الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المضاربات في العملة
والوسائل المشروعة لتجنب أضرارها الاقتصادية
إعداد الدكتور
أحمد محيي الدين أحمد
مجموعة دلة البركة
بسم الله الرحمن الرحيم
التمهيد
قضايا أساسية:
إن المتابع لحركة الاقتصاد العالمي يشاهد نموًا مذهلاً في حجم التجارة الدولية، مما ترتب عليه توسع مقابل في مجال التبادل بين مختلف العملات الدولية، كذلك فإن التقنيات المالية الحديثة أوجدت معاملات إضافية في مجال تبادل العملات، وذلك بهدف تثبيت قيمة الإيرادات المتوقعة أو وضع سقف للخسارة التي قد تحدث.
كذلك فإن السياسات النقدية والاقتصادية الحكومية أولت اهتمامًا مقدرًا لأسعار صرف عملاتها تجاه مختلف العملات القابلة للتحويل، كما أولت عمليات الإصلاح الهيكلي لاقتصادياتها جهدًا مميزًا، باعتبار ذلك محددًا مهمًّا لسعر صرف عملاتها تجاه العملات الأخرى.
هذه الاحتياجات وتلك السياسات التي تعبر عن حاجة حقيقية لتبادل العملات، تبعتها وتغذت عليها حركة أخرى لا تستجيب لحالات حقيقية تتطلب تبادل العملات، ولكن هدفت إلى استغلال تلك الحاجة لمحاولة الاستفادة منها في تحقيق أرباح قد تتحقق وقد لا تتحقق في ما اصطلح على تسميته بالمضاربة في العملات.
بالطبع فإنه لا توجد معايير واضحة تميز بين مختلف الرغبات، كذلك فإن النظام الاقتصادي الغربي السائد والمتحكم، قد اعترف في آلياته بكل أنواع الممارسات ولم يجرم أيًّا منها، بل ابتكر من الأنظمة والأجهزة ومصادر المعلومات ما طور ووسع من نطاق التبادل والمتاجرة في العملات، وفي الوقت نفسه فإن ذاك النظام لم ينكر أو يتجاهل الآثار السلبية والضارة للتوسع في المتاجرة في العملات بغرض المضاربة.
إن هناك تساؤلات عدة لا بد من الإجابة عليها ونحن بصدد تأصيل إسلامي لقضية المتاجرة في العملات، تأصيلًا يتجاوز الإطار التقليدي ويستصحب الواقع بكل تعقيداته وتشعبات يأتي في مقدمتها التساؤلات التالية:
- ما هي نظرة التشريع الإسلامي لوظيفة النقود وكيف يمكن ترجمة تلك النظرة إلى موجهات وأحكام تضبط التعامل في واقعنا المعاصر؟
- هل أحكام الصرف المعروفة قابلة للتنزيل على معاملاتنا المالية الحديثة، وهل هي ممكنة التطبيق على معاملاتنا مع العالم الخارجي، وهل يمكن تضمينها في السياسات الاقتصادية والنقدية المتعلقة بسياسات سعر الصرف في دولنا الإسلامية؟
- هل ما يصلح ويمكن شرعًا إلزام الأفراد به يسري كذلك على المؤسسات والحكومات؟
- هل تتحمل المضاربات في العملات جل أو كل النتائج السلبية للأداء الاقتصادي في الدول النامية، أم أن لذلك الأداء السيئ أسبابًا أخرى كامنة في الهياكل الاقتصادية السائدة والسياسات المطبقة، وعلى وجه الخصوص أين هي الحقيقة في ما حدث لدول جنوب شرق آسيا؟
- إذا تمت المضاربة في العملات احتكامًا للقواعد الفقهية المعتمدة فهل نسمح بها لعدم مخالفتها تلك القواعد؟ أم أن الأمر وحتى في نطاق المباحات محكوم بجلب المصلحة ودفع المفسدة؟
- هل تقود العولمة وسياسات تحرير التجارة إلى تزايد نفوذ وتأثير المضاربين الدوليين في أسواقنا المحلية، خاصة وأنهم غير معنيين بالضوابط الشرعية وغير مطالبين بالالتزام بها، وما هي توجهاتنا تجاه هذا الأمر؟
وأخيرًا فإن التساؤل المركزي والمهم، يتعلق بالمطلوب الخروج به من خلال طرح هذا المحور على مجمع الفقه الإسلامي:
- هل هو مجرد بيان الأحكام الفقهية في مجال تبادل العملات بعضها البعض، علمًا بأنها معروفة ولا خلاف كبير حولها.
- أم أن المطلوب الخروج بموجهات اقتصادية مبنية على القواعد الفقهية بشأن:
- سياسات سعر الصرف الحكومية.
- استقرار ودعم السياسات الاقتصادية المؤثرة على حركة التبادل في العملات.
- أم أن الغرض الأساسي دراسة أنواع التعامل في أسواق الصرف الدولية بكل أشكالها العاجلة والآجلة، واتخاذ موقف إزاء تعامل الأفراد والحكومات في نطاقها؟
- كذلك يمكن أن يكون مطلوبًا إبداء مقترحات ورسم سياسات يمكن تطويرها والبناء عليها تهدف بقدر الإمكان إلى تجنب أو تخفيف الآثار السلبية للمضاربة في العملات على اقتصاديات الدول الإسلامية.
عمومًا لا أدعي أن هذه الورقة سوف تغطي بتوسع كل الجوانب التي ترتكز عليها الإجابة على كل التساؤلات السابقة، ولكن حسبنا طرح رؤانا المدعومة بالآراء والقواعد الفقهية والشواهد العملية، حسبنا كذلك الإشارة إلى الكثير من جوانب المشكلة حتى نتيح فرصة الحوار حولها وصولاً إلى مقترحات وآراء جماعية حولها.
* * *
المحور الأول
أشكال وأنواع التعامل في العملات
سوف نعرض وببساطة شديدة أشكال وأنواع التعامل في العملات سواء ما يتم في الأسواق الدولية المنظمة أو بين البنوك أو بشكل فردي، وسوف أتجنب التعقيد والتفصيل في النواحي الفنية التي لا تتصل مباشرة بحكم فقهي أو لا تتعلق بالسياسة الشرعية، وعليه فيمكن عرض هذا المحور كالتالي:
أولاً – مصادر الطلب والعرض في أسواق العملات.
ثانيًا – أهم المتعاملين في أسواق العملات الدولية.
ثالثًا – وسائل التداول والتحويل للعملات.
رابعًا – أنواع التعامل في أسواق العملات.
المحور الأول
أشكال وأنواع التعامل في العملات
أولاً – مصادر الطلب والعرض في أسواق العملات:
تتنوع وتختلف أغراض وأهداف المتعاملين في أسواق العملات (أسواق الصرف) فهناك معاملات ضرورية ومهمة تقتضيها ظروف التعامل الاقتصادي كاحتياجات التجارة العالمية والسياحة والتعاون الاقتصادي الدولي بكل أشكاله، وهناك معاملات أوجدتها الأسواق حين اكتشفها المتعاملون أثناء بحثهم الدائب عن فرص الأرباح الممكنة، وتلك مثل عمليات الحماية والتغطية للحقوق والالتزامات المقومة بالعملات الأجنبية، وعمليات المراجحة التي تستهدف الإفادة من فروق أسعار الصرف بين سوق وآخر، وهناك عمليات هدفها الأساسي الاستفادة من التناقضات الموجودة في السوق وهي عمليات المضاربة التي لا تخدم سوى أغراض خاصة بالمضاربين، وهي عمليات تضر بأسواق الصرف وباستقرار النشاط الاقتصادي، وسوف نتعرف وباختصار على مصادر طلب وعرض العملات، وذلك على النحو التالي (1) .
1 -
حالات الاستيراد والتصدير:
عندما يتم تصدير السلع إلى الخارج فإن قيم هذه الصادرات تدفع للمصدر عادة بعملة أجنبية عن طريق حوالة خارجية أو شيكات أو اعتماد مستندي. . . إلخ. مما يتطلب تحويلها إلى العملة الوطنية، ويحدث العكس تمامًا في حالات الاستيراد.
2 -
متطلبات السياح والدارسين والدبلوماسيين والمسستشفين.
3 -
الخدمات غير المنظورة الأخرى كعمليات التأمين والشحن البري والجوي وخدمة الاتصالات وعمولات البنوك. . . إلخ.
4 -
أرباح استثمارات غير المقيمين الراغبين في تحويلها إلى أوطانهم أو غيرها، وكذلك تحويلات المغتربين.
5 -
التحولات الرأسمالية والاستثمارات الخارجية، سواء تم تحويلها إلى موجودات عينية على شكل استثمارات في مصانع أو عقارات أو غيرها من المشاريع المنتجة، أو كانت على شكل أصول مالية كأسهم وسندات ومشاركات في صناديق الاستثمار.
(1) انظر سيد عيسى، أسواق وأسعار صرف النقد الأجنبي، ص 34 وما بعدها.
6 -
القروض الدولية وحركة تسديدها تنشئان طلبًا على العملات سواء كانت قروضًا حكومية أو قروض مؤسسات دولية أو بنوك خاصة.
7 -
المساعدات الخارجية وكل الحوالات دون مقابل وهي التي ترد كتبرعات من مؤسسات متخصصة أو حكومات أو من القطاع الأهلي أو المبالغ التي قد تأتي عن طريق الإرث.
8-
ويمكن أن تضاف إلى ذلك عمليات الإيداع الخارجي هريبًا لرؤوس الأموال أو تحسبًا من مخاطر غير تجارية (1) .
9 -
عمليات التغطية: عمليات التغطية أو الحماية (Hedging) هي عمليات الهدف منها تحويل أصول أو حقوق مستثمرة في عملة يخشى انخفاض قيمتها، إلى عملة أخرى قوية من أجل حماية تلك الأموال أو الحقوق، وبنفس الكيفية يراد منها تغطية التزامات بعملات يخشى ارتفاع أسعار صرفها، وتعتبر عمليات التغطية مهمة للمصدرين والمستثمرين الذين يكون عليهم دائمًا الانتظار عدة شهور لتسوية حقوقهم أو التزاماتهم بعملات أجنبية.
10 -
عمليات المراجحة (ARBITRAGE) : تعتبر عمليات المراجحة أو الموازنة أو التحكيم هي نوع من المضاربات تؤدي إلى الموازنة أو المراجحة بين أسعار صرف العملات الدولية في مختلف الأسواق، وذلك بشراء العملة من السوق الذي تباع فيه أرخص نسبيًّا، وبيعها في السوق الآخر الذي تباع به أغلى نسبيًّا، وذلك في الوقت نفسه. ولقد أدى التطور في وسائل الاتصال ووقوف المتعاملين جميعهم في آنٍ واحد على تطور الأسعار بصورة فورية إلى تضييق فرص الاستفادة من عمليات المراجحة، فعندما تخرج الأسعار عن مسارها العادي (Get out of Line) تتحرك عمليات المراجحة لإعادتها إلى مسارها الطبيعي (Put the rates back in line) ولكن تحدث أحيانًا أحوال تصبح السوق فيها مسعورة (hectic days) قد يتأخر إرجاع الأسعار خلالها إلى مسارها الطبيعي (2) .
11 -
عمليات المضاربة (Speculatuion) : تعني الاحتفاظ طوعًا بمركز معرض لأخطار الصرف بهدف تحقيق ربح مع قبول احتمالات الخسارة حسب تطور أسعار العملات في السوقين العاجلة والآجلة ويلخص الجدول التالي مراكز المتعاملين:
(1) انظر مروان عوض، التعامل بالعملات الأجنبية وعمليات الاستثمار، ص 48 – 49؛ د. أحمد محيي الدين، عمل شركات الاستثمار الإسلامية في السوق العالمية، ص 327 وما بعدها.
(2)
انظر سيد عيسى، أسواق وأسعار صرف النقد الأجنبي، ص 36.
اسم الوضع تعريفه الأسعار تبقى كما هي ارتفاع سعر العملة انخفاض سعر العملة
1-
متعادل (Squarcd) مجموع الشراء = مجموع البيع لا ربح ولا خسارة لا ربح ولا خسارة لا ربح ولا خسارة
2-
طويل (Long Position) Over Bought (O/B) مجموع الشراء أكثر من مجموع البيع الموجودات أكثر من المطلوبات لا ربح ولا خسارة ربح خسارة
3-
قصير (Short Position) Over Slod (O/S) مجموع الشراء أقل من مجموع البيع الموجودات أقل من المطلوبات لا ربح ولا خسارة خسارة ربح
من الملاحظ هنا أنه في حال:
- توقع ارتفاع سعر العملة: على المتعامل أن يأخذ مركزًا طويلاً (over Bought Postiion) .
- توقع انخفاض سعر العملة: على المتعامل أن يأخذ مركزًا قصيرًا (Over Sold Position) .
- عدم القدرة على التنبؤ: يأخذ مركزًا متعادلاً (1)(Sququrcd Position) .
وتعتبر عمليات المضاربة مسؤولة إلى حد كبير عن حالة عدم الاستقرار في أسواق الصرف، كما أنها تعتبر سببًا أساسيًا في زيادة حجم التعامل في الأسواق، ورغم ادعاءات المضاربين بأنهم ليسوا مغامرين أو مقامرين، ولكنهم خبراء بالأسواق واتجاهاتها، إلا أن الواقع يدل على أنهم لم يضعوا أيديهم على مؤشرات صادقة أو موثوق بها لمعرفة متى وكيف تحدث التغيرات في أسعار الصرف.
(1) انظر يزيد المفتي، محاكاة سوق القطع الأجنبي، ص 23.
ثانيًا – أهم المتعاملين في أسواق العملات الأجنبية:
تعتبر أي جهة تتعامل في العملات بيعًا وشراء من عملاء أسواق العملات أو أسواق الصرف، ولكن بحسب حجم التعامل والدخول المباشر في المتاجرة تعتبر الجهات التالية أهم المتعاملين في أسواق الصرف:
1-
البنوك التجارية:
إن الجانب الأعظم من الحجم الكلي للعمليات المتداولة تتم بواسطة البنوك التجارية وهي تعمل:
- بدافع ذاتي لإدارة أصولها وخصومها من العملات الأجنبية وتوظيف فائض سيولتها.
- كما تتولى تنفيذ عمليات الصرف نيابة عن عملائها.
- كما أن بعض البنوك تعمل كصانعة للأسواق (Market Makers) حيث تعمل لحسابها الخاص وتكون على استعداد دائم لتقديم عروض البيع والشراء.
2 -
البنوك المركزية:
تعتبر من العملاء الأساسيين فهي تعمل:
- مشترية أو بائعة للعملات الأجنبية كجزء من وظيفة إدارة احتياطيات الدولة.
- عندما تضطر للدخول كبائعة أو مشترية للعملات الأجنبية من أجل المحافظة على معدل معين لسعر عملتها وفق السياسات النقدية المعتمدة.
- بصفتها مسؤولة عن تنفيذ السياسات النقدية المرسومة، وعن الحفاظ على العرض النقدي في مستوى يتسق مع حاجة الاقتصاد الوطني.
3 -
السماسرة:
يتم من خلال السماسرة إيصال رغبات البائعين والمشترين بطريقة ذات كفاءة عالية، وهم غالبًا في موضع الاستشارة ويتقاضون عمولات نظير خدماتهم ولهم تقاليد مهنية يحرصون على الالتزام بها.
4 -
متعاملون آخرون:
وهناك عدد آخر من المتعاملين كالصرافات على المستوى القطري، وبعض المؤسسات غير المالية كالشركات عابرة القارات التي عمدت أخيرًا إلى تطوير غرف تعامل خاصة بها، وكذلك بعض رجال الأعمال والتجارة والشركات التجارية.
* * *
ثالثًا – وسائل التداول والتحويل للعملات الأجنبية:
يتم التحويل أو التداول بالعملات الأجنبية بطرق مختلفة نذكر في ما يلي وبصورة مختصرة أهمها:
1 -
النقد:
وهو ما يحدث في الصرافات وفي التعامل بين البنوك والأفراد، وفي حالات التعامل بين تجار العملة المحليين وزبائنهم فيما يسمى بالسوق السوداء.
2 -
الحوالات – بوسائل الاتصال الحديثة:
وهي أوامر دفع من بنك إلى بنك آخر بموجب طلب العميل، ويعتبر التحويل بالتلكس من أكثر الوسائل شيوعًا وسرعة؛ إذ أن التحويل وتسليم المبالغ يتمان في خلال 48 ساعة، ويستخدم كذلك الهاتف والفاكس، وتستعمل هذه الطريقة بدرجة كبيرة من قبل الأفراد، وتسديدًا للعمليات ما بين البنوك في سوق القطع الأجنبي والسوق النقدي.
3 -
الشيكات:
تكون هذه الشيكات صادرة عن أفراد أو بنوك ويستغرق تنفيذ الدفع بموجبها مدة أطول من الحوالات بالتلكس وذلك كونها ترسل بالبريد.
كما أن البنوك العالمية تصدر شيكات سياحية (Traveller Cheques) تكون مقبولة بشكل فوري من قبل محلات ومؤسسات تجارية مختلفة وفي حال فقدانها يمكن تعويض قيمتها.
4 -
بطاقات الائتمان:
تصدر البطاقة عن بنوك ومؤسسات معروفة ويمكن لحاملها أن يشتري بها بضائع أو خدمات في أقطار مختلفة من العالم مقابل توقيعه على وصل يكون بمثابة أمر دفع لبنكه، هذا وتكون المبالغ المستعملة بواسطة البطاقة مضمونة من قبل البنك المصدر لها والذي يقوم نيابة عن العميل بإجراء عمليات الصرف بالعملة الوطنية.
5 -
الاعتمادات المستندية:
تستعمل هذه الاعتمادات من قبل القطاع التجاري لتمويل عمليات الاستيراد والتصدير، ويصدر الاعتماد إلى بنك في بلد آخر يطلب منه دفع مبلغ محدد إلى التاجر المصدر مقابل استلام مستندات معينة تثبت تقيد المصدر بالشروط المنصوص عليها في الاعتماد، وأهمها بوليصة الشحن.
رابعًا – أنواع التعاملات في أسواق العملات:
1 -
التعامل العاجل (SPOT) :
في هذا النوع من التعامل يتم تسليم العملات المتبادلة المباعة والمشتراة خلال يومي عمل بخلاف اليوم الذي تم التعاقد فيه على إجراء العملية، مع مراعاة أيام العطلات الرسمية في حساب تواريخ الاستحقاق وهي: السبت والأحد في أوروبا وأمريكا والجمعة في الشرق الأوسط على النحو الذي يوضحه الجدول التالي:
عقد عمليات صرف السوق العاجل في أيام مختلفة (1)
يوم عقد العملية يوم التسليم عملة أوروبية أو أمريكية مقابل عملة أوروبية يوم التسليم عملة أوروبية أو أمريكية مقابل عملة شرق أوسطية
الإثنين الأربعاء الأربعاء
الثلاثاء الخميس الخيمس
الأربعاء الجمعة يوم الجمعة للعملة الأوروبية يوم السبت لعملة شرق أوسطية
الخميس الاثنين الاثنين
الجمعة الثلاثاء -
السبت - الأربعاء
الأحد - الأربعاء
وسوف نتعرض لاحقًا لشرعية مثل هذا النوع من المعاملات.
2 -
التعاملات الآجلة (Forward) :
عمليات البيع والشراء الآجل للعملات يتم فيها الاتفاق على تسليم وتسلم العملات المتبادلة في تاريخ لاحق، بينما يتفق على أسعار تلك العمليات عند التعاقد. وهناك تواريخ تكاد تكون نمطية لعقود العمليات الآجلة وهي لمدة شهر – وشهرين – وثلاثة شهور وستة شهور وسنة، وتعتبر أكثر العمليات شيوعًا تلك التي تقل عن ستة أشهر، وتحدد تواريخ الاستحقاق في العقود الآجلة باحتساب يومي عمل خلاف يوم التعاقد ثم تضاف إليها شهور العقد.
وتعتبر أسعار السوق الحاضرة هي الأساس الذي تحسب عليه الأسعار الآجلة، وتحدد أسعار التبادل بين عملتين في الظروف العادية بمقدار الفرق بين أسعار الفائدة السائدة في بلد هاتين العملتين (2) .
3 -
عمليات المقايضة (Swap) :
عمليات المقايضة هي عمليات مبادلة مؤقتة بين عملتين حيث يتم بيع أو شراء عملة مقابل عملة أخرى في السوق الحاضرة، وفي الوقت نفسه تجري عملية متزامنة في السوق الآجلة لبيع العملة التي سبق شراؤها، أو شراء العملة التي سبق بيعها في السوق الحاضرة. ويحدد السعر للعملية العاجلة وفقًا للسعر النقدي السائد، فيما يحدد سعر الآجل وفقًا لظروف سعر الفائدة بين العملتين موضوع المقايضة، وعند موعد الاستحقاق يسترد كل فريق عملته بالسعر المحدد عند إجراء العملية (3) .
وبشكل مبسط فإن العملية تعبر عن رغبة أحد المتعاملين للاستغناء عن عملة معينة لمدة محددة، واقتناء عملة أخرى محلها خلال الفترة نفسها لأغراض وحسابات خاصة، ثم يعود الأمر كما كان عند موعد الاستحقاق، ولقد ظهرت أهمية هذه المعاملة بصفة خاصة بين البنوك المركزية حين احتاجت لاستخدامها في التداخل في سوق الصرف، كما يستخدم هذه الطريقة بعض المستثمرين إذا لاحت له فرصة ربح من خلال تبدلات متوقعة في أسعار الفائدة بين أكثر من عملة في أكثر من سوق.
(1) انظر يزيد المفتي: محاكاة سوق القطع الأجنبي، ص 8.
(2)
سيد عيسى، أسواق وأسعار صرف النقد الأجنبي، ص 27 – 28.
(3)
جورج عشي، سوق النقد الأجنبي والاعتماد المستندي، ص 22.
المحور الثاني
التأصيل الفقهي لتبادل العملات
يختص هذا المحور بتوضيح الأحكام الفقهية حول موضوع تبادل العملات، كما يختص كذلك بإطار السياسات الشرعية في ترجيح القضايا بحسب المصلحة.
ويتكون هذا المحور من الموضوعات التالية:
أولاً – أحكام التعامل في الصرف وتطبيقاتها على أنواع التعاملات السائدة.
ثانيًا – سلطة ولي الأمر في تقييد المباح.
ثالثًا – تأصيل موقف الاقتصاد الإسلامي من الاتجار في العملات.
المحور الثاني
التأصيل الفقهي لتبادل العملات
أولاً: أحكام التعامل في الصرف وتطبيقها على أنواع المعاملات السائدة:
في أسواق العملات:
لا أخالني وفي هذا المحفل العلمي الرصين في حاجة لأن أفصل في موضوع أحكام التعامل في الصرف، فالأمر قد أصبح من البدهيات، ولكن سوف أذكر فقط بأهم تلك الأحكام حتى يمكن من خلالها الحكم على مختلف أنواع المعاملات السائدة في أسواق العملات.
- العملة الورقية نقد قائم بذاته له حكم النقدين من الذهب والفضة.
- يعتبر الورق النقدي أجناسًا مختلفة تتعدد بتعدد جهات الإصدار في البلدان المختلفة.
- لا يجوز بيع الورق النقدي بعضه ببعض أو بغيره من الأجناس النقدية الأخرى من ذهب أو فضة نسيئة مطلقًا، فلا يجوز مثلاً بيع ريال سعودي بدولار أمريكي نسيئة بدون تقابض.
- لا يجوز بيع الجنس الواحد من العملة الورقية ببعضه البعض متفاضلاً سواء كان نسيئة أو يدا بيد.
- يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه إذا كان ذلك يدًا بيد، فيجوز بيع الليرة السورية بريال سعودي أو أقل من ذلك أو أكثر، وبيع الدولار الأمريكي بثلاث ريالات سعودية أو أقل من ذلك أو أكثر (1) .
(1) انظر القرار رقم (6) للدورة الخامسة لمجلس الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي.
وبناءً على هذه الأحكام المجمع حولها أبدي الرأي في مختلف أشكال عمليات تبادل العملات مع بعضها على النحو التالي:
1 -
عمليات الصرف العاجلة:
تعتبر عمليات الصرف العاجلة جائزة شرعًا بنص الأحاديث وبإجماع الفقهاء، ومن الأدلة ما رواه عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:((الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء)) (1) .
ومن الأدلة كذلك حديث عبادة بن الصامت وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:((الذهب بالذهب والفضة بالفضة. . .)) إلى أن قال: ((مثلاً بمثل سواء بسواء يدًا بيد، فإن اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد)) (2) .
ولأن العمليات العاجلة لا تتم بالتسليم في مجلس العقد على النحو الذي قد يفهم من الاسم يجدر أن نذكر بأن العمليات العاجلة يقع التسليم فيها خلال يومي عمل لاحقين ليوم العقد (3) ، ويعود السبب في ذلك لأمور تنظيمية وإدارية لتمكين الأطراف المعنية من التأكد من صحة كل جوانب العملية وتدقيقها وإنجاز الوثائق الخاصة بها.
وعلى هذا الأساس فهل نعتبر أنها عقود صرف يتأجل فيها البدلان إلى المدة المتعارف عليها دوليًا فتصير غير جائزة، أم أنه يمكن عدم اعتبار عمليات الصرف العاجل من العمليات الآجلة؟
وقبل الإجابة على هذا التساؤل لا بد من الإشارة إلى نقطتين:
الأولى: عدم إمكانية إجراء التقابض الحقيقي أو الحكمي للعوضين لظروف خارجة عن إرادة المتعاقدين، حيث إن عملية الصرف تتم عبر بلدان متباعدة، وتشترك في تنفيذها عدة أطراف، الأمر الذي حتم الاتفاق على مثل هذه المدة من الزمن حتى يمكن تنفيذها بدقة.
وعلى هذا فيمكن التقاضي عن هذه المدة تطبيقًا للقاعدة المتفق عليها بين العلماء وهي: (المشقة تجلب التيسير)، والتي من مقتضاها العفو الشرعي عن كل ما يعسر أو يشق تحاشيه من المحرمات أو النجاسات لقوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقوله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78) ، ويقول السيوطي: هذه القاعدة يرجع إليها غالب أبواب الفقه (4) ، ووجه المشقة الذي يصعب تحاشيه هو عدم إمكانية إجراء عملية الصرف من دون الالتزام بهذه الإجراءات التي أصبحت أعرافًا دولية ونظمًا عالمية.
الثانية: المصلحة الراجحة والحاجة الخاصة التي تنزل منزلة الضرورة: من المتفق عليه أن كثيرًا من فئات المجتمع تحتاج إلى العملات الدولية للوفاء بالتزاماتها تجاه الآخرين، يصدق ذلك على الدول وعلى التجار والصناعيين وغيرهم حيث إن ثمن البضائع المستوردة يتم تسديده بواسطة العملات الدولية كالدولار والإسترليني وغيرهما. والحصول عليها ليس ممكنًا إلا من الأسواق الدولية وفقًا للطرق المتبعة حاليًا. وعلى هذا يمكن القول: إن عمليات الصرف العاجل تفي بمصالح راجحة في الميزان الشرعي، كما أن في منع التعامل فيها مشقة وحرج وضياع مصالح معتبرة (5) .
(1) رواه ابن ماجه: 2 / 759؛ والبيهقي: 5 / 276.
(2)
رواه الستة إلا البخاري؛ انظر صحيح مسلم: 3 / 1211.
(3)
انظر ص 488.
(4)
الأشباه والنظائر: 167.
(5)
د. موسى آدم عيسى، الصرف وبيع الذهب والفضة المرجع السابق، ص 46.
وخلاصة القول إن الأجل الذي يتخلل عمليات الصرف العاجل يمكن اعتباره يسيرًا، وغير مقصود لذاته، ولا يمكن الاحتراز عنه، يؤيد هذا قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره السادس المنعقد في جدة عام 1410هـ حيث جاء فيه:" ويغتفر تأخير القيد المصرفي بالصورة التي يتمكن المستفيد بها من التسلم الفعلي للمدد المتعارف عليها في أسواق التعامل، على أنه لا يجوز للمستفيد أن يتصرف في العملة خلال المدة المغتفرة إلا بعد أن يحصل أثر القيد المصرفي بإمكان التسليم الفعلي "(1) .
2 -
عمليات الصرف الآجلة:
تعتبر عمليات الصرف الآجل عمليات ممنوعة بموجب الأحكام الفقهية التي أشرنا إليها في هذا البحث (2) ، واستنادًا إلى حديثي عبد الله بن عمر وعبادة بن الصامت السابق الإشارة إليهما، ولحديث أبي سعيد الخدري الذي جاء في آخره:((ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز)) (3) ، فما بالك بغائب بغائب؟! ولنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم ((عن بيع الذهب بالورق دينًا)) (4) . وحديث البراء بن عازب ((ما كان يدًا بيد فلا بأس به وما كان نسيئة فهو ربا)) (5) .
ولقد أجمع الفقهاء منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى الآن على عدم صحة الصرف الآجل.
ولقد حاول بعض الباحثين أن يخرج عمليات الصرف الآجل على أنها مواعدة في الصرف على أساس السعر الحاضر، وذلك لأنه لا يوجد تسليم من أي طرف ولكن يوجد اتفاق على الشراء في المستقبل بسعر محدد مسبقًا (6) .
وحتى لا ندخل في متاهات البحث النظري في مدى صحة أو عدم صحة المواعدة في الصرف (7) أود التأكيد على أن عمليات الصرف الآجلة هي عقود لازمة منظمة لتعامل مختلف المتعاملين بمختلف عقائدهم، ولم يراع فيها أبدًا أن تكون وعودًا لا عقودًا، بل إن اعتبارها وعدًا يمكن عدم الوفاء به دون أن يترتب على ذلك جزاء قضائي يناقض فلسفة إنشاء أسواق الصرف الآجلة، يقول أحد الخبراء في هذا المجال عن أسواق الصرف الآجلة:"أنه عندما يتم الاتفاق على سعر معين فإن هذا السعر يكون ملزمًا ولا يستطيع أي طرف التنصل منه، أو التراجع عنه مهما كانت النتائج المتوقعة ومهما كانت الخسائر التي سوف يتحملها ذلك الطرف نتيجة الالتزام به ".
(1) مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد السادس الجزء الأول، ص 772.
(2)
انظر ص 452.
(3)
رواه مسلم، صحيح مسلم: 3 / 120.
(4)
رواه البخاري: 5 / 287؛ ومسلم: 1213.
(5)
رواه مسلم: 3 / 1312.
(6)
د. سامي حمود، تطوير الأعمال المصرفية، ص 351.
(7)
لمزيد من التعمق حول المواعدة في الصرف، انظر: د. أحمد محيي الدين، عمل شركات الاستثمار الإسلامية في السوق العالمية، ص 340 وما بعدها؛ د. سامي حمود، تطوير الأعمال المصرفية، ص 351 وما بعدها.
ويرى د. موسى آدم عيسى أنه يمكن إباحة الصرف الآجل تقديرًا للاحتياجات الحقيقية للمستوردين والمصدرين واعتمادًا على أن:
- الحاجة الخاصة تنزل منزلة الضرورة.
- قاعدة عموم البلوى.
- عدم تحقيق المستوردين أية فوائد مباشرة من عمليات الصرف الآجل سوى دفع الضرر المتوقع.
وأشار الباحث إلى أن يكون الحكم بإباحة التعامل الآجل استثنائيًّا مقتصرًا على الفئات التي ينطبق عليها وصف الحاجة (1) .
ويرد على هذا الرأي بالتالي:
أ – إنه من المستحيل عملاً التفرقة بين مختلف الرغبات والأغراض وتصنيف ذوي الحاجات عن غيرهم.
ب- إن العقود الآجلة هي مطية المضاربة الأساسية، ويمثل حجم التعامل فيها كما أشار الكثير من الباحثين أكثر من مائة مرة من حجم التعامل المرتبط بالتجارة (2) والأغراض المعتبرة.
ج – إذا كانت العمليات العاجلة هي وقود المضاربة ذات التأثير السالب المؤكد على النشاط الاقتصادي فلا يمكن السماح بها من أجل دفع ضرر محتمل على المستوردين أو المصدرين.
د – إن منع التعامل الآجل في العملات ثابت بنصوص قطعية الثبوت والدلالة، ولم ترق الحجج المذكورة إلى ما يحمل على العدول عنها.
3 -
عمليات المراجحة أو التحكيم:
كما أشرنا سابقًا فإن هذه العمليات تتم على أساس الصرف العاجل المأذون فيه، يقول د. سامي حمود:" إن أعمال الترجيح للاستفادة من فروق الأسعار بين مراكز العملات الأجنبية في الأسواق العالمية مقبول في موازين الفقه الإسلامي، باعتبار أنها أعمال صرف حاضر مع التقابض الحسابي المتبادل "(3) ، وأضافت موسوعة البنوك الإسلامية "وذلك لأن التقابض سواء كان يدويًّا أو بالمناولة أو حسابيًّا بالقيود الدفترية، مبني على إثبات الحق المنجز للطرفين المتبايعين"(4) .
(1) د. موسى آدم عيسى، الصرف وبيع الذهب والفضة؛ المرجع السابق، ص 51 – 53.
(2)
انظر سيد عيسى، أسواق وأسعار الصرف الأجنبي، ص6.
(3)
سامي حمود، تطوير الأعمال المصرفية، ص 349.
(4)
الموسوعة: 1 / 41.
4 -
عمليات المقايضة (SWAP) :
عمليات المقايضة كما أشرنا سابقًا تعتمد على شراء أو بيع عملة مقابل عملة أخرى في السوق الحاضرة مع إجراء عملية متزامنة في السوق الآجلة لبيع العملة التي سبق شراؤها أو شراء العملة التي سبق بيعها.
وواضح أن هذه المعاملة غير جائزة شرعًا للتالي:
1-
تضمنت الصرف الآجل وهو ممنوع كما أشرنا.
2-
اشتملت على بيعتين في بيعة واحدة، أو عقدين في عقد واحد وهو ممنوع.
ثانيًا – سلطة ولي الأمر في تقييد المباح:
أشرنا سابقًا ونحن نوضح أحكام تبادل العملات بأن التعامل العاجل في العملات بما في ذلك التعامل في أسواق الصرف العاجلة يقع صحيحًا من الناحية الشرعية (1) ، والسؤال المطروح أنه إذا ما أفرز هذا التعامل ظواهر سلبية تؤثر على استقرار النشاط الاقتصادي، وعلى وضع ميزان المدفوعات ويربك السياسات الاقتصادية والنقدية، هل يجوز للسلطات المختصة أن تمنع أو تقيد حرية المتعاملين في إجراء المعاملات في أسواق الصرف الدولية أو المحلية؟
سوف نحاول في هذا الجزء تأصيل مسألة سلطة ولي الأمر في تقييد المباح، فكما نعرف فإن المباح هو (ما لا يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه) وبالتالي فهو يستوي فيه الفعل والترك. أي أن الفرد المسلم حر بأن يفعل وحر بأن يترك فهو بالخيار، وإليه يعود الترجيح بين الفعل والترك بناءً على تقدير مصلحته، وقد يحدث أن يتولى ولي الأمر هذا الترجيح نيابة على المسلمين وبموجب تقدير المصلحة العامة، لأن تصرف ولي الأمر منوط بالمصلحة. وقد ينهى عن المباح سدًّا للذريعة (2) .
يرى البعض أنه ليس لولي الأمر سلطة تقييد المباح باعتبار أن ذلك صورة من صور تحريم ما أحل الله ويشمله قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] .
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} [المائدة: 87] ، ولأن المباح ليس منطقة فراغ تشريعي، ولكنه حكم من أحكام الشرع الحنيف مبني على مصالح ظاهرة، ففي تغيير حكمه إلى محرم مناقضة لمصلحة أصلية نصت عليها أحكام الشارع.
(1) انظر ص 453.
(2)
انظر رفيق المصري، أصول الاقتصاد الإسلامي، دار القلم، ص 77 – 84.
واستشهد أصحاب هذا الرأي بالطلاق الذي هو مباح فهل يكون لولي الأمر الحق في منعه؟ والتعدد مباح فهل يجوز تقييده؟ ويعتبر أصحاب هذا الرأي أن المباح باب واسع هو أوسع مما قيد بالأحكام الأخرى، لذلك فإن منع الناس عنه فيه تغيير لأحكام ثابتة، وتحريم أمور مباحة في أصل الشرع لم تشهد على حرمتها نصوص (1) .
وعمومًا فإني لا أرى في الآيات التي تم الاستدلال بها حجة فيما يتعلق بالمتاجرة بالعملات. لأن الآيات تختص باستهلاك الأفراد من السلع والخدمات ولا تتعلق بسياسات الدولة وإدارتها لشؤونها الاقتصادية والفرق كبير، كما أن هناك الكثير من القواعد المتفق عليها والتي تقيد المباحات في قضايا السياسة الشرعية مثل:
- سد الذرائع.
- درء المفاسد.
- الضرر يزال.
- المصلحة الكلية مقدمة على المصلحة الجزئية.
- كل تصرف جر فسادًا أو منع صلاحًا فهو منهي عنه.
- يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام.
ولقد أشار أصحاب الرأي المانع للتقييد وبوضوح إلى ما يخرج ما نحن بصدده من دائرة الحظر التي يتبنونها عندما نصوا على التالي: (يجب التنبيه إلى أن كلا منا لا يشمل الأمور التي هي من اختصاص ولي الأمر، لأنها من اختصاصه قطعًا، كما لا يشمل المباحات التي أصبحت لازمة الترك لاقترانها بتحريم جاز للحاكم أن ينهي عنه، إذ من وظائف ولي الأمر سد الذرائع)(2) .
ولقد ذهب عدد كبير من الذين كتبوا في السياسة الشرعية إلى حق ولي الأمر في أن يأمر بمباح فيصير واجبًا على من أمرهم به، أو أن ينهي عن مباح فيصير حرامًا على من نهاهم عنه. استدلالاً بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] .
(1) انظر د. محمد القري، أصول الاقتصاد الإسلامي، ص 64 – 65.
(2)
د. محمد القري، أصول الاقتصاد الإسلامي، ص 65.
يقول الشيخ عبد الرحمن تاج: " إن ولي الأمر إذا رأى شيئًا من المباح قد اتخذه الناس عن قصد وسيلة إلى مفسدة، أو أنه بسبب فساد الزمان أصبح يفضي إلى مفسدة أرجح مما قد يفضي إليه من المصلحة، كان له أن يحظره ويسد بابه، ويكون ذلك من الشريعة، وعملاً بالسياسة الشرعية التي تعتمد على قاعدة سد الذرائع "(1) .
ويقول الزحيلي: "وكذلك يحق للدولة التدخل في الملكيات الخاصة المشروعة لتحقيق العدل والمصلحة العامة، سواء في أصل الملكية أو في منع المباح "(2) .
ويشرط في ذلك أن يكون الإجراء استثنائيًّا مرهونًا بوقت الحاجة.
ويورد أصحاب هذا الاتجاه عدة شواهد تم فيها تقييد التصرفات المباحة وذلك مثل:
- قصة الصحابي سمرة بن جندب الذي كان له نخل في حائط أحد الأنصار عندما اشتكى من دخوله عليه وعلى أهله، فنصحه صلى الله عليه وسلم ببيعه أو قطعه أو هبته فعندما رفض، قال له صلى الله عليه وسلم: أنت رجل مضار وأمر الأنصاري بقلع نخله.
- وقول عمر بن الخطاب للضحاك الذي منع مرور جدول مياه عن طريق أرضه إلى أرض جار له: "والله ليمرن به ولو على بطنك"(3) .
- أمر سيدنا عثمان شرطته بإمساك ضالة الإبل بالرغم من أن السنة حرمت إمساكها لما رآه من تغير أحوال الناس وأخلاقهم (4) .
ويتضح لي بعد الاطلاع على جوانب الموضوع في مختلف المصادر أنه وفيما يختص بالمتاجرة في العملات لغرض الكسب من فروق الأسعار عن طريق المضاربة، وليس استجابة لحاجات حقيقية في التعامل، فلولي الأمر (السلطة المختصة) أن يمنع أو يقيد عمليات المتاجرة في العملات، وله أن يتدخل بكل الوسائل المتاحة في تنظيم آلياتها وتحديد الأسعار، ووضع سقوف لتحركاتها متى ما أظهرت الدراسات والوقائع أن ذلك التصرف ملائم، ويحقق المصلحة ويدفع المفسدة، ويحفظ استقرار النشاط الاقتصادي ويدعم السياسات المقررة، ويدعم الميزان التجاري وميزان المدفوعات ولا يحد ذلك إلا بالتالي:
- أن يكون الضرر الكلي الناتج عن تلك المتاجرة مؤكد الوقوع أو كثيرًا غالبًا، حتى ولو كانت تلك المتاجرة تحقق مكاسب لأفراد بعينهم، لأنه يتحمل الضرر الخاص في سبيل تفادي الضرر العام.
(1) الشيخ عبد الرحمن تاج، السياسة الشرعية والفقه الإسلامي، ص 76.
(2)
وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته: 5 / 518، دار الفكر.
(3)
الموطأ: 2 / 218.
(4)
نيل الأوطار: 5 / 387.
- أما إذا كان الضرر قليلاً أو نادر الوقوف، فلا يلتفت إليه إذ العبرة بأصل الحق الثابت فلا يعدل عنه إلا لعارض الضرر الكثير بالغير.
- أن تكون المصلحة من اتباع السياسات المقيدة للمتاجرة في العملات راجحة في تقدير أهل الاختصاص والمعرفة.
ولكن أود أن أعترف أنه وبناءً على ما أوردناه ونحن نستعرض واقع التعامل في العملات دوليًّا قد يصعب إن لم يستحل التعرف على نوايا المتعاملين، كما أنه قد يتعذر على السلطات المختصة التحكم في مسار عمليات الصرف، إلا أنه يمكن اتخاذ الكثير من الإجراءات التي تستهدف بالأساس تقليل عمليات المتاجرة في العملات بقصد المضاربة كما سوف نوضح في المحور الرابع من ورقة العمل هذه.
ثالثًا – تأصيل موقف الاقتصاد الإسلامي من الاتجار في النقود:
كما أوضحنا سابقًا فإن الأثمان في الفقه الإسلامي اختصت بأحكام تغاير أحكام السلع والعروض، وذلك مثل اشتراط القبض عند مبادلتها ببعض، وتحريم بيعها لأجل، ويأتي ذلك بسبب منهجية واضحة نظرت للنقود على أنها من قبيل الوسائل، وليس من قبيل المقاصد، فأعطيت تصورات وأحكام تتلاءم مع طبيعتها (1) يقول ابن رشد:
"المقصود من النقود المعاملة أولاً لا الانتفاع، أما المقصود من العرض فهو الانتفاع أولاً لا المعاملة"(2)، ويقول في مكان آخر:" وأما الدينار والدرهم فالمقصود منهما تقدير الأشياء التي لها منافع ضرورية"، ويتضح هذا التوجه بجلاء في قول الغزالي:" فخلق الله تعالى الدراهم والدنانير حاكمين متوسطين بين سائر الأموال حتى تقدر بهما الأموال إذ لا غرض في أعيانهما – إلى أن يقول – كذلك النقد لا غرض فيه وهو وسيلة إلى كل غرض"(3) .
يقودنا ذلك إلى تقرير حقيقة بدهية وهي أن قواعد الفقه الإسلامي تعتبر أن وظيفة النقود الأساسية كونها وسيطًا للتبادل، وهذه بالفعل حقيقة بدهية لا تتطلب المزيد من التأكيد عليها. وقد أشار إليها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، حينما أتاه عامله على خيبر بتمر جنيب (4) فقال صلى الله عليه وسلم:((أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بثلاثة)) فقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تفعل بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبًا)) (5) ، ويدل الحديث إلى جانب منع بيع الجنيب بجنسه متفاضلاً، إلى توجيهه صلى الله عليه وسلم للرجل لاستخدام النقود وسيطًا للتبادل (6) .
(1) د. موسى آدم عيسى، الصرف وبيع الذهب والفضة؛ بحث غير منشور، ص 3.
(2)
بداية المجتهد ونهاية المقتصد: 1 / 251.
(3)
إحياء علوم الدين: 4 / 86 – 87.
(4)
الجنيب قيل: هو الطيب. وقيل: الصلب وقيل: الذي أخرج منه حشفته ورديئه.
(5)
ابن حجر العسقلاني، فتح الباري: 4 / 311.
(6)
أحمد مجذوب أحمد، السياسة النقدية في الاقتصاد الإسلامي، دار اللواء، ص 22.
إلى جانب هذه الوظيفة الأساسية هناك وظائف أخرى للنقود المستقرة قيمتها نسبيًّا وهي كونها مقياسًا للقيم، ومخزنًا للقوة الشرائية وأداة للمدفوعات المؤجلة.
هذه الوظائف الأساسية للنقود لم ينفرد بها الاقتصاد الإسلامي وإنما اعتمدتها الاقتصاديات الوضعية، إلا أن النظم الوضعية لم تجهد في مجال التشريع على صيانة حرمة هذه الوظائف وحماية النقود من استغلالها في وجوه تعامل تناقض تلك الوظائف النقدية (1) ، بينما نجد أن الفقه الإسلامي حرص على تحقيق الاستقرار في النقود كمقياس للقيمة حتى لا يتظالم المتعاملون ولتكون أداة كفؤة وعادلة للتبادل، ولم يعتبرها بحد ذاتها مصدرًا للرزق وآداة للدخل، فمنع بيعها بالأجل وإقراضها بزيادة (2) .
إلا أن البعض قد لا يرى أن المنع متصل مباشرة بمنع المتاجرة في العملات، لأن الإسلام أباح وبإطلاق شراء العملات ببعضها البعض وفق الشروط الفقهية المعتبرة في ذلك، لأن هناك أغراضًا مشروعة حقيقية يوصل إليها التبادل العاجل للعملات أشرنا إليها سابقًا (3) .
ولكن يظهر وفي الوقت نفسه أن هناك موقفًا حاسمًا مضادًّا لأن تكون المتاجرة في العملات سلوكًا استثماريًّا معتبرًا غير مرتبط بمعاملات حقيقية، وأرى أنه من المهم أن نورد بعض أقوال أئمة الفقه في هذا الشأن:
- يقول ابن القيم: " ويمنع المحتسب من جعل النقود متجرًا، فإنه بذلك يدخل على الناس من الفساد ما لا يعلمه إلا الله بل الواجب أن تكون النقود رؤوس أموال يتجر بها ولا يتجر فيها "(4) .
- ويقول في إعلام الموقعين: "حين اتخذت الفلوس سلعة تعد للربح عم الضرر وحصل الظلم"(5) .
(1) بالطبع تحاول النظم النقدية من خلال السياسات والإجراءات الحكومية وعبر المنظمات الدولية مقاومة الآثار السالبة الناتجة عن تلك التجاوزات، ولكنها لم تسن تشريعات تحول ابتداء دون تلك الممارسات.
(2)
د. محمد القري، مقدمة في أصول الاقتصاد الإسلامي، دار حافظ، ص 123.
(3)
انظر، ص 347.
(4)
ابن القيم: الطرق الحكمية، ص 281.
(5)
ابن القيم، إعلام الموقعين: 2 / 156.
ويقول كذلك: إن الدرهم والدينار أثمان المبيعات. والثمن هو المعيار الذي يعرف به تقويم الأموال فيجب أن يكون محددًا مضبوطًا لا يرتفع ولا ينخفض، إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات، بل الجميع سلع، وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يكون إلا بسعر تعرف به القيمة، وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء. ويستمر على حالة واحدة، ولا يقوم هو بغيره إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض فتفسد معاملات الناس ويقع الخلف ويشتد الضرر. . . فالأثمان لا تقصد بعينها بل يقصد التوصل بها إلى السلع، فإذا صارت في نفسها سلعًا تقصد لأعيانها فسد أمر الناس. (1)
- يقول القرافي: إن السلع وإن كانت ذوات أمثال فإنها مقاصد والنقدان وسيلتان لتحصيل المثمنات، والمقاصد أشرف من الوسائل إجماعًا (2) .
- ويقول ابن تيمية: والدراهم والدنانير لا تقصد لذاتها بل هي وسيلة إلى التعامل بها ولهذا كانت أثمانًا بخلاف سائر الأموال فإن المقصود الانتفاع بها. والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض لا بمادتها ولا بصورتها يحصل المقصود بها كيفما كانت (3) .
- ويقول الإمام الغزالي عن الدراهم والدنانير: " لا غرض في عينهما، فإذا اتجر في عينهما فقد اتخذهما مقصودًا على خلاف الحكمة "(4)، ويقول كذلك:" فأما من معه نقد – فلو جاز له أن يبيعه بالنقد – فيتخذ التعامل على النقد غاية عمله، فيبقى النقد مقيدًا عنده وينزل منزلة المكنوز – حتى يقول – فلا معنى لبيع النقد بالنقد إلا اتخاذ النقد مقصودًا للادخار وهو ظلم"(5) .
هذه الأقوال ترسي معالم أساسية لنظرة الاقتصاد الإسلامي للاتجار في العملات وتتجه لتقييده إن لم نقل منعه، كذلك فإنها تدعو لإصلاحات هيكلية في بنية الاقتصاد، وفي رسم سياسات الصرف الأجنبي حتى تحافظ أسعار العملات على استقرارها وتوازنها بحيث لا يتاح مجالاً واسعًا للمتاجرة فيها بقصد الإفادة من فروق أسعار الصرف.
(1) ابن القيم، إعلام الموقعين: 2 / 156.
(2)
القرافي، الفروق: 3 / 256.
(3)
ابن تيمية، الفتاوى: 19 / 251- 252.
(4)
الغزالي إحياء علوم الدين: 4/ 89 – 91.
(5)
الغزالي، إحياء علوم الدين: 4/ 89 – 91.
المحور الثالث
دراسة حالة عملية
دور المضاربة في العملات في أزمة جنوب شرق آسيا
في هذا المحور سوف نستعرض حقيقة ما حدث وفق التحليلات والاستقراءات السائدة، ونرسي معالم أساسية لموقف فقهي واقتصادي من المضاربة في العملات.
أولاً – حقيقة ما حدث في دول جنوب شرق آسيا:
لقد بدأت أزمة دول جنوب شرق آسيا تتكشف معالمها في تايلاند عندما بدأ هجوم المضاربين ضد (البات) التايلندي حيث أنفقت الحكومة (23.4) مليار دولار، ورفعت أسعار الفائدة إلى ما يزيد عن (30 %) في محاولة مستميتة للدفاع عنه، إلا أنها عجزت عن حمايته وفقد البات (30 %) من قيمته، وعندما امتدت الأزمة إلى كل من أندونيسيا والفلبين، وكوريا وماليزيا كانت أبرز مظاهرها الانخفاض الشديد في قيمة عملات تلك الدول.
فالأزمة إذن بدأت ببوادر انهيار في أسعار العملات، وانتهت بانهيار كبير في أسعار عملات تلك البلدان تجاه الدولار.
إلا أن ذلك الوجه البارز للأزمة يجب أن لا يشغلنا عن حقيقة الأزمة هل هي أزمة نقدية مالية، أم أزمة اقتصادية هيكلية شاملة؟ فكما نعلم فإن أسعار الصرف تعتبر أداة ربط بين اقتصاد مفتوح وباقي اقتصادات العالم، وفي الوقت نفسه تلعب أسعار الصرف دورًا بارزًا في تحديد القدرة التنافسية للاقتصاد، وبالتالي في وضع ميزان المدفوعات وفي معدلات التضخم والنمو الحقيقي كما أن حركة التصحيح الاقتصادي تبدأ عادة بتعديل أسعار صرف العملة. (1) .
هذا الدور المهم لأسعار الصرف، ولأنها محل انعكاس كل السياسات الاقتصادية جعل الكثيرين يتجهون بالأساس إلى المضاربة في العملات باعتبار أنها العامل الحاسم فيما آل إليه وضع تلك البلدان وقد يكون البعض قد نسي أنه وفي ظل اقتصاد مفتوح مسموح به بالتداول الحر وتحويل العملات، ومستقطب لرؤوس أموال ضخمة تم ضخها في ذلك الاقتصاد، فإن أية بوادر أو مظاهر لاختلالات أساسية في ذلك الاقتصاد يجعل رؤوس الأموال تهرب، وبالطبع فإن أول محطة للهروب تتمثل في التخلي عن العملة المحلية، واقتناء العملة الأجنبية مما يشكل ضغطًا هائلاً على العملة المحلية ينذر بتداعيات خطيرة.
(1) انظر د. علي توفيق الصادق؛ د. نبيل عبد الوهاب لطيفة، سياسات وإدارة أسعار الصرف؛ القضايا الخيارات والمضامين؛ ورقة عمل مقدمة إلى ندوة سياسات وإدارة أسعار الصرف في البلدان العربية، ص 5 وما بعدها.
وعمومًا لا أود استباق الأمور وسوف أحاول أن ألخص ما قيل في أسباب أزمة تلك الدول. علمًا بأني مدرك أن تحليل الأمور بعد (أن يقع الفأس في الرأس) فيه كثير من الانفعال وعدم الدقة، وإن كان فيه الكثير من الحقائق ويوفر الكثير من المعلومات التي كانت غائبة.
1-
أولى الحقائق تقول: إن الانفتاح الذي شكل عاملاً أساسيًا للنمو أفرز نقيضه تمامًا، كما أن عوامل قوة اقتصاد تلك الدول أضحت إحدى أهم مظاهر ضعفه!
لقد ساعدت سمعة واستمرار نمو الاقتصاديات الآسيوية على جذب تدفقات أجنبية رأسمالية هائلة جاءت المنطقة بحثًا عن المردودية العالية من أسعار فائدة مرتفعة، وارتفاع في مؤشرات البورصة، ولقد استخدم جزء كبير من تلك التدفقات في أنشطة واستثمارات غير مباشرة كالعقارات والمضاربة في البورصات عوضًا عن تمويل النشاط الحقيقي، فانفك الارتباط بين دائرة الاقتصاد الحقيقي التي تنمو ببطء نسبي مقارنة بدائرة الأصول المالية التي تنمو بوتيرة متسارعة.
لقد شهدت هذه الدول كثافة في حركة رؤوس الأموال ومعدلات الاستثمار، بمعدل أكبر من قدرة المؤسسات المالية والاقتصادية في هذه الدول على التحكم فيها واستثمارها بما يتلاءم وصالح اقتصاديات هذه الدول. إن تدفق الأموال إلى هذه الدول قد رفع من معدلات الاستثمار بشكل كبير وصل إلى حوالي (35 %) إلى (40 %) من الناتج الإجمالي المحلي، أي ما يمثل تقريبًا ضعف ما هو عليه الحال في أمريكا ودول أمريكا اللاتينية. مما أعطى الانطباع برخص تكاليف رأس المال الأمر الذي أدى من ناحية إلى التساهل في منح الائتمان، ومن ناحية أخرى إلى توظيف هذه الأموال في مشاريع ليست كلها مجدية، كما حصل في قطاع العقار الذي شهد استثمارات مبالغ فيها قادت إلى فائض في العرض، وبالتالي نزول حاد في أسعار العقارات أضر بالتبعية بالشركات العاملة في هذا المجال، وحال دون قدرتها على تسديد ديونها، الأمر الذي أزمّ كثيرًا من أوضاع البنوك وزاد من قروضها المعدومة وأضعف بشكل خطير من مراكزها المالية.
2-
يرى البعض أن من أسباب الأزمة تزايد العجز في ميزان المدفوعات لأسباب عديدة، منها ارتفاع أسعار صرف عملات تلك الدول نظرًا لارتباطها بعلاقة ثابتة بالدولار، الذي ارتفع سعر صرفه مقابل العملات الأخرى وخصوصًا (الين) الياباني خلال السنوات القليلة الماضية، وخفض الصين لسعر صرف عملتها بنسبة (30 %) في عام 1994م مما جعلها قوة تصديرية تنافسية كبيرة في مواجهة دول جنوب شرق آسيا، حيث دخلت مجال تصدير السلع كثيفة العمل التي تميزت بإنتاجها دول جنوب شرق آسيا، هذا بالإضافة إلى انخفاض الطلب العالمي على صناعة الإلكترونيات. وقد أدت تلك العوامل إلى انخفاض الصادرات.
من ناحية أخرى زادت الواردات بدرجة كبيرة بسبب زيادة الاستثمارات، والتي بلغت في بعض دول جنوب شرق آسيا حوالي (40 %) من الناتج المحلي الإجمالي، هذا بالإضافة إلى تزايد عجز كل من حساب الخدمات، وحساب الاستثمار بسبب زيادة الخدمات المستوردة والتدفقات الاستثمارية الهائلة التي دخلت تلك الدول في السنوات الأخيرة. وقد كان من أهم العوامل التي أدت إلى التدفقات الاستثمارية الهائلة قابلية حساب رأس المال للتحويل (تحرير حساب رأس المال) ، وثبات سعر الصرف مقابل الدولار وارتفاع سعر الفائدة (1) .
3-
كان لضعف المؤسسات المالية والمصرفية وانحرافاتها دور في الأزمة التي حلت بدول شرق آسيا، حيث كما يبدو لم يكن الأداء المالي والمصرفي وأوضاع المؤسسات العاملة بالمستوى الذي يتناسب وتعقيدات حركة رؤوس الأموال، وتطور النشاط الاقتصادي الذي عرفته هذه الدول، فمن ناحية لم يكن تقويم المخاطر يخضع لمعايير صارمة سواء تعلق الأمر بمنح الائتمان أو الاقتراض من الخارج. فمن ناحية منح الائتمان فقد توسعت المصارف في منح الائتمان دون ضوابط. كما أدى تزايد اقتراض الشركات في هذه الدول من المصارف إلى انكشاف البنوك فيها وتعرضها لمخاطر عالية، ويرجع ضعف الأوضاع بالنسبة للمؤسسات المالية والمصرفية في دول جنوب شرق آسيا كذلك إلى ضعف الرقابة، وانعدام الإفصاح، والشفافية، وإلى تداخل المصالح بين قطاع الأعمال والمصارف من ناحية والسلطات السياسية من ناحية أخرى.
4-
لم يقتصر التوسع في منح الائتمان (القروض) على البنوك الوطنية فقط، ولكن كان هناك اتجاه مشابه من الخارج، حيث توسعت البنوك الأجنبية في منح القروض لهذه الدول مندفعة في ذلك تحت إغراء المستويات المرتفعة لسعر العوائد، وهوامش الفوائد على القروض مقارنة بالمستويات السائدة في دولها. وعلى سبيل المثال: قدرت الحسابات المكشوفة (القروض) التي قدمتها البنوك الفرنسية بحوالي (97) مليار دولار، والقروض الألمانية بحوالي (75) مليار دولار، والقروض البريطانية بحوالي (58) مليار دولار (2) .
5-
من الأسباب الأساسية التي ساعدت في سرعة انتشار الأزمات في دول المنطقة وفاقمت من حدتها، أن معظم الاستثمارات الأجنبية لم تتجه نحو توسيع القاعدة الإنتاجية، وإنما تركزت في توظيفات ذات عوائد عاجلة عالية يمكن التخلص منها عند أول إشارة سلبية. وهو ما حدث بالفعل إذ إن الهجمات التي شنتها صناديق التحوط والمضاربين والمستثمرين الأجانب ضغطت بشدة على أسعار الأسهم والعملات المحلية، وأربكت السلطات النقدية في تلك البلدان.
(1) د. نبيل حشاد، الدروس المستفادة من الأزمة المالية في آسيا، مجلة المصارف العربية أبريل 1998م، ص 90.
(2)
د. نبيل حشاد، الدروس المستفادة من الأزمة المالية في آسيا، مجلة المصارف العربية أبريل 1998م، ص 90.
6-
ساهم اندماج اقتصاديات تلك الدول في الاقتصاد العالمي بشكل كامل دون وضع سياج واقي من امتداد التأثيرات غير الملائمة، ودون تقدير قدرة تلك البلدان على مواجهة الأزمات إذا وقعت في تكريس الأزمة وامتداد آثارها، ومن أهم مظاهر ذلك الاندماج:
- السماح بحرية دخول وخروج الرساميل الأجنبية دون ضوابط صارمة.
- السماح بإجراء جميع أنواع التعاملات النقدية والمالية دون وضع قيود وأنظمة تمنع التجاوزات.
- ربط أسعار صرف عملات تلك الدول بالدولار الأمريكي والمحافظة على معدل سعر صرف ثابت معه.
7-
عدم توفر المعلومات وفقدان الشفافية أدى إلى حرمان المتعاملين من عوامل تكوين نظرة واقعية، وإلى تقدير غير سليم وغير دقيق من قبل المستثمرين الخارجيين، حال دون وقوفهم على نواحي الضعف الاقتصادي الذي تعاني من هذه البلدان، ولم تتضح السلبيات إلا بعد تعمق الأزمة.
8-
من أهم ما ورد في تفسير الأزمة ما قيل عن تثبيت أسعار صرف تلك العملات تجاه الدولار، حيث تجدر الإشارة إلى أن جل عملات دول المنطقة ربطت في أواخر الثمانينات بأسعار صرف ثابتة بعملة من العملات يمثل الدولار (80 %) منها، وشكل هذا الربط في ذلك الوقت عنصر فائدة للمصدرين والمستثمرين الأجانب، كما استطاع المحافظة على استمرارية تيار الاستثمار الخارجي للتوظيف في السندات بفضل فرق نسب الفائدة مقارنة بالسوق الأمريكية، وظل هذا التثبيت مفيدًا حتى عام 1995م، ولكن ومنذ عام 1996م عاود الاقتصاد الأمريكي نموه، وارتفعت قيمة الدولار في الوقت الذي بدأت فيه دول المنطقة تشهد ركودًا نسبيًّا كان من مظاهره تباطؤ الصادرات، وتراجع أرباح المقاولات، ولم يكن بإمكان العملات الآسيوية مسايرة الدولار في ارتفاع مستمر دون المساس بالقدرات التنافسية لدول المنطقة، هذا السبب الاقتصادي برر انخفاض نسب الصرف في شكله العادي؛ إلا أن الفاعلين الماليين لما تيقنوا من عدم قدرة اقتصاديات آسيا على الاستمرار في نسب التصدير نفسها مع الحافظة على سعر التعادل مع الدولار، استبقوا الانخفاض الممكن حدوثه وحفزوا معهم المضاربين حيث عمدوا إلى بيع الموجودات التي تحت إدارتهم، وارتفعت حمى الطلب على الدولار والاتجاه نحو تسييل الاستثمارات (1) .
عمومًا فإن الجميع وهو يحلل الأسباب الاقتصادية اللازمة أكد على أن الذي أشعل فتيل الأزمة هو شعور معظم المختصين ببوادر أزمة في الاقتصاد التايلندي أدت إلى اتجاهات مضاربية على الباب التايلندي، وعندما حاولت الحكومة مساندة عملتها بالتدخل لشرائها أوحت بوجود مأزق حقيقي وكرست الاتجاهات المضاربية. مما أدى إلى انهيار كبير في أسعار العملات أدت بالتالي إلى انخفاض في نسبة النمو وفي حجم المدخرات وفي حجم الناتج، ولم تؤد بشكل مماثل لزيادة الصادرات.
وحسب تصنيف صندوق النقد الدولي فإن الأزمة هي أزمة عملات تحدث عندما تقع مضاربة على قيمة تبادل العملات تؤدي إلى خفض قيمة العملة، و (أزمة مصرفية) حالة الفشل التي ترغم الحكومة على التدخل بتقديم مساعدات بحجم أكبر، و (أزمة مالية) عملية تهتك في الأسواق المالية تعوق مقدرة وفعاليات الأسواق وتنتج آثارًا ضارة بالاقتصاد بصفة عامة (2) .
(1) انظر حبيب المالكي، لماذا اكتوى المارد الآسيوي بنيرانه، ورقة عمل قدمت إلى الأكاديمية المغربية 1998م.
(2)
انظر مجلة التمويل والتنمية الصادرة عن صندوق النقد الدولي سبتمبر 1998م.
ودعوني باختصار أقرر التالي:
" إن هناك أزمة كامنة في الهياكل الاقتصادية لتلك الدول كما أشرنا، لكنها ما كان لها أن تسبب انهيارًا كبيرًا لولا تدخل عامل المضاربة في العملات الذي كرس وعمق الأزمة وحولها إلى انهيار كبير ".
* *
ثانيًا: الموقف من المضاربة في العملات:
أود وقبل إبداء رأيي وبشكل مختصر عن المضاربة في العملات أن أستعرض بعض الإحصاءات وآراء الخبراء والمختصين حول المضاربة في العملات، والتي توضح أن هذه العمليات ضارة بالاقتصاد والأفراد، رغم إصرار المجتمع الدولي على عدم إنكار المنكر.
1-
جاء في إحدى الدراسات: " يقدر حجم التعامل الدولي الكلي في أسواق الصرف – إجمالي عمليات البيع والشراء – بنحو (200) بليون دولار يوميًّا، بينما لا يزيد حجم التعامل المرتبط بالتجارة الدولية بصفة مباشرة عن (10) أو (20) بليون دولار يوميًّا. وهذا يعني أن التجارة الدولية تعتبر مؤثرًا هامشيًّا في أسواق الصرف، وأن أغلب عمليات بيع وشراء العملات الدولية ترجع لأسباب أخرى كالمضاربة والمتاجرة في النقود "(1) .
2-
وفي إحصاء لاحق في عام 1998 م جاء في دراسة أخرى: " أن ما يقرب من (1400) مليار دولار يتم تبادلها يوميًّا في أسواق الصرف، وهو ما يمثل مبلغ سنة من التجارة العالمية "(2) .
3-
كما جاء في دراسة أخرى: " مقابل كل دولار واحد من الأنشطة التجارية يتم تبادل (83) دولارًا في أسواق الصرف، وهذا الإحصاء يوضح أن المال قد حاد عن مهمته الأولى وهي تمويل الاقتصاد "(3) .
4-
أفادت بعض الإحصاءات: "أنه وفي تايلاند وصل حجم استثمارات المحافظ ذات الطابع المضاربي إلى نحو (24) مليار دولار في غضون السنوات الأربع التي سبقت الأزمة"(4) .
5-
يقول (داني رودك) وهو اقتصادي من جامعة هارفارد: "إنه لشيء مخيف أن تجبر الحكومات على اتباع سياسات تستند في جوهرها إلى ما يمليه (20) أو (30) من متداولي العملات في نيويورك ولندن وفرانكفورت "(5) .
(1) سيد عيسى، أسواق وأسعار صرف النقد الأجنبي، ص 6.
(2)
حبيب المالكي، ورقة عمل مقدمة للأكاديمية المغربية، أغسطس 1998 م.
(3)
حبيب المالكي، ورقة عمل مقدمة للأكاديمية المغربية، أغسطس 1998 م.
(4)
رشيد حسن، العرب ودروس الأزمة الأسيوية، مجلة الاقتصاد والأعمال، سبتمبر 1998م، ص9.
(5)
رشيد حسن، العرب ودروس الأزمة الآسيوية، ص 14، مرجع سابق.
6-
قال (ستانلي فيشر) نائب مدير عام صندوق النقد الدولي أثناء الاجتماع الأخير لصندوق النقد الدولي: " السوق ليست دائمًا على حق، ففي حالات معينة تكون التدفقات زائدة عما هو منطقي، والسوق تتأخر غالبًا في رد الفعل، وعندما تستجيب فإن رد فعلها غالبًا ما يكون سريعا وزائدًا عما هو منطقي".
لقد قدرت تكلفة أزمة دول جنوب شرق آسيا بحوالي (260) مليار دولار أدت إلى تباطؤ النمو في دول المنطقة، بالإضافة إلى تأثر مجمل الاقتصاد العالمي بالأزمة خاصة في أمريكا وأوروبا واليابان، وقد انعكس ذلك في أسواق الأسهم بتلك الدول وفي أسواق الصرف بها. وبالطبع فإن المضاربة في العملات تتحمل جزءًا أساسيًّا ومهمًّا في المشكلة أو على الأقل في تفاقمها وبلوغها هذا الحجم المأساوي، ويرجع هذا التأثير لطبيعة دور المضاربة في مختلف الأسواق سواء كانت أسواق أسهم أو صرف أو سلع، مما يدعوني إلى تلخيص موقف اقتصادي وفقهي من المضاربة يقوم على الأسس التالية (1) :
1-
إنها ضارة بالنشاط الاقتصادي وتخل بالتوازن الحقيقي للأسعار، وتؤثر على عملية تحديد الفعاليات المنتجة وتخصيص الموارد. وتصرف التدفقات المالية عن المشاركة في القطاعات المنتجة.
2-
معظم المضاربات تتم في الأسواق الآجلة للعملات، وهذا ممنوع شرعًا مما يدل على أن أحكام الفقه الإسلامي تسد الباب على معظم الأنشطة المضاربية.
3-
يجوز منع وتقييد عمليات المضاربة في العملات حتى ولو كانت في السوق العاجلة إذا أمكن ذلك، وذلك سدًا للذريعة وتحقيقًا للمصلحة ودفعًا للضرر ومنعًا للفساد.
وبالطبع فإن هذا الموقف سوف تتضح معالمه وإمكانات تطبيقه في توصيات هذه الدراسة.
* * *
(1) لتفصيل واف ودقيق في موضوع المضاربة ارجع إلى كتابنا أسواق الأوراق المالية، ص 473 – 601.
المحور الرابع
الوسائل المشروعة لتجنب آثار المضاربة في العملات
هذا المحور هو بمثابة خلاصة وخاتمة لورقة العمل هذه، والتوصيات الواردة فيه هي نتاج دراسة الموضوعات التي تم استعراضها سابقًا. وتتعلق بالمضاربة في العملات وتتجاوزها إلى المشكلات الكامنة في اقتصاديات البلدان الإسلامية، وخاصة ما يتعلق بضرورة الإصلاح الاقتصادي، ودعم الجهاز المصرفي وسياسات أسعار الصرف، والتعامل مع قضية العولمة. وعليه فإن الورقة تطرح المقترحات التالية لتجنب وتخفيف الآثار الضارة للمضاربة في العملات.
أولاً: منع وتجريم عمليات التعامل الآجل في العملات في الأسواق المحلية تحت أي مسمى أو أي غرض كان، وعدم توفير الإطار التشريعي والتنظيمي والإجرائي لها، كذلك العمل بقدر الإمكان على منع التعامل الآجل في العملات الوطنية في الأسواق الدولية، وعدم منح ذلك النوع من التعامل أية ضمانات أو تسهيلات أو اعتراف بالحقوق والالتزامات الناشئة عنه.
ثانيًا: العمل بقدر الإمكان على منع عمليات المضاربة في العملات سواء تمت في الأسواق الآجلة أو حتى في الأسواق العاجلة المعترف بها شرعًا، والعمل على إيجاد معايير فاعلة لتصنيف أعمال المضاربة عن غيرها من المعاملات الحقيقية المطلوبة، ومراقبة حركة التدفقات المالية بغرض المضاربة وتقييدها.
وفي خطوة متقدمة وبقدر حجم المشكلة يمكن العمل على تقييد حرية صرف العملات، وهو إجراء أصبح ينصح به الكثيرون من المختصين، يقول (بول كورقمان) أستاذ الاقتصاد في معهد (ماساشوتيس) للتقنية في مقال نشرته مجلة (Fortune) :"إني أدعو إلى اتباع أسلوب تقييد حرية صرف العملات، وقد يرى البعض أن هذا سيء، والسؤال ينبغي أن يكون سيئًا بالمقارنة إلى ماذا؟ فإذا كان الجواب أنه يسهم في إحداث حالة من الجمود أو الركود الاقتصادي؟ فإن مثل هذا الركود يصبح أمرًا إيجابيًّا إذا كان البديل تراجعًا في النمو يتراوح من (10 – 20 %) مثلما شهدت العديد من الاقتصاديات الآسيوية؛ ويضيف: إن الصين تكاد تكون هي الدولة الآسيوية الوحيدة الأقل تأثرًا بالأزمة، ويرجع ذلك إلى سيطرتها على أسعار صرف عملتها".
الدعوة إذن إلى تقييد التدفقات المالية العالمية ومراقبتها، والسيطرة على أسعار صرف العملة المحلية، والتقييد النسبي لحرية تحويلها وحركتها؛ ليست دعوة منغلقة ولا غير عملية وتعبر عن مصلحة وليست مجرد عاطفة.
وخير مثال لما ذكرنا تجربة الصين والهند وتشيلي فهذه الأسواق رغم وجودها في مناطق الأزمة لم تتأثر عمليًّا والسبب الرئيسي أنه لا يمكن لسماسرة البنوك ومتداولي العملات تحريك مليارات الدولارات في يوم أو يومين إلى تلك الدول ثم إخراجها منها. فالصين والهند تفرضان قيودًا على دخول رؤوس الأموال الأجنبية. بينما تفرض تشيلي ضريبة على الاقتراض بالعملات الأجنبية وتشترط الإبقاء على الاستثمارات شبه السائلة لفترات محددة لا يمكن تصفية الاستثمار قبل انقضائها.
يقول أحد الخبراء في إندونيسيا: " وفي اللحظة التي تأكد فيها للناس أن الروبية ستهبط هربت المليارات!! لا يمكن أن يحدث ذلك في الهند، لأن أغنياء الهند لا يمكنهم أن يخرجوا ساعة يشاؤون (20) مليار دولار"!.
ثالثًا: يجب أن يتم استقطاب رؤوس الأموال الأجنبية بمعدلات يكون الاقتصاد المحلي قادرًا على استيعابها في استثمارات توسع من قاعدة الإنتاج، وأن يتم قبولها بمعايير تخدم هذا الغرض تمامًا، وأن لا يسمح لها بالتسرب نحو أنشطة المضاربة والعقارات وصناديق الاستثمار ذات الطابع المضاربي.
إن تجربة الأسواق الآسيوية أوضحت أن تدفقات الأموال الأجنبية ليست دائمًا في صالح الاقتصاد المحلي، وأنها تكون كذلك فقط إذا كانت من أنواع الاستثمارات المباشرة، أما التدفقات التي تستهدف الأرباح قصيرة الأجل في أسواق الأسهم والعقارات والمحافظ الاستثمارية، فإنها تتحول إلى عامل عدم استقرار عندما تلوح بوادر أية مشكلة عادية كانت أم عميقة.
رابعًا: لا بد أن تكون السياسة النقدية حازمة وحاسمة لمقاومة التدهور الزائد في قيمة العملة وذلك بالاستجابة الفورية للإشارات المبدئية والتعامل معها بجدية في الوقت المناسب قبل استفحالها، ومن تلك الإشارات المبكرة ارتفاع أسعار الأسهم والعقارات بشكل كبير، وارتفاع سعر صرف العملة بأكثر من قيمتها الحقيقية وإفراط البنوك في تقديم القروض للاستثمارات المالية. . إلخ.
كذلك يجب أن تتحول السياسات النقدية في الدول الإسلامية من مجرد إجراءات ومحاولات للحد من الانحرافات التي كانت تحدث، إلى سياسات استراتيجية مبنية على خطط وأهداف بعيدة المدى تسعى السلطة النقدية للوصول إليها.
إن من العوامل المسببة للمضاربات المحلية والتشوهات في الاقتصاد تعدد أسعار الصرف المستخدمة في الاقتصاد ووجود فوارق كبيرة بينهما، والمغالات في تحديد سعر الصرف الرسمي، فلا بد من توحيدها ومحاولة تثبيتها في إطار صرف واقعي يعكس حالة الوضع الاقتصادي السائد.
خامسًا: لا بد من دعم وتقوية وإصلاح الجهاز المصرفي وإحكام سبل الرقابة على أنشطته وحمايته من الانحراف. وتطوير وسائل قياس المخاطر، ولا بد من شفافية كاملة في معاملاتها وتوفر المعلومات الحقيقية عن أوضاعها تتاح للجمهور أولاً بأول، فلقد أثبتت الوقائع أن تحرير حركة رؤوس الأموال وفتح الأسواق المالية أمام العالم الخارجي مع وجود ضعف في القطاع المصرفي قد لعب دورًا رئيسيًّا في حدوث وتفاقم الأزمة.
سادسًا: لا بد من التنبُّه الكامل إلى أن العولمة وإن أصبحت حقيقة واقعية لا بد من التعامل معها – كما يحلو للبعض أن يقول – فإنها تحمل في طياتها مخاطر ومحاذير منها:
* فتح الاقتصاد أمام المستثمرين الأجانب والمضاربين مما قد يؤدي في أية لحظة إلى حدوث أزمات مالية تتبعها أزمات نقدية ومصرفية وانهيارات.
* في إطار ونطاق العولمة تنتقل الأزمات وبسرعة من دولة لأخرى خصوصًا إذا كانت تشابه في الخصائص الاقتصادية، وهو أمر حاصل لمعظم اقتصاديات الدول الإسلامية.
* في حالة عدم إجراء إصلاحات اقتصادية شاملة، تجعل الاقتصاد المحلي قويًّا ومنافسًا ومتنجًا – وهو ما لا يتوقع حصوله في زمن سريع في الدول الإسلامية – فإن النتائج السلبية للعولمة هي التي سوف تسود وتكون أكثر وضوحًا.
ولذلك لا بد من النظر في تحصين الاقتصاديات المحلية قبل أو في الوقت نفسه الذي تتم فيه الهرولة نحو تطبيق مقتضيات العولمة.
سابعًا: على الدولة الإسلامية أن تتبنى صورًا من صور التعاون المالي لإنشاء صندوق طوارئ لإدارة الأزمات حال حدوثها، وذلك منعًا لانهيار أو تأخر نمو أقطار وبلاد يعول عليها كثيرًا في دعم ومساندة اقتصاديات الدول الإسلامية الأخرى؛ لما تمتلكه من تجارب وبنى أساسية قوية وأيدي عاملة مدربة.
أحمد محيي الدين أحمد
قائمة المراجع
1-
سيد عيسى، أسواق وأسعار صرف النقد الأجنبي.
2-
مروان عوض، التعامل بالعملات الأجنبية وعمليات الاستثمار.
3-
أحمد محيي الدين، عمل شركات الاستثمار الإسلامية في السوق العالمية.
4-
يزيد المفتي، محاكاة سوق القطع الأجنبي، دورة تدريبية، الأكاديمية العربية للدراسات المصرفية.
5-
جورج عشى، سوق النقد الأجنبي والاعتماد المستندي.
6-
ابن ماجه، سنن ابن ماجه.
7-
البيهقي، السنن الكبرى.
8-
السيوطي، الأشباه والنظائر.
9 – موسى آدم عيسى، الصرف وبيع الذهب والفضة، بحث غير منشور.
10-
مسلم، صحيح مسلم.
11-
البخاري، صحيح البخاري.
12-
سامي حمود، تطوير الأعمال المصرفية.
13-
رفيق المصري، أصول الاقتصاد الإسلامي.
14-
محمد القري، مقدمة في أصول الاقتصاد الإسلامي.
15-
عبد الرحمن تاج، السياسة الشرعية والفقه الإسلامي.
16-
وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته.
17-
الإمام مالك، الموطأ.
18-
الشوكاني، نيل الأوطار.
19-
ابن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد.
20-
الغزالي، إحياء علوم الدين.
21-
ابن حجر العسقلاني، فتح الباري.