المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الوحدة الإسلامية{إنما المؤمنون إخوة}إعدادالشيخ عدنان عبد الله القطان - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ١١

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الحادي عشر

- ‌بيع الدين والأوراق الماليةوبدائلها الشرعيةإعدادالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌أحكام التصرف في الديوندراسة فقهية مقارنةإعداد الدكتورعلي محيي الدين القره داغي

- ‌بيع الدينأحكامه – تطبيقاته المعاصرةإعدادأ. د نزيه كمال حماد

- ‌بيع الدينإعداد الدكتورعبد اللطيف محمود آل محمود

- ‌بيع الدين وسندات القرضوبدائلها الشرعيةفي مجال القطاع العام والخاصإعداد الدكتورمحمد علي القري بن عيد

- ‌بيع الدين وسندات القرضوبدائلها الشرعية في مجال القطاع العام والخاصإعدادالدكتور سامي حسن حمود

- ‌المضاربات في العملةوالوسائل المشروعة لتجنب أضرارها الاقتصاديةإعداد الدكتورأحمد محيي الدين أحمد

- ‌المضاربات على العملةماهيتها وآثارها وسبل مواجهتهامع تعقيب من منظور إسلاميإعداد الدكتورشوقي أحمد دنيا

- ‌عقود الصيانةوتكييفها الشرعيإعدادالشيخ محمد المختار السلامي

- ‌عقود الصيانةوتكييفها الشرعيإعدادالدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌عقود الصيانة وتكييفها الشرعيعقد الصيانةإعدادآية الله محمد على التسخيري – مرتضى الترابي

- ‌عقود الصيانةإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌عقود الصيانة وتكييفها الشرعيإعدادالدكتور محمد أنس الزرقاء

- ‌ضوابط الفتوىفي ضوء الكتاب والسنةومنهج السلف الصالحإعداد الدكتورعبد الوهاب بن لطف الديليمي

- ‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعداد الدكتوروهبة مصطفى الزحيلي

- ‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعداد الدكتورعبد الله الشيخ المحفوظ بن بيه

- ‌العمل الفقهيعند الإباضيةإعدادناصر بن سليمان بن سعيد السابعي

- ‌الإسلامفي مواجهة الحداثة الشاملةإعدادالدكتور ناصر الدين الأسد

- ‌مجمع الفقه الإسلامي الدوليووحدة الأمة الإسلاميةإعدادمحمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌الوحدة الإسلاميةمنهجية المقارنة بين المذاهب الفقهيةإعدادالدكتور عبد الستار أبو غدة

- ‌الوحدة الإسلاميةمعالمها وأعلامهاإعدادالأستاذ محمد واعظ زادة الخراساني

- ‌الوحدة الإسلامية{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}إعدادالشيخ عدنان عبد الله القطان

- ‌الوحدة الإسلاميةأدب الحوار وأخلاقيات البحثإعدادالدكتور سعيد بن عبد الله بن محمد العبري

- ‌‌‌الإسلام في مواجهة العلمنةإعدادالدكتور عمر عبد الله كامل

- ‌الإسلام في مواجهة العلمنةإعدادالدكتور عمر عبد الله كامل

- ‌الإسلام في مواجهة العلمنةموقف الإسلام من مسألة الحكم والسيادةإعدادآية الله الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الديمقراطية والعلمانيةوحقوق الإنسانالمرجعية الغربية والمرجعية الإسلاميةإعدادالأستاذ إبراهيم بشير الغويل

الفصل: ‌الوحدة الإسلامية{إنما المؤمنون إخوة}إعدادالشيخ عدنان عبد الله القطان

‌الوحدة الإسلامية

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}

إعداد

الشيخ عدنان عبد الله القطان

وزارة العدل والشئون الإسلامية

دولة البحرين

شكر وتقدير

الحمد لله حمد الشاكرين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: يقول صلى الله عليه وآله وسلم: ((من لا يشكر الناس لا يشكر الله))

(1)

.

لذا فإن من الواجب علينا أن نتقدم بموفور الشكر والتقدير لسمو أمير البلاد المفدى، وحكومته الرشيدة، وللمسؤولين في وزارة العدل والشؤون الإسلامية، على عقد واستضافة هذا المؤتمر، الذي نرجو أن يكون خطوة إيجابية وبناءة على طريق تنبيه الأمة لدورها وواجبها، وأن يكون علامة مضيئة على الطريق، يسترشد بها الراغبون المخلصون في إعادة تصحيح المسار، وتسديد الخطى نحو الغاية، والله وحده المسؤول أن ينفع بهذا المؤتمر وأن يثيب عليه، وأن يوفق الجميع لما فيه خير الدنيا والآخرة، إنه سميع مجيب.

وصلى الله وسلم على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله أولًا وآخرًا.

(1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي.

ص: 798

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الحمد لله الذي جعل المؤمنين إخوة في الدين والإيمان، وشبههم في تعاونهم وتضامنهم وتناصرهم بالجسد الواحد والبنيان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه الغر الميامين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

فقد أوجب الإسلام على المسلمين أن يكونوا إخوة متحابين فيما بينهم، وبين مقتضيات هذه الأخوة وملتزماتها في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. قال الله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، وقال تعالى:{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]، وقال عليه الصلاة والسلام:((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه))

(1)

، وكان من نتيجة هذه الأخوة والمحبة في الله أن تعامل أفراد المجتمع الإسلامي عبر التاريخ وخلال العصور على أحسن ما تعامل الناس مواساة وإيثارًا وتعاونًا وتكافلًا، وما أحوج الأمة الإسلامية اليوم جماعات وأفرادًا إلى القيام بحقوق الأخوة، والعودة إلى كامل الوداد وصادق المحبة والنصيحة.

إذن فلابد أن نعرف ما هو مفهوم الأخوة الإسلامية؟ وما هي فضائلها؟ وما هي حقوقها وآدابها؟ وهل نحن مطالبون بالوحدة الإسلامية، والإصلاح بين المسلمين، ومراعاة أدب الخلاف بين المؤمنين؟

هذه الأسئلة وغيرها هي موضوع هذا البحث المتواضع، ولا أدعي أني قد أحطت بالموضوع من كل زاوية وركن، وإنما أدليت بدلوي بين الإدلاءات المتعددة قدر الإمكان، ومَن بذل من الخير ما لديه فلا لوم بعد ذلك عليه.

والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، ونبراسًا للأخوة في حياتهم:{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10] .

(1) رواه البخاري ومسلم.

ص: 799

المبحث الأول

مفهوم الأخوة الإسلامية

الأخ: مَن جمعك وإياه صلب أو بطن.

الأخ: الصديق والصاحب، والجمع: إخوة وإخوان.

وفي المثل العربي: رُبَّ أخ لك لم تلده أمك.

وأخوة النسب رحم يسأل عنها الإنسان؛ ولاسيما إذا دعمتها روابط الدين والمحبة والإخلاص.

وقد لا يكون بين الأخوين إلا رابطة النسب، وهي ضعيفة إن لم تدعمها معاني الأخوة الأخرى (1) .

ومن الناس مَن يؤاخي آخر لمصلحة شخصية، فإذا انقضت تصرم حبل المودة وانقسمت عرى الأخوة. وأقوى روابط الأخوة رابطة الدين.

والأخوة في نظر الإسلام: هي الآصرة العقيدية التي تشد المسلمين بعضهم لبعض، وهي الرباط الذي يربط بين قلوبهم، وهي من أوثق عرى الإيمان كما يقرر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:((أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله)) (2) .

ولذا كانت الأخوة في الإسلام صفة ملازمة للإيمان، وخصلة مرافقة للتقوى، إذ لا أخوة بدون إيمان، ولا إيمان بدون أخوة، فالله تعالى يقول:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] ، كما أنه لا أخوة بلا تقوى ولا تقوى بلا أخوة، والله تعالى يقول:{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67] .

فإن وجدت أخوة ولم تجد من ورائها إيمانًا فهو التقاء مصالح، وتبادل منافع، وإن وجدت إيمانًا ولم تجد أخوة فهو إيمان ناقص يحتاج إلى معالجة.

والأخوة الإسلامية: هي رابطة نفسية تورث الشعور العميق بالعاطفة والمحبة والاحترام والثقة المتبادلة مع كل من تربطك وإياه أواصر العقيدة الإسلامية وركائز الإيمان والتقوى. فهذا الشعور الأخوي الصادق يولد في نفس المسلم أصدق العواطف النبيلة في اتخاذ مواقف إيجابية من التعاون والإيثار والرحمة والعفو والتكافل، وفي اتخاذ مواقف سلبية من الابتعاد عن كل ما يضر بالناس في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم والمساس بكرامتهم.

والأخوة الإسلامية نعمة من نعم الله التي امتن بها على عباده فقال: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103] .

كما امتن بها على نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63] .

(1) الدعوة إلى الإسلام، أحمد البيانوني، ص172.

(2)

رواه الإمام أحمد.

ص: 800

المبحث الثاني

فضائل الأخوة الإسلامية

ذكرنا في المبحث الأول أن الأخوة في الإسلام صفة ملازمة للإيمان مقرونة مع التقوى، لذا جعل الله لها من الكرامة والفضل وعلو المنزلة ما يدفع المسلمين جميعًا إلى التحقق بها، والحرص عليها، عسى أن يكونوا من المؤمنين الأطهار، والمتقين الأبرار، والأصفياء الأخيار، وقد وردت في فضائلها أحاديث وآثار كثيرة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: أولًا: جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أن رجلًا زار أخًا له في قرية أخرى، فأرصد الله على مدرجته ملكًا، فلما أتى عليه، قال أين تريد؟

قال: أريد أخًا لي في هذه القرية.

قال: هل لك من نعمة تربها عليه؟ (أي تقوم بها وتسعى في صلاحها) .

قال: لا، غير أني أحببته في الله تعالى.

قال الملك: فإني رسول الله إليك، بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)) (1) .

ثانيًا: وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؛ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي)) (2) .

ثالثًا: السبعة الذين ورد ذكرهم في الحديث: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وذكر منهم: رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه)) (3) .

رابعًا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من عباد الله لأناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله تعالى)) .

قالوا: يا رسول الله، تخبرنا مَن هم؟.

قال صلى الله عليه وسلم: ((هم قوم تحابوا بروح الله بينهم، على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، والله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس)) (4) .

(1) رواه مسلم.

(2)

رواه مسلم.

(3)

متفق عليه.

(4)

رواه أبو داود.

ص: 801

خامسًا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سره أن يجد حلاوة الإيمان، فليحب المرء لا يحبه إلا لله عز وجل)

(1)

.

سادسًا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المسلم إذا لقي أخاه المسلم فأخذ بيده تحاثت عنهما ذنوبهما، كما تتحاث الورق من الشجرة اليابسة في يوم ريح عاصف، وإلا غفر لهما ذنوبهما ولو كانت مثل زبد البحر)) (2) .

سابعًا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث من كُنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار))

(3)

.

ثامنًا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: ((حقت محبتي للذين يتزاورون من أجلي، وحقت محبتي للذين يتحابون من أجلي، وحقت محبتي للذين يتباذلون من أجلي، وحقت محبتي للذين يتناصرون من أجلي)) (4) .

تاسعًا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل عرى الإيمان)) (5) .

عاشرًا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله، التقوى ههنا (ويشير إلى صدره ثلاث مرات) ، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وعرضه وماله)) (6) .

(1) رواه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، المستدرك: 4/168.

(2)

رواه الطبراني.

(3)

متفق عليه.

(4)

رواه أحمد والحاكم وصححه.

(5)

رواه أبو داود.

(6)

رواه مسلم.

ص: 802

ومن الآثار (1) الواردة في فضل الإخوة الإسلامية:

- عن عمر رضي الله عنه قال: (إذا رأى أحدكم ودًّا من أخيه فليتمسك به فقلما يصيب ذلك

- وعنه رضي الله عنه قال: (عليكم بإخوان الصدق، فإنهم زينة في الرخاء، وعصمة في البلاء) .

- وقال علي رضي الله عنه: (عليكم بالإخوان، فإنهم عدة في الدنيا والآخرة، ألا تسمع إلى قول أهل النار: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) } [الشعراء: 100 - 101] ) .

- وقال رضي الله عنه لابنه الحسن: (يا بني، الغريب من ليس له حبيب) .

- وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (والله لو صمت النهار لا أفطره، وقمت الليل لا أنامه، وأنفقت مالي غلقًا غلقًا في سبيل الله، أموت يوم أموت وليس في قلبي حب لأهل طاعة الله، وبغض لأهل معصية الله، ما نفعني ذلك شيئًا) .

- وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (لو أن رجلًا قام بين الركن والمقام يعبد الله سبعين سنة لبعثه الله يوم القيامة مع من يحب) .

- وقال خالد بن صفوان: (إن أعجز الناس من قصر في طلب الإخوان، وأعجز منه من ضيع مَن ظفر به منهم) .

- وقال محمد بن الحنفية رضي الله عنه: (ليس بحكيم مَن لم يعاشر بالمعروف، من لا يجد في معاشرته بدًّا حتى يجعل الله له منه فرجًا) .

وقال ابن المعتز: (مَن اتخذ إخوانًا كانوا له أعوانًا) .

(1) تآلفوا ولا تخالفوا، للأستاذ جمال الأحمر، ص29 (بتصرف) .

ص: 803

المبحث الثالث

حقوق الأخوة الإسلامية وآدابها (1)

المسلم يؤمن بما لأخيه المسلم من حقوق وآداب تجب له عليه، فيلتزم بها، ويؤديها لأخيه المسلم، وهو يعتقد أنها عبادة لله تعالى، وقربة يتقرب بها إليه سبحانه وتعالى، إذ هذه الحقوق والآداب أوجبها الله تعالى على المسلم، ليقوم بها نحو أخيه المسلم، ففعلها إذًا طاعة لله، وقربة له بدون شك. ومن هذه الحقوق والآداب ما يلي:

1 -

أن يسلم عليه إذا لقيه قبل أن يكلمه، فيقول: السلام عليكم ورحمة الله، ويصافحه، ويرد المسلم عليه قائلًا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وذلك لقوله تعالى:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] .

وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد والقليل على الكثير)) (2)، وقوله:((إن الملائكة تعجب من المسلم يمر على المسلم ولا يسلم عليه)) (3)، وقوله:((وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)) (4)، وقوله:((ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا)) (5)، وقوله:((من بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه حتى يبدأ بالسلام)) (6) .

2 -

أن يُشمته إذا عطس، بأن يقول له إذا حمد الله تعالى: يرحمك الله، ويرد العاطس عليه قائلًا: يهديكم الله ويصلح بالكم، لقوله صلى الله عليه وسلم:((إذا عطس أحدكم فليقل له أخوه: يرحمك الله، فإذا قال له: يرحمك الله، فليقل له: يهديكم الله ويصلح بالكم))

(7)

، وقال أبو هريرة رضي الله عنه:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عطس وضع يده أو ثوبه على فيه، وخفض بها صوته)(8) .

(1) منهاج المسلم، أبو بكر الجزائري، ص109 (بتصرف) .

(2)

متفق عليه.

(3)

قال الزين العراقي: لم أقف له على أصل.

(4)

متفق عليه.

(5)

رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي.

(6)

رواه الطبراني.

(7)

رواه البخاري.

(8)

متفق عليه.

ص: 804

3 -

أن يعوده إذا مرض، ويدعو له بالشفاء، لقوله صلى الله عليه وسلم:((حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس)) (1)، ويقول البراء بن عازب رضي الله عنه:((أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، وإبرار المقسم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام)) (2)، ولقوله صلى الله عليه وسلم:((عودوا المريض، وأطعموا الجائع، وفكوا العاني (الأسير)) )

(3)

، وقول عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعود بعض أهله فيمسح بيده اليمنى ويقول: ((اللهم رب الناس أذهب البأس، اشفِ أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقمًا)) (4) .

4 -

أن يشهد جنازته إذا مات، لقوله صلى الله عليه وسلم:((حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس))

(5)

.

5 -

أن يبر قسمه إذا أقسم عليه في شيء، وكان لا محذور فيه، فيفعل ما حلف له من أجله حتى لا يحنث في يمينه، وذلك لحديث البراء بن عازب رضي الله عنه:((أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، وإبرار المقسم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام))

(6)

.

6 -

أن ينصح له إذا استنصحه في شيء من الأشياء أو أمر من الأمور، بمعنى أنه يبين له ما يراه الخير في الشيء أو الصواب في الأمر، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم:((إذا استنصح أحدكم أخاه فلينصح له))

(7)

، وقوله:((الدين النصيحة))

وسئل لمن؟ فقال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) (8) ، والمسلم قطعًا من جملتهم.

7 -

أن يحب له ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه، لقوله صلى الله عليه وسلم:((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه))

(9)

، وقوله عليه الصلاة والسلام:((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))

(10)

، وقوله:((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا))

(11)

.

(1) متفق عليه.

(2)

متفق عليه.

(3)

متفق عليه.

(4)

متفق عليه.

(5)

متفق عليه.

(6)

متفق عليه.

(7)

رواه البخاري.

(8)

رواه مسلم.

(9)

متفق عليه.

(10)

متفق عليه.

(11)

متفق عليه.

ص: 805

8 -

أن ينصره ولا يخذله في أي موطن احتاج فيه إلى نصره وتأييده، لقوله صلى الله عليه وسلم:((انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا)) ، وسئل عليه الصلاة والسلام عن كيفية نصره وهو ظالم، فقال:((تأخذ فوق يديه - بمعنى تحجزه عن الظلم وتحول بينه وبين فعله - فذلك نصرك له))

(1)

، وقوله صلى الله عليه وسلم:((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره)) ، وقوله:((ما من امرئ مسلم ينصر مسلمًا في موضع ينتهك فيه عرضه، وتستحل فيه حرمته، إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصره، وما من امرئ خذل مسلمًا في موطن تنتهك فيه حرمته إلا خذله الله في موضع يحب فيه نصره))

(2)

، وقوله:((مَن رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة)) .

9-

أن لا يمسه بسوء أو يناله بمكروه أو أذى، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام:((كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه))

(3)

، وقوله صلى الله عليه وسلم:((لا يحل لمسلم أن يروِّع مسلمًا))

(4)

، وقوله:((لا يحل لمسلم أن يشير إلى أخيه بنظرة تؤذيه))

(5)

، وقوله:((إن الله يكره أذى المؤمنين))

(6)

، وقوله صلى الله عليه وسلم:((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده))

(7)

، وقوله عليه الصلاة والسلام:((المؤمن من أمنه المؤمنون على أنفسهم وأموالهم)) (8) .

10 -

أن يتواضع له ولا يتكبر عليه، وأن لا يقيمه من مجلسه المباح ليجلس فيه، لقوله تعالى:{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18]، ولقوله صلى الله عليه وسلم:((إن الله تعالى أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد))

(9)

، ولقوله صلى الله عليه وسلم:((ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله تعالى)) ،

ولما عُرف عنه صلى الله عليه وسلم من تواضعه لكل مسلم وهو سيد المرسلين، ومن أنه كان لا يأنف ولا يتكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين ويقضي حاجتهما، وأنه قال:((اللهمَّ أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين))

(10)

، وقوله عليه الصلاة والسلام:((لا يقيمن أحدكم رجلًا من مجلسه حتى يجلس فيه، ولكن توسعوا وتفسحوا))

(11)

.

(1) متفق عليه.

(2)

رواه أحمد وفي سنده لين.

(3)

رواه مسلم.

(4)

رواه أحمد وأبو داود.

(5)

رواه أحمد بسند لين.

(6)

رواه أحمد.

(7)

متفق عليه.

(8)

رواه أحمد والترمذي والحاكم وصححه.

(9)

رواه أبو داود وابن ماجه.

(10)

رواه ابن ماجه والحاكم.

(11)

متفق عليه.

ص: 806

11 -

أن لا يهجره أكثر من ثلاثة أيام، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان، فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام))

(1)

، وقوله:((ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانًا))

(2)

، والتدابر: هو التهاجر وإعطاء كل دبره للآخر معرضًا عنه.

12 -

أن لا يغتابه أو يحقره أو يعيبه أو يسخر منه أو ينبزه بلقب سوء أو ينم عنه حديثًا للإفساد، لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12]، وقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم:((أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته))

(3)

، وقوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع:((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم))

(4)

، وقوله:((كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه))

(5)

، وقوله عليه الصلاة والسلام:((بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم))

(6)

، وقوله عليه الصلاة والسلام:((لا يدخل الجنة قتات))

يعني نمام.

13 -

أن لا يسبه بغير حق حيًّا كان أم ميتًا، لقوله عليه الصلاة والسلام:((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر))

(7)

، وقوله:((لا يرمي رجل رجلًا بالفسق أو الكفر إلا ارتد عليه إن لم يكن صاحبه كذلك)) ،

وقوله عليه الصلاة والسلام: ((المتسابان ما قالا، فعلى البادي منهما حتى يعتدي المظلوم))

(8)

، وقوله:((لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا))

(9)

، وقوله:((من الكبائر أن يشتم الرجل والديه، قيل: وهل يسب الرجل والديه؟ قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب الرجل أباه فيسب أمه))

(10)

.

(1) متفق عليه.

(2)

رواه مسلم.

(3)

رواه مسلم.

(4)

رواه مسلم.

(5)

رواه مسلم.

(6)

متفق عليه.

(7)

متفق عليه.

(8)

رواه البخاري.

(9)

متفق عليه.

(10)

متفق عليه.

ص: 807

14 -

أن لا يحسده، أو يظن به سوءًا أو يبغضه أو يتجسس عليه، لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12]، وقوله تعالى:{لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور: 12]، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم:((لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا وكونوا عباد الله إخوانًا))

(1)

، وقوله:((إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث))

(2)

.

15 -

أن لا يغشه أو يخدعه، لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58]، وقوله تعالى:{وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 112]، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم:((مَن حمل علينا السلاح ومن غشنا فليس منا))

(3)

، وقوله:((مَن بايعت فقل لا خلابة))

(4)

، يعني لا خديعة، وقوله عليه الصلاة والسلام:((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاشّ لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة))

(5)

، وقوله:((مَن خبب زوجة امرئ أو مملوكة فليس منا))

(6)

، ومعنى خبب: أفسد وخدع.

16 -

أن لا يغدره أو يخونه أو يكذبه أو يماطله في قضاء دينه، لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وقوله:{وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) } [البقرة: 177]، وقوله:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34]، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم:((أربع مَن كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومَن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر))

(7)

، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي:((قال تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة؛ رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطِه أجره))

(8)

، وقوله صلى الله عليه وسلم:((مطل الغني ظلم، وإذا أُتبع أحدكم على مليء فليتبع))

(9)

.

(1) رواه مسلم.

(2)

رواه البخاري.

(3)

رواه مسلم.

(4)

متفق عليه.

(5)

متفق عليه.

(6)

رواه أبو داود.

(7)

متفق عليه.

(8)

رواه البخاري.

(9)

متفق عليه.

ص: 808

17 -

أن يخالقه بخلق حسن، فيبذل له المعروف، ويكف عنه الأذى، ويلاقيه بوجه طلق؛ يقبل منه إحسانه، ويعفو عن إساءته، ولا يكلفه ما ليس عنده؛ فلا يطلب العلم من جاهل، ولا البيان من عيي، لقوله تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم:((اتقِّ الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن))

(1)

.

18 -

أن يوقره إن كان كبيرًا، ويرحمه إن كان صغيرًا؛ لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم:((ليس منا من لم يوقِّر كبيرنا ويرحم صغيرنا))

(2)

، وقوله:((من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم))

(3)

، وقوله:((كبر كبر)) أي ابدأ بالكبير.. ولما عرف عنه صلى الله عليه وسلم من أنه كان يؤتى بالصبي ليدعو له بالبركة ويسميه، فيضعه في حجره، فربما بال الصبي في حجره عليه الصلاة والسلام. وروي أنه إذا قدم من سفر تلقاه الصبيان فيقف عليهم، ثم يأمر بهم فيرفعون إليه، فيجعل منهم بين يديه، ومن خلفه، ويأمر الصحابة أن يحملوا بعضهم؛ رحمة منه عليه الصلاة والسلام بالصبيان.

19 -

أن يعفو عن زلته، ويستر من عورته، وأن لا يتسمع إلى حديث يخفيه عنه لقوله تعالى:{فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 13]، وقوله سبحانه:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178]، وقوله:{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]، وقوله:{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22]، وقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ} [النور: 19]، ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم:((ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا))

(4)

، وقوله:((وأن تعفو عمن ظلمك)) ،

وقوله: ((لا يستر عبد عبدًا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة))

(5)

، وقوله:((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم يتبع الله عورته، ويفضحه ولو كان في جوف بيته))

(6)

، وقوله:((مَن استمع لخبر قوم وهم له كارهون صب في أذنه الآنك يوم القيامة)) .

(1) رواه الحاكم والترمذي وحسنه.

(2)

رواه أبو داود والترمذي وحسنه.

(3)

رواه أبو داود بإسناد حسن.

(4)

رواه مسلم.

(5)

رواه مسلم.

(6)

رواه أبو داود والترمذي.

ص: 809

20 -

أن يساعده إذا احتاج إلى مساعدته، وأن يشفع له في قضاء حاجته إن كان يقدر على ذلك، لقوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، وقوله سبحانه:{مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} [النساء: 85]، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم:((مَن نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومَن يسَّر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومَن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه))

(1)

، وقوله عليه الصلاة والسلام:((اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء))

(2)

.

21 -

أن يعيذه إذا استعاذه بالله، وأن يعطيه إذا سأله بالله، وأن يكافئه على معروفه أو يدعو له، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم:((مَن استعاذكم بالله فأعيذوه، ومَن سألكم بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومَن صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه به فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه)) .

22 -

أن ينصفه من نفسه، ويعامله بما يجب أن يعامل به، لقوله صلى الله عليه وسلم:((لا يستكمل العبد الإيمان حتى يكون فيه ثلاث خصال: الإنفاق من الإقتار، والإنصاف من نفسه، وبذل السلام))

(3)

، وقوله عليه الصلاة والسلام:((مَن سره أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وليؤت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه))

(4)

.

(1) رواه مسلم.

(2)

متفق عليه.

(3)

رواه البخاري.

(4)

رواه الخرائطي.

ص: 810

المبحث الرابع

(إن أمتكم أمة واحدة)(1)

لقد أرسل الله سبحانه وتعالى رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحنفية السمحة، أرسله هاديًّا مرشدًا ومعلمًا مصلحًا جامعًا لا مفرقًا، وخلال ثلاث وعشرين سنة تم له ما أراد بإذن ربه، والآيات الآتية توضح منهجه وطريقته صلى الله عليه وسلم في جمع العرب المتناحرين والمتفرقين، وتوضح كيف أزال الإسلام الفوارق بين الطبقات وجعلها أمة واحدة، ودعا إلى وجوب الاجتماع وعدم الفرقة، فقال تعالى:{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء: 92] .

وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يرضى لكم ثلاثًا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم))

(2)

.

وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]، وقال سبحانه:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105]، وقال عز وجل:{وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] ، ومن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم سار الصحابة وسار بعدهم السلف الصالح، وكان الاختلاف بينهم يسيرًا، كان سبب ذلك هو التفاوت في فهم النصوص، وجاء الأئمة من العلماء والفقهاء واجتهدوا لتقريب مفهوم الكتاب والسنة إلى أفهام الناس، وكانوا يقولون:(لا يجوز لأحد أن يقول بقولنا حتى يعلم دليلنا)، ويقول أحدهم ما معناه:((إذا وجدتم دليلًا يعارض قولي فاضربوه عرض الحائط)) .

(1) عن مجلة الدعوة السعودية، العدد (643) في 11/4/1398هـ (بتصرف) .

(2)

رواه مسلم.

ص: 811

وقصد أولئك الأئمة الأعلام معروف، هو مساعدة الناس على فهم الكتاب والسنة، ولم يكن قصدهم أن يأتي من بعدهم أناس يتعصبون لأقوالهم. وبعد ذلك انتشر التقليد المتعصب، وانسد باب الاجتهاد والبحث والتقصي وراء الأحكام، ودارت الأيام والسنون والله تعالى ييسير لهذه الأمة بين الفينة والأخرى من يوقظها من سباتها، ويعيد لها بإذن ربها أمر رشدها، ويضم شملها، ويطرد الشكوك والتعصب والاختلاف عنها.

وكان بدء البعد والاختلاف بسبب وجود الدعوات المناوئة للإسلام، والتي تريد المسلمين مختلفين في أمرهم، ولا تريد اجتماعهم، ومع علم الكثير بهذا إلا أننا نلاحظ عددًا من الجماعات الإسلامية تمارس الدعوة إلى الله مع وجود تنافر وتباغض بين هذه الجماعات، فما هو المبرر؟ ولماذا لا يتحد هؤلاء تحت راية الدعوة إلى الإسلام، ويتركوا الحزبية الضيقة والتعصب للأشخاص؟ وإذا كان يوجد لدى إحدى هذه الجماعات أخطاء - وجل من لا يخطئ - فعند الأخرى مثلها أو أكثر أو أقل، فلماذا لا يسود التفاهم والتناصح والألفة والمحبة والاجتماع على ضوء الآيات السابقة، حتى يسود مجتمعاتنا جهد مكثف للدعوة، لا تنافر ولا حقد ولا كراهية؟ ولا نقول إن إحدى هذه الجماعات على خطأ، ولكن نخاف أن تفقد الهمة، وتضعف العزيمة، ويولد جيل من المخلصين لا يعرف إلا التعصب والتحزب لهذه أو تلك. وهذا ما يريده أعداء الإسلام عاجلًا أو آجلًا، فماذا ننتظر؟ هل ننتظر اليهود والصليبيين والشيوعيين ليوحدوا صفوف الدعاة إلى الله؟ لماذا لم يختلفوا في باطلهم، ولم يتفرقوا في غيهم؟ والمسلمون تفرقوا شيعًا كل يدعي أن الحق معه. هذه أمنية لأعداء الإسلام، إن الداعية إلى الله لا يحب أن يصرف جهده إلى علم أو طريقة معينة، فلا يصرف مثلًا جهده لعلم من العلوم الإسلامية دون آخر، وإنما يجب أن يصرف جهده لجميع أنواع العلوم الإسلامية، من حديث وفقه وتوحيد وتفسير، ويجب عليه معرفة الأمراض التي تسري في الأمة سريان النار في الهشيم. ومعالجتها وتوضيح بطلانها، وأعود فأقول: يجب ضم جميع الجماعات الداعية إلى الله تحت راية واحدة، حتى يتحقق الأمل المنشود.

والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

ص: 812

المبحث الخامس

الدعوة إلى الإصلاح بين الناس لاسيما بين الأخوة

إن الإسلام وهو دين الفطرة معني بالحياة الاجتماعية، وأن تكون هذه الحياة قائمة على التواد والتحابب، لهذا تراه يحض على الألفة، يقول صلى الله عليه وآله وسلم:((لا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف)) ،

والقرآن الكريم مملوء بالآيات التي تحض الإنسانية جمعاء على التعاون والمحبة والسلام، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208]، وقال عز وجل:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، كما قال:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] ، كل هذا يبين للإنسان وجهة الدين، ورغبته في أن يعيش الناس في وئام وتآلف ومحبة وسلام.

وإذا كانت هذه مقاصد الدين الحنيف كان جليًّا أن من يعمل على إفساد هذه الميادين، وإحلال الكراهية محل المحبة، والشقاق محل الوفاق، والتفكك محل الارتباط، مَن يعمل هذا يكون عاملًا على هدم أسس الاجتماع والترابط.

من أجل هذا أمر الحق سبحانه وتعالى جماعة المؤمنين أن يجعلوا من أنفسهم جماعة تراقب العلاقات الاجتماعية الأخوية، وتوفر لها ما يلزمها من الصفاء الدائم والصحة التامة، فإذا ما حدث أمر يهدد أخوة المجتمع، من خلاف بين أفراده، أو نزاع على شأن من شؤون الحياة؛ وجب على كل فرد في المجتمع أن يهب ليصلح ما طرأ على العلاقات الأخوية من فساد، ويذود عنها العطب والتلف، من أجل سلامة إيمان المؤمنين، ومن أجل سلامة المجتمع وصيانته من الدمار، وهكذا عقب الله سبحانه وتعالى على وصف مجتمع المؤمنين بالأخوة بالأمر بالإصلاح بقوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10] ، من أجل هذا كانت إزالة الشحناء من نفوس المسلمين، والعمل على صفاء قلوب بعضهم لبعض، وتنقيتها مما علق بها من أدران الفساد، وعوامل الشقاق، ودواعي الفرقة، من أهم المقاصد التي يحث عليها الشارع الحكيم، ويترتب عليها الثواب العظيم، فقد اهتم الإسلام بإصلاح ذات البين حفاظًا على وحدة المسلمين وسلامة قلوبهم.

ص: 813

وإن الإصلاح يعتبر من أعظم وأجل الطاعات وأفضل الصدقات؛ فالمصلح بين الناس له أجر عظيم وثواب كريم إذا كان يبتغي بذلك مرضاة الله تعالى، فأجره يفوق ما يناله الصائم القائم المشتغل بخاصة نفسه، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة، قالوا: بلى، قال: إصلاح ذات البين وفساد ذات البين هي الحالقة))

(1)

، ومعنى الحالقة أي تحلق الدين. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم، يعدل بين الناس صدقة))

(2)

، وفي رواية قال:((تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، قال: والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة))

(3)

، وقوله: تعدل بين الاثنين، أي تصلح بينهم بالعدل.

إن الإصلاح بين الناس تفضل فيه النجوى، وهي السر دون الجهر والعلانية، ذلك أنه كلما ضاق نطاق الخلاف كان من السهل القضاء عليه، لأن الإنسان يتأذى من نشر مشاكله أمام الناس، فالسعي في الإصلاح يحتاج إلى حكمة، وإلا فإن الساعي أحيانًا قد يزيد من شقة الخلاف وحدته، قال تعالى:{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114] .

ولأهمية الإصلاح بين الناس رخص فيه الكذب، وذلك إذا كان سبيلًا للإصلاح ولا سبيل سواه، عن أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:((ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرًا أو يقول خيرًا))

(4)

، قوله ينمي خيرًا أي ينقل الحديث على وجه الإصلاح.

(1) رواه أبو داود.

(2)

رواه البخاري.

(3)

رواه مسلم.

(4)

رواه البخاري.

ص: 814

والكذب في الإصلاح بين الناس، مثل: أن يحاول المصلح تبرير أعمال كل من المتخاصمين وأقوالهما بما يحقق التقارب، ويزيل أسباب الشقاق والخلاف، وأحيانًا ينفي بعض أقوالهما السيئة فيما بينهما، وينسب إلى كل منهما الأقوال الحسنة في حق صاحبه مما لم يقله، مثل أن يقول: فلان يسلم عليك ويحبك، وما يقول فيك إلا خيرًا ونحو ذلك

فأصلح أيها المسلم ما بينك وبين الله يصلح الله ما بينك وبين الناس، واحذر أسباب الشحناء والبغضاء، وإذا جاء إليك أخوك معتذرًا فاقبل معذرته ببشر وطلاقة، بل ينبغي أن تسعى أنت إلى إنهاء الشحناء وإن كان لك الحق، قال عمر رضي الله عنه: أعقل الناس أعذرهم لهم، وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما:(لو أن رجلًا شتمني في أذني هذه، واعتذر إلي في أذني الأخرى لقبلت عذره)

(1)

، وروي أن الحسين بن علي رضي الله عنهما كان بينه وبين أخيه محمد ابن الحنفية خصومة عليهم رضوان الله، وبعد أيام كتب محمد إلى الحسين رسالة ضمنها اعتذاره منه، فما أن وصل الكتاب إلى الحسين حتى قام لساعته وذهب إلى أخيه محمد، فالتقى به في منتصف الطريق فتعانقا وبكيا وتصالحا (2) .

أما الإصلاح بين الطوائف المتخاصمة أمر حتم، ولو لم يتم ذلك إلا بالعنف محافظة على الكيان العام للجماعة، وإبقاء لعلاقات المودة والإخاء، يقول الله تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) } [الحجرات: 9 - 10] ، وهذه قاعدة تشريعية عملية لصيانة المجتمع المؤمن من الخصام والتفكك والتفرق، والارتكان في هذا كله إلى تقوى الله، ورجاء رحمته بإقرار العدل والصلاح.

والقرآن قد واجه - أو هو يفترض - إمكان وقوع القتال بين طائفتين من المؤمنين، ويستبقي لكلتا الطائفتين وصف الإيمان مع اقتتالهما، ومع احتمال أن إحداهما قد تكون باغية على الأخرى، بل مع احتمال أن تكون كلتاهما باغية في جانب من الجوانب.

(1) الآداب الشرعية، لابن مفلح: 1/340.

(2)

الحلال والحرام، لأحمد عساف، ص501.

ص: 815

وهو يكلف الذين آمنوا - من غير الطائفتين المتقاتلتين طبعًا - أن يقوموا بالإصلاح بين المتقاتلين، فإذا بغت إحداهما فلم تقبل الرجوع إلى الحق، ومثله أن تبغيا معًا برفض الصلح، أو رفض قبول حكم الله في المسائل المتنازع عليها، فعلى المؤمنين أن يقاتلوا البغاة إذن، وأن يظلوا يقاتلونهم حتى يرجعوا إلى أمر الله، وأمر الله هو وضع الخصومة بين المؤمنين، وقبول حكم الله فيما اختلفوا فيه وأدى إلى الخصام والقتال، فإذا تم قبول البغاة لحكم الله قام المؤمنون بالإصلاح القائم على العدل الدقيق، طاعة لله وطلبًا لرضاه:{وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] . ويعقب على هذه الدعوة وهذا الحكم باستجاشة قلوب المؤمنين الذين آمنوا، واستحياء الرابطة الوثيقة بينهم، والتي جمعتهم بعد تفرق، وألفت بينهم بعد خصام، وتذكيرهم بتقوى الله، والتلويح لهم برحمته التي تنال بتقواه:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10] .

ومما يترتب على هذه الأخوة أن يكون الحب والسلام والتعاون والوحدة هي الأصل في الجماعة المسلمة، وأن يكون الخلاف أو القتال هو الاستثناء

الذي يجب أن يرد إلى الأصل فور وقوعه، وأن يستباح في سبيل تقريره قتال المؤمنين للبغاة من إخوانهم ليردوهم إلى الصف، وليزيلوا هذا الخروج على الأصل والقاعدة، وهو إجراء صارم وحازم (1) .

(1) تآلفوا ولا تخالفوا، جمال الأحمر، ص258 (بتصرف) .

ص: 816

المبحث السادس

معرفة حقوق الأخوة الإسلامية

ومراعاة آداب الخلاف بين المؤمنين

اقتضت مشيئة الله سبحانه وتعالى أن تتفاوت العقول، وتتباين المدارك، مما يؤدي إلى تعداد الآراء والاجتهادات، وقد أشار القرآن الكريم إلى أن الخلاف بين البشر سنة من سنن الله الكونية، قال تعالى:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118] ، ونود أن نشير هنا إلى أن الاختلاف الذي يقع بين الأمة؛ منه ما يكون في أمور العقيدة والأصول، ومنه ما يكون في مسائل الفروع والأحكام.

ولا خلاف في أنه بالنسبة للنوع الأول لابد من الإنكار على مَن خالف العقيدة الصحيحة، ولابد من دحض شبهات أصحابه؛ فهذه الأمور قد بينها الله ورسوله أجلى بيان، والمخالف فيها مخالف لأمور قطعية لا تقبل النقاش والجدال، وأما النوع الثاني فهو الذي نقصده بحديثنا هنا، ونريد أن نبين شيئًا من الأدب الذي كان يلتزمه سلفنا الصالح إذا ما وقع بينهم شيء من هذا الخلاف، يقول الشيخ رشيد رضا رحمه الله في مقدمته لكتاب (المغني) لابن قدامة:(ولما كان الاختلاف في الفهم من طبائع البشر؛ خص الاختلاف المذموم بما كان عن تفرقة أو سببًا للتفرق، وجرى على ذلك السلف الصالح فحظروا فتح باب الآراء في العقائد، وجعلوها في الفروع، وكان بعضهم يعذر بعضًا في المسائل الاجتهادية ولا يكلفه موافقته في فهمه)(1) .

وهناك أمور جعل الله فيها سعة، وجعل في الخلاف فيها بين المؤمنين سعة، ووقع الخلاف بين أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مثل هذه القضايا، فلا يجوز لنا أن نهدر الأخوة الإيمانية التي هي من ضروريات الدين.

(1) مقدمة المغني: 1/17.

ص: 817

يقول الشاطبي عليه رحمة الله: بالأخوة والائتلاف والتعاون يحفظ الدين، وبالتفرق والتخاصم والتنابذ والتدابر يُضاع الدين، وحفظ الدين أول مقاصد هذا التشريع، وجعل الله للاختلاف بين المسلمين - الاختلاف السائغ - جعل له بابًا، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما قال لأصحابه في غزوة الخندق:((مَن كان سامعًا مطيعًا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة))

فأدركهم وقت الصلاة في الطريق بعد الحصار الطويل، وقد غابوا رضي الله عنهم عن أزواجهم وأموالهم وعن أولادهم، وكانوا لا يخرجون للخلاء حتى يستأذنوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسبب شدة طاعتهم لله، وحين انقضَّ العدو سارع كل منهم إلى أهله، فأبلغهم النداء، وقد تفاوتوا في عوالي المدينة وأطرافها، فأدرك وقت الصلاة بعضهم في الطريق، فقالوا: ما أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم منا أن نؤخر الصلاة إنما أراد استعجالنا؛ فلنصلي، وقال بعضهم الآخر: نحن لا نخالف أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا نصلي إلا في بني قريظة، فصلى بعضهم في الطريق، وصلى بعضهم في بني قريظة بعد غروب الشمس.

يقول الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله: لم يُنكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على هؤلاء، ولم ينكر على هؤلاء، وهذه الحادثة لو وقعت بين المسلمين في زماننا هذا لسالت من أجلها الدماء، وسُلت من أجلها السيوف.

أين نحن من هذا الأدب الرباني العظيم الرفيع الذي يعلمنا به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل وقع الخلاف بعد ذلك بين أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكانوا يتناظرون، وكان بعضهم يرد على بعض، وكان بعضهم يبين لبعض، وكان بعضهم يناقش بعضًا، وكان بعضهم يحاور بعضًا، لكن ما كانوا يهدرون هذه الأخوة الإيمانية التي بدونها لن نحفظ ديننا، ولن نحفظ أنفسنا ولن نحفظ أوطاننا، وأن أعلى وأعظم ما يطمع فيه أعداء الإسلام هو أن يكفي المسلمون الأعداء بعضهم في بعض بالمخاصمة والتقاطع والتدابر والقتال.

ص: 818

وإليكم هاتين الصورتين اللتين توضحان لنا أدب الخلاف بين الصحابة رضوان الله عليهم:

الصورة الأولى (1) - بين عمر وابن مسعود رضي الله عنهما:

كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من أقرأ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكتاب الله، ومن أعلمهم بالسنة، حتى كان كثير من الصحابة يعدونه من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكثرة ملازمته له، قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: كنا حينًا وما نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كثرة دخولهم ولزومهم له، وقال أبو مسعود البدري مشيرًا إلى عبد الله بن مسعود: (ما أعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترك بعده أحدًا أعلم فيما أنزل الله تعالى من هذا القادم، فقال أبو موسى: لقد كان يشهد إذا غبنا، ويؤذن له إذا حجبنا، وعمر رضي الله عنه في الطرف الآخر معروف بفقهه وجلالة قدره، وكان ابن مسعود أحد رجال عمر في بعض الأعمال، وقد وافق عبد الله بن عمر في كثير من اجتهاداته حتى اعتبره الكاتبون في تاريخ التشريع أكثر الصحابة تأثيرًا بعمر، وكثيرًا ما كانا يتوافقان في اجتهاداتهما وطرائقهما في الاستدلال، وربما رجع عبد الله إلى مذهب عمر في بعض المسائل؛ كما في مسألة مقاسمة الجد والأخوة مرة إلى الثلث ومرة إلى السدس، ولكنهما اختلفا في مسائل كثيرة، ومن مسائل الخلاف بينهما: أن ابن مسعود كان يطبق يده في الصلاة وينهى عن وضعهما على الركب، وعمر كان يفعل ذلك وينهى عن التطبيق، كان ابن مسعود يرى في قول الرجل لامرأته أنت علىّ حرام يمين، وعمر يرى أنها طلقة واحدة، وكان ابن مسعود يقول في رجل زنا بامرأة ثم تزوجها: لا يزالان زانيين ما اجتمعا، وعمر لا يرى ذلك، ويعتبر أوله سفاحًا وآخره نكاحًا.

(1) أدب الاختلاف، صالح بن حميد، ص17 (بتصرف) .

ص: 819

وقد أوصل ابن القيم رحمه الله المسائل التي جرى الخلاف فيها بين عمر وابن مسعود رضي الله عنهما إلى مائة مسألة وأكثر، ومع هذا الخلاف المدون فإن اختلافهما هذا ما نقص من حب أحدهما لصاحبه، وما أضعف من تقدير ومودة أي منهما للآخر، فهذا ابن مسعود يأتيه اثنان أحدهما قرأ على عمر والآخر على صحابي آخر، فيقول الذي قرأ على عمر: أقرأنيها عمر بن الخطاب. فيجهش ابن مسعود بالبكاء حتى يبتل الحصى بدموعه ويقول: اقرأ كما أقرأك عمر، فإنه كان للإسلام حصنًا حصينًا يدخل الناس فيه ولا يخرجون منه، فلما أصيب عمر انثلم الحصن.

ويُقبل ابن مسعود يومًا وعمر جالس، فلما رآه مقبلًا قال:((كنيف مليء فقهًا وعلمًا)) ،

وفي رواية: ((كنيف مليء علمًا آثرت به أهل القادسية)) . هكذا كانت نظرة عمر لابن مسعود رضي الله عنهما. ولم يزده الاختلاف بينهما في تلكم المسائل إلا محبة وتقديرًا واحترامًا، ولنا أن نستنبط من تلك الأحداث ما شئنا من آداب تكون نبراسًا في معالجة القضايا الخلافية.

الصورة الثانية- بين ابن عباس وزيد بن ثابت رضي الله عنهما: كان ابن عباس رضي الله عنه يذهب - كأبي بكر الصديق وكثير من الصحابة - أن الجد يسقط جميع الأخوة والأخوات في المواريث كالأب، وكان زيد بن ثابت - كعلي وابن مسعود وفريق من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين - يذهب إلى توريث الأخوة مع الجد ولا يحجبهم به، فقال ابن عباس يومًا:(ألا يتقي الله زيد؛ يجعل ابن الابن ابنًا ولا يجعل أب الأب أبًا)، وقال:(لوددت أني وهؤلاء الذين يخالفونني في الفريضة نجتمع فنضع أيدينا على الركن، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) .

إن ابن عباس رضي الله عنهما الذي بلغت ثقته بصحة اجتهاده وخطأ اجتهاد زيد حد طلب المباهلة، رأى زيد بن ثابت يومًا يركب دابته فأخذ بركابه يقود به، فقال زيد: تنح يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيقول ابن عباس: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا وكبرائنا، فقال زيد: أرني يدك، فأخرج ابن عباس يده، فقبلها زيد وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وحين توفي زيد قال ابن عباس، هكذا يذهب العلم، وفي رواية للبيهقي في سننه: هكذا ذهاب العلم لقد دُفن اليوم علم كثير.

هذه نماذج من الاختلافات الفقهية ومواقف المختلفين.

ص: 820

المبحث السابع

أمثلة ونماذج خالدة من سيرة السلف الصالح

في تفاعل أخوة الإيمان

إن أخوة الإسلام يوم كانت على أوجها صنعت نماذج فريدة عبر التاريخ، وما حدث مرة يمكن أن يحدث مرات أخرى، فالبشر هم نفس البشر والإيمان نفس الإيمان، ولو استعرضناها لطال بنا المكان والزمان، ولكن حسبنا أن نذكر بعضًا من آلاف النماذج، بل من الملايين، على سبيل المثال:

أولًا: لما آخى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار، كان الأنصار يتسابقون في مؤاخاة المهاجرين حتى يؤول الأمر إلى الاقتراع، وكانوا يعطونهم البيوت والأثاث والأموال والأرض والخيل والبغال والحمير ويؤثرونهم على أنفسهم، ويقول الأنصاري للمهاجر: انظر شطر مالي فخذه، ويقول المهاجر: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلني على السوق.. فكان من الأنصار الإيثار، ومن المهاجرين التعفف وعزة النفس وعدم الطمع، وهكذا تكون الأخوة: عزة نفس وتعفف، وفي المقابل إيثار وكرم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:((قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال: لا، فقالوا: أفتكفوننا المؤونة ونشرككم في الثمرة؟ قالوا: سمعنا وأطعنا)) (1) .

وعن جابر رضي الله عنه قال: كانت الأنصار إذا جزوا نخلهم قسم الرجل ثمرة قسمين أحدهما أقل من الآخر، ثم يجعلون السعف مع أقلهما، ثم يخيرون المهاجرين فيأخذون أكثرهما، ويأخذ الأنصار أقلهما من أجل السعف حتى فُتحت خيبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((قد وفيتم لنا بالذي كان عليكم، فإن شئتم أن تطيب أنفسكم بنصيبكم من خيبر ويطيب ثماركم فعلتم)) ، قالوا: قد كان لك علينا شروط بأن لنا الجنة، فقد فعلنا الذي سألتنا بأن لنا شرطنا، قال:((فذاكم لكم)) (2) .

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال المهاجرون: يا رسول الله: ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلًا في كثير، لقد كفونا المؤونة، وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله. قال:((لا، ما أثنيتم ودعوتم لهم)) (3) .

(1) رواه البخاري.

(2)

رواه البزار.

(3)

رواه أحمد.

ص: 821

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم))

(1)

.

ثانيًا: قال العدوي: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي، ومعي شيء من الماء، وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته، فإذا أنا به، فقلت: أسقيك.. فأشار برأسه أن نعم، فإذا برجل يقول: آه.. آه.. فأشار ابن عمي إلي أن أنطلق إليه، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك، فأشار أن نعم، فسمع أخر يقول: آه.. آه.. فأشار هشام أن أنطلق إليه، فانطلقت فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات (2) ، ولم يشرب أحد الماء لإيثار كل واحد منهم صاحبه على نفسه.

ثالثًا: أصاب الناس قحط وشدة وكانت قافلة من الشام مكونة من ألف جمل، عليها أصناف من الطعام، قد حلت لعثمان بن عفان رضي الله عنه، فتراكض التجار عليه يطلبون أن يبيعهم هذه القافلة، فقال لهم عثمان: كم تعطوني ربحًا؟ قالوا: خمسة في المائة، قال: إني وجدت من يعطيني أكثر، قالوا: ما نعلم من التجار من يدفع أكثر من هذا الربح، فقال عثمان: إني وجدت من يعطيني على الدرهم سبعمائة فأكثر، إني وجدت الله تعالى يقول:{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261] . أشهدكم يا معشر التجار أن القافلة وما فيها من برّ ودقيق وزيت وسمن وثياب قد وهبتها لفقراء المدينة، وإنها لصدقة على المسلمين.

(1) متفق عليه.

(2)

رواه القرطبي.

ص: 822

رابعًا: روى الحاكم في المستدرك أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بعث بثمانين ألف درهم إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وكانت صائمة وعليها ثوب خَلِق (أي قديم) ، فوزعت هذا المال من ساعتها على الفقراء والمساكين.. ولم تُبقِ منه شيئًا، فقالت لها خادمتها: يا أم المؤمنين ما استطعت أن تشتري لنا لحمًا بدرهم تفطرين عليه، فقالت: يا بنية لو ذكرتني لفعلت.

نسيت نفسها في سبيل إسعاد أبناء مجتمعها المسلم.

خامسًا: روى مالك بن أنس في الموطَّأ عن أبي إدريس الخولاني قال: دخلت مسجد دمشق، فإذا فتى براق الثنايا وكثير التبسم، وإذا الناس معه، فإذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه، وصدروا عن رأيه، فسألت عنه، قيل: هذا معاذ بن جبل رضي الله عنه، فلما كان من الغد بكرت إلى المسجد مسرعًا، فوجدته قد سبقني ووجدته يصلي، فانتظرته حتى قضى صلاته ثم جئته من قِبَل وجهه، فسلمت عليه، ثم قلت: والله إني لأحبك، فقال رضي الله عنه: آلله؟ فقلت: آلله، فأخذني في بحبوة ردائي فجذبني إليه فقال: أبشر إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: ((وجبت محبتي للمتحابين والمتباذلين فيّ)) .

سادسًا: كان بين الحسن بن علي رضي الله عنهما وأخ له كلام، فقيل له: ادخل على أخيك فهو أكبر منك سنًا، فقال الحسن: إني سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((

وخيرهم الذي يبدأ بالسلام))

- (من حديث: لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) متفق عليه - وأنا أكره أن يكون أخي الأكبر خيرًا مني.

سابعًا: كان أناس بالمدينة يعيشون ولا يدرون من أين يعيشون؟ ومَن يعطيهم؟ فلما مات زين العابدين بن الحسين رضي الله عنهما فقدوا ذلك، فعرفوا أنه هو الذي كان يأتيهم بالليل بما يأتيهم به، ولما مات وجدوا في ظهره وأكتافه أثر حمل الجراب إلى بيوت الأرامل والمساكين.

ص: 823

ثامنًا: روى الطبراني في الكبير أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أخذ أربعمائة دينار فجعلها في صرة، ثم قال لغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح، ثم تشاغل في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع. فذهب بها الغلام إليه.. فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذا في بعض حاجتك، فقال أبو عبيدة: وصل الله عمر ورحمه، ثم قال: تعالي يا جارية: اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان وبهذه الخمسة إلى فلان، حتى أنفذها، ورجع الغلام إلى عمر فأخبره، فوجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل، فذهب بها إليه فقال الغلام: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذا في بعض حاجتك، فقال معاذ: رحم الله عمر ووصله، تعالي يا جارية: اذهبي إلى بيت فلان بكذا، اذهبي إلى بيت فلان بكذا، فاطلعت امرأة معاذ على ما فعل معاذ في إنفاق المال، وقالت: نحن والله مساكين فأعطنا، فلم يبق في الصرة إلا ديناران فرمى بهما إليها.

ورجع الغلام إلى عمر فأخبره بما رأى، فسُرَّ بذلك وقال: إنهم إخوة بعضهم من بعض.

وهكذا والأمثلة لا تُعد ولا تُحصى على أن السلف الصالح كانوا يعيشون في ظلال الأخوة الإسلامية الوارفة، متحابين متكاتفين متفانين رحماء بينهم، أذلة على المؤمنين من إخوانهم، أشداء على الكفار وأعزة عليهم.

إنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.. الإيمان والاتحاد والأخوة، فإلى الأخوة الإسلامية حتى نتحد.. حتى نتعاون.. حتى ننتصر على أعدائنا.. حتى نسعد في الدنيا والآخرة، ويرضى عنا ربنا سبحانه وتعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ص: 824

الخاتمة

وفي ختام هذا البحث أسأل الله العلي القدير أن يجعلنا من المتحابين بجلاله، المستظلين بظله يوم لا ظل إلا ظله، وأن يجعل هذه الكلمات حجة لنا لا علينا، وأن نكون بكلماتنا عاملين، ولجمع شمل المسلمين ساعين ولإصلاح ذات البين مشمِّرين، وبذلك على الله متوكلين، ولأكف الدعاء رافعين، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، واجمع كلمتهم، ووحد صفوفهم، ولم شعثهم، وسدد آراءهم وسهامهم، وثبت أقدامهم واربط على قلوبهم واحقن دماءهم، وأصلح ذات بينهم.. إنك على كل شيء قدير.

وصلى الله وسلم على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله أولًا وآخرًا.

الشيخ عدنان عبد الله القطان.

ص: 825

قائمة المراجع

1 -

القرآن الكريم.

2 -

رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين (النووي) .

3 -

تربية الأولاد في الإسلام، عبد الله ناصح علوان.

4 -

الأخوة الإسلامية، عبد الله ناصح علوان.

5 -

الأخوة، للشيخ جاسم المهلهل.

6 -

منهاج المسلم، للشيخ أبي بكر الجزائري.

7 -

تآلفوا ولا تخالفوا، جمال الأحمر.

8 -

جولة مع الرعيل الأول من أمة الإسلام، شريدة المعوشرجي.

9 -

الصحوة الإسلامية وكيف نحافظ عليها، عوض بن محمد القرني.

10 -

حين يجد المؤمن حلاوة الإيمان، عبد الله علوان.

11 -

أخوة الإسلام فوق مستوى الخلافات وتباين الأفهام، محمد بن عبد الله الحكمي.

12 -

إنما المؤمنون إخوة، حسن زكريا فليفل.

13 -

الأخوة الإسلامية، عامر سعيد الزيباري.

14 -

أدب الخلاف، صالح بن عبد الله بن حميد.

15 -

فقه الاختلاف، عمر سليمان الأشقر.

16 -

الأخوة والحب في الله، حسني أدهم جرار.

17 -

طريق النجاة دستور إسلامي للداعية المسلم، محمد عفيفي.

18 -

الأخوة الإسلامية وآثارها، عبد الله الجار الله.

19 -

الأمر بالاجتماع والائتلاف والنهي عن التفرق والاختلاف، عبد الله الجار الله.

20 -

المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي.

21 -

المغني لأبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة.

ص: 826