المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الإسلام في مواجهة العلمنةإعدادالدكتور عمر عبد الله كامل - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ١١

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الحادي عشر

- ‌بيع الدين والأوراق الماليةوبدائلها الشرعيةإعدادالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌أحكام التصرف في الديوندراسة فقهية مقارنةإعداد الدكتورعلي محيي الدين القره داغي

- ‌بيع الدينأحكامه – تطبيقاته المعاصرةإعدادأ. د نزيه كمال حماد

- ‌بيع الدينإعداد الدكتورعبد اللطيف محمود آل محمود

- ‌بيع الدين وسندات القرضوبدائلها الشرعيةفي مجال القطاع العام والخاصإعداد الدكتورمحمد علي القري بن عيد

- ‌بيع الدين وسندات القرضوبدائلها الشرعية في مجال القطاع العام والخاصإعدادالدكتور سامي حسن حمود

- ‌المضاربات في العملةوالوسائل المشروعة لتجنب أضرارها الاقتصاديةإعداد الدكتورأحمد محيي الدين أحمد

- ‌المضاربات على العملةماهيتها وآثارها وسبل مواجهتهامع تعقيب من منظور إسلاميإعداد الدكتورشوقي أحمد دنيا

- ‌عقود الصيانةوتكييفها الشرعيإعدادالشيخ محمد المختار السلامي

- ‌عقود الصيانةوتكييفها الشرعيإعدادالدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌عقود الصيانة وتكييفها الشرعيعقد الصيانةإعدادآية الله محمد على التسخيري – مرتضى الترابي

- ‌عقود الصيانةإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌عقود الصيانة وتكييفها الشرعيإعدادالدكتور محمد أنس الزرقاء

- ‌ضوابط الفتوىفي ضوء الكتاب والسنةومنهج السلف الصالحإعداد الدكتورعبد الوهاب بن لطف الديليمي

- ‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعداد الدكتوروهبة مصطفى الزحيلي

- ‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعداد الدكتورعبد الله الشيخ المحفوظ بن بيه

- ‌العمل الفقهيعند الإباضيةإعدادناصر بن سليمان بن سعيد السابعي

- ‌الإسلامفي مواجهة الحداثة الشاملةإعدادالدكتور ناصر الدين الأسد

- ‌مجمع الفقه الإسلامي الدوليووحدة الأمة الإسلاميةإعدادمحمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌الوحدة الإسلاميةمنهجية المقارنة بين المذاهب الفقهيةإعدادالدكتور عبد الستار أبو غدة

- ‌الوحدة الإسلاميةمعالمها وأعلامهاإعدادالأستاذ محمد واعظ زادة الخراساني

- ‌الوحدة الإسلامية{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}إعدادالشيخ عدنان عبد الله القطان

- ‌الوحدة الإسلاميةأدب الحوار وأخلاقيات البحثإعدادالدكتور سعيد بن عبد الله بن محمد العبري

- ‌‌‌الإسلام في مواجهة العلمنةإعدادالدكتور عمر عبد الله كامل

- ‌الإسلام في مواجهة العلمنةإعدادالدكتور عمر عبد الله كامل

- ‌الإسلام في مواجهة العلمنةموقف الإسلام من مسألة الحكم والسيادةإعدادآية الله الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الديمقراطية والعلمانيةوحقوق الإنسانالمرجعية الغربية والمرجعية الإسلاميةإعدادالأستاذ إبراهيم بشير الغويل

الفصل: ‌الإسلام في مواجهة العلمنةإعدادالدكتور عمر عبد الله كامل

‌‌

‌الإسلام في مواجهة العلمنة

إعداد

الدكتور عمر عبد الله كامل

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله العليم العلَّام، والصلاة والسلام على البدر التمام سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وبعد

فإن ما يسمي اليوم بالعلمانية، والذي هو في الواقع (الدنيوية) ، مذهب له فروع وشعب يدلسون بمسماه على المسلمين، فكثير من المثقفين يعتقدون خطأ أنه يعني اتِّباع المنهج العلمي.

ولقد درج كثير من العلماء وكبار المثقفين المسلمين على إهمال ما يكتب هؤلاء، معتمدين على مقولة:(دعه يموت، وأن الرد عليه سيزيده انتشارًا) .

ولكنني لمست خطأ هذا الاتجاه، ولذلك كنت ولازلت أرصد هذه الحركة وما يصدر عنها من كتابات ودراسات ونشرات، والتزمت فترة طويلة بمبدأ عدم الرد عليهم وفقًا للتصور السابق.

ولكن هالني الأمر حين أصبحت هذه الكتب تُطبع طبعات ثانية وثالثة ورابعة

مما يدل على أن جزءًا كبيرًا من القراء الذين لا يملكون ثقافة إسلامية كافية، قد انغروا وانخدعوا بما تحتويه تلك الكتب من ادعاءات وافتراءات وشبهات، لاسيما وأن مؤلفي تلك الكتب يدلسون باستخدام المصادر الإسلامية والاقتباس منها، فحينما يقرأ المثقف المسلم في قائمة المراجع مثلا: تاريخ ابن كثير أو الطبري يعتقد بصحة الخبر لثقته بالمصدر، ولا علم له أنهم ينقلون الصحيح والضعيف ولا يميزون الغث من السمين.

ص: 901

لذلك وجدت من واجبي أن أخصص حيزًا كبيرًا من وقتي للرد على هؤلاء، وتفنيد شبهاتهم، وتبيان تدليسهم في النقل، بل استخدامهم مناهج لا تستقيم منطقيًّا مع أساليب البحث العلمي.

وقد كتبت عدة كتب في هذا المجال، ضمن سلسلة أسميتها:(كتاب بكتاب ورأي برأي) ، حاورت بعضهم من خلالها، وسأكمل هذه المسيرة بإذن الله وعونه وتوفيقه.

واليوم وأنا أقدم هذه الدراسة للمجمع الفقهي أستنهض همم شيوخي من الفقهاء وعلماء المسلمين، فقد اتسع الخرق على الراقع، وإن هذا أخطر غزو فكري يتعرض له الإسلام اليوم، مما يستدعي تضافر الجهود لمواجهة هذا الخطر، والتصدي له بدرء هذه الشبهات، ودحر الإلحاد والغلو العلماني، حتى لا نندم ساعة لا ينفع الندم.

وقد أشرت في نهاية هذه الدراسة بما أراه الحل الناجع لهذا الداء المستشري، وإلى الموقف الإيجابي الذي لابد من وقوفه في وجه هذه الهجمة وبأسلوب حضاري، معتمدًا على الحوار والإقناع. فنحن على حق وهم على باطل، فإن انتصر الباطل في جولة فالحق لابد أن ينتصر في بقية الجولات، ولقد وعدنا الله بالنصر إن نصرنا دينه وشريعته فقال تعالى:{إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، وقال جل شأنه:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40] .

ص: 902

أساس العلمانية ومنشؤها:

لقد قصد أن يترجم مسمى (العلمانية) بهذا الشكل نسبة إلى العلم، مع أن الواقع أنه نسبة إلى العالم، بمعنى دنيوي أو ما يقابل الدين بوجه عام، للتدليس على الفئات غير المثقفة ثقافة إسلامية كافية، لأن العلمانية هي سلوك المنهج العلمي، وحقيقة الأمر خلاف ذلك.

إن أصل العلمانية فلسفي يتصل بواقع سياسي واجتماعي معين مرت به أوروبا، وإن فصل ذلك الواقع عن هذا المسمى يجعلنا نتخبط، فلابد من إلقاء الضوء على ذلك الواقع حتى نلم بالجذور الأساسية لنشأة العلمانية.

فمن الأساس كانت المسيحية تؤمن بسلطتين: سلطة الله وسلطة قيصر، ولظروف مختلفة وتحالفات بين رجال الكنيسة والنظم الإقطاعية التي خنقت الحياة خنقًا وتدخلت في جميع نواحيها، أصبحت الكنيسة تمارس بصورة مباشرة وغير مباشرة سلطات تجاوزت حتى التعاليم الإنجيلية، وللدلالة على ذلك: فبعد الثورة الفرنسية 1789م رفع القانون المدني حتى يصبح نافذًا للبابا في عام 1790م، وقد رفض مباركته، مما أدخل الدين في مواجهة مع السياسة، ولقد كانت الكنيسة في ذلك الوقت لا تدرك معنى المتغيرات الجديدة وخطورة تحالفها مع الإقطاع، مما ضيق الخناق الاقتصادي داخل كل مقاطعة، ولم تدرك الحاجة الطبيعية الناتجة عن تطور التجارة وتبادل السلع والمنتجات، ولم تدرك الصدمة التي أصابت أوروبا بعد سقوط القسطنطينية؛ فأدى ذلك إلى تكتل غالبية الشرائح الاجتماعية من قوميين ورجال مال وغيرهم من المنتفعين، بل وتضامن رواد البحث العلمي الذين وقفت الكنيسة منهم موقفًا متشددًا فانضم إليهم ذوو الفنون والآداب، ولم يجد هؤلاء مرتكزًا فكريًّا يقاومون به جبروت الكنيسة وطبقية رجال الدين (الأكليريك) سوى اللجوء إلى الفلسفة، التي أعطتهم المبررات للتغيير الجديد، فلجؤوا إلى أفكار الفلاسفة أمثال (توماس هوبز) الذي كان يرى أن الحقيقة تتمثل في المادة، وأن حياة الإنسان وحركته قائمة على حب البقاء، إلى أن ينتهي إلى ضرورة نشوء الحكومة التي تهيمن على كل شيء.

ومن أمثال الفيلسوف (جون لوك) الذي يصل في فلسفته إلى ضرورة إخضاع الدولة للكنيسة والقوانين المدنية، بل المطالبة بتعديل المعتقد المسيحي وجعله عقلانيًّا.

ص: 903

والفيلسوف (سبنواز) الذي يصل إلى حد الدعوة إلى أن تتحكم السلطة المدنية في الدين تحكمًا مطلقًا، ليس هذا فحسب، بل حتى مظاهر العبادة التي يجب أن تكون تبعًا للدولة وفائدتها.

وجاء بعده (ديفيد هيوم) الذي اعتبر الدين حاجة نفسية، و (فولتير) الذي نحا نفس المنحى، ووصل الأمر إلى (جان جاك روسو) الذي حث الدولة على إنكار الدين، وألا تسمح بوجود سلطة كنسية إلى جنبها، وحصر الدين في أمور هي:(وجود الله، العناية الإلهية، الثواب والعقاب) ، أي أنه أنكر الكتب والرسل وجميع الغيبيات - وسنجد ترديد صدى هذا الأمر لدى غلاة العلمانيين العرب المعاصرين -.

وترابط هذا الاتجاه مع مذهب ديكارت، وتفاعل هذا التيار حتى شمل جميع أوروبا، إلى أن ظهرت العلمانية المفرطة في الإلحاد، ومن رموزها (سان سيمون) و (أوغست كون) ، والتي لا تعتبر أي قيمة لأي شيء إلا الشيء الخاضع للاختبار الحسي، وهكذا استبعدت بجلاء جميع الحقائق الروحية والغيبية، واهتز شأن العقل والبرهان العقلي، ودخل العالم في مرحلة المادية.

وتبعه فلاسفة آخرون، إلى أن وصل الأمر إلى اعتبار الدين شرًا لا فائدة منه على الإطلاق، وأصبح مفهوم الدولة مناقضًا للدين، ووُضِع الإنسان مكان الله (وسنجد ترديد هذه الأقوال لدى غلاة العلمانيين العرب الذين يقولون بالديالكتيك والوحي الصاعد) .

وتوج كل هذا الفكر (كارل ماركس) بمضمونه المادي الصرف الذي رفض معه كل دين، واعتبر الأديان أفيون الشعوب، وبدأت الحروب على الأديان، فتم إقصاؤها من مجالات التعليم والتوجيه والقِيَم، وحتى الممارسة الدينية الشخصية (1) .

(1) العلمانية، محمد مهدي شمس الدين، ص 143 - 156 بتصرف.

ص: 904

سبب قبول الاتجاه العلماني في الغرب:

وسبب قبول هذا الاتجاه العلماني في الغرب هو تعرض الديانة النصرانية للتحريف، وإدخال الأغاليط البشرية في صلب مفاهيمها، وحشوها بالخرافات الوضعية، وما وصل إليه رجال الكنيسة من فساد، حتى أمسى الدين النصراني ورجاله في نظر المتنورين الغربيين صورة للخرافة، والظلم الاجتماعي، والفساد المتستر بهيمنة الغيبيات الدينية.

ولقد عرفت العلمانية الأوربية - غير التيار المادي الملحد - تيارًا مؤمنًا بالله، استطاع فلاسفته - من أمثال هوبز Hobbes (1588 - 1679) ، ولوك Locke (1632 - 1716) ، وليبينز Lebintz (1646 - 1716م) ، وروسو Rousseau (1712 - 1778م) ، وليسنج Lessinc (1729 - 1871م) - التوفيق بين الإيمان بوجود إله خالق للعالم، وبين العلمانية التي ترى العالم مكتفيًا بذاته، فتحصر تدبير الاجتماع البشري في سلطة البشر المتحررة من شريعة الله، وكان هذا التوفيق مؤسسًا على التصور الأرسطي لنطاق عمل الذات الإلهية. فالله، في التصور الأرسطي، واحد، مفارق للعالم، وخالق له، لكنه قد أودع في العالم والطبيعة الأسباب التي تدبرهما تدبيرًا ذاتيًّا، دونما حاجة إلى تدخل إلهي.

فالعالم مكتف بذاته، تدبره الأسباب المودعة فيه، وهو وحده مصدر المعرفة الحقة، القابلة للبرهنة والتعليل، وتدبير الدنيا مرجعيته الإنسان - بالعقل والتجربة - دون رعاية أو تدبير أو تدخل من السماء - هكذا استندت العلمانية في تأسيس (دنيويتها) على التصور الأرسطي لنطاق عمل الذات الإلهية - فهو مجرد خالق.. فرغ من الخلق.. وانحصرت عنايته بذاته، دونما رعاية أو تدبير للمخلوقات - كصانع الساعة، الذي أودع فيها أسباب عملها، دون حاجة لوجوده معها وهي تدور!..

وساعد العلمانية على الانتصار لهذه النزعة، التصور المسيحي لعلاقة الدين بالدولة، فهو تصور يدع ما لقيصر لقيصر، ويقف بالدين عند خلاص الروح ومملكة السماء، دون أن يقدم شريعة للمجتمع والدولة، الأمر الذي جعل (سجن) الدين في الكنيسة.

ص: 905

هكذا نشأت العلمانية، في سياق التنوير الوضعي الغربي، لتمثل عزلا للسماء عن الأرض، وتحريرًا للاجتماع البشري من ضوابط وحدود الشريعة الإلهية، وحصرًا لمرجعية تدبير العالم في الإنسان، باعتباره (السيد) في تدبير عالمه ودنياه.. فهي ثمرة عقلانية التنوير الوضعي، الذي أحل العقل والتجربة محل الله والدين (1) .

وسرت عدوى هذا الاتجاه وامتدت إلى الشرق الإسلامي، وحمله الذين درسوا من أبناء المسلمين في مؤسسات التعليم العلمانية، الذين انبهروا بتقدم الغرب في مجال العلوم الطبيعية، وظنوا أن مرد ذلك هو فصل الدين عن الدنيا، وأخذت المحافل الماسونية والأحزاب والجمعيات ذات الاتجاه الغربي اللاديني تنشره بين أبناء المسلمين بكل ما أوتوا من وسيلة دعائية وإعلامية وتعليمية.

وزحفت العلمانية بقوة تنتشر بين المسلمين مع جيوش المستعمرين الغربيين ومدارسهم العلمانية، ومن معهم من المستشرقين.

وقد ظهرت العلمانية في ظل حكم (كمال أتاتورك) في تركيا بشكل صارم وعنيف، وكشفت عداءها الشديد للإسلام.

ثم ظهرت في كثير من بلدان العالم الإسلامي باسم فصل الدين عن السياسة، وأنه لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين.

وما تزال تظهر لهم تطبيقات في معظم بلدان العالم الإسلامي، ولو لم تحمل هذه البلدان شعار العلمانية بشكل سافر (2) .

(1) معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام، د. محمد عمارة، ص25.

(2)

كواشف زيوف، عبد الرحمن حبنكة، ص161 - 166.

ص: 906

كيف دخلت المبادئ العلمانية إلى المجتمع المسلم؟

وإذا كانت غزوة بونابرت (1769 - 1821م) لمصر (1213هـ/1798م) قد مثلت بداية الغزوة الاستعمارية الغربية الحديثة لوطن العروبة - قلب العالم الإسلامي - بعد أن التف هذا الاستعمار حول هذا العالم - عبر أربعة قرون! - فإن هذه الغزوة قد تميزت عن سابقتها الصليبية (489 - 690هـ، 1096 - 1291م) باستهدافها احتلال العقل، واستبدال الفكر، وتغيير الهوية - مع احتلال الأرض، ونهب الثروة، واستعباد الإنسان!.. فكانت العلمانية واحدة من الوافد الغربي في ركاب الغزاة.. وللمرة الأولى تترجم الكلمة الفرنسية (Laique) بكلمة (علماني) في المعجم الفرنسي العربي الذي صدر سنة 1828م، الذي وضعه (لويس بقطر المصري) الذي خدم جيش الاحتلال الفرنسي بمصر، ثم رحل معه، ليدرس العامية المصرية في مدارس باريس!!.. ترجمت (اللائكية) بالعلمانية، من (العلم) نسبة إلى (العالم) باعتباره (الدنيا) المقابلة (للدين) .

وفي كل موقع من بلاد الإسلام قامت فيه للاستعمار الغربي سلطة ودولة، أخذ هذا الاستعمار - شيًا فشيئًا - يحل النزعة العلمانية في تدبير الدولة وحكم المجتمع وتنظيم العمران محل (الإسلامية) ، ويزرع القانون الوضعي العلماني حيثما يقتلع شريعة الإسلام وفقه معاملاتها..

ففي الجزائر وتونس، أخذ الاستعمار الفرنسي في إحلال القانون الوضعي العلماني محل الشريعة الإسلامية وقانونها، وكذلك صنعت إنجلترا بمصر بعد أن احتلتها.. وعن هذا الغزو القانوني بالوافد العلماني يحدثنا عبد الله النديم (1261 - 1313هـ، 1845 - 1896) فيقول: (إن دولة من دول أوربا لم تدخل بلدًا شرقيًّا باسم الاستيلاء، وإنما تدخل باسم الإصلاح وبث المدنية، وتنادي أول دخولها بأنها لا تتعرض للدين ولا للعوائد،

ثم تأخذ في تغيير الاثنين شيئًا فشيئًا.. كما تفعل فرنسا في الجزائر وتونس، حيث سنَّت لهم قانونًا فيه بعض مواد تخالف الشرع الإسلامي، بل تنسخ مقابلها من أحكامه، ونشرته في البلاد، واتخذت لتنفيذه قضاة ترضاهم، ولما لم تجد معارضًا أخذت تحول كثيرًا من مواده إلى مواد ينكرها الإسلام، توسيعًا لنطاق النسخ الديني، ولم نلبث أن جاريناها، (في مصر) وأخذنا بقانون يشبهه) (1) .

(1) معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام، د. محمد عمارة، ص26 - 27.

ص: 907

لقد أدرك الاستعمار أنه لا يمكن أن يستمر ما لم يغير البنية الثقافية والتشريعية في الشعوب، فظهر الاستشراق خادمًا للاستعمار، وبدأت مرحلة التدليس وتشويه صورة الإسلام بإثارة شبهات مكشوفة. وقد وقف المسلمون من الاستشراق موقف المتحفز المستريب.

فبالرغم من الهزيمة العسكرية والسياسية للعالم الإسلامي إلا أنه لم يُهزم في النواحي الشرعية، وظل العلماء صامدين محافظين على منهجهم العلمي في شتى العلوم الإسلامية:(القرآن - السنة - الفقه وأصوله) في صمود يُضرب به المثل. فظل ضمير الأمة وهويتها ثابتًا، وإن لم يتمكن العلماء من الانتصار إلا أنهم انتصروا في المحافظة على هذا التراث للمؤمنين الصادقين، ولو ترك المجال للمستشرقين لانتشر الفساد والإفساد وعمت البلوى.

وبعد ذلك رأى الاستعمار أن يغرس هذه الأفكار في بعض أبناء جلدتنا، وهم التيار الذي انطلت عليه أفكار الاستشراق والعلمانية، فبدأت في الهند حركة (أحمد خان) التي قامت على الافتتان بالعلم الطبيعي، والتي ألغت القبول بالمعجزات والغيبيات وخوارق العادات، وجعلت النبوة غاية تحصل وتكتسب - وهذا ما نجد ترديده بعد أكثر من مائتي عام لدى حسن حنفي حول النبوة، وكونها درجة أعلى من الكهانة -.

وتلقف بعده آخرون هذه الفكرة، وأخذت تروج وتروج حتى وجدنا مَن يدعونا إلى تتبع خطوات أوروبا حذو النعل بالنعل حلوها ومرها، كما ورد في كتاب (مستقل الثقافة) لطه حسين، وأشرب هؤلاء الأقوام هذه الفكرة في قلوبهم، فنجد أنهم في تزايد مستمر، وملكوا من الأبواق ووسائل الإعلام ودور النشر وغيرها ما يبثون بواسطته هذه الأفكار المسمومة، فتارة تلميح وتارة تصريح، إلى أن بلغ اليوم السيل الزبى، فبدؤوا بالتشكيك في العلماء وقذفهم بأبشع الأوصاف لفصل الناس عن علمائهم، ثم انتقلوا إلى التشكيك في رواة الأحاديث، ثم انتقلوا إلى التشكيك في الصحابة، ثم وصلوا إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم، فمنهم من ادَّعى أنه جاء ليؤسس الدولة الهاشمية أو الدولة القرشية، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل اتهم بعضهم القرآن الكريم بالفوضى (محمد أركون) .

ص: 908

أليست هذه خطوات بروتوكولات حكام صهيون والشيوعية والماسونية؟!

ولو عدنا إلى مناهج هؤلاء لم نجد ثمة فرقًا بينها وبين المناهج المادية الصرفة، سواء نظرية (فرويد) أو (دارون) صاحب نظرية النشوء والارتقاء، وأصحاب نظريات علم الاجتماع أمثال: ماركس ونيتشه

وجعلوا مناهج هؤلاء حكمًا على المناهج الإسلامية دون أن يبينوا لنا ما هو خطأ المناهج الإسلامية بنظرة موضوعية فاحصة، فقللوا من شأن علم الجرح والتعديل، ولم يأتونا ببديل، ونالوا من علم أصول الفقه دون بيان سبب، وتمسكوا بكتب التاريخ التي لا يصمد منها شيء أمام مناهج المحدثين، وأخذوا الروايات الواهية، والإسرائيليات، وتركوا صحيح الكتاب والسنة، وظنوا بذلك أنهم علماء ومجتهدون. وفي الحقيقة إننا نواجه حقبة زمنية تتكالب فيها علينا الأمم في شتى مناحي الحياة، وليس أمامنا إلا أن نتارص صفًّا واحدًا للدفاع عن ديننا، فنحن نواجه أشرس غزو فكري من الداخل والخارج.

التمهيد للعلمانية في البلاد العربية:

يدعي بعض العلمانيين أن الإسلام جاء استجابة لأوضاع تطورت داخل المجتمع العربي، سواء كانت اقتصادية أو بسبب قوة الشعور القومي، والتي اقتضت توحيد الديانات، واعتبرت عمل الحنفاء كان لتزكية هذا الاتجاه، بل وحاولت قطع علاقة الأحناف بسيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، بل والتشكيك في وجوده، ونسوا أن الرسالة (موجهة) للناس كافة، وأن نزول القرآن بلغة العرب ليس لسبب قومي بقدر ما هو لخصائص اللغة العربية، التي قال عنها العلامة عبد الحميد الفراهي الهندي:

(وكانت العرب على غاية قصوى في تأثرهم بالكلام) .

إلى أن يقول:

(وشدة تأثير أقوالهم، فكأن كلامهم يحمل روحًا منهم، وكأن السامع يتأثر له من وجهين: من قوة المتكلم ومن اعتيادهم التأثير.. إلى أن يقول: فكان قولهم وسمعهم من القوة والإصابة كضربة سيف مرهف)(1) .

وبالرغم من هذه الأقوال المنصفة يحاولون تضخيم تاريخ الجاهلية، وتصوير التاريخ الجاهلي بشكل حضاري، وأن التطور الطبيعي كان سيؤدي بالحتم إلى نفس المكانة التي نالوها بالإسلام، بل ادعى بعضهم أن الجاهلية هي جذور الشريعة (محمد سعيد عشماوي - خليل عبد الكريم)، ولكن لا غرابة فعلي ناصر الدين يقول:

(القومية بالنسبة إلينا نحن القوميون العرب دين له جنته وناره، ولكن في هذه الدنيا)(2) .

ويقول عمر فاخوري: لا ينهض العرب حتى تصبح العربية أو المبدأ العربي دينًا يُغار عليه كما يغار المسلمون على القرآن الكريم، والمسيحيون على إنجيل المسيح الرحيم (3) .

(1) القومية والعلمانية، د. عدنان زرزور، ص81.

(2)

القومية والعلمانية، د. عدنان زرزور، ص98.

(3)

القومية والعلمانية، ص98 - 99.

ص: 909

العلمانية والمجتمع الإسلامي والعربي:

لقد نشأ المذهب الإلحادي العلماني في الغرب، فالظروف تختلف تمامًا عن ظروف العالم الإسلامي، لقد جاء ولم تكن ثمة تعاليم أو شريعة، ولقد جاء وهنالك طبقة لها مميزات منقطعة النظير، سواء دنيوية أو أخروية، عبر عنها القرآن الكريم بعبارة بليغة بقوله تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]، وحينما قال عدي بن حاتم رضي الله عنه للمصطفى صلى الله عليه وسلم: إنا لسنا نعبدهم، قال:((أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟)) ،

فقال: بلى. قال: ((فتلك عبادتهم)) .

رواه أحمد والترمذي.

إذن فقد كانت عبادة الطبقة الكهنوتية بهذا المفهوم موجودة، ولما كانت النصرانية لا تمتلك شريعة للعمران الدنيوي بشكل مجمل، وبالتالي تعاليم تنظم علاقة الإنسان ببقية المخلوقات، فلم تكن هنالك تعاليم اقتصادية أو اجتماعية أو نفسية أو تربوية، فقد انبثقت هذه التعاليم من التسلط الكهنوتي وأضفت على تعاليمها قدسية الدين، الأمر الذي أوقف التطور والتقدم في جميع نواحي العلوم، فدخلت أوروبا عصر الظلمات.

فهل واجهت العلمانية في ديار المسلمين ما واجهته في أوروبا؟ حينما قدم الاستعمار إلى ديار المسلمين لم يجد فراغًا تشريعيًّا، ولم يجد فراغًا خلقيًّا، ولم يجد فراغًا روحيًّا، ولم يجد فصلا بين الدنيا والآخرة، ولم يجد فصلا بين الدين والعلم، ولم يجد فصلا بين الدين والدولة، ولم يجد فصلا بين الروح والجسد، ولم يجد فصلا بين الفرد والمجتمع، ولم يجد أسرارًا وغموضًا في الدين، ففي الإسلام لا توجد أسرار، ولم يوجد تحقير للعقل.

وللدلالة على ذلك نقارن بين ما قام به القديس (انسلم) عام (1033 - 1109) رئيس أساقفة كنتربري، فيقول:

(يجب أن تعتقد أولًا بما يُعرض على قلبك بدون نظر، ثم اجتهد بعد ذلك في فهم ما اعتقدت، فليس الإيمان وهو الوسيلة المفردة، في حاجة إلى نظر العقل، والكون وما فيه لا يهم المؤمن أن يجيل فيه نظره)(1) .

(1) الإسلام بين التنوير والتزوير، د. محمد عمارة، ص28 - 29.

ص: 910

فلنقارن بين هذا القول وقول علماء المسلمين، فمثلا الشيخ ابن تيمية ألف كتابًا أسماه:(درء تعارض صحيح المعقول مع صحيح المنقول) وهذا العنوان كافٍ لإبراز قيمة العقل في الإسلام، ونجد الإمام الغزالي يقول:

(فمثال العقل البصر السليم عن الآفات والأدواء، ومثال القرآن الشمس المنتشرة الضياء، فأخلق بأن يكون طالب الاهتداء المستغني بأحدهما عن الآخر في غمار الأغبياء، فالمُعرِض عن العقل مكتفيًا بنور القرآن مثاله المتعرض لنور الشمس مغمض الأجفان، فلا فرق بينه وبين العميان، فالعقل مع الشرع نور على نور

) (1) .

ويقول الإمام محمد عبده:

(أول أساس وضع عليه الإسلام هو النظر العقلي) ، فنحن نؤمن بالله سبحانه وتعالى بالعقل، فإذا آمنا بالله حقًا وجب اتباع الشرع الذي أنزله الله، فلا تعارض بين العقل والنقل، وإنما توهم التعارض ينشأ ممن يزعم أن الهوى عقل، وممن لا يحيط الإحاطة التامة بآيات القرآن وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وممن ينظر فقط من زاوية واحدة فالإسلام كل لا يتجزأ.

في مثل هذا الجو وحينما أصرت الدول الاستعمارية على اعتبار أن ما صلح لهم بالضرورة يصلح لنا؛ اصطدمت بهذه العقيدة الأكثر شموخًا من عقائدهم الدنيوية أو الدينية، فروجت لها بكافة الأساليب، سواء باحتضان فئات من المسلمين وتعليمهم هذا الاتجاه، ثم إيصالهم إلى مراكز حساسة، خصوصًا في القنوات الثقافية والإعلامية، للتدليس على الناس بأن هذا هو طوق النجاة وطريق الحضارة للتخلص من التخلف، ففرضت الاتجاهات العلمانية سواء المعتدلة أو المتطرقة المغالية، فحصل الاصطدام الذي أدى إلى الازدواجية في نفسية المؤمن، فإذا لم يتواءم الإنسان مع ذاته ومعتقداته فأي حضارة سيبني، وإن لم يكن متوائمًا مع ذاته فكيف يتواءم مع مجتمعه؟ ثم وجدت فئات مختلفة من المسلمين، فئة رفضت بشدة، وفئة استسلمت، وفئة حاولت التوفيق، ولكن مع ازدياد الضنك الاقتصادي والاجتماعي والسياسي تفجر الرفض العنيف داخل المجتمع الإسلامي، وظهرت موجات التطرف، فمن المسؤول عن ظهور هذه الاتجاهات؟

(1) الاقتصاد في الاعتقاد، نقلا عن الإسلام بين التنوير والتزوير، د. محمد عمارة، ص30 - 31.

ص: 911

أليسوا هم مَن أوجد التطرف؟ ليس هذا فحسب، بل ينسون فعلتهم ثم يشيرون إلى أن الإسلام غير قادر على تمثل الحضارات، وأن الإسلام معيق للتطور، وهي دعوة يدحضها الواقع.

فالدولة الإسلامية التي التزمت المنهج العلماني المغالي (تركيا) والتي تدخلت حتى في زي الناس وحريتهم في العبادة وتعليم القرآن، وظنت أنها بمجرد خلع الطربوش ولبس البرنيطة، وخلع الحجاب وتقصير الثياب تأخذ بأسباب الحضارة، نجد أنها بعد أكثر من (50) عامًا من تطبيق هذا المذهب لم تقدم أي شيء في شتى المجالات الاقتصادية والتقنية والحضارية والثقافية، بالرغم من استخدام الحرف الأوروبي وإلغاء الحرف العربي، وبالرغم من الاستسلام الكامل للمذهب العلماني، إلا أن أوروبا مازالت ترفضها ولا تعتبرها منها بالرغم من أن إخلاصها للعلمانية كان أشد إخلاصًا من الأوروبيين للعلمانية.

وتثور اليوم صيحات عن الصدام الحضاري، ولأول مرة في التاريخ نسمع باصطدام حضاري، فالحضارات المادية لا تتصادم ولكن تتكامل، فالعلم حقيقة علمية تُكتشف وتُبنى عليها حقيقة أخرى وهكذا.

فالاصطدام إذن ليس صدامًا حضاريًّا، وإنما هو صدام مفتعل بين من يرغب في فرض نموذجه على الآخرين، وفرض الدواء الذي قد يناسب جسمه على من لا يناسبه هذا الدواء.

وحينما يقولون ويحتفلون بالتنوير الذي أتانا مع حملة نابليون، فإن كان ثمة تنوير فقد كان عندهم وبالنسبة لهم، أما في تلك العصور فكنا نعيش أزهى فترات حياتنا، فإن كان الدين عندهم كما قال (فرانسيس بيكون) :(الدين يحد من كل ألوان المعرفة)(1) ، فالدين عندنا يفتح جميع أبواب المعرفة.

فإذا لم يكن لديهم وحي مقدس، واعتبروا أن الطبيعة هي الوحي المقدس، فوحينا ولله الحمد محفوظ موثق لا يتعارض مع العقل أو المنطق.

(1) الإسلام بين التنوير والتزوير، د. محمد عمارة، ص22.

ص: 912

فإذا كان (هوبس) يقول: (ليس في الوجود إلا ذرات في فراغ)(1)، فنحن نقول: الله واجب الوجود، خلق جميع المخلوقات، فحتى (فولتير) حينما عاد إلى شيء من صوابه في آخر أيامه دعا إلى دين وقال:(إن الطبيعة بأسرها تصيح فينا إنه موجود فعلا)(2) .

فإذا كان التنوير الذي يشيرون إليه إبان الثورة الفرنسية، وقالوا إنهم أنزلوا الله من ملكوته مع إنزالهم أسرة البدبون عن عرشها (الحكام) فنحن لم نعبد قط حاكمًا.

وبعد هذا فليفعل العلمانيون ما شاؤوا أن يفعلوا، فالإيمان مغروس في قلوب المسلمين وفي أرضهم، قد يضعف المسلمون ولكن لا يضعف الإيمان وتعلمنا من التاريخ عِبَرًا كثيرة.

وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ} [النساء: 102] .

الارتباط بين العلمانية والدراسات الاستشراقية:

الكاتب (عبد الهادي عبد الرحمن) في كتابه (سلطة النص) ، يتجه للدفاع عن ظاهرة الاستشراق، معتبرًا أنه لا شيء يمنع الغرباء من نقد تراثنا؛ لأنهم بذلك يكشفون لنا عيوبنا فنعمل على إصلاحها وتجاوزها، فيقول:

(ومن هذا الحق العام خرجت علينا مناهج الاستشراق الجديدة تفعل فعلها في تاريخنا وتراثنا، وهناك من اعتبرها عدوة له، فانبرى يستخدم ما في جعبته من أدوات قديمة، وانبرى البعض أحيانًا بالشتائم غير متصورين بأنه من الممكن (لغريب) أن يمس مقدسهم، وكأنه ليس من المطلوب أن يأتي الآخر ليتلصص على عيوبنا ونواقصنا، أو حتى مزايانا فالبيوت أسرار) (3) .

أما (خليل عبد الكريم) فقد تبنى آراء المستشرقين في طعنه في الفتوحات الإسلامية.

ومما يؤكد أن آراء المستشرقين في الفتوحات هي التي اتبعها خليل عبد الكريم كما جاء في عباراته وتحليلاته واستنتاجاته: هذه الأراء لـ (فيليب حتّي)، وهو من كبار المستشرقين الباحثين في الحضارة الإسلامية حيث يزعم ويقول:

إن من الدوافع التي دفعت المسلمين إلى الفتح هي الجزية، فيقول:(فإن العرب في حروبهم خارج الجزيرة كانوا يعرضون على أهل الكتاب من يهود ونصارى أمرًا ثالثًا غير القرآن والسيف، هو أقرب إلى مطامع المحاربين وأصلح لهم من كلا الأمرين الأولين - الجزية)(4) .

(1) الإسلام بين التنوير والتزوير، د. محمد عمارة، ص23.

(2)

الإسلام بين التنوير والتزوير، د. محمد عمارة، ص23.

(3)

سلطة النص، عبد الهادي عبد الرحمن، ص18.

(4)

دواعي الفتوحات الإسلامية ودعاوي المستشرقين، د. جميل عبد الله مصري، ص77.

ص: 913

وها هو (خليل عبد الكريم) يؤكد هذا الهدف للفاتحين المسلمين فيقول:

(ونسلط الضوء على عجز الخبر، وهو إجهاض الغازين العرب لأهل فارس عن كرائم أموالهم، فاستدلوا عليها وعلى سائر ما في قصور كسرى وما جمعه شيرين ومن بعده من تحف وكنوز - ونهديه وأمثاله التي تبلغ مئات إلى الذين مازالوا يصدقون ما قاله ربعي، من أنهم ما أتوا إلا لهدف يتيم وهو إخراج أهل البلاد المغزوة من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد)(1) .

ومن هذا القبيل إشادة (سيد القمني) برأس المنافقين (ابن سلول) : فالكاتب يشيد بعبد الله بن أبي بن سلول الذي وصفه القرآن بالنفاق، فيصفه هذا الكاتب بالحنكة العسكرية والسياسية، والترفع عن المغانم والأنفال، حيث يقول:

هذا بينما كان (عبد الله بن أبي بن سلول) ذلك الذي تصفه كتب السيرة بأنه زعيم المنافقين، يرى غير ذلك، والجهاد عنده هو الجهاد سواء داخل المدينة أم خارجها، ولا يجد - وهو الرجل الموسر - في المغانم رغبة، قدر ما كانت نظرته تقدم على رؤية تعمل الخبرة القتالية، والحكمة العسكرية) (2) .

أهداف العلمانيين ووسائلهم:

انتشر في صفوف الأجيال الحديثة من أبناء المسلمين الكثير من الأفكار المشوهة عن الإسلام وتاريخه، ولا شك أن هذه الأفكار من آثار مكايد المستعمرين والمستشرقين والملحدين أعداء الإسلام، ومن ورائهم الكيد اليهودي الذي يقف دافعًا ومحركًا لها.

(1) الصحابة والصحابة، خليل عبد الكريم، ص258.

(2)

حروب دولة الرسول (1) ، سيد محمود القمني، ص136.

ص: 914

لقد وفد هؤلاء إلى ديار الإسلام محملين بمهمات عديدة لعل أهمها:

1 -

هدم الإسلام في عقيدته وعباداته ونظامه.

2 -

تشويه صورة الأمة الإسلامية وتاريخها بالافتراءات، وتزوير الحقائق وإلقاء الشبهات.

3 -

خداع الشعوب الإسلامية بربط صور التقدم الحضاري والمدني بهدم الإسلام، وربط صور التخلف بالتمسك بالإسلام.

ولتحقيق تلك المهمات اتبعوا وسائل متعددة منها:

1 -

تزيين الأفكار التي يريدون غزو المجتمع المسلم بها لإقناع أبناء الإسلام بأنها نافعة ويجب اتخاذها منهجًا لحياتهم.

2 -

تشويه عقائد المسلمين وأفكارهم لتنفير أبناء المسلمين منها وتقبيح صورة الإسلام في نفوسهم (1) .

وللمقارنة بين تلك المبادئ وبين ما يعتمد عليه علمانيو العصر لابد لنا من الوقوف على المغالطات الجدلية التي يلجأ إليها الملحدون من شيوعيين وماسونيين ويهود مستشرقين:

1 -

تعميم أمر خاص: والمغالطة بالتعميم الباطل تنسب إلى بعض أفراد العام ما ليس له من أحكام بغية التضليل.

ويستطيع المضللون التأثير على جماهير الناس بهذه المغالطات، لأن من طبيعة هذه الجماهير أن تصدر أحكامًا تعميمية، وأن تقبل أحكامًا تعميمية، متى شاهدت أمثلة مطبقة على بعض أفراد العام، وذلك في نظراتهم السريعة السطحية وغير العلمية، وهي النظرات التي ليس فيها أناة، ولا عمق، ولا بصيرة، لا تتبع ولا استقصاء، ولا منهجية برهانية.

(1) أجنحة المكر الثلاثة، عبد الرحمن حبنكة الميداني، ص37 وما بعدها.

ص: 915

وسنجد أمثلة على ذلك في أقوال علمانيي اليوم.

2 -

تخصيص أمر عام: وذلك بالنفي عن بعض أفراد العام ما له من أحكام بغية التضليل.

3 -

التدليس: وهو ضم زيادات وإضافات ليست في النص أو الموضوع أو البحث الأصلي مغالطة وتضليلا.

4 -

حذف ما يغير حذفه المعنى المراد، ومنه الاقتصار على ذكر بعض النص.

5 -

التحريف أو التصحيف في النص: إذا كان ذلك يغير المعنى، ويخدم غرض المغالط المحتال.

6 -

التلاعب في معنى النصوص لإبطال حق أو إحقاق باطل.

7 -

كتمان نص أصلي أو أقوال صحيحة، وعدم التعرض لها مع العلم بها (1) .

وكل هذه النقاط سنجدها في النماذج التي سنوردها لاحقًا من أقوال علمانيي العصر.

مظاهر العلمانية:

وقد لبست العلمانية رداءين:

أحدهما: يتظاهر بالحياد تجاه عقائد الدين وعباداته المحضة، وما أرادوا حصر الدين فيه واعتبروه من دائرة تخصصه، ويتظاهر بأنه لا يريد إلغاء الدين إلغاء كليًّا، إنما يريد حصره في مجالات تخصصه، أما تدخله في شؤون الحياة الدنيا فهو تدخل يفسدها، ويعوق مسيرتها وتقدمها وارتقاءها.

ويزعم لابسوا هذا الرداء - كذبًا وافتراء على الدين الحق - أن تعاليم الدين في شؤون الحياة غير صالحة، لأنها غير علمية ولا عقلية.

(1) كواشف زيوف، عبد الرحمن حبنكة، ص123 وما بعدها.

ص: 916

وثانيهما: يعلن حربه وعداءه للدين كله، ويسعى بكل ما أوتي من حيلة وقوة لإلغائه إلغاء كليًّا، وجعل المادية ومفاهيم التطور الذاتي للكون والإلحاد بالله عز وجل، والكفر بكل القيم الدينية، هي العقيدة السائدة في كل المجتمعات الإنسانية.

فهي مع تظاهرها بهذا الحياد النسبي الجزئي تشجع الدراسات الفلسفية المعادية للدين وتتبناها، وتشجع المذاهب الفكرية القائمة على الإلحاد والكفر بكل الأديان وتتبناها.

فالعلمانية شعار يتستر بالعلم، وبالتزام ما تثبته الحقائق العلمية، ويوحي ضمنًا أو يعلن صراحة أن الدين يتناقض مع العلم.

مخططات العلمانيين:

ولو عدنا إلى مخططات أعداء الإسلام لنأخذ منها مثالا للوثائق التي تؤكد عداءهم للدين وكيدهم له، فمما ورد في وثيقة للحركة الشيوعية:

1 -

الحيلولة دون قيام حركات دينية في البلاد، مهما كان شأنها ضعيفًا، والعمل الدائم بيقظة لمحو أي انبعاث ديني، والضرب بعنف لا رحمة فيه لكل مَن يدعو إلى الدين ولو أدى إلى الموت.

ص: 917

2 -

تشجيع الكتَّاب الملحدين، وإعطاؤهم الحرية كلها في مواجهة الدين، والشعور الديني، والضمير الديني، والعبقرية الدينية، والتركيز في الأذهان على أن الإسلام انتهى عصره - وهذا هو الواقع - ولم يبقَ منه اليوم إلا العبادات الشكلية التي هي الصوم والصلاة والحج وعقود الزواج والطلاق، وستخضع هذه العقود للنظم الاشتراكية.

3 -

قطع الروابط الدينية بين الشعوب قطعًا تامًا، وإحلال الرابطة الاشتراكية محل الرابطة الإسلامية، التي هي أكبر خطر على اشتراكيتنا العلمية.

4 -

تحطيم القيم الدينية والروحية، بإظهار ما فيها من خلل وعيوب، وتحذير للقوى الناهضة.

5 -

نشر الأفكار الإلحادية، بل نشر كل فكرة تضعف الشعور الديني، والعقيدة الدينية (1) .

ومما جاء في بروتوكولات حكام صهيون:

(لا تتصوروا أن كلمتنا جوفاء، ولاحظوا هنا أن نجاح (داروين) و (ماركس) و (نيتشه) ، والأثر غير الأخلاقي لاتجاه هذه العلوم في الفكر الأممي سيكون واضحًا لنا على التأكيد

) .

(يجب علينا أن ننتزع فكرة الله ذاتها من عقول الأميين (الجوييم = غير اليهود) وأن نضع مكانها عمليات حسابية ورغبات مادية

) (2) .

فإذن هذا مخطط مرسوم منذ أمد بعيد

وبعد هذه الجولة السريعة في أفكار الماسونية والشيوعية سنجد ارتباط تلك المبادئ والدعوات التي يطلقها العلمانيون اليوم، كما سنجد ذلك من خلال الأمثلة التي ستطرح ضمن هذا البحث.

(1) الكيد الأحمر، عبد الرحمن حبنكة، ص53 - 54.

(2)

الكيد الأحمر، ص64 - 65.

ص: 918

مناقضة العلمانية للفطرة الإنسانية:

- إن هذه الموجة التي تجابه الإسلام متمثلة في المذاهب الإلحادية كالشيوعية والماسونية والعلمانية تجعل الدين عدوًّا لها، ولذلك فهي تخطط لنسف الأديان جميعها، وهذا ما يتنافى مع الطبيعة الإنسانية وبنية المجتمعات، إذ لا يمكننا أن نتصور وجود أمة بغير دين مخالفين الطبيعة الإنسانية المفطورة على الدين بشهادة علمائهم.

حيث يقول أحد المؤرخين (بلوتارك) : (من الممكن أن توجد مدن بلا أسوار وبلا ثروة وبلا آداب وبلا مسارح، ولكن لم يَرَ الإنسان قط مدينة بلا معبد، أو لا يمارس أهلها الصلاة) .

- إن تاريخ الإنسان هو تاريخ الإيمان وليس تاريخ الإلحاد

ولهذا قال بعض الباحثين: إن الإلحاد ينبعث من العقائد التي تصادم الفطرة وتعارض العقل، وتخالف العلم أو طبائع الأشياء.

والإلحاد يناقض الفطرة الإنسانية مناقضة حادة! لأن نوازع الإيمان أصيلة في النفس الإنسانية وليست عارضة. أو بعبارة أخرى: هي جزء من خلق الإنسان وتكوينه، وليست من صنع المجتمع أو التاريخ، ولذلك فإن الإنسان لو خُلي وشأنه لاختار الإيمان. ولا شك في أن الإنسان من حيث هو مخلوق فيه دلالة على الخالق جل وعلا. قال النبي صلى الله عليه وسلم:((كل مولود يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه))

ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: ((أو يسلمانه)) ،

لأن الإيمان بالله الواحد الأحد - جل وعلا - هو دلالة الفطرة والخلق الإلهي.

والإلحاد ليس عقلا أو علمًا أو منزعًا إنسانيًّا، ولكنه تكلف ومناقضة وتشويه! فإذا لاحظنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل كذلك:((أو يلحدانه))

- أو يزندقانه مثلا - أدركنا كذلك أن هذه المناقضة لا تبلغ في الغالب أو عبر العصور الإنسانية بعامة حد الخروج عن الدين، أو إلى ساحة لا يكون فيها الإنسان بغير دين.

ص: 919

وتأتي الآية التالية محكمة الدلالة على هذه النقطة، وعلى ما تجب الإشارة إليه من باب الفطرة والتدين بوجه عام، قال تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30] .

فقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وكل مكلف من بعده - بإقامة وجهه للدين، أي بأن يتجه ويلتفت تلقاء الدين ونحوه. وإقامة الوجه - كما يقول المفسرون - (هو تقويم المعتقد، والقوة على الجد في إعمال الدين) .

وهذا شاهد من الغربيين يصرح بذلك:

يقول الفيلسوف آرنست رينان: (إنه من الممكن أن يضمحل كل شيء نحبه، وأن تبطلَ حرية استعمال العقل والعلم والصناعة، ولكن يستحيل أن ينمحي التدين، بل سيبقى حجة ناطقة على بطلان المذهب المادي - الإلحاد - الذي يريد أن يحصر الفكر الإنساني في المضايق الدنيئة للحياة الأرضية) .

وجاء في معجم لاروس للقرن العشرين:

(إن الغريزة الدينية مشتركة بين جميع الأجناس البشرية، حتى أكثرها همجية وأقربها إلى الحياة الحيوانية، وأن الاهتمام بالمعنى الإلهي وبما فوق الطبيعة هو إحدى النزعات العالمية الخالدة للإنسانية)(1) .

إن التصور الإسلامي لنطاق عمل الذات الإلهية يتعدى حدود الخلق للمخلوقات، إلى حيث يكون الله سبحانه وتعالى أيضًا الراعي والمدبر لكل عوالم وأمم وعمران المخلوقات.

(1) القومية والعلمانية، د. عدنان زرزور، ص103 - 109.

ص: 920

لقد سفه القرآن الكريم تصور الوثنية الجاهلية - وهو ذاته التصور الأرسطي - لنطاق عمل الذات الإلهية فهو في التصورين مجرد خالق، بينما التدبير للدنيا والعمران موكول - في الأرسطية - إلى الإنسان والأسباب المودعة في الطبيعة وظواهرها - وهو - في الوثنية الجاهلية موكل إلى الشركاء والأصنام والطواغيت.

سفه القرآن الكريم هذا التصور عندما قال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38] فجعل الخلق لله، والتدبير لغير الله تصور جاهلي مرفوض.

وفي مقابل ذلك يقدم الإسلام تصوره لنطاق عمل الذات الإلهية: خالق كل شيء.. ومدبر كل أمر.. حتى ما هو مقدور للإنسان، وداخل في نطاق قدرته وإرادته وفعله، هو فيه خليفة لله سبحانه وتعالى يدبره الإنسان، بإرادة إلهية، وتكليف شرعي.. فلله - في التصور الإسلامي - (الخلق) و (التدبير) جميعًا!.. {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [يونس: 3] {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54](1) .

العلمانية ودعوى التناقض بين العقل والدين، وبين العلم والدين:

أولًا: ادعاؤهم وجود التناقض بين العقل والدين (ولكن أي دين؟ الدين الذي كان سائدًا لديهم)، وبنوا على هذا الادعاء الباطل مقولتهم التي تتضمن ما يلي:

بما أن العقل ميزانه صحيح يدرك الحق حقًّا والباطل باطلا ويكشفهما، فالدين هو الذي ينبغي طرحه وعدم الاعتماد عليه. ويتجرأ الوقحون منهم فيقولون:

(إن الدين خرافة وأوهام من صناعة أوهام الناس، أو من اختلافاتهم لخدمة مصالحهم) .

(1) معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام، د. محمد عمارة، ص32 - 33.

ص: 921

ثم أخذوا يمجدون العقل والمذهب العقلي، وراجت في هذا الاتجاه كلمة (العقلانية) .

ثانيًا: ادعاؤهم وجود التناقض بين العلم والدين، بعد أن حصر الاصطلاح الغربي الحديث اسم (العلم) في المعارف التي تقدمها وسائل الملاحظة والتجربة الحسيتين، والتطبيقات ونتائجها، وحصر اسم (المنهج العلمي) بهذه الوسائل.

وبنوا على هذا الادعاء الباطل مقولتهم التي تتضمن ما يلي:

بما أن الوسائل العلمية الإنسانية تكشف عن الحقائق بيقين، نظرًا إلى ما تشتمل عليه من المشاهدات والإدراكات الحسية، والتجارب والتطبيقات، فالدين هو الذي ينبغي طرحه وعدم الاعتماد عليه، ويجب الأخذ بالمناهج والوسائل العلمية الإنسانية. ويتجرأ الوقحون منهم فيقولون: إن الدين خرافة وأوهام من صناعة أوهام الناس، أو من اختلافاتهم لخدمة مصالحهم، أو إن الدين أفيون الشعوب.

ثم أخذو يمجدون العلم - وفق مصطلحهم الحديث - والمذهب العلمي التجريبي، ويرفضون الدين رفضًا كليًّا، أو يعزلونه عن شؤون الحياة، ويحصرونه في دوائر صغيرة جدًا، غيبية أو تعبدية، وراجت في هذا الاتجاه كلمة (العلمانية) .

* ولتثبيت دعوى التناقض بين العقل والدين، وبين العلم والدين، والاقتناع بأن ذلك واقع فعلًا؛ استغل أعداء الدين ما يلي:

1 -

أغاليط رجال الكنيسة النصرانية في مجالات العلوم الكونية، وتفسيرات ظاهرات العالم المادي، وفي المجالات الفكرية الفلسفية، والتي نسبوها إلى الدين وأضافوها إليه افتراء أو جهلا.

2 -

أغاليط اليهود وتحريفاتهم وافتراءاتهم على دين الله، والتناقضات الموجودة في التوراة من حيث التواريخ والحقائق العلمية.

3 -

خرافات أديان أخرى محرفة عن أصولها المنزلة.

4 -

خرافات أوضاع بشرية سمت أنفسها أديانًا وهي لا تمتُّ بصلة إلى دين رباني، لا في تفريعاتها ولا في أصولها.

5 -

أغاليط مفسري وشراح النصوص الدينية، وما يجزمون بنسبته إلى الدين من دلالات نصوص دينية غير ثابتة قطعية، ومن كتب غير محققة كالتواريخ.

وهكذا انطلق هؤلاء من المذهب المادي المعتمد على التجربة الحسية، وحاولوا تطبيقه على التاريخ والعلوم الإنسانية، وهذا خطأ شديد لأن مناهج البحث تختلف من علم لآخر.

وهذا هو أساس خطئهم سواء عن قصد أو عن سوء نية.

ص: 922

وللحقائق العلمية طرق إثبات أخرى، وطرق إثبات الحقائق العلمية في الفكر الإسلامي تتلخص بما يلي:

1 -

المعرفة المباشرة: وهذه تكون بالإدراك الحسي، ولو بوسائل الأجهزة والآلات والأدوات الصناعية أو الطبيعية.

2 -

الاستدلال العقلي بمختلف طرقه الاستنتاجية والاستنباطية، وهو منهج إدراك الغيبيات التي لا تخضع للتجريب، والأمور الوجدانية.

3 -

الخبر الصادق، وهو قسمان:

- إنساني يعتمد على الناس في نقل الأخبار والمعارف المختلفة، بعضهم عن بعض (وهو التواتر المفيد للعلم) .

- عن طريق الوحي الرباني الذي يختص الله به المصطفين من عباده، وثقة الناس بمن يبلغ من الناس عن الوحي مباشرة، مشروطة بأن يكون مؤيدًا من الله بالمعجزة، فالمعجزة للنبي بمثابة الشهادة من الله بالصدق فيما يبلغ عنه.

* وعلى هذا فالمقابلة ليست بين الدين والعلم، ولكن بين طرق اكتساب العلم الذي يأتي به الدين، وطرق اكتساب العلم بالوسائل الإنسانية الحسية أو العقلية أو الخبرية، وهذا من أكبر أخطائهم المنهجية.

ولا غرو أن الوسائل الإنسانية الحسية أو العقلية أو الخبرية لاكتساب المعارف، هي منحة من الله لعباده، حتى يستخدموها في اكتساب العلوم المختلفة، ولذلك كان الإنسان مسؤولا عنها عند الله في مجال اكتساب العلم، والدليل على ذلك قول الله عز وجل في سورة الإسراء 17:

{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (1) .

* وبهذه المناسبة نتذكر أن النصرانية لما سقطت في طائفة من المفاهيم الباطلة الدخيلة على أصل الدين، والمخالفة له، والمناقضة لأصول العقل والعلم الصحيح، حاولت أن تتخلص من ورطتها هذه بمقولتها المشهورة:

(الدين لا يخضع للعقل)، وأطلق علماؤهم بين أتباعهم كلمتهم المأثورة:

(أطفئ مصباح عقلك واعتقد وأنت أعمى) . وحرموا التفكير والنظر في مسائل الدين، وفرضوا عليهم التسليم الأعمى بالإله المثلث، دون مناقشة ولا نظر.

(1) كواشف زيوف، عبد الرحمن حبنكة الميداني، ص174 - 175.

ص: 923

خطؤهم في فهم جوهر الإسلام:

- إن الإسلام في المجتمعات الإسلامية هوية وذات وضمير، وليس توجها إيديولوجيًّا يمكن التخلي عنه، أو تفريغ المجتمعات الإسلامية منه؛ لأنه مرتبط بالحياتين الأولى والأخرى، وإن محاولة استلاب الإسلام من هذه المجتمعات أو استلابهم منه خطأ يقع فيه الغرب وأتباعهم من العمانيين، حتى مقولتا الصدام الحضاري ونهاية التاريخ التي ظهرت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ما هما إلا مقولتان أملتهما الغطرسة المادية الغربية وعقدة التفوق المؤقت، والتي لا يعلمون أنها مؤقتة وهي مساوية لعقدة الضعف التي يعاني منها المنسلخون عن ضمير الأمة.

لذا فالحديث عن الاتجاه الإسلامي أو الإسلاميين، يجب أن يعي الفرق الكبير بين التوجه الإيديولوجي والديني، وأن صرف أخطاء فئة من الغالين أو مَن يسمونهم المتطرفين من الخطأ سحبهما على السواد الوسطي الأعظم، والذي سماهم ربهم مسلمين ووصفهم بالوسطية.

- وأعجب ما في أمور العلمانية رفعها شعارات ولافتات، يستخدم بريقها لمصالحهم فقط، وليس لنشر العدل والمساواة.

فأين الديمقراطية حينما يتحكم اللوبي الصهيوني في قرار أعظم دولة ضد مصالح الناخب؟ وأين احترام حقوق الإنسان من حقوق اللاجئين؟ وأين حرية المرأة في اختيارها لحجابها والرجل لزيه؟ ليس هذا فحسب، بل أين حرية اختيار الإنسان لدينه وممارسته حقه في تعلم أمور دينه، بل في تعلم أساسها: القرآن الكريم.

لذا فإن الشعوب العربية والإسلامية يزداد فيها التمسك بالدين، لا يمكن اعتبار هذا التمسك أصوليًّا أو توجهًّا سياسيًّا أو حزبيًّا إنه اختيار للهوية، والمكون الأساسي لضمير المسلم، وأكبر دليل على ذلك هو بقاء الشعوب الإسلامية في الاتحاد السوفييتي على إسلامها، بل قيامها على تحفيظ القرآن لأبنائها سرًّا، وكذلك الحال في تركيا، وعندما انهار الستار الشيوعي فإذا المسلمون كما هم، وكذلك سيكون الحال في جميع المجتمعات؛ لأن الإسلام دين رباني وليس إيديولوجية بشرية.

ص: 924

ومن مفارقات الأمر أن المسلمين هم الذين يطالبون بالتمسك بحرية العقيدة، وهم الذين يطالبون بالعدل والمساواة، ولكن طالما أن هذه المبادئ ستؤدي إلى مصلحة الإسلام فلا غرابة أن تشوه صورهم بالاتهام بالتطرف والإرهاب وممارسة القمع عليهم.

- لقد دأب المستغربون من أبناء المستشرقين على ترديد عبارة أن الإسلام انتشر بقوة السلاح، مع أن مقولات الغربيين مثل غوستاف لوبون (وهو غربي) تؤكد أن الإسلام لم يفرق بين العرب والعجم، فيقول:

(إن وجود أعراق مختلفة في كافة الأراضي التي فتحها الإسلام كانت له نتيجة أخرى، وهي أن العرب اضطروا للاختلاط بالشعوب التي كانوا يعيشون بين ظهرانيها، صحيح أنهم اختلطوا بأعراق لم تكن أدنى منهم بكثير، مثل مسيحيي إسبانية، وقد كان بإمكان العرب أن يكتسبوا منهم بعض القدرات، ولكن اختلطوا بأعراق أدنى منهم بكثير، مثل شعوب آسيا وإفريقية، ولم يكن العرب إلا من الخاسرين، وفي الحالتين كان من شأن هذا التقاطع أن يؤدي في نهاية الأمر إلى تحطيم السمات التي كانت تطبع العرق العربي، إلى أن يقول:

إن جعل العديد من الشعوب المنتمية إلى أعراق مختلفة وتحمل مشاعر متمايزة عن بعضها البعض تعيش سوية، إنما هو مشروع شديد الصعوبة، ولا يمكن في أغلب الأحيان أن يكون ممكنًا إلا بفعل إكراه شديد القسوة، إلى أن يعترف أخيرًا بقوله:

والمؤسسات التي حملوها معهم إلى الجوار ثم القبول بها بسرعة شديدة جعل كافة الذين اعتنقوا الإسلام يُعامَلون من قِبَل العرب على قدم المساواة، كان ذلك هو ما ينص عليه القرآن، ولم يكن الفاتحون راغبين في خرق هذا النص

) . اهـ (1) .

فالإسلام ارتقى عن أدران القومية العرقية، لأنه رسالة إلهية إلى الإنسانية، فجعل الالتفاف حول الدين بكل ما فيه من قِيَم لا يمكن أن توصف إلا بأنها قمة إنسانية، فتجمُّع المسلمين على مفهوم حضاري وليس عرقيًّا تعصبيًّا، وعليه فإن ما يذهب إليه العلمانيون من انتشار اللغة العربية وبالتالي الإسلام كان بالإكراه مقولة مدحوضة، فقد غُزيَت هذه المجتمعات بدول وديانات وثقافات أخرى، فلماذا انخذلت وبقيت اللغة العربية وبقي الإسلام حتى بعد انحسار الدولة الإسلامية؟.

(1) القومية والعلمانية، د. عدنان محمد زرزور، ص17 - 18.

ص: 925

مرتكزات العلمانيين في دعاويهم:

1 -

هم يدعون أن الدين يجعل من رجال الدين طبقة تدعي الحكم باسم الله، فإن صح هذا الأمر في الدول غير الإسلامية فهو غير صحيح ألبتة في بلاد المسلمين، فلا توجد طبقة تسمى رجال الدين، ولا يوجد رجال كهنوت، والإسلام ليس فيه سر يتداول بين رجال الدين فقط، وليست هناك امتيازات لعلماء الدين، وإنما هنالك حقل من الدراسات يتخصص فيه العلماء باعتباره علمًا، وليست أسرارًا، لذا فهو عالم من علماء الدين شأنه شأن علماء الهندسة والطبيعة وغيرها، ولم يوجد في الإسلام كهنوت، ولم يوجد فيه تنافر بين الدنيا والدين أو بين العلم والدين، فعقيدة التوحيد الحامية لهذا الدين فصلت بين الخالق والمخلوقات، بل لطالما حث الإسلام بنصيه الأصليين (الكتاب والسنة) على التدبر والتفكر ودراسة السنن الكونية التي أبدعها الله سبحانه وتعالى، ولم يكن هنالك فصل بين السياسي وغير السياسي أمام الأحكام الشرعية، فالجميع سواسية أمام الشرع، ولم يحصل افتراق في الفقه الإسلامي بين عمل الدنيا وعمل الآخرة، فالحكم الفقهي يجري على الجميع، ولم يتولَّ العلماء السلطة والحكم من بعد عصر الخلافة الراشدة إلا في أحيان قليلة كان الخليفة فيها عالمًا بالدين (كعمر بن عبد العزيز وأبي جعفر المنصور) .

نعم، لقد كان ثمة فساد في بعض العصور في الحكم، ولكن لم يكن للفقهاء دخل في ذلك، بل لقد عانى الفقهاء والعلماء من القهر والحبس والقتل قبل عامة الناس، وإن الدراسة الفاحصة لسيرة حياة الأئمة الكبار تكشف ما عانوه، لقد ضربوا أروع الأمثال في صمودهم أمام الانحراف والتسلط، ووقوفهم إلى جانب الدين، وبالتالي إلى جانب المجتمعات.

2 -

وهم يدعون تحجر الأحكام الشرعية. وهذا أكبر خطأ يقعون فيه، بعد أن تعترف المجامع الدولية بمرونة الفقه الإسلامي، ومواكبته للتطورات العصرية وصلاحيته لكل زمان ومكان، مثل:

أ - مؤتمر القانون الدولي المقارن الذي عقد في هولندا عام 1932م: الذي اعتبر الشريعة مصدرًا من مصادر التشريع العام، واعترف أن الشريعة صالحة للتطور.

ص: 926

ب - مؤتمر المحامين الدولي بلاهاي عام 1948م: حذا حذوه.

جـ - جمعية القانون الدولي العام: اعتبرت العالم محمد بن الحسن الشيباني رائدًا أولًا للقانون الدولي العالم.

د - أسبوع الفقه الإسلامي في باريس: الذي قال في ختامه نقيب المحامين رئيس المؤتمر:

(لا أدري كيف أوفق بين ما كان يصور لنا من جمود الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي، وعدم صلاحيتها كأساس لتشريعات متطورة، وبين ما سمعته في هذا المؤتمر، مما يثبت بغير شك ما عليه الشريعة الإسلامية من عمق وأصالة ودقة وكثرة تفريع، وصلاحية لمقابلة جميع الأحداث)(1) .

ذلك أن الشريعة الإسلامية لم توضع لتحمي مصالح فئة دون فئة، كما أن الاجتهاد الإسلامي يجد شرعيته في قول الله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ

} [النساء: 83] .

وهذا ما يعطي الشريعة والفقه الإسلامي قدرة فائقة على استيعاب المتغيرات والمستجدات، ومنها القياس بشقيه الخفي والجلي، والمصالح المرسلة، والاستحسان ودرء المفاسد، بل زبدة العلم المتمثلة في القواعد الفقهية الكبرى التي لم أجد في أي قانون وضعي ما يماثلها.

3 -

وتدعي العلمانية أن الإسلام يميز بين المواطنين بسبب اختلافهم الديني مع أن الإسلام لم يجبر أحدًا على دخول الإسلام، مصداقًا لقوله تعالى:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] . بل المعاملة الكريمة التي يحظى بها غير المسلم في ديار المسلمين، وأكبر دليل عليها وجود الأقليات الكثيرة في ديار المسلمين ينعمون بحرياتهم، مما حدا بكثير من الطوائف التي عانت من محاكم التفتيش في أوروبا إلى اللجوء إلى الدولة الإسلامية.

ولم تجبر الشريعة الإسلامية في أحكام الأحوال الشخصية ولا العبادات غير المسلمين على اتباع الأحكام الإسلامية.

(1) العلمانية، محمد مهدي شمس الدين، ص103 - 105.

ص: 927

4 -

ويتهمون الإسلام بأنه عائق أمام التقدم! فمتى وقف الإسلام في وجه تقدم العلوم الطبيعية؟ ألم تبرز حضارة دامت أكثر من ثمانية قرون تحت ظل الإسلام، وأفرزت علماء كانوا حلقة وصل بين الحضارات السابقة واللاحقة؟! ويكفي للدلالة على ذلك ما اعترف به ولي عهد بريطانيا الأمير تشارلز في محاضرته الشهيرة بجامعة أكسفورد، حيث قال:

(لا يزال الغرب يعاني من الجهل الكبير بشأن ما تدين به حضارتنا وثقافتنا للعالم الإسلامي، إنه نقص نعانيه من دروس التاريخ ضيق الأفق الذي ورثناه، فالعالم الإسلامي في القرون الوسطى من آسيا الوسطى إلى شاطئ الأطلسي كان يعج بالعلماء ورجال العلم، ولكن بما أننا رأينا في الإسلام عدوًّا للغرب، وكثقافة غريبة بنظام حياتها ومجتمعها، فقد تجاهلنا تأثيره الكبير على تاريخنا) .

ثم تحدث الأمير تشارلز بعد ذلك عن عطاء الإسلام للغرب في العلوم والفلك والرياضيات والقانون والتاريخ والطب والزراعة والهندسة المعمارية والدين والموسيقى. ثم أضاف قائلًا: (كثيرة هي السمات واللمسات التي تعتز بها أوروبا الحالية، التي هي فعلا مقتبسة من إسبانيا المسلمة: الدبلوماسية، والتجارة الحرة، والحدود المفتوحة، وأساليب البحوث الأكاديمية في علم أصل الإنسان، والإتيكيت، والأزياء، والأدوية البديلة، والمستشفيات. هذه الإضافات وصلتنا من هذه المدنية العظيمة) .

(لقد أسهم الإسلام في حضارتنا التي كثيرًا ما نعتقد خطأ أنها حضارة غربية كليًّا) .

(إن الإسلام جزء من ماضينا ومن حاضرنا في جميع ميادين الجهد البشري، لقد ساعد الإسلام على تكوين أوروبا المعاصرة. فهو جزء من تراثنا وليس شيئًا مستقلا بعيدًا عنا)

وأهم ما قاله بوصفه رئيسًا للكنيسة البروتستانتية: (وأكثر من ذلك؛ فالإسلام يستطيع أن يعلمنا اليوم كيف نفهم وكيف نعيش في عالمنا المسيحي، الذي يفتقر إلى المسيحية التي فقدها، فالإسلام في جوهره يحتفظ بنظرة كلية متوازنة للكون

ترفض الفصل بين الإنسان والطبيعة، أو بين الدين والعلم، أو بين العقل والمادة، كما حافظ على وجهة نظر غيبية موحدة للإنسان وللعالم الذي يحيط بنا) (1) .

ثم هل سمعتم بأن دولا إسلامية امتنعت عن إدخال الحضارة العلمية ومنجزاتها إلى دولها؟ !.ألم تأخذ بأسباب تعلم هذه الحضارة؟!.

(1) المفترون، فهمي هويدي، ص27 - 28، دار الشروق.

ص: 928

قنطرة العلمانية من المستغربين المسلمين:

أدان الشيخ علي عبد الرزاق فكر علماء الإسلام القائل بوجوب الخلافة والإمامة وجوبًا دينيًّا.. وزعم (أن الخليفة عندهم يقوم في منصبه مقام الرسول صلى الله عليه وسلم، وينزل من أمته بمنزلة الرسول في المؤمنين.. فولايته كولاية الله تعالى وولاية رسوله الكريم.. بل لقد رفعوه فوق صف البشر، ووضعوه غير بعيد عن مقام العزة الإلهية) .

وهكذا بلغ الأمر ببعض دعاة العلمانية إلى وصف الخلافة بهذه الصفة، فأي تجنٍّ هذا على الإسلام والمسلمين؟!.

والكل يعلم أن أبا بكر رفض أن يسمى بخليفة الله، ثم استقر رأي المسلمين على تسمية الحاكم بأمير المؤمنين.. ذكر هذا الشيخ عبد الرزاق في كتاب (الإسلام وأصول الحكم) الذي ثار حوله جدل كبير، وانكشف في الوقت الحالي الأصل الحقيقي لمؤلف هذا الكتاب، وكل مَن يقرأ كتاب (الإسلام بين التنوير والتزوير) للدكتور محمد عمارة؛ يستطيع أن يقف على جلية الأمر، فيعلم أن الكتاب مبني على آراء المستشرقين وبإشرافهم، بالتعاون مع دعاة التنوير العرب، أمثال: طه حسين وغيره.

ولو عدنا إلى (سلامة موسى) الذي يكشف كل قناع في بداية القرن عن حقيقة العلمانية والتنوير المزعوم، إذ يقول:(النيل هو الذي هداهم إلى الزراعة التي هي أصل الحضارة) ، فالنيل عنده هو الهادي وليس الله.

وينقل عن (إليوت سميث) قوله:

(وكما أن الطبيعة أنعمت على المصري بالنيل يعلمه الزراعة وفن التحنيط نشأ الاعتقاد بالعالم الثاني.. وكان للنيل دخل آخر في الدين، وهو أنه جعل المصري يقدس الماء، ويعتقد أنه أصل كل شيء حي) .

- ويرى أن العقل الإنساني من مخترعات الطبيعة: (فقد اخترعت لنا الطبيعة العقل للتمييز، والحكم بين غرائزنا، ومعرفة النافع والضار في أحوال معاشنا) .

- وعن نمو الجنين يقول: (فللجنين ذاكرة تلهمه بأن ينمو على طريقة بعينها)(1) .

وكل هذه السموم التي نقلها عن ملحدي الغرب، فالدين نشأ في مصر نتيجة للجفاف، ومن التحنيط نشأ الاعتقاد بالعالم الثاني، وقصة فيضان نوح نتجت من فيضان النيل، والعقل اختراع من اختراعات الطبيعة، والجنين ينمو بسبب الذاكرة.

(1) الإسلام بين التنوير والتزوير، د. محمد عمارة، ص105 - 106.

ص: 929

إلى أن يقول: (ومن يقرأ جمهورية أفلاطون ويرى الحرية التي يتكلم بها عن الزواج، أو من يقرأ الأخلاق لأرسطو طاليس ويقف عند قوله: إن الآلهة على قدرتها لا يمكنها أن تبدل نواميس الطبيعة، يأسف لفقدان هذه الروح من الأدب العربي.. والغريب في العرب أنهم عنوا بعلوم الإغريق وطبهم، وهو أسخف ما كتبوا دون أن يعنوا بآدابهم وفنونهم)(1) .

فالآلهة لا يمكنها تبديل نواميس الطبيعة، والأشد غرابة أنه ينكر على العرب أنهم أخذوا من الإغريق علمهم وطبهم، وهو أسخف ما كتبوا في نظره، دون أن يعنوا بآدابهم وفنونهم، فما هي تلك الفنون التي يريدنا أن نأخذها؟ أهي تعدد الآلهة؟ أم الخوض فيما وراء الطبيعة بما لا ندري؟!

وإن صيحات التجديد من أتباع (سلامة موسى) وغيره يتبعونه في قوله: (ليس يُعقل أن يعيش الإنسان آلاف السنين يتعاوره التقدم المادي في جميع ما يلابسه ويزاوله، ثم يبقى الدين جامدًا لا يتطور وفق التطور المادي)(2) .

يريدون تطوير الدين وفقًا للأسس المادية، فما الأسس المادية التي يريدوننا أن نستخدمها في تطور الدين؟ وأي قانون مادي يستطيع أن يدلنا على الغيبيات؟ أو ما وراء الطبيعة؟ أو الميتافيزيقيا؟ كما يقولون.

وقد طالب (سلامة موسى) أن تكون لجنة عليا لإعادة النظر في التوراة، وتنقيحها وفقًا لمطالب الحياة الجديدة؛ فنستبدل بقصة آدم وحواء تاريخًا عن تكوين الأرض، وعن التنبؤات فصلا يكتبه السياسيون.

وبعد هذا هل يبقى دين؟ (3) .

ويصل إلى القول: بأنه كافر بالشرق ويقصد به الإسلام.

بل يحمل حملة شعواء لتحويل الثقافة العربية الإسلامية إلى المتاحف فيقول:

(إنه ليس علينا للعرب أي ولاء، وإدمان الدرس لثقافتهم مضيعة للشباب، وبعثرة لقواهم.. فيجب أن نعودهم الكتابة بالأسلوب المصري الحديث لا بالأسلوب العربي القديم.. ويجب أن يعرفوا أننا أرقى من العرب.. وليس معنى هذا تحريم درس العرب وتاريخهم وثقافتهم، فإن العرب أمة قديمة يجب أن يكون لها أثريون يدرسونها كما يدرسون آشور وبابل)(4) .

فهذا نموذج مثل قنطرة بين المستشرقين وعلمانيي العرب، فتأمل يارعاك الله.

(1) الإسلام بين التنوير والتزوير، ص107.

(2)

الإسلام بين التنوير والتزوير، ص109.

(3)

واليوم هناك طبعة جديدة للإنجيل محذوف منها ومضاف إليها، وقد طالب بعض مثقفي الأقباط البابا بإجراء تعديلات في الإنجيل المعتمد لديهم حتى يتوافق مع الأحداث التاريخية فرفض ذلك، ومن الأعجب أن بعض الجمعيات الماسونية مثل (الروتاري واللاينز) طالبوا بإقرار ثقافة السلام في المناهج التعليمية، وهذا يعني حذف جميع الآيات والأحاديث الواردة في اليهود من المقررات المدرسية، فهم يعلمون أن تحريف القرآن صعب، ولكن يحاول العلمانيون تأويل القرآن تأويلا منفلتًا، أو تعطيله بعدم تعليمه للأولاد في المدارس.

(4)

الإسلام بين التنوير والتزوير، د. محمد عمارة، ص124.

ص: 930

ويصل إلى القاعدة التي تلقفها من بعده (القمني) وغيره، حيث يصف اللغة العربية بأنها بدوية عاجزة عن وصف الحالة المدنية المعاصرة.

(إنها لغة بدوية لا تكاد تكفل الأداء إذا تعرضت لحالة مدنية راقية كتلك التي نعيش بين ظهرانيها الآن)(1) .

ونجد ترديد ذلك في كتب القمني وغيرها من امتهان للغة العربية وثقافتها، والتفريق بين المزارع صاحب الحضارة والبدوي صاحب الخيمة، وكل ذلك غمز ولمز بالأنبياء، لأنهم كانوا من الرعاة حسب تصنيفهم.

أما السيد (خليل عبد الكريم) فقد اعتبر اللغة العربية خالية من الجمال والشاعرية والفن، بل اعتبرها كغيرها من اللغات فيها الجميل والقبيح والحسن والرديء.. إلى أن يقول:

(ولعل اللغة الشاعرة تندرج تحت مثيلاتها من الادعاءات، مثل أن اليعاربة أقاموا أمجد حضارة ولديهم أعظم إسطار وأغنى أدب وأرفع شعر وأجمل فن وأثرى تراث وأعرق مدن وأقدم جامعات.. إلخ، ومبعث هذا كله مركب النقص والشعور بالدونية والجدب العلمي والانهزام الحضاري.

إنما الطريق الذي لا بديل له هو الانعتاق من ربقة المسطورات، والتفلت من هيمنة المأثورات، وفك أسر العقل والإيمان به في الصباح والمساء، كما قال أبو العلاء المعري، في الأمور كافة؛ جليلها ودقيقها، والإقبال على العلم - نعني به العلم التجريبي أو الطبيعي - وتسييده في كل المجالات

إلخ) (2) .

ولا غرابة أن تتحد الأهداف، فأول حاكم فرنسي حكم المغرب (اليوطي) ، دعا إلى الانتقال من اللغة العربية إلى البربرية، ثم إلى الفرنسية، فيقول:

(إن اللغة العربية تجر إلى الإسلام، لأن هذه اللغة تتعلم في القرآن. هذا في حين أن مصلحتنا تحتم علينا العمل على جعل البربر يتطورون خارج إطار الإسلام، ومن الناحية اللغوية يجب أن نعمل على الانتقال مباشرة من البربرية إلى الفرنسية)(3) .

فالرجل يقصد هجر العربية حتى يتم هجر اللغة العربية والقرآن، ولكن لمصلحة مَن؟ لمصلحتهم، حينما عبر قائلا: لمصلحتنا.. والتي رددها في نفس الوقت (سلامة موسى) ، فكأنها تطابقت قلوبهم فتطابقت أقوالهم، حيث يقول:

(إنه تراث لغوي يحمل عقيدة اجتماعية يجب أن نحاربها.. فالعربية ليست لغة الديمقراطية والأتومبيل والتليفون، بل لغة القرآن وتقاليد العرب..)(4) .

ويأتي بعد ذلك كتاب (الشعر الجاهلي) لطه حسين، الذي شكك ببناء الكعبة ووجود إبراهيم ورحلته إلى الحجاز مع ولده إسماعيل.. فقد طبق (طه حسين) أسلوب ديكارت في الشك، وتلقفه بعده بأكثر من خمسين عامًا علمانيو اليوم أمثال (سيد القمني وخليل عبد الكريم) في كتبهم المتفرقة.

(1) الإسلام بين التنوير والتزوير، د. محمد عمارة، ص125.

(2)

العرب والمرأة، حفرية في الإسطير المخيم، خليل عبد الكريم، ص184 - 185.

(3)

الإسلام بين التنوير والتزوير، د. محمد عمارة، ص132.

(4)

الإسلام بين التنوير والتزوير، د. محمد عمارة، ص132.

ص: 931

اتجاهات غلاة العلمانيين العرب وشبهاتهم حول الإسلام:

إن القارئ لكتب غلاة العلمانيين العرب المعاصرين يلاحظ التشابه الكبير بين ما يدعو إليه كل منهم في كتبه، وهذا يؤكد أن هؤلاء ينهلون من معين واحد.

1 -

الدعوة إلى نزع القداسة عن النصوص الدينية والتحرر من سلطتها:

نجد هذه الدعوة لدى الدكتور (نصر حامد أبو زيد) في كتابه (الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية)، حيث يقول:

(ومن هنا تكون الدعوة للتحرر من سلطة النصوص في حقيقتها دعوة إلى التحرر من السلطة المطلقة والمرجعية الشاملة للفكر الذي يمارس القمع والهيمنة والسيطرة، حين يضفي على النصوص دلالات ومعاني خارج الزمان والمكان والظروف والملابسات)(1) .

ونفس الدعوة نجدها لدى (عبد الهادي عبد الرحمن) في كتابه (سلطة النص) إذ يقول:

(لكن النفاذ إلى عمق هذا النص يحدد كيف أن السلطة النصية تثقل بكاهلها أي محاولة علمية، وهنا تقوم سلطة النص التاريخية والروحية والنفسية، بإرجاع ذلك الخط إلى نقطة الأيديولوجية مرة ثانية، وهو المحتوى نفسه الذي قال به أركون، ولكن السؤال الآن: هل الأيديولوجية حالة جبرية لا مناص منها؟ ألا يستطيع العلم أن يزاحمها ولو بخانة ضيقة اليوم قد تتسع فيما بعد؟!)(2) .

والكاتب يشير هنا إلى مقولة (محمد أركون) في كتابه (الإسلام والتاريخ والحداثة)، الذي يقول فيه:

(إذا ما استمررنا في النظر إلى القرآن كنص ديني متعال، أي يحتوي على حقيقة تجعل حضور الله حاضرًا، فإننا لا نستطيع عندئذ أن نتجنب مشاكل التفكير الثيولوجي)(3) .

2 -

الطعن في القرآن الكريم:

وذلك بإنكار أزليته واعتباره مخلوقًا متشكلا مع الواقع، أو بالتشكيك في ترتيب السور والآيات، أو بإنكار إلزامية أحكامه لجميع المسلمين، أو باتهامه بالقصور في نظام الحكم.

(1) الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، د. نصر حامد أبو زيد، ص15.

(2)

الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، د. نصر حامد أبو زيد، ص190.

(3)

الإسلام والتاريخ والحداثة، محمد أركون، ص25.

ص: 932

فالدكتور (نصر حامد أبو زيد) أكد على واقعية القرآن الكريم وتشكله بتفاعل الواقع في كتابه (الخطاب الديني)، حيث قال:

(الواقع إذن هو الأصل ولا سبيل لإهداره، من الواقع تكون النص، ومن لغته وثقافته صيغت مفاهيهمه، ومن خلال حركته بفاعلية البشر تتجدد دلالته، فالواقع أولا، والواقع ثانيًا، والواقع أخيرًا، وإهدار الواقع لحساب نص جامد ثابت المعنى والدلالة يحول كليهما إلى أسطورة)(1) .

أليس هذا بعث أقسى وأمر من القول بخلق القرآن؟ فالمعتزلة قالوا: إنه مخلوق لله. أما هؤلاء فقد جعلوه مخلوقًا للواقع.

ثم عقد مشابهة غريبة بين القرآن الكريم باعتباره (كلمة الله) ، وبين عيسى عليه الصلاة والسلام؛ ليخرج بنتيجة خطيرة، حيث قال:

(وإذا كان القرآن قولا ألقي إلى محمد عليه الصلاة والسلام، فإن عيسى بالمثل كلمة الله ألقاها {إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} أي أن محمدًا = مريم.

والوسيط في الحالتين واحد هو الملك جبريل عليه السلام الذي تمثل لمريم بشرًا سويًّا، وكان يتمثل لمحمد في صورة أعرابي.

وفي الحالتين يمكن أن يقال: إن كلام الله قد تجسد في شكل ملموس في كلتا الديانتين:

تجسد في المسيحية في مخلوق بشري هو المسيح، وتجسد في الإسلام نصًا لغويًّا في لغة بشرية هي اللغة العربية.

وفي كلتا الحالتين صار الإلهي بشريًّا أو تأنسن الإلهي) (2) .

ونجد (عبد الهادي عبد الرحمن) يؤكد على مسألة تشكيل القرآن وجمعه في عهد عثمان رضي الله عنه، فيقول:

(فالقرآن لم يكن نصًّا جاهزًا، بل إن صحائفه لم تُجمع نهائيًّا إلا في عهد عثمان بن عفان، رغم أنه كان معجزة النبي الوحيدة لغة وفصاحة وبيانًا)(3) .

علمًا أن جمع عثمان لم يكن الجمع الأول، فقد سبقه جمع أبي بكر رضي الله عنه:(قال الحاكم في المستدرك: (جمع القرآن ثلاث مرات: إحداها بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أخرج بسند عن زيد بن ثابت قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع) . الثانية: بحضرة أبي بكر. روى البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت قال: أرسل إلىَّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، فقلت لعمر: كيف نفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عمر: هو والله خير، فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك) (4) .

كما شكك الكاتب نفسه في ترتيب السور والآيات حيث قال:

(لكن هل يعني إغلاق الدائرة الكبيرة (لعقدة) سجعية محدودة بدء دائرة كبيرة أخرى أن كل دائرة كبيرة قد أنزلت على الرسول في وقت واحد أو في فترات زمنية متقاربة؟!.

يجيب تعدد الأغراض وأسباب النزول إجابة مختلفة، لأن طريقة نزول القرآن على النبي، ثم جمعه فيما بعد، ينفي أن تكون تلك النهايات المسجوعة هي مربط الفرس.

وهذا يقودنا إلى سؤال آخر: هل اللغة هي الحكم إذن؟ أم أن ارتباط ذلك النسق اللغوي بوحدة الموضوع هي الحكم النهائي) (5) .

(1) الخطاب الديني، نصر حامد أبو زيد، ص68.

(2)

الخطاب الديني، نصر حامد أبو زيد،، ص138.

(3)

سلطة النص، عبد الهادي عبد الرحمن، ص39.

(4)

الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، ص181.

(5)

سلطة النص، عبد الهادي عبد الرحمن، ص60.

ص: 933

ومنهم من ادعى دخول الأساطير إلى القرآن، بل اعتبر القرآن الكريم ذاته إسطيرًا أو إسطارًا (حسب تعبيره) ، كما أطلق التسمية نفسها على الحديث النبوي في مواضع أخرى.

هذا ما جاء في كتاب حديث صدر مؤخرًا للكاتب (خليل عبد الكريم) تحدث فيه الكاتب عن جور الإسطير (القرآن) في تقييد حرية المرأة، وفرض الأحكام التي تحظر عليها ممارسة الكثير من الأعمال والقيام بالعديد من التصرفات، ويردُّ ذلك إلى تأثير اللغة في ذلك الإسطير ليصل في النهاية إلى استنتاج خطير وهو (أن القرآن وليد البيئة)، يقول:

(والمقطوع به أنه لو كانت النسوان لدى الأعراب رشيقات خفيفات مصواءات رسحاوات رصعاوات كمثيلاتهن في البلدان المتحضرة، لما احتاج الإسطار إلى هذا الكم الهائل من الحظر والمنع والتقييد والتشديد بشأن لباس المرأة وزينتها وطيبها (عطرها) وغطاء رأسها

إلخ.

ألا تقدم هذه الفقرة برهانًا يضاف إلى ما سبق أن الحفر اللغوي يساعد على فهم الإسطير الفهم الأمثل، وعلى تفسير كلياته التفسير الأصح، وأن التغاضي عن هذه الحقيقة وغيرها من الحقائق الموضوعية لن يزيد الأمور إلا خطلا وربكًا.

ص: 934

بقاء الأعرابية جلس الخيمة، قصيرة الخباء، مخدرة خبأة مستترة، كما ترسمها المعاجم، جعل الإسطار يرى أن هذه هي الصورة المثالية لكل امرأة في سائر البيئات، وعلى اختلاف العصور وكر الدهور، ومن ثم جاءت قواعده تدفع إلى محاكاة هذا النموذج الأمثل من حثٍّ على الاستكنان في عقر الدار، إلى الكلام من وراء حجاب

إلخ.

ولو أن اللغة حملت إلينا صورة مغايرة للمرأة، مثل صورتها في المجتمعات الزراعية، فيها الخروج للعمل، وبالتالي الاختلاط مع الرجال، ومشاركتهم في هموم الشغل، وتدبير المعاش، ورعاية حيوانات الزراعة المختلفة والطيور

وتربية الأولاد؛ لتباينت التعليمات واختلفت الممنوعات والمباحات) (1) .

ثم يقول:

(فعندما طالعنا في القواميس أن المرأة في مجتمعهم جلس، قعيدة، مخدرة، مخبوءة، مستورة، مصونة، أدركنا على الفور العلة في حض الإسطير لها على البقاء على حالها، وهو القرار في أعمق أغوار الدار، وفي منعها من الخلوة بأجنبي وعدم استقباله، وإن كان ولابد فمحادثته من خلف حجاب. في ذلك المجتمع كان عمل الرجال محدودًا للغاية بالقياس إلى أعمالهم في المجتمعات المتحضرة، وعمل المرأة شبه معدوم، ويبشعه لسبب في غاية البساطة؛ أنك عندما لا تجد كلمات أو تراكيب عن عمل المرأة إلا العمالات الساذجة.

وبالتالي فإنه من البديهي لا من الطبيعي فقط، أن يجيء الإسطير وهو عرى منها، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وهو قد خاطب من خاطبهم عبر اللغة التي افتقرت إليها، فكيف يتصور عقلا أن ينص عليها؟) (2) .

(1) العرب والمرأة، حفرية في الإسطير المخيم، خليل عبد الكريم، ص238.

(2)

العرب والمرأة، حفرية في الإسطير المخيم، خليل عبد الكريم، ص239.

ص: 935

فهنا يتضح أنه قصد بالإسطار القرآن والحديث.

أما المستشار (محمد سعيد عشماوي) فقد ادَّعى أن القرآن الكريم لم يتعرض لنظام الحكم في الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول:

(إن القرآن لم يتعرض لنظام الحكم في الإسلام بعد النبي، ولم ترد عن النبي أحاديث في هذا الصدد، وساعد لفظ (الخليفة) - وما قد يفيده من معنى وراثة كل الحقوق والالتزامات - على بلبلة الفهم واضطراب التصرفات وبقاء الغيوم في المحيط الإسلامي. ومن هذا المعنى كان القرآن ينص دائمًا على حقوق النبي - الحاكم - وعلى التزاماته. ولم تشر آيات القرآن - أبدًا - إلى حقوق أو التزامات أي حاكم آخر) (1) . أما المهندس الدكتور محمد شحرور فقد قام بدراسة للقرآن الكريم محاولا تأويله تحت ذريعة القراءة المعاصرة، ومن أخطر ما قاله:

(ولهذا فالقرآن لابد أن يكون قابلا للتأويل، وتأويله يجب أن يكون متحركًا وفق الأرضية العلمية لأمة ما، في عصر ما، على الرغم من ثبات صيغته) .

ولو أن هذا الكاتب اطلع على أخبار كبار علماء كونيين أسلموا لما اكتشفوا مطابقة بعض ما جاء في القرآن الكريم بنصه الصريح دون تأويل لأحدث الحقائق العلمية عن الكون والإنسان؛ لما تجرأ أن يتصدى فيطلق هذه المقولة الساقطة (2) .

(1) أصول الشريعة، محمد سعيد عشماوي، ص140.

(2)

التحريف المعاصر في الدين، عبد الرحمن حبنكة الميداني، ص33 - 34.

ص: 936

* وتقدم الدكتور نصر حامد أبو زيد مؤخرًا بمشروع عصري جديد للقرآن، وسيعلن عنه في مؤتمر (علوم القرآن) الذي سيعقد في هولندا في 15/8/1998م بمشاركة (50) مستشرقًا عالميًّا بالإضافة إلى باحثين من إيران وماليزيا ومصر وسوريا والهند وبعض أتباع الإسماعيلية والبهائية.. وقد جاء هذا الإعلان في المحاضرات التي ألقاها الدكتور أبو زيد في مركز للنادي الروتاري في عمان.. وقد اعتبر عدد من علماء الدين في الأردن (أبو زيد) مرتدًّا، وأن الجهة التي تقف وراءه سادرة في استفزاز مشاعر المسلمين (الروتاري من نوادي الماسونية) .

وأنا أطالب المجمع بإرسال مندوبين للمشاركة، لنرى ماذا يخططون وإلى أي مدى سيصلون.

3 -

الطعن في السنة النبوية:

وذلك بادِّعاء نحل معظمها على النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال بذلك (محمد سعيد عشماوي) في كتابه (أصول الشريعة) :

(لقد تحرز المسلمون الأوائل من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومع الوقت رقَّ الوازع الديني واختلط بالمعتقد السياسي، فبدأ نحل الأحاديث ونسبتها للنبي.

كان يفرض أن يضاف إلى المنهج الإسلامي في جمع القرآن منهج آخر يخص الحديث، ويقوم على نقد المتن ذاته وتحري صحته على أساس من الواقع قبل أن يعتمد كحديث للنبي.

ولما لم يحدث ذلك كثرت الأحاديث المنسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم، ومع الجهد الشديد الذي اتبع في جمع الأحاديث فقد اختلف في عدد الأحاديث المتواتر عليها، وقيل إنه لا يتجاوز عشرة أحاديث

) (1) .

ولا شك أن هذا ادعاء باطل، فقد فرز الصحيح من الضعيف من الحسن من المكذوب وفقًا لقواعد علمية ليس للهوى دخل فيها. وإن كنت ترى أن الفتنة هي التي سببت ذلك، فكيف وصلت لنا الأحاديث التي أشارت إلى رؤوس الفتن؟ بل كيف وصلت إلينا الأحاديث الواردة في فضل الصحابة وفضل آل البيت؟ بالرغم من أن التيارات الإسلامية كان بعضها موجهًا ضد آل البيت، وبعضها كان موجهًا ضد الصحابة.

(1) التحريف المعاصر في الدين، ص39.

ص: 937

ومع ذلك فقد حفظ لنا علم الحديث ما ورد في فضل كل منهم.

ألا يعني ذلك أن هذا العلم قد تجاوز الواقع السياسي، وأحاط نفسه بأسوار قوية من النقد للسنة، والتثبت في نقل الأخبار والأحاديث؟.

ومنهم من ادَّعى عدم حجية السنة في التشريع، ورفض اعتبارها مصدرًا للتشريع، كما قال بذلك (نصر حامد أبو زيد) في كتابه (الإمام الشافعي) حيث انتقد الشمولية التي أضفاها الشافعي على النصوص، وذلك عن طريق توسيع مجال فعالية النصوص ومجال تأثيرها بالخطوات التالية:

1 -

تحويل السنة النبوية - النص الثانوي - إلى نص مشرع؛ لا يقل في دلالته التشريعية عن النص الأول (القرآن الكريم) .

2 -

توسيع مفهوم السنة بإلحاق الإجماع بها، وكذلك عدم التفرقة بين سنة الوحي وسنة العادات (1) .

والواقع أنه ليس النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي حول نصوص السنة إلى نص مشرع، بل إن الله عز وجل هو الذي رفع كلام نبيه وأسبغ عليه صفة التشريع، فهو {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4] ، ولو لم تكن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتسبت صفة التشريع من عند الله، لما أمرنا الله تعالى بطاعته واتباعه فيما أمر ونهى وسن وشرع، حيث قال:{وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] .

وبالإضافة إلى ذلك؛ فالكاتب نفسه يتهم نصوص السنة بالدعوة إلى عزل الدين عن الحياة، مستدلًا بحديث:((أنتم أعلم بشؤون دنياكم)) .

يقول في كتابه (الخطاب الديني) :

(إن للنصوص الدينية مجالات فعاليتها الخاصة، وأن ثمة مجالات أخرى تخضع لفاعلية العقل البشري والخبرة الإنسانية، ولا تتعلق بها فعالية النصوص.

وكان المسلمون الأوائل كثيرًا ما يسألون إزاء موقف بعينه ما إذا كان تصرف النبي محكومًا بالوحي أم محكومًا بالخبرة والعقل، وكثيرًا ما كانوا يختلفون معه، ويقترحون تصرفًا آخر إذا كان المجال من مجالات العقل والخبرة

(1) الإمام الشافعي، نصر حامد أبو زيد، ص32.

ص: 938

ورغم ذلك يمضي الخطاب الديني في مد فعالية النصوص الدينية إلى كل المجالات، متجاهلا تلك الفروق التي صيغت في مبدأ ((أنتم أعلم بشؤون دنياكم)) ) (1) .

ولكن الواقع على العكس من ذلك: فلم يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الحديث عزل الدين عن الحياة، بل قصد أن الدين لا يتدخل في شؤون البشر التي تتطلبها حاجاتهم في معاشهم وحياتهم في الدنيا.

ولو عدنا إلى مناسبة هذا الحديث لاتضح لنا الأمر. فقد ورد الحديث في قصة تأبير النخل، حين قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه:((ما أظن ذلك يغني شيئًا)) ، لكنه عندما عرف منهم فوائد تلقيح النخل عاد ليقول لهم:((أنتم أعلم بأمر دنياكم)) .

لكن هذا الكتاب وأمثاله أرادوا بهذا الحديث حذف النظام السياسي والاقتصادي من الإسلام، بدعوى أن السياسة والاقتصاد هما من أمر الدنيا، وليس للإسلام معرفة بأصولهما وفروعهما، وهم بذلك يهدمون كل ما حوته السنة المطهرة من تنظيم لعلاقات البيع والشراء والمعاملات والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

فرسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا أن أمور العلوم الطبيعية تستقى من مصادرها، فأمور الزراعة لأهلها؛ وحينما قامت الحروب وبدأ القتال أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي محنك الحروب، بل إنه أمَّر ذوي الخبرات العسكرية على كبار الصحابة لأنهم أقدر على قيادة المعارك بما لديهم من خبرة ودراية.

ومصداقًا للحديث الأول كيف يتم التلقيح في الغابات؟ أليس بواسطة الرياح؟ والله تعالى يقول: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر: 22] .

أما الكاتب (عبد الهادي عبد الرحمن) فقد طعن في علم الإسناد للأحاديث النبوية، ورفض إلزامية هذا العلم، وذلك في كتابه (سلطة النص) حيث قال:

(الإسناد؛ تلك الأداة العبقرية والتي تعتبر دعامة من دعامات ترسيخ النص والمحافظة عليه، بل ولعل ذلك التقليد الذي رسخ في الأجيال المتدنية جيلا بعد جيل هو من عوامل الركود والتحجر التي نعانيها عندما توقفنا عند نصية النصوص دون تجاوز حرفيتها وجمودها) .

(1) الخطاب الديني، نصر حامد أبو زيد، ص22.

ص: 939

(ومن تقديس النص ارتفعت منزلة الإسناد درجة أقرب للتقديس (وهذا ما نزع عنه صبغته العلمية فيما بعد) ، وتحول الإسناد إلى لازمة من لوازم الثقافة الإسلامية، لدرجة أن أبا بكر محمد بن أحمد الدقاق قال:(بلغني أن الله خص هذه الأمة بثلاثة أشياء لم يعطها من قبلها الأمم: الإسناد، الأنساب، الإعراب)(1) .

هكذا يقلبون الأمور، فقد أصبح علم التوثيق (الذي بواسطته يميز بين الصحيح والضعيف) موضع انتقاد.

4 -

الطعن في عصر الصحابة:

تناول غلاة العلمانيين الصحابة الكرام بالطعن والتجريح، حتى كتب أحدهم (خليل عبد الكريم) سلسلة من ثلاثة أجزاء سماها:(شدو الربابة بمعرفة أحوال الصحابة) ، وكان هدفه من وراء هذه السلسلة إلقاء التهم وإثارة الشبهات حول نقاء الصحابة الكرام وطهرهم، وصولا إلى الطعن في روايتهم لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتشكيك في عدالتهم.

والمجال لا يتسع إلى ذكر تلك المطاعن أو حتى سردها، وسأكتفي بإيراد أمثلة قليلة منها: فمن ذلك قوله:

(إن تحليل شخصيات الصحابة وأصولهم ومنابتهم ومكانة كل منهم، والبيئات الاجتماعية التي نشؤوا فيها، وعقائدهم السابقة، وأماكن تربيتهم من بدو أو حضر، وثقافاتهم والنظم والقيم والأنساق الاجتماعية التي قضوا ردحًا طويلا من عمرهم فيها قبل أن يلاقوا محمدًا ويدخلوا دينه، والحرف التي مارسوها، والأساطير التي ظلوا شطرًا من أعمارهم يؤمنون بها

إلخ. وتأثير ذلك على الرواية الشفاهية مع تسليمنا أن بعضًا منها كان يُكتب حتى في حياة محمد نفسه، ولكن لا شك أن الغالبية العظمى من هذه الأحاديث كان طريق نقلها من الشفاه إلى الآذان، وتأثير تلك الأحوال التي ذكرناها في علاقاتهم مع محمد، ثم في علاقاتهم مع بعضهم البعض) (2) .

فهو يجعل الرواية متأثرة بأديانهم وعاداتهم السابقة للإسلام.

ويتحدث عن دوافع الأصحاب للدخول في الديانة الإسلامية فيقول:

(وتختلف أسباب الطاعة من فريق إلى آخر: فالقرشيون كانت تدفعهم إلى ذلك عاطفة انتمائهم للقبيلة التي ينتمي إليها محمد، وإدراكهم من الوهلة الأولى أنه كان يشيد دولة قريش التي وضع أساسها جدهم الأعلى قصي بن كلاب، وهناك من دفعته الغنائم الوفيرة التي جاءت بها الغزوات والسرايا إلى الطاعة والانقياد طمعًا في نوال قسمة منها، وأقرب مثل على ذلك المؤلفة قلوبهم الذين أجزل لهم محمد العطاء من أموال هوازن في وقعة حنين)(3) .

(1) سلطة النص، عبد الهادي عبد الرحمن، ص49.

(2)

محمد والصحابة، خليل عبد الكريم، ص13.

(3)

محمد والصحابة، ص226.

ص: 940

وتحدث عن هدف الصحابة من الفتوحات، فقال:

(بأن خروج الصحبة كان لانتشال أهل المستعمرات من أدران الوثنية والضلال إلى نور التوحيد، وهل كان هذا هو الهدف أم كان الهدف نقيضه أم على الأقل وقفت بجانبه دوافع أخرى؟ وهل كان دخول الموطوئين في عقيدة الفاتحين عن طواعية واختيار أم لا؟ وهل كان من المنتظر من أهالي المستعمرات بعد أن رأوا بأعينهم: قتل الرجال بعد أن يستسلموا (يرفعوا الراية البيضاء) وسبي النساء والذراري وحرق الحصون ثم هدم ما يتبقى منها وتسويته بأديم الأرض ونزح الأموال (بأنواعها) نزحًا وكسحها كسحًا وفرض الموجبات المالية المتعددة على الرؤوس (لاحظ ما يشي به هذا اللفظ من دلالة لا تخفى) وعلى الأرضين، نعود فنقول هل كان من المنتظر من أهالي المستعمرات أن يظلوا على أديانهم أم يبادروا لاعتناق دين أسيادهم الفاتحين حتى يفلتوا من بعض تلك الفروض؟) (1) .

وهنا مغالطة فهل يحارب إلا المحارب؟ وهل إعلام القتال يكون إلا بالدعوة للإسلام ثم الجزية ثم الحرب؟.

5 -

الطعن في تراث السلف؛ من أقوال العلماء واجتهادات الفقهاء وجهود المفسرين:

الدكتور محمد شحرور رفض اعتبار علماء المسلمين من فقهاء ومفسرين وحدهم ورثة الأنبياء فقال:

(إنَّ ورثةَ الأنبياء ليسوا علماء الشريعة والفقه وحدهم، إن هذا غير صحيح، إن الفلاسفة وعلماء الطبيعة وفلسفة التاريخ وأصل الأنواع والكونيات والإلكترونيات هم ورثة الأنبياء)(2) .

والعجيب في هذا القول إنه يجعل الكفرة بالأنبياء هم ورثة الأنبياء، لأنه يريد أن يجعل الفكر الماركسي هو الوارث للإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.

(1) محمد والصحابة، ص181.

(2)

الكتاب والقرآن، قراءة معاصرة، د. محمد شحرور، ص104، نقلا عن التحريف المعاصر في الدين، ص100.

ص: 941

أشار الدكتور (نصر حامد أبو زيد) إلى ادعاء القداسة لتراث السلف، فقال:

(إن التوحيد بين الفهم والنص، حيث يقع الفهم في الحاضر، وينتمي النص إلى الماضي لابد من أن يعتمد على إهدار البعد التاريخي

وبنفس الدرجة من الوضوح يبدو إهدار البعد التاريخي في تصور التطابق بين مشكلات الحاضر وهمومه وبين مشكلات الماضي وهمومه، وافتراض إمكانية صلاحية حلول الماضي للتطبيق على الحاضر. ويكون الاستناد إلى سلطة السلف والتراث، واعتماد نصوصهم بوصفها نصوصًا أولية، تتمتع بذات قداسة النصوص الأولية، تكثيفًا لآلية إهدار البعد التاريخي) (1) .

فمن قال إن أقوال العلماء تعادل الكتاب والسنة؟ ألم يقل الفقهاء: إن الفتوى تتغير بتغير الزمان؟ ولكن هؤلاء لا يفهمون المسألة.

ويتهم الخطاب الديني بالتوحيد بين النصوص وفهم الفقهاء والعلماء فيقول:

(ولا يكتفي الخطاب الديني بذلك، بل يوحد بطريقة آلية بين هذه النصوص وبين قراءته وفهمه لها. وبهذا التوحيد يقوم الخطاب الديني بادعاء ضمني بقدرته على تجاوز كل الشروط والعوائق الوجودية والمعرفية، والوصول إلى القصد الإلهي الكامن في هذه النصوص.

ولا يدرك الخطاب الديني أنه يدخل منطقة شائكة هي منطقة الحديث باسم الله) (2) .

وفي كتابه (الإمام الشافعي) ادعى إضفاء القداسة على خطابات العلماء والفقهاء، فقال:(لكن عملية إضفاء القداسة هذه يُراد بها أن تغطي - في الحقيقة - أطروحات ذلك الخطاب الديني، وتداري تقليديته، إنهم يتصورون امتلاكهم للإمام الشافعي ولفكره، وللتراث بشكل عام، ويتصورون بناءً على ذلك أنه ليس من حق أحد سواهم أن يكتب عن الإمام الشافعي أو غيره من الأئمة)(3) .

(1) الخطاب الديني، نصر حامد أبو زيد، ص38.

(2)

الخطاب الديني، ص22.

(3)

الإمام الشافعي، نصر حامد أبو زيد، ص6.

ص: 942

أما (عبد الهادي عبد الرحمن) فقد أشار إلى القداسة التي تمتعت بها العلوم الدينية، والتي أخذتها من النصوص الأصلية، وذلك في كتابه (سلطة النص)، حيث قال:

(هناك سيادة (أرثوذكسية) جامدة لا تقبل الأخذ والعطاء، وهي سيادة كانت قد ترسخت قبل أكثر من عشرة قرون، حيث انتهت المعارك الفكرية والكلامية بعد موت النبي بأربعة قرون، واستقرت على علوم محددة أخذت قداستها وإطلاقيتها من قداسة وتعميم النصوص الأصلية) (1) .

كما تعرض المستشار (العشماوي) لهذه المسألة، فأشار إلى الخلط في فهم معنى الشريعة، ومده على اجتهادات الفقهاء بعد القرآن والحديث، وذلك في قوله:

(إن توسعة الفقه في إعمال الآية على ما لم تنزل بشأنه هو أوضح مثل للخلط الذي حدث في فهم الشريعة، ثم مده بعد أحكام القرآن ونصوص الحديث على اجتهاد الفقهاء)(2) .

6 -

اتهام النصوص الدينية بالغموض والضعف والقصور عن تأدية ما فيها دون الحاجة إلى العلماء وتفسيرهم:

تبنى المستشار (العشماوي) هذه الفكرة، حيث قال في كتابه (أصول الشريعة) :

(ومع بُعد الدراسات وعمقها وتشعبها أصبح من غير الممكن للفرد المسلم أن يفهم آية أو يطبق حكمًا دون أن يرجع إلى رأي اللغويين وحكم النحاة وأصول الفقه وقواعد التفسير وأسباب النزول والناسخ والمنسوخ. وما إلى ذلك، مما أحاط الآيات القرآنية بآراء وأحكام ونظم وقواعد يجعل من الصعب - إن لم يكن من المستحيل - فهمها دون تحصيل كامل مسبق لهذا الغشاء الذي يحيط بها)(3) .

(1) سلطة النص، عبد الهادي عبد الرحمن، ص16.

(2)

أصول الشريعة، محمد سعيد عشماوي، ص16.

(3)

أصول الشريعة، محمد سعيد عشماوي، ص39.

ص: 943

وأكد ذلك الدكتور (أبو زيد) ؛ حيث اتهم النصوص بالضعف والقصور والحاجة إلى دفاع العلماء عنها، وذلك في كتابه (الخطاب الديني) :

(ألا يعني هذا القصور المبني على الخوف الدائم أن الضعف والتهافت كامن في بنية الخطاب الديني ذاته؟

) .

(فهل معنى ذلك أن العقيدة هي بالضرورة الأضعف والقابلة دائمًا للانكسار والهزيمة؟)(1) .

7 -

رفض مناهج السلف وسلبها صفة العلمية، والدعوة إلى اتباع مناهج علمية حديثة:

فالدكتور (أبو زيد) يعتبر الخطاب الديني عدوًا للنقد العلمي، فيقول:

(النقد بمعناه العلمي.. هو العدو الذي يريد الخطاب الديني أن يغتاله

) (2) .

وفي كتابه (الخطاب الديني) يرفض الإصرار على مبدأ تلقي العلم من الشيوخ مشافهة كمبدأ من مبادئ منهج السلف، فيقول:

(بل يصل الأمر إلى حد الإصرار على ضرورة التلقي الشفاهي المباشر في هذا المجال عن العلماء، ذلك أن (دراسة الشريعة بغير معلم لا تسلم من مخاطرات) ولا تخلو من ثغرات وآفات، وهذا ما جعل علماء السلف يحذرون من تلقي العلم عن هذا النوع من المتعلمين، ويقولون: لا تأخذ القرآن من مصحفي، ولا العلم من صحفي.

وهكذا ينتهي الخطاب الديني إلى إيجاد (كهنوت) يمثل سلطة شاملة ومرجعًا أخيرًا في شؤون الدين والعقيدة) (3) .

(1) الخطاب الديني، نصر حامد أبو زيد، ص20.

(2)

الإمام الشافعي، نصر حامد أبو زيد، ص6.

(3)

الخطاب الديني، نصر حامد أبو زيد، ص24.

ص: 944

أما (عبد الهادي عبد الرحمن) فقد رفض مناهج السلف صراحة في دراسة النصوص، وراح يبحث عن منهج بديل لنقد النصوص وتمحيصها، يقول:

(فأولئك الذين استعاروا مناهج السلف كما هي محاولين إلباسها للواقع، سقطوا في فخ إهمال طبيعة الحاضر وموضوعاته

) (1) .

ولكي يشكك في مصداقية علوم السلف وفعالية مناهجهم اتهم علماء التفسير بنقل الأخبار المغلوطة، إذ يقول:

(مناهج الكتابة في ذلك العصر، وهي مناهج لا يمكن اعتمادها بشكل تسليمي مطلق، وكان الفقهاء يجهدون أنفسهم في البحث عن سبب النزول، سواء عن طريق النقل المسند أو عن طريق النبش في النصوص، أو عن طريق الوضع

) (2) .

ويتهم التراث الإسلامي الهائل بفقدان منهجية البحث والتحقيق في نصوصه، مقارنًا ذلك بالمناهج الغربية السائدة في أوروبا، يقول:

(إن الكتب التراثية في بلادنا كثيرة هائلة العدد، لكننا نراها لا تزال تدور في الدائرة المغلقة دون أن تقدم أسئلة جديدة أو إجابات جديدة، ومعظمها يحمل طابع التصديق المطلق للنصوص دون أن تحمل روحًا نقدية حقيقية، وينبغي أن نقول بأن هذه المنهجية العريقة الراسخة منذ زمن طويل في أوروبا، لم ترسخ أقدامها فعليًّا حتى الآن في مجال الدراسات الإسلامية، وفي مجال قراءة النصوص وتحقيق التراث)(3) .

وبقوله يقرر أننا:

(لن نتمكن من التقدم في فهم تراثنا الفلسفي، وتراثنا على وجه العموم إلا بالانفتاح المنهجي والابتكار المنهجي)(4) .

لذلك فهو يدعو إلى دراسة النصوص الدينية بالمنهج التفكيكي العلمي الحديث، وهذا ما قرره حيث قال:

(ويقتضي الأمر القيام بعدة تجارب لرؤية ذلك النص في حالات متعددة، سواء في حالات معينة، أو وضعه قياسًا بموازاة نصوص متشابهة، أو في حالات قلبه، أو حتى بعزله عزلا تامًا عن أُطُره التي ارتبط بها، ثم إعادة ربطه، أو بتفكيكه وإعادة تركيبه، أو باستخدام الحيل المنطقية المتعددة

) (5) .

كما يدعو الدكتور شحرور دعوة صريحة إلى رفض أقوال السلف من علماء وفقهاء ومفسرين، واتباع قواعد المنهج العلمي في دراسة القرآن، فقال:

(إننا في القرآن والسبع المثاني غير مقيدين بأي شيء قاله السلف، إننا مقيدون فقط بقواعد البحث العلمي والتفكير الموضوعي، وبالأرضية العلمية في عصرنا؛ لأن القرآن حقيقة موضوعية خارج الوعي فهمناها أم لم نفهمها)(6) .

8 -

الادِّعاء بأن الشريعة هي تجميع عادات وأعراف اجتماعية عربية:

ونجد صدى هذه الدعوة صريحة في كتاب (جذور الشريعة) ، للكاتب خليل عبد الكريم، الذي يذهب إلى أن كل تشريع جاء به الإسلام يعود إلى أصول حياة العرب الجاهليين، لاسيما في الثلث الأول من القرن السابع الميلادي إبان ظهور الإسلام، فيقول:

(إن الإسلام ورث الكثير من عرب الجزيرة، واستعار العديد من الأنظمة التي كانت بينهم في شتى المجالات: الأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية - الحقوقية - وكثيرًا من الشؤون الدينية أو التعبدية:

أخذ منها فريضة الحج وشعيرة العمرة وتعظيم الكعبة، وتقديس شهر رمضان، وحرمة الأشهر الحرم، وثلاثة حدود: الزنا والسرقة وشرب الخمر وشطرًا كبيرًا من المسؤولية الجزائية، مثل القصاص والدية والقسامة والعاقلة

إلخ.

(1) سلطة النص، عبد الهادي عبد الرحمن، ص24.

(2)

سلطة النص، عبد الهادي عبد الرحمن، ص69.

(3)

سلطة النص، عبد الهادي عبد الرحمن، ص15.

(4)

سلطة النص، عبد الهادي عبد الرحمن، ص23.

(5)

سلطة النص، ص25.

(6)

الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، د. محمد شحرور، ص91، نقلا عن التحريف المعاصر في الدين، ص69.

ص: 945

وفي باقي المجالات: أخذ بعضها وترك البعض الآخر، وفي أحيان كان يعدل فيها إما بالزيادة أو النقص، وفي أحيان أخرى كان يستعير (النظام) بأكمله دون تحوير فقط بغير اسمه) (1) .

ويصل في النهاية إلى النتيجة التي ابتغاها من بحثه، فيستنتج أن التقاليد العربية السائدة في الفترة السابقة للبعثة أثرت كثيرًا في النصوص المقدسة والسلوكيات، وهذا أمر خطير؛ إذ فيه طعن في النصوص المقدسة (الكتاب والسنة)، بقوله:

(ولعل هذا الصنيع من جانب هذه الصفوة المختارة من المسلمين والمسلمات، يدل دلاله أكيدة على أن التقاليد العربية التي كانت سائدة في الفترة السابقة على البعثة المحمدية، تركت آثارًا واضحة لا على النصوص المقدسة فحسب، بل على سلوكيات المسلمين من ذوي السابقة، والسلوكيات هنا على درجة متميزة من الأهمية، لأنها لم تصدر من عامة المسلمين ولكن قام بها (أصحاب) أو (صحابة) ، وسلوك هؤلاء تشريع مثله مثل النصوص تمامًا) (2) .

9 -

الطعن في الحدود والعقوبات الشرعية المحددة في الكتاب والسنة:

فالدكتور (أبو زيد) شكك في قدرة الحدود الشرعية على الإحاطة بالمجرمين وإيقاع العقوبة بهم، لاسيما في حد السرقة، وذلك في كتابه (الخطاب الديني)، حيث قال:

(وهكذا ينحصر مجال تطبيق حد السرقة على النصابين وصغار اللصوص)(3) .

أما المستشار (العشماوي) فقد أسهب في الكلام عن الحدود مشكِّكًا في ثبوت صحتها من جهة، ومدى صلاحيتها لقمع الجناة سواء في حد القصاص أو حد الردة أو حد الحرابة أو حد الزنا أو حد شرب الخمر.

(1) الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية، خليل عبد الكريم، ص14 - 15.

(2)

الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية، خليل عبد الكريم، ص46 - 47.

(3)

الخطاب الديني، نصر حامد أبو زيد، ص31.

ص: 946

فهو يرد حد الرجم للزاني المحصن معتبرًا أن النبي أمر بالرجم قبل نزول آية الجلد، فقال:

(وثم فريق كبير من المسلمين يرى أن عقوبة الزنا هي الجلد سواء للمحصن أو لغير المحصن، آخذًا بحكم الآية القرآنية، وعلى اعتبار أنه لم يثبت أن الأحاديث المروية كانت بعد نزول آية الجلد، إذ يترجح أن النبي كان قد أمر بالرجم قبل نزول هذه الآية

) (1) .

ويقول أيضًا: (كما طعن في حد شرب الخمر وقياسه على حد القذف، لأنه يقوم على افتراء مقدر قد يقع وقد لا يقع، معتبرًا أن العقوبة أيًا كان أمرها ليست حدًا، طالما لم يقض بها القرآن أو يأمر بها النبي

) (2) .

أما حد الحرابة وقطع الطرق فيعتبره خاصًّا بمحاربة الدين، ويرفض تعميمه على كل خارج عن الطاعة، فيقول:

(إن الجزاء المقصود في الآية ليس جزاءً لمن يحمل السلاح على الجماعة أو من يخرج على طاعتها

) (3) .

ويرى كذلك أن تطبيق حد الردة ينافي مبدأ حرية المعتقد وعدم الإكراه على الدين، إذ يقول:(روي عن النبي أنه قال: ((مَنْ بدَّلَ دينه فاقتلوه)) . ولم يحدد النبي القصد بتبديل الدين: هل هو أي تبديل ولو كان إلى الإسلام من غيره؟ أم أن القصد تغيير الإسلام إلى غيره؟.

وفي القرآن: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256] . {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] .

ومن جانب آخر: فإن عدم الإكراه على الإسلام ابتداءً يفيد عدم الإكراه للاستمرار عليه، ولا شك أنه لا خير في من يظل مؤمنًا بدينه على خوف أو إكراه، بل الخسارة في بقائه ملحدًا به في الباطن وهو في الظاهر يدعي الإيمان..) (4) .

(1) أصول الشريعة، محمد سعيد عشماوي، ص124.

(2)

أصول الشريعة، محمد سعيد عشماوي، ص128.

(3)

أصول الشريعة، محمد سعيد عشماوي، ص129.

(4)

أصول الشريعة، محمد سعيد عشماوي، ص131.

ص: 947

10 -

الاعتراض على مبدأ نسبة حدوث الأفعال إلى الله، واعتبار أن إرادة الإنسان تتدخل في تحديد أقداره:

فالمستشار (العشماوى) يرى أن الإرادة البشرية تعمل في المقادير وتؤثر فيها، وذلك في كتابه (أصول الشريعة)، حيث قال:(وهكذا تعمل الإرادة البشرية في المقادير وتجري الأفلاك)(1) .

أما (أبو زيد) فذهب إلى إنكار نسبة حدوث الأفعال إلى الله، وأن الله هو الفاعل من وراء الأسباب، يقول:(إن الغزالي خلط بين مجالات الفكر الديني الكلامي (المستند إلى مفاهيم أشعرية) ، وبين مجالات البحث في الطبيعة، وانتهى به كل ذلك إلى إهدار قوانين السببية.

من هنا الاعتقاد الخطير الذي ساد الخطاب الديني في الثقافة العربية أن النار لا تحرق، وأن السكين لا تقطع، وأن الله هو الفاعل من وراء كل الأسباب) (2) .

كما ذهب نفسه إلى اتهام الخطاب الديني بتقييد حرية الإنسان، وتكريس العبودية والإذعان، فقال:(لكن الخطاب الديني يصر على اختصار علاقة الإنسان بالله في بُعدٍ واحد فقط وهو العبودية التي تحصر فاعلية الإنسان في الطاعة والإذعان)(3) .

11 -

اتهام الفكر الإسلامي بتقييد حرية الاجتهاد، سواء بقصره على نصوص التشريع، أو على منعه في العقائد، وفيما ورد فيه نص (لا اجتهاد في مورد النص) :هذا ما أقره الدكتور (أبو زيد) في كتابه (الخطاب الديني)، حيث قال:

(وعلى هذا التحديد لمجال الاجتهاد يؤسس الخطاب الديني لمقولة صالحية الشريعة لكل زمان ومكان، ويعارض إلى حد التكفير الاجتهاد في مجال العقائد أو القصص الديني)(4) .

وهو ما أكده (عبد الهادي) ، حين تحدث عن إغلاق باب الاجتهاد والسقوط في دائرة التكرار والترديد دون النقد والتمحيص.

(1) أصول الشريعة، محمد سعيد عشماوي، ص149.

(2)

الخطاب الديني، نصر حامد أبو زيد، ص20.

(3)

الخطاب الديني، نصر حامد أبو زيد، ص55.

(4)

الخطاب الديني، نصر حامد أبو زيد، ص27.

ص: 948

12 -

الطعن في مبادئ الشريعة وأركانها الأساسية، ورفض الدعوة إلى تحكيم الشريعة في حياة الناس، لأنها غير قادرة على وضع الحلول المناسبة لما يواجه الناس من مشكلات:

هذا ما قرره (أبو زيد) ، حيث رأى أن الشريعة عاجزة عن إيجاد حلول عصرية للواقع، لذلك فالدعوة إلى تحكيم الشريعة هي بمثابة إعلان العجز من قبل الدعاة (الخطاب الديني) .

وفي هذا المجال يتهم (أبو زيد) الإسلام بالبعد عن الواقع، لأنه يحارب الأنظمة الوضعية ويعاديها (الخطاب الديني) .

أما (عبد الهادي) فيعتبر إلزام الناس بالعبادات (التي هي من أسس الإسلام) تقييدًا لحريتهم في ممارسة العبادة التي يميلون إليها، ويرى أنه يكفي للإنسان أن ينطق بالشهادتين، ثم تعطى للناس الحرية في اختيار طقوسهم، فيقول:

(فليعتقد الناس بالإسلام دون شكلية طقسية قسرية واحدة، فعلى الناس أن يختاروا طقوسهم وثقافتهم كما يريدون ما دام المبدأ الأول وهو الشهادة قد تم إعلانه

) (1) .

13 -

اعتبار الهدف من رسالة الإسلام ليس نشر الدين، وإنما تأسيس دولة لقريش تحقيقًا لأحلام قصي، ثم عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم:

هذا ما قرره (القمني) في كتابه الذي أسماه (الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية) حيث قال:

(أما المهمة الجليلة والعظمى فكانت قيام النبى صلى الله عليه وسلم بإنشاء نواة لدولة عربية إسلامية في الجزيرة، محققًا نبوءة جده: إذا أراد الله إنشاء دولة خلق لها أمثال هؤلاء)(2)

وتابعه في ذلك (خليل عبد الكريم) في كتابه (قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية)، حيث قال:

(وصار الإصهار إلى كبريات القبائل من بعد هاشم سُنة اتبعها خلفاؤه من بناة (دولة قريش) ، مثل ابنه عبد المطلب وحفيده محمد عليه السلام الذي تحقق على يده الحلم، وتحول إلى واقع، وبرزت إلي الوجود دولة قريش في يثرب) (3) .

(1) سلطة النص، عبد الهادي عبد الرحمن، ص42.

(2)

الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية، سيد محمود القمني، ص153.

(3)

قريش من القبيلة إلي الدولة المركزية، خليل عبد الكريم، ص34.

ص: 949

إن العلمانيين الذين يكتبون اليوم صرحوا باعتبار الإسلام مرحلة تاريخية، وهي جزء من مخطط قومي تبنته قريش وبنو هاشم، وبما أن الإسلام تاريخي فإذًا وفقًا لسنة التطور وحتمية التاريخ التي يؤمنون بها سيأتي بعده مرحلة، فيقول ميشيل عفلق في كتاب (في سبيل البعث) ص127:(إن يقظة العرب اقترنت برسالة دينية، أو بالأحرى كانت هذه الحركة - الدينية- مفصحة عن تلك اليقظة القومية)(1) .

ولكن لم يخبرنا السيد عفلق لماذا حارب العرب الأقحاح هذه الحركة التصحيحية كما يسمونها، بل حاربتها قريش وجميع طغاة العرب إن كان هناك ثمة يقظة قومية.

14 -

التشكيك في قدرة الله على الخلق بقوله {كُنْ فَيَكُونُ} :

تناول ذلك (القمني) في كتابه (قصة الخلق)، حيث قال:

(لكن يبدو في مختلف نصوص الديانات السامية أن الأمر (كن) كان مجرد إمكان غير متحقق (حتى الآن) ، أو هو استعداد إلهي موقوف لإثبات القدرة المطلقة فقط، فهو استعداد بالقوة لم ينتقل إلى الفعل، وربما ينتقل من القوة إلى الفعل حين يشاء، لكنه لم يعد الآن مجديًا، بعد أن وجد الكون فعلا بالطريقة اليدوية التصنيعية) (2) .

15-

اتباع المناهج والنظريات اليهودية، واعتمادها كمبادئ لأفكارهم ومعتقداتهم: وعلى رأس هؤلاء (فرويد ودارون وماركس) :

فهذا الكاتب (سيد قمني) يتناول مسألة السيادة الأولى ذكورية كانت أم أنثوية، مستدلا بأستاذه (فرويد)، فيقول:

(لقد حاول الباحثون الإجابة على السؤال: أيهما كان أولا: النظام الأمومي أو الأبوي؟ فافترض (داروين) أن السيادة المطلقة كانت في البداية للذكر (المجتمع الأبوي)، وأكمل (أتكسون) فقال: إنه قد حدث أن ثار الأبناء على الأب المتسلط القاسي المتوحش فقتلوه وافترسوه سوية، ويستطرد (روبرنسون سميث) فيقول: إنه بعد ذلك مرت مرحلة انتقالية ظهر فيها النظام الأموي، ثم يسلم (فرويد) بكل ذلك ويقول: إن الأوضاع عادت بعد ذلك إلى سابق عهدها، وساد الذكر مرة أخرى) (3) .

(1) القومية والعلمانية، د. عدنان زرزور، ص72.

(2)

قصة الخلق، سيد محمود القمني، ص75.

(3)

الأسطورة والتراث، سيد محمود القمني، ص88.

ص: 950

أما الكاتب (خليل عبد الكريم) فقد تحدث عن مدرسة التحليل النفسي التي تفسر الأحلام، ليشير من خلالها إلى وقوع الاحتلام من الرجال والنساء في مجتمع المدينة، معتبرًا ذلك تعويضًا عن تحقيق رغباتهم:

(وفقت مدرسة التحليل النفسي إلى حد كبير في تفسير الأحلام.. وقالت: إن الحلم هو دائمًا إرضاء لرغبة مكبوتة

فثمة رغبات أخرى قد تتخذ من الحلم سبيلا وهميًا إلى إرضائها، لأنها لا تجد في عالم الواقع ما يرضيها.

إذن من أهم وظائف الحلم النفسية: تعويض الحالم بما يفتقر إليه في الواقع.. ويرى فرويد وهو يتكلم عن الأحلام وتفسيرها أن لكل حلم محتوى ظاهرًا ومعنى خبيئًا نسميه (الأفكار الكامنة) ، وأنه يجب التمييز بينهما، وأن ذلك لازم في عملية تأويل الأحلام) .

(الرغبة تتحول في الأحلام إلى واقعة، كما تتحول الأفكار المستترة إلى صور ذهنية في أغلب الأحوال) .

ثم يُسقط الكاتب هذه النظرية على مجتمع الصحابة في المدينة المنورة، فيقول:

(وهذا يؤيد فكرتنا التي قلنا بها من أن اتصال الذكر والأنثى كان لديهم من الشواغل الأثيرة، حتى اللاتي لا يجدن ذلك متحققًا في واقع الحياة يرينه في الحلم، وقد ذكرنا فيما سلف ما يؤكده علماء التحليل النفساني من أن الحلم يؤدي دورًا تعويضيًّا كبيرًا بتحقيق الرغبات الكامنة المكبوتة التي لا تجد في الواقع ما يرويها ويشبعها)(1) .

16 -

التلبيس في مسألة المرأة، واعتبار الإسلام ممتهنًا للمرأة ينظر إليها بازدراء:

فالقمني يتهم المأثور بالتمييز جنسيًّا وخلقيًّا بين الذكر والأنثى، فيقول:

(مأثورنا يعيد وضع المرأة إلى زمن حواء الأسطوري، زمن الخطيئة الأولى، ويمركز الشر كله حولها، فهي شيطان غواية؛ لأنها رفيقة إبليس، ولا تكون مع رجل إلا وكان الشيطان ثالثهما.. حتى قصص الأنبياء تخبرنا أن نساء الأنبياء قد وقعن في الخطيئة.. امرأة نوح، امرأة لوط

وهكذا يؤسس موروثنا لتبخيس المرأة، فقد خُلقت من ضلع أعوج، وناقصة عقل ودين) (2) .

(1) مجتمع يثرب، خليل عبد الكريم، ص33 - 35.

(2)

الأسطورة والتراث، سيد محمود القمني، ص220.

ص: 951

علمًا أنه في نفس السورة ذكرت آسية امرأة فرعون، ومريم بنة عمران، ولكن إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. فما بالك إذا اجتمعا؟!

أما (المستشار العشماوي) فيؤكد موقف الإسلام من المرأة، وانتقاصه إياها، مستندًا إلى نصوص إسلامية في ذلك، ويعزو ذلك إلى توافق نظرته مع نظرة العربي الجاهلي إلى المرأة وتأثره بها. يقول في كتابه (أصول الشريعة) :

(إن نظرة الإسلام عمومًا تتوافق تمامًا مع نظرة العربي، ومَن لديه ذرة شك في أن الإسلام تبنى الموقف نفسه السابق له، فليفسر لنا تفسيرًا علميًّا موضوعيًّا (النصوص المقدسة) الآتية: ((لن يفلح قوم ولو امرأة عليهم)) ، ((النساء ناقصات عقل ودين)) ، {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] ، فشهادة المرأة بنص هذه الآية الشريفة نصف شهادة الرجل (1) .

17 -

استعراض لآراء حسن حنفي الإلحادية:

ولابد لنا أن نختم هذه الجولة بين افتراءات غلاة العلمانيين العرب، بعرض بعض آراء أستاذ هؤلاء وهو الدكتور حسن حنفي.

أ - الإلحاد بإنكار وجود الله ووصفه بالرذائل:

وفي كتابه من العقيدة إلى الثورة يقول:

(والكذب والإضلال والغواية وكل القبائح تجوز على الله، مادام الله لا يجب عليه شيء) .

(ويكشف أي دليل على إثبات وجود الله على وعي مزيف)(2) .

ب - نفي خلق الله وتقديره لأفعال العباد:

وجاء أيضًا في المصدر السابق بقوله:

(الله إذن لا يتدخل في أعمال العباد، ولا يشاء منها فعلا إيجابًا أم سلبًا، لم يخلق شيئًا منها وإلا كان مسؤولا عن المعاصي والقبائح والشرور)(3) .

جـ - إنكار وجود الله أصلا:

وفي المصدر نفسه يقول:

(الإنسان وحده إذن هو الموجود حقيقة، وكل ما سواه موجود بالمجاز)(4) .

(1) أصول الشريعة، محمد سعيد عشماوي، ص84.

(2)

من العقيدة إلى الثورة، حسن حنفي: 4/82.

(3)

من العقيدة إلى الثورة، حسن حنفي: 3/66.

(4)

من العقيدة إلى الثورة، حسن حنفي: 1/451.

ص: 952

وفي المصدر نفسه يقول:

(الباعث على نفي الصانع باعث شرعي، وهو الحفاظ على استقلال العالم والحفاظ على الحرية الإنسانية فيه

) (1) .

وفي المصدر نفسه يقول:

(الابتهال والدعاء والسؤال والشكر، كل ذلك ليس دليلا على وجود قدرة خارجية يستعيدها الإنسان كي تتدخل في فعله، وتعينه على الإتيان به، بل مجرد موقف إنسان يدل على انحراف في السلوك)(2) .

وفي المصدر نفسه يقول: (وإذا ما عبد الإنسان الله فإنه يعبد إنسانًا مثله.. ثم يقول: فالله هو العالم والعالم هو الله)(3) .

د - نظرته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والرسل عامة:

جاء في كتاب (من العقيدة إلى الثورة) :

(أما بالنسبة لشخص النبي فلا يلزمه زكاة مال لأنه اختار أن يكون عبدًا والعبد لا زكاة عليه، فلم يورث ولم يورث زمانه حالة إرساله أو ما بعدها حتى موته، والناس فيه بين مقصر ومطول، بين مخصص ومعمم، وتجوز الكبائر من الأنبياء حاشا الكذب في البلاغ، وقد يجوز للنبي الكفر بعد الرسالة وجميع المعاصي الصغار والكبار بما في ذلك قتل النساء وتعريضهن وتفخيذ الصبيان)(4) .

- وفي المصدر نفسه يقول:

(وإذا كان العقل في غنى عن الرسل فقد كان بإمكان الله اضطرار العقول إلى معرفته دون ما حاجة إلى اللف والدوران، وتأسيس الوحي على العقل، وجعل مَن يقدح في العقل يقدح في النقل)(5) .

هـ - رأيه في إبليس الرافض لأمر الله:

وفي المصدر نفسه يقول:

(والحقيقة أن إبليس هو رمز الحرية والرفض وتحدي الإنسان)(6) .

وفي المصدر نفسه يقول:

(لذلك لم يكن إبليس مخطئًا في الرفض ولم يكن مستكبرًا، بل كان واعيًا نظريًّا ومحققًا لفعل الرفض، ومع ذلك فإن موقف إبليس يدل على شيئين:

الأول: الموقف الواعي وعدم الخضوع، والرفض نتيجة لإعمال الفكر.

والثاني: تحدي الآخر والثقة بالنفس) (7) .

أما في كتابه (التراث والتجديد) فيقول:

(فلا سلطان إلا للعقل، ولا سلطة إلا لضرورة الواقع الذي نعيش فيه)(8) .

فالرجل يدعو إلى التحرر من سلطة المنقول (أي النصوص، الكتاب والسنة) ، ويدعو إلى التخلي عن ألفاظ ومصطلحات كثيرة بدعوى أنها تشير إلى مقولات غير إنسانية.

ثم يقول:

(فالانتقال من الله إلى الإنسان الكامل يعبر عن مضمون الله، فكل صفات الله (العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام والإرادة) كلها صفات الإنسان الكامل، وكل أسماء الله الحسنى تعني آمال الإنسان وغاياته التي يصبو إليها. فالإنسان الكامل أكثر تعبيرًا من لفظ (الله)

(9) .

(1) من العقيدة إلى الثورة، حسن حنفي: 1/39.

(2)

من العقيدة إلى الثورة: 3/159.

(3)

من العقيدة إلى الثورة: 3/504.

(4)

من العقيدة إلى الثورة: 5/542.

(5)

من العقيدة إلى الثورة: حسن حنفي: 4/76.

(6)

من العقيدة إلى الثورة: 4/321.

(7)

من العقيدة إلى الثورة: حسن حنفي: 5/24 - 25.

(8)

الإسلام بين التنوير والتزوير، د. محمد عمارة، ص189 - 190.

(9)

الإسلام بين التنوير والتزوير، ص191.

ص: 953

فيعتبر الإنسان الكامل بعد أن كساه صفات الله تعالى كلها أكثر تعبيرًا عن لفظ الله، فهل بعد هذا نحن بحاجة إلى تبيين كلام الرجل؟ فالرجل كان واضحًا ولم يترك شيئًا للاستنتاج.

حتى التوحيد ليس فيه إله، والله مجرد تعبير أدبي، والوحي ليس دينًا بل هو البناء المثالي للعالم، هذا النموذج تخرج على يديه كثير من علمانيي العصر.

ويدعو إلى إسقاط التراث من الحساب، واستبداله بمادة من واقعنا المعاصر، فيقول:

(ومادة التراث نسقطها كلها من الحساب، ونستبدل بها مادة أخرى جديدة من واقعنا المعاصر) .

إلى أن يصل إلى الطامة الكبرى فيقول:

(فالعلمانية هي رجوع إلى المضمون دون الشكل، وإلى الجوهر دون العرض، وإلى الصدق دون النفاق، وإلى وحدة الإنسان دون ازدواجيته، فالعلمانية إذن هي أساس الوحي علماني في جوهره، والدينية طارئة عليه من صنع التاريخ تظهر في لحظات تخلف المجتمعات وتوقفها عن التطور

) (1) .

فالعلمانية إذن هي أساس الوحي، فالوحي علماني في جوهره، والدينية طارئة عليه من صنع التاريخ! هكذا قلب الأمور رأسًا على عقب، ولكن لنقرأ رأيه في الإلحاد:

(فالإلحاد هو التجديد.. هو التحول من القول إلى العمل، ومن النظر إلى السلوك، ومن الفكر إلى الواقع.. إنه وعي بالحاضر.. ودرء للأخطار.. بل هو المعنى الأصيل للإيمان

) (2) .

(1) الإسلام بين التنوير والتزوير، ص194 - 195.

(2)

الإسلام بين التنوير والتزوير، ص196.

ص: 954

فالإلحاد في رأيه هو المعنى الأصلي للإيمان، فهو بيان ما بعده بيان، فالإلحاد هو الأصل والدين هو الطارئ، جريًا وراء مقولات الغربيين عن تطور الأديان، وأنها بدأت بالتعدد إلى أن وصلت إلى التوحيد، (وهذا ما نجد تكراره اليوم في كثير من كتب العلمانيين المعاصرين) والماركسيون يدلون بدلوهم في الدين والقرآن، ففي كتاب (القرآن وعلومه في مصر) يقول:

(إن الدين الجديد ليس سوى ثروة شاملة تتناول بالتغيير والتطوير كل شؤون الحياة.. ودخول الناس في الإسلام وإيمانهم به لا يعدو أن يكون الانضمام للثورة) .

(إن القرآن هو كتاب هذه الثورة المعبر عنها.. إنه كتاب الثورة الإسلامية الكبرى.. والمصدر النظري الأول.. وكتاب العربية الأقدس.. ومصدر المعرفة بنظرية الثورة)(1) .

فالدين هو ثورة، والقرآن هو كتاب الثورة، وهو كتاب العربية الأقدس.

ويقول عن الصحابة: إنهم قرَّاء ثوريون والطليعة المستنيرة، فالمسألة كلها تقدم وتقدمية ولا أثر للإيمان.. يقول في ذلك:

(القراء المستنيرون الذين بادروا بالانضمام إلى الثورة متخلين في بعض الحالات عن طبقتهم، يعيدون إلى الذهن ما يلحظ في الثورات الكبرى من ظاهرة تخلي بعض المثقفين عن طبقاتهم، فالمثقف الحقيقي يكون عادة شخصًا تقدميًا)(2) .

(1) الإسلام بين التنوير والتزوير، ص202.

(2)

الإسلام بين التنوير والتزوير، ص203.

ص: 955

* * *

التوصيات والمقترحات

لقد آن الأوان لإقامة مركز إسلامي لمكافحة الإلحاد والغلو العلماني؛ يأتي على هذه الشبهات ويهلهلها ويكشف زيفها! فلقد اكتشفتُ من مكابدتي لكتبهم أنهم ليسوا على شيء، وإن نفرًا قليلا لا يتجاوز العشرين من علماء المسلمين كافٍ لدحرهم وإعادتهم إلى جحرهم، ورد كيدهم إلى نحورهم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.

فلا يجوز أن يُتَرك هؤلاء يعبثون بالدين الإسلامي هكذا.

إن التعرض للأديان في أمريكا وخصوصًا اليهودية، وفي فرنسا بلد الحرية، جريمة يعاقب عليها القانون، طبقت مؤخرًا على روجيه غارودي.

فهل يصبح الإسلام مباحًا لمن هب ودب وفي ديار الإسلام؟

إن الأفكار التي تدور حولها العلمانية هي الإلحاد وذم الدين، ولضعف الأنظمة الرادعة، فلابد من إقامة مركز متخصص لمكافحة الإلحاد والغلو العلماني يتولى الأمور التالية:

1 -

إقامة مركز معلومات تجمع فيه جميع الكتب التي هاجمت الإسلام وتصنف الشبهات.

2 -

ترجمة جميع الكتب التي تهاجم الإسلام في الغرب القديمة والمعاصرة، وتحديد شبهاتهم ومصادرهم.

3 -

وضع هذه المعلومات تحت أيدي العلماء للرد عليها وتفنيدها.

4 -

تتبع الرابط بين هذه الأفكار التي يلوكها بعض المغالين العلمانيين لفضح المخطط الذي يُحاك ضد الإسلام.

5 -

إنشاء صحيفة أو دورية تخصص للرد على هذه الأفكار، على أن يكون ثمنها في متناول العامة، وخصوصًا خطباء المساجد.

6 -

إقامة علاقات بين هذه المراكز والقنوات الفضائية العربية لتصحيح هذه المفاهيم والرد على الشبهات، لأنها أوسع انتشارًا.

7 -

توضيح شروط الاجتهاد، لأن الاجتهاد لا يكون لمن هب ودب، وإنما للعلماء المعتبرين، بل الاجتهاد المعتبر في عصرنا الحاضر هو الصادر عن المجامع الفقهية، لأن كثيرًا من الأفراد يدعون الاجتهاد وهم لا يملكون شروطه ووسائله.

8 -

تولي البنك الإسلامي إنشاء هذا المركز، وفي حالة عدم توافر السيولة المادية يمكن اللجوء إلى طلب التبرعات، لأنه مشروع يعتبر من أبواب الجهاد.

ص: 956

9 -

إعطاء هذا الأمر أولوية خاصة، لأن النظرية السابقة التي كانت تقوم على إهمال الرد عليهم أثبتت فشلها، وهذه كتبهم اليوم يتلقفها الناس ممن لا يفرقون بين الصحيح والسقيم، بدليل أن بعض كتبهم طُبعت للمرة الرابعة، مما يدل على أن الفساد أصبح يستشري بين عامة المسلمين.

10 -

توجيه جزء من رسائل الماجستير والدكتوراه لمكافحة هذه الشبهات والرد على تلك الكتب.

11 -

إصدار سلاسل من الكتب الصغيرة تحت عنوان: ما لا ينبغي للمثقف جهله، بحيث يخصص كتيب صغير بكل علم، حتى لا يتخبط المثقفون ويكون لديهم الحد الأدنى من الثقافة.

12 -

طباعة كتب جديدة ميسرة في العقيدة بأساليب عصرية للمثقفين.

13 -

الإسراع في تحقيق كتب التاريخ الإسلامي حتى لا تكون مصدرًا للبس، لاعتماد الكثير من المستشرقين عليها، وحتى كتب السيرة النبوية بحاجة للتحقيق بموازين علماء الحديث.

14 -

إصدار كتيبات بالأحاديث المكذوبة (ولو بالمعنى) ، ثم الإحالة إلى المصدر؛ لأنها تُستخدَم ضدنا.

15 -

الاهتمام بعلم أصول الفقه، وخاصة القواعد الكلية وجعلها جزءًا من الثقافة العامة حتى يطلع المسلم على عَظَمة التشريع الإسلامي، وذلك بأسلوب عصري حديث.

16 -

تشجيع الشركات الإسلامية الخاصة ببرامج الحاسب الآلي (الكمبيوتر) على نقل أمهات الكتب وفهرستها لتسهيل العودة إليها.

17 -

إنتاج برنامج حول القرآن، تُظهِر فيه الكتابة بالرسم العثماني والرسم العادي، لأن الكثير من الدول بدأت تهمل دراسة القرآن، وذلك بالصوت والصورة معًا.

* لابد أن نجعل هدفنا هو المثقف العادي، وإعطاؤه حصيلة سهلة يسيرة يستطيع خلالها أن يوازن بين الأمور باستخدام أحسن الوسائل العصرية فلا نريد منهم أن يكونوا علماء، ولكن أن يكون لديهم الحد الأدنى من الثقافة الإسلامية.

الدكتور عمر عبد الله كامل

ص: 957

* * *

قائمة المراجع

1 -

الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، تحقيق د. البغا، دار ابن كثير.

2 -

أجنحة المكر الثلاثة، عبد الرحمن حبنكة الميداني، دار القلم، دمشق.

3 -

الإسلام بين التنوير والتزوير، د. محمد عمارة، دار الشروق.

4 -

الإسلام والتاريخ والحداثة، د. محمد أركون، ترجمة هاشم صالح، مجلة الوحدة، الرباط 1/1989م.

5 -

الأسطورة والتراث، سيد محمود القمني، دار سينا.

6 -

أصول الشريعة، محمد سعيد عشماوي، الناشر مدبولي الصغير.

7 -

الإمام الشافعي، وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، د. نصر حامد أبو زيد.

8 -

الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية، خليل عبد الكريم، سينا للنشر.

9 -

حروب دولة الرسول (1) ، سيد محمود القمني، دار مدبولي الصغير.

10 -

الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية، سيد محمود القمني، دار مدبولي الصغير.

11 -

الخطاب الديني، د. نصر حامد أبو زيد، دار المنتخب العربي.

ص: 958

12 -

دواعي الفتوحات الإسلامية ودعاوي المستشرقين، د. جميل عبد الله مصري.

13 -

سلطة النص، عبد الهادي عبد الرحمن، المركز الثقافي العربي.

14 -

الصحابة والصحابة، خليل عبد الكريم، دار سينا.

15 -

العرب والمرأة (حفرية في الإسطير المخيم) ، خليل عبد الكريم، دار سينا للنشر.

16 -

العلمانية، محمد مهدي شمس الدين، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع.

17 -

قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية، خليل عبد الكريم، سينا للنشر.

18 -

قصة الخلق، سيد محمود القمني، مؤسسة عيبال للدراسات والنشر.

19 -

القومية والعلمانية، د. عدنان زرزور، مؤسسة الرسالة.

20 -

كواشف زيوف، عبد الرحمن حبنكة، دار القلم.

21 -

الكيد الأحمر، عبد الرحمن حبنكة، دار القلم.

22 -

مجتمع يثرب، خليل عبد الكريم، دار سينا.

23 -

محمد والصحابة، خليل عبد الكريم، دار سينا.

24 -

معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام، د. محمد عمارة، نهضة مصر للنشر والتوزيع.

25 -

المفترون، فهمي هويدي، دار الشروق.

26 -

من العقيدة إلى الثورة، حسن حنفي، مكتبة مدبولي.

ص: 959