المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌عقود الصيانةإعدادالدكتور منذر قحف - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ١١

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الحادي عشر

- ‌بيع الدين والأوراق الماليةوبدائلها الشرعيةإعدادالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌أحكام التصرف في الديوندراسة فقهية مقارنةإعداد الدكتورعلي محيي الدين القره داغي

- ‌بيع الدينأحكامه – تطبيقاته المعاصرةإعدادأ. د نزيه كمال حماد

- ‌بيع الدينإعداد الدكتورعبد اللطيف محمود آل محمود

- ‌بيع الدين وسندات القرضوبدائلها الشرعيةفي مجال القطاع العام والخاصإعداد الدكتورمحمد علي القري بن عيد

- ‌بيع الدين وسندات القرضوبدائلها الشرعية في مجال القطاع العام والخاصإعدادالدكتور سامي حسن حمود

- ‌المضاربات في العملةوالوسائل المشروعة لتجنب أضرارها الاقتصاديةإعداد الدكتورأحمد محيي الدين أحمد

- ‌المضاربات على العملةماهيتها وآثارها وسبل مواجهتهامع تعقيب من منظور إسلاميإعداد الدكتورشوقي أحمد دنيا

- ‌عقود الصيانةوتكييفها الشرعيإعدادالشيخ محمد المختار السلامي

- ‌عقود الصيانةوتكييفها الشرعيإعدادالدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌عقود الصيانة وتكييفها الشرعيعقد الصيانةإعدادآية الله محمد على التسخيري – مرتضى الترابي

- ‌عقود الصيانةإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌عقود الصيانة وتكييفها الشرعيإعدادالدكتور محمد أنس الزرقاء

- ‌ضوابط الفتوىفي ضوء الكتاب والسنةومنهج السلف الصالحإعداد الدكتورعبد الوهاب بن لطف الديليمي

- ‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعداد الدكتوروهبة مصطفى الزحيلي

- ‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعداد الدكتورعبد الله الشيخ المحفوظ بن بيه

- ‌العمل الفقهيعند الإباضيةإعدادناصر بن سليمان بن سعيد السابعي

- ‌الإسلامفي مواجهة الحداثة الشاملةإعدادالدكتور ناصر الدين الأسد

- ‌مجمع الفقه الإسلامي الدوليووحدة الأمة الإسلاميةإعدادمحمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌الوحدة الإسلاميةمنهجية المقارنة بين المذاهب الفقهيةإعدادالدكتور عبد الستار أبو غدة

- ‌الوحدة الإسلاميةمعالمها وأعلامهاإعدادالأستاذ محمد واعظ زادة الخراساني

- ‌الوحدة الإسلامية{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}إعدادالشيخ عدنان عبد الله القطان

- ‌الوحدة الإسلاميةأدب الحوار وأخلاقيات البحثإعدادالدكتور سعيد بن عبد الله بن محمد العبري

- ‌‌‌الإسلام في مواجهة العلمنةإعدادالدكتور عمر عبد الله كامل

- ‌الإسلام في مواجهة العلمنةإعدادالدكتور عمر عبد الله كامل

- ‌الإسلام في مواجهة العلمنةموقف الإسلام من مسألة الحكم والسيادةإعدادآية الله الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الديمقراطية والعلمانيةوحقوق الإنسانالمرجعية الغربية والمرجعية الإسلاميةإعدادالأستاذ إبراهيم بشير الغويل

الفصل: ‌عقود الصيانةإعدادالدكتور منذر قحف

‌عقود الصيانة

إعداد

الدكتور منذر قحف

بسم الله الرحمن الرحيم

عقود الصيانة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين.

مقدمة:

لابد للوصل إلى الحكم الشرعي لعقود الصيانة من فهم طبيعة هذه العقود وأنواعها أولا. فتحقيق المناط فيها لا يمكن إنجازه إلا إذا قمنا بوصف كامل وتفصيلي لهذه العقود، وصنفناها في زمر حسب خصائصها، وما تتضمنه من التزامات متبادلة.

وفكرة صيانة السلع قد تطورت وتوسعت وتعددت أشكالها حتى إنها طالت في أحيانٍ كثيرة الخدمات أيضا. وإذا كان من المتعارف عليه صيانة المباني والآلات الثابتة والمتحركة، فإن صيانة الخدمات صارت شائعة أيضًا، حيث يعمد من يقدم خدمة كالطبيب مثلا إلى الالتزام بمتابعة ما قدمه من خدمة في الزيارة الأولى بزيارة ثانية مجانية، كما شاع ما يمكن أن نسميه بالصيانة الصحية، حيث يتفق شخص مع مستشفى لتقديم جميع الخدمات الصحية التي يحتاجها لصيانة صحته أو جسمه، إما عموما أو لحالة معينة كالحمل والولادة، وذلك دون تحديد لخصوصيات هذه الخدمات ومواعيدها ولا ما يتضمنه تقديمها من أعمال ومواد.

ومع تنوع أفكار الصيانة وتطبيقاتها العملية فقد تعددت كيفية وجودها في علاقات الناس. فقد يقدمها صانع السلعة أو مقدم الخدمة، أو يقدمها بائع السلعة. وقد يتم هذا بشكل مباشر أحيانا بواسطة مكاتب وورشات إصلاح خاصة بالصانع أو البائع، أو بواسطة أشخاص آخرين يتعاقد هو معهم لتقديم الصيانة. وقد يقدم الصيانة أيضا أشخاص آخرون مستقلون عن صانع السلعة، أو بائع السلعة أو الخدمة. وهنا أيضا يمكن أن يقوم المتعاقد نفسه بعمل الصيانة أو أنه يتعاقد مع آخرين لتقديمها على حسابه شأن المقاول من الباطن.

ص: 368

وكذلك فإن الصيانة قد تكون بعقد مستقل، أو بشرط في عقد البيع للسلعة أو الخدمة التي تتم صيانتها. وإن كثيرًا من نماذج عقود البيع المطبوعة مسبقا من قبل البائع (كبيع السيارات مثلا) تتضمن شرط الصيانة، بحيث يعامل هذا الشرط على أنه جزء من عقد البيع، مما هو غير خاضع للتفاوض في العادة، وإن كان للمشتري الحق بشطبه والتنازل عنه لو رغب بذلك، دون أن يؤثر الشطب على سعر البيع، وبخاصة أن ضمان الصيانة يقدم من المنتج وليس من البائع نفسه في كثير من الأحيان.

والبحث الراهن يدرس الأنواع والأشكال المتعددة لعقد الصيانة ومضمونه وعلاقته بالمسؤولية التقصيرية للمنتج، وبالعيوب الخفية في السلعة، وعلاقته بعقود بيع وإجارة الأصول الثابتة أو السلع المعمرة، وما يترتب على ذلك من علاقة بإمكان إصدار سندات بالأصول الثابتة المؤجرة.

كما سنبحث علاقته بعقد التأمين، ونشوء ما يسمى بعقد تأمين الصيانة وقد حددت موضوعات هذه الورقة بالعناوين التالية:

1.

الصيانة ومعناها ومضمونها وما يمكن أن تشمله من شروط معتادة.

2.

عقود مشابهة للصيانة.

3.

الأشكال التعاقدية للصيانة.

4.

علاقة الصيانة بالتمويل.

5.

المؤشرات الشرعية التي تساعد على الوصول إلى الحكم الشرعي لعقود الصيانة.

ص: 369

أولًا – الصيانة معناها ومضمونها ومشمولاتها وخصائصها الأساسية:

معنى الصيانة:

المعنى اللغوي للصيانة هو الحفظ والوقاية، وليس للعبارة معنى شرعي (1) .

أما معناها العرفي المستخلص من عقود الصيانة، فإنها تغني إصلاح الشيء المعمر (السلع المعمرة) ، كلما طرأ عليه عطل أو أذى، من حيث قدرته على إنتاج الخدمات والمنافع المقصودة منه. وهي لا تشمل الحفظ المادي للشيء كأن يوضع في مكان أمين أو في ظل ظروف تناسبه من حرارة ورطوبة أو تشغيله بالطريقة الأمثل لاستمرار منافعه، فإن هذا يعتبر من مسؤولية المالك أو المستعمل، وليس مما يدخل في مسؤولية الصائن أو المتعهد بالصيانة في عقد الصيانة.

مضمون عقد الصيانة:

أما أهم ما يتضمنه عقد الصيانة في العادة فهو خدمة الإصلاح المتكررة فالصيانة هي أصلا عقد على الإصلاح. فهو يشمل أساسًا العمل الذي يقوم به الصائن أو من ينوب عنه لإعادة الشيء إلى عهده الإنتاجي المعتاد، كلما طرأ عليه تغير كلي أو جزئي (على أحد أجزاء الشيء) يوقف عمله كليًّا أو جزئيًّا، أو يقلل من جودته أو إنتاجيته المعتادة.

وكثيرا ما تشمل الصيانة تقديم ما يلزم من أعيان إضافة إلى العمل، أيضا نحو قطع الغيار، سواء أكانت الحاجة إلى تغيير القطعة مسببة بفسادها أصلا، أم باهتلاكها قبل الأوان المقرر لها في حالة الاستعمال المعتاد (المتوقع أو المرسوم لها) .

وقد تشمل بعض عقود الصيانة الإصلاح المتكرر، بما فيه من عمل وأعيان، الذي أصبح ضروريا نتيجة لسوء الاستعمال أو نتيجة لفعل الغير.

(1) لم ترد كلمة صيانة في التعريفات الفقهية لمحمد عميم الإحسان، ولا في أنيس الفقهاء للقونوي، ولا في التدقيق على مهمات التعريف للمناوي، ولا في تحرير ألفاظ التنبيه للنووي، ولا في الدر النقي لابن عبد الهادي، ولا في التعريفات للجرحاني، ولا في الكليات لأبي البقاء الحسيني الكفوي

ص: 370

مشمولات عقد الصيانة:

فعقد الصيانة هو إذن عقد على عمل، أولا: يشمل عمل المصلح نفسه واستعماله لآلات ومعدات وأدوات مما تحتاجه عملية الإصلاح المتكررة، وكثيرا ما يشمل عقد الصيانة تقديم الأعيان اللازمة للإصلاح بشرط مذكور في العقد نفسه.

ولكننا ينبغي أن نلاحظ أن هنالك شروطا أخرى كثيرة قد تتضمنها عقود الصيانة نذكر فيما يلي أهمها:

1.

التعويض عن الإيراد المفقود لفترة تعطل الشيء عن العمل.

2.

تقديم منفعة مماثلة، بديلة أو موصوفة، خلال فترة التعطل عن العمل.

3.

شمول ما قد يضاف من آلات وأجهزة عند المتعاقد خلال مدة العقد دون تحديد مسبق لهذه الآلات والأجهزة.

4.

شمول قطع الغيار التي تحتاج إلى تغيير بسبب هلاكها بالاستعمال العادي، دون تعدٍّ.

5.

شمول ما تحتاجه عملية الصيانة من زيوت ومواد كيماوية وغيرها من المستهلكات (قطع قماش ومواد نظافة مثلا) .

وفى كثير من عقود الصيانة (وبخاصة صيانة السيارات وما شابهها من آلات متحركة) يتم استثناء نوعين من الإصلاحات (بما تحتاجه من عمل وقطع، أو القطع وحدها) وهما:

أ. القطع التي تهترىء بسبب الاستعمال الطبيعي. ومن أمثلة ذلك الاهتراء المتوقع لإطارات السيارات وبطارياتها.

ب. إصلاح ما يحدث بفعل الغير أو بتعد أو سوء استعمال ولو غير مقصود – كمخالفة التعليمات خطأ – من مستعمل الشيء الخاضع لعقد الصيانة.

فتستثني عقود الصيانة السيارات الإصلاح الذي تحتاجه السيارة بسبب الحوادث أو بسبب خطأ مستعمل السيارة، ومثاله: تلف الإطار قبل أوانه بسبب زيادة ضغط الهواء بداخله أو نقصانه عن الحدود المعتادة المذكورة في تعليمات استعمال السيارة.

وأخيرا، فإن عقد الصيانة قد يترافق مع عقد على عملية تشغيل الآلات والأجهزة. فيكون العقد للتشغيل والصيانة معا، ويكون تشغيل الآلات هو الأهم في العقد، وتكون الصيانة تابعه له.

ص: 371

ففي المباني الحديثة عدد من الآلات والنظم، منها مثلا نظام وأجهزة التكييف، ونظام وأجهزة الإنارة والكهرباء ونظام وأجهزة إطفاء الحريق، ونظام وأجهزة إيصال الماء للاستعمال، ونظام وأجهزة تصريف المياه المالحة، وغير ذلك. وتكون العادة أن تعمل هذه النظم والأجهزة بصورة مستمرة، بحيث يفوت أي توقف أو تعطل فيها الكثير من المنافع والمصالح، ويكون العقد في كثير من الحالات لتشغيل هذه النظم والأجهزة وصيانتها معا. فيكون الصائن هو المشغل لها. وهو يلتزم باستمرار هذه النظم بالعمل حسب ما هو محسوب أو متوقع لها وبإصلاح ما يطرأ عليها عند حدوثه.

خصائص عقد الصيانة:

تتميز عقود الصيانة بخاصتين هما: الجهالة، والطبيعة التأمينية:

أ. الجهالة:

إن أهم خصيصة لعقد الصيانة، الذي هو أساسا عقد على عمل، هو وجود قدر كبير من الجهالة في العقد، فهناك جهالة في مقدار العمل المطلوب، وجهالة في مواعيد تقديمه. فهو عقد على عمل لإصلاح ما قد يصيب الشيء المطلوب صيانته من أعطال توقف أو تقلل من سيل المنافع أو المنتوجات المتوقعة من ذلك الشيء في عمله الطبيعي.

ويختلف مقدار الجهالة في العمل المعقود عليه في عقد الصيانة من عقد لآخر حسب شروط كل عقد وحسب طبيعة الشيء المصان. ففي بعض عقود الصيانة يكون هنالك حد أدنى متفق عليه من العمل المشمول بالعقد. يتضح ذلك في عقود التشغيل والصيانة معا التي تشترط في العادة حدا أدنى من العمل، يتفق على كميته ونوعيته في العقد.

ولكن العقد ينص دائما على التزام المشغِّل (الصائن) بأي مقدار من العمل يلزم لاستمرار عمل النظم والأجهزة حسبما هو مراد لها. فلا يشكل الحد الأدنى الاتفاقي إذن إلا مؤشرا فقط، فقد لمقدار العمل المعقود عليه الذي هو غير معروف المقدار عند العقد.

يضاف إلى ذلك أن أهم ما تنص عليه عقود الصيانة في العادة هو مواجهة الطوارئ. وهذه تتطلب مقدارا من العمل غير معلوم مسبقا بحكم العبارة. وكذلك فإن عقود الصيانة – ومثلها عقود التشغيل والصيانة معا – تتطلب دائما استعمال بعض الآلات والأدوات في إجراء أعمال الصيانة المطلوبة. ومقدار هذا الاستعمال مجهول أيضا، وكذلك مواعيده.

على أن من عقود الصيانة – وهو قليل نادر – ما يتم فيه التعاقد على أجرة للعمل بالساعة ويترك تحديد عدد الساعات لكل عملية صيانة بذاتها. تحصل هذه الأنواع من العقود بشكل خاص في عقود الصيانة من الباطن، حيث يلتزم الصائن تجاه ضامن الصيانة. ويكون اتفاقهما قائما على أساس تحديد معدلات الأجور لكل نوع من الأعمال التي قد يحيلها عليه متعهد الصيانة، دون تحديد كمية العمل التي ستحال كل مرة، ولا مواعيدها وهذه العقود تتطلب ممن يقوم فعلا بعملية الصيانة أن يحتفظ بمقدار من العمالة الجاهزة لديه، تحسبًّا لما يحتاج إليه في الحالات الطارئة.

يضاف إلى ذلك أن عقود الصيانة التي تشمل قطع الغيار تتضمن جهالة بمقدار هذه القطع وأثمانها عند الحاجة إليها، وهي قدر من الجهالة ليس باليسير سواء في كميتها، أو أنواعها، أو أثمانها، أو مواعيد تسليمها واستعمالها.

ص: 372

ومثل قطع الغيار في الجهالة المواد الاستهلاكية التي تتطلبها الصيانة، من مواد كيماوية لازمة لإجراء الفحوص والتشغيل التجريبي، ومواد نظافة وأشياء استهلاكية أخرى مما تحتاجه الصيانة. وهذه تتضمن أيضا جهالة في كل من مقدارها وأثمانها ومواعيد الحاجة إليها.

وثمة جهالة أخرى أيضا تتعلق بالآلات والأجهزة الخاضعة لعقد الصيانة. إذ كثيرا ما تنص عقود الصيانة على شمولها لما يضاف من آلات وأجهزة، تابعة أو مماثلة لما هو خاضع للصيانة، أثناء مدة عقد الصيانة (انظر النموذج المرفق، الفقرة 2-8) .

وهنالك أيضا جهالة في معيار الصيانة المطلوبة. فمعايير الصيانة ليست منمطة دائما ولا بصورة كاملة، على الرغم من وجود قدر كبير من التنميط في صيانة بعض الآلات كالطائرات مثلا. ومع ذلك، فإن معظم عقود الصيانة، بل كلها تتضمن قدرا من الجهالة في معيار الصيانة المطلوبة. فبعضها ينص على تقديم الصيانة المعتادة والمألوفة (Usual and Customary) . وبعضها ينص على تقديمها لدرجة إرضاء الزبون أو المالك (انظر الفقرات 2-1و2-3و2-7و2-8، من النموذج المرفق) . وبعضها ينص على اعتبار رأي المقدم المباشر الفعلي لعمل الصيانة، وهو في العادة يقوم بذلك وكيلا عن متعهد الصيانة، وبعقد معه من الباطن، هو المعيار في تحديد مقدار الصيانة اللازمة كما هو الشأن في صيانة السيارات الجديدة مما يعقده المنتج من خلال البائع، وينفذه البائع وكيلا عنه.

كما أن بعض عقود الصيانة تتضمن شروطا جانبية تحتوي على قدر كبير من الجهالة. فالفقرة 2-9 من النموذج المرفق مثلا تحمل الصائن مسؤولية تقديم دورات تدريبية للعاملين لدى المالك حسبما يطلبه المالك وبرأيه وبحاجته فقط.

ومن عقود الصيانة ما يتضمن جهالة من نوع آخر يمكن أن نسميه بجهالة تتعلق (بالتطورات الفنية) التي قد تحصل في المستقبل. ففي مهنة برامج الكمبيوتر شاعت عقود تقديم البرامج مع صيانتها، وذلك بإدخال كل ما يحصل من معرفة فنية جديدة عليها خلال مدة العقد. والتغير الفني في هذه الصناعة كبير وسريع، وهو مما لا يمكن التنبؤ به كما هو معلوم. وهذا النوع من الجهالة يشمل جهالة التغيرات المستقبلية وأثمانها ومواعيد ظهورها بآن واحد.

ص: 373

ب. الطبيعة التأمينية لعقود الصيانة:

تختلف عقود الصيانة عن عقود الإصلاح البسيطة بخاصية مهمة جدا هي الطبيعة التأمينية لعقود الصيانة. ولشرح ذلك لابد من المقارنة بين هذين النوعين من العقود. ففي عقد الإصلاح يتم أولا فحص الآلة المتعطلة، بأجرة أو بدون أجرة، لتحديد ما تحتاج إليه من إصلاح، ونتيجة لهذا الفحص التشخيصي يتعرف الطرفان على ما تحتاجه الآلة من إصلاح ويتفقان على أجرة الإصلاح، وقطع الغيار والمواد الأخرى اللازمة، والمدة التي يستغرقها الإصلاح؛ لأن كل ذلك يصبح معلوما قبل العقد، كما يكون معلوما ما سيستعمله المصلح من الآلات لديه أثناء عملية الإصلاح.

أما في عقد الصيانة، فإن المقصود مواجهة ما يحدث في المستقبل، وهو أمر غير معلوم عند التعاقد، سواء أشمل العقد العمل وحده، أم العمل مع المواد الاستهلاكية واستعمال الآلات، أم كل ذلك مع قطع الغيار. لذلك فإن عقد الصيانة يشبه عقد التأمين في أنه ينبني على فكرة تحويل التكلفة المستقبلية المجهولة (تكلفة ما يطرأ من عطل على الآلة أو السعلة المعمرة) إلى مقدار معلوم هو الثمن الذي يمثل التزام الطرف المستفيد في عقد الصيانة.

أما من وجهة نظر الصائن، فهو مثل المؤمن (شركة التأمين) في عقد التأمين، يحصل على مبلغ ثابت محدد لقاء تحمله مخاطر تكاليف إصلاح ما يطرأ على الآلة أو السلعة المعمرة المعقود على صيانتها من تعطل. وبما أن هذه المخاطر مجهولة حين التعاقد. فإن عقد الصيانة لا يحدث، ولا يدخل فيه متعهد الصيانة إلا إذا توفر واحد من شرطين هما:

1.

وجود أعداد كبيرة من راغبي الصيانة يدخل معهم في عقود صيانة بحيث تتحول الجهالة الفردية إلى ما يقرب العلم بالنسبة للمجموع، بسبب تطبيق نظرية الاحتمال على الأعداد الكبيرة.

2.

أو أن تكون قيمة العقد كبيرة بالنسبة للكلفة المباشرة للصيانة بحيث تعوض هذه القيمة (فجوة عدم اليقين) بما تتضمنه من مخصص أو هامش يحتاط به المتعهد لما هو غير متوقع من أعمال صيانة.

ص: 374

وبمعنى آخر، فإن عقد الصيانة له طبيعة تأمينية، تتميز بأنها تحول كلفة احتمالية كبيرة إلى كلفة محددة معلومة بالنسبة للمستفيد من الصيانة، كما تعتمد على قانون الأعداد الكبيرة ونظرية الاحتمالات بالنسبة ل متعهد الصيانة سواء أكان تطبيق هذا القانون من خلال عدد كبير من العقود أم مبلغ كبير لعقد واحد. وهو يختلف في كل ذلك عن عقد الإصلاح البسيط الذي يقوم على العلم واليقين الكاملين لالتزامات وواجبات طرفي العقد بما يتضمنه من مقدار عمل، وأجرته، ومواد، وقطع غيار، وثمنها.

وبخاصيته التأمينية هذه يمكن القول إن عقد الصيانة عقد جديد تطور من عقود الإصلاح البسيطة، وصار يلعب دورا مهما في الحياة المعاصرة مع اتساع دور الآلات الثابتة والمتحركة في حياة الإنسان، ومع التطورات الكبيرة في فن البناء وما يلزمه من آلات وأجهزة، وبما يقوم عليه من تقنية معقدة تقتضي استمرار المحافظة على تشغيلها وعملها المستمر.

وفي مقابل وجوه التشابه هذه، فإن عقد التأمين يكون موضوعه في العادة التعويض المالي عما يطرأ من ضرر أو تلف، في حين أن عقد الصيانة موضوعه إصلاح ما يطرأ من عطل. ففي عقد التأمين يدفع المستأمن قسط التأمين مالا ويحصل المستأمن المتضرر أو المستفيد من التأمين على مبلغ التأمين مالا أيضا. أما في عقد الصيانة فالمبادلة فيه بين مال من جهة وعمل وسلع أو عمل وحدة من جهة أخرى.

ثانيا – عقود مشابهة لعقد الصيانة:

هنالك عدد من العقود تعرفها الحياة المعاصرة لها شبه كبير بعقود الصيانة نذكر أهمها فيما يلي لما لذلك من تأثير على فهم طبيعة عقود الصيانة، ودورها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية المعاصرة.

أ. عقد النظافة:

وهو عقد على تقديم عمل ومواد نظافة واستعمال آلات وأدوات معينة وهو يتضمن جهالة جزئية بسبب عدم معرفة مقدار العمل المطلوب ولا كمية المواد اللازمة عند التعاقد، لأن كل ذلك يتأثر بظروف، بعضها متوقع، وبعضها غير متوقع، مما يتأثر بالجو والطقس ونوعية المستعملين لما يراد تنظيفه وعاداتهم المتعلقة بالنظافة وموادها.

ص: 375

ومن الواضح أن هذا العقد قد يتضمن أحيانا قدرا معلوما محددا من العمل والمواد يمثل حدا أدنى متفقا عليه، ويضاف إليه التزام بالنظافة فوق ذلك الحد بقدر من الجهالة يزيد أو ينقص حسبما ذكرنا.

ب. عقد التشغيل:

تحتاج المباني والمنشآت الحديثة إلى آلات وتجهيزات كثيرة مما يلزم لتشغيله معرفة فنية معينة. فالرافعات في الميناء مثلا، وسلالم الوصول إلى الطائرات وأجهزة تحميل البضائع فيها، وآلات وأجهزة المستشفيات ومختبراتها العلمية، وكذلك عقود تشغيل لغرف الطوارئ في المستشفيات بما يحتاجه من عمل ومواد ولوازم طبية معا، كل ذلك مما يمكن أن يشمله عقد التشغيل.

ويكون موضع عقد التشغيل تقديم العمل اللازم والمواد الاستهلاكية اللازمة لتشغيل الآلات والأجهزة.

ونلاحظ أن عقد التشغيل قد يتضمن قدرا أكبر من العلم بما يلتزم به المشغل من عمل ومواد.

ولكن واقع العقود التشغيلية هو أنها تنص دائما على شرطين هامين يؤديان إلى إدخال جهالة في القدر المعقود عليه من العمل والمواد. وهذان الشرطان هما: شرط التشغيل الطارئ بما يحتاجه من زيادة الطاقة الإنتاجية للمشغل أو بزيادة ساعات العمل وشروط إضافة الجديد من الآلات والأجهزة لما هو مذكور منها في العقد.

ومع ذلك فإن بعض هذه العقود قد يتضمن زيادة الثمن بنسبة زيادة التشغيل. الأمر الذي يقلل من الجهالة في العقد لأنه يجعله أقرب التعاقد على الأجر الساعي، مع تحديد حد أدنى لعدد الساعات والاتفاق على إمكان زيادة ذلك العدد حسب الحاجة

جـ - عقد التحديث (Updating) :

عقد التحديث هو عقد على إضافة ما يجد من معرفة علمية أو منتجات حديثة على الأجهزة العلمية مما يحسن مردودها ومنافعها، ويجعلها تواكب التقدم العلمي في ميدانها. وهو عقد على تقديم المعرفة العلمية الجديدة المتمثلة في حقوق معنوية. والتي تتوفر على شكل قطع غيار صغيرة تضاف إلى الآلات أو الأجهزة المطلوبة تحديثها، أو على شكل برامج مخزونة في أقراص صغيرة يتم إدخالها في هذه الأجهزة.

والعمل المباشر الذي يتطلبه عقد التحديث يكاد يكون قليلا جدا، وهو ما يحتاجه تركيب القطعة أو إدخال البرنامج وذلك بالمقارنة مع الكمية الكبيرة من العمل المبذول في متابعة التطورات العلمية والتكنولوجية والصناعية، وفي الحصول عليها، ثم تطويرها بما يناسب المستفيد من عقد التحديث وإدخال التعديلات اللازمة في نظمه حتى يصير من الممكن لأجهزته أن تستوعب الإفادة من هذه المعرفة العلمية الجديدة.

ص: 376

كما أن أثمان هذه الحقوق المعنوية لا تكون في العادة معرفة عند توقيع عقد التحديث.

على أن معظم عقود التحديث كثيرا تشمل العمل وحده، بما فيه من جزء معلوم بسيط وجزء مجهول كبير وتترك ثمن الحق المعنوي ليتحمله الطرف الطالب للتحديث.

د- عقد صيانة (أو إدارة) الصحة (1) .

وهي عقود صارت شائعة جدا منذ أوائل الثمانينيات في بعض البلدان، وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، كبديل لعقد التأمين الصحي. ولهذه العقود أشكال متعددة تشترك كلها بخصيصة واحدة، هي تقديم الخدمة الصحية حسب الحاجة لقاء ثمن محدد شهري أو سنوي.

وأكثر أشكال صيانة الصحة شيوعا في أمريكا أن يلتزم متعهد صيانة الصحة تجاه رب الأسرة بتقديم جميع ما يحتاجه من علاج ودواء وخدمة صحية للأسرة كلها، لقاء مبلغ مقطوع يدفع شهريا أو سنويا، ويضاف إليه جزء ضئيل من أجرة كل خدمة صحية أو ثمن كل دواء يقدم إليه (2) .

وهذه العقود تقدم الخدمات الصحية جميعها، وكذلك الأدوية، من قبل متخصصين يتعاقد معهم متعهد الخدمة (من الباطن) ، ويمكن أن يغير أو يبدل فيهم (المتخصصين) دون إعلام مسبق للمستفيد من عقد الصيانة صحة.

ويختلف عقد صيانة الصحة عن عقد التأمين الصحي في أن الأول يقوم على الالتزام بتقديم الخدمات والأدوية. أما الثاني فإنه عقد مالي بحت يلتزم فيه المؤمن تجاه المستأمن بسداد أجرة العلاج وأثمان الأدوية أو نسبة معلومة منها. الأمر الذي يجعل عقد صيانة الصحة مشجعا على المبادرة لطب الخدمة الطبية الوقائية لدى أول بادرة مرض، في حين أن الثاني يثبط – في العادة – مثل هذه المبادرة، بسبب ما يتضمنه من استثناء للنفقات الطبية الوقائية والصغيرة، مثل أجرة زيارة الطبيب.

وهنالك صورة من عقود صيانة الصحة شائعة في بعض البلدان، ينتفي فيها العقد من الباطن، ويكون المتعهد هو نفسه مستشفى كبير يقدم أنواعا كثيرة من الخدمات الصحية، فيقوم هو نفسه بالالتزام بتقديم خدمات العلاج والدواء تجاه رب الأسرة، ويكون هو نفسه الذي يقدمها فعلا.

ومثل ذلك أيضا الالتزام ببرنامج الولادة الذي تعرضه بعض المستشفيات على الحوامل، لتقديم جميع ما تحتاجه الحامل من رعاية طبية من وقت العقد إلى ما بعد الولادة لقاء مبلغ معين، دون تحديد – ولا معرفة – لتفاصيل الخدمات الطبية التي ستحتاجها ولا نوع عملية الولادة نفسها.

(1) عبارة (صيانة الصحة) أو (إدارة الصحة) هما المستعملتان في هذا النوع من العقود. وهما عبارتان تنسجمان مع المعنى اللغوي لكلمتي إدارة وصيانة، وإن كان من الواضح أن ثمة فروقا بين ضمان صيانة الآلة وضمان صيانة الصحة. فضامن صيانة الآلة يضمن إعادتها للقدرة على عملها المعتاد، أما ضامن صيانة الصحة فيضمن فقط تقديم خدمة العلاج والدواء المناسبين حسبما توصل إليه فن الطب، ولكنه لا يضمن عودة الجسم إلى وضعه المعتاد قبل طروء الحالة التي استدعت العلاج

(2)

يقصد من تحميل المضمون لجزء ضئيل من ثمن كل خدمة حثه على عدم الإسراف في تناول الخدمة أو في طلب علاج، أو دواء قد لا يحتاج إليه حقيقة. وهذا الجزء الضئيل معلوم بالتفصيل في العقد ـ وله في العادة حد تراكمي أعلى يعفى المستفيد مما يزيد عنه عندما يبلغه مجموع ما يتحمله من هذه الأجزاء الضئيلة. فلا توجد جهالة في هذا الجزء إلا من حيث عدم العلم – عند العقد – بالخدمة نفسها التي ستحتاج إليها، وسيتحمل جزءا من ثمنها عند الحصول عليها

ص: 377

ثالثا – الأشكال التعاقدية للصيانة:

يتخذ التعاقد على الصيانة واحدا من أربعة أشكال هي:

1.

شرط الصيانة في عقد البيع.

2.

عقد الصيانة بين الصائن والمالك أو المشغل للآلة.

3.

عقد التعهد بالصيانة بين متعهد الصيانة والمالك (المشغل) مع عقد للصيانة من الباطن بين المتعهد والصائن.

4.

عقد تأمين الصيانة بين المالك (المشغل) وشركة تأمين (ولنفرض أنها تعاونية تقوم على مبدأ التبرع بالقسط والتعاون بين المستأمنين، ولا توزع ربحا للمالكين، ولا للمدراء؛ حتى لا ندخل بمناقشة خارجة عن موضوع بحثنا) .

1.

شرط الصيانة في عقد البيع:

مع تطور الفن الصناعي وتعقد الآلات والأجهزة ظهرت مصالح جديدة لطرفي العقد في بيوع الآلات والأجهزة. أهم هذه المصالح ما يلي:

1.

مصلحة طرفي العقد (والمصلحة العامة أيضا) في استقرار العقود والتقليل من حالات الرجوع فيها بالرد بالعيب. تتأكد هذه المصلحة مع قناعة كل من البائع (الصانع) والمشتري بأنه يمكن أن تقع هفوات صغيرة، أو كبيرة، فيما يصنع ويباع. فرغم حرص المصانع على فحص وتدقيق منتجاتها قبل إخراجها إلى السوق، لابد من ظهور عيوب أو أخطاء صنعية في المنتجات الصناعية لدى المشتري، مما يمكن تدارك معظمه بالإصلاح من خلال تقديم صيانة فنية مناسبة، وبخاصة في المنتجات الصناعية المعمرة كالآلات الثابتة والمتحركة والمباني.

2.

مصلحة الصانع (البائع) في التخفيف من آثار أي عيب خفي في الآلة قد تؤدي إلى تحميله مسؤولية تعاقدية تجاه المشتري أو تقصيرية تجاه المشتري وغيره ممن يتصل بالآلة التي صنعها وباعها.

3.

مصلحة الصانع (البائع) بالاحتفاظ بأسرار آلته دون أن تصل إلى منافسيه، وبالتالي فهو يرغب في أن يكشف للمشتري أقل قدر ممكن من هذه الأسرار، ويحتفظ لنفسه بأسرار صيانتها.

4.

مصلحة الصانع (البائع) في تحسين سمعته وتعظيم مبيعاته وأرباحه بإظهار أن سلعته (خدمته) ذات جودة عالية، وأنه مستعد دائما لدعم كفاءتها وإنجازها. لذلك فهو يلتزم بإصلاح ما قد يطرأ عليها من خلل، بل قد يذهب أكثر من ذلك إلى ضمان خدمة بديلة أثناء فترة الإصلاح وضمان قيمة ما قد يتلف على المشتري بسب تعطل الآلة.

5.

مصلحة المشتري في التقليل من آثار تعطل الآلة عن تقديم المنافع المرجوة منها إلى أدنى حد ممكن، مما يجعله يحرص على الإصلاح السريع كلما دعت الحاجة.

6.

مصلحة المشتري في إتقان وسائل التعامل مع الآلة في حالتي التشغيل والتعطيل، مع علمه بأن الصانع هو أقدر الناس على هذا الإتقان.

هذه المصالح أدت إلى إدخال شرط ضمان الصلاحية للتشغيل وتقديم سيل المنافع المرجوة في عقود بيع الآلات والأجهزة وسائر المنتجات المعمرة. ولقد عم هذا الشرط وصار يتخذ أشكالا متعددة بحسب أنواع الآلات وكثرة حوادث تعطلها.

ص: 378

ومع توسع استعمال الآلة في الحياة المعاصرة، تبين أن لها علاقة كبيرة بالسلامة العامة، مما له صلة بعدد كبير من الناس، على تفاوت نوع الآلة من ثابتة أو متحركة، وحسب نوع الطاقة التي تسيرها أو تقوم هي بإنتاجها، مما دعا الحكومات إلى أن تتدخل في شرط الصيانة هذا، وتفرض على الصانع ضمان تشغيل أكثر أمنا وسلامة للمتعاملين مع تلك الآلة.

يتضح ذلك بشكل جلي فيما تقوم به الحكومات من فرض إجراءات تعديلات أو تغيير بعض القطع في الطائرات والسيارات وغيرها من الآلات المتحركة أو الثابتة، بين وقت وآخر.

فشرط الصيانة إذن هو شرط يضاف في عقد البيع يتحمل بموجبه البائع (الذي كثيرا ما يكون هو نفس الصانع أو أنه يقبل بهذا الشرط نيابة عن الصانع باتفاق بينهما) عبء صيانة الآلة التي يبيعها لفترة محددة من الزمن.

وشرط الصيانة ليس بديلا عن خيار الرد بالعيب فقد تظهر عيوب في الآلة مما لا يمكن إصلاح ولابد عندئذٍ من الرد، ولكن شرط الصيانة يقلل كثيرا من احتمالات الرد بمعالجة ما يتقبل الإصلاح من العيوب.

ومن المعرف أن شرط الصيانة في عقود البيع يميز – عادة – بين خمسة أنواع من أعمال الصيانة هي:

1.

الصيانة التشغيلية: وتشمل ما يتطلبه تشغيل الآلة من معايير وزيوت وتبريد أو تدفئة وغير ذلك وما تحتاج إليه من نظافة أو عناية دورية وهذه يتم استثناؤها في العادة من شرط الصيانة، بل ينص على لزومها لمالك الآلة أو مشغلها، وأن تنفيذها يعتبر شرطا في تحمل البائع لمسؤولية الصيانية، وقد تشترط بعض العقود أن يتم تقديم هذا النوع من الصيانة من قبل الصانع (البائع) على حساب المالك (المشغل) ، ليطمئن إلى القيام بها على الوجه الصحيح.

2.

الصيانة التي تنشأ الحاجة إليها بسبب فعل أشخاص آخرين أو بسبب حوادث طبيعية أو غير طبيعية، ليس لتشغيل الآلة علاقة بها. كأن يشب حريق في مكان استودعت فيه الآلة أو السيارة، أو أن يحصل تصادم مع سيارة أخرى، وهذه الصيانة تستثنى أيضا في العادة من شرط ضمان الصيانة.

3.

الصيانة التي تنشأ الحاجة إليها بسبب مخالفة تعليمات التشغيل كأن يستعمل للآلة زيت مخالف لمواصفات الزيت الذي تتطلبه التعليمات وهذا هو أيضا مما يستثنى من شرط ضمان الصيانة.

4.

الصيانة التي تنشأ الحاجة إليها بسبب عوامل الهلاك والاهتراء الطبيعي من تآكل لبعض الأجزاء التي من طبيعتها أن تتآكل أو تتغير في لون ما من طبيعته أن يتغير لونه بتعرضه للهواء أو غير ذلك. وهذا النوع يستثنى في العادة أيضا.

5.

أما النوع الخامس من الصيانة فهو ما يتعلق به شرط ضمان الصيانة، ويشمل كل خلل في الآلة عن إنتاج منافعها بسبب نوعية المعدن أو المادة الذي تتركب منه أو بسبب طريقة تركيب الأجزاء بعضها مع بعض، أو بسبب تصميم الآلة أو عدم قدرة أي جزء منها على تأدية الخدمة المتوقعة منه أو المخططة له في تصميم الآلة.

ومن الواضح أن هذا النوع الأخير من الأعطال أو العيوب يقلل من منافع الآلة عما هو مقصود منها، أو يعطل هذه المنافع كلية، ويستدعي مسؤولية الصانع (البائع) عن هذا العيب. ويهدف شرط الصيانة إلى النص على تحميل الصانع (البائع) هذه المسؤولية صراحة.

ويشبه هذا النوع من حاجات الصيانة ما قد تفرضه الحكومات من إلزام الصانع بإدخال تغييرات على الآلة بعدما يثبت لديها وجود خطورة على السلامة العامة ما لم يتم ذلك التغيير.

وكثيرا ما يتضمن شرط الصيانة قيام الصانع (البائع) بتقديم القطع اللازمة، إضافة إلى القيام بتركيبها وإعادة الآلة إلى عهدها التشغيلي المعتاد أو المحسوب لها.

ص: 379

على أن أهم ما يميز شرط الصيانة في البيوع هو تحديد فترة زمنية لاستمرار نفاذه، فينص مثلا على ضمان الصيانة لمدة عام أو ثلاثة أعوام. وقد نجد في كثير من العقود النص على ضمان القطع لمدة عام مثلا مع التركيب والخدمة، في حين يستمر ضمان تقديم خدمة الصيانة (بما تتضمنه من عمل فقط) لمدة سنة أخرى مثلا تكون فيها القطع على المشتري. ولكنه ينبغي أن يلاحظ هنا أن ما تفرضه الحكومة أحيانا من إصلاح قد يقع بعد انقضاء مدة الصيانة المشروطة، فهو لا يتقيد بالقيد الزماني لها، لأنه مبني على مصلحة السلامة العامة.

كما أن بعض شروط الصيانة يتضمن استمرار الالتزام بالصيانة لكامل مدتها حتى ولو تغير مالك الآلة، سواء أكان التغير اختياريًّا بنحو البيع والهبة، أم غير اختياري بنحو الميراث والوصية والإجبار على البيع بحكم محكمة.

يضاف إلى ذلك أن بعض شروط ضمان الصيانة يشمل تقديم خدمة بديلة أثناء فترة تعطل الآلة بسبب الصيانة المضمونة، كأن تقدم سيارة بدل السيارة التي تخضع للصيانة، أو بندقية بدل تلك التي تتم صيانتها، وذلك لمدة الصيانة بكاملها.

وكذلك فقد يضاف إلى شرط الصيانة شرط يضمن بموجبه الصانع (البائع) الأضرار التي أدى إليها تعطل الآلة، كأن يعوض عما يتلف من مأكولات نتيجة تعطل الثلاجة، أو جلود نتيجة تعطل آلة الدباغة. ويحدد العقد عادة حدا أعلى لهذه المسؤولية يكون محسوبا بالاعتماد على الطاقة الإنتاجية للآلة.

وكذلك، فإن كثيرا من عقود البيع تتضمن شرطا بالخيار باستمرار شرط ضمان الصيانة لمدة إضافية لقاء دفع المشتري مبلغا إضافيًّا عند العقد أو عند ممارسة ذلك الخيار، الذي تحدد له عادة مدة ينقضي بانتهائها.

وقد يضاف إلى شرط الصيانة أحيانا شرط الإشراف على التشغيل لمدة معينة، وكذلك شرط تقديم التدريب للعناصر التي ستتعامل مع الآلة بعد تركيبها عند المشتري أو المستفيد.

ص: 380

2.

عقد الصيانة المستقل بين الصائن والمالك (المشغل) :

لقد صارت صيانة الآلات بأنواعها مهنة، بل مجموعة من المهن، حسب أنواع الآلات الكثيرة. ونشأت عن ذلك عقود صيانة ذات أشكال متعددة (1) . أهمها ثلاثة هي:

أ. أن يتعهد الصائن بتقديم الصيانة، وأن يتفقا على سعر لوحدة العمل، وأن يشتري المالك القطع من طرف ثالث خارج عن العقد. أي أن يكون التزام الصائن عمليا متركزا فقط في قبول ما يرسل إليه من أعمال (وعدم رفضها) ، بسعر أو قل بأجر متفق عليه مسبقا لوحدة ساعة العمل مثلا.

ب. أن يتعهد الصائن بتقديم خدمة الصيانة بمبلغ مقطوع لكل مرة مهما كان عدد ساعات العمل التي تستغرقها كل عملية صيانة، مع شراء قطع الغيار من طرف ثالث على حساب المالك (مشغل الآلة) .

ج. أن يتعهد الصائن بتقديم العمل وقطع الغيار معا في كل مرة تحتاج فيها الآلة أو الآلات إلى صيانة، وذلك لقاء مبلغ مقطوع سنوي أو شهري.

وفى كل من هذه الأشكال الثلاثة كثيرا ما يتضمن العقد نصا صريحا يعتبر ما يضيفه المالك من آلات جديدة، خلال مدة العقد داخلا في العقد بمجرد ضمه إلى سائر الآلات الموجودة لديه عند التعاقد.

3.

عقد التعهد بالصيانة:

وهو يشبه عقد الصيانة، ولكنه يشمل في العادة أنواعا متعددة من الآلات مما يتطلب اختصاصات فنية متعددة. ويلتزم فيه متعهد الصيانة بإصلاح ما يطرأ على الآلات والأجهزة الموجودة لدى الطرف الآخر لقاء مبلغ معين، وبسبب شموله لآلات من أنواع عديدة، فإنه قلما يشير إلى أي تمايز في المعاملة بين العمل وقطع الغيار اللازمين للصيانة. وبالتالي فإن عقد تعهد الصيانة يقدم – عادة – الصيانة كاملة، بما فيها من عمل ومواد وقطع غيار، للمالك أو المشغل للآلات والأجهزة.

وكثيرا ما يتضمن هذا العقد النص على اعتبار ما يضاف من آلات إلى ما هو موجود منها عند العقد مضمونا إليها من حيث شموله بالتعهد.

(1) لن نذكر من بينها عقد الإصلاح البسيط، الذي يتفق فيه الطرفان كل مرة على مقدار العمل وقطع الغيار

ص: 381

ويرافق عقد التعهد بالصيانة قيام المتعهد بالتعاقد مع الفنيين لتقديم خدمات الصيانة التي يلتزم بها.

فهو عقد تعهد بالصيانة يتضمن تقديم العمل مع المواد وقطع الغيار. وهو مترافق مع عقد صيانة من الباطن بين المتعهد والصائن الفعلي. وبسبب عقد الصيانة المرافق هذا يستطيع متعهد الصيانة أن يقدم الصيانة التي التزم بها.

4.

عقد تأمين الصيانة:

هو عقد بين شركة تأمين والمستفيد من الصيانة تكون الالتزامات المتبادلة فيه مالية بحتة، بحيث تعوض شركة التأمين نفقات الصيانة التي احتاج إلى صرفها المالك أو المشغل للآلات والأجهزة. وهو عقد شبيه بعقد تعهد الصيانة مع فارق واحد – ولكنه مهم جدا – هو أن المتعهد يقدم خدمات الصيانة نفسها في حين أن مؤمن الصيانة يقدم ثمن هذه الخدمات. فلا يحتاج مؤمن الصيانة إلى عقود صيانة من الباطن وإنما ينص عقد التأمين الذي يجريه على مجموعة من الإجراءات التي تتعلق بالوثائق اللازمة للمطالبة بالبدل التأميني لما يدفعه المالك (المشغل) من نفقات صيانة (1) .

رابعا – علاقة الصيانة بالتمويل:

للتمويل علاقة كبيرة بمسألة الصيانة. ذلك أن التمويل الإسلامي يقوم على مبدأ الاسترباح بالملك (2) . وتتدخل الصيانة في بابين عريضين من أبواب التمويل الإسلامي هما البيوع والإجارة.

(1) وقد تجد بعض شركات التأمين من صالحها أن تتعاقد من الباطن مع بعض الصائنين. فتعرض – عندئذ – على المستأمن أن يصلح له العطل أو تدفع له مبلغا لا يتجاوز ما تدفعه هي للصائن لذلك الإصلاح

(2)

وهو الأسلوب الذي تقرره الشريعة فيما يتعلق بنشوء الربح واستحقاقه، إذ من المعروف في الفقه أن الربح ينشأ من المال المملوك، أو من العمل، أومن الضمان إذ ارتبط بمال أو بعمل

ص: 382

أ. الصيانة والبيع التمويلي:

ففي باب البيوع التمويلية، يحرص البائع الممول على تنقية تمويله البيعي من كل ما يدخل فيه أي عامل من عوامل عدم التوقع المستقبلي وعدم الاطمئنان حول المستقبل، وذلك حتى يتمكن من وضع خططه التمويلية وتنفيذها. واحتمال ظهور أي عيب – كان خفيا – في السلعة المبيعة يدخل شيئا من تلك العوامل، وبالتالي فإن مسألة الصيانة تتدخل في بيع المرابحة وفي بيع الاستصناع التمويليين، فيكون من مصلحة البنك الإسلامي (الممول) أن يتأكد أن البائع الأول – في بيع المرابحة – والصانع من الباطن – في بيع الاستصناع – يقدمان الصيانة الكافية لن تكون بديلا مقبولا شرعا عن تحمل مسؤولية رد المبيع ضمانا لعيب خفي فيه.

وإذا لم يكن البنك الإسلامي مطمئنا اطمئنانا كاملا لكفاية شرط الصيانة في مبايعته الأولى في المرابحة التمويلية أو في استصناعه الثاني (من الباطن) في عملية الاستصناع التمويلي، فإنه قد يجد نفسه مضطرا إلى الدخول في عقد تعهد بالصيانة أو عقد تأمين صيانة، حتى يستطيع (تغطية نفسه) تجاه احتمال ظهور عيب يقتضي الإنفاق على إصلاحه، أو رد المبيع وإرباك العملية التمويلية.

ذلك لأن أهم خصائص البنك – إسلاميًّا كان أم تقليديا – هو أنه مدير للمخاطر المتعلقة باستثمار أموال الناس، وإن من المعروف أن القاعدة الأولى في إدارة المخاطر هي الحرص على التخلص من الاحتمالات بتحويلها إلى أمور متيقنة قدر الإمكان. الأمر الذي يمكن تحقيقه من خلال شرط الصيانة أو من خلال عقد التعهد بالصيانة أو عقد تأمين الصيانة.

ب. الصيانة والإجارة:

يمكن تقسيم الصيانة التي تحتاجها العين المأجورة إلى ثلاثة أنواع:

1.

صيانة تشغيلية تشمل ما يتطلبه تشغيل الآلة من تغيير زيوت ومسح وتنظيف أجزاء داخلية، وضبط وتعيير أجهزة الحرارة والبرودة وغيرها.

2.

صيانة دورية معلومة، تشمل تغيير بعض الأجزاء، وتعديل وضبط وتعيير أجهزة ونظم، وغير ذلك، وهي في الغالب فنية تتطلب مهارة خاصة وهذه تكون معلومة مسبقا بمواعيدها ومشمولاتها.

3.

صيانة طارئة، وتشمل ما ينبغي عمله لمواجهة ما يطرأ من أعطال على الآلة. وهذه قد تكون كبيرة ومكلفة، وكثيرا ما تتطلب مهارة فنية خاصة (1) . وقد يكون سبب الاحتياج إليها وجود عيب خفي في الآلة المؤجرة، أو أمر جديد طرأ عليها بسبب خارجي عنها.

(1) د. حسين حامد حسان (المسؤولية عن أعمال الصيانة في إجارة المعدات) ، ورقة غير منشورة

ص: 383

وإذا كان من الممكن القول بأن النوع الأول من الصيانة يقع على عاتق المستأجر باعتبار مشمولاته مرتبطة بتشغيل الآلة نفسها وليس بصلاحيتها للتشغيل ولا بوضعها تحت تصرف المستأجر، وإذا كان النوع الثاني من أعمال الصيانة يمكن أيضا تحميله للمستأجر، إما بالعرف إذا وجد عرف يجعل ذلك على المستأجر، أو بالنص في العقد على أنه يقع على المستأجر، باعتباره جزءا من الأجرة. فتكون الأجرة بذلك مؤلفة من جزأين: جزء نقدي وجزء هو ما يقوم به المستأجر من أعمال صيانة دورية معلومة؛ فإن النوع الثالث من أعمال الصيانة يقع على المؤجر "باعتبارها مما يتمكن به من الانتفاع وليس مما تستوفى به المنافع، أو أنها مما يلزم لأصل الانتفاع لا لكماله (1) .

وهنا أيضا فإن الحكمة والرشد في إدارة المخاطر تقضيان على المؤجر الممول أن يسعى إلى تحويل ما هو غير معروف وغير ممكن التوقع، من التزامات وأعباء، إلى مقادير معلومة متيقنة، بحيث يستطيع تخطيط وبرمجة أعماله المالية بحكمة ورشد. وعملية التحويل إلى المتيقن هذه لا تتمم إلا بعقد تعهد بالصيانة أو تأمين صيانة.

وإذا أراد المؤجر الممول بيع العين المؤجرة لطرف ثالث، مع التزام الأخير بعقد الإجارة لمدته، فإن مقتضى الرشد لدى الطرف الثالث يتطلب منه الانتباه إلى مسألة الصيانة، فهو حريص على أن يخفف المخاطر في استثماره قدر الإمكان. ووجود عقد تعهد بالصيانة، أو تأمين صيانة، عامل أساسي في اعتبار مقدار المخاطرة التي سيقدم عليها المشتري، بصفته مستثمرا جديدا.

ومثل ذلك إذا كان هنالك تفاهم، أو عقد عند من يجيزه من هيئات شرعية لمصارف إسلامية، بين المؤجر والمستأجر على خيار المستأجر بشراء العين المؤجرة بعد نهاية مدة الإجارة، فإن الرشد لدى المستأجر يقتضي أن لا يمارس خيار شراء تلك العين، إلا بعد التأكد من وجود عقد تعهد بالصيانة أو تأمين صيانة، أو أنه سيقوم هو بإجراء أحد عقدي الصيانة هذين، حتى يكون واضحا عنده مقدار ما سيتحمله من أعباء وتكاليف عند شراء الآلة، فيتمكن من تقدير التكاليف والمكاسب التي تنشأ عن خيار الشراء.

(1) د. حسين حامد حسان (المسؤولية عن أعمال الصيانة في إجارة المعدات) ورقة غير منشورة، ص31

ص: 384

ج. الصيانة وسندات الأعيان المؤجرة:

سندات الأعيان المؤجرة هي سندات ملكية لأعيان مرتبطة بعقد إجارة (1) . وبهذا الاعتبار فهي قابلة للبيع، مع التزام المشتري بعقد الإجارة، وانتقال حقوق والتزامات هذا العقد إليه. وإن وضوح مسألة الصيانة والعلم المسبق بتكلفة الصيانة التي تقع على المالك المؤجر يعتبر أمرًا أساسيًّا لإمكان تداول هذه السندات بل لإمكان إصدارها، لأنه لا يتوقع من المستثمر، أن يضع ماله في استثمار يتضمن قدرا كبيرا من المخاطرة، وبخاصة مع وجود البدائل الكثيرة ذات المخاطر القليلة، إلا إذا أمكن تعويضه عن هذه المخاطر بعائد مكافئ.

وإن وجود عقد تعهد بالصيانة أو عقد تأمين صيانة هو ما يحول المخاطر غير المحدودة إلى مقدار معلوم هو ثمن عقد الصيانة هذا، فيعلم مشتري سند الأعيان المؤجرة ما هو مقدم عليه من تكاليف وإيرادات ويستطيع بذلك اتخاذ القرار الرشيد.

وبمعنى آخر، فإن وجود عقد التعهد بالصيانة، أو عقد تأمين الصيانة، هو شرط لابد منه لنجاح فكرة سندات الإجارة بل لنجاح التمويل بالإجارة نفسه.

خامسا – القضايا الشرعية التي تثيرها مسألة الصيانة:

رأينا في الأجزاء الأربعة الأولى من هذه الورقة أن هنالك أشكالا قانونية عديدة تتخذها صيانة السلع المعمرة. وحتى يمكن حصر المسائل الشرعية ذات العلاقة نلخص أولا المسائل الشرعية في الصيانة والشروط المعتادة المضافة فيها، ثم نناقش هذه المسائل من خلال مثيلاتها في الفقه الإسلامي:

أ. تحديد المسائل الشرعية في الصيانة

يمكن حصر علاقات الصيانة في المسائل التالية:

1.

شرط الصيانة ضمن عقد البيع دون تخصيص هذا الشرط بثمن، وإن كان ملحوظا في الذهن أن له ثمنًا. ولكن البائع يدخل ذلك في كلفته ويضمنه كشرط لا يؤدي إلغاؤه إلى تخفيض ثمن البيع. وهذا يحصل كثيرا في بيع السيارات والأجهزة المنزلية مما يوضع له في العادة نماذج مطبوعة لعقد بيع يتضمن صيانة، ومهيأة مسبقا من البائع والصانع.

(1) سندات الأعيان المؤجرة يمكن أن تكون أهم الأوراق المالية في سوق مالية إسلامية. فهي تمثل أصولا ثابتة، وبالتالي يمكن بيعها وشراؤها في السوق. وهي أعيان مرتبطة بعقد إجارة مما يجعل إيرادها معلوما مثالها المبسط بنك إسلامي يشتري طائرة بمائة مليون دينار، ويؤجرها لشركة طيران لمدة عشر سنوات بأجرة سنوية قدرها (12) مليون دينار، ثم يقوم البنك بإصدار مليون سند كل منها يمثل جزءا من مليون جزء من ملكية الطائرة ويبيع السند بمائة دينار لجمهور الناس (افرض للتبسيط أن الطائرة تبقى صالحة للاستعمال وبنفس قيمتها الشرائية مع وجود عقد صيانة كاملة كلفته نصف مليون في السنة) . ويمكن أن تكون هناك أنواع عديدة من سندات الأعيان المؤجرة، انظر للتفاصيل: سندات الإجارة والأعيان المؤجرة، منذر قحف، من منشورات المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، 1995م

ص: 385

2.

شرط الصيانة ضمن عقد البيع ولكنه بثمن يضاف إلى ثمن البيع ولا ينفصل عنه في العقد، وكثيرا ما يحصل هذا في الآلات التي تشتري استصناعا، بحيث تتم المفاوضة على ثمن الآلة وثمن صيانتها ثم يعقد العقد بمبلغ واحد.

3.

تحديد التزام الصيانة الذي يقدمه البائع (الصانع) بمدة محددة، قلما تشمل جميع العمر الإنتاجي للآلة. وتكون مسؤولية الصيانة بعدها على المشتري، سواء أكانت الحاجة إلى الصيانة بسبب عيب كان خافيا في العين نفسها أم بسبب طارئ.

4.

شرط الصيانة منفصلا عن عقد البيع وبثمن مستقل، وهي صيانة يقدمها البائع (الصانع) نفسه. وأكثر ما يحصل هذا على شكل زيادة في مدة الصيانة لسنوات إضافية فوق المدة المذكورة في نموذج عقد البيع المهيأ مسبقا، لقاء عوض يتفق عليه.

وقد يلحق بهذا عقد الصيانة المستقل بين صائن متخصص ومالك أو مشغل الآلة. لأنه في الواقع لا يختلف عنه إلا في كون شروط الصيانة في عقد البيع معروفة مسبقا ومنمطة ومطبوعة. أما في حالة شراء الصيانة بعقد مستقل أو شراء تجديد الالتزام بالصيانة لزمن إضافي، فقد يمكن التفاوض على شروط الصيانة بشكل مفصل.

5.

عقد التعهد بالصيانة كما شرحناه في القسم الثالث.

6.

عقد تأمين الصيانة كما شرحناه في القسم الثالث.

7.

المسؤولية عن الإيراد المفقود بسبب تعطل الآلة؛ وهل تقع على متعهد أو مؤمن الصيانة، أم على مشغل الآلة، أم على مالكها، أم على البائع (الصانع) وهل يؤثر في ذلك كون التعطل بسبب عيب في أجزاء الآلة أو المواد التي صنعت منها أو تصميمها، أم بسبب طارئ لا علاقة له بصنع الآلة، نحو ريح عاصفة أدخلت أتربة في بعض أجزائها.

ص: 386

8.

مدى جواز شرط تقديم المنفعة البديلة من قبل البائع (الصانع) أو من قبل متعهد أو مؤمن الصيانة، نحو تركيب مولد كهربائي مؤقت ريثما يتم إصلاح المولد الخاضع لعقد الصيانة.

9.

مدى جواز تحمل الصانع للمسؤولية عن الأضرار الناشئة عن تعطل الآلة (1) . وهل يؤثر في ذلك كون الصائن هو البائع (الصانع) ، وهل يؤثر فيها كون الصيانة صارت لازمة بسبب عيب في الآلة أم بسبب خارج عنها. وهل يجوز تحديد هذه المسؤولية بمبلغ مقطوع يدفع دون النظر إلى الأضرار الفعلية بما في ذلك وقوعها فعلا، ومقدراها؟

10.

المسؤولية عن إجراء الإصلاحات التي تفرضها الحكومة لأسباب تتعلق بالمصلحة العام أهمها السلامة العامة، وهل يتحملها المالك أم الصائن (أو متعهد أو مؤمن الصيانة) أم البائع (الصانع) .

11.

مدى جواز شرط اعتبار ما يضاف من آلات داخلا في عقد الصيانة.

12.

مدى جواز انتقال شرط الصيانة أو عقد الصيانة إلى المالك الجديد للآلة، سواء أكان الانتقال رضائيا بنحو البيع أو الهبة، أم بحكم الشريعة بنحو الميراث.

هذه المسائل الاثنتي عشرة هي أهم ما ينشأ عن علاقات الصيانة من قضايا شرعية تحتاج إلى النظر الفقهي. وقد يمكن إضافة بعض المسائل الناشئة عن العقود المشابهة لعقود الصيانة، وأهمها وأكثرها شيوعًا عقود التحديث وعقود صيانة (أو إدارة) الصحة، سواء منها ما اختص بحالة واحدة كالولادة، أم ما تعلق بالرعاية الصحية الشاملة.

(1) قد تشبه هذه المسؤولية، المسؤولية عن الأضرار التي تقع بسبب عيب في التصميم أو في المواد المستعملة في التصنيع، مما يكتشف بعد زمن طويل أو قصير، ومن الذي يتحملها؟ المالك أم البائع (الصانع) . وهو موضوع يبعد عن حدود هذه الورقة

ص: 387

ب. مناقشة المسائل الشرعية للصيانة:

إن أهم ما تثيره مسائل الصيانة من تساؤلات شرعية يتعلق بثلاثة قضايا هي:

1.

الشروط في العقود وبخاصة عقد البيع.

2.

بعض الخيارات وبخاصة خيار العيب وخيار فوات الوصف.

3.

عقد الجعالة، وما يشتمل عليه من جهالة بالعمل والمؤنة.

وهذه القضايا الثلاث كانت دائما محل دراسة تفصيلية في الأبحاث الفقهية قديما وحديثا. لذلك سنكتفي بالإشارة – على شكل نقاط نعددها – إلى مواطن إسقاطات مسائل الصيانة في هذه القضايا الفقهية الثلاث:

ففي الشروط الجعلية في العقود:

مذاهب العلماء في الشروط في العقود معروفة، وقد لخصتها الموسوعة الفقهية (9/243 – 259و9/271 – 273) تلخيصا جيدا. ويرتبط بالصيانة من ذلك النقاط التالية:

1.

استثنى الأحناف من شرط المنفعة المفسد لعقد البيع ما تعارف عليه الناس في معاملاتهم من غير إنكار. ومن أمثلته: شراء حذاء على أن يضع له البائع نعلا، أو قلنسوة على أن يصنع لها البائع بطانة (ص246) . ولزم الشرط في مثل هذا استحسانا رغم أنه خلاف القياس عندهم، لأن العرف قاض على القياس. ونقلت الموسوعة عن ابن عابدين جريان ذلك على أي عرف حادث، ولو في غير الشرط المذكور طالما أنه لا يؤدي إلى المنازعة، فهو لا يدخل في ((نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط)) ؛ لأن العرف ينفي المنازعة.

وكذلك فقد ذهب الحنابلة إلى جواز اشتراط منفعة، ولو كانت من غير مقتضى العقد ولا من مصلحته شريطة كونها لا تنافي مقتضاه. من ذلك خياطة الثوب وحمل الحطب.

ونلاحظ في هذه الأمثلة التزام البائع بالعمل والمواد معًا، وكذلك استعماله لآلاته وأدواته في تنفيذ التزامه بالنعل، أو بالبطانة، أو بالخياطة أو الحمل.

ومن جهة أخرى، فإن الشرط في الأمثلة التي ذكرها الأحناف يتضمن العمل والمواد واستعمال الآلات لإضافة شيء جيد على العين المبيعة. أما في الصيانة فلا يهدف العمل ولا المواد ولا استعمال الصائن لآلاته إلى إضافة شيء جديد بل إلى إعادة العين المبيعة إلى أصلها. فشرط الصيانة ليس فيه منفعة جديدة للمشتري، وإنما إعادة المبيع إلى وضعه الطبيعي بعد طروء خلل عليه.

ص: 388

ومن جهة أخرى، فإن الشرط الذي أجازه الأحناف معلوم بكل ما يقتضيه أما شرط الصيانة فلا يعلم ماذا سيصير إليه من اقتضاء عمل ومواد واستعمال آلات.

ولكنه (شرط الصيانة) مع ذلك شرط قد جرى به العرف، وتعامل به الناس دون إنكار، ودون أن يفضي ذلك إلى التنازع. فإذا كان ذلك هو مناط الاستثناء من الفساد بالشرط الجعلي عند الأحناف، فإنه ينطبق على شرط الصيانة في البيع. بل إن هذا الشرط يحقق مصالح كل من البائع والمشتري معا، كما رأينا في القسم الثالث من هذا البحث.

2.

استثناء الحملان في بيع الجمل، الذي ورد في حديث جابر، قاس عليه المالكية "الانتفاع اليسير بكل مبيع بعد بيعه على سبيل الاستمرار"، وقال به أيضًا الحنابلة أخذا بحديث جابر رضي الله عنه. (ص249) .

ولاشك أن المشتري مثل البائع في ذلك. وشرط الصيانة هو نوع من شرط انتفاع للمشتري، وهو في العادة يسير بالنسبة لثمن العين المبيعة. فهلا يعامل مثله في ذلك؟

3.

يرى الحنابلة أن الشروط التي من مصلحة العقد صحيحة، ويلزم الوفاء بها (ص255) . وأوردوا لذلك أمثلة: كأن تكون الدابة غزيرة اللبن والطير مصوتا. وهي من الصفات المعلومة أو التي يعلم تحققها بالتجريب.

ولاشك أن شرط الصيانة من مصلحة العقد، وهي مصلحة معلومة ولكن مقتضياتها غير معلومة عند البيع.

4.

يرى أبو حنيفة صحة إلحاق الشرط بالعقد بعد مجلس العقد (ص247) . فهل يعتبر تمديد شرط الصيانة لفترة زمنية إضافية إلحاقا بعقد البيع؟ الأظهر أنه عقد صيانة جديد لأنه لا يحصل إلا بثمن جديد عند التمديد.

وفي الخيارات:

تسرد الموسوعة آراء المذاهب في خيار العيب وخيار فوات الصفة (20/113 – 163) . ويهمنا من هذه الآراء النقاط التالية:

5.

ينبغي أن نلاحظ أولا أن شرط الصيانة ليس بديلا كاملا لخيار العيب. فإن الرد بالعيب يبقى قائما مع وجود شرط الصيانة، ولكنه ينحصر في الحالات التي لا تبرئها الصيانة في العين المعمرة المبيعة. فلو تبين بعد قبض السيارة مثلا وجود شرخ أو اعوجاج في هيكلها الأساسي، فإن ذلك يعتبر عيبا أوسع من أن يصلح الراتق، وهو يستوجب الرد بالعيب.

فشرط الصيانة ليس إذن بديلا عن الرد بالعيب، ولكن علاقته بخيار العيب تبقى وثيقة كما يتضح من النقاط التالية:

6.

من مسقطات خيار الرد عند الفقهاء زوال العيب قبل الرد. وهنا يشكل شرط الصيانة مسقطا تعاقديا للرد بالعيب في الأحوال التي يمكن أن تشملها الصيانة. فإن الفقهاء قالوا بأن العيب لو أمكن "تداركه بزمن يسير يمنع الخيار"(ص144) .

7.

وفضلا عن ذلك، فإن لمسألة الزمن اليسير هنا أهمية في نظرنا لأنها تعني عدم تفويت منافع المبيع على المشتري إلا زمنا يسيرا، واليسير هو مما يتساهل به عادة.

ولعل ذلك يقتضي جواز اشتراط المنفعة البديلة لأنها تحقق هدف (الزمن اليسير) . فلو نص شرط الصيانة على أن يقدم البائع للمشتري خدمة أو منفعة بديلة لما تقدمه العين الخاضعة للصيانة أثناء فترة صيانتها، لتحقق هدف عدم تفويت منافع العين التي تتعرض للصيانة بتقديم بديل مماثل لها.

ص: 389

8.

وكذلك قالوا بسقوط خيار الرد بصريح الإسقاط، أو بالإبراء. أو بالرضا بالعيب صراحة أو بتصرفات دالة على الرضا (ص145 – 147) .

وإذا صح ذلك كله، وكل ذلك رضائي، فلأن يتراضى المتبايعان على الصيانة أولى بالصحة. بشرط الصيانة هو إذن أولى من إسقاط الخيار أو الإبراء منه.

9.

وفضلا عن ذلك، شرط الصيانة أشبه بالأرش، لأن الأرش (تقويم لنقصان الثمن)(ص145) . وشرط الصيانة تقويم لنقصان المثمن، أي المبيع. فهو ليس بدلا يبذل ثمنا لترك خيار الرد بالعيب، بل إعادة للمبيع إلى أصله المقصود من عقد ابتياعه.

10.

إذا تعذر الرد لسبب من الأسباب ينتقل حق المشتري إلى الأرش، وهو بدل عن نقصان الثمن بسبب العيب. فهو موجب خلفي عن الرد (ص137) .

وفي هذا قد يمكن القول إن إصلاح العيب ورتق الخرق بإعادة العين المعمرة إلى عهدها الطبيعي في تأدية ما هي له من منافع يعتبر موجبا خلفيا أقوى من الأرش. لأن الأرش يعوض فقط عن نقص قيمة المقصود من العقد، بالمشتري قد اشترى الآلة، لما دفعه من ثمن وهو راغب بها بذلك الثمن، لذلك يحتاج إلى منافع الآلة أكثر من حاجته لإنقاص الثمن. والصيانة تحقق له ذلك القصد، فهي إذن سابقة على الأرش في خلفيتها. مما يعني أنها ينبغي أن تكون البديل الأول عن الرد بالعيب القابل للإصلاح، سابقة في أفضليتها على الأرش.

11.

يضاف إلى ذلك أن شرط الصيانة هو في حقيقته – إبراء بالشرط. لأن مقتضى شرط الصيانة أن المشتري رضي بإبراء البائع من الرد بالعيب في جميع الحالات الخاضعة للصيانة. فهو تصريح بقبول التزام البائع بإصلاح أي عيب يمكن إصلاحه مما قد يظهر في المستقبل، وأنه بذلك يتنازل عن خيار الرد بالعيب في هذه الأحوال، أو يسقطه.

12.

توقيت شرط الصيانة:

إن إسقاط خيار الرد بالعيب أو الإبراء المسبق منه، أو التصريح بالرضا بالعيب، كل ذلك يشكل أساسا لتوقيت شرط الصيانة، وذلك لأن معنى التوقيت في شرط الصيانة هو أن المشتري يقبل بإسقاط خيار الرد بالعيوب التي تشملها الصيانة بعد فترة زمنية متفق عليها. فالتوقيت في شرط الصيانة هو إبراء جزئي ينصرف إلى ما بعد فترة الصيانة فيما تشمله الصيانة من عيوب.

13.

إن انتقال خيار الرد إلى الوارث، سواء أكان خيار رد بالعيب (ص148) أم خيار رد لفوات وصف (ص163) ، يشكل أساسا لانتقال شرط الصيانة للمالك الجديد للآلة إذا انتقلت الملكية خلال فترة الصيانة، لأن شرط الصيانة يقوم على اعتبار العيوب التي يمكن المبادرة إلى إصلاحها من خلال شرط الصيانة يسيرة مما يرتقها الإصلاح، فلا تستوجب الرد. والتزام البائع (الصانع) بالإصلاح يرتبط بالآلة المعقود عليها، لا بشخص مالكها، فينتقل هذا الشرط إلى الوارث أو المالك الجديد لاستكمال مدة الصيانة.

ص: 390

14.

وهل يبقى المالك الأول، إذا باع الآلة مطالبا من قبل المالك الثاني بالرد بالعيب، سواء أكان مما تصلحه الصيانة، أم كان مما لا تصلحه؟ هذه المسألة يبدو أنها مما يخضع لشرط الإبراء. فإذا نص عقد البيع بينهما على شرط إبراء المالك الأول من خيار الرد بالعيب ومن إصلاح ما يمكن إصلاحه من عيوب، أو جرى بهذا إبراء عرف يحسم المنازعة، فالذي يظهر أن مثل هذا الشرط أو العرف يمنع المالك الجديد من الرجوع على المالك الأول، ويحصر حقه بالبائع الأول (الصانع) ، لأن خيار الرد بالعيب وخيار الرد بفوات الصفة، كليهما، مما يقبل شرط الإبراء، سواء أكان الإبراء شاملا كل عيب أم محدودا بالعيوب التي يمكن إصلاحها. فيمكن إذن اشتراط إبراء المالك الأول من الالتزام بشرط الصيانة فلا يرجع عليه، ويكتفى بضمان الصانع للصيانة.

وفى الجعالة:

تتحدث الموسوعة الفقهية (15/208 – 239) عن الجهالة في مقدار العمل، وعن تقديم مواد استهلاكية وغيرها معلومة المقدار، وعن استعمال العامل لآلاته وأدواته الخاصة في عمله بقدر ووقت غير معلومين، من أجل الوصول إلى غرض الجعالة. كما تتحدث عن أهمية تحقيق (غرض الجاعل) بكامله دون تبعيض. ولهذا الموضوع ارتباط مباشر بعقد الصيانة وعقد التعهد بالصيانة

15.

فالجعالة تصح (على عمل مجهول يعسر ضبطه وتعيينه)(ص209) ، وهذا هو أهم ما يميز الجعالة عن الإجارة التي يشترط فيها العلم بالعمل. وأهم الأمثلة التي يضربونها لجهالة العمل في الجعالة الإتيان بحيوان ضال أو مال ضائع أو عبد آبق.

فالجعالة تحتمل الجهالة في العمل. والجهالة في مقدار العمل المطلوب في الصيانة قد لا تكون أكثر من الجهالة في مقداره في الجعالة كما وصفها الفقهاء.

ولسائل أن يسأل عن صحة الجعالة لصاحب قطيع من الإبل، أن يجعل مبلغا شهريا لمن يأتيه بما يضل منها، دون أن يخصص جعلا مستقلا كلما شرد منها بعير. أو لصاحب زروع ذات مواسم حصاد متتالية أن يجعل مبلغا معينا واحدا لمن يحصد له كل زروعه كلما آن وقت حصاد واحد منها.

ومثل ذلك من له آلات أن يجعل مبلغا مقطوعا أو شهريا لمن يصلح له ما تعطل منها

طالما أن الجهالة محتملة في مقدار العمل المطلوب.

ص: 391

16.

محل العقد في الجعالة (إتمام عمل)(ص213) ، نحو تعليم حرفة أو إعادة مال ضائع أو تحصيل دين، أو مداواة مريض. وكذلك فإن عقد الصيانة وعقد التعهد بالصيانة محلهما هو (إتمام عمل) معرف، وتحقيق مقصد واضح، هو إعادة السلعة (أو مجموعة السلع) المعمرة إلى عهدها المعتاد في إنتاج منافعها، وما يشترطه الفقهاء في محل عقد الجعالة من كونه مباحا، غير واجب على العامل، وأن يتضمن مشقة أو مؤنة (عند الشافعية والحنابلة) ، كل ذلك متوافر في عمل الصيانة.

17.

وقد تحدثوا عن خياطة ثوب أو بناء حائط كمحل لعقد الجعالة (ص225) . وليس يفترق عن ذلك صيانة آلة أو بناء، بل قد يكون عقد الصيانة أولى بالجعالة من بناء الحائط أو خياطة الثوب، لأن البناء والخياطة تصلح فيها الإجارة، ولأن الجعالة أبيحت لحاجة الناس إليها رغم ما فيها من جهالة.

18.

وفضلا عن ذلك، فإن محل عقد الجعالة يمكن أن يكون استمرار الحصول على سيل المنافع المعتاد، نحو استمرار توفر منفعة حركة سيارة ووقوفها بمواصفات ومعايير محددة معروفة للسيارة وللوقوف وللحركة عندئذ، ألا يمكن أن يشمل عقد الجعالة تقديم الصيانة المطلوبة للسيارة المشمولة بالعقد وتقديم منفعة بديلة مماثلة لفترة الصيانة؟ طالما عرفنا غرض الجاعل بأنه (استمرار حصول سيل من المنافع) .

19.

يدخل في عقد الجعالة ما يستعمله العامل من دابة وسرج وآلات بناء وآلات خياطة، وغير ذلك من آلات معمرة تساعده على تحقيق مقصود الجاعل، وعلى العامل علف الدابة ونفقة هذه الآلات (ص219) . والراجح عند المالكية أن النفقة على المال المجاعل عليه هي على العامل أيضا حتى يرده إلى مالكه (ص219) ، أما عند الشافعية فهذه النفقة، المبذولة لمال الجاعل في يد العامل، هي على العامل إلى أن يأذن بها الجاعل أو القاضي أو يشهد العامل على أنه ينفقها على حساب الجاعل. وقال الحنابلة هي على الجاعل على كل حال (ص220) .

كل ذلك يدل على أن المواد الاستهلاكية التي تتطلبها عملية الإصلاح واستعمال الآلات التي تقتضيها الصيانة هي على العامل في الجعالة، لأنها من طبيعة العقد، أو أنها يمكن أن تكون على العامل بالشرط. بل قد نص الشافعية على أن الجعالة تكون في عمل فيه مشقة أو مؤنة.

20.

أما ما ينفقه العامل من مواد استهلاكية للآلة المعقود على صيانتها ومن قطع تبديل (مثل المالكية بطعام العبد ولباسه) فهو مسألة خلافية يحسمها الشرط في العقد.

21.

وكذلك فقد نص الشافعية على أن للجاعل أن يزيد (في العمل) المجاعل عليه، فلو رضي العامل بذلك، فليس له إلا الجعل (ص230) . أي أن اشتراط دخول الآلات الجديدة لدى الجاعل في عقد الصيانة أمر جائز برضا العامل المجعول له.

22.

وإذا انطبقت الجعالة على عقدي الصيانة والتعهد بالصيانة، فإن العقود المشابهة لعقود الصيانة من عقد نظافة، وعقد تشغيل، وعقد تحديث، وعقد صيانة صحة لا تختلف في ذلك عن الصيانة.

23.

وأخيرا، فإن عقد التأمين بالصيانة على أسلوب التأمين التعاوني القائم على التبرع المشروط من المستأمن لا يثير أية مشكلة شرعية إضافية لما هو معروف حول التأمين نفسه.

فالقول بأن التبرعات تحتمل من الجهالة ما لا تحتمله المعاوضات ينسحب أيضا على ما في تأمين الصيانة من جهالة.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الدكتور منذ قحف

ص: 392