الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بيع الدين والأوراق المالية
وبدائلها الشرعية
إعداد
القاضي محمد تقي العثماني
قاضي القسم الشرعي للمحكمة العليا
بباكستان
ونائب رئيس دار العلوم بكراتشي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين، وإمام المتقين سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، على كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد أصبح بيع الدين وتداوله ظاهرة فاشية في الأسواق المالية في النظام الرأسمالي في صورة حسم الكمبيالة، وإجراء المزايدات في سندات الخزينة، وتداول شهادات الاستثمار وسندات الديون وسائر الأوراق المالية، وترجع جميع هذه العمليات إلى بيع الدين بأنقص من قيمته الاسمية تارة، وبأزيد من قيمته الاسمية أخرى، وقد ادعى بعض المعاصرين جواز بيع الدين وجواز هذه العمليات على ذلك الأساس، استنادًا بتفسير خاطئ لما حكي عن المالكية وبعض الشافعية من جواز بيع الدين. فسمت الحاجة إلى بيان الحكم الشرعي لبيع الدين بجميع صوره وأنواعه، وتحرير مذاهب الفقهاء في هذا الموضوع. وإن هذا البحث المتواضع يهدف إلى إنجاز هذه الحاجة، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقني لما هو الحق والصواب، ويعصمني عن الزلل والخطأ والضلال. إنه تعالى سميع قريب مجيب الدعوات.
الصور المختلفة لبيع الدين
وإن بيع الدين له صور مختلفة تكلم عنها الفقهاء، وهي:
1-
بيع الدين بالدين في ذمة مشتريه.
2-
بيع الدين بالدين في ذمة طرف ثالث.
وهذان القسمان قد يعبر عنهما ببيع الكالئ بالكالئ.
3 -
بيع الدين من المديون بالعروض.
4-
بيع الدين من المديون بالنقد.
وهذان القسمان يعبر عنهما ببيع الدين ممن عليه الدين.
5-
بيع الدين من غير المديون بالعروض.
6-
بيع الدين من غير المديون بالنقد.
وهذان القسمان يعبر عنهما ببيع الدين من غير من عليه الدين. فلنتكلم على كل واحدة من هذه الأقسام على حدة.
1 -
بيع الكالئ بالكالئ:
أما بيع الدين بالدين الذي يسمى بيع الكالئ بالكالئ، فيمكن أن يعقد منع المديون نفسه، أو مع طرف ثالث. مثال الأول، أن يقول شخص لآخر: اشتريت منك طنًا من القمح بألفي روبية على أن يتم تسليم العوضين بعد شهر مثلًا. فالطن الواحد من القمح دين في ذمة البائع، وألفا روبية دين في ذمة المشتري، ووقع بيع أحد الدينين بالدين الآخر. ومثل أن يبيع زيد طنًا من القمح سلمًا، فإذا حل الأجل عجز عن تسليم القمح على المشتري، فيقول له: بعني هذا القمح الذي هو في ذمتي بثلاثة آلاف روبية أؤديها إليك بعد شهر. فالقمح الذي كان دينًا في ذمة البائع اشتراه البائع بنقد في ذمته.
وقد اتفق جمهور الفقهاء على كون هذا البيع ممنوعًا شرعًا، واستندوا في ذلك على الحديث المعروف:((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ)) (1) .
(1) هذا الحديث مروي عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، فيما أخرجه الحاكم في المستدرك: 2/65، رقم الحديث 2342 / 213 و 2 / 66، رقم 2343 / 214، طبع بيروت 1411هـ؛ والدارقطني في سننه 3 / 71 و 72، رقم 269 و 270 من كتاب البيوع؛ والبيهقي في سننه الكبرى: 5 / 290، باب ما جاء في النهي عن بيع الدين بالدين؛ وعبد الرزاق في مصنفه 8: 90 حديث 14440؛ وابن أبي شيبة في مصنفه: 6 / 598، حديث 2169؛ والطحاوي في شرح معاني الآثار: 4/ 21، طبع مصر؛ والبزار في مسنده؛ كما في كشف الأستار للهيثمي: 2 / 91، رقم 1280؛ وابن عدي في الكامل: 6 / 2335؛ وكذلك روي عن رافع بن خديج، فيما أخرجه الطبراني في معجمه الكبير 4: 417 حديث 4375.
واعترض عليه بأن هذا الحديث ضعيف من حيث إن جميع طرقه ضعيفة. فإنه مروي عن عبد الله بن عمر ورافع بن خديج، رضي الله عنهما، ومدار كلا الحديثين على موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف عند جمهور المحدثين، وذكر الإمام أحمد بن حنبل أنه لا تحل الرواية عنه، فقيل له: إن شعبة روى عنه، فقال: لو بان لشعبة ما بان لغيره ما روى عنه (1) وليتنبه أن الحاكم والدارقطني رويا هذا الحديث من طريق موسى بن عقبة، بدلاً من موسى بن عبيدة، ولذلك صححه الحاكم على شرط مسلم، ولم يتعقبه الذهبي بشيء (2) ، ولكن حقق الإمام البيهقي، رحمه الله، في سننه أنه وهم وأن الصحيح أن راويه موسى بن عبيدة، وليس موسى بن عقبة (3) ؛ وذكر الحافظ ابن حجر، رحمه الله، أن الدارقطني نفسه اعترف في العلل أن موسى بن عبيدة تفرد به (4) ، فتبين أن ما ذكره الدارقطني في سننه من اسم موسى بن عقبة فإنه وهم.
وبالرغم من ضعف هذا الإسناد، فإنه قد يتأيد بما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه؛ قال: أخبرنا الأسلمي، قال: حدثنا عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ ـ وهو بيع الدين بالدين ـ وعن بيع المجر ـ وهو بيع ما في بطون الإبل ـ (كذا) وعن الشغار)) ، وليس فيه موسى بن عبيدة، بل هو مروي من طريق الأسلمي، وهو إبراهيم ابن أبي يحيى الأسلمي (5) والكلام فيه معروف، فقد تركه أكثر المحدثين، ولكن أكثر عنه الإمام الشافعي، وقال فيه:" لأن يخر من السماء – أو قال من بعد – أحب إليه من أن يكذب، وكان ثقة في الحديث ". وكذلك وثقه ابن عقدة، وابن الأصبهاني وابن عدي وإن كان أكثر المحدثين تركوه لبدعته، والجرح مقدم كما قال فيه الذهبي (6) ، ولكن يحتمل أن يصلح للمتابعة على أساس توثيق الإمام الشافعي وغيره، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(1) تهذيب التهذيب: 10 / 357.
(2)
مستدرك الحاكم مع التخليص: 2 / 57 طبع دائرة المعارف.
(3)
سنن البيهقي: 5 / 290.
(4)
تلخيص الحبير: 3 / 26، رقم 1205.
(5)
نصب الراية: 4 / 40.
(6)
ميزان الاعتدال: 1 / 59.
ثم إن جمهور علماء الأمة عملوا بمضمون هذا الحديث وحرموا بيع الدين بالدين، وقد ذكر غير واحد من المحدثين أن ما تلقاه أهل العلم بالقبول ينجبر به ضعف إسناده. قال السيوطي رحمه الله تعالى، وهو يبحث عن تعريف الحديث الصحيح:
" وكذا ما اعتضد بتلقي العلماء له بالقبول. قال بعضهم: يحكم للحديث بالصحة إذا تلقاه الناس بالقبول وإن لم يكن له إسناد صحيح. قال ابن عبد البر في الاستذكار: لما حكي عن الترمذي أن البخاري صحح حديث البحر ((هو الطهور ماؤه)) وأهل الحديث لا يصححون مثل إسناده: لكن الحديث عندي صحيح، لأن العلماء تلقوه بالقبول، وقال في التمهيد: روي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((الدينار أربعة وعشرون قيراطًا)) . قال: وفي قول جماعة العلماء وإجماع الناس على معناه غني عن الإسناد فيه (1) .
وقال ابن الهمام رحمه الله تعالى:
" ومما يصحح الحديث أيضًا عمل العلماء على وفقه. وقال الترمذي عقيب روايته: "حديث غريب، والعمل عليه عند أهل العلم. . . إلخ"، وفي الدارقطني: قال القاسم وسالم: عمل به المسلمون. وقال مالك: شهرة الحديث بالمدينة تغني عن صحة سنده"(2) .
وقال السخاوي رحمه الله تعالى:
"وكذا إذا تلقت الأمة الضعيف بالقبول يعمل به على الصحيح. . . ولهذا قال الشافعي، رحمه الله، في حديث ((لا وصية لوارث)) : إنه لا يثبته أهل الحديث، ولكن العامة تلقته بالقبول وعملوا به حتى جعلوه ناسخًا لآية الوصية "(3) .
وقال السيوطي، رحمه الله، وهو يتكلم في حديث ابن عباس:((من جمع بين الصلاتين من غير عذر، فقد أتى بابًا من أبواب الكبائر)) :
الحديث أخرجه الترمذي، وقال: حسن: ضعفه أحمد وغيره، والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم " فأشار بذلك أن الحديث اعتضد بقول أهل العلم، وقد صرح غير واحد بأن من دليل صحة الحديث قول أهل العلم به، وإن لم يكن له إسناد يعتمد على مثله"(4) .
وعلى كل، فقد اتفق جمهور الفقهاء على تحريم بيع الكالئ بالكالئ، وفسره أكثرهم ببيع الدين بالدين، حتى حكى بعضهم الإجماع على كونه ممنوعًا، وروي عن الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله تعالى، أنه قال:" ليس في هذا حديث يصح، لكن الإجماع على أنه لا يجوز بيع دين بدين "(5) والحق أن الإجماع على منع بيع الدين بالدين إنما وقع على بعض صوره، مثل عقد السلم برأس مال مؤجل إلى ما فوق ثلاثة أيام، أو استبدال المسلم فيه بثمن أكثر من رأس مال السلم، وقد أجاز المالكية بعض صور لبيع الدين بالدين، وكذلك أجازة العلامة ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، رحمهما الله تعالى، صورًا منه (6) . وبما أن غرض هذا البحث لا يتعلق بتفاصيل هذه الصور، فنكتفي في هذا الموضوع بهذا القدر.
(1) تدريب الراوي، للسيوطي، ص 25، طبع المدينة المنورة.
(2)
فتح القدير لابن الهمام: 3 / 349، مبحث طلاق الأمة من كتاب الطلاق.
(3)
فتح المغيث للسخاوي: 1 / 268.
(4)
التعقبات على الموضوعات ص 14، طبع لاهور، سنة 1886 م.
(5)
فيض القدير، للمناوي: 6 / 330.
(6)
راجع الدسوقي على الشرح الكبير: 3 / 195 – 197، ط. دار الفكر، بيروت، وإعلام الموقعين: 2 / 388 و 389؛ والغرر وأثره في العقود، للشيخ الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير، ص 331.
2 – بيع الدين من المديون:
والصورة الثانية من بيع الدين: أن يباع الدين من المديون نفسه بثمن حال، ويعبر عنه الفقهاء ببيع الدين ممن هو عليه. وهذا جائز عند جمهور الفقهاء، قال الكاساني رحمه الله تعالى:
" ويجوز بيعه (يعني الدين) ممن عليه، لأن المانع هو العجز عن التسليم، ولا حاجة إلى التسليم هنا، ونظيره: بيع المغصوب أنه يصح من الغاضب ولا يصح من غيره إذا كان الغاصب منكرًا ولا بينة للمالك (1) .
ولا يخفى أن جواز بيع الدين من المديون خاضع لجميع الشروط العامة التي تشترط لجواز البيوع كلها، فمثلاً: يشترط لجواز البيع أن يكون المبيع مقبوضًا للبائع، وهذا الشرط يتأتى في بيع الدين أيضًا، ولذلك لا يجوز بيع المسلم فيه من المسلم إليه قبل أن يقبضه رب السلم. ولذلك يقول الكاساني رحمه الله:
" ولا يحوز بيع المسلم فيه، لأن المسلم فيه مبيع، ولا يجوز بيع المبيع قبل القبض "(2) .
ويقول الشيرازي رحمه الله:
" وإن كان الدين غير مستقر، نظرت، فإن كان مسلمًا فيه لم يجز بيعه لما روي أن ابن عباس، رضي الله عنهما، سئل عن رجل أسلف في حلل دقاق فلم يجد تلك الحلل، فقال: آخذ منك مقام كل حلة من الدقاق حلتين من الجل، فكرهه ابن عباس"(3) .
وكذلك إن كان الدين وعوضه ربويين، يشترط في جواز بيعه ما يشترط في مبادلة الربويات بعضها ببعض، ولذلك منع أكثر الفقهاء أن يعجل الدين المؤجل مقابل إسقاط بعض الدين، كما تقرر في مسألة " ضع وتعجل"(4) .
وكذلك إذا اشترى المدين دينه من الدائن بثمن أكثر مؤجل، فهذا عين الربا، وهو في معنى " أتقضي أم تربي؟ ". وقد نزل بحرمته القرآن الكريم.
ولكن معنى جواز بيع الدين ممن عليه الدين، أن يقول المديون:"اشترِ مني هذا الثوب بدينك علي" أو يقول الدائن: " أبيعك ديني في ذمتك بثوبك هذا ". فهذا جائز عند جمهور الفقهاء.
(1) بدائع الصنائع: 5 / 148.
(2)
بدائع الصنائع: 5 / 148.
(3)
المجموع شرح المهذب: 9 / 297.
(4)
وقد بسطت الكلام على هذه المسألة في كتابي (بحوث في قضايا فقهية معاصرة) ، ص 25 – ص 35، طبع دار القلم دمشق، 1419 هـ، وقد أصدر مجمع الفقه الإسلامي بجدة قرارًا في الموضوع سيأتي نصه.
3 -
بيع الدين من غير المديون:
الصورة الثالثة من بيع الدين: أن يبيع الدائن دينه من طرف ثالث غير المديون. وإن هذه الصورة وقع فيها اختلاف بين الفقهاء، فذهب الحنفية والحنابلة والظاهرية إلى أن بيع الدين من غير من عليه الدين لا يجوز. قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله تعالى:
" لا ينبغي للرجل إذا كان له دين أن يبيعه حتى يستوفيه، لأنه غرر، فلا يدري أيخرج أم لا يخرج"(1) .
وقال الكاساني رحمه الله تعالى:
" ولا ينعقد بيع الدين من غير من عليه الدين، لأن الدين إما أن يكون عبارة عن مال حكمي في الذمة، وإما أن يكون عبارة عن فعل تمليك المال وتسليمه، وكل ذلك غير مقدور التسليم في حق البائع، ولو شرط التسليم على المديون لا يصح أيضًا، لأنه شرط التسليم على غير البائع، فيكون شرطًا فاسدًا، فيفسد البيع "(2) .
وقال القاضي أبو يعلى الحنبلي رحمه الله تعالى:
" واختلف في بيع الدين ممن هو عليه، فنقل أبو طالب المنع: ونقل مهنا جواز ذلك، ولا تختلف الرواية أنه لا يجوز بيعه من غير من هو في ذمته. وجه الأولى: أنه بيع دين قبل قبضه فلم يصح كما لو باعه من غير من هو عليه. ووجه الثانية أنه إذا باعه ممن هو عليه فقد حصل القبض فيه، فيجب أن يصح، ويفارق هذا إذا باعه من غيره أنه لا يصح، لأنه قد لا يتمكن من استيفائه ممن هو عليه فيتعذر تسليم المبيع، فلهذا لم يصح"(3) .
وقال المرداوي رحمه الله تعالى:
" لا يجوز بيع الدين المستقر لغير من هو في ذمته، وهو الصحيح من المذهب وعليه الأصحاب، وعنه: يصح. قاله الشيخ تقي الدين رحمه الله. . . وقد شمل كلام المصنف مسألة بيع الصكاك، وهو الورق ونحوه. . . فإن كان الدين نقدًا، أو بيع بنقد لم يجز بلا خلاف، لأنه صرف بنسيئة. وإن بيع بعرض وقبضه في المجلس ففيه روايتان: عدم الجواز. قال الإمام أحمد: وهو غرر، والجواز: نص عليها في رواية حرب وحنبل ومحمد بن الحكم "(4) .
وقال ابن حزم، رحمه الله، من الظاهرية:
" ولا يحل بيع دين يكون لإنسان على غيره، لا بنقد ولا بدين، ولا بعين ولا بعرض، كان ببينة أو مقرًّا به أو لم يكن، كل ذلك باطل. . . برهان ذلك أنه بيع مجهول وما لا يدرى عينه. وهذا هو أكل مال بالباطل، وهو قول الشافعي. وروينا من طريق وكيع، نا زكريا بن أبي زائدة قال: سئل الشعبي عمن اشترى صكًا فيه ثلاثة دنانير بثوب؟ قال: لا يصلح. قال وكيع: وحدثنا سفيان، عن عبد الله بن أبي السفر، عن الشعبي، قال: هو غرر"(5) .
(1) الموطأ، للإمام محمد، رحمه الله، باب الرجل يكون له العطايا أوالدين على الرجل فيبيعه، ص354.
(2)
بدائع الصنائع: 5 / 148.
(3)
كتاب الروايتين والوجهين لأبي يعلى: 1 / 357.
(4)
الإنصاف للمرداوي: 5 / 112؛ وراجع أيضًا الفروع لابن مفلح: 4 / 185.
(5)
المحلى، لابن حزم: 9 /6.
ثم إن الذين منعوا بيع الدين من غير المدين، إنما منعوه عن طريق البيع. أما إذا وقع نقل الدين بطريق الحوالة، فإنه جائز عند الجميع، والفرق بين البيع والحوالة ظاهر جدًا على مذهب الحنفية، فإنهم قائلون بأنه إذا توى الحوالة بإفلاس المحال عليه أو جحوده عند عدم البينة فإن للمحتال (الدائن الأصلي) أن يرجع على المحيل (وهو المديون الأصلي)(1) . أما إذا باع المديون دينه، فكأنه أحل مشتري الدين محله في جميع حقوقه ومخاطره، فإذا أفلس المديون الأصلي أو جحد الدين لا يستطيع أن يرجع على بائع الدين. ومن هنا يتحقق الغرر الذي منعوا بيع الدين من أجله. ولا يتحقق هذا الغرر في الحوالة، لأن للدائن أن يرجع على المحيل عند إفلاس المحال عليه أو جحوده.
أما الحنابلة، فلا يرجع عندهم المحتال على المحيل أبدًا، وإن أفلس المحتال عليه أو جحد، ولكن إن شرط المحتال ملاءة المحتال عليه، وقبل الحوالة على ذلك الأساس، ثم تبين أنه معسر، فإنه يحق له أن يرجع على المحيل (2) ومن هذه الجهة: الفرق عندهم بين بيع الدين، حيث لا يجوز، وبين الحوالة، حيث تجوز، من ناحيتين:
الأولى: أن في بيع الدين ينتقل الدين إلى المشتري بمجرد العقد، وبما أن حصول الدين غير متيقن، فالغرر لازم فيه بمجرد العقد، فلا يجوز. أما إذا باع رجل شيئًا بثمن لم يقبضه، وأراد المشتري أن يحيل البائع على مديون له، فإن ذلك لا يمكن إلا برضا البائع بعد العقد. ولا يجوز أن يشترط المشتري الحوالة في البيع، فلا سبيل إلى انتقال الدين إلى البائع تلقائيًا بمجرد العقد، ولذلك يجوز للبائع أن يطالبه بثمن ما باعه وأن لا يرضى بالحوالة، فالبيع لا غرر فيه، ومن ثم جاز العقد، وانعقدت الحوالة بعقد مستقل برضا البائع.
الثانية: أنه إذا قبل المحتال الحوالة على شرط ملاءمة المحتال عليه، ثم تبين أن المحال عليه معسر، فإنه يجوز للمحتال أن يرجع على المحيل. ولا يتيسر ذلك في بيع الدين.
(1) راجع الهداية مع فتح القدير: 6 / 352.
(2)
المغني، لابن قدامة: 5 / 59، دار الفكر.
مذهب المالكية في بيع الدين لغير المدين:
أما المالكية، فالأصل عندهم أيضًا أنه لا يجوز بيع الدين من غير المدين، إلا أنهم أجازوا ذلك بشروط. وقد لخص الزرقاني، رحمه الله، أحكام بيع الدين من طرف ثالث بقوله:
" ومنع بيع دين على الغائب ولو قربت غيبته، أو ثبت ببينة وعلم ملاؤه، بخلاف الحوالة عليه فإنها جائزة. . . ومنع بيع دين على حاضر ولو ببينة إلا أن يقر، والدين مما يباع قبل قبضه، وبيع بغير جنسه وليس ذهبًا بفضة، ولا عكسه، وليس بين مشتريه ومن عليه عداوة، ولا قصد إعناته، فلا بد من هذه الخمسة شروط لجواز بيعه زيادة على قوله (يقر) "(1) .
والحاصل أن بيع الدين من غير المدين يجوز عند المالكية بشروط آتية:
1-
أن يكون المديون حاضرًا، لا غائبًا.
2-
أن يكون المديون مقرًّا بالدين.
3-
أن يكون الدين مما يجوز بيعه قبل قبضه، فلا يجوز بيعه إذا كان طعامًا، فإنه لا يجوز بيعه قبل قبضه.
4-
أن يباع الدين بغير جنسه، فإن كان الدين دراهم، وبيع بالدراهم فإنه لا يجوز، وزاد الدسوقي أنه إن كان من جنسه، فلا بد من التساوي (2) .
5-
أن لا يباع دين الذهب بالفضة أو بالعكس، لكونه صرفًا وانعدم فيه التقابض.
6-
أن لا يكون بين المدين ومشتري الدين عداوة، حتى لا يكون في البيع إعنات للمدين بتمكين عدوه منه. وزاد الدسوقي عليها شرطين:
الأول: أن يكون الثمن نقدًا، وهو ظاهر لأنه إن كان دينًا صار بيع الدين بالدين، وقد مر امتناعه.
والثاني: أن يكون المديون ممن تأخذه الأحكام، ليمكن تخليص الحق منه عند القاضي إذا امتنع عن الأداء (3) .
مذهب الشافعية:
قد اختلفت الروايات في مذهب الشافعية في قضية بيع الدين من غير المدين. وقال النووي رحمه الله:
" اعلم أن الاستبدال بيع لمن عليه دين. فأما بيعه لغيره، كمن له على إنسان مائة، فاشترى من آخر عبدًا بتلك المائة، فلا يصح على الأظهر لعدم القدرة على التسليم، وعلى الثاني: يصح بشرط أن يقبض مشتري الدين ممن عليه وأن يقبض بائع الدين العوض في المجلس، فإن تفرقا قبل قبض أحدهما بطل العقد. قلت: الأظهر الصحة (4) .
(1) شرح الزرقاني على مختصر خليل: 3 / 83.
(2)
الدسوقي على الشرح الكبير: 3 / 63.
(3)
الدسوقي على الشرح الكبير: 3 / 63.
(4)
روضة الطالبين، للنووي: 3 / 514.
وقال البغوي رحمه الله تعالى:
" أما إذا باع الدين من غير من عليه، مثل أن كان له على زيد عشرة دراهم، فاشترى من عمرو ثوبًا بتلك العشرة، أو قال لعمرو: بعتك العشرة التي في ذمة زيد لي بثوبك هذا، فاشتراه عمرو، فالمذهب أنه لا يجوز، لأنه غير قادر على تسليمه. وفيه قول آخر: أنه يجوز على حسب ما يجوز ممن عليه فعلى هذا يشترط أن يقبض مشتري الدين الدين ممن عليه، وبائعه يقبض العوض في المجلس حتى لو تفرقا قبل قبض أحدهما بطل "(1) .
وبمثله جاء في شرح المهذب، ولفظه:
" فأما بيعه لغيره، كمن له على رجل مائة فاشترى من آخر عبدًا بتلك المائة ففي صحته قولان مشهوران، أصحهما: لا يصح، لعدم القدرة على التسليم، والثاني: يصح بشرط أن يقبض مشتري الدين الدين ممن هو عليه وأن يقبض بائع الدين العوض في المجلس. فإن تفرقا قبل قبض أحدهما بطل العقد (2) .
وحاصل هذه النصوص أن بيع الدين من غير المدين لا يجوز عند الشافعية إلا إذا قبض المشتري الدين من المدين في مجلس العقد، وهذا الشرط في الحقيقة يؤول إلى عدم جواز بيع الدين، لأن الدين متى قبض في المجلس لم يبق دينًا. ولعل هذا هو السبب في أن النووي، رحمه الله، لم يذكر في منهاج الطالبين إلا قول عدم الجواز، فقال:
" وبيع الدين لغير من عليه باطل في الأظهر بأن اشترى عبد زيد بمائة له على عمرو "(3) .
ولكن كثيرًا من علماء الشافعية لم يذكروا هذا الشرط، حتى أن الشيرازي، رحمه الله، لم يذكره في متن المهذب حيث قال:
" وهل يجوز من غيره؟ فيه وجهان: أحدهما يجوز، لأن ما جاز بيعه ممن عليه جاز بيعه من غيره كالوديعة. والثاني: لا يجوز لأنه لا يقدر على تسليمه إليه، لأنه ربما منعه أو جحده، وذلك غرر لا حاجة به إليه فلم يجز، والأول أظهر، لأن الظاهر أنه يقدر على تسليمه إليه من غير منع ولا جحود "(4) .
(1) التهذيب للبغوي: 3 / 417.
(2)
المجموع شرح المهذب: 9 / 300.
(3)
منهاج النووي مع مغني المحتاج: 2 / 71.
(4)
المهذب مع المجموع: 9 / 297.
وقال الشربيني الخطيب، رحمه الله، بعد ما اعتمد على قول الجواز:
" وصرح في أصل الروضة كالبغوي باشتراط قبض العوضين في المجلس وهذا هو المعتمد، وإن قال المطلب: مقتضى كلام الأكثرين بخالفه"(1) .
ويظهر من تمحيص كتب الشافعية أن كثيرًا منهم ذهبوا إلى عدم جواز بيع الدين من غير المدين مطلقًا. والذين ذهبوا إلى الجواز قيدوه بقبض الدين في مجلس العقد. والذين ذكروا الجواز بدون هذا الشرط، كالشيرازي، فإما أن يحمل مطلق كلامهم على التقييد الذي ذكره الآخرون، أو يكون قولاً ثالثًا، ومنهم من حاول التطبيق بينهما بأن شرط القبض في المجلس محله إذا كان الدين وعوضه من الأموال الربوية، وإطلاق الجواز بدون هذا الشرط محله إذا لم يكونا من الأموال الربوية، وهذا التفريق يبدو حسنًا، ولكن رده الشربيني والرملي على أساس أن من قيد الجواز بالقبض جاء بمثال مال غير ربوي، وهو العبد (2) .
(1) مغني المحتاج: 2 / 71؛ وذكر مثله الرملي في نهاية المحتاج: 4 / 90.
(2)
المهذب مع المجموع: 9 / 297؛ مغني المحتاج: 2 / 71؛ وذكر مثله الرملي في نهاية المحتاج: 4/ 90.
تداول الأوراق المالية المعاصرة
بعد دراسة الأحكام الفقهية المتعلقة ببيع الدين، ننتقل الآن إلى الأوراق المالية التي شاع تداولها في الأسواق المعاصرة وبيان حكمها الشرعي. فمن هذه الأوراق المالية أسهم الشركات أو الصناديق التي تمثل موجودات عينية غير النقود، وإن هذه الأوراق خارجة عن موضوع هذا البحث، لأنها لا تمثل قروضًا أو ديونًا، وقد فرغنا عن بيان حكمها الشرعي في بحوث أخرى. والأوراق التي نريد بيان حكمها الشرعي في هذا البحث هي الأوراق التي تمثل قروضًا أو ديونًا لحاملها في ذمة مصدرها. وهي – على تنوع أسمائها – ترجع إلى نوعين كبيرين: النوع الأول: السندات، والثاني: الكمبيالات، فلنتكلم على كل واحد منها بصفة مستقلة.
السندات (Bonds) :
السند (bond) : في الاصطلاح المعاصر وثيقة يصدرها المديون لمقرضه اعترافًا منه بأنه استقرض من حاملها مبلغًا معلومًا يلتزم بأدائه في وقت معلوم. وإن هذه السندات تصدر عادة لعرضها على الجمهور ليحصلوا عليها بأداء المبلغ المكتوب على وجهها حتى يصيروا مقرضين ذلك المبلغ لمصدر السند.
وإن هذه السندات ربما تصدرها الشركات المساهمة التجارية أو الصناعية حينما تحتاج إلى اقتراض مبالغ كبيرة من المال لإنجاز مشاريعها، ولا تجد أفرادًا أو مؤسسات تقرضها الأموال بالحجم المطلوب، فتعرض هذه السندات على الجمهور.
وربما تصدر مثل هذه السندات من قبل الحكومات التي تريد أن تمول عجز ميزانيتها فتقترض من الجمهور.
وإن هذه السندات، سواء أصدرتها الشركات أو أصدرتها الحكومة إنما تلتزم بأداء فوائد ربوية إلى من يحملها، فالسند الذي قيمته الاسمية مائة روبية مثلاً تستحق أن يدفع لحاملها مائة وخمس عشرة بعد سنة. ويحق له أن يبيع هذا السند في السوق، وإنها تباع وتشترى بثمن يتراضى عليه الفريقان، فمن حصل على هذا السند بمائة، فإنه يبيعه إلى آخر بمائة وخمسة، ويشتريه ذلك الآخر بهذا الثمن لأنه يرجو أن يحصل على مائة وخمس عشرة روبية في نهاية المدة.
وهناك سندات أخر تصدر من قبل الحكومة، وتعرض عادة على البنوك والمؤسسات المالية الأخرى، وتسمى سندات الخزينة. ومقصود هذه السندات نفس المقصد الذي من أجله تصدر السندات الحكومية الأخرى. غير أن هذه السندات تعرض على البنوك لتشتريها على أساس المزايدة، فالسند الذي قيمته ألف روبية مثلاً يتضمن التزام الحكومة بأداء ألف روبية إلى حامله عند حلول أجله، فتجرى في شرائه المزايدة فيما بين البنوك، وتأتي العروض من قبلها إلى البنك المركزي، فتباع هذه السندات إلى من عرضه أكثر. ومعنى بيع هذه السندات أن مشتريها أقرض مبلغ الثمن إلى الحكومة واستحق من خلال هذا الإقراض أن يحصل على قيمة السند الاسمية عند حلول أجله.
إنَّ هذه السندات كلها ربوية من أصلها، حيث إن المقرض يلتزم فيها بأداء مبلغ القرض وزيادة، فلا يخفى حرمة تداولها لأنها تؤدي إلى تعامل ربوي حرام. ولكن لو فرضنا أن هذه السندات أصدرت من قبل الحكومة. على أساس القرض الشرعي بدون فائدة، فهل يجوز بيعها؟ يتأتى فيه الخلاف المذكور في بيع الدين، فلا يجوز بيعها عند الحنفية والحنابلة والظاهرية مطلقًا، وكذلك لا يجوز في الظاهر عند الشافعية، إما لأن الكثيرين منهم مع الحنفية والحنابلة في منع بيع الدين من غير المدين، وإما لأنهم اشترطوا لجوازه أن يقبض الدين في المجلس كما أسلفنا، وحصول هذا الشرط متعذر في السندات، فلا يجوز عندهم.
نعم يجوز ذلك عند من لا يشترط لجواز بيع الدين أن يقبض الدين في المجلس، فإن اشتريت هذه السندات بعين من الأعيان، مثل الثوب، أو الحبوب الغذائية، أو الأشياء الأخرى غير النقود فهذا البيع جائز على هذا القول مطلقًا. أما إذا اشتريت بالنقود، فلم أجد من الفقهاء الشافعية تصريحًا في هذا الباب، ولكن قياس قولهم في الصرف أن لا يجوز، لأن بيع النقود بالنقود صرف، ويشترط فيه التقابض في المجلس، ولو أجزنا بيع السندات بثمن حال، فكأننا أجزنا بيع النقود بالنقود نسيئة. فيشترط لجوازه أن يقبض الدين في المجلس، وهو متعذر في السندات: فلا يجوز.
أما المالكية، فيجوز عندهم بيع الدين لغير المدين بالشروط التي ذكرناها في تحقيق مذهبهم، ومن جملة هذه الشروط أنه إذا بيع الدين بجنسه فإنه يشترط فيه التساوي (1) فإن كان السند قيمته مائة، فلا يباع إلا بمائة لا يزاد ولا ينقص، ومن الظاهر أن هذا الشرط لا يحصل به غرض السوق الثانوية التي تباع فيها السندات، فالحاصل أن التعامل الذي يجري في سوق الأوراق المالية من بيع السندات وشرائها محرم شرعًا. وسوف نتكلم على بدائلها الشرعية في آخر البحث إن شاء الله تعالى.
(1) قال الدسوقي في سياق شروط جواز الدين لغير المدين: " وبيع (أي الدين) بغير جنسه، أو بجنسه وكان مساويًا، لا أنقص، وإلا كان سلفًا بزيادة، ولا أزيد، وإلا كان فيه حط الضمان وأزيدك"، راجع حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير: 3 / 63.
الكمبيالات (Bills of Exchange) :
النوع الثاني من الأوراق المالية التي تتداول في السوق اليوم تسمى كمبيالة، وهي عبارة عن الوثيقة التي يكتبها المشتري للبائع في بيع مؤجل، ويعترف فيها بأنه وجب في ذمته ثمن المبيع، وأنه يلتزم بأدائه في تاريخ آجل. وإن البائع حامل الكمبيالة ربما يريد استعجال الحصول على مبلغها، فلا ينتظر إلى تاريخ نضج الكمبيالة، بل يبيعها إلى طرف ثالث بأقل من قيمتها الاسمية ويسمى (حسم الكمبيالة) أو (خصم الكمبيالة)(Discounting) والعادة في سوق الأوراق أن مقدار هذا الحسم نسبة من مبلغ الكمبيالة تحدد على أساس مدة نضجها، فكلما كانت مدة نضجها أكثر كانت نسبة الحسم أكثر، وكلما كانت المدة أقل، كانت نسبة الحسم أقل.
وإن معظم العلماء المعاصرين خرجوا حكم الكمبيالة على أساس أنه بيع دين بنقد أقل منه، وحرموه من هذه الجهة.
وقد ذكر الفقهاء ورقًا يشابه ورق الكمبيالة اسمه (الجامكية)(1) وهي عبارة عن ورقة تصدر من بيت المال أو من ناظر الوقف لصالح رجل له حق مالي على بيت المال أو الوقف. وقد ذكره العلامة الحصكفي في الدر المختار بقوله:
" وأفتى المصنف (أي صاحب تنوير الأبصار) ببطلان بيع الجامكية لما في الأشباه: بيع الدين إنما يجوز من المديون".
وقال ابن عابدين تحته:
" عبارة المصنف في فتاواه: سئل عن بيع الجامكية: وهو أن يكون لرجل جامكية في بيت المال ويحتاج إلى دراهم معجلة قبل أن تخرج الجامكية فيقول له رجل: بعني جامكيتك التي قدرها كذا بكذا، أنقص من حقه في الجامكية، فيقول له: بعتك، فهل البيع المذكور صحيح أم لا؟ لكونه بيع الدين بنقد، أجاب: إذا باع الدين من غير من هو عليه كما ذكر لا يصح.
قال مولانا في فوائده: وبيع الدين لا يجوز، ولو باعه من المديون أو وهبه " (2) .
وجاء في كشاف القناع للبهوتي:
" ولا يصح بيع العطاء قبل قبضه، لأن العطاء مغيب فيكون من بيع الغرر، وهو أن العطاء قسطه في الديوان، ولا يصح بيع رقعة به، أي بالعطاء، لأن المقصود بيع العطاء، لا هي "(3) .
وهذا متفرع على أصل الحنفية والحنابلة، فإنهم لا يجوزون بيع الدين من غير المدين إطلاقًا وعليه يخرج حكم بيع الكمبيالة عند الحنفية والحنابلة أنه لا يجوز أصلاً، سواء كان الثمن مساويًّا لقيمة الكمبيالة لأنه بيع الدين من غير من هو عليه، فلا يجوز كما لا يجوز بيع الجامكية.
(1) هذه الكلمة معربة من (جامكي) وهي كلمة فارسية مأخوذة من (جامه) بمعنى الثوب، وكانت موضوعة في الأصل لأجرة تدفع إلى من يحفظ الثياب، ثم أطلقت على كل أجرة أو راتب (راجع لغة نامه ده خدا: 16 / 97) وفسره في المنجد بمرتب خدام الدولة العسكرية والملكية، وذكر أن أصله تركي وجمعه جوامك.
(2)
رد المحتار: 4 / 518، مطلب في بيع الجامكية.
(3)
كشاف القناع، للبهوتي: 3 / 156.
أما المالكية، فقد تقدم أنهم يجوزون بيع الدين من غير المدين بشروط سبقت، ولذلك قياس قولهم جواز بيع الجامكية، وقد صرح بذلك الحطاب رحمه الله تعالى حيث قال:
"بخلاف الجامكية، فإن الملك محصل فيها لمن حصل له شرط الواقف، فلا جرم صح أخذ العوض بها وعنها "(1) .
ولكن لا يخفى أن جواز هذا البيع مشروط بأن يكون بيعه بخلاف جنسه، وإن كان بجنسه، فلا بد من التساوي، كما سبق التصريح بذلك في عبارة الدسوقي.
وعليه يخرج حكم بيع الكمبيالة في مذهب المالكية، حيث يجوز بشرط أن يكون الثمن إما غير النقود أو مساويًّا لقيمة الكمبيالة.
أما الشافعية، فقد ذكر بعض المتأخرين منهم أنه يجوز لمستحق الجامكية أن ينزل عنها في حق غيره ويطالبه بالعوض عن ذلك. قال الشبراملسي بعد ما ذكر جواز النزول عن الوظائف.
" ومن ذلك الجوامك المقرر فيها، فيجوز لمن له شيء من ذلك وهو مستحق له بأن لا يكون له ما يقوم بكفايته من غير جهة بيت المال النزول عنه، ويصير الحال في تقرير من أسقط حقه له موكولاً إلى نظر من له ولاية التقرير فيه كالباشا، فيقرر من رأى المصلحة في تقريره من المفروغ له أو غيره "(2) .
ولكن ليس مقصود الشبراملسي إجازة بيع الكمبيالة، أو النزول عن راتب شهر معين. وإنما مقصوده أنه لو كان لرجل عطاء في بيت المال يحصل عليه كل شهر، جاز له أن ينزل عنه في حق غيره للأبد، ويأخذ عوضًا عن ذلك، ولكن المنزول له لا يستحق العطاء بمجرد نزول الأول، بل مفاد نزوله أنه تزول مزاحمته له في ذلك العطاء، ثم يصير الأمر موكولاً إلى من له ولاية التقرير، فإن رأى المصلحة جعل المنزول له في محل النازل، فيستحق هو العطاء، وإن شاء عين غيره. وهذا هو حكم النزول عن الوظائف عند الشافعية. وعلى هذا، فما ذكره الشبراملسي خارج عن مسألتنا لأنه ليس بيعا لورقة الدين، ولا نزولاً عنها في حق من يحل محله في حق المطالبة.
(1) مواهب الجليل للحطاب: 4 / 224، طبع 1398 هـ، في سياق تعريف البيع.
(2)
حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج: 5 / 478، آخر مبحث الجعالة.
وقياس قول الشافعية في مسألة بيع الدين أن لا يجوز بيع الجامكية أو الكمبيالة إلا بقبض العوضين في المجلس، ولو أخذنا بقول بعضهم الذين لا يشترطون هذا الشرط، فإنه يشترط عنهم أن يكون الثمن مساويًّا لقيمة الكمبيالة، ولا يجوز بيعها بأقل من قيمتها، إلا إذا كان البدل من المعروض.
خلاصة حكم بيع الكمبيالة:
يتلخص مما ذكرنا أن بيع الكمبيالة لا يجوز على قول الحنفية والحنابلة أصلاً، حتى بثمن مساو، وكذلك في مذهب الشافعية الذين يشترطون قبض البدلين في المجلس. وأما الذين لا يشترطون ذلك فيجوز بيع الكمبيالة عندهم بشرط أن يكون الثمن مساويًّا لمبلغ الكمبيالة، وهو مذهب المالكية أيضًا.
فتبين بهذا أن حسم الكمبيالة بمبلغ أقل من مبلغها لا يجوز عند أحد من المذاهب الفقهية المعتبرة، فإنه بيع لنقد حال بنقد مؤجل أقل منه وهو في معنى الربا. وهو الذي انتهى إليه مجمع الفقه الإسلامي في دورته السابعة، ونص قراره:
" إن حسم (خصم) الأوراق التجارية غير جائز شرعًا، لأنه يؤول إلى ربا النسيئة المحرم"(1) .
موقف بعض الإخوة الماليزيين:
وقد أفتى بعض إخوتنا في ماليزيا بجواز بيع الدين، وتوصلوا بذلك إلى القول بجواز حسم الكمبيالة، وقد عقدت مؤسسة الأوراق المالية في ماليزيا حوارًا لي معهم فاجتمعت معهم في كوالالمبور حتى أعرف مستندهم في ذلك، فتبين لي أنهم اعتمدوا في ذلك على أدلة آتية:
1-
إنهم فرقوا بين القرض وبين الدين الذي ينتج عن بيع بضاعة فقالوا: إن القرض لا يجوز بيعه أو شراؤه، فإنه لا يستند إلى بضاعة. أما الدين الذي ينشأ عن طريق البيع المؤجل، فإنه يستند إلى بضاعة تم بيعها، فوثيقة هذا الدين لا يمثل النقود البحتة، وإنما يمثل النقود التي حلت محل البضاعة المبيعة، فبيع هذه الوثيقة بيع للدين الذي قام مقام البضاعة، فكأنه بيع للبضاعة.
وإن هذا الدليل – مع احترامي لهؤلاء الإخوة – لا يخفى وهنه.
(1) قرار رقم: 66 / 2 / 7، فقرة 3، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد السابع: 2 / 217.
أما أولا: فلأن من النتائج اللازمة لعقد البيع انتقال ملك المبيع إلى المشتري، فلما تم البيع بين الفريقين، انتقلت البضاعة إلى ملك المشتري، ولم يبقَ للبائع إلا مطالبة الثمن الذي ثبت في ذمة المشتري. وهو الدين الذي تمثله الكمبيالة، وبعد ثبوت هذه النقود في ذمة المشتري، لم يبقَ هناك أي فرق بين النقود المقترضة، وبين النقود التي ثبتت في ذمته بسبب الشراء، وإن هذه النقود ليست قائمة مقام البضاعة بحيث يمكن عود البضاعة إلى محلها، وإنما هي عوض عن البضاعة المبيعة التي تم بيعها بيعًا باتًّا لا رجعة فيه، فلا يمكن أن تجري عليها أحكام البضاعة. وإلا لصارت جميع النقود التي حصل عليها الإنسان ثمنًا للبضاعة قائمة مقام البضاعة في جواز تداوله بالتفاضل، وهو محظور بالبداهة.
وثانيًا: القول بأن الكمبيالة بيع للبضاعة التي يقوم الدين مقامها يستلزم أن يقع على البضاعة الواحدة بيعان لجهتين مختلفتين، فإن البضاعة تم بيعها إلى مصدر الكمبيالة وانتقل ملكها إليه فكيف يبيع حامل الكمبيالة نفس هذه البضاعة إلى جهة أخرى؟ مع أن حامل الكمبيالة ليس مالكًا لها، ولا الجهة الأخرى تحصل على هذه البضاعة في مرحلة من مراحل العملية.
وثالثًا: إن هذا الدليل معارض للنص، وهو حديث عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، قال:
كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه، وأعطى هذه من هذه، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله! رويدك أسألك، إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء)) (1) .
دل هذا الحديث على أنه إذا وقع البيع على نقد من النقود، ثم أراد المتبايعان أن يحولوه إلى نقد آخر، فإن ذلك إنما يجوز بشرطين: الأول أن يكون على سعر يوم الأداء، والثاني: أن يتم الأداء في المجلس ولا يبقى في ذمة المشتري شيء.
ولا يخفى أن المبيع في هذه العملية إبل، وثبت ثمنها بالدراهم مثلاً في ذمة المشتري، فكأنما أصبحت دينًا في ذمته، وإنه يريد أن يستبدلها بالدنانير، فاشترط رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك أن يقع الاستبدال بسعر يوم الأداء، وبأن لا يبقى شيء من الثمن في ذمة المشتري. وإنما اشترط هذين الشرطين لأنه، صلى الله عليه وسلم، جعل هذا الاستبدال صرفًا، فاشترط فيه ما يشترط لجواز الصرف، مع أن أصل البيع كان للإبل؛ ولو كان ثمن البضاعة يقوم مقام البضاعة كما قاله هؤلاء الإخوة؛ لكان هذا الاستبدال شراء للبضاعة نفسها، ولم يشترط لجوازه ما يشترط للصرف.
ولينظر أن هذه العملية وقعت بين البائع والمشتري، ولم يتخللها ثالث، وكان من السهل أن يقال: إنهما فسخا البيع السابق، وعقداه من جديد على أساس الدنانير، ولذلك لا يشترط فيه سعر يوم الأداء، ولا التقابض، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعله صرفا ليحترز من كل شبهة للربا، وكذلك كان هذا بيعا للدين ممن هو عليه، ومع ذلك اشترط رسول الله صلى الله عليه وسلم تساوي البدلين في السعر، فيشترط هذا الشرط من باب أولى في بيع الدين من غير من هو عليه، لأن تخلل الثالث أبعد كل احتمال للاستبدال أو فسخ البيع السابق وعقده من جديد.
2-
إن بعض هؤلاء الإخوة استدلوا بما روي عن المالكية وعن بعض الشافعية أنهم أجازوا بيع الدين من غير من هو عليه، وتمسكوا بلفظ " بيع الدين "، وقالوا: متى جاز بيع الدين، فإن البيع يقتضي أن يجوز بكل ما اتفق عليه العاقدان من ثمن، فيجوز بيع الدين بأقل من مبلغ الدين إذا تراضى عليه الطرفان.
(1) سنن أبي داود، كتاب البيوع، رقم 3354: 3: 25 وهذا لفظه؛ وأخرجه الترمذي في البيوع، باب ما جاء في الصرف، رقم 1242؛ والنسائي: 7 / 281، باب بيع الفضة بالذهب وبيع الذهب بالفضة، وابن ماجه، باب اقتضاء الذهب من الورق، رقم 2262، ورجاله ثقات.
وهذا الدليل أضعف من الأول، لأنه حينما يقال بجواز بيع شيء، فإن الجواز يخضع لجميع الشروط اللازمة في مثل ذلك البيع، فمثلاً: إذا قلنا يجوز بيع الذهب، فليس معناها أنه يجوز بذهب أقل منه أو أكثر، وإنما المراد أنه يجوز هذا البيع بجميع شروطه المعتبرة، ومنها أنه إذا بيع بجنسه فلا يجوز فيه التفاضل. وكذلك حينما ذكر هؤلاء الفقهاء جواز بيع الدين فإنما قالوا بجوازه بجميع الشروط المعتبرة، ومنها أنه إذا كان الدين من الأموال الربوية وبيع بجنسه فإنه لا يجوز التفاضل. وقد صرح بذلك العلماء المالكية كما سبق في تنقيح مذهبهم. أما الشافعية، فإنهم تصوروا بيع الدين بغير جنسه، فإنهم مثلوه بشراء العبد بالدراهم في ذمة المديون ولذلك لم يذكروا شرط التساوي، فإن هذا الشرط من البديهيات إذا كان الدين من الأموال الربوية، ووقع بيعه بجنسه. وقد ذكروا في مسألة الاستبدال (وهو بيع الدين ممن هو عليه) أنه إذا وقع الاستبدال في الأموال الربوية، اشترط قبض البدل في المجلس (1) فظهر أنهم اشترطوا في الأموال الربوية جميع الشروط اللازمة لجواز البيع فيها.
3-
وربما استدل بعضهم بما ذهب إليه العلماء من جواز "ضع وتعجّل" استدلالاً بقصة بني النضير حينما أجلوا من المدينة المنورة وكانت لهم ديون على أهل المدينة، فروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لهم:((ضعوا وتعجلوا)) فحطوا من ديونهم وتعجلوها من المديونين (2) .
والواقع أن جمهور فقهاء الأمة ذهبوا إلى منع " ضع وتعجل " وهو مذهب عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت، ومحمد بن سيرين، والحسن البصري وابن المسيب والحكم بن عتبة، والشعبي. والأئمة الأربعة (3) وضعفوا حديث بني النضير، نعم روي عن عبد الله بن عباس وإبراهيم النخعي وزفر بن الهذيل وأبي ثور جوازه، وإليه ذهب العلامة ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن قيم الجوزية، رحمهم الله تعالى (4) ، ولكن الذين ذهبوا إلى جوازه، إنما جوزوه إذا كان ذلك فيما بين الدائن والمدين، ولم يجوزه أحد منهم إذا تخلل ثالث في العملية، فلا يقاس حسم الكمبيالة على مسألة "ضع وتعجل" لأن الدائن مالك للدين، فله أن يضع من الدين ما شاء. أما من يشتري الدين بنقد، فإنه يشتري النقود الواجبة في ذمة المديون، فهو في حكم بيع النقود بالنقود، ولا يجوز فيه التفاضل.
وإن هذه المسألة صدر فيها قرار من مجمع الفقه الإسلامي في دورته السابعة، ونصه:
" الحطيطة من الدين المؤجل، لأجل تعجيله، سواء أكانت بطلب الدائن أو المدين (ضع وتعجل) جائزة شرعًا، لا تدخل في الربا المحرم إذا لم تكن بناء على اتفاق مسبق، وما دامت العلاقة بين الدائن والمدين ثنائية، فإذا دخل بينهما طرف ثالث لم تجز، لأنها تأخذ عندئذ حكم حسم الأوراق التجارية "(5) .
حكم الكمبيالة على أساس الحوالة:
ثم إن ما ذكرناه من حكم الكمبيالة مبني على أساس كونه بيعًا للدين. والذي يظهر لي أن حسم الكمبيالة ليس بيعًا في الحقيقة، وإنما هو إقراض وحوالة. فالذي يحسم الكمبيالة يقرض إلى حاملها مبلغًا ثم يحيل الحامل المقترض إياه على مصدر الكمبيالة. والدليل على ذلك أن في قوانين معظم البلاد لا يتحمل الحاسم خطر عدم التسديد، بل يحق له أن يرجع على حامل الكمبيالة إذا لم يقع التسديد من مصدر الكمبيالة، وهذا شأن الحوالة (على مذهب الحنفية) .
وعلى هذا، فما يعطيه حاسم الكمبيالة قرض أقرضه إلى حاملها بشرط أن يحيله على مديونه بمبلغ أكثر منه، وهو ربا صراح، لأن الحوالة من صحة شرطها تساوي الدينين، وقد تحقق هنا بين مبلغ القرض والمبلغ المستوفى فيما بعد زيادة في مقابل الأجل، وهو من ربا النسيئة.
(1) المجموع شرح المهذب: 9 / 299.
(2)
راجع السنن الكبرى للبيهقي: 6 / 38 كتاب البيوع، وقد بسطت الكلام على هذا الحديث وعلى أدلة مذاهب الفقهاء في المسألة في كتابي " بحوث في قضايا فقهية معاصرة" مبحث البيع بالتقسيط.
(3)
راجع موطأ مالك: 1 / 606؛ ومصنف عبد الرزاق: 8 / 71 – 74 وموطأ الإمام محمد: 1 / 332؛ والمغني لابن قدامة: 4 / 174 و 175.
(4)
كنز العمال: 2 / 235؛ وأعلام الموقعين: 3 / 371.
(5)
قرار رقم: 66 / 2 / 7 / مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد السابع: 2 / 217، فقرة 4.
البدائل الممكنة لبيع الدين
تبين بما تقدم أن الأوراق المالية التي تمثل ديونًا في ذمة مصدرها، مثل السندات والكمبيالات، لا يجوز تداولها إلا بمبلغ مساو لقيمتها الاسمية. ثم هذا التداول بقيمتها الاسمية يمكن أن تكون على طريق البيع عند المالكية وبعض الشافعية بشروط مر ذكرها، ولا يجوز على طريق البيع عند الحنفية والحنابلة.
ولكن يجوز بطريق الحوالة عند الجميع، ومعنى ذلك أن حامل السند أو الكمبيالة يقترض من طرف ثالث مبلغًا يساوي مبلغ السند أو الكمبيالة، ثم يحيل هذا الطرف الثالث إلى مصدر السند أو الكمبيالة. فتجري على هذا التداول أحكام الحوالة.
ولا يخفى أن تداول هذه الأوراق بمبلغ مساو لقيمتها الاسمية لا يؤدي الغرض المطلوب من السوق الثانوية. فهل هناك من طريق يمكن به إنشاء سوق ثانوية للأوراق المالية على الوجه المقبول شرعًا؟ وبعبارة أخرى، هل هناك من بديل لتداول السندات والكمبيالات على الوجه المقبول شرعًا؟ والجواب: نعم، وفيما يلي نذكر هذه البدائل باختصار، والله سبحانه هو الموفق للصواب.
بديل حسم الكمبيالات:
أما حسم الكمبيالات، فيمكن تحصيل غرضه بطرق ثلاثة:
1-
إن حسم الكمبيالات يحتاج إليه تاجر يبيع بضاعته بيعًا مؤجلاً، فيريد أن يحصل على مبلغ الثمن (أو ما يقاربه) معجلاً قبل حلول الأجل ليمكن له الوفاء بالتزاماته تجاه التجار الذين اشترى منهم البضاعة المصدرة، أو الصناع الذين صنعوها له، وأكثر ما يحتاج إليه التجار في تصدير بضاعاتهم إلى خارج البلد عن طريق اعتماد مستندي، فيذهبون بالكمبيالات إلى بنك ليحسمه ويؤدي إليهم مبلغ الكمبيالة ناقصًا منه نسبة الحسم.
والطريق المشروع للحصول على هذا الغرض بالوجه الذي لا غبار عليه من الناحية الشرعية أن يعقد التجار المشاركة مع البنك قبل تصديرهم للبضاعة، وبما أن عندهم طلبًا معينًا من خارج البلاد، والسعر معلوم متفق عليه بين الفريقين والتكلفة معلومة، فلا يصعب على البنك الدخول في المشاركة في هذه العملية بخصوصها، لأن الربح المتوقع من العملية شبه المتيقن، فيمكن للبنك أن يعطي العميل المبلغ المطلوب على أساس المشاركة، ويتقاضى نسبة من الربح الحاصل من العملية، فيحصل العميل على السيولة ويتمكن بها الوفاء بالتزاماته التي يتحملها لإعداد البضاعة المصدرة، ويحصل للبنك الربح بنسبة معلومة.
2-
الطريق الثاني: أن يبيع البنك إلى حامل الكمبيالة بضاعة حقيقية مقابل الكمبيالة على مذهب المالكية وبعض الشافعية، أو مقابل ثمن يساوي مبلغ الكمبيالة، ثم يقبل حوالته على مصدر الكمبيالة. وبما أن مقابل الكمبيالة بضاعة، فلا بأس أن يبيعه البنك بسعر أعلى من سعر السوق، وبهذا يحصل على ربح.
3-
الطريق الثالث: أن تكون هناك معاملتان مستقلتان بين البنك وبين حامل الكمبيالة. المعاملة الأولى: أن يوكل حامل الكمبيالة البنك بتحصيل مبلغه من مصدر الكمبيالة عند نضجها، ويعطيه أجرًا معلومًا مقابل هذه الخدمة.
والمعاملة الثانية: أن البنك يقرض العميل مبلغ الكمبيالة ناقصًا منه أجرة الوكالة قرضًا بدون فائدة.
مثاله: إن زيدًا يحمل كمبيالة مبلغها مائة ألف روبية، فيوكل زيد البنك بتحصيل هذا المبلغ من مصدر الكمبيالة بأجر ألف روبية. ثم يقرض البنك زيدًا بعقد مستقل مبلغ تسعة وتسعين ألف روبية. وحينما يحصل البنك على مائة ألف من مصدر الكمبيالة فإنه تقع المقاصة، فيمسك منها تسعة وتسعين استردادًا لمبلغ قرضه ويمسك ألفًا كأجرة له على تحصيل المبلغ.
وإن هذا الطريق يشترط لجوازه أمور:
الأول: أن يكون كل واحد من العقدين منفصلاً عن الآخر، فلا تشترط الوكالة في القرض، ولا القرض في الوكالة.
الثاني: أن لا تكون أجرة الوكالة مرتبطة بمدة نضج الكمبيالة، بحيث تكون الأجرة زائدة إن كانت المدة طويلة وتكون أقل إن كانت قصيرة.
الثالث: أن لا يزاد في أجرة الوكالة بسبب القرض الذي أقرضه البنك، فإنه يكون حينئذ قرضًا جر منفعة.
بديل سندات تصدرها الشركات:
أما السندات التي تصدرها الشركات التجارية للحصول على القروض من الجمهور للزيادة في طاقتها المالية، فإن بديل هذه السندات صكوك يمكن أن تصدرها الشركة على أساس المشاركة أو المضاربة، بحيث يكون حملة الصكوك يشاركون الشركة في نشاطها التجاري، وتوزع عليهم نسبة من الأرباح المكتسبة من خلال هذا النشاط. وبما أن هذه الصكوك تمثل ملكية شائعة في موجودات الشركة (وينبغي أن تكون هذه الموجودات في صورة الأعيان بنسبة (51 %) على الأقل على ما أفتى به مجمع الفقه الإسلامي) فإنه يجوز تداول هذه الصكوك في السوق الثانوية بأي سعر يتفق عليه البائع والمشتري، لأن الممنوع الاتجار في الأوراق التي لا تمثل إلا النقود والديون القابلة للتحصيل، أما إذا كانت الأوراق تمثل حصة شائعة من الأعيان كالأسهم، فإنه يجوز فيه المتاجرة، ويتعين سعرها على أساس العرض والطلب، شأن سائر البضائع.
وقد سبق أن درس مجمع الفقه الإسلامي هذا الموضوع في دورته الرابعة، وأصدر فيه قرارًا مبسوطًا ذكر فيه الضوابط التي تحكم هذه الصكوك (1) وقد تحدثت عن مسائلها في بحث قدم في هذه الدورة (2) ، فلا حاجة إلى تفصيل هذه المسائل والضوابط في هذا البحث.
بديل سندات تصدرها الحكومة:
أما سندات القروض التي تصدرها الحكومة لتمويل عجز ميزانيتها فيمكن الاستعاضة عنها بالصكوك الشرعية، ولكن لا يمكن في الطرق الشرعية لتمويل هذا العجز أن تحصل الحكومة على قروض تصرفها كيفما شاءت، وإنما يجب في أدوات التمويل الشرعية أن يكون التمويل مرتبطًا بمشاريع معينة، وتكون هذه الأدوات متنوعة حسب طبيعة المشروع الذي يراد تمويله. وعلى هذا، فيمكن أن تختار إحدى الطرق الآتية في مجالات مختلفة تحتاج إلى تمويل:
1 ـ صكوك المشاركة أو المضاربة:
إن كثيرًا من الحكومات تكون لديها مشاريع تجارية تدر ربحًا، مثل توزيع الماء والكهرباء، وخدمات الهاتف والبريد، أو خدمات المواصلات من القطار والشحن والخطوط الجوية، فإن احتاجت هذه المشاريع إلى تمويل، فإن ذلك يمكن عن طريق إصدار صكوك المشاركة أو المضاربة، فكل مؤسسة من هذه المؤسسات يمكن لها أن تعرض هذه الصكوك على الجمهور، وكل من يحصل على هذا الصك بدفع مبلغ من المال فإنه يشارك المؤسسة في نشاطها التجاري، ويستحق الربح بنسبة شائعة، وبما أن هذه الصكوك تمثل حصة شائعة في موجودات المؤسسة، فإنها يجوز تداولها في السوق الثانوية، ويتعين سعرها حسب العرض والطلب، شأن أسهم الشركات المساهمة.
(1) قرار رقم (5) من الدورة الرابعة سنة 1408هـ، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الرابع: 3/2161.
(2)
مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الرابع: 3 / 8151؛ وبحوث في قضايا فقهية معاصرة، ص224.
2 -
صكوك التأجير:
قد تحتاج الحكومة إلى بناء مشاريع يمكن تأجيرها، ويمكن تمويل هذه المشاريع عن طريق إصدار صكوك التأجير، مثلاً: تريد الحكومة أن تبني جسرًا وإنه يمكن أن تتقاضى رسومًا ممن يستخدم هذا الجسر، ويمكن أيضًا أن يؤجر هذا الجسر إلى جهة تجارية، وإن هذه الجهة تتقاضى الرسوم ممن يستخدمه.
فيمكن أن تصدر الحكومة صكوكًا تحصل عليها العامة بدفع مبالغ معلومة، فيشتركون في ملكية هذا الجسر بنسب شائعة، ويستحقون بذلك حصة من الأجرة أو الرسوم التي تحصل من الجهة المستأجرة أو من المستخدمين للجسر.
ويمكن في النهاية أن يباع هذا الجسر إلى الحكومة أو إلى جهة أخرى، ويقسم الثمن على حملة الصكوك بنسبة مساهماتهم.
وبما أن هذه الصكوك تمثل حصة شائعة من ملكية الجسر، فإنه يجوز تداولها في السوق الثانوية حسب العرض والطلب.
3 -
صندوق تمويل الحكومة:
قد تكون لدى الحكومة مشاريع لا تدر ربحًا، أو تدر ربحًا بسيطًا لا يكفي لتشويق الناس إلى المساهمة فيه. مثل دعم القوات المسلحة، وإنشاء المعاهد الدراسية، أو المستشفيات العامة، أو إنشاء المباني التي لا تدر ربحًا. وإن تمويل هذه المشاريع لا يمكن على أساس المشاركة أو المضاربة.
ويمكن تمويل هذه المشاريع بإنشاء صندوق خاص لتمويل الحكومة. وإن هذا الصندوق يتكون بمساهمات عامة الناس، ويصدر لهم صكوك تشهد بمساهمتهم فيه. ثم إن الصندوق يمول مثل هذه المشاريع الحكومية على أساس المرابحة، أو التأجير، أو الاستصناع، حسب طبيعة المشروع. فمثلًا: إذا احتاجت الحكومة إلى شراء أسلحة، فإن هذا الصندوق يشتريها من المصدرين، ويبيعها إلى الحكومة مرابحة مؤجلة، وإن احتاجت الحكومة إلى ماكينة أو معدات أخرى، فإن هذا الصندوق يشتريها ثم يؤجرها إلى الحكومة إما إجارة عادية، أو إجارة منتهية بالتمليك. وإن احتاجت الحكومة إلى بناء عمارة، فإن الحكومة تعقد الاستصناع مع هذا الصندوق، وإن الصندوق يبني العمارة عن طريق مقاول من الباطن، ويسلمها إلى الحكومة، وتدفع الحكومة الثمن إلى الصندوق في أقساط معلومة، ويراعى في تعيين ثمن الاستصناع أن يحصل الصندوق على ربح مناسب. وإن الربح الذي يتكون من خلال هذه العمليات المختلفة، يوزع على حملة صكوك الصندوق.
ومما ينبغي أن يراعى في عمليات هذا الصندوق أن لا تزيد نسبة عمليات المرابحة على (49 %) من مجموع العمليات، حتى يكون معظم ممتلكات الصندوق أعيانًا. وحينئذ تكون صكوك هذا الصندوق تمثل حصة شائعة في وعاء معظم موجوداته أعيان، فيجوز تداولها في السوق الثانوية، ويتعين سعرها حسب العرض والطلب.
4 -
سندات القروض بدون فائدة:
الطرق الثلاث المذكورة فيما سبق تستطيع أن تلبي أكثر الحاجات التي من أجلها تحتاج الحكومة إلى التمويل من مواطنها وبما أن هذه الطرق للتمويل مرتبطة بمشاريع معينة، فإنها تضمن أن تستخدم الأموال المحصلة في مشاريع حقيقية يرجع نفعها إلى المجتمع. أما القروض التي لا ترتبط بمشاريع معينة فإنها مظنة أن تصرف في سرف وترف.
ولئن بقيت بعد استنفاد هذه الطرق بعض المجالات الحقيقية التي لا يمكن للحكومة أن تختار فيها إحدى الطرق الثلاث، فيمكن أن تطلب من مواطنيها قروضًا بلا فائدة. ولئن علم عامة الناس أن الحكومة قد بذلت كل ما في وسعها من الطرق المشروعة للحصول على التمويل، وأنها في حاجة حقيقية لزيادة من التمويل لأغراض يرجع نفعها إلى المجتمع، وليس لمجرد الترف والتنعم، فإنهم يستعدون لإقراض الحكومة بدون فائدة، ولاسيما إذا أحدثت الحكومة جوًّا دينيًا عن طريق التعليم والإعلام. إن هؤلاء المقرضين يعطون سندًا لقروضهم. وإن هذه السندات لا يجوز بيعها في السوق بثمن أكثر أو أقل لما قدمنا من منع بيع الدين بالتفاضل، ولكن يمكن أن تسيل هذه السندات بمثل قيمتها على أساس الحوالة.
ويمكن للحكومة أن تعفي حملة هذه السندات من بعض الضرائب أو تخفض نسبتها لهم، والظاهر أن ذلك لا يكون من قبيل القرض الذي جر نفعًا، وذلك لأن القرض إنما يدخل في القرض الربوي إذا تضمن إعطاء زيادة على رأس المال أو إعفاء المقرض عن دين كان يجب عليه. أما الضرائب فإنها ليست من قبيل الديون الواجبة على المواطنين، وإنما يجوز للحكومة فرض الضرائب عليهم للوفاء بحاجات الحكومة بقدر الحاجة، ولذلك للحكومة معايير مختلفة في فرضها على بعض المواطنين دون بعض، وتعيين نسب مختلفة لأصناف مختلفة منهم. ولما تقدم هؤلاء المقرضون بقروض وفت بعض حاجات الحكومة، فللحكومة أن تعفيهم عن بعض الضرائب أو تخفض عنهم بعضها، لأنهم أدوا بعض دورهم في سد حاجات الحكومة، فلا يطالب منهم قدر ما يطالب من الآخرين الذين لم يؤدوا هذا الدور إطلاقًا. والله سبحانه وتعالى أعلم، وله الحمد أولًا وآخرًا.
القاضي محمد تقي العثماني.