: (هو نبيكم صلى الله عليه وسلم كان أميا لا يكتب)(3).

وقال أبو السعود في تفسيره: (هو الذي لم يمارس القراءة والكتابة، ومع ذلك جمع علوم الأولين والآخرين)(4). وقد ورد في القرآن الكريم ما يبين المراد بأميته صلى الله عليه وسلم، وذلك في قوله تعالى:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (5).

فهذه الآية تبين أن المراد بـ النبي الأمي: الذي لا يكتب ولا يقرأ من كتاب، ولولا أميته صلى الله عليه وسلم لارتاب الجهلة بما أنزل إليه، ولقالوا: إنما أوتيه عن الكتب التي هو يقرؤها، فلما كان أميا لا

(1) تفسير الطبري 9/ 56، طبعة 1398 هـ، دار الفكر ببيروت، وبهامشه تفسير النيسابوري.

(2)

فتح القدير للشوكاني 2/ 252، طبعة 1401 هـ، دار الفكر ببيروت

(3)

فتح القدير 2/ 254.

(4)

تفسير أبي السعود 2/ 414، تحقيق عبد القادر عطا، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض.

(5)

سورة العنكبوت الآية 48

ص: 125

يقرأ ولا يكتب، لم يكن هناك موضع ريبة، ولا محل للشك أبدا بل صار إنكار من أنكر مجرد عناد وجحود، بلا أدنى شبهة معقولة.

قال الطبري في تفسيرها: ما كنت يا محمد تقرأ من قبل هذا الكتاب الذي أنزلته إليك، ولم تكن تكتب بيمينك، ولكن كنت أميا).

ثم نقل عن ابن عباس قوله: (كان نبي الله صلى الله عليه وسلم أميا، لا يقرأ شيئا ولا يكتب).

وعن قتادة: (كان نبي الله لا يقرأ كتابا قبله، ولا يخطه بيمينه، كان أميا، والأمي الذي لا يكتب)(1).

وقال ابن كثير: (قد لبثت في قومك يا محمد من قبل أن تأتي بهذا القرآن عمرا، لا تقرأ كتابا ولا تحسن الكتابة، بل كل أحد من قومك وغيرهم يعرف أنك رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائما إلى يوم الدين، لا يحسن الكتابة ولا يخط سطرا ولا حرفا بيده، بل كان له كتاب يكتبون بين يديه الوحي والرسائل إلى الأقاليم)(2).

كما ورد في الحديث الصحيح، ما يثبت أميته صلى الله عليه وسلم، بمعنى: عدم قدرته على الكتابة، أو القراءة من كتاب:

فعن البراء بن عازب رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يعتمر، أرسل إلى أهل مكة، يستأذنهم ليدخل مكة، فاشترطوا عليه

(1) تفسير الطبري 21/ 4.

(2)

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/ 357، بإشراف خليل الميس، الطبعة الثانية، دار الفكر، بيروت.

ص: 126

أن لا يقيم بها إلا ثلاث ليال، ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح، ولا يدعو منهم أحدا.

قال: فأخذ يكتب الشرط بينهم علي بن أبي طالب، فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقالوا: لو علمنا أنك رسول الله لم نمنعك ولتابعناك، ولكن اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله، فقال: أنا والله محمد بن عبد الله، وأنا والله رسول الله، قال: وكان لا يكتب قال: فقال لعلي: امح رسول الله، فقال علي: والله لا أمحاه أبدا، قال: فأرنيه، قال: فأراه إياه، فمحاه النبي صلى الله عليه وسلم بيده (1)».

فقول الصحابي الجليل: (وكان لا يكتب) دليل على عدم معرفته صلى الله عليه وسلم لفن الكتابة، وفي قوله صلى الله عليه وسلم لعلي: أرنيه دليل على عدم تمكنه من قراءة ما كتب، وإلا لكان بادر إلى محو العبارة التي يريد محوها، من غير أن يطلب من علي رضي الله عنه أن يحدد له موضعها، ويدله عليها.

وقد أجمعت الأمة سلفا وخلفا، على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أميا، لا يحسن الكتابة، ولا يقرأ من كتاب، وكان ذلك معروفا عنه صلى الله عليه وسلم بالعلم المستفيض في عصره، بين قومه، وبين غيرهم ممن جاورهم أو خالطهم وكان بعيدا عنهم، بحيث يستحيل معه إنكار ذلك، كما وكان ذلك معروفا عنه صلى الله عليه وسلم، لدى أهل الديانات الأخرى، لما

(1) أخرجه البخاري 3184، في الجزية، والموادعة: المصالحة على ثلاثة أيام، واللفظ له، مسلم 1783، في الجهاد والسير، صلح الحديبية، أحمد 1/ 86 و 4/ 330 و 5/ 291. أمحاه: لغة في أمحوه، وجلبان السلاح: السلاح مغمودا في جرابه.

ص: 127

ذكرته لهم عنه كتبهم المتقدمة، وأشاعه بينهم على مر العصور علماؤهم وأحبارهم.

ص: 128

ولكونه صلى الله عليه وسلم أميا لا يكتب ولا يقرأ المكتوب، فقد ثبت أنه كان اتخذ لنفسه كتبة، يكتبون بين يديه الوحي، كما كانوا يكتبون له رسائله إلى الملوك وغيرهم.

ومن أشهر كتاب الوحي: الخلفاء الراشدون الأربعة، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، ومعاوية بن أبي سفيان، رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

أما ما ذهب إليه بعض العلماء، من أنه صلى الله عليه وسلم كان قد أحسن الكتابة أواخر حياته، اعتمادا على الأثر الذي أخرجه ابن أبي شيبة، ونصه:(ما مات رسول الله حتى قرأ وكتب). فهو مذهب شاذ ممخرق، لا يعضده دليل، ولا تدعمه حجة، ولا يسنده واقع حال.

ذلك أن هذا الأثر موضوع، حكم عليه من العلماء الشوكاني والسيوطي والألباني بالوضع، كما نقلوا قول الطبراني فيه:(هذا حديث منكر، أبو عقيل - راويه - ضعيف الحديث، وهذا معارض لكتاب الله).

وقال الحافظ ابن كثير فيه: (وما أورده بعضهم من الحديث، أنه لم يمت صلى الله عليه وسلم حتى تعلم الكتابة، فضعيف لا أصل له)(1).

(1) تفسير ابن كثير 3/ 357.

ص: 128

وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح) عن الجمهور قولهم بضعفه.

وممن ذهب هذا المذهب الشاذ من العلماء: أبو الوليد الباجي، وأبو ذر الهروي، وأبو الفتح النيسابوري، وآخرون من علماء إفريقية وفقهائها المتأخرين.

وبالإضافة إلى اعتمادهم هذا الأثر الموضوع، في تقريرهم ما ذهبوا إليه، فقد اعتمد بعضهم على ما ورد في صحيح البخاري، عن البراء بن عازب رضي الله عنه، أنه قال:«لما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة، فأبى عليه أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة، حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام، فلما كتبوا الكتاب، كتبوا: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، قالوا: لا نقر لك بهذا، لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئا، ولكن أنت محمد بن عبد الله، فقال: أنا رسول الله، وأنا محمد بن عبد الله، ثم قال لعلي: امح رسول الله، قال علي: لا والله لا أمحوك أبدا، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب - وليس يحسن يكتب - فكتب: هذا ما قاضى محمد بن عبد الله، لا يدخل مكة إلا السيف في القراب (1)» .

قالوا: هذا الحديث يدل ظاهره على أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب الكتاب بيده الشريفة، لما امتنع علي رضي الله عنه عن الكتابة.

(1) أخرجه البخاري 4251 في المغازي، عمرة القضاء.

ص: 129

والصحيح أن هذا الحديث ليس على ظاهره كما قال الألباني (1) بل هو من باب (بنى الأمير المدينة) أي: أمر ببنائها.

وقد نقل الحافظ في (الفتح) عن السهيلي قوله: (والحق أن معنى قوله: (فكتب) أي: أمر عليا أن يكتب).

ثم وافقه الحافظ قائلا: (ويجاب عن قصة الحديبية، بأن القصة واحدة، والكاتب فيها علي، وقد صرح في حديث المسور بأن عليا هو الذي كتب، فيحمل على أن النكتة في قوله: (فأخذ الكتاب - وليس يحسن يكتب - فكتب) لبيان أن قوله: (أرني إياها) أنه ما احتاج إلى أن يريه موضع الكلمة التي امتنع علي من محوها، إلا لكونه كان لا يحسن الكتابة، وعلى أن قوله بعد ذلك: فكتب) فيه حذف تقديره: فمحاها فأعادها لعلي فكتب، وبهذا جزم ابن التين، وأطلق (كتب) بمعنى:(أمر بالكتابة)، وهو كثير، كقوله: كتب إلى قيصر، وكتب إلى كسرى) (2).

والذي يبدو أن بعض القائلين بإتقان النبي صلى الله عليه وسلم الكتابة، إنما أراد أنه أتقنها للحظة واحدة، وهي تلك اللحظة التي أمسك فيها بكتاب صلح الحديبية من علي، ومحا وغير، وأن ذلك إنما كان على سبيل جريان المعجزة الخارقة على يديه عليه الصلاة والسلام، أو أنه إنما كتب اسمه فقط، رغم كونه أميا، كعادة الكثير من الأميين، الذين يعرفون رسم أسمائهم، ولكن لو طلب إليهم أن يكتبوا غير ذلك لما استطاعوا، فلا يخرجهم ذلك عن كونهم أميين، لا يجيدون

(1) السلسلة الضعيفة للألباني 1/ 349، الطبعة الثانية، 1399 هـ المكتب الإسلامي، بيروت.

(2)

فتح الباري 7/ 567.

ص: 130

قراءة ولا كتابة.

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله:

(من زعم من متأخري الفقهاء، كالقاضي أبي الوليد الباجي ومن تابعه، أنه عليه السلام كتب يوم الحديبية: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله، فإنما حمله على ذلك رواية في صحيح البخاري: (ثم أخذ فكتب)، ولذا اشتد النكير من فقهاء المشرق والمغرب، على من قال بقول الباجي، وتبرءوا منه، وأنشدوا في ذلك أقوالا، وخطبوا في محافلهم، وإنما أراد الرجل - أعني الباجي فيما يظهر عنه - أنه كتب ذلك على وجه المعجزة، لا أنه كان يحسن الكتابة) (1).

وقد روى الحافظ في الفتح قصة الباجي، وما ذهب إليه، وما كان له مع العلماء في زمنه، بسبب ما قاله، فقال:

(وقد تمسك بظاهر هذه الرواية - أي رواية البخاري - أبو الوليد الباجي، فادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب بيده، بعد أن لم يكن يحسن يكتب، فشنع عليه علماء الأندلس في زمانه، ورموه بالزندقة، وأن الذي قاله يخالف القرآن، حتى قال قائلهم:

برئت ممن شرى دنيا بآخرة

وقال إن رسول الله قد كتبا

فجمعهم الأمير، فاستظهر الباجي عليهم بما لديه من المعرفة، وقال للأمير: هذا لا ينافي القرآن، بل يؤخذ من مفهوم القرآن؛ لأنه قيد النفي بما قبل ورود القرآن، فقال الله تعالى:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (2)

(1) تفسير ابن كثير 3/ 357.

(2)

سورة العنكبوت الآية 48

ص: 131

وبعد أن تحققت أميته، وتقررت بذلك معجزته، وأمن الارتياب في ذلك، لا مانع من أن يعرف الكتابة بعد ذلك، من غير تعليم، فتكون معجزة أخرى).

ثم قال الحافظ مخففا من شدة وطء الحملة على الباجي وجماعته: (وعلى تقدير حمله - أي حديث البخاري - على ظاهره، فلا يلزم من كتابة اسمه الشريف في ذلك اليوم - وهو لا يحسن الكتابة - أن يصير عالما بالكتابة، ويخرج من كونه أميا، فإن كثيرا ممن لا يحسن الكتابة يعرف تصور بعض الكلمات، ويحسن وضعها بيده، وخصوصا الأسماء، ولا يخرج بذلك عن كونه أميا، ككثير من الملوك، ويحتمل أن يكون جرت يده بالكتابة حينئذ - وهو لا يحسنها - فخرج المكتوب على وفق المراد، فيكون معجزة أخرى، في ذلك الوقت خاصة، ولا يخرج بذلك عن كونه أميا، وبهذا أجاب أبو جعفر السمناني، وتبعه ابن الجوزي).

ثم رد على السهيلي قوله، بأن جريان الكتابة على يده عليه الصلاة والسلام في ذلك الوقت فقط، يعارض القول بمعجزته صلى الله عليه وسلم، المتمثلة في أميته:

(وفي دعوى أن كتابة اسمه الشريف فقط على هذه الصورة، تستلزم مناقضة المعجزة، وتثبت كونه غير أمي نظر كبير)(1).

قلت: وفيما ذهب إليه أصحاب هذا الاجتهاد تمحل واضح، ووقوف متصلب عند ظاهر النص، كان العلماء في غنى

(1) فتح الباري، 7/ 575 - 576.

ص: 132

عن الوقوف - طويلا - عنده واللجوء إلى البحث عن مسالك لتأويله، وتكلف الوجوه البعيدة لتوجيهه، وخاصة: مع عدم وجود نص آخر يسنده أولا، بل ووجود رواية أخرى للحديث توضح ما أشكل في عبارة هذه الرواية، التي جعلوها عمدة نقاشهم ومدار استنباطهم، وهي عند البخاري أيضا وعند غيره، وبالسند الصحيح والدلالة الواضحة ثانيا، هذا مع إجماع الأمة على القول بأميته صلى الله عليه وسلم ثالثا، فكان ذلك كله كافيا لحسم النقاش في المسألة، وعدم التوسع في ولوج باب التأويل، والاستفاضة في اختلاف الوجوه المتمحلة، والتي نحن في غنى عن الانجرار إلى غمارها.

ص: 133

والآن ما الحكمة الكامنة وراء كونه صلى الله عليه وسلم بعث أميا، بهذه الرسالة الخاتمة؟ إن هناك حكما كثيرة ولا شك، تبعثها الأجواء العامة، التي تشعها النصوص المتحدثة عن أميته صلى الله عليه وسلم، في نفس مستطلعها.

ونحن إن كنا لا نستطيع حصر هذه الإشعاعات، فإن بإمكاننا أن نسجل ما برز - واضحا جليا - منها:

1 -

المبالغة في توكيد ظاهرة جريان المعجزة على يديه صلى الله عليه وسلم، فهو مع كونه رجلا أميا، لا يجيد كتابة، ولا يقرأ مكتوبا، ولم يسبق له طيلة حياته أن قرأ كتابا مسطورا، فقد جاء بما أعجز كافة العرب - بل كافة البشر أجمعين - عن أن يأتوا بشيء من مثل ما أتاهم به، والمعجزة الباهرة لا تزال مستمرة شاخصة قائمة، ومع استمرارها يستمر العجز البشري - حيالها - ماثلا، لا يتقدم - قيد أنملة - أو يتزحزح

ص: 133

إنه كلام الوحي المعجز - إلهيا كان أو نبويا - فيه من الحكم البالغة، وفيه من الإخبار عن الغيب، والإنباء عما كان وسيكون، وفيه من النظم والتوجيهات، ما يشمل جميع نواحي حياة البشر، بمختلف مشاربها وتوجهاتها، بحيث لا يصلح لهم سواها، ولا فلاح لهم إلا بها. وكل ذلك يأتي به رجل أمي - في مثل حال محمد صلى الله عليه وسلم - ما قرأ يوما كتابا، ولا خط بيده سطرا، ثم لا يكون ذلك في الذروة من شامخ المعجزات؟ والقمة من ساطع الآيات الباهرات؟

2 -

موافقة ما ساقه ركب الأنبياء السابقين إلى أممهم، من بشارات مقدمه صلى الله عليه وسلم، رحمة عامة لكافة البشرية، وهذا ما أشار إليه قوله تعالى:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ} (1).

فالأنبياء بشروا أممهم بمقدم محمد عليه الصلاة والسلام، وذكروه لهم بأوصافه التي تميزه، وأوضح هذه الأوصاف وأجلاها. أنه (النبي الأمي).

3 -

ليكون في أميته مشاكلا لحال عامة قومه، مماثلا لغالب أفراد أمته، الذين بعث فيهم، وعندما يكون من جنسهم ومن جملتهم، يكون أقرب إلى موافقتهم، والالتصاق بهم، والنفوذ إلى أعماق نفوسهم. قال تعالى:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} (2). وهذا ما أفادته لفظة (منهم) في هذه الآية.

4 -

لنفي سوء ظن مفاده: أنه تعلم ما جاء من الكتب التي

(1) سورة الأعراف الآية 157

(2)

سورة الجمعة الآية 2

ص: 134