الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ضوابط الفتوى
في ضوء الكتاب والسنة
ومنهج السلف الصالح
إعداد الدكتور
عبد الوهاب بن لطف الديليمي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد؛ فإن الله جلت قدرته لم يخلق الإنسان عبثاً، ولم يتركه سدى، ولم يحوجه سبحانه في معرفة مصالحه الدنيوية والأخروية إلى عقله القاصر، ولا إلى متاهات البشر، أو القوانين الوضعية التي صاغتها أفكار وعقول لا تعلم بواطن الأمور ولا خفاياتها، ولا الأحوال المتغيرة من مكان إلى مكان، ومن زمن إلى زمن، ولا ما الذي سيحدث في المستقبل، إنها عاجزة عن معرفة كل ذلك حتى تضع لها ما يصلح لها من الأحكام والتشريع.
لكن الله عز وجل خالق الإنسان، ومدبر أمره، هو صاحب الكمال المطلق، وهو المحيط بكل شيء علمًا، لذلك كان الكمال فيما أنزل من وحي، وشرع من أحكام وآداب ترعى مصالح الإنسان في دنياه وأخراه، وترعاه في كل أحوال وظروفه وبيئاته وطبائعه، واختلاف مكانه وزمانه، والله سبحانه الذي ختم الرسالات برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، حتى انقطع الوحي الإلهي بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم، لم يغبْ عن علمه سبحانه ما سيجد في حياة الناس من قضايا لم تكن في العصور الأولى، تتطلب أحكاماً شرعية، وهديًا إلهيًّا، يستضئ به المسلم للتعامل مع المستجدات، حتى لا يقع في حيرة من أمره، لا يحتاج معه إلى آراء مبتورة عن الوحي الإلهي، لا تعرف إلى الهدى والحق طريقًا ....
لذلك نجد شرع الله سبحانه، المنحصر في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله، قد حوى من القواعد والأحكام والنصوص العامة ما يكفل بسد حاجة البشر في حل كل معضلة، وبيان حكم الله عز وجل في كل ما دق وجل.
والأمر يتوقف على الأهلية التي يجب أن تتوافر في العالم العارف بنصوص الشرع، وبمظان استخراج الأحكام الجزئية، وكيفية استنباطها.
فإذا وجد في الأمة من العلماء العارفين بالنصوص الشرعية، والقواعد الفقهية والعلوم الموصلة إلى فهم كل ذلك، وطرق استنباط الأحكام وإلمام العصر الذي يعيشه مع مكانة رفيعة من الإيمان والتقوى، والورع والبراءة من الهوى، بحيث لا ينزل نصاً على قضية إلا بعد تأنٍ، وفحص، واستقصاء، مع معرفته بأنه بإصداره أي حكم في أي قضية لا نص فيها، إنما هو موقع عن الله سبحانه، فهو يخشى أن يتقول على الله أو على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل، وهو على علم أيضا بما يترتب على الحكم الصادر منه من تحليل أو تحريم أو إيجاب أو غير ذلك من الأحكام الشرعية.
كما أن وجود أمثال هؤلاء العلماء الربانيين في الأمة، يحيى الله بهم معالم الدين ويرجع الناس إليهم عند المعضلات، وما يلم بهم من النوازل، يحفظون الأمة من الوقوف في فتنة التشكيك في الدين وقدرته على استيعاب كل جديد، فتظل بذلك صلة المسلمين بدينهم قوية، وثقتم به متينة، وأمثال هؤلاء العلماء هم الذين ينطبق عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم، فيما روي عنه أنه قال: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الضالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين (1) .
حاجة الإنسان إلى التشريع الإلهي:
إن حاجة الإنسان إلى التشريع الإلهي أشد من حاجته إلى الطعام والشراب، ذلك أن الإنسان لا يستطيع الانفكاك عن المجتمع الإنساني، والاستغناء بنفسه عن أبناء جنسه، فهو كما يقال:"مدني بالطبع ". وأحوال الناس في طلب المعاش، كما قال الشاعر:
الناس للناس من بدو وحاضرة
بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم
فجلب المنافع، ودفع المفاسد والمضار، لا تتم إلا بتضافر جهود أبناء البشر، وهذا يؤدي – حتما – إلى تبادل المنافع والمصالح بين أفراد المجتمع، وتصبح بذلك المصالح متشابكة.
ولما كان الإنسان مجبولاً على حب الذات، والرغبة في التفوق على غيره في مصالح الدنيا، كجمع المال وحب الرئاسة، والشهرة والسيطرة، والأثرة والغلبة، ويطغى بسبب ذلك التنافس والتسابق على مصالح الدنيا، إلى جانب الدوافع الأخرى: كالشح والحسد وغيرهما، وفي هذه الحال لابد أن تنشأ بين الناس خصومات وخلافات وعداوات: قد تأتي على مصالحهم، وتقوض مجتمعهم، وتهدد كيانهم، وتسلبهم الأمن والاستقرار، والقوانين الوضعية البشرية عاجزة – كعجز واضعيها – عن حل المشكلات، كما أن الناس لا يتفقون على التسليم لها، والخضوع لأحكامها إلا بسلطان القهر.
وهنا تظهر حاجة الإنسان إلى التشريع الإلهي المتميز بخصائصه من الكمال، والشمول والخلود
…
وغيرها، والمبرأ من النقص والعيب، فهو الذي:{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]
…
ذلك هو الكتاب العزيز مصدر التشريع، ومصدر سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، إذا تهيأ له السلطان القوي العادل.
المصالح التي عليها مدار الشرائع:
والمصالح التي عليها مدار الشرائع ثلاثة:
الأولى: المعروفة عند أهل الأصول بالضروريات.
الثانية: المعروفة عند أهل الأصول بالحاجيات.
الثالثة: الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، المعروف عند أهل الأصول بالتحسينيات والتتميمات (2) .
(1) الحديث من رواية عبد الرحمن العبدي، لسان الميزان: 1 / 77، قال عنه ابن حجر: تابع مقبل، ما علمته واهيًا، أرسل حديث: يحمل هذا العلم. . ثم روى ابن حجر عن أحمد أنه قال عن الحديث: صحيح؛ وانظر المشكاة، ص 248، وزاد المسير: 5 / 305 وتفسير القرطبي: 1 / 36 و 7 / 311؛ والبداية والنهاية: 10 / 337؛ والتمهيد لابن عبد البر: 1 / 59
(2)
أضواء البيان: 3 / 448
…
بشيء من الاختصار.
ولما كانت هذه الأمور الثلاثة تقوم عليها حياة الإنسان، فإن الإسلام أحاطها بما يوجدها ويحفظها، وبالأخص الضروريات، فقد أحاط الإسلام ضروريات الحياة بما يدرأ عنها كل مفسدة، وذلك بما شرع من العقوبات العاجلة، ورتب على انتهاكها من الوعيد الشديد، وبذلك كفل الإسلام حماية:
1-
الدين
…
2- النفس
…
3- العقل. .
4-
النسب. . 5- العرض
…
6- المال. .
ومنهم من يعدها خمسًا، ويجعل العرض مدرجا في غيرها.
وهي التي بها قوام حياة البشرية، وقد فشلت كل الأنظمة البشرية في إيجاد وحماية هذه الضروريات على النحو اللائق بالإنسان حتى في ظل الحضارات المادية الغربية المتفوقة في الإبداع المادي، ومجتمعاتهم التي تعج اليوم بألوان كثيرة من الفساد، والقلق، والاضطراب، والحيرة، والتيه، والتفكك المدمر في أوساط الأسرة والمجتمع أكبر دليل على ذلك.
"وأما جلب المصالح والمنافع التي يحتاج إليها الإنسان، فقد جعل الإسلام أبوابها مفتوحة لجلب كل مصلحة حقيقة، حتى استدل بعضهم بقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] .
وقوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [لقمان: 20] ، وأمثالهما على أن الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما دل الدليل على خلافه " (1) .
ومن الآيات التي تدل على سعة الإسلام في هذا المجال، وحثه على السعي لتحصيل ما ينفعه قول الله تعالى:
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] .
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] .
{وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] .
{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] .
قال الإمام السيوطي في الأشباه والنظائر (2) : "
…
قاعدة: الأصل في الأشياء الإباحة، حتى يدل الدليل على التحريم، هذا مذهبنا ".
وعند أبي حنيفة: "الأصل فيها التحريم، حتى يدل الدليل على الإباحة ".
ويظهر أثر الخلاف في المسكوت عنه، ويعضد الأول قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما أحل الله فهو حلال، وما حرم فهو حرام
…
وما سكت عنه فهو عفو؛ فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً)) . أخرجه البزار والطبراني من حديث أبي الدرداء بسند حسن.
وروى الطبراني أيضًا من حديث أبي ثعلبة: ((إن الله فرض فرائص فلا تضيعوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وحد حدودا فلا تعتدوا، وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها
…
)) .
وفي لفظ: ((وسكت عن كثير من غير نسيان، فلا تتكلفوها رحمة لكم فاقبلوها)) .
وروى الترمذي وابن ماجة، من حديث سلمان رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الجبن والسمن والفراء فقال:((الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفى عنه)) . وللحديث طرق أخرى. وبناء على أن الأصل في الأشياء الإباحة – كما يدل الدليل على ذلك بما ذكرنا من قرآن وسنة – قال المحققون: "إن الأصل في العقود والشروط الصحة حتى يقوم الدليل على البطلان والتحريم "، وفي هذا المعنى يقول ابن القيم في بيان الخطأ الرابع من أخطاء نفاة القياس:"اعتقادهم أن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملاتهم كلها على البطلان حتى يقوم دليل على الصحة، فإذا لم يقم دليل على صحة شرط أو عقد أو معاملة استصحبوا بطلانه، فأسدوا بذلك كثيراً من معاملات الناس وعقودهم وشروطهم بلا برهان من الله بناء على هذا الأصل ".
(1) انظر تيسير الكريم الرحمن، للشيخ عبد الرحمن السعدي: 1 / 69.
(2)
الأشباه والنظائر، ص 60.
ويقول أيضا رحمه الله تعالى ردا على ذلك: "وجمهور الفقهاء على خلافه، وأن الأصل في العقود والشروط الصحة، إلا ما أبطله الشارع أو نهى عنه، وهذا القول هو الصحيح، فإن الحكم ببطلانها حكم بالتحريم والتأثيم، ومعلوم أنه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا تأثيم إلا ما أثم الله ورسوله به فاعله. . كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه.
فالأصل في العبادات البطلان، حتى يقوم دليل على الأمر، والأصل في العقود والمعاملات الصحة، حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم. .
والفرق بينهما أن الله سبحانه لا يعبد إلا بما شرعه على ألسنة رسله، فإن العبادة حقه على عباده، وحقه الذي أحقه هو، ورضي به وشرعه.
وأما العقود والشروط والمعاملات، فهي عفو حتى يحرمها، ولهذا نعى الله سبحانه على المشركين مخالفة هذين الأصلين، وهو تحريم ما لم يحرمه، والتقرب إليه بما لم يشرعه، وهو سبحانه لو سكت عن إباحة ذلك وتحريمه؛ لكان ذلك عفوا لا يجوز الحكم بتحريمه وإبطاله " (1) .
وقد وضع الإسلام ضوابط في المعاملات، تحفظ للناس حقوقهم ومصالحهم الحقيقية، وتمنع كل مظهر من مظاهر الظلم والغش والخديعة والغرر، وغير ذلك مما يعود بالضرر على المتعاملين، أو يغرس العداوة والبغضاء في النفوس، أو يفقد الناس الثقة فيما بينهم، كما أن الإسلام يقر كل عادة حميدة، فقد أقر العرب بعد الإسلام على العادات والخصال الموافقة لشرع الله، غير أن هذبها وأحسن توجيهها.
ومن هنا ندرك أن التشريع الإلهي، وهو وحده الذي يضمن الحفاظ على مصالح العباد جلبًا، ورعاية واستدامة، ويدفع عنهم المفاسد عاجلها وآجلها، ويجعلهم جميعًا سواسية أمام حكمه، حتى لا ينزل الظلم بأحد.
وقد جعل سبحانه الواسطة بينه وبين خلقه، في تبليغ دينه، والقيام بيان وحيه – رسله الذين اصطفاهم واختارهم من بيان خلقه، حتى إذا ختم الله سبحانه رسالاته بمحمد صلى الله عليه وسلم، أناط مهمة البيان بأهل العلم، وأخذ عليهم العهد في القيام بذلك حتى لا تندرس معالم الشريعة، فيعم بسبب ذلك الجهل والضلال، وتتغلب الأهواء، ويتصدر للقول في دين الله من ليس لذلك بأهل، ولذلك جاء الوعيد الشديد لمن يكتم العلم، قال الله عز وجل:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) }
[البقرة: 159 – 160] .
ومما جاء في السنة النبوية، حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي داود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((من سئل عن علم فكتمه، ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة)) (2) .
وحث النبي صلى الله عليه وسلم على تداول العلم وتبليغه، ضمانًا لحفظه وصيانته، ففي أبي داود والترمذي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((نضَّر الله امرأ سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه)) (3)
…
وفي لفظ للترمذي وأحمد وابن ماجة: ((فرب مبلغ أوعى من سامع)) (4) .
وقد شرف الله عز وجل أهل العلم، بأن جعلهم أهل الوراثة النبوية، كما جاء في الحديث، وإن العلماء ورثة الأنبياء (5) .
(1) إعلام الموقعين: 1 / 384 – 385.
(2)
سنن أبي داود برقم (3658) ؛ ورواه الترمذي برقم (251)، والحديث حسن؛ كما قال الشيخ عبد القادر الأرناؤوط في هامش جامع الأصول: 8 / 12.
(3)
رواه الترمذي برقم (2658) ؛ وأبو داود برقم (3660) .
(4)
رواه الترمذي برقم (2695) ح وأحمد: 1 / 437؛ وابن ماجة برقم (232) .
(5)
من حديث طويل رواه أبو داود برقم (3641) ؛ والترمذي برقم (2683) عن أبي الدرداء.
ومن حق هذه الوراثة العظيمة، حمل العلم وتبليغه للناس، والقيام ببيان أحكام الله سبحانه، واستيعاب النوازل التي تجد في حياة الناس، والوقوف على حكم الله فيها بالرجوع إلى أصول الأدلة الشرعية، والنصوص الشرعية، وأعمالها بالفقه والاستنباط – بما يحقق للناس جلب المصالح ودفع المفاسد – حتى لا تتعرض الشريعة للتعطيل، أو الاتهام بالعجز عن قدرتها على مواجهة المستجدات، وحتى لا يفتن الناس في دينهم.
ولذلك حفظ الله هذا الدين وانتشرت علوم الإسلام على مدى قرون متوالية في تاريخ الإسلام بفضل الله عز وجل، ثم بجهود الصادقين المخلصين من أهل العلم الذين اختارهم الله عز وجل لذلك، وقد تركت هذه الجهود الصادقة ثروة عظيمة من العلوم التي خدمت الإسلام؛ بما في ذلك الفقه الذي أنبأ عن عقول تفتقت عن غزارة علم وجودة استنباط، وعمق فقه لدين الله، وكفاءة في معرفة أسرار الشريعة ومقاصدها وقواعدها العامة، ولم يقف اهتمام أهل العلم عند حد النوازل التي واجهتهم في حياتهم، بل تجاوزوها إلى مسائل كثيرة افتراضية، وكان السبب في كل ذلك هو: العناية بالعلم
…
تعلما، وتعليما، وتطبيقا، وفهما، واستنباطا، وتدوينًا، وراية، وظل باب الاجتهاد مفتوحًا بشروطه وضوابطه.
الفتوى ومراحلها:
والفتوى: تطبيق الأحكام الشرعية، على النوازل والوقائع بما يحقق مصالح الناس في ضوء قواعد الشريعة ومبادئها ونصوصها.
وقد مرت الفتوى بمراحل في تاريخ الإسلام، وكانت كل مرحلة تمثل الحال التي عليها زمن الفتوى.
فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه كان منهجه في القضاء فيما يرد عليه من الأمور، وما رواه الدارمي (1) عن ميمون بن مهران، قال: كان أبو بكر رضي الله عنه إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمر سنة قضي به، فإن أعياه خرج، فسأل المسلمين، وقال: أتاني كذا وكذا. . فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء، فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه قضاء، فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ على نبينا، فإن أعياه أن يجد فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع رؤوس الناس وخيارهم واستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضي به.
فأول ما يبدأ به كتاب الله عز وجل، ثم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء مما علم من السنة، أو ثبت له برواية غيره من الصحابة، ثم بما أجمع عليه رؤوس الناس وخيارهم، وهذا غاية في التثبت.
(1) الدارمي: 1 / 58.
وأما عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد روى الدارمي (1) أيضًا عن شريح، أن عمر بن الخطاب كتب إليه: إن جاءك شىء في كتاب الله فاقضِ به، ولا يلتفتك عنه الرجال، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فانظر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقضِ بها، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله، ولم يكن فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله، ولم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتكلم فيه أحد قبلك فاختر أي الأمرين شئت؛ إن شئت أن تجتهد برأيك ثم تقدم فتقدم وإن شئت أن تتأخر فتأخر، ولا أرى التأخر إلا خيرا لك.
ولم يخرج عمر رضي الله عنه عن منهج أبي بكر رضي الله عنه، غير أنه لما ذكر الرأي عند عدم الدليل جعل صاحبه مخيراً بين الإقدام والإحجام، حتى لا تزل قدم صاحبه.
وقد روى الدارمي آثار أخرى عن منهج الصحابة في القضاء والفتيا، وكلها لا تخرج عن تحري الدليل من الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم
…
لأن في هذا المنهج السديد ما يحفظ مصالح الناس المشروعة، ومن ثم جاء التحذير والوعيد في حق من يخرج عن هذا المنهج القويم السديد، فقد جاء عن حبر هذه الأمة ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: من أحدث رأيا ليس في كتاب الله، ولم تمضِ به سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يدرِ على ما هو منه إذا لقي الله عز وجل (2) .
وعن أبي نضرة قال: لما قدم أبو سلمة البصرة أتيته أنا والحسن، فقال للحسن، أنت الحسن؟ ما كان أحد بالبصرة أحب إلي لقاء منك، وذلك أنه بلغني أنك تفتي برأيك، فلا تفتِ برأيك، إلا أن تكون سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كتاب منزل (3) .
وعن جابر بن زيد أن ابن عمر لقيه في الطواف، فقال له:"يا أبا الشعثاء إنك من فقهاء البصرة، فلا تفتِ إلا بقرآن ناطق، أو سنة ماضية، فإنك إن فعلت غير ذلك هلكت وأهلكت "(4) .
(1) الدارمي: 1 / 60
(2)
الدارمي: 1 / 57.
(3)
الدارمي: 1 / 58 – 59.
(4)
الدارمي: 1 / 59.
وهناك آثار أخرى تدل على أن ذلك كان المنهج الغالب عند التابعين أيضاً، ثم جاءت مرحلة تدوين الأحاديث والآثار، واتسعت دائرة العلم بالرواية، فاجتمع – باهتمام أولئك من الحديث والآثار – ما لم يجتمع لأحد قبلهم، وتيسر لهم ما لم يتيسر لأحد قبله، وخلص إليهم من طرق الأحاديث شيء كثير، حتى كان يكثر من الأحاديث عندهم مائة طريق فما فوقها، فكشف بعض الطرق ما استتر في بعضها الآخر، وعرفوا محل كل حديث من الغرابة والاستفاضة، وأمكن لهم النظر في المتابعات والشواهد، وظهر عليهم أحاديث صحيحة كثيرة لم تظهر على أهل الفتوى من قبل
…
فكم من حديث صحيح لا يرويه إلا أهل بلدة خاصة؛ كأفراد الشاميين والعراقيين، أو أهل بيت خاصة، كنسخة بريد (1) عن أبي بردة، عن أبي موسى، ونسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أو كان الصحابي مقلاً خاملاً لم يحمل عنه إلا شرذمة قليلون، فمثل هذه الأحاديث يغفل عنها عامة أهل الفتوى، واجتمعت عندهم آثار كل بلد من الصحابة والتابعين.
وكانوا إذا عرضت لهم مسألة، يسلكون المنهج الآتي في حل معضلتها:
فقد كان عندهم أنه إذا وجد في المسألة قرآن ناطق فلا يجوز التحول منه إلى غيره، وإذا كان القرآن محتملاً لوجوه فالسنة قاضية عليه، فإذا لم يجدوا في كتاب الله أخذوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء كان (2) مستفيضاً دائراً بين الفقهاء، أو يكون مختصاً بأهل بلد، أو أهل بيت، أو بطريق خاصة، وسواء عمل به الصحابة والفقهاء أو لم يعملوا به، ومتى كان في المسألة حديث، فلا يتبع فيها خلاف أثر من الآثار، ولا اجتهاد أحد من المجتهدين.
وإذا أفرغوا جهدهم في تتبع الأحاديث، ولم يجدوا في المسألة حديثاً أخذوا بأقوال جماعة من الصحابة والتابعين، ولا يتقيدون بقوم دون قوم، ولا بلد دون بلد، كما كان يفعل من قبلهم، فإن اتفق جمهور الخلفاء والفقهاء على شيء فهو المقنع، وإن اختلفوا أخذوا بحديث أعلمهم علماً، وأورعهم ورعاً، وأكثرهم ضبطا، أو ما اشتهر عنهم، فإن وجدوا شيئاً يستوي فيه قولان
…
فهي مسألة ذات قولين، فإن عجزوا عن ذلك أيضاً تأملوا في عمومات الكتاب والسنة وإيماءاتهما، واقتضاءاتهما، وحملوا نظير المسألة عليها في الجواب إذا كانتا متقاربتين بادي الرأي، لا يعتمدون في ذلك على قواعد من الأصول، ولكن على ما يخلص إلى الفهم، ويثلج به الصدر " (3) .
(1) هو بريد بن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، تهذيب التهذيب: 1 / 431.
(2)
أي سواء كان الثابت من السنة
…
إلخ.
(3)
حجة الله البالغة: 1 / 148 – 149، بشيء من الاختصار.
"وبالجملة فلما مهدوا الفقه على هذه القواعد، فلم تكن مسألة من المسائل التي تكلم فيها من قبلهم والتي وقعت في زمانهم إلا وجدوا أثراً من آثار الشيخين، أو سائر الخلفاء، وقضاة الأمصار، وفقهاء البلدان أو استنباطاً من عموم أو إيماء أو اقتضاء، فيسر الله لهم العمل بالسنة على هذا الوجه، وكان أعظمهم شأناً وأوسعهم رواية، وأعرفهم للحديث مرتبة، وأعمقهم فقهاً أحمد بن محمد بن حنبل، ثم إسحاق بن راهوية "(1) .
ثم مرت بعد ذلك بالفقه مرحلة أصيب فيها بالركود وعدم الاجتهاد، وذلك بعد القرون الأربعة الأولى، فقد جاء قوم "اطمأنوا بالتقليد، ودب التقليد في صدورهم دبيب النمل، وهم لا يشعرون "(2) .
ولا شك أن هذا المنهج أورث جناية عظيمة على الإسلام وعلومه، حيث أغلق على العقول المستنيرة ذات المعرفة الواسعة باب الغوص في معاني النصوص الشرعية لتستخرج منها ما أودع الله عز وجل فيها من كنوز، فتبرز بذلك عظمة الإسلام، وتتصدى لحل كل معضلة، وكشف كل شبهة، وتتحرر من التبعية العمياء، كما أن العقول بسبب ذلك تصاب بالوأد، وتعجز عن الإبداع، ولذلك شنع كثير من أهل العلم على التقليد، إذا صدر ممن كان له ضرب من الاجتهاد، ولو في مسألة واحدة، وفيمن ظهر له ظهوراً بينا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكذا، أو نهى عن كذا، وأنه ليس بمنسوخ: إما بأن يتتبع الأحاديث وأقوال المخالف والموافق في المسألة، فلا يجد لها نسخاً، أو بأن يرى جماً غفيراً من المتبحرين في العلم يذهبون إليه، ويرى المخالف له لا يحتج إلا بقياس أو استنباط أو نحو ذلك، فحينئذ لا سبب لمخالفة حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلا نفاق خفي، أو حمق جلي، وهذا هو الذي أشار إليه الشيخ عز الدين بن عبد السلام، حيث قال:"ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه، بحيث لا يجد لضعفه مدفعاً، ومع هذا يقلده فيه، ويترك من الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبه، جموداً على تقليد إمامه، بل يتحلل لدفع ظواهر الكتاب والسنة، ويتأولهما بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالاً عن مقلده "(3)
وقال: "لم يزل الناس يسألون من اتفق من العلماء من غير تقييد بمذهب، ولا إنكار على أحد من السائلين، إلى أن ظهرت هذه المذاهب ومتعصبوها من المقلدين، فإن أحدهم يتبع إمامه مع بعد مذهبه عن الأدلة مقلداً له فيما قال، كأنه نبي أرسل، وهذا نأي عن الحق وبعد عن الصواب، لا يرضى به أحد من أولي الألباب "(4)
(1) حجة الله البالغة: 1 / 150.
(2)
حجة الله البالغة: 1 / 153.
(3)
قواعد الأحكام: 2 / 135.
(4)
قواعد الأحكام: 2 / 135.
وقال الإمام أبو شامة: "ينبغي لمن اشتغل بالفقه، أن لا يقتصر على مذهب إمام، ويعتقد في كل مسألة صحة ما كان أقرب إلى دلالة الكتاب والسنة المحكمة، وذلك سهل عليه إذا كان أتقن معظم العلوم المتقدمة، وليجتنب التعصب، والنظر في طرائق الخلاف المتأخرة، فإنها مضيعة للزمان، ولصفوه مكدرة ".
وقد تبين مما سبق الفرق بين منهج أهل الحديث، وأصحاب الرأي في استنباط الأحكام، ومدى الرجوع إلى الأدلة، وكان جميعهم في العصور الأولى، أهل ورع وتقوى وتحرٍّ للحق.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله: أن علماء أمة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم منحصرون في قسمين:
أحدهما: حفاظ الحديث، وجهابذته، والقادة الذين هم أئمة الأنام، وزوامل (1) الإسلام، الذين حفظوا على الأمة معاقد الدين ومعاقله، حموا من التغيير والتكدير موارده ومناهله.
الثاني: فقهاء الإسلام، ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام، الذين خصوا باستنباط الأحكام، وعنوا بضبط قواعد الحلال والحرام (2) .
وذكر ابن القيم (3) أيضاً اختلاف أئمة الفقه الأربعة من تقديم بعض الأدلة على بعض، فأما الإمام أحمد فيقدم – عند عدم النص، وعدم ثبوت شيء عن الصحابة – الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف، إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه - وهو الذي رجحه على القياس، وبين اصطلاح الإمام أحمد في الحديث الضعيف، وأنه عنده قسم الصحيح، وقسم من أقسام الحسن، إذ الحديث عنده ينقسم إلى صحيح وضعيف، وللضعيف عنده مراتب، فإذا لم يجد في الباب أثراً يدفعه ولا قول صاحب، ولا إجماع على خلافه، كان العمل به عنده أولى من القياس.
وأبو حنيفة يقدِّم الحديث الضعيف على القياس، بل قد قدم أحاديث متفقاً على ضعفها على القياس، كحديث القهقهة في الصلاة، والوضوء بنبيذ التمر، وحديث أكثر الحيضة عشرة أيام، وحديث لا مهر أقل من عشرة دراهم.
(1) الزوامل: جمع زاملة، والزاملة: التي يحمل عليها من الإبل وغيرها، انتهى من القاموس.
(2)
إعلام الموقعين: 1 / 8 – 9.
(3)
انظر إعلام الموقعين: 1 / 31 – 32 وهذا الذي ذكره الإمام ابن القيم في تقديم الأئمة بعض الأدلة على بعض ليس هو المنهج المطرد عندهم، بل هي مجرد أمثلة على الطرق التي سلكوها في ذلك، وقد فصل القول في ذلك بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي الشافعي، المتوفى عام 794هـ في كتابه (البحر المحيط) : 4 / 342 – 351 (فراجعه) .
كما قدم الشافعي أيضاً الحديث الضعيف على القياس، كتقديمه خبر تحريم صيد "وج "(1) وخبر جواز الصلاة بمكة في وقت النهي مع ضعفهما على القياس.
وقدم الإمام مالك الحديث المرسل، والمنقطع، والبلاغات، وقول الصحابي على القياس.
وهذا كله منهم اجتهاد في تقديم ما هو الأرجح عند عدم الدليل، وقد يكون لهم من ذلك مندوحة، وإن كانوا متفاوتين في الأخذ بالأولى من الأدلة الأخرى، غير أن الذي يعاب على قوم ممن اشتغلوا بالفقه الإسلامي، استنادهم إلى القياس الفاسد، أو الرأي المذموم، كما بالغ بعضهم في رد القياس على الإطلاق سواء أكان صحيحاً أو فاسداً، وكل ذلك مجانب للصواب، وقد أوفى الإمام ابن القيم – رحمه الله – المقام حقه، بما لا يزيد عليه، فذكر أولاً ما كان عليه الصحابة من الاجتهاد عند النوازل، سواء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ كاجتهادهم في فهم الأمر يوم الأحزاب أن يصلوا العصر في بني قريظة (2) ، واجتهاد علي رضي الله عنه في غلام اختصم في شأنه ثلاثة نفر، كل منهم يقول إنه ابنه، فأقرع علي رضي الله عنه بينهم، فجعل الولد للقارع، وجعل عليه للرجلين ثلثي الدية، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذة من قضاء علي رضي الله عنه (3) .
وكذلك اجتهاد سعد بن معاذ رضي الله عنه، في بني قريظة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:((لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات)) (4) . وكذلك اجتهاد الصحابيين الذين أدركتهما الصلاة في السفر ولا ماء معهما فتيمما وصليا، ثم وجدا الماء فأعاد أحدهما، ولم يعد الآخر فصوبهما صلى الله عليه وسلم، وقال للذي لم يعد:((أصبت السنة وأجزأتك صلاتك)) ، وقال للآخر:((لك الأجر مرتين)) (5) .
وذكر قصة مجزز المدلجي حين حكم بالقيافة على أن أقدام زيد وابنه أسامة بعضها من بعض (6) ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سر بذلك حتى برقت أسارير وجهه من صحة هذا القياس وموافقته للحق (7)
(1) روى الإمام أحمد في مسنده: 1 / 165، عن الزبير رضي الله عنه، قال: أقبلنا مع رسول الله صلى بالله عليه وسلم من ليلة، حتى إذا كنا عند السدرة، وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في طرف القرن الأسود حذوها، فاستقبل نخباً ببصره – يعني واديًّا – ووقف حتى اتفق الناس كلهم، ثم قال: إن صيد وج وعضاهه حرم محرم لله. وذلك قبل نزوله الطائف وحصاره ثقيف
…
انتهى. ورواه أبو داود في المناسك برقم (2032) .
(2)
رواه البخاري في المغازي، عن ابن عمر: 5 / 50؛ ومسلم في الجهاد، عن عبد الله بن مسعود برقم (1770) .
(3)
رواه أحمد: 4 / 373، عن زيد بن أرقم؛ وأبو داود عنه أيضاً، برقم (2269 – 2270) ؛ قال صاحب القاموس:"ووج: اسم واد بالطائف ". اهـ.
(4)
أبو داود برقم (338) ؛ والنسائي: 1 / 213؛ والدارمي: 1 / 190؛ والبيهقي: 1 / 231؛ والحاكم: 1 / 178؛ وصححه ووافقه الذهبي، واستوفى في طرقه الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير برقم (212) ، كلهم عن أبي سعيد الخدري.
(5)
البخاري، في المناقب: 4 / 213 ومسلم برقم (1459) ؛ وأبو داود برقم (2267) ؛ والترمذي برقم (2129) ؛ وأحمد: 6 / 86، 226.
(6)
انظر إعلام الموقعين: 1 / 222 – 223.
(7)
إعلام الموقعين: 1 / 87.
وهذا كله من الرأي المحمود، وقد قسمه الإمام ابن القيم إلى أربعة أقسام:
الأول: رأي الصحابة الذي قال عنه:
(النوع الأول) : رأي أفقه الأمة وأبر الأمة قلوباً، وأعمقهم علماً، وأقلهم تكلفاً، وأصحهم قصوداً، وأكملهم فطرة، وأتمهم إدراكاً، وأصفاهم أذهاناً، الذين شاهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل، وفهموا مقاصد الرسول.
(النوع الثاني) : الرأي الذي يفسر النصوص، ويبين وجه الدلالة منها، ويقررها ويوضح محاسنها، ويسهل طريق الاستنباط منها أن كما قال عبدان: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: ليكن الذي تعتمد عليه الأثر، وخذ من الرأي ما يفسر لك الحديث
…
وهذا هو الفهم الذي يختص الله سبحانه به من يشاء من عباده.
(النوع الثالث) : الذي تواطأت عليه الأمة، وتلقاه خلفهم عن سلفهم، فإن ما تواطؤوا عليه من الرأي لا يكون إلا صوابا. .ولهذا كان من سداد الرأي وإصابته، أن يكون شورى بين أهله، ولا ينفرد به واحد، وقد مدح الله سبحانه المؤمنين بكون أمرهم شورى بينهم. وكانت النازلة إذا نزلت بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – ليس فيها نص عن الله، ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم جمع لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جعلها شورى بينهم.
(النوع الرابع) أن يكون بعد طلب علم الواقعة من القرآن، فإن لم يجدها في القرآن ففي السنة، فإن لم يجدها في السنة؛ فبما قضى بها الخلفاء الراشدون أو اثنان منهم أو واحد، فإن لم يجده فما قاله واحد من الصحابة (1) رضي الله عنهم – فإن لم يجده اجتهد رأيه، ونظر إلى أقرب ذلك من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأقضية أصحابه، فهذا هو الرأي الذي سوغه الصحابة واستعملوه وأقر بعضهم بعضًا عليه (2) .
أما الرأي الباطل
…
فيقول فيه:
فالرأي الباطل أنواع:
- أحدها: الرأي المخالف للنص، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام فساده وبطلانه، ولا تحل الفتيا به، ولا القضاء، وإن وقع فيه من وقع بنوع تأويل وتقليد.
- النوع الثاني: الكلام في الدين بالخرص والظن، مع التفريط والتقصير في معرفة النصوص وفهمها واستنباط الأحكام منها، فإن من جهلها وقاس برأيه – فيما سئل عنه – بغير علم، بل لمجرد قدر جامع بين الشيئين ألحق أحدهما بالآخر
…
أو لمجرد قدر فارق يراه بينهما، يفرق بينهما في الحكم، من غير نظر إلى النصوص والآثار، فقد وقع في الرأي المذموم الباطل.
(1) الرجوع إلى قول الصحابي على الإطلاق، فيه نظر، فالخلاف فيه قائم بين أهل العلم، كيف وقد وقع الخلاف بين الصحابة رضي الله عنهم في جزئيات كثيرة.
(2)
إعلام الموقعين: 1 / 84 – 91 باختصار.
النوع الثالث: الرأي المتضمن تعطيل أسماء الرب وصفاته وأفعاله بالمقاييس الباطلة (1) .
- النوع الرابع: الرأي الذي أحدثت به البدع وغيرت به السنن، وعم به البلاء.
- النوع الخامس: ما ذكره أبو عمر بن عبد البر، عن جمهور أهل العلم:"إن الرأي المذموم في هذه الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه، والتابعين رضي الله عنهم: أنه القول في أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون، والاشتغال بحفظ المعضلات، والأغلوطات، ورد الفروع بعضها إلى بعض، قياساً، دون ردها على أصولها، والنظر في عللها واعتبارها ".
وقال في موطن آخر: فصل في تحريم الإفتاء في دين الله بالرأي المتضمن لمخالفة النصوص، والرأي الذي لا تشهد له النصوص بالقبول، قال الله تعالى:{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50]، فقسم الأمر إلى أمرين لا ثالث لهما:
- إما الاستجابة لله والرسول وما جاء به.
- وإما اتباع الهوى.
فكل ما لم يأتِ به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو من الهوى.
(1) إعلام الموقعين: 1 / 71- 72 باختصار.
فأمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله، وأعاد الفعل إعلامًا بأن طاعة الرسول تجب استقلالًا من غيرِ عرض ما أمر به على الكتاب 1 (1) ، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقاً، سواء كان ما أمر به في الكتاب، أو لم يكن فيه، فإنه أوتي الكتاب، ومثله معه ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالاً، بل حذف الفعل، وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، إيذاناً بأنهم إنما يطاعون تبعاً لطاعة الرسول، فمن أمر منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته، ومن أمر بخلاف ما جاء به الرسول، فلا سمع له ولا طاعة، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال:((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)) (2) .... وقال: ((إنما الطاعة في المعروف)) (3) " (4) .
وبعد هذا البيان لنوعي الرأي المحمود والمذموم، نود هنا أن نبين أن من عظمة الشريعة الإسلامية قدرتها على استيعاب كل قضية تجد في حياة الناس، ولما لم يوجد نص كل قضية، وإنما ترد إلى ما يماثلها، أو يؤخذ حكمها من قاعدة عامة، ونص محتمل، وغير ذلك فإننا نجد أهل العلم منذ عصر الصحابة حتى اليوم أعملوا الفكر في النصوص، واستنبطوا لكل قضية في شرع الله حكماً.
فالصحابة رضي الله عنهم مثلوا الوقائع بنظائرها، وشبهوها بأمثالها، وردوا بعضها إلى بعض في أحكامها، وفتحوا للعلماء باب الاجتهاد، ونهجوا لهم طريقه، وبينوا لهم سبيله (5) .
فالأخذ بالقياس – مثلاً – والانتفاع به مما فطر الله عليه عباده، ولهذا فهمت الأمة من قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] جميع وجوه الانتفاع من اللبس والركوب والمسكن وغيرها، وفهمت من قوله تعالى:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]
…
إرادة النهي عن جميع وجوه الأذى بالقول والفعل، وإن لم ترد نصوص أخرى بالنهي عن عموم الأذى، فلو بصق رجل في وجه والديه، وضربهما بالنعل، وقال: إني لم أقل لهما أف، تعده الناس في غاية السخافة والحماقة والجهل، من مجرد تفريقه بين التأفيف المنهي عنه، وبين هذا الفعل قبل أن يبلغه نهي غيره، ومنع هذا مكابرة للعقل والفهم والفطرة؛ فمن عرف مراد المتكلم بدليل من الأدلة، وجب اتباع مراده، والألفاظ لم تقصد لذواتها، وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم، فإذا ظهر مراده ووضح بأي طريقة كان؛ عمل بمقتضاه، سواء كان بإشارة أو كتابة أو إيماء
…
أو دلالة عقلية، أو قرينة حالية، أو عادة له مطردة لا يخل بها، أو من مقتضى كماله، وكمال أسمائه وصفاته، وأنه يمتنع منه إرادة ما هو معلوم الفساد، وترك إرادة ما هو متيقن مصلحته، أو يستدل على إرادته للنظير بإرادة نظيره ومثله وشبهه، وعلى كراهة الشيء بكراهة مثله ونظيره وشبهه، فيقطع العارف به، وبحكمته وأوصافه على أنه يريد هذا، ويكره هذا، ويحب هذا، ويبغض هذا (6) .
وهذا ضرب من استخراج الأحكام، واستنباطها من مظانها، وهو من شأن أهل العلم والمعرفة.
وقد مدح الله تعالى أهل الاستنباط في كتابه، وأخبر أنهم أهل العلم، ومعلوم أن الاستنباط إنما هو استنباط المعاني والعلل، ونسبة بعضها إلى بعض، فيعتبر ما يصح منها بصحة مثله ومشبهه ونظيره. . ويلغى ما لا يصح
…
هذا الذي يعقله الناس من الاستنباط.
(1) لأنه لا يأمر إلا بطاعة الله تعالى، ولأنه لا يصدر منه شيء يعارض ما في الكتاب.
(2)
رواه أحمد: 1/409 عن ابن مسعود رضي الله عنه.
(3)
رواه مسلم برقم (1840) عن علي رضي الله عنه.
(4)
إعلام الموقعين: 1/49.
(5)
إعلام الموقعين: 1 / 238.
(6)
إعلام الموقعين: 1 / 239 – 240.
قال الجوهري: الاستنباط كالاستخراج، ومعلوم أن ذلك قدر زائد على مجرد فهم اللفظ، فإن ذلك ليس طريقة الاستنباط، إذ موضوعات الألفاظ لا تنال بالاستنباط، وإنما تنال به العلل والمعاني، والأشباه والنظائر، ومقاصد المتكلم.
والله سبحانه ذم من سمع ظاهراً مجرداً فأشاعه وأفشاه، وحمد منْ استنبط من أولى العلم حقيقته ومعناه (1) .
وقد ردَّ الإمام ابن القيم رحمه الله على الذين زعموا بأن النصوص لا تحيط بأحكام الحوادث، حتى غلا بعضهم، وقال: ولا بعشر معاشرها، فقال: "ولعمر الله إن هذا مقدار النصوص في فهمه وعلمه ومعرفته، لا مقدارها في نفس الأمر، واحتج هذا القائل: بأن النصوص متناهية، وحوادث العباد غير متناهية، وإحاطة المتناهي بغير المتناهي ممتنع، قال: وهذا احتجاج فاسد جداً من وجوه:
- أحدها: إن ما لا تناهي أفراده لا يمتنع أن يجعل أنواعاً، فيحكم لكل نوع منها بحكم واحد .... فتدخل الأفراد التي لا تتناهى تحت ذلك النوع.
- الثاني: أن أنواع الأفعال، بل والأعراض كلها متناهية.
- الثالث: أنه لو قدر عدم تناهيها، فإن أفعال العباد الموجودة إلى يوم القيامة متناهية، وهذا كما تجعل الأقارب نوعين: نوعاً مباحاً وهو بنات العم والعمة، وبنات الخال والخالة، وما سوى ذلك حرام
…
وكذلك يجعل ما ينقض الوضوء محصوراً، وما سوى ذلك لا ينقضه، وكذلك ما فسد الصوم، وما يوجب الغسل، وما يوجب العدة، ما يمنع منه المحرم
…
وأمثال ذلك.
وإذا كان أرباب المذاهب يضبطون مذاهبهم ويحصرونها بجوامع تحيط بما يحل ويحرم عندهم مع قصور بيانهم، فالله ورسوله المبعوث بجوامع الكلم، أقدر على ذلك، فإنه صلى الله عليه وسلم يأتي بالكلمة الجامعة، وهي قاعدة عامة وقضية كلية، تجمع أنواعاً وأفراداً، وتدل دلالتين، دلالة طرد، ودلالة عكس " (2) . وضرب لذلك أمثلة من الكتاب والسنة.
(1) إعلام الموقعين: 1 / 248 – 249، ومراد المؤلف من العبارة الأخيرة، الإشارة إلى قوله تعالى:{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] .
(2)
إعلام الموقعين: 1 / 371 – 372.
وعندما يتجه المفتي إلى البحث عن الدليل عند حدوث نازلة، فإنه في هذه الحال إما أن يجد دليلاً من الكتاب والسنة أو أحدهما أولاً.
فإن وجد دليلاً: فهل هو منطوق أو مفهوم، وإذا كان منطوقاً هل هو نص أو ظاهر، وإذا كان مفهوماً: هل هو مفهوم موافقة، أو مفهوم مخالفة، وهل مفهوم الموافقة من قبيل فحوى الخطاب أو لحن الخطاب، (وهل دلالة المفهوم من قبيل دلالة الاقتضاء أو الإشارة، أو الإيماء والتنبيه)(1) .
وإذا كان مفهوم مخالفة، فمن أي أنواعه، وهل اللفظ مجمل أو مبين، وهل اللفظ عام، أو خاص، وهل هو مطلق، أو مقيد
…
؟
وهل مراد المتكلم باللفظ: الحقيقة الشرعية، أو العرفية أو اللغوية، أو المجاز، ثم هل الحكم الذي توصل إلى دليله منسوخ أو غير منسوخ؟
وإن لم يجد الدليل في الكتاب والسنة، فسيتجه بحثه حينئذ إلى ما يمكن أن يكون قد صدر في مثل هذه النازلة من فتوى: إما من الخلفاء الراشدين أو بعضهم، أو إجماع الصحابة، أو بعضهم، أو إجماع أهل العلم في زمن معين.
فإن لم يجد فإنه حينئذ يتجه إلى الاجتهاد، وذلك بأحد الطرق الآتية:
أ- أن يعين المراد من دليل ظني الدلالة، لاحتماله أكثر من معنى، دون تعسف، ولا تحميل باللفظ ما لا يحتمله.
ب- أن يرجح – عند التعارض – دليلاً على آخر، بوجه من وجوه الترجيح المعتبرة
…
وقد أوصل أبو بكر محمد بن حازم أوجه الترجيح إلى خمسين وجهاً، وذلك في صدر كتابه:(الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار) .
(1) جعلت هذه العبارة بين قوسين، للخلاف القائم بين الأصوليين، هل هي من قبيل المنطوق أو المفهوم؟
ج- أن يأخذ بالقياس الصحيح، وذلك بإلحاق مسكوت عنه بمنصوص عليه لتساويهما في علة الحكم.
الاجتهاد الجماعي:
وهنا يجدر بنا أن نشير إلى أهمية الاجتهاد الجماعي، خصوصاً في الأعصر المتأخرة، التي ندر فيها وجود العلماء المجتهدين، وكثرت فيها القضايا التي لم تكن معروفة في عصور سابقة، إلى جانب ما للاجتهاد الجماعي من أهمية بالغة في ندرة الخطأ، وكونه أقرب إلى إدراك الصواب، وإلى العصمة عن الخطأ.
فالاجتهاد الجماعي يحقق مبدأ الشورى الذي شرعه الله عز وجل لعباده، بل أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومارسه النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فالحق تبارك وتعالى يقول:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]، ويقول في وصف المؤمنين:{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] .
وأما في ممارسة النبي صلى الله عليه وسلم والأئمة بعده للشورى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم شاور أصحابه يوم أحد في المقام والخروج، وشاور علياً وأسامة رضي الله عنهما فيما رمي به أهل الإفك عائشة رضي الله عنها.
وكان الأئمة يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، وكان القراء أصحاب مشورة عمر كهولاً كانوا أو شباناً (1) .
ومن مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم، ما أخرجه الترمذي وحسنه، وصححه ابن حبان من حديث علي رضي الله عنه، قال: لما نزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} [المجادلة: 12]، قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ما ترى؟ دينار، قلت: لا يطيقونه، قال: فنصف دينار
…
؟ قلت: لا يطيقونه، قال: فكم؟ قلت: شعيرة، قال: إنك لزهيد
…
فنزلت: {أَأَشْفَقْتُمْ
…
} [المجادلة: 13]، قال: فبي خفف الله عن هذه الأمة (2) .
(1) رواه البخاري تعليقاً، في الاعتصام: 8 / 163؛ وقد ذكر الحافظ ابن حجر هذه الأمثلة التي أوردها الإمام البخاري وبين أنها وردت موصولة بطرق صحيحة، بعضها في البخاري وبعضها في غيره؛ الفتح: 13 / 340.
(2)
فتح الباري: 13 / 340؛ وقال الحافظ: ففي هذا الحديث المشاورة في بعض الأحكام.
ومما ورد في استشارة الأئمة بعد النبي صلى بالله عليه وسلم أخبار كثيرة، منها:
مشاورة أبي بكر رضي الله عنه في قتال أهل الردة، أخرج البيهقي بسند صحيح عن ميمون بن مهران، قال:"كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه أمر نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى بينهم، وإن علمه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به، وإن لم يعلم خرج فسأل المسلمين عن السنة، فإن أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم، واستشارهم، وإن عمر بن الخطاب كان يفعل ذلك "(1) .
وأورد الحافظ ابن حجر بعض الصور التي شاور فيها عمر رضي الله عنه، مثل:
إملاص (2) المرأة، وقتال الفرس، ومشاورته المهاجرين والأنصار، ثم قريشًا لما أرادوا دخول الشام وبلغه أن الطاعون وقع بها (3) .
وفي سنن البيهقي أيضًا عن ميمون بن مهران: "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يفعل ذلك، فإن أعياه أن يجد في القرآن والسنة، نظر هل كان لأبي بكر رضي الله عنه فيه قضاء، فإن وجد أبا بكر رضي الله عنه قد قضى فيه بقضاء قضى به، وإلا دعا رؤوس المسلمين، وعلماءهم واستشارهم، فإذا أجمعوا على الأمر قضى به "(4) .
وقال الحافظ ابن حجر أيضاً – عن أثر الشورى في سداد الرأي -:
أخرج البخاري في الأدب المفرد، وابن أبي حاتم بسند قوي عن الحسن، قال: ما تشاور قوم قط بينهم إلا هداهم الله لأفضل ما يحضرهم، وفي لفظ: إلا عزم الله لهم بالرشد أو بالذي ينفع (5) .
وفي تفسير قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]
…
أخرجه ابن أبي حاتم بسند حسن عن الحسن أيضاً، قال: قد علم أنه ما به إليهم حاجة، ولكن أراد أن يستن به من بعده (6) .
(1) السنن الكبرى: 10: 114.
(2)
الإملاص: إسقاط الولد
…
بسبب ضرب بطن أمه، والرواية في البخاري، في الاعتصام: 8 / 150 – 151.
(3)
فتح الباري: 13 / 342.
(4)
فتح الباري 10 / 115.
(5)
انظر الأدب المفرد برقم (258) .
(6)
فتح الباري: 13 / 340.
ومن هذه الأدلة، والسنن التي سار عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده ندرك أهمية الشورى، وبالأخص فيما يتعلق بالأحكام، ذلك أن احتمال الخطأ من الفرد، أقوى من احتماله من الجماعة، فالاجتماع والتشاور يفتح باب الحوار، ويجد كل فرد عند غيره من الأدلة والعلم والفهم والفقه والإدراك، وطريقة الاستنباط، ما لا يجده عند نفسه، وتتقارب الأفهام وتضيق هوة الخلاف، وتجعل الفتوى تخرج بصورة أقرب إلى الكمال، وأبعد عن الزلل، ويجد المرء في الشورى إنقاذاً لنفسه من التقول على الله ما لم يقل، ومن التوقيع عن الله عز وجل بما لم يأذن به، والمؤمن المنصف الباحث عن الحق، المتجرد عن الهوى والتعصب للرأي أو المذهب، يود لو أن الله عز وجل يجري الحق على لسان غيره، تجنباً لتحمل المسؤولية في هذا الشأن.
كما أن الفتوى الجماعية أكثر قبولاً عند عامة الناس، إذ يمنح ذلك نوعاً من الثقة والطمأنينة، وقد يكون ذلك من أسباب تقارب الآراء عند أهل العلم، ومفتاحاً لتوحيد التشريعات في الأمة الإسلامية
…
وبالتالي تكون سبيلاً إلى وحدة الأمة، إذ وحدة الفكر من أهم أسباب وحدة الأمة، والمرء يدرك ما الذي حصل عند اتباع المذاهب من القطيعة، والعصبية المقيتة التي ما تزال آثارها ملموسة إلى اليوم، والتي كانت من عوامل تمزيق الأمة، وغلبة الأهواء عند العامة.
ولضمان سلامة الاجتهاد من الزلل، وصونه من الفوضى في عصورنا المتأخرة، فإن الشيخ عبد الوهاب خلاف – رحمه الله – بالغ في منع الاجتهاد الفردي، وجعل حق الاجتهاد للجماعة فقط، إذا توافرت فيهم الأهلية، فقال:
"الذين لهم الاجتهاد بالرأي، هم الجماعة التشريعية الذين توافرت في كل واحد منهم المؤهلات الاجتهادية، التي قررها علماء الشرع الإسلامي، فلا يسوغ الاجتهاد بالرأي لفرد مهما أوتي من المواهب، واستكمل من المؤهلات، لأن التاريخ أثبت أن الفوضى التشريعية في الفقه الإسلامي، كان من أكبر أسبابها الاجتهاد الفردي، ولا يسوغ الاجتهاد بالرأي لجماعة إلا إذا توافرت في كل بفرد من أفرادها شرائط الاجتهاد، ومؤهلاته، ولا يسوغ الاجتهاد بالرأي لجماعة توافرت في كل فرد من أفرادها شرائط الاجتهاد ومؤهلاته إلا بالطرق والوسائل التي مهدها الشرع الإسلامي للاجتهاد بالرأي، والاستنباط فيما لا نص فيه ".
"فباجتهاد الجماعة التشريعية المتوافرة في أفرادها شرائط الاجتهاد، تنفي الفوضى التشريعية، وتشعب الاختلافات، وباستخدام الطرق والوسائل التي مهدها الشرع الإسلامي للاجتهاد بالرأي يؤمن الشطط، ويسار على سنن الشارع في تشريعه وتقنينه "(1) .
ومع أن الاجتهاد الجماعي – كما ذكرت سابقاً – له أهمية بالغة في تضييق دائرة الخطأ فيما يتوصل إليه أهله، وفي تقريب وجهات النظر بين أهل العلم، وأنه من أهم العوامل في جمع الكلمة والقضاء على مظاهر الخلاف المؤدي إلى التنازع والشقاق، إلا أنه يصعب الجزم بمنع الاجتهاد الفردي لمن توافرت فيه أهلية الاجتهاد، سواء في الجوانب العلمية أو في التحلي بالتقوى والورع، والسلامة من الأهواء والعصبية، مع القدرة على الاستنباط، وقد رد كثير من الأئمة على من ادَّعى استحالة الاجتهاد بعد الأئمة الذين دونت مذاهبهم، وانتشرت في الأمصار
…
منهم: الإمام محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني، في رسالته (إرشاد الناقد إلى تيسير الاجتهاد) .
فقد رد على القائلين بمنع الاجتهاد المطلق في العصور المتأخرة، ومما جاء فيه قوله: "قد علمت مما سقناه، أن الله – وله الحمد والمنة – قد قيض للمتأخرين أئمة من المتقدمين جمعوا لهم العلوم اللغوية والحديثية من الأفواه والصدور، وحفظوها في الأوراق والسطور، وذللوا لهم صعاب المعارف، وقادوها إلى كل ذكي عارف، ودونوا الأصول واللغة بأنواعها مع انتشارها واتساعها، وأدخلوا علوم الاجتهاد لأهلها من كل باب
…
تارة بإيجاز
…
وتارة بإسهاب وإطناب، وهذا الشيء لا شك فيه ولا ارتياب، ولا يجهله إلا من ليس من أولي الألباب، الذين نحوهم يساق هذا الخطاب ".
(1) مصادر التشريع الإسلامي، ص 13.
"وبعد هذا فالحق الذي ليس عليه غبار، الحكم بسهولة الاجتهاد في هذا الأعصار، وأنه أسهل منه في الأعصار الخالية، لمن له في الدين همة عالية، ورزقه الله فهما صافياً، وفكراً صحيحاً، ونباهة في علمي السنة والكتاب، فإن الأحاديث في الأعصار الخالية كانت مفرقة في صدور الرجال وعلوم اللغة في أفواه سكان البوادي ورؤوس الجبال، حتى جمعت متفرقاتها ونفقت ممزقاتها، حتى لا يحتاج طالب العلم في هذه الأعصار إلى الخروج من الوطن، وإلى شد الرحال والظعن، فيا عجباه حين تفضل الله بجمعها من الأغوار والأنجاد، وسهل سياقها للعباد، حتى أينعت رياضها، وأترعت حياضها، وأجريت عيونها، وتهدلت بثمارها غصونها، وفاض في ساحات تحقيقها معينها، واشتد عضدها وجل ساعدها، وكثر معينها. وتعذر الاجتهاد، ما هذا والله إلا من كفران النعمة وجحودها، والإخلاد إلى ضعف الهمة وركودها، إلا أنه لابد مع ذلك أولاً من غسل فكرته من أدران العصبية، وقطع مادة الوسواس المذهبية، وسؤال للفتح من الفتاح العليم، وتعرض لفضل الله، فإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم "(1) .
وللإمام محمد بن علي الشوكاني في كتابه (القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد) كلام مهم في الرد على مدعي إغلاق باب الاجتهاد، خلاصته:"إن القائلين بهذه المقالة، قد ادعوا أنه قد انقطع التفضل من الله سبحانه به على عباده، وأن من يتجارأ (2) على مثل هذه المقالة وحكم على الله سبحانه بمثل هذا الحكم المتضمن تعجيزه عن التفضل على عباده، بما أرشدهم إليه من تعلم العلم وتعليمه، لا يعجز عن التجرؤ على أن يحكم على عباده بالأحكام الباطلة، ويجازف في إيراده وإصداره، ويا لله العجب، ما قنع هؤلاء الجهلة بالتوكؤ بما هم عليه من بدعة التقليد؛ التي هي أم البدع، ورأس الشنع، حتى سدوا على أمة محمد صلى الله عليه وسلم باب معرفة الشريعة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه لا سبيل إلى ذلك ولا طريق حتى كأن الأفهام البشرية قد تغيرت، والعقول الإنسانية قد ذهبت، وكل هذا حرص منهم على أن تعم بدعة التقليد كل الأمة، وأن لا يرتفع عن طبقتهم السافلة أحد من عباد الله "(3) .
(1) مصادر التشريع الإسلامي، ص 36 – 37.
(2)
هكذا جاءت في (القول المفيد) ، ولم يذكر صاحب اللسان، ولا صاحب القاموس هذه الصيغة في ماضي (جرأ) .
(3)
ص 81 – 82.
مراعاة مقاصد الشريعة:
وإذا أقدم المفتي على الفتوى، فإنه يجب أن يراعي - عند عدم وجود الدليل – مقاصد الشريعة الإسلامية من جلب المصالح ودفع المفاسد، إذ الشريعة الإسلامية مبنية على هذا الأساس: أعني جلب المصلحة، ودفع المفسدة، ولزوم هذه المقاصد عبادة لله تعالى، وطاعة له، "والمفهوم من وضع الشارع أن الطاعة أو المعصية تعظم بحسب عظم المصلحة أو المفسدة الناشئة عنها "(1) ، إلا أن الأصل في العبارات بالنسبة إلى المكلف التعبد، دون الالتفات إلى المعاني، "فالركن الوثيق الذي ينبغي الالتجاء إليه الوقوف عندما حد دون التعدي إلى غيره "(2) ، وأما الأصل في العادات فالالتفات إلى المعاني
…
وقد أورد الإمام الشاطبي على ذلك أدلة، وهي قوله:
"أولها: الاستقراء، فإنا وجدنا الشارع قاصداً لمصالح العباد، والأحكام العبادية تدور معه حيثما دار، قال تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179]
…
وقال أيضاً: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] .
وفي الحديث: ((لا يقضي القاضي وهو غضبان)) (3) . وقال: ((لا ضرر ولا ضرار)) (4) .
الثاني: أن الشارع توسع في بيان العلل والحكم، في تشريع باب العادات
…
وأكثر ما علل فيها بالمناسب الذي إذا عرض على العقول تلقته بالقبول (5) ففهمنا من ذلك أن الشارع قصد فيها اتباع المعاني لا الوقوف مع النصوص.
الثالث: أن الالتفات إلى المعاني قد كان معلوماً في الفترات، واعتمد عليها العقلاء، حتى جرت بذلك مصالحهم، وأعملوا كلياتها على الجملة فاطردت لهم، ومن هنا أقرت الشريعة جملة من الأحكام التي جرت في الجاهلية: كالدية، والقسامة، والاجتماع يوم العروبة – وهي الجمعة – للوعظ والتذكير، والقراض (6) ، وكسوة الكعبة، وأشباه ذلك مما كان عند أهل الجاهلية محموداً، وما كان من محاسن العوائد، ومكارم الأخلاق التي تقبله العقول، وهي كثيرة " (7) .
(1) الموافقات: 2 / 298 – 299.
(2)
الموافقات: 2 / 303 – 304.
(3)
البخاري، الأحكام: 8 / 108 – 109 بلفظ: لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان؛ ومسلم برقم (1717) ؛ وأحمد: 5 / 36، 38؛ وأصحاب السنن عن أبي بكرة.
(4)
أحمد: 1 / 313؛ وابن ماجة برقم (2341) عن ابن عباس؛ والحاكم: 2 / 58؛ والبيهقي في السنن الكبرى: 1 / 69 – 70؛ والدارقطني: 3 / 77 عن أبي سعيد الخدري، وهو في صحيح الجامع الصغير برقم (7517) .
(5)
ويعرفه الأصوليون، بأنه: وصف ظاهر منضبط.
(6)
وهي المضاربة.
(7)
الموافقات: 2 / 305 – 307.
وعلى هذا فإن مراعاة جلب المصلحة، ودفع المفسدة، واجب عند إصدار الفتوى سيراً مع مقاصد الشريعة الإسلامية، وقد اعتنى أهل العلم بهذا الجانب عناية فائقة، فيما حرره أمثال: العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام، والقرافي في (الفروق) . والشاطبي في (الموافقات) وغيرهم، وأذكر هنا مثالاً حرره هؤلاء الأئمة في ذلك:
يقول الإمام العز بن عبد السلام في (قواعد الأحكام في مصالح الأنام)(1) :
"ومعظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروف بالعقل، وذلك في معظم الشرائع، إذ لا يخفى على عاقل قبل ورود الشرع، أن تحصيل المصلحة المحضة، ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان وعن غيره محمود حسن، وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن، وأن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن، وأن تقديم المصالح الراجحة على المفاسد المرجوحة محمود حسن، وأن درء المفاسد الراجحة على المصالح المرجوحة محمود حسن، واتفق العلماء على ذلك. . وكذلك الشرائع على تحريم الدماء، والأبضاع والأموال والأعراض، وعلى تحصيل الأفضل فالأفضل من الأقوال والأعمال ".
"واعلم أن تقديم الأصلح فالأصلح، ودرء الأفسد فالأفسد، مركوز في طبائع العباد نظراً لهم من رب الأرباب ".
"وأما مصالح الآخرة ومفاسدها، فلا تعرف إلا بالنقل، ومصالح الدارين ومفاسدهما في رتب متفاوتة، فمنها ما هو في أعلاها، ومنها ما هو في أدناها، ومنها ما يتوسط بينهما، وهو ينقسم إلى متفق عليه، ومختلف فيه: فكل مأمور به، ففيه مصلحة الدارين أو إحداهما، وكل منهي عنه، ففيه مفسدة الدارين أو إحداهما ".
"ومعظم مقاصد القرآن، الأمر باكتساب المصالح وأسبابها، والزجر عن اكتساب المفاسد وأسبابها ".
: والمصالح ثلاثة أنواع: أحدها: مصالح المباحات: الثاني: مصالح المندوبات
…
الثالث: مصالح الواجبات ".
(1) 1 / 4 – 7
"والمفاسد نوعان: أحدهما: مفاسد المكروهات. الثاني: مفاسد المحرمات ".
ولا يقف الحد عند هذا في جلب المصالح، ودفع المفاسد، بل قد تقتضي الضرورات تحمل بعض المفاسد لدفع مفاسد أكبر، أو الحفاظ على بعض المصالح مخافة فوات جميعها، وفي ذلك يقول العز بن عبد السلام أيضاً (1) :
"قاعدة في تعذر العدالة في الولايات: إذا تعذرت العدالة في الولايات العامة، والخاصة، بحيث لا يوجد عدل، ولّينا أقلهم فسوقاً، وله أمثلة ".
"أحدها: إذا تعذر في الأئمة فيقدم أقلهم فسوقاً عند الإمكان، فإذا كان الأقل فسوقاً يفرط في عُشر المصالح العامة مثلاً، وغيره يفرط في خمسها، لم تجز تولية من يفرط في الخمس، فما زاد عليه، ويجوز تولية من يفرط في العشر، وإنما جوزنا ذلك لأن حفظ تسعة الأعشار بتضييع العشر أصلح للأيتام، ولأهل الإسلام من تضييع الجميع، ومن تضييع الخمس أيضاً، فيكون هذا من باب، دفع أشد المفسدتين بأخفهما
…
ولو استولى الكفار على إقليم عظيم، فولوا القضاء لمن يقوم بمصالح المسلمين العامة، فالذي يظهر إنفاذ ذلك كله، جلباً للمصالح العامة ودفعاً للمفاسد الشاملة، إذ يبعد عن رحمة الشارع ورعايته لمصالح عباده تعطيل المصالح العامة، وتحمل المفاسد الشاملة، لفوات الكمال فيمن يتعاطى توليتها لمن هو أهل لها، وفي ذلك احتمال بعيد "
"المثال الثاني: الحكام إذا تفاوتوا في الفسوق، قدمنا أقلهم فسوقاً، لأنا لو قدمنا غيره لفات من المصالح ما لنا من المصالح ما لنا عنه مندوحة، ولا يجوز تفويت مصالح الإسلام إلا عند تعذر القيام بها، ولو لم يجز هذا وأمثاله لضاعت أموال الأيتام كلها، وأموال المصالح بأسرها، وقد قال الله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] .
"المثال الثالث: إذا تعذرت العدالة في ولاية الأيتام فيختص بها أقلهم فسوقاً فأقلهم، لأن حفظ البعض أولى من تضييع الكل، فإذا كان مال اليتيم ألفاً، وأقلهم فسوقاً يخون في مائة من الألف، ويحفظ الباقي، لم يجز أن يدفع إلى من يخون في مائتين فما زاد عليها ".
"المثال الرابع: فوات العدالة في المؤذنين، والأئمة، يقدم فيها الفاسق على الأفسق، تحصيلاً للمصالح على حسب الإمكان ".
"المثال الخامس: إذا تفاوتت رتب الفسوق في حق الأئمة، قدمنا أقلهم فسوقاً، مثل إن كان فسق أحد الأئمة بقتل النفوس، وفسق الآخر بانتهاك حرمة الأبضاع، وفسق الآخر بالتعرض للأموال، قدمنا المتعرض للأموال على المتعرض للدماء والأبضاع، فإن تعذر تقديمه، قدمنا المتعرض للأبضاع على من يتعرض للدماء، وكذلك يترتب التقديم على الكبير من الذنوب والأكبر، والصغير منها والأصغر
…
على اختلاف رتبها ".
(1) قواعد الأحكام: 1 / 73.
فإن قيل: أيجوز القتال مع أحدهما لإقامة ولايته، وإدامة تصرفه، مع إعانته على معصيته؟ قلنا: "نعم دفعاً لما بين مفسدتي الفسوقين من التفاوت ودرءا للأفسد فالأفسد، وفي هذا وقفة وإشكال. . من جهة أنا نعين الظالم على فساد الأموال دفعاً لمفسدة الأبضاع، وهي معصية، وكذلك نعين الآخر على إفساد الأبضاع دفعاً لمفسدة الدماء، وهي معصية
…
ولكن قد تجوز الإعانة على المعصية، لا لكونها معصية، بل لكونها وسيلة إلى تحصيل المصلحة الراجحة، وكذلك إذا حصل بالإعانة مصلحة تربي على مصلحة تفويت المفسدة، كما تبذل الأموال في فدي (الأسرى) الأحرار المسلمين من أيدي الكفرة والفجرة ".
ثم قال عقب هذه الأمثلة -: "ومبنى هذه المسائل كلها على الضرورات ومسيس الحاجات، وقد يجوز في حال الاضطرار ما لا يجوز في حال الاختيار "اهـ.
وعند مراعاة المصلحة لابد من مراعاة الأمور الآتية:
"أولاً: أن يثبت البحث وإمعان النظر أنها مصلحة حقيقية لا وهمية، أي أن بناء الحكم عليها يجلب نفعاً أو يدفع ضرراً، لأنها بهذا تكون مصلحة متفقة – في الجملة – والمصالح التي قصدها الشارع.
وأما مجرد توهم المصلحة من غير بحث دقيق، ولا استقراء شامل، ومن غير موازنة بين وجوه النفع، ووجه الضرر، فهذه مصلحة وهمية لا يسوغ بناء التشريع عليها " (1) .
وليس المراد بالمصلحة هنا: مطلق المصلحة، لأن المصالح والمفاسد، لا تتمخض في الدنيا، ولكن المراد أن تكون المصلحة هي الغالبة، يقول الإمام أبو إسحاق الشاطبي: "المصالح المبثوثة – في هذه الدار – ينظر فيها من جهتين: من جهة مواقع الوجود، ومن جهة تعلق الخطاب الشرعي بها.
"فأما النظر الأول: فإن المصالح الدنيوية – من حيث هي موجودة هنا – لا يتخلص كونها مصالح محضة، وأعني بالمصالح ما لا يرجع إلى قيام حياة الإنسان، وتمام عيشه، ونيله ما تقتضيه أوصافه الشهوانية والعقلية على الإطلاق، حتى يكون منعماً على الإطلاق، وهذا في مجرد الاعتبار لا يكون لأن تلك المصالح مشوبة بتكاليف ومشاق، قلت أو كثرت، تقترن بها، أو تسبقها أو تلحقها؛ كالأكل والشرب واللبس والسكن، والركوب والنكاح، وغير ذلك، فإن هذه الأمور لا تنال إلا بكد وتعب، كما أن المفاسد الدنيوية، ليست بمفاسد محضة – من حيث مواقع الوجود – إذ ما من مفسدة – تفرض في العادة الجارية – إلا ويقترن بها، أو يسبقها، أو يتبعها من الرفق واللطف، ونيل اللذات كثير ".
(1) مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه، عبد الوهاب خلاف، ص 99-100.
"ويدل على ذلك ما هو الأصل: وذلك أن هذه الدار وضعت على الامتزاج بين الطرفين والاختلاط بين القبيلين، فمن رام استخلاص جهة فيها لم يقدر على ذلك، وبرهانه التجربة التامة من جميع الخلائق، وأصل ذلك، الإخبار بوضعها على الابتلاء والاختبار والتمحيص. قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] ، {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] ، وما في هذا المعنى، وقد جاء في الحدث: ((حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات)) (1) ، فلهذا لم يخلص لأحد جهة خالية من شركة الجهة الأخرى ".
"فإذا كان كذلك فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا، إنما تفهم على مقتضى ما غلب؛ فإذا كان الغالب جهة المصلحة، فهي المصلحة المفهومة عرفاً، وإذا غلبت الجهة الأخرى فهي المفسدة المفهومة عرفاً، ولذلك كان الفعل ذو الوجهين منسوباً إلى الجهة الراجحة، فإن رجحت المصلحة فمطلوب
…
ويقال فيه: إنه مصلحة، وإذا غلبت جهة المفسدة فمهروب عنه، ويقال: إنه مفسدة، على ما جرت به العادات في مثله ".
"وأما النظر الثاني فيها – من حيث تعلق الخطاب بها شرعاً -: فالمصلحة إذا كانت هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة، في حكم الاعتياد، فهي المقصودة شرعاً، وتحصيلها وقع الطلب على العباد ليجري قانونها على أقوم طريق؛ وأهدى سبيل، ولكون حصولها أتم وأقرب، وأولى بنيل المقصود، على مقتضى العادات الجارية في الدنيا؛ فإن تبعها مفسدة أو مشقة، فليست بمقصودة في شرعية ذلك الفعل وطلبه ".
"وكذلك المفسدة، إذا كانت هي الغالبة بالنظر إلى المصلحة في حكم الاعتياد، فرفعها هو المقصود شرعاً، ولأجله وقع النهي، ليكون رفعها على أتم وجوه الإمكان العادي في مثلها، حسبما يشهد له كل عقل سليم، فإن تبعتها مصلحة أو لذة، فليست هي المقصودة بالنهي عن ذلك الفعل، بل المقصود ما غلب في المحل، وما سوى ذلك ملغي في مقتضى النهي، كما كانت جهة المفسدة ملغاة في جهة الأمر "(2) . اهـ.
وعندما تعارض المصالح، يقدم الأهم منها، فلا ينظر إلى مصلحة تفوت مصلحة أهم منها، فإذا تعارضت مصلحتان في مناط واحد، تعارضا كليا، بحيث كان لا بد لنيل إحداهما من تفويت الأخرى، قدم الإبقاء على الأهم منهما، وتفويت الأخرى، فإذا تعارض ما به حفظ الدين على ما به حفظ النفس، قدم ما به حفظ الدين، ولذلك شرع الجهاد ـ وفيه إزهاق الأنفس – من أجل الحفاظ على الدين، وإذا تعارض ما به حفظ النفس على ما به حفظ العقل، قدم ما به حفظ النفس. . وهكذا، كما يقدم حفظ الضروريات على الحاجيات، والحاجيات على التحسينات، عند التعارض.
(1) مسلم عن أنس برقم (2822) .
(2)
الموافقات: 2 / 25 –27.
"والأمر الثانى: أن تكون هذه المصلحة الحقيقية عامة، أى ليست مصلحة شخصية، أى أن بناء الحكم عليها يجلب نفعا لأكثر الناس، أو يدفع ضررا عن أكثرهم، وأما المصلحة التي هي نفع لأمير أو عظيم أو أي فرد بصرف النظر عن أكثر الناس، فلا يصبح بناء التشريع عليها، لأنها إذا كانت عامة كانت مقصودة للشارع، ولو كان فيها مضرة لفرد أو أفراد "(1) .
والمراد أن الشارع جاء لمراعاة المصالح العامة التي تندرج تحتها المصالح الخاصة، فإذا روعيت المصلحة الخاصة، دون مراعاة للمصلحة العامة، فهذا مخالف لمقاصد الشرع، إذ الشارع يراعي المصالح العامة، وإن ترتب عليها مفسدة للفرد، فالضرر الخاص يتحمل دفعاً للضرر العام، ولهذا إذا تعارضت المصلحة العامة مع المصلحة الخاصة قدمت المصلحة العامة.
فمثلاً: أوجب الشارع قطع يد السارق، وفي ذلك مفسدة للمحدود، ولكن الشارع راعى هنا مصلحة الجماعة من حيث حفظ الأموال، وهكذا يقال في سائر إقامة الحدود كالحد على الزاني والقاذف وغيرهما
…
"الأمر الثالث: أن تكون هذه المصلحة الحقيقية العامة، لا تعارض نصاً ولا إجماعاً "(2) .
ذلك أن المصالح الشرعية إنما عرفت بالرجوع إلى الأحكام الشرعية المستنبطة من الأدلة التفصيلية الواردة في الكتاب والسنة، فإذا جاءت المصلحة معارضة للدليل الشرعي، فإذن ذلك يستلزم معارضة المدلول لدليله، وهو باطل، وقد أوجب الله عز وجل التمسك بما جاء في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك في مثل قوله تعالى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49] .
{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]
{وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] .
{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]
فالمصلحة الحقيقية هي المدلول عليها بالنص، كالتي يدل عليها مثل قوله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]
…
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] .
وأيما مصلحة تخالف دلالة مثل هذه النصوص، فهي متوهمة، فدلالة المصلحة على الحكم دلالة ظنية، ودلالة النص قطعية، والظني لا يعارض القطعي.
(1) مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه، عبد الوهاب خلاف، ص 100.
(2)
مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه، عبد الوهاب خلاف، ص 100.
وقد ظهر من ينادي بتقديم المصلحة مطلقاً حتى على النص والإجماع عند معارضتها لهما، وقد تولى أهل العلم الرد على مزاعمه، وبيان تهافتها وبطلانها، ويحسن هنا أن أنقل نص عبارة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه (ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية) في الرد على الطوفي (1) الذي كان أول من ينادي بذلك، حيث يقول: "فهذا الإجماع الذي بدأ منذ عصر الصحابة، لم يزل ساري المفعول لدى مختلف طبقات الأئمة والعلماء على اختلاف آرائهم واجتهاداتهم، إلى أوائل النصف الثاني من القرن السابع الهجري، حيث ظهر في هذه الفترة رجل من علماء الحنابلة اسمه سليمان بن عبد القوي الطوفي
…
وما لبث أن نادى في بعض مؤلفاته بضرورة تقديم المصلحة مطلقاً على النص والإجماع عند معارضتها لهما.
فقد ألف كتاباً في شرح الأربعين حديثاً، وأفاض في الكلام عند شرحه لحديث ((لا ضرر ولا ضرار)) وبعد أن بين فيه أن يقتضي رعاية المصالح إثباتاً، والمفاسد نفياً، وجعل أدلة الشرع في حسابه تسعة عشر دليلاً، قال ما نصه:
"وهذه الأدلة التسعة عشرة أقواها النص والإجماع، ثم هما إما أن يوافقا رعاية المصلحة أو يخالفاها، فإن وافقاها فبها ونعمت ولا نزاع، وإن خالفاها وجب تقديم رعاية المصلحة عليهما بطريق التخصيص والبيان لهما، لا بطريق الافتئات عليهما والتعطيل لهما ".
وعمدة دليله على كلامه هذا، اعتباره المصلحة دليلاً أقوى من كل من النص والإجماع، فهو يقول: إن رعاية المصلحة أقوى من الإجماع، ويلزم من ذلك أنها أقوى أدلة الشرع، لأن الأقوى من الأقوى أقوى.
وجعل عمدة دليله على أن المصلحة مقدمة في الرعاية على النص والإجماع أمرين:
أحدهما: أن منكري الإجماع قالوا برعاية المصالح، فهي إذًا محل وفاق، والإجماع محل خلاف، والتمسك بما اتفق عليه أولى من التمسك بما اختلف فيه.
ثانيهما: أن النصوص مختلفة متعارضة، فهي سبب الخلاف في الأحكام المذمومة شرعاً، ورعاية المصالح أمر حقيقي في نفسه لا يختلف فيه، فهو سبب الاتفاق المطلوب شرعاً، فكان اتباعه أولى.
مناقشة هذه الأوهام وردها:
وقبل أن نرد على ما تخيله من أدلة لزعمه هذا، ينبغي أن نشير للقارئ إلى ما وقع فيه هذا الرجل من تناقض عجيب، وهو يقرر أدلته هذه.
(1) قال ابن العماد في شذرات الذهب: 6 / 39 – 40: نجم الدين أبو الربيع سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم بن سعيد الطوفي الصرصري، ثم البغدادي الحنبلي الأصولي المتفنن، ولد سنة بضع وسبعين وستمائة، بقرية طوفا من أعمال صرر، ثم ذكر حياته العلمية ومؤلفاته، وأعقب ذلك بقوله وكان مع ذلك كله شيعيا منحرفاً في الاعتقاد عن السنة .... حتى أنه قال عن نفسه: أشعري حنبلي رافضي، هذه إحدى العبر، ووجد له في الرفض قصائد، ويلوح به في كثير من تصانيفه، حتى أنه صنف كتاباً سماه: العذاب الواصب على أرواح النواصب
…
قال تاج الدين أحمد بن مكتوم: اشتهر عنه الرفض والوقوع، في أبي بكر رضي الله عنه، وابنته عائشة رضي الله عنها، وفي غيرهما فمن جلَّة الصحابة. اهـ. مات سنة 716 هـ.
فلقد بدأ فساق كل الأدلة الشرعية التي قيل بها والتي أحصاها في تسعة عشر دليلاً، سواء منها ما كان متفقاً عليه، وما كان مختلفاً فيه، وذكر منهم المصالح المرسلة، ثم اعترف بأن النص والإجماع هما أقوى هذه الأدلة كلها، ولكنه مع ذلك عاد فقال في معرض استدلاله على وجوب تقديم المصلحة عليهما: إن رعاية المصلحة مقدمة على الإجماع، وإذًا فهي أقوى أدلة الشرع كلها، أفيكون تناقض أبلغ من هذا وأوضح؟ !
وأيضاً فقد ذكر عن تحليل لفظ حديث ((لا ضرر ولا ضرار)) . . . ما نصه: "ثم المعنى لا لحقوق ضرر شرعاً إلا بموجب خاص مخصص ".
"وعاد فأكد هذا الكلام بعد ذلك، فقال: إن النص والإجماع إما أن لا يقتضيا ضرراً ولا مفسدة بالكلية، أو يقتضيا ذلك، فإن لم يقتضيا شيئاً من ذلك فهما موافقان لرعاية المصلحة، وإن اقتضيا ضرراً فإما أن يكون الضرر مجموع مدلوليهما أو بعضه، فإن كان مجموع مدلوليهما، فلا بد أن يكون من قبيل ما استثنى من قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا ضرر ولا ضرار)) (1) ، وذلك كالحدود والعقوبات على الجنايات، وإن كان الضرر بعض مدلوليهما، فإن اقتضاه دليل خاص اتبع الدليل، وإن لم يقتضه دليل خاص وجب تخصيصهما بقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا ضرر ولا ضرار)) جمعاً بين الأدلة ".
"فماذا عسى أن يكون الموجب الخاص المخصص في كلامه الأول، أو الدليل الخاص المقتضى للضرر في كلامه الثاني غير نص الكتاب أو السنة أو الإجماع المترتب على أحدهما "؟
"وما دام كذلك فكيف تكون المصلحة مع ذلك أقوى اعتباراً من النص والإجماع"؟
"إما أن المصلحة أقوى اعتباراً من النص والإجماع كما يقول، فلا معنى إذًا لتحكم أحدهما في استثناء بعض صور المصالح عن الاعتبار، سواء كان الضرر كل مدلوله أو بعض مدلوله، وسواء أكد هذا البعض دليل خاص آخر أم لا، لا فرق بين كل هذه التنويعات المتكلفة ما دام أصل دلالتها آتياً من النص أو الإجماع، وما دامت المصلحة في ذاتها أقوى منهما في ذاتهما ".
"وإما أن النص والإجماع أقوى اعتبارا من محض ما يسمى مصلحة، وعلى ذلك يأتي الموجب الخاص فيخصص عموم حديث ((لا ضرر ولا ضرار)) كما قال: فما معنى التفريق إذا بين نص كان الضرر كل مدلوله، ونص آخر كان الضرر بعض مدلوله، ما دام الدال على كلٍّ نصًّا، وما دام النص أقوى من المصلحة المتوهمة؟ وما معنى القول بترجيح هذا المتوهم على النصوص والإجماع ....؟
"فهاتان الصورتان من التناقض الصارخ في كلامه، كافيان لإسبال حجاب الإهمال على مجموع أدلته وبراهينه التي ساقها على دعواه ".
ومع ذلك فللنناقش أدلته، وإن كانت واضحة البطلان خشية أن يفتن بها الذين يلتمسوا السبيل في هذه الأيام إلى مثل دعواه.
"فنقول أولاً: إن الأساس الذي بنى عليه زعمه هذا، أساس محال غير متصور الوقوع، ألا وهو فرض كون المصلحة مخالفة للنص أو الإجماع ".
(1) تقدم تخريجه، ص 317.
"والعجيب أنه هو بنفسه مهد لبيان كونه محالاً دون أن يشعر
…
إذ أنه ساق البراهين على أن كتاب الله إنما جاء متضمناً لمصالح الخلق، واستخرجها واحدة بعد أخرى من قوله عز وجل:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57] .
"وبدهي أن كتاب الله تعالى إنما يكون متضمناً للرحمة بالعباد والرعاية لمصالحهم، إذا كانت نصوص متفقة مع هذه المصالح، وإذًا فمن المحال أن نجد آية فيه تدعو إلى ما يخالف المصلحة الحقيقية، والذي يتراءى من ذلك لأول وهلة، إنما هو بتأثير الشهوات والأهواء وقصور معظم العقول عن إدراك كنه المصالح الحقيقية، ومن ثم فمن العبث الشنيع أن يفكر الإنسان بالمخرج والحل عن ذلك ".
"وإذا تصورنا المحال وفرضنا أن نجد في نصوص الكتاب – والسنة – مثله – ما يخالف المصلحة، فقد سقط إذًا البرهان الذي بنى عليه الطوفي دعواه من أن الشريعة لم تأتِ إلا لرعاية مصالح العباد، إذ تصبح النصوص – على هذا الفرض – أعم من أن تلتزم بمقتضى المصالح، وبذلك يغدو ميزان المصالح، قاصراً على درك أحكام الشريعة ".
"فالنتيجة، أن ما فرضه الطوفي من إمكان مخالفة المصالح للنص أو الإجماع، إما أن يكون فرضاً ممكناً أو محالاً، وهو في كلا الحالتين دليل واضح على عكس دعواه ".
قد يقول قائل: "ولكن الطوفي إذ يقدم المصلحة على النص أو الإجماع، يحاول أن يسلك إلى ذلك طريق التخصيص لأحدهما لا هدره وإلغاءه
…
كما قد يتوهم ذلك أي فالنص يكون مراعيا لتلك المصلحة في الحقيقة لا معارضاً لها ".
فالجواب: "إما أن يتخصص الإجماع بمخصص من مصلحة أو غيرها. . فهذا ما لم يسمع ولم يقل به أحد؛ إذ الإجماع بعد ثبوته دليل قطعي من كل نواحيه، فمن أين ينفذ التخصيص إليه
…
؟ وإما أن يتخصص النص بالمصلحة "أي بما يقال إنه مصلحة "فهذا أيضاً ما لا يمكن أن يتصور، وإلا لانهار الفرق – على جلائه – بين التخصيص والنسخ، ولأمكن لأي يد أن تشطب على جملة شريعة الله بدعوى التخصيص".
"ومعلوم أن من أبرز مظاهر الفرق بين التخصيص والنسخ، أن التخصيص إخراج جزء من المدلول لم يكن المتكلم قد أراد بلفظه الدلالة عليه، على حين أن النسخ إبطال ما أراده المتكلم، وأن التخصيص إخراج جزء فقط من المخصص على حين أن النسخ يمكن أن يكون إبطالاً للكل ".
"والطوفي إنما يدعو إلى تقديم المصلحة على جملة مدلول النص عند معارضتهما، فكيف ينطبق معنى التخصيص على ذلك؟ وعلى فرض أن المصلحة عارضت جزءاً من مدلول النص، فمن أين له أنها مصلحة حقيقية وأن الشارع لم يرد بالنص الدلالة على الحكم المخالف لها؟ وماذا يقول في قرون متطاولة من قبله أخذ أهلها – مثلاً – بكل مدلوله، ولم يفهموا إلا أن المصلحة هي ما تضمنته جملته؟ ثم إن الرعيل الأول من المسلمين، وهم الصحابة والتابعون رضوان الله عليهم، لم يتركوا لبساً في مدلولات النصوص القابلة للتخصيص – بما وصل إلينا من أفعالهم وعلومهم وأقوالهم – فما سكتوا عن تخصيصه، وعبدوا الله بالتمسك بمجموع دلالته، فهو غير قابل للتخصيص بعد ذلك، وإلا للزم من ذلك جهل الصحابة بمدلولات النصوص والقدر المراد منها، أو نسخ ما ثبت حكمه واستقرت على الناس تبعته، ونعوذ بالله من الوقوع في أي الضلالين ".
"ثانيا: إن اعتبار المصلحة أقوى من الإجماع والنص، فرع لاعتبارها مستقلا عنهما، كما هو واضح، وقد ذكرنا في تمهيد هذا الباب: أن رعاية المصلحة مجردة ليست في حقيقتها دليلا مستقلا عن النص حتى يمكن اعتبارها قسيما له، وإنما هي معنى كلي استخلص من تتبع جزئيات الأحكام القائمة في أساسها على النصوص، والكلي لا يوجد إلا في جزئياته – كما هو معروف – وإلا لم يكن كليًّا لها، ولذا فقد كان لا بد لاعتبار حقيقة المصلحة في أمر ما من أن يدعمه دليل من الأدلة الشرعية التفصيلية القائمة في أساسها على النصوص أو أن لا يوجد ما يخالفها من ذلك على الأقل ".
"فكيف يصح بعد ذلك أن تكون المصلحة قسيما، بل وندا للنص والإجماع يشطب بها عليهما حيثما قضى بذلك الوهم والخيال "..؟
"ثالثا: وفي استدلال الطوفي على كون المصلحة أقوى من الإجماع، أبرز صورة للمغالطة التي تشبه أن تكون مقصودة، إذ هي من الوضوح بحيث لا يجهلها من مارس كتب العلم والاطلاع عليها مهما قلَّت بضاعته منها ".
فقد استدل على كونها أقوى من الإجماع بقوله: "إن منكرى الإجماع قالوا؛ برعاية المصالح، فهى إذا محل وفاق. . والإجماع محل خلاف.
"فإذا كان يريد بذلك، أن منكري الإجماع قالوا كغيرهم بأن نصوص الشريعة قائمة على أساس المصالح، فهذا صحيح، ولكن ما علاقة هذا بدعواه؟ وهل يلزم من الاتفاق على كون الشريعة قائمة على أساس المصالح. . الاتفاق على تقديم ما توهم أنه مصلحة على الإجماع أو النصوص"؟
"إن من الوضوح بمكان أن إجماعهم الذي يشير إليه يدعوهم إلى الحذر من الوقوع في هذا الضلال، فضلا عن أن يتفقوا على الوقوع فيه ".
"وإذا كان يريد بذلك أن منكري الإجماع، قالوا بمثل رأيه في شأن المصالح، فهذا كذب وافتراء، وما من أحد من المسلمين قبله خطر له أن يقول بمثل ما أتى به؛ سواء منهم جماهيرهم القائلون بالإجماع، والقلة الذين لم يقولوا به ".
"ثم تأمل كيف نسي نفسه، وهو يقلل من أهمية الإجماع في جنب المصلحة المجردة، فراح يستدل على ذلك نفسه بالإجماع. .! فأصبح معنى كلامه: الإجماع أضعف من رعاية المصلحة، لأن رعاية المصلحة مجمع عليها، والإجماع غير مجمع عليه..!! وهل يقول هذا الكلام عاقل ". .؟
"رابعا: وفي استدلاله على كون المصلحة مقدمة على النص، مغالطة أكبر وأشنع. . إذ استدل على ذلك، كما ذكرنا، بأن النصوص مختلفة متعارضة، ورعاية المصالح أمر حقيقي في نفسه لا يختلف. .
فكيف تكون نصوص الشريعة مختلفة متعارضة، وهي آتية من عند الله عز وجل "؟
"ولو كانت مختلفة متعارضة كما يقول، لكان ذلك أكبر دليل على أنها من عند غيره سبحانه وتعالى، ولذا نبَّه الله عباده إلى أن تناسق القرآن وتوافق نصوصه وآياته، أكبر دليل على أنه من عند الله عز وجل "(1) .
(1) يشير بذلك إلى قوله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، وقوله:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1] ، وغيرهما
"ولقد استدل الطوفي على هذا الزعم العجيب بالخلاف الذي وقع بين الأئمة والفقهاء بسبب النصوص، ولست أدري كيف يتصور عاقل من الناس ضرورة الصلة بين هذا الدليل وذلك الزعم، فالخلاف الذي وقع بين الأئمة في الفروع، إنما هو خلاف في فهم النصوص والوصول إلى حقيقة مدلولاتها، لتفاوت الأفهام فيما بينهم، لا خلاف بين النصوص في ذاتها؛ وهذا الخلاف أمر متصور الوقوع في الاجتهاد، ومعلوم أن اختلاف المذاهب في الاجتهاد لا يعني بحال اختلاف النصوص في مدلولاتها، ولكنه يعني أن واحدا غير معين، قد وافق الحقيقة وأخطأها الآخرون، وقد رفعت الشريعة عنهم تبعة هذا الخطأ على لسان النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال:((إذا اجتهد المجتهد فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد)) (1) .
"ذلك أن الله لم يلزم أهل العلم بأكثر من بذل الجهد للوقوف على ما اشتبه عليهم من الأحكام، وهو في ذاته نوع من العبادة، تعبدهم الله به لحكمه. . . . ".
"وإذا تأملت في كلامه، وجدت أنه إنما يقصد بالنصوص حقيقتها لا الفهم لها. . إذ هو يقول عن المصلحة في مقابلها: "ورعاية المصالح أمر حقيقي في نفسه "، فهو إذاً إنما يقابل ذات النصوص بذات المصالح، ثم يفوه بما لا يقول به مسلم من أن النصوص متعارضة متخالفة في نفسها ". .
"هذا عن مغالطته فيما وصف به نصوص الشريعة ". .
"أما مغالطته فيما قال عن المصلحة فكامنة في أنه بنى وهمه هذا على مقدمتين لا رابطة بينهما، ولا حد متكررا فيهما، إذ هو ينظر أولا إلى جزئيات المصالح المتصورة في الخارج، ومعظمها جزئيات اعتبارية مختلف فيها ".
"فيقول: "هذه مصالح ". . ثم ينظر إلى الجنس المعنوي لها – وهو كلي منفق على رعايته في جميع الأذهان – فيقول: والمصلحة رعايتها حقيقة مجمع عليها. . ثم يزهي بالنتيجة المغلوطة قائلا: فرعاية المصالح – أي الجزئية – أمر حقيقي مجمع عليه ".
"فهذا القياس الملفق هذا التلفيق، يشبه ما يذكره المناطقة مثالا على السفسطة، وهو أن يشير الإنسان إلى صورة فرس على الجدار فيقول: هذا فرس، ثم يشير إلى جنس الفرس القائم في الذهن فيقول: وكل فرس صاهل، ثم يأتي بمثل نتيجة الطوفي فيقول عن الصورة: فهذا صاهل فرس "(2) .
"ولا ريب أن التخالف بين جزئيات المصالح المختلف فيها بين الناس، وحقيقتها القائمة في الذهن، ليس أقل من التخالف بين صورة الفرس على الورق وحقيقته الماثلة في العقل ".
"فالحقيقة الذهنية للمصلحة، حقيقة متفق على رعايتها كما قال، ولكن ليست هي التي يقع بها التعارض مع النص، على فرض صحة وقوعه، وإنما يكون التعارض بما يوجد من صور جزئية لها في الخارج ".
(1) الحديث في البخاري في الاعتصام: 8 / 157، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر) ؛ ومسلم في (1716) .
(2)
النتيجة هي أخذ موضوع الصغرى، ومحمول الكبرى، فتكون – في مثل هذا المثال – (هذا صاهل) . . وعلى هذا فلا داعي لذكر كلمة (فرس) في النتيجة.
"وهذه الصور الجزئية، هي شيء غير الحقيقة الذهنية المجردة، وهى ليست أمورًا متفقا عليها بحال من الأحوال، لأن هذه الصور إنما يصار إليها عن طريق تحقيق المناط، فكل أمر أنيط بتحقيقه نفع ما فهو مصلحة، ومعظم المنافع كما قلنا في صدر هذا الكتاب أمور اعتبارية تختلف حسب اختلاف المشاعر والعادات والأخلاق. . ولقد رأينا كيف أن علماء الأخلاق – وقد أجمعوا على تقديس المصلحة – لم يتمكنوا أن يصيروا إلى أي اتفاق على مسمياتها الجزئية، حينما حكموا في ذلك عقولهم وحدها، بل ولم تتمكن عقولهم من الاستقلال بالنظر والحكم، إذ سرعان ما يغلب عليهم وحي الشهوات والأهواء ومقاصد الأنانية والأثرة، وليته قد تخلف به الزمان حتى رأى عصرنا الحاضر وتعقد مسائله، وحيرة أهله وتضارب آرائهم وتباين مذاهبهم، إذًا لوجد أن المصلحة التي سماها حقيقة لا تختلف ليست إلا سرابا قد ضل سعي الناس وراءه. . . . ".
"من أجل هذا جاءت نصوص الشريعة، مفتاحا لما استغلق على الناس فهمه، وهداية إلى الحق الذي التبس عليهم أمره، إذ الخالق أدرى حيث تكمن مصلحة عباده وحيث تكمن مضارهم. . ومن هنا كانت المصلحة الحقيقة ما عرفت بهدي النصوص أو توابعها، ولا عبرة بمن قد يحسبها مفسدة، وكان كل ما خالفها مفسدة، ولا عبرة بوهم من ظنها مصلحة "
وصدق الله القائل في محكم كتابه: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] " (1) .
وهناك أمر آخر مهم. . غير ما أورده صاحب (ضوابط المصلحة) وهو أن الأخذ بالرأي الذي جنح إليه الطوفي، لا يمكن أن ينحصر في ضوابط معينة، إذ يصير من حق كل صاحب شهوة وهو أن يدعي المصلحة في أمر ما، دون التفات إلى نصوص الشرع، ولا إلى الإجماع، وحينئذ يصبح الخضوع للهوى والشهوة، لا لأحكام الشرع.
والنصوص الشرعية قد جاءت من أجل تحقيق المصالح، ودرء المفاسد، على وجه لا يتطرق إليه الاختلال، ومن ادَّعى تعارضها مع المصلحة، فقد ادَّعى عدم اطرادها، وإمكان اختلالها وتخلفها عما وضعت له، وفي ذلك يقول الشاطبي (2) :
"فإنها لو كانت موضوعة بحيث يمكن أن يختل نظامها، أو تختل أحكامها، لم يكن التشريع موضوعا لها (3) . . إذ ليس كونها مصالح إذ ذاك بأولى من كونها مفاسد، لكن الشارع قاصد بها أن تكون مصالح إذ ذاك بأولى من كونها مفاسد، لكن الشارع قاصد بها أن تكون مصالح على الإطلاق، فلا بد أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبديا، وكليا، وعاما في جميع أنواع التكليف والمكلفين، وجميع الأحوال. . . ".
(1) ضوابط المصلحة ص 202 – 215؛ وانظر نص رسالة الطوفي، ضمن كتاب (مصادر التشريع الإسلامى فيما لا نص فيه) لعبد الوهاب خلاف، ص 105 – 144.
(2)
الموافقات: 2 / 37 – 40.
(3)
أى للمصلحة.
"والمصالح المجتلبة شرعا، والمفاسد المستدفعة، إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية، أو درء مفاسدها العادية، والدليل على ذلك أمور ":
أحدها: أن الشريعة إنما جاءت لتخرج المكلفين عن دواعي أهوائهم، حتى يكونوا عبادا لله، وهذا المعنى إذا ثبت، لا يجتمع مع فرض أن يكون وضع الشريعة على وفق أهواء النفوس، وطلب منافعها العاجلة كيف كانت، وقد قال ربنا سبحانه:{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71] .
"الثانى: أن المنافع الحاصلة للمكلف مشوبة بالمضار عادة، كما أن المضار محفوفة ببعض المنافع، ومع ذلك فالمعتبر إنما هو الأمر الأعظم، وهو جهة المصلحة التي هي عماد الدين والدنيا، لا من حيث أهواء النفوس "
"الثالث: أن المنافع والمضار، عامتها أن تكون إضافية لا حقيقية، ومعنى كونها إضافية: أنها منافع أو مضار في حال دون حال، وبالنسبة إلى شخص دون شخص، أو وقت دون وقت، فالأكل والشرب – مثلا – منفعة للإنسان ظاهرة، ولكن عند وجود داعية الأكل، وكون المتناول لذيذا طيبا، لا كريها ولا مرا. . وكونه لا يولد ضررا عاجلا ولا آجلا، وجهة اكتسابه لا يلحقه به ضرر عاجل ولا آجل ".
"الرابع: أن الأغراض في الأمر الواحد تختلف، بحيث إذا نفذ غرض بعض وهو منتفع به تضرر آخر لمخالفة غرضه، فحصول الاختلاف في الأكثر، يمنع من أن يكون وضع الشريعة على وفق الأغراض، وإنما يستتب أمرها بوضعها على وفق المصالح مطلقا، وافقت الأغراض أو خالفتها ".
وهناك أمر آخر غير ما تقدم، وهو أن من يدعي تقديم المصلحة على النص، سيؤدي ذلك إلى مفاسد عظيمة، لأن الناس – عند عدم الرجوع إلى الضابط الشرعي للمصلحة والمفسدة – تتباين رغباتهم وأهواؤهم وتتصادم مصالحهم، ويطلب كل شخص من المصالح المطابقة لهواه، ما يؤدي إلى مفاسد كبيرة على غيره، وهناك تحدث فتن عظيمة بين الناس، وفي ذلك يقول الشاطبي (1) .
"إنه قد علم بالتجارب والعادات، أن المصالح الدينية والدنيوية، لا تحصل مع الاسترسال في اتباع الهوى، والمشي مع الأغراض، لما يلزم من ذلك من التهارج والتقاتل والهلاك، الذي هو مضاد لتلك المصالح ".
ومن هنا يتبين أن الاستصلاح أو (المصالح المرسلة) من الأدلة التي يستند إليها عند عدم وجود دليل من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس، والمراد بالمصالح المرسلة:
"كل منفعة داخلة في مقاصد الشارع، دون أن يكون لها أو لجنسها القريب شاهد بالاعتبار أو الإلغاء "(2) ، ولا يعني ذلك عدم وجود أى دليل تستند إليه، وإلا لما أمكن للمجتهد أن يجعلها دليلاً على حكم من أحكام الشريعة بحال، إذًا "فالمصالح المرسلة لابد أن تستند إلى دليل ما قد اعتبره الشارع، غير أنه لا يتناول أعيان هذه المصالح بخصوصها، وإنما يتناول بالجنس البعيد لها: كجنس حفظ الدين، والأرواح، والعقول، والأنساب، أي فهو قاصر عن دليل القياس الذي يتناول عين الوصف المناسب بواسطة النص عليه، كما في الوصف المؤثر أو بواسطة جريان حكم الشارع على وفقه كما في الملائم "(3) .
(1) الموافقات: 2/ 170، مع شىء من التصرف.
(2)
ضوابط المصلحة، ص 330.
(3)
ضوابط المصلحة، ص 217
اعتبار العرف والعادة:
كما أن المفتي قد يرجع إلى العرف أحياناً، فيستند إليه في اعتباره مصدراً من مصادر الأحكام عند الحاجة، وذلك ضمن ضوابط حددها أهل العلم، وسنوضح ذلك فيما يلي:
أولاً – تعريف العرف: هو ما يتعارف الناس، ويسيرون عليه غالباً من قول أو فعل (1) ، وهذا يشمل مطلق الأعراف الحسنة منها والقبيحة، وهذا تعريف بالمعنى العام
…
ومنهم من حصر تعريف العرف في العرف الحسن، ومن ذلك تعريف الجرجاني في (التعريفات) (2) فقد عرفه بقوله:"العرف ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول "، وعرفه بعض المتأخرين (3) بقوله:
" العرف ما استقر في النفوس، واستحسنته العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول، واستمر الناس عليه فيما لا ترده الشريعة وأقرتهم عليه "، وهذا تعريف بالمعنى الخاص.
ثانياً: لم يفرق جمهور القائلين به بين العرف والعادة، باعتبار: أن العادة مأخوذة من المعاودة والتكرار لأفعال والأقوال، وهي بهذا الاعتبار تشمل ما تتلقاه الطباع السليمة مما يوافق الشرع، وما كان مصدره الهوى والشهوة وغيرهما، مما يكون سببا في حدوث أي أمر مع تكرره مرة بعد أخرى تكراراً يخرجه عن كونه واقعاً بطريق الموافقة بل يصبح معهوداً، وجاريا بين الناس
…
إلا أن العرف المعتبر: هو العرف بالمعنى الخاص كما تقدم.
ثالثاً: ينقسم العرف إلى قسمين:
1-
القولي: وقد عرفه القرافي بقوله: "العرف القولي أن تكون عادة أهل العرف، يستعملون اللفظ في معنى معين، ولم يكن ذلك لغة "(4) .
والمراد أن اللفظ يغلب على معنى معين، بحيث لا يفهم عند إطلاقه إلا ذلك المعنى، وذلك مثل: إطلاق لفظ (الدابة) على ذوات الأربع، ولفظ (اللحم) على غير السمك، ولفظ (الولد) على الذكر، وهذا الاستعمال بمثابة وضع جديد للفظ.
2-
العملي: "وأما العرف العملي، فهو: ما جرى عليه الناس، وتعارفوه في معاملاتهم وتصرفاتهم ".
مثال ذلك: تعارف الناس البيع بالتعاطي، ومن غير صيغة لفظية بالإيجاب والقبول، وكذلك الاستصناع، ومن ذلك التوكيل المطلق في البيع، فإنه يتقيد بثمن المثل، وغالب نقد البلد، تنزيلاً للعادة الجارية في المعاملات منزلة صريح اللفظ
…
وكذلك حمل الإذن في النكاح على الكفؤ، ومهر المثل المتبادر إلى الأفهام.
وقال العز بن عبد السلام: "فصل في تنزيل دلالة بالعادات وقرائن الأحوال منزلة صريحة الأقوال، في تخصيص العام، وتقييد المطلق وغيرهما "(5) . وقال ابن القيم: "وقد أجري العرف مجرى النطق في أكثر من مائة موضع "(6) .
وقد خرج ابن القيم على هذا الحديث عروة بن أبي الجعد البارقي، حيث أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم ديناراً يشتري شاة، فاشترى شاتين بدينار، فباع إحداهما بدينار، وجاءه بالدينار والشاة الأخرى (7) ، فباع وأقبض، وقبض بغير إذن لفظي، اعتماداً منه على الإذن العرفي الذي هو أقوى من اللفظي في أكثر المواضع (8) .
وهذا الدليل صريح في اعتبار العرف العملي وتنزيله منزلة النطق اللفظ، وقد جرت على ألسنة الفقهاء عبارات تدل على اعتبار العادة والعرف، مثل (العادة محكمة) و (العرف قاض) و (العرف كالشرط)
…
وما دامت العادة والعرف تشمل ما هو حسن، وما هو قبيح؛ فإن الإسلام يقر ما هو حسن، ويعتبره في جنس الأدلة، ويمقت العادات القبيحة، ويدعو إلى نبذها وهجرها، والعدول عنها إلى ما جاء به الإسلام من أحكام وآداب وأخلاق.
والعادات من حيث هي قد تبدأ باستحسان لأمر ما، أو تقليد، أو غير ذلك، وما أن تلبث حتى تتمكن من النفوس، وتشيع عند الناس، وتكثر ممارستها حتى يكون لها سلطان على النفوس يصعب بسببه التخلي عنها وتركها، فإذا كانت مما يقره الشرع، فذلك أمر محمود، ولا ضرر من استحكامها في النفوس؛ لأن ذلك لا يؤدي إلى مفسدة، بل يجلب مصلحة، أو يدفع مفسدة، أما إذا كانت قبيحة، بحيث تتعارض مع مقاصد الشريعة، لما فيها من المفاسد، فمثل هذه العادات تحتاج من الدعاة المصلحين إلى بذل الجهد في استئصالها، وإن كان ذلك يحتاج إلى جهود كبيرة، ذلك أن الذين يألفون عادات معينة يصعب عليهم مفارقتها، والمتأمل في تاريخ الدعوة الإسلامية يجد أن أول من تصدى للإسلام، هم أصحاب العادات المتوارثة، والتقليد الأعمى، كما حكى الله عز وجل ذلك عنهم في كتابه، في مثل قوله تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104] .
(1) مصادر التشريع فيما لا نص فيه، عبد الوهاب خلاف، ص 145.
(2)
مصادر التشريع فيما لا نص فيه، عبد الوهاب خلاف، ص 149.
(3)
الدكتور السيد صالح عوض، في كتابه (أثر العرف في التشريع الإسلامي) ، ص 52.
(4)
الفروق: 1 / 171.
(5)
قواعد الأحكام: 2 / 121.
(6)
إعلام الموقعين: 2 / 448
(7)
الحديث في أبي داود برقم (3384) .
(8)
إعلام الموقعين: 2 / 449.
لذلك واجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قومه عنتًا شديدًا، ومقاومة عنيدة، وإصرارًا على التمسك بالباطل، بسبب ما طبعوا عليه من العادات والتقاليد الموروثة.
ومن أجل ذلك جاءت التشريعات الإسلامية متدرجة، لاجتثاث ما علق بالنفوس، وغرس الفضائل، والإلزام بأوامر الشرع ونواهيه، وفي ذلك تقول السيدة عائشة رضي الله عنها:"إنما نزل من القرآن أول ما نزل: سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنى أبداً "(1) .
أما إذا كانت العادات حسنة تقرها قواعد الإسلام، وتتفق مع مقاصده العامة، فينبغي مساعدة الناس على المزيد من التمسك بها، والتحلي بها، والعمل على ذيوعها، ما دامت تحقق مصالح للمجتمع، وإذا كانت الأعراف المعتبرة شرعاً هي الأعراف الحسنة، فإنه لابد من توضيح الشروط اللازم توافرها في العادة المعتبرة.
شروط العرف المعتبر في التشريع:
وللعرف المعتبر شرعاً شروط لا يتم بناء الأحكام عليها إلا بتوافرها، وهي:
الأول: أن يكون العرف مطرداً أو غالباً.
قال السيوطي: "إنما تعتبر العادة، إذا اطردت، فإذا اضطربت فلا "(2) .
وقال ابن نجيم: "إنما تعتبر العادة إذا اطردت أو غلبت "(3) .
أي أن انخراقها أحياناً لا يقدح في اعتبارها، إذ العبرة بالغالب، ولذا يقول الشاطبي:"وإذا كانت العوائد معتبرة شرعاً، فلا يقدح في اعتبارها انخراقها ما بقيت عادة على الجملة "(4) .
الثاني: أن لا يكون العرف مخالفاً لنص من الكتاب أو السنة.
فلا اعتبار لعرف خالف نصاً شرعيًّا، فلو تعارف الناس على شرب الخمر، أو لعب الميسر، أو خروج النساء سافرات، أو على التعامل بالربا، أو لبس الرجال بالحرير والذهب، أو نحو ذلك مما يصادم نصوصاً شرعية فلا اعتبار له، إذ المصلحة الحقيقية في مراعاة النصوص الشرعية لا في مخالفتها كما أنه لا مصلحة إطلاقاً فيما حرمه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يكن هناك احترام والتزام وتقيد بالنصوص الشرعية لما بقي لها معنى، ولأصبحت الأهواء والشهوات هي المقدمة على النصوص، كما أن النصوص الشرعية هي المصدر للأحكام الشرعية، ومنها تستمد الأحكام، وبها يعرف شرعية غيرها من عدمه.
الثالث: أن لا يعارض العرف تصريح بخلافه: فالأصل أن العرف بمنزلة الشرط، فيصبح ملزما، اعتمادا على العرف المطرد أو الغالب، ما لم يصرح المتعاقدان بخلافه، فإن صرحا بخلافه لزم التقيد بالمصرح به، ولا اعتبار حينئذ للعرف؛ لأن دلالة اللفظ المصرح به، أقوى من دلالة العرف، بل هو ناقض له، فإذا كان العرف يقضي أن العامل يعمل ساعات معينة، لزم رب العمل والأجير التقيد بذلك، فإن اتفقا عند العقد على أقل من ذلك أو أكثر، أصبح العرف حينئذ ملغي.
وفي ذلك يقول العز بن عبد السلام: "كل ما يثبت في العرف إذا صرح المتعاقدان بخلافه، بما يوافق مقصود العقد صح، فلو شرط المستأجر على الأجير أن يستوعب النهار بالعمل من غير أكل وشرب يقطع المنفعة لزمه ذلك، ولو أدخل أوقات قضاء الحاجات في الإجارة، مع الجهل بحال الأجير في قضاء الحاجة، لم يصح، ولو شرط عليه أن لا يصلي الرواتب، وأن يقتصر في الفرائض على الأركان صح، ووجب الوفاء بذلك لأن تلك الأوقات إنما خرجت عن الاستحقاق بالعرف القائم مقام الشرط، فإذا صرح بخلاف ذلك مما يجوزه الشرع، ويمكن الوفاء به جاز، كما لو أدخل بعض الليل في الإجارة بالنص عليه، ولو شرط عليه أن يعمل شهرًا الليل والنهار، بحيث لا ينام ليلاً ولا نهارًا، فالذي أراه بطلان هذه الإجارة لتعذر الوفاء به، فإن النوم يغلب بحيث لا يتمكن الأجير من العمل، فكان ذلك غررًا لا تمس الحاجة إليه "(5) .
الرابع: أن يكون قائماً حال العقد وسابقاً عليه، فلا عبرة بعرف لاحق ولا يعتبر ملزماً، وبذلك صرح أهل العلم كالسيوطي (6) ، وابن نجيم (7) ، والشاطبي (8)
…
وغيرهم.
(1) البخاري، في فضائل القرآن: 6 / 101
(2)
الأشباه والنظائر: ص 90.
(3)
الأشباه والنظائر، لابن نجيم، ص 47.
(4)
الموافقات: 2 / 288.
(5)
قواعد الأحكام: 2 / 158.
(6)
الأشباه والنظائر، ص 92.
(7)
الأشباه والنظائر، ص 50.
(8)
الموافقات: 1 / 297 – 298.
ومما سبق يتبين أن العرف ملزم، إذا ترتب عليه حق، وتوفرت فيه الشروط السابقة.
رفع الحرج:
ومما ينبغي مراعاته، أن الشارع قصد إلى عدم إيقاع المكلف في الحرج والمشقة، وفي هذا يقول الله تبارك وتعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] .
وفي الحديث: عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم؛ أمرهم بما يطيقون، قالوا: إنا ليس كهيئتك يا رسول الله، إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فيغضب حتى يعرف الغضب في وجهه، ثم يقول:((إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا)) (1) .
وعن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة، فقال: من هذه
…
؟ قالت: فلانة، تذكر من صلاتها، قال: ((مه عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا
…
"،: وكان أحب الدين إليه ما دوام عليه صاحبه)) (2) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إياكم والوصال)) – مرتين – قيل: إنك تواصل، قال:((إني أبيت يطعمني ربي، وسيقيني، فاكلفوا (3) من الأعمال ما تطيقون)) (4) .
وفي لفظة له أيضاً: "فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال، واصل بهم يوماً، ثم يوماً، ثم رأوا الهلال، فقال:((لو تأخر لزدتكم)) (5)
…
كالتنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا.
وعند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنك لتصوم الدهر وتقوم الليل "
…
؟ فقلت: نعم، قال:((إنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين، ونفهت له النفس)) .
وفي لفظ قال: ((فإنك لا تستطيع ذلك)) (6) .
ومع ذلك فإن مطلق المشقة لابد حاصلة في كل عبادة يمارسها العبد، بل إن الجنة لا تنال إلا باقتحام المكاره، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره)) .
(1) البخاري في الإيمان: 1 / 10؛ وأحمد: 6 / 56.
(2)
البخاري في الإيمان: 1 / 16؛ وأحمد: 6 / 51.
(3)
في فتح الباري: 11 / 298 – 299، قال ابن التين: هو في اللغة بالفتح، ورويناه بالضم، والمراد به: الإبلاغ بالشيء إلى غايته.
(4)
البخاري، في الصوم: 2 / 243.
(5)
البخاري، في الصوم: 2 / 243.
(6)
البخاري في الصوم: 2 / 245 – 246؛ ومسلم برقم (1159) ، ومعنى هجمت، غارت ودخلت فيم وضعها، وقوله (نفهت) ولفظ مسلم (نهكت) ومعناهما واحد: ضعفت وأعيت وكلت.
وفي لفظ (حفت)(1) ، قال الإمام النووي (2)، عند شرح هذا الحديث: "فأما المكاره، فيدخل فيها الاجتهاد في العبادات، والمواظبة عليها، والصبر على مشاقها، وكظم الغيظ، والعفو، والحلم، والصدقة والإحسان إلى المسيء، والصبر عن الشهوات
…
ونحو ذلك ".
وكذا الآيات والأحاديث الواردة في الدعوة إلى الصبر والترغيب فيه وبيان عظم أجر صاحبه، كل ذلك من أبرز الأدلة على ما يحتاجه الإنسان من الجلد والمجاهدة لما قد يلقاه من الابتلاء، ولكنها مشاق محتملة، يعقبها الأجر مع الصبر والاحتساب.
وإذا حصلت مشقة في أي عبادة في فعل مأمور به أو ترك منهي عنه، فالمشقة ليست مطلباً للشارع، بل العبادة هي المطلوبة، غير أنها لا تتحقق إلا بنوع من المشقة، وهنا يلاحظ أن العبادة التي لا يمكن تحقيقها إلا بمشقة بالغة لا ينظر فيها إلى جانب المشقة، ولكن ينظر إلى كون المصلحة راجحة، بحيث يهون بسببها تحمل المشاق العظيمة، وذلك كالجهاد في سبيل الله سبحانه، ذلك أن الشارع راعى – في أولويات المصالح المرعية – حفظ الدين، وهذا قد لا يتأتى إلا بإزهاق النفوس، والمشقة فيه عظيمة، لكنها تهون أمام إعزاز دين الله والتمكين له في الأرض، ودحر الطغيان والظلم، وإشاعة العدل، وبذلك يحفظ الدين وبحفظ الدين تحفظ الضروريات الأخرى من النفس، والمال، والدم، والعقل
…
وعدم الجهاد معناه غلبة الكفار على المسلمين المؤدي إلى إهدار كل شيء من مصالح الدين والدنيا ولم يعدل الشارع إلى غير الجهاد من الوسائل الأخرى، إذا كان المقصود لا يتحقق إلا به، والمشقة المذكورة لا تنفك عنه، كما روعي في جانب الزجر عن ارتكاب بعض الجرائم، إيقاع بعض العقوبات التي تؤدي أيضاً إلى مشقة عظيمة، وذلك في بعض الحدود، مثل: قتل الزاني المحصن، وقطع يد السارق. .. وغيرهما، لما أن الزجر في حقهم مطلوب حفاظاً على دماء وأموال وأعراض الناس، ومراعاة المصالح العامة، مقدمة على مراعاة المصالح الخاصة عند التعارض، ولما كان العدول عن الشاق إلى ما هو أخف منه ممكناً، وجدنا أن الشارع يراعي ذلك في كثير من الأحكام.
فقد رخص للمريض عند عدم القدرة على القيام – في الصلاة – أن يصلي من قعود أو على جنب.
ورخص للمسافر، والمريض، والحامل – الخائفة على نفسها أو على ولدها – الفطر، وكذا المرضع، ورفع الإثم والمؤاخذة عن المكره، والناسي، والنائم، والمخطئ ....
وأسقط الصلاة عن الحائض والنفساء، كما أسقط عنهما الصوم حال ذلك، مع وجوب القضاء، وأسقط الصوم عن العاجز عنه، مع العدول إلى الكفارة ....
وشرع في قصر الصلاة الرباعية للمسافر، ورخص له في الجمع بين الصلاتين في بعض الأحوال.
(1) البخاري في الرقاق عن أنس: 7 / 186؛ ومسلم برقم (2822) .
(2)
شرح صحيح مسلم: 17 / 165.
وشرع الكفارات تخفيفاً على العباد من الوقوع في العنت، وتطهيراً لهم من الذنوب، وخيرهم أحياناً بين أنواع من الكفارات، وأحياناً جعلها على الترتيب، وكل هذه الأمور يطلب تفصيلها في مظانها.
وأباح الشرع عند الضرورات ما لم يجز في الأحوال العادية، حتى شاع في القواعد الفقهية:"الضرورات تبيح المحظورات "، "إذا ضاق الأمر اتسع "، " المشقة تجلب التيسير "
…
ونحوها.
ومع أن الشارع لا يقصد المشقة في تكليف العبد، إلا أنه قد يثاب عليها أحياناً، وقد أوضح العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام (1) ضابط الفعل الشاق الذي يؤجر عليه، أكثر ما يؤجر على ما ليس بشاق، فقال:
"إذا اتحد الفعلان في الشرف والشرائط، والسنن والأركان، وكان أحدهما شاقاً، فقد استويا في أجرهما لتساويهما في جميع الوظائف وانفرد أحدهما بتحمل المشقة لأجل الله سبحانه وتعالى، فأثيب على تحمل المشقة لا على عين المشاق، إذ لا يصح التقرب بالمشاق، لأن القرب كلها تعظيم للرب سبحانه وتعالى، وليس عين المشاق تعظيماً ولا توقيراً
…
وذلك كالاغتسال في الصيف والربيع، بالنسبة للاغتسال في شدة برد الشتاء، لأجل تحمل مشقة البرد، فليس التفاوت في نفس الغسلين، وإنما التفاوت فيما لزم عنهما، وكذلك مشاق الوسائل؛ كمن يقصد المساجد والحج، والغزو من مسافة قريبة، وآخر يقصد هذه العبادات من مسافة بعيدة، فإن ثوابيهما يتفاوتان بتفاوت الوسيلة، ويتساويان من جهة القيام بسنن هذه العبادات، وشرائطها وأركانها، فإن الشارع يثيب على الوسائل إلى الطاعات كما يثيب على المقاصد، مع تفاوت أجور الوسائل والمقاصد ".
ولما لم تكن المشقة مقصودة للشارع، فإنه ينهى عن المبالغة في العبادة، والتنطع، وعدم الأخذ بالرخص، فكل ذلك خارج عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته
…
فقد كان يحب القصد والوسط الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، وينهى عن تجاوز ذلك، ففي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"إن هذا الدين يسر، ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة "(2) .
قال الحافظ ابن حجر – عند شرح هذا الحديث – (3) :
والمعنى: لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية، ويترك الرفق، إلا عجز وانقطع، فيغلب، قال ابن المنير: في هذا الحديث علم من أعلام النبوة، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا: أن كل متنطع في الدين ينقطع، وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة، فإنه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراد المؤدي إلى الملال، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل
…
إلخ ".
ولما بالغ عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في الإكثار من العبادة، وأرشده النبي إلى ما هو الأولى له، ولم يأخذ بوصية رسول الله، ندم بعد ذلك في آخر عمره، حتى قال: فشددت فشدد عليَّ، وقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: إنك لا تدري لعلك يطول بك العمر، قال: فصرت إلى الذي قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كبرت وددت أني كنت قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم " (4) .
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يرغب في القصد الذي لا يؤدي إلى الهلاك والملل والكسل، والانقطاع، ووهن القوى البدنية، والإخلال بكثير من الواجبات، وعدم الإتقان في العمل، والسآمة
…
فقد أخبر عليه الصلاة والسلام عن محبة الله سبحانه لدوام الطاعة من العبد، وعدم انقطاعها، ففي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((
…
وإن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه، وإن قل)) (5) ، وهذا لا يتأتى عند وجود المشقة الخارجة عن المعتاد.
(1) قواعد الأحكام: 1 / 31.
(2)
البخاري، في الإيمان: 1 / 15؛ والنسائي: 8 / 122؛ والبيهقي، في السنن الكبرى: 3 / 18.
(3)
فتح الباري: 1 / 94.
(4)
البخاري، في الصوم، 2 / 245؛ ومسلم برقم (1159) .
(5)
البخاري في الرقاق: 7 / 182؛ ومسلم برقم (782) .
والحاصل أن على المفتي أن لا يتعمد إيقاع المستفتي في العنت والمشقة، إذا كان هناك مندوحة عن ذلك في الشريعة الإسلامية، مع مراعاة عدم تتبع الرخص، خاصة في حق من علم تساهله، واستهتاره بأحكام الشرع، حتى لا يكون ذلك ذريعة إلى جرأته وتماديه واستغلاله للتسامح في الفتوى وتحقيق أهوائه.
سد الذرائع:
وقد راعى الشارع سد الذرائع في كثير من الأحكام الشرعية، فهو لذلك:
"مطلوب مشروع، وهو أصل من الأصول القطعية "(1)، وقد عرفه القرافي في (الفروق) بأنه:"حسم مادة وسائل الفساد دفعاً لها "(2) ، وهذا التعريف ينطبق على الذرائع التي تقضي إلى مفسدة، وهي التي يطلب منعها وسدها، لا الذرائع من حيث هي، إذ الذرائع وسائل، والوسائل تأخذ حكم المقاصد، قال القرافي (3) : "اعلم أن الذريعة كما يجب سدها، يجب فتحها، وتكره وتندب وتباح، فإن الذريعة: هي وسيلة، فكما أن وسيلة المحرم محرمة، فوسيلة الواجب واجبة، كالسعي للحج والجمعة، وموارد الأحكام على قسمين: مقاصد، وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها، ووسائل وهي الطرق المفضية إليها، وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم وتحليل
…
غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها ".
وقد تنخرم هذه القاعدة، فيختلف حكم الوسيلة عن حكم ما تفضي إليه، فقد تكون وسيلة المحرم غير محرمة إذا أفضت إلى مصلحة راجحة، كالتوسل إلى فداء الأسارى بدفع المال للكفار
…
كدفع مال لرجل يأكله حراماً، حتى لا يزني بامرأة، إذا عجز عن دفعه عنها إلا بذلك، وكدفع المال للمحارب حتى لا يقع القتل بينه وبين صاحب المال
…
فهذه الصور كلها الدفع وسيلة إلى المعصية بأكله المال، ومع ذلك فهو مأمور به لرجحان ما يحصل من المصلحة على هذه المفسدة (4) .
وقد فصل ابن القيم القول في المسألة فقال (5) :
"لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها، كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها، فوسائل الحرمات والمعاصي – في كراهتها والمنع منها – بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطها بها، ووسائل الطاعات والقربات – في محبتها والإذن فيها – بحسب إفضائها إلى غاياتها، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود، لكنه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل، فإذا حرم الرب تعالى شيئاً، وله طرق ووسائل تفضي إليه، فإنه يحرمها، ويمنع منها، تحقيقاً لتحريمه، وتثبيتاً له، ومنعاً أن يقرب حماه، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه، لكان ذلك نقضاً للتحريم، وإغراء للنفوس به، وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كل الإباء، بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك، فإن أحدهم إذا منع جنده، أو رعيته أو أهل بيته من شيء ثم أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه، لعد متناقضاً، ولحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده، وكذلك الأطباء، إذا أرادوا حسم الداء، منعوا صاحبه من الظن بهذه الشريعة الكاملة، التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال
…
؟ ومن تأمل مصادرها ومواردها أن علم أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم سد الذرائع المفضية إلى المحارم، بأن حرمها ونهى عنها، والذريعة: ما كان وسيلة وطريقة إلى الشيء ". ثم أورد أمثلة على الأفعال والأقوال التي تفضي إلى المحرم، والتي لا يجوز الإتيان بها ما دامت كذلك، وقد أوصل هذه الأمثلة إلى تسعة وتسعين مثالاً، نذكر منها ما يلي:
"الأول: قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] .
فحرم الله تعالى سب آلهة المشركين – مع كون السبب غيظاً وحمية لله، وإهانة لآلهتهم –لكونه ذريعة إلى سبهم الله تعالى، وكانت مصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم، وهذا كالتنبيه، بل كالتصريح على المنع من الجائز، لئلا يكون سبباً في فعل ما لا يجوز ".
"الثاني: قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31] ، فمنعهن من الضرب بالأرجل – وإن كان جائزاً في نفسه – لئلا يكون سبباً في سمع الرجال صوت الخلخال، فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن ".
"الثالث: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104] ، نهاهم سبحانه أن يقولوا هذه الكلمة – مع قصدهم بها الخير – لئلا يكون قولهم ذريعة إلى التشبه باليهود في أقوالهم وخطابهم، فإنهم كانوا يخاطبون بها النبي صلى الله عليه وسلم ويقصدون بها السب، يقصد فاعلاً من الرعونة، فنهي المسلمون عن قولها، سداً لذريعة المشابهة، ولئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن يقولها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم تشبهاً بالمسلمين، يقصدون بها غير ما يقصده المسلمون ".
(1) الموافقات: 3 / 61.
(2)
الفروق: 2 / 32.
(3)
الفروق: 2 / 33.
(4)
الفروق: 2 / 33.
(5)
إعلام الموقعين: 3 / 175.
"الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكف عن قتل المنافقين – مع كونه مصلحة – لئلا يكون ذريعة إلى تنفير الناس عنه (1) ، وقولهم: إن محمداً يقتل أصحابه، فإن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه، ومن لم يدخل فيه، ومفسدة التنفير أكبر من مفسدة ترك قتلهم، ومصلحة التأليف أعظم من مصلحة القتل "(2) .
ثم قال ابن القيم:
"وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف، فإنه أمر ونهي، والأمر نوعان:
أحدهما مقصود لنفسه، والثاني وسيلة إلى المقصود، والنهي نوعان:
أحدهما ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه، والثاني ما يكون وسيلة إلى المفسد؛ فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين " (3) .
والحاصل: أن على المفتي مراعاة سد الذرائع التي راعاها الشارع في مواطن كثيرة، فمهما علم أن عملا ما – وإن كان جائزا شرعا – سيفضي القيام به إلى محرم، فالواجب المنع منه، وعدم إباحته، كما علم ذلك من خلال الأمثلة التي سقناها وغيرها.
* * *
(1) وقد جاء ذلك صريحا في كلام النبى صلى الله عليه وسلم، وذلك لما قال عمر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم – في غزوة بني المصطلق -: ألا تقتل يا رسول الله هذا الخبيث – لعبد الله – فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه) . البخاري، في المناقب من رواية جابر بن عبد الله: 4 / 16؛ ومسلم في الفضائل برقم (2584) .
(2)
وانظر بقية الأمثلة التي أوردها ابن القيم في إعلام الموقعين: 3 / 177 – 205.
(3)
إعلام الموقعين: 3 / 205؛ وانظر أيضا كلام القرطبي في تفسيره: 2 / 57 – 59.
الخاتمة
وخلاصة القول: إن ترك الأمور في مجال الفتوى سائبة – وبالأخص في عصرنا الذي رأينا فيه عجباً – سيخلف في الأمة فوضى لا نهاية لها، وسيتصدى للفتيا من ليس لها بأهل، وسيصعب بسبب ذلك على العامة تمييز الحق من الباطل، والهدى من الضلال، والحلال من الحرام، وإننا لنشاهد اليوم كثيراً من ذوي الجرأة على الله تعالى يقتحمون هذه المفاوز دون بصيرة، ولا هدى فيضلون ويضلون، ودون أن يضعوا أنفسهم في مكانها الصحيح، ويردوا الأمر إلى أهله.
كما لا ينبغي أن توصد الأبواب أمام من هو أهل للقيام بهذه الوظيفة الدينية العظيمة، من أهل العلم والمعرفة والتقوى، ليبصر الناس بأمور دينهم، ويحل معضلاتهم، ويهديهم عند الحيرة، ويأخذ بأيديهم إلى شرائط الأمان، حتى لا يقعوا فريسة الجهل والشبهات التي يروجها أعداء الإسلام، ولا يلجؤوا إلى سلوك الطرق البعيدة عن هدى الله سبحانه، وكلما صدرت الفتوى عن جماعة توافرت في كل منهم شروط الاجتهاد كان ذلك أدعى إلى ندرة احتمال الخطأ، وأضمن لإدراك الحق والصواب، والاهتداء إلى معرفة مراد الله سبحانه فيما يعرض عليهم من قضايا، كما أنه يقلل من ظاهرة الخلاف بين أهل العلم وتباين آرائهم، إذ أن اجتماعهم يتيح لهم فرصة تداول الآراء واستعراض الأدلة وتمحيصها، ومعرفة أقوال من سبقهم من أهل العلم، وعند التجرد للحق، والترفع عن الهوى والتعصب للرأي أو للمذهب، والتحلي بالتقوى والخوف من الله، يصبح المرء خاضعاً للحق، مستسلماً له، عادلاً عن رأيه إيثاراً لغلبة الحق وعلوه، ورغبة في الحرص على الوصول إليه، وهذا كله مما يجعلهم أهلاً لأن يمنحهم الله تعالى مزيداً من التوفيق والسداد، ويلهمهم الصواب، ويجري الحق على ألسنتهم، وينير بصائرهم ....
ولله الحمد في الأولى والآخرة.
عبد الوهاب بن لطف الديلمي