المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مجمع الفقه الإسلامي الدوليووحدة الأمة الإسلاميةإعدادمحمد الحبيب ابن الخوجة - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ١١

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الحادي عشر

- ‌بيع الدين والأوراق الماليةوبدائلها الشرعيةإعدادالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌أحكام التصرف في الديوندراسة فقهية مقارنةإعداد الدكتورعلي محيي الدين القره داغي

- ‌بيع الدينأحكامه – تطبيقاته المعاصرةإعدادأ. د نزيه كمال حماد

- ‌بيع الدينإعداد الدكتورعبد اللطيف محمود آل محمود

- ‌بيع الدين وسندات القرضوبدائلها الشرعيةفي مجال القطاع العام والخاصإعداد الدكتورمحمد علي القري بن عيد

- ‌بيع الدين وسندات القرضوبدائلها الشرعية في مجال القطاع العام والخاصإعدادالدكتور سامي حسن حمود

- ‌المضاربات في العملةوالوسائل المشروعة لتجنب أضرارها الاقتصاديةإعداد الدكتورأحمد محيي الدين أحمد

- ‌المضاربات على العملةماهيتها وآثارها وسبل مواجهتهامع تعقيب من منظور إسلاميإعداد الدكتورشوقي أحمد دنيا

- ‌عقود الصيانةوتكييفها الشرعيإعدادالشيخ محمد المختار السلامي

- ‌عقود الصيانةوتكييفها الشرعيإعدادالدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌عقود الصيانة وتكييفها الشرعيعقد الصيانةإعدادآية الله محمد على التسخيري – مرتضى الترابي

- ‌عقود الصيانةإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌عقود الصيانة وتكييفها الشرعيإعدادالدكتور محمد أنس الزرقاء

- ‌ضوابط الفتوىفي ضوء الكتاب والسنةومنهج السلف الصالحإعداد الدكتورعبد الوهاب بن لطف الديليمي

- ‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعداد الدكتوروهبة مصطفى الزحيلي

- ‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعداد الدكتورعبد الله الشيخ المحفوظ بن بيه

- ‌العمل الفقهيعند الإباضيةإعدادناصر بن سليمان بن سعيد السابعي

- ‌الإسلامفي مواجهة الحداثة الشاملةإعدادالدكتور ناصر الدين الأسد

- ‌مجمع الفقه الإسلامي الدوليووحدة الأمة الإسلاميةإعدادمحمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌الوحدة الإسلاميةمنهجية المقارنة بين المذاهب الفقهيةإعدادالدكتور عبد الستار أبو غدة

- ‌الوحدة الإسلاميةمعالمها وأعلامهاإعدادالأستاذ محمد واعظ زادة الخراساني

- ‌الوحدة الإسلامية{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}إعدادالشيخ عدنان عبد الله القطان

- ‌الوحدة الإسلاميةأدب الحوار وأخلاقيات البحثإعدادالدكتور سعيد بن عبد الله بن محمد العبري

- ‌‌‌الإسلام في مواجهة العلمنةإعدادالدكتور عمر عبد الله كامل

- ‌الإسلام في مواجهة العلمنةإعدادالدكتور عمر عبد الله كامل

- ‌الإسلام في مواجهة العلمنةموقف الإسلام من مسألة الحكم والسيادةإعدادآية الله الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الديمقراطية والعلمانيةوحقوق الإنسانالمرجعية الغربية والمرجعية الإسلاميةإعدادالأستاذ إبراهيم بشير الغويل

الفصل: ‌مجمع الفقه الإسلامي الدوليووحدة الأمة الإسلاميةإعدادمحمد الحبيب ابن الخوجة

‌مجمع الفقه الإسلامي الدولي

ووحدة الأمة الإسلامية

إعداد

محمد الحبيب ابن الخوجة

الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي بجدة

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

سبحانك اللهم وبحمدك، تبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك جل ثناؤك، أقمت جماعتنا على منهج التوحيد، وجعلتنا خير أمة أخرجت للناس، وبنيت ملتنا على أمتن القواعد وأكملها: إيمان بالله وتقواه، ومراقبة له في كل لحظة من لحظات الحياة، وأخوةٍ صادقة يتساند بها أفراد الأمة، وتنشئ من الجماعة المسلمة بنية حية قوية صامدة، قادرة على أداء دورها العظيم في الحياة البشرية، وإقامة هذه الحياة على التقارب والتآلف والتناصح، ذلول بعضها لبعض، محب بعضها لبعض، متآلف بعضها مع بعض {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) } [الأنفال: 62، 63] .

وأصلي وأسلم على إمام الأمة نبي الرحمة عبد الله ورسوله، وأمينه على وحيه، الذي غرس بيديه الكريمتين غريسة الوحدة في نفوس المؤمنين، فنمت وتغلغلت، وامتدت جذورها وبسقت أغصانها، وينعت ثمارها، فجعل منهم قوة بعد أن كانت قلوبهم شتى، وعداواتهم جاهرة، وبأسهم بينهم شديدًا، فجزاه الله عنا من إمام أفضل الجزاء، وأعطاه الله الوسيلة والفضيلة والدرجة العالية الرفيعة من الجنة.

ص: 707

سيادة الرئيس

أصحاب السماحة والفضيلة

أيها السادة العلماء

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

في هذه المناسبة الكريمة التي تجددت بها مظاهر اليقظة الإسلامية، والتقت فيها كلمة المؤمنين والمصلحين على الإشادة بما في ديننا وعقيدتنا ومتمسَّكنا في دنيانا وآخرتنا، من أصول وثوابت، ومبادئ وقيم، وهدى ونور، نحرص كل الحرص على تجلية الوحدة، ونعمل جاهدين على تحقيقها، وندعو إلى القيام بنشرها بين الناس، إشاعة للفضل، وتعميمًا للخير، وتمكينًا للدين الحق من النفوس.

وقد قامت بهذه الدعوة الإيمانية التآلفية الخيرة، وبالمناداة إلى الوحدة الإسلامية، هيئات كثيرة ومنظمات، ومؤسسات ومجامع هنا وهناك في أطراف العالم الإسلامي، نذكر من بينها وفي طليعتها منظمة المؤتمر الإسلامي الجامعة لكلمة الأمة، والقائمة على توحيد صفوفها فكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا، ومجمع الفقه الإسلامي النابع من هذه المنظمة، والذي يمتد تعاونه مع جميع الهيئات العاملة في هذه السبيل.

ص: 708

أصحاب السماحة السادة العلماء

في الخطاب الإلهي الخالد، الموجه للمؤمنين كافة، دعوة صريحة إلى هذا المهم، تنطلق بها الآيات الكريمة من سورة آل عمران:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) }

[آل عمران: 102 - 105] .

ففي هذه الآيات دستور للمسلمين يضعونه نصب أعينهم، ويعقدون عليه قلوبهم، ودعوة مباركة إلى تقوى الله، والالتزام بالإسلام، وأمر بالاعتصام بحبل الله، واجتناب التفرق، وتنبيه على نعمة الأخوة التي مَنَّ الله بها على الجماعة المسلمة وأسبغها عليهم، وحثٌّ لهم على الاضطلاع بالدعوة إلى الخير، والنصيحة لكل مسلم، ولا يتولى عن هذا الدستور أو يصد عنه إلا من أنكر نعمة الأخوة عليه، أو لسوء عقيدته، أو لما في قلبه من دخل.

فهذه الآيات البينات من القرآن الكريم تقتضي أن يجتمع المؤمنون تحت لواء الله، وأن ينبذوا الأحقاد التاريخية، والتارات القبلية، والأطماع الشخصية، والرايات العنصرية، وقد رأينا تحقق النتائج العظيمة لقيام هذه الوحدة في الرعيل الأول من المسلمين أيام قوتهم وعزتهم وإبداعهم وتأسيس حضارتهم، وصف ذلك الدعاة والمصلحون في حديثهم عن الوحدة الإسلامية، ونوه بذلك الأستاذ محمد عبده في قوله:

من المغرب الأقصى إلى تونازني على حدود الصين، في عرض ما بين قازان من جهة الشمال، وبين سرنديب تحت خط الاستواء: أقطار متصلة، ديار متجاورة يسكنها المسلمون، كان لهم فيها سلطان لا يُغلب، أخذ بصولجان الملك منهم ملوك عظام، أداروا بشوكتهم كرة الأرض إلا قليلًا، ما كان يهزم لهم جيش، ولا يُنكس لهم عَلم، ولا يُرد قول على قائلهم.

ص: 709

قلاعهم وصياصيهم متلاقية، ومنابتهم ومغارسهم في سهوبهم، أراضيهم سهلة واسعة، وأخيافهم رابية مزدهية بأنواع النبات، حالية بأصناف الأشجار، صنع أيدي المسلمين، ومدنهم كانت آمنة مؤسسة على أمتن قواعد العمران، تباهي مدن العالم بصنائع سكانها وبدائعهم، وتفاخرها بشموس الفضل، وبدور العلم، ونجوم الهداية من رجال لهم المكان الأعلى في العلوم والآداب.

وقد كان المسلمون - بأصول دينهم - أنورَ عقلًا، وأنبه ذهنًا، وأكثر استعدادًا لنيل الكمالات الإنسانية، وأقرب إلى الاستقامة في السلوك والأخلاق، لما بينهم من إخاء مؤزر بمناطق العقائد، وبما ساخ في نفوسهم من جذور المعارف التي أرشدهم إليها دينهم، كانوا يعدون أنفسهم أولى الناس بالعلم، وأجدرهم بالفضل، ولكنهم حين غاضت كمالاتهم ولم يعد لها من باقية تركوا كتاب الله وراء ظهورهم، فلم يهتدوا بآياته، ولا أقاموا العدل أو ساسوا مجتمعاتهم بأحكامه، كما صدفوا عن سنة رسولهم فلم يأخذوا بأحاديثه، ولم ينتفعوا بحكمته، فأصابهم ما أصابهم من الضعف والوهن، ومن الاختلال الكبير في حياتهم.

وظهرت الفتن، وانتشرت البدع، واستشرت الغواية والجهالة فيهم، ووقفوا في سيرهم الحضاري، بل تأخروا عن غيرهم في المعارف والصنائع، بعد أن كانوا أئمة العالم فيها والمتفوقين بها، وطمع فيهم الأباعد وكادوا لهم كيدًا، وغزوا أراضيهم فنقصوها من أطرافها، ومزقوا حواشيها حتى لم يعد لهم في شؤونهم حل ولا عقد، لا يستشارون في مصالحهم، ولا أثر لإرادتهم في منافعهم العمومية.

ص: 710

والأمة إذا بلغت هذا الحد، وجهدها البلاء، لم تعد غير فئات مغلوبة وجماعات مقهورة ليس لها من الأمر شيء، فلا تثبت على حال ولا ينضبط لها سير، وقد ألهاها ما مرت به من أزمات، وتعرضت له من مهانة، وحل بها من نكبات عن الانتفاع بتعاليم الدين واتباع مناهجه التي قامت عليها عزة الأجداد وقوتهم وحضارتهم وريادتهم.

ولما بدأت تسري في جموعهم روح اليقظة إذا هم يثوبون إلى الرشد، ويطمعون في القيام بانطلاقة جديدة تعيد لهم عقيدتهم وتصوراتهم ومبادئهم وقيمهم، وتفقدوا ما في مداخل قلوبهم من بقايا الإيمان والهدي الديني، فرجعت إليهم الآمال، وأشرقت نفوسهم بالبشر، حين أدركوا أنهم سهوا وما غووا، وزلوا وما ضلوا، ولكن دهشوا وتاهوا، فهم في حاجة إلى من يمد لهم يد العون، ويهديهم إلى الرشد وإلى سواء السبيل.

كانت هذه الأحوال معروفة ومعلومة عند ساسة الأمة وقادتها، وحين حزبهم الأمر دعتهم الحاجة إلى تكوين رابطة جامعة، وإقامة مؤسسة دولية يلتقون فيها لتخطيط السير، وتنسيق الجهود من أجل تحقيق التنمية، والعودة بشعوبهم إلى المنزلة اللائقة بها التي تخلوا عنها للأسباب التي ذكرناها قبل.

وفي مؤتمر القمة الإسلامي الثالث بمكة المكرمة، فيما بين 19 - 22 ربيع الأول سنة 1401هـ، دعا جلالة الملك الراحل خالد بن عبد العزيز، رحمه الله، الأمة الإسلامية وفقهاءها وعلماءها أن يجندوا أنفسهم، ويحشدوا طاقاتهم في سبيل مواجهة معطيات تطور الحياة المعاصرة ومشكلاتها، بالاجتهاد والاسترشاد بالعقيدة، وما تضمنته من مبادئ خالدة قادرة على تحقيق مصلحة الإنسان الروحية والمادية في كل زمان ومكان.

ص: 711

وصدر عن مؤتمر القمة الثالث القرار 8 /3 بإنشاء مجمع الفقه الإسلامي العالمي، وفي المؤتمر التأسيسي للمجمع المنعقد بمكة المكرمة أيضًا، من 26 إلى 28 شعبان 1403هـ، الذي حضره ممثلون عن إحدى وأربعين دولة، ألقى رئيس المؤتمر خادم الحرمين الشريفين، الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود، ملك المملكة العربية السعودية، حفظه الله، خطابه المنهجي الرئاسي الخالد، الذي توجه به إلى الأمة الإسلامية قاطبة من خلال ممثليها، من مسؤولين وعلماء وفقهاء وحكماء في مختلف البلاد الإسلامية، وقد جمع هذا الخطاب الرئاسي فرائد جمة أبرزها:

التأكيد على أن بناء الوحدة الإسلامية لا يمكن إقامته ولا تجديده بين أفراد الملة إلا بالتمسك بالعقيدة الإسلامية، جوهر الوحدة وأعظم مقوماتها.

وأن الدين الإسلامي متمسكنا، لهو أكمل الأديان وأجل النعم، وخير ما اختاره ورضيه الله لنا في هذا الوجود لنيل الحسنيين وبلوغ السعادتين، فالإسلام دين يخاطب العقل، ويناهض التخلف، ويشجع حرية الفكر، ويستوعب منجزات العصر، ويحض على متابعتها، كما أنه يضع قواعد السلوك الإنساني، فينظم العلاقات الاجتماعية والدولية على أساس التراحم.

وأن في بيانه للناس وتجلية حقيقته لهم، وفي الالتزام به، حكامًا ومحكومين، لحقنًا للدماء، وحفظًا للأموال، وصيانة للأعراض، ونشرًا للرحمة والأمن بين أفراد ملتنا، وتمكينًا لهم من مواجهة كل الأخطار والتحديات إذا ما تداعت الأمم على حضارتنا وتراثنا وديننا.

ص: 712

وفي هذا الخطاب الجامع إشارة أولًا: إلى ما أصاب الأمة من تفرق وداهمها من أحداث، وواجهها ويواجهها من تحديات ومشاكل، لابد من الانتصار عليها، كما ورد فيه.

ثانيًا: التنبيه إلى سبيل ذلك في هذا الظرف التاريخي الذي نعيشه ونمر به، والذي ينبغي أن يتخطى فيه شرف خدمة الشريعة حدود الجهود الفردية والإقليمية، ويجتاز الحدود السياسية، في أول تنظيم عالمي يتمثل في مجمع الفقه الإسلامي، الذي يلتقي فيه العلماء والفقهاء من مختلف البلاد الإسلامية ليشهدوا منافع لهم، ويقوموا بعرض وجهات نظر المذاهب الفقهية الاجتهادية المختلفة في كل قضية تبحث، ويجتهدوا في ذلك اجتهادًا جماعيًّا يوحد صفوفهم، وينتهي بهم إلى اكتشاف المنهج الأقوم لبيان الأحكام، ورعاية المصالح المعتبرة شرعًا، فيما يتخذونه من قرارات أو يصدر عنهم من توصيات.

وقد حدد الخطاب التأسيسي الملكي لهذا المجمع دوره وبدايات نشاطه قائلًا: إن البداية السليمة لبناء وحدتنا تتمثل في نبذ الخلافات بين المسلمين، وتصفيتها بروح الأخوة الإسلامية، كما أن البداية الحقيقية لقوتنا تعتمد على قدرتنا على مواجهة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية العالمية، بحلول إسلامية مستلهمة من روح الشريعة السمحة، ومتجاوبة مع احتياجات العصر، وإن هذا الأمر مهما بدا مشكلًا أو صعبًا يستطاع تذليله والتغلب عليه بالفهم الدقيق، والتدبر العميق للقضايا المطروحة، وبتجنب التعصب المقيت، فإنه لا معنى للتعصب في الإسلام، وإن طريق الوصول إلى الحكم ليعتمد ما بين أيدينا من أدلة تستمد من كتاب الله وسنة رسوله، طبقًا لضوابط الاستنباط وأصوله الشرعية المرعية لدى العلماء والفقهاء، وهو بما يوجه إليه من ذلك ليأمل من رجال الاختصاص المجتهدين في الأحكام في كل شؤون الحياة أن يحاولوا التوصل إلى رأي جامع، ليكون السبيل الأقوم لتحقيق الوحدة بين جميع الشعوب الإسلامية.

ص: 713

ومن يُعد النظر في هذا الخطاب المنهجي، وفي التراتيب المعدة من طرف أعضاء المجمع للقيام برسالتهم على أكمل الوجوه، يدرك أن الأهداف الأساسية من بعث هذه المؤسسة الفقهية الاجتهادية تقوم أولًا: على تحقيق الوحدة الإسلامية نظريًّا وعمليًّا عن طريق السلوك الإنساني ذاتيًّا واجتماعيًّا ودوليًّا، وفقًا لأحكام الشريعة الإسلامية، وثانيًا: على شد الأمة الإسلامية بعقيدتها، ودراسة مشكلات الحياة المعاصرة والاجتهاد فيها اجتهادًا أصيلًا يمكن من تقديم الحلول المناسبة النابعة من الشريعة الإسلامية.

وهذا الدور العظيم الذي نحن مطالبون به يقتضي -بدون شك- تنقية الدين من الشوائب التي امتزجت به، وإبطال تحريفات المبطلين الذين يكيدون للإسلام بما يختلقونه من أفكار وينشرونه من ضلالات، وهكذا تصبح للمجمع الفقهي الإسلامي الدولي وظيفتان أساسيتان، إحداهما: عملية نفعية عامة، وثانيتهما علمية أكاديمية خاصة.

ومما يترجم عن وظيفته الأولى توصية المؤتمر الثالث بعمان، التي تناشد الأمة الإسلامية شعوبًا وحكومات، أن تعمل جهدها لاستنقاذ أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وتحرير الأرض المحتلة، بحشد طاقاتها وبناء ذاتها وتوحيد صفوفها، والتسامي على كل أسباب الاختلاف بينها، وتحكيم شريعة الله سبحانه في حياتها الخاصة والعامة.

ص: 714

وكذلك توصية الدورة الرابعة بجدة التي من خلال دراستها لمجالات الوحدة الإسلامية وسبل الاستفادة منها، نوهت برابطة الإسلام بين شعوب الأمة الإسلامية، باعتبارها قاعدة ثابتة لكل بناء حضاري يرمي إلى توحيد صفوفها، وإلى التأليف بين الجهود المبذولة في مجابهة التحديات المعاصرة، وتحقيق العزة والتقدم، كما دعت إلى وجوب تنسيق سياسات الدول الإسلامية في مختلف ميادين التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والحرص على توثيق علاقات التناصر والتعاون والتراحم بين شعوب الأمة لرفع ما يعوق سيرها من ألوان التبعية، وما يجابهها من تحديات، حرصًا على بلوغ ما تعمل كادحة من أجله، من تحقيق الرقي والمنعة والازدهار للأمة الإسلامية.

أصحاب السماحة السادة العلماء:

لقد كانت الوحدة والعلم الديني والدعوة إلى الخير والعمل الصالح أساس كل نهضة وسبيل كل رقي وتقدم، ومما ورد في هذا الشأن قول الإمام علي، كرم الله وجهه، يخاطب المؤمنين من حوله:

(العمل العمل، والاستقامة الاستقامة، والورع الورع، وإن لكم علمًا فاهتدوا بعلمكم، وإن للإسلام غاية فانتهوا إلى غايته، واخرجوا إلى الله بما افترض عليكم من حقه، وبين لكم من وظائفه، واعلموا أن القرآن هو الناص? الذي لا يغش والهادي الذي لا يضل، والمحدث الذي لا يكذب، وما جالس القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في هدى، أو نقصان من عَمَى، فعلى المؤمنين أن يتدبروه، وعلى علمائهم أن ينصحوا به) .اهـ.

ص: 715

فإن أول صيحة تبعث إلى الوحدة، وتوقظ من الرقدة لهي تلك التي تصدر عن أعلى الناس منزلة، وأعظمهم حرمة، وأقواهم حجة، وليس لهذا غير العلماء العاملين، فإن كلمتهم مسموعة، ودعوتهم مقبولة، وهم الذين لهم اليد الطولى في هذا العمل الشريف، يذكرون الجماعات الإسلامية بسنن الله في كونه، ويتلون عليهم من الآيات ما فيه مزدجر، ويثبتون في قلوبهم ما وعد به الرحمن عباده الصالحين من عزة ونصر في قوله:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105] .

وقد دعا أحد الأئمة من أجل تحقيق الوحدة بين المسلمين إلى ضرورة الاستعلاء على حالة التمحور حول الذات، شخصية كانت أم مذهبية أم إقليمية، والارتقاء إلى مستوى الاهتمام بالكيان الكلي للأمة.

أما الوظيفة الثانية، وهي لا تقل شأنًا عن الأولى، فإنها تتمثل في الجانب العلمي الأكاديمي، الذي تقوم به في كل زمن أصحاب الاختصاص من ذوي التكوين العلمي الواسع، الذين يصورون للفقهاء من منطلق اختصاصاتهم المتنوعة الوقائع والحوادث كما هي في الواقع، ويكيفونها بالوجه الذي يساعد الشرعيين على إصابة المحز في اجتهاداتهم، وتحقيق المناط فيما يصدر عنهم من أحكام في القضايا المطروحة عليهم للدرس والنظر.

وقد تهيأ للقيام بشرف خدمة الفقه الإسلامي سراة القوم وكبار علمائهم، فدعوا إلى المجمع من الدول الإسلامية كافة، فهم أعضاء يمثلون دولهم، أو شخصيات لامعة في العلوم الفقهية وفي مجال النظر والاجتهاد، أو ممثلون للمؤسسات الفقهية المنتشرة في العالم الإسلامي، أو خبراء ومراسلون يقدمون في كل دورة من دورات المجمع دراساتهم العميقة، وبحوثهم القيمة، مستمدة من فقه المذاهب المعتبرة الباقية التي ينتسبون إليها، فيعرضون نتائج جهودهم وثمرات بحوثهم على مجلس المجمع، ويجري فيها النقاش، ويكون ذلك هو طريقهم إلى إصدار الأحكام الفقهية والقرارات والتوصيات المجمعية، ولا يعتد من ذلك إلا بما يحظى بإجماع الأعضاء أو باتفاق الأغلبية منهم، مما يكون أقوى حجة ودليلًا، وأوفى بمقاصد التشريع، وأقرب إلى مراعاة المصالح المعتبرة.

ص: 716

وبممارسة هذا المنهج في القضايا التي ذكرها الأئمة من قبل، وبحثوها في مدوناتهم، أو في القضايا المستجدة التي تنتظر فتاوى مجمعية، تكون القرارات المتخذة بشأنها صورة للاجتهاد الجماعي، وطريقًا إلى توحيد المنازع والاتجاهات الفقهية، فهي تبرز أولًا حقيقة التشريع الإسلامي من حيث عمومه وسعته، وصلاحيته لكل زمان ومكان وخلوده، وتذكر من أدلة الكتاب والسنة ما يعتبر أساسًا للأحكام، وربما لمسنا في هذا المجال مدى اعتبار الإجماع والقياس في الأحكام الاجتهادية، وأهمية الاعتماد على القواعد العامة الشرعية المتوافرة في كل مذهب، وفي كل مدرسة من المدارس الفقهية الاجتهادية.

وإنا لندرك ثانيًا من وراء هذا العمل الفقهي الاجتهادي مسايرة الفقه الإسلامي للشريعة وارتباطه بها، بحكم أنه جزء منها ومتفرع عن قواعدها، ونراه يلامس مسائل العبادات وقواعد السلوك، لما لهما من أهمية كبيرة في الدين الإسلامي، كما يتناول بالتقعيد والتفريع وضبط الأحكام في القضايا المتعلقة بالفرد والأسرة والمجتمع، وما يعتبر من ذلك قانونًا إسلاميًّا للأحوال الشخصية، وللقضايا المدنية والجزائية ما يتصل منها بالظروف العادية والظروف الطارئة، وما له ارتباط بالمعاملات والسير والسياسة الشرعية في السلم والحرب. وكذلك ما يتبع هذا من الطرق الإجرائية كالشروط والوثائق والمحاضر والسجلات، ما امتد إليه تشريع الأحكام، كالتوسع في مسائل الوقف وتصرفات المأذون وأشباهها. وإن الفقه الإسلامي بذلك لأثرى فقه عرفته الإنسانية، ترجمت نصوصه، واقتبست منه التشريعات والقوانين الوضعية كثيرًا من النظريات والقواعد، وهو لا يزيد مع الأيام إلا نموًّا وجدة ببحثه لأحدث الصور، وبخاصة في مجال المعاملات والشؤون الاقتصادية وقضايا الاجتماع ومسائل الطب الوقائي والعلاجي ونحوها.

ولم يُعدَّ الفقه الإسلامي في فترة محصورة معينة واحدة، بل هو امتداد وتطور للنظر، يشمل كل العصور المتعاقبة التي ظهر فيها المجتهدون في الأحكام، من الفقهاء المبرزين من بعد وفاة رسول الله وانتقاله صلوات الله وسلامه عليه إلى الرفيق الأعلى حتى اليوم.

ص: 717

وقد حدثت في هذا العصر تطورات عجيبة، واختلفت مناهج السلوك في الحياة وتغيرت، وظهر من الاختراعات والمبتكرات التي يحتاج الإنسان إلى استخدامها والانتفاع بها ما يُذهل العقل، وشهدت علوم الاقتصاد والطب ونحوها تقدمًا كبيرًا في المعاملات مع الشركات، وفي طريقة العلاج والمداواة، بما لا يخضع في الغالب لروح الشريعة وأصولها، ومن ثم نجد دعوة ملحة من المسلمين عامة، ومن الدول الإسلامية، تنادي ببحث هذه القضايا المستجدة، وإيجاد الحلول الشرعية المناسبة لها.

ولا جدال في كون الإسلام قد طالب كل قادر على النظر والاجتهاد، وهم بحمد الله كثر، ضمتهم مراكز البحوث والمجامع الفقهية، ببذل الوسع واستنباط الأحكام العملية من أدلتها التفصيلية مع لزوم الاحتياط والتثبت من صحة الأدلة الفقهية والاستدلال بها، والانتهاء بعد الدرس إلى الحد الذي يفيد الظن القوي بإصابة حكم الله تعالى في تلك القضايا.

والذي يمكن الجزم به من الآن هو أن الشريعة الإسلامية المرنة الطيعة مبنية أساسًا على الإباحة الأصلية، ومن ثم رأيناها في العصور الأولى وعند بناء الحضارة الإسلامية العالمية قد تأثرت بكل ألوان الثقافات التي كانت منتشرة في العالم الإسلامي، فلم تحاربها، ولا قطعت الصلة بها، ولكنها تجاوبت معها تجاوبًا أبقى على المفيد منها، وأخضعت ما دونه إلى الأصول والمبادئ الشرعية التي لا يجوز تجاوزها، لكونها المثبتة لهويتنا والمميزة لملتنا.

وأهل الاجتهاد عندنا - كما وصفهم العلامة الشيخ يس سويلم طه - هم الذين استنارت عقولهم وبصائرهم بهدي الكتاب والسنة، وامتلأت قلوبهم بالخوف من القول في دين الله بغير حجة، وعرفوا بالرسوخ العلمي، وسلامة الاعتقاد، واستقامة التفكير، واعتدال منهج النظر والاستدلال، والتحرر من تحكم الهوى وسيطرة التعصب، ونقلت عنهم مذاهبهم نقلًا يفيد الثقة والطمأنينة لقوله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] .

وهذه السمات الشريفة والصفات النبيلة كانت واضحة مميزة للصفوة من الفقهاء الذين تعاقبوا عصرًا بعد عصر، وفريقًا إثر فريق، وكان لهم من عظيم القدر وعلو المنزلة وبالغ الأثر في مجتمعاتهم ما جعلهم القدوة والمثال، والأسوة لمن حولهم من الناس، فمنهم مجتهدون ظهروا في عصر النبوة وفي عهد الصحابة، ومنهم من ظهر بعد ذلك في عهد الدولة الأموية فيما بين منتصف القرن الأول وأوائل القرن الثاني، ونبغ في الدور الرابع أئمة الأمصار من أوائل القرن الثاني إلى منتصف القرن الرابع، وانتشرت آراؤهم ومذاهبهم في أطراف البلاد الإسلامية.

ص: 718

قال حسن مأمون:

(وغطى نشاطهم من أقصى السند وأقصى خراسان إلى أرمينية وأذربيجان إلى الموصل، وديار ربيعة، وديار مضر إلى أقصى الشام وإلى مصر وإفريقية، إلى أقصى الأندلس وأقصى بلاد البربر، إلى الحجاز واليمن وجميع جزيرة العرب، إلى العراق والأهواز إلى فارس إلى كرمان إلى سجستان إلى كابل إلى أصفهان إلى طبرستان وجرجان إلى الجبال، وكان منهم في كل إقليم كثيرون يضيق المقام عن عدهم وحصرهم) .

وتباينت درجاتهم بين مجتهد مطلق، ومجتهد مقيد بالمذهب، ومجتهد في بعض أبواب الفقه أي في المسائل، وتواصل بعد ذلك الاهتمام بقضايا الفقه، وظهرت طوائف من العلماء في الدور الخامس من منتصف القرن الرابع إلى منتصف القرن السابع، وفي الدور السادس الممتد فيما بين سنة 651 إلى ظهور المجلة العدلية 1286، ولحق به الدوران الأخيران السابع والثامن من ظهور المجلة إلى سنة 1354، ومن ذلك الوقت إلى الآن.

وقد تنوع هؤلاء الفقهاء - وخاصة في الأطوار الأخيرة - فكانوا على تفاوت فيما بينهم، بحسب ما كان يميز بعضهم عن بعض من الإحاطة والفهم وملكة الاستنباط وكمال الذوق الفقهي.

ولو أمعنا النظر لوجدناهم في هذه الفترة فئات ثلاثة:

الأولى: لا تلتزم إلا بما هو نص من الكتاب والسنة، فلا يمتد نظرها إلى ما في المصدرين من عمومات، ولا إلى ما في الشريعة من قواعد كلية، فهي بذلك تجمد الإسلام في قوالب حجرية، صنعتها عقول من كانوا قبلنا مناسبة لزمانهم ولم تعد مناسبة لنا.

والثانية: من المتأخرين ممن يتجاوزون النصوص وحتى العمومات، ويطلقون العنان لخيالاتهم وفلسفاتهم، فهم يعملون على تطويع الإسلام للعصر، ويرفضون الوقوف عند الأصول المعتمدة في التشريع لدى الفقهاء والمجتهدين من ذوي الاختصاص، وهذه الفئة أسوأ الفئات بما تجترئ به على الله في بناء الأحكام وضبطها.

ص: 719

والثالثة: خرجت من الأفق الضيق المحدود الذي وضعت الفئة الأولى نفسها فيه، وكان درسها للقضايا الفقهية أبعد وأكمل نظرًا، وهي وإن وقفت عند مصدري التشريع في استنباطاتها، فقد كان لوقفتها هذه أثرها في تركيز الفقه على أسس علمية صحيحة ثابتة، وفي العمل على تقليص الخلاف والارتباك الناشئين بين فقهاء المسلمين وأئمة المذاهب.

وما من شك في أن أكثر هؤلاء وأولئك ممن تصدى للاجتهاد كانوا متفقين على اعتماد الأصول الأربعة الأساسية: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وإن اختلفوا في الاستدلال بالاستحسان وبالمصلحة المرسلة وبالاستقراء، ولو كانت ثلاثتها من أنواع القياس، ولم يعتد الكثير منهم بالاستصحاب، وبالبراءة الأصلية، وسد الذرائع، والعرف، وإن عدها الفقهاء في القواعد الفقهية ورجعوا إليها في استنباط الأحكام.

وقوام هذا كله أن يقال: إن هذه الأصول العامة لا يتطرق إليها خطأ في وصفها، ولا قصور في كفايتها وصلاحيتها لكل زمان، لأنها من وضع الخبير الذي أحاط بكل شيء علمًا، وإنما يقع الخطأ والقصور في الاستنباط منها والبناء عليها؛ لأنها من عمل العقول والأفهام، فقد يقع الخطأ في الطريق إلى ذلك لخفاء بعض حلقات الاستنباط والاستدلال أو فقدانها، وقد يقع القصور في تطبيقها للجهل أو للجمود وضيق الأفق في الفهم والتفكير.

وقد صدعوا بعد التفرقة بين عملية الاستنباط المعتد بها والمعتمد عليها، وبين عملية الاستنباط الناقصة الخاطئة، بأن المجتهد لا يجوز له قطعًا أن يعتمد الرأي الذي تستحسنه العقول دون رجوع إلى دلالة ما نزل به الكتاب، وجاءت به السنة، فإن ذلك ليس من التشريع الإلهي ولا مما تحتاجه الأمة المسلمة، وهو مرفوض، قال تعالى:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57]، وقال جل وعلا:{ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الممتحنة: 10] .

ورغم ما تواضع عليه فقهاء المسلمين من ذلك في كل عصر، فإنا نجد أصحاب الاتجاه المعادي للفقه الإسلامي يحادون المذاهب الفقهية، ويهاجمونها مدعين أنها لم تكن تعبر إلا عن وجهات نظر أصحابها، وهي تترجم عن آراء شخصية، خاضعة في جملتها لبيئات خاصة وعصور معينة، وهذا وإن صح بالنسبة إلى جزئيات الأقوال والآراء المتصلة بالحوادث اليومية مما لا نص فيه، فإنه غير صحيح بالنسبة إلى مجموع الفقه الإسلامي الذي يمثل ثروة تشريعية ضخمة، شاركت في إنشائها وتنميتها شوامخ العقول الإسلامية ابتداء من عصر الصحابة، ومن بعدهم على توالي القرون، مهتدية بالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.

ص: 720

أما دعواهم الأخرى التي تبرز فيما بين تلك المذاهب من تفارق واختلاف في الأحكام، مما لا تقره وحدة الإسلام ولا شريعته الغراء، فمردود لأن المذاهب الفقهية بريئة من ذلك. ومعلوم أن كل إمام من أئمة الحق له في بحر النبوة ورد وله منه شرب، ومما وقفنا عليه من ذلك

قول ابن خلدون: إن الفقه المستنبط من الأدلة الشرعية كثر فيه الخلاف بين المجتهدين باختلاف مداركهم وأنظارهم، خلافًا لابد من وقوعه، واتسع في الملة اتساعًا عظيمًا، وكان للمقلدين أن يقلدوا من شاءوا:

فكلهم من رسول الله ملتمس

غرفًا من البحر أو رشفًا من الديم

واختلاف المجتهدين ليس تفرقًا في الدين، ولا تجريح فيه للمختلفين، وإنما هو أمر طبيعي فطري يمليه تفاوت الأفهام، كما أنه أثر لاختلاف مناهج البحث وطرق الاستدلال، وهذا لا يجري بينهم في القطعيات التي هي أساس التشريع ومحوره، وما يحدد اتجاه الإسلام وأهدافه، وإنما تظهر فقط فيما دون ذلك من أحكام ونظم.

قال أحد العلماء: فقد يكون في بعض المذاهب الاجتهادية من التيسير ما ليس في البعض الآخر، وكثيرًا ما تتفاوت المذاهب الفقهية شدة ويسرًا، وإن كانت في مجموعها لا تخرج عن دائرة الأصول الشرعية التي بنيت عليها. ومن الصور الفقهية الناطقة بذلك ما نجده بين الأئمة من اختلاف في الأحكام والفتاوى. وهذا في ذاته مصدر ثروة تشريعية ونظريات فقهية متعددة. ومما يشهد لذلك وينبه إلى الحكمة فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:((اختلاف أمتي رحمة)) .

وفي الموافقات للشاطبي تقرير ذلك وبيانه. قال القاسم بن محمد: لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أعمالهم، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة، ورأى أن خيرًا منه قد عمله. وقال: لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز: ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنه لو كان قولًا واحدًا كان الناس في ضيق، وأنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ أحد بقول رجل منهم كان في سعة.

ص: 721

وعلى هذا تكون كتب المذاهب المختلفة، وفي مقدمتها كتب الخلاف، وكتب السنن والآثار، والفقه المقارن، قد سجلت القواعد والأحكام الأساسية المقررة في الكتاب والسنة، ووضعت الركيزة لمن يروم الاجتهاد اليوم، فهو يواصل السير ولا يبدأه من فراغ، ولكنه في عمله الاجتهادي، ينطلق من تلك الثروة الهائلة من الاجتهادات السابقة التي تعتبر الأساس القوي الذي لا يستهان به، ولا يمكن بحال لمجتهد الاستغناء عنه.

ونحن لا نشك بأن في عودتنا لفقهنا وشريعة ربنا وأصالة تراثنا ما يفتح الآفاق الواسعة لإنقاذنا من التبعية الشائنة، ويحررنا من القوانين الأجنبية الوضعية التي لا تتماشى مع طبيعتنا ولا تتجاوب معنا، كما أن في ذلك تحقيقًا لأمانينا وبلوغًا لحاجاتنا. وإننا بما نقوم به في مجمع الفقه الإسلامي؛ نفتح سبيلًا جديدة لا نلتزم فيها بعد عمق النظر والدرس بمذهب واحد؛ وإنما هو الأخذ بالأقوى برهانًا، والأوفى بمقاصد الشارع وتحقيق المصالح.

وفيما يتطلبه هذا المنهج من بحث ودرس ومقارنة ما يرفع أولًا من مدارك العلماء الفقهية، ويمدهم بغزير الفوائد المترتبة على معرفة وجهات أنظار الأئمة في أحكامهم، والمقارنة بين أدلتهم والغوص على أسرار التشريع الإسلامي ومقاصده في مصنفاتهم وكتبهم الكثيرة، وما يمكنهم ثانيًا من التغلب على التعصب للمذاهب الفقهية، وعلى توسيع شقة الخلاف فيما بينها، بدافع الجمود وضيق الأفق، والوقوف من المسائل الخلافية موقف التنطع والتزمت والتضييق على الناس، كما يساندهم في القضاء على الأنانيات والعنصريات والعصبيات المهلكة التي ترتبت على ما ظهر بينهم من فرقة وتقاطع وتدابر، وأولى الناس باجتناب ذلك والتنفير منه العلماء لما قام بين أيديهم من أدلة.

وقد كان من مميزات الأئمة المتقدمين زمانًا وإحسانًا، والعلماء السابقين المتضلعين في الفقه عنايتهم بهذا الشأن، واحتفاؤهم بهذا المنهج، أمثال القاضي عبد الوهاب في الإشراف، والبيهقي في الخلافيات، وعبد الملك الجويني في الجمع والفرق، وابن الدهان في تقويم النظر، وابن رشد الحفيد في البداية، وابن قدامة في المغني، والقرافي في الذخيرة، ونحوهم

وهم بحمد الله كثر.

كما تجلى مثل ذلك لدى الشريف المرتضى في الانتصار، والطوسي في الخلاف، والحلي في التذكرة، وابن المرتضى في البحر الزخار. ومثل هذه القوائم يطول في كل مذهب من مذاهب الفقه الإسلامي، بإضافة العدد الكبير من علماء القرون الأخيرة ورجال عصرنا، بما ألقاه الشيوخ من دروس في الجامعات الإسلامية، وأشرفوا عليه من رسائل في هذا الفن. وقد لمسنا ذلك في الأزهر والزيتونة، وفي الموسوعات الفقهية، ووجدناه يتجدد على أيدي دعاة التقريب، أمثال الشيوخ: عبد المجيد سليم، ومحمد أبو زهرة، ومحمود شلتوت، ومحمد محمد المدني، والأعلام من فقهاء أهل البيت كالبروجردي، ومحمد الحسين كاشف الغطاء

ونحوهم.

ص: 722

وإن مما يحقق التقارب بين أهل الملة ما وضعه مجمع الفقه الإسلامي من مشاريع، تلتقي فيها آراء الفقهاء والعلماء من كل صوب، كالموسوعة الفقهية الاقتصادية، ومعجم المصطلحات الفقهية، ومعلمة القواعد، ومدونة أدلة الأحكام الفقهية التي دعا إليها جمهرة من فقهائنا وعلماء عصرنا ممن ينتمي إلى المذاهب الأربعة، ومن إخوتنا من الإمامية والزيدية والإباضية المسهمين معنا في أعمال المجمع ومشاريعه.

وقد كانت الدعوة صريحة إلى هذا التقارب والتوحيد في الخطاب الافتتاحي للمؤتمر التأسيسي لمَجْمَع الفقه الإسلامي، وجاء فيه على لسان خادم الحرمين الشريفين حفظه الله: لقد التزمت المملكة هذه الروح في تنظيمها القضائي، وقررت توحيد الحكم الشرعي في المسائل الخلافية بين المذاهب المعتمدة؛ وذلك بقرار يصدر عن هيئة علمية للعمل بأقوى المذاهب دليلًا من كتاب الله وسنة رسوله. وقد عقب قوله هذا بالدعوة التي توجه بها إلى عامة المشاركين في المجلس التأسيسي للمجمع قائلًا: أيها الإخوة الكرام؛ إنا لمطالبون جميعًا بالعمل على توحيد الأحكام في البلاد الإسلامية في كل شؤون الحياة على مقتضى أحكام الشريعة الإسلامية؛ فذلك هو السبيل الأوحد لتحقيق الوحدة الإسلامية بين الشعوب المسلمة.

وهكذا تلتقي الريادات السامية، والتوجهات الصادقة بإذن الله، في رحاب دين الله، وفي آداب وأحكام وأصول شريعته الخالدة، على تحقيق التقارب الإسلامي وتجديد بناء وحدة الأمة، معتبرة أن القيام بهذه الرسالة فريضة على المسلمين، وخاصة في هذه الظروف الصعبة الحالكة التي تمر بها المجتمعات الإسلامية، فإنه لا يدرأ عنها الأخطار وشرور الفتنة، ولا يقيها أسباب التصدع وعوامل الفناء والانقراض، إلا رجوعها إلى دينها وتمسكها بشريعتها، وعملها الجاد في إنقاذ وحدتها وإعلاء كلمتها، وإيجاد الحلول الشرعية البينة لما يجد أو يستشكل من قضايا العصر في كل المجالات.

ولقد أدت الشريعة الإسلامية في الماضي وظيفتها العظيمة - كما قال أحد أعلام رجال القانون - وذلك طالما كان المسلمون متمسكين بها، عاملين بأحكامها، تمسك بها المسلمون الأوائل وعملوا بها وهم قلة مستضعفة يخافون أن يتخطفهم الناس، فإذا هم في عشرين سنة سادة العالم وقادة البشر، ما أوصلهم لهذا إلا الشريعة الإسلامية التي علمتهم وأدبتهم، ورققت نفوسهم، وهذبت مشاعرهم، وأشعرتهم العزة والكرامة، وأخذتهم بالمساواة التامة والعدالة المطلقة، وأوجبت عليهم أن يتعاونوا على البرِّ والتقوى، وحرمت عليهم الإثم والعدوان، وحررت عقولهم ونفوسهم من نير الجهالات والشهوات. كان ذلك حال المسلمين طالما تمسكوا بشريعتهم، فلما تركوها وأهملوا أحكامها تركهم الرقي، وأخطأهم التقدم، ورجعوا القهقرى إلى الظلمات التي كانوا فيها يعمهون من قبل، فعادوا مستضعفين مستعبدين لا يستطيعون دفع معتد ولا الامتناع من ظالم.

ص: 723

ولعمري إن الجهود الكبيرة لخدمة الإسلام وبناء الأمة لا يستطيع أن ينهض بها على أكمل الوجوه غير علماء الملة، فإنهم المسؤولون عن ترشيد السير، وعن النصيحة لكل مسلم، وهم غرس الله الذين لا يزال يغرسهم في دينه، وهم الذين عناهم الإمام علي كرم الله وجهه بقوله:(لن تخلو الأرض من قائم لله بحجته) .

وإني لأقف في هذه المناسبة، وبحث موضوع الوحدة الإسلامية في الدورة الحادية عشرة لمجمعنا بالبحرين مطروح على حضراتكم، لأحييكم أيتها الصفوة الكريمة من العلماء، السادة النجباء، والأئمة الفقهاء لما صرفتم فيه أوقاتكم من طاعة الله، ودعوتم مخلصين لمنهجه، والتزمتم بأحكامه وآدابه، وطلعتم على الناس بالبحوث العلمية المفيدة، والفتاوى الفقهية النافعة بإذن الله، فمناظرة أمثالكم في الدين فرض، والاستماع لكم ولما تعمرون به مجالسكم أدب، ومذاكرتكم تلقيح للعقول واستزادة من الخير. فجزاكم الله أحسن الجزاء، وآتاكم الحكمة وبوأكم مقامًا عليًّا في معرفة أحكام الشريعة.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد نبي الرحمة، ومنقذ الأمة، وعلى آله وصحبه وأزواجه وذريته وسلم تسليمًا.

محمد الحبيب ابن الخوجة

ص: 724