المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بيع الدينأحكامه – تطبيقاته المعاصرةإعدادأ. د نزيه كمال حماد - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ١١

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الحادي عشر

- ‌بيع الدين والأوراق الماليةوبدائلها الشرعيةإعدادالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌أحكام التصرف في الديوندراسة فقهية مقارنةإعداد الدكتورعلي محيي الدين القره داغي

- ‌بيع الدينأحكامه – تطبيقاته المعاصرةإعدادأ. د نزيه كمال حماد

- ‌بيع الدينإعداد الدكتورعبد اللطيف محمود آل محمود

- ‌بيع الدين وسندات القرضوبدائلها الشرعيةفي مجال القطاع العام والخاصإعداد الدكتورمحمد علي القري بن عيد

- ‌بيع الدين وسندات القرضوبدائلها الشرعية في مجال القطاع العام والخاصإعدادالدكتور سامي حسن حمود

- ‌المضاربات في العملةوالوسائل المشروعة لتجنب أضرارها الاقتصاديةإعداد الدكتورأحمد محيي الدين أحمد

- ‌المضاربات على العملةماهيتها وآثارها وسبل مواجهتهامع تعقيب من منظور إسلاميإعداد الدكتورشوقي أحمد دنيا

- ‌عقود الصيانةوتكييفها الشرعيإعدادالشيخ محمد المختار السلامي

- ‌عقود الصيانةوتكييفها الشرعيإعدادالدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌عقود الصيانة وتكييفها الشرعيعقد الصيانةإعدادآية الله محمد على التسخيري – مرتضى الترابي

- ‌عقود الصيانةإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌عقود الصيانة وتكييفها الشرعيإعدادالدكتور محمد أنس الزرقاء

- ‌ضوابط الفتوىفي ضوء الكتاب والسنةومنهج السلف الصالحإعداد الدكتورعبد الوهاب بن لطف الديليمي

- ‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعداد الدكتوروهبة مصطفى الزحيلي

- ‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعداد الدكتورعبد الله الشيخ المحفوظ بن بيه

- ‌العمل الفقهيعند الإباضيةإعدادناصر بن سليمان بن سعيد السابعي

- ‌الإسلامفي مواجهة الحداثة الشاملةإعدادالدكتور ناصر الدين الأسد

- ‌مجمع الفقه الإسلامي الدوليووحدة الأمة الإسلاميةإعدادمحمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌الوحدة الإسلاميةمنهجية المقارنة بين المذاهب الفقهيةإعدادالدكتور عبد الستار أبو غدة

- ‌الوحدة الإسلاميةمعالمها وأعلامهاإعدادالأستاذ محمد واعظ زادة الخراساني

- ‌الوحدة الإسلامية{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}إعدادالشيخ عدنان عبد الله القطان

- ‌الوحدة الإسلاميةأدب الحوار وأخلاقيات البحثإعدادالدكتور سعيد بن عبد الله بن محمد العبري

- ‌‌‌الإسلام في مواجهة العلمنةإعدادالدكتور عمر عبد الله كامل

- ‌الإسلام في مواجهة العلمنةإعدادالدكتور عمر عبد الله كامل

- ‌الإسلام في مواجهة العلمنةموقف الإسلام من مسألة الحكم والسيادةإعدادآية الله الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الديمقراطية والعلمانيةوحقوق الإنسانالمرجعية الغربية والمرجعية الإسلاميةإعدادالأستاذ إبراهيم بشير الغويل

الفصل: ‌بيع الدينأحكامه – تطبيقاته المعاصرةإعدادأ. د نزيه كمال حماد

‌بيع الدين

أحكامه – تطبيقاته المعاصرة

إعداد

أ. د نزيه كمال حماد

بسم الله الرحمن الرحيم

بيع الدين

أحكامه – تطبيقاته المعاصرة

ويتألف هذا البحث من تمهيد ومبحثين وخاتمة:

التمهيد

حقيقة الدين

1-

يطلق الفقهاء كلمة الدين في اصطلاحهم باعتبارين: اعتبار التعلق، واعتبار المضمون:

* أما باعتبار التعلق: فيرد استعمالهم للدين في مقابل العين، حيث يقولون:

العين: هي الشيء المعين المشخص، كبيت وسيارة وحصان وكرسي وصبرة حنطة وصبرة دراهم حاضرتين. فكل ذلك بعد من الأعيان. والدين: هو ما يثبت في الذمة من غير أن يكون معينًا مشخصا، سواء أكان نقدا أو غيره (1) . وعلى ذلك قال المقري في قواعده:" المعين لا يستقر في الذمة، وما تقرر في الذمة لا يكون معينا ". (2)

وأساس التمييز بين العين والدين في هذا التقسيم الفقهي هو الاختلاف والتباين في التعلق، حيث إن الدين يتعلق بذمة المدين، ويكون وفاؤه بدفع أية عين مالية مثلية من جنس الدين الملتزم به ولهذا صحت فيه الحوالة والمقاصة، بخلاف العين، فإن الحق يتعلق بذاتها، ولا يتحقق الوفاء في الالتزام بها إلا بأدائها بعينها، ومن أجل ذلك لم تصح الحوالة أو المقاصة في الأعيان، لأنها إنما تستوفي بذواتها لا بأمثالها. (3)

* وأما باعتبار المضمون والمحتوى: فقد استعمله الفقهاء بمعنيين أحدهما أعم من الآخر.

أ – أما الدين بالمعنى الأعم: فيشمل كل ما ثبت في الذمة من أموال – أيًّا كان سبب وجوبها – أو حقوق محضة، كسائر الطاعات من صلاة وصيام ونذر وحج ونحوها. "لأن الدين لزوم حق في الذمة"(4) .

وبناءً على هذا الاعتبار، فلا يشترط في الدين أن يكون مالاً، ولو كان مالاً فلا يشترط فيه أن يكون ثابتًا في معارضة أو إتلاف أو قرض فحسب. وعلى ذلك عرف بأنه:" وصف شرعي في الذمة يظهر أثره عند المطالبة "(5) .

(1) مجلة الأحكام العدلية م 158، 159؛ رد المحتار: 4/ 25.

(2)

إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك للونشريسي، ص 331.

(3)

المدخل إلى نظرية الالتزام للزرقا، ص 170 وما بعدها؛ مصادر الحق للسنهوري: 1 / 15؛ تبيين الحقائق: 4 / 171؛ رد المحتار: 4 / 290؛ والفروق للقرافي: 2 / 133.

(4)

فتح الغفار شرح المنار لابن نجيم: 3 / 20.

(5)

العناية على الهداية: 6 / 346.

ص: 76

وقد جرى عامة الفقهاء على استعمال كلمة (دين) بهذا المعنى، كما ورد استعمالها به في كثير من الأحاديث النبوية.

ب- وأما الدين بالمعنى الأخص: (أي في الأموال) فقد اختلف الفقهاء في حقيقته على قولين:

أحدهما للحنفية؛ وهو أن الدين عبارة عما يثبت في الذمة من مال في معاوضة أو إتلاف أو قرض. وبناءً على ذلك عرفه ابن عابدين بقوله: "الذين: ما وجب في الذمة بعقد أو استهلاك، وما صار في ذمته دينًا باستقراضه"(1) .

والثاني لجمهور الفقهاء من الشافعية والمالكية والحنابلة؛ وهو أن الدين عبارة عن " ما يثبت في الذمة من مال بسبب يقتضي ثبوته". فتدخل فيه كل الديون المالية، سواء منها ما ثبت في نظير عين مالية وما ثبت في نظير منفعة وما ثبت حقًّا لله تعالى من غير مقابل كالزكاة، وتخرج عنه سائر الديون غير المالية من صلاة فائتة وإحضار خصم إلى مجلس الحكم ونحو ذلك (2) .

الدين الحال والمؤجل:

2-

لقد قسم الفقهاء الدين باعتبار وقت أدائه إلى قسمين: حال، ومؤجل (3) .

* فالدين الحال: هو ما يجب أداؤه عند طلب الدائن، وتجوز المطالبة بأدائه على الفور، والمخاصمة فيه أمام القضاء، سواء أكان كذلك في أصله، أم كان مؤجلا فحل أجله.

* والدين المؤجل: هو ما لا يجب أداؤه قبل حلول أجله، ولا تصح المطالبة به إلا عند حلول الأجل، لكن يجوز للمدين أن يعجل الأداء ويسقط الأجل، وليس للدائن أن يمتنع من أخذه إلى إذا كان في ذلك ضرر عليه.

والدين المؤجل قد يكون منجمًا على أقساط، لكن قسط منه أجل معلوم، وعند ذلك يجب الوفاء بكل قسط في الموعد المضروب له، ولا يجبر المدين على أدائه قبل حلول أجله.

(1) رد المحتار: 5 / 157؛ (وانظر فتح القدير: 5 / 431؛ طلبة الطلبة، ص 141) .

(2)

الولاية على المال والتعامل بالدين لعلي حسب الله، ص 83؛ وانظر نهاية المحتاج: 3 / 130؛ العذب الفائض شرح عمدة الفارض: 1 / 15.

(3)

كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي: 2 / 502؛ طلبة الطلبة للنسفي، ص 147؛ غمز عيون البصائر للحموي: 2 / 48؛ التعريفات الفقهية للمجددي، ص 296.

ص: 77

المبحث الأول

أحكام بيع الدين

3-

لقد ذهب ابن حزم الظاهري إلى عدم جواز بيع الدين مطلقًا في جميع صوره وحالاته (1) ، خلافًا لجمهور الفقهاء الذين أجازوا بعض صوره، وحظروا بعضها الآخر، ولهم في أحكامه تفصيلات وتقييدات، وخلاف وتعدد مقولات، وقد فرقوا فيها بين ما إذا كان البيع من المدين نفسه أو من غيره، وبين ما إذا كان الدين حالاً أو مؤجلاً، وبين ما إذا كان الثمن حالاً أو مؤجلاً. وبيان مذاهبهم منحصر في الصور الثمان التالية:

الصورة الأولى – بيع الدين المؤجل للمدين بثمن مؤجل:

4-

لقد ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة في المذهب إلى عدم جواز بيع الدين المؤجل من المدين بثمن مؤجل، لأنه من بيع الكالئ بالكالئ (أي الدين المؤخر بالدين المؤخر) ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم (2) عنه، ووقع الإجماع على فساده.

جاء في (المبدع) : " ولا يجوز بيع الكالئ بالكالئ: وهو بيع ما في الذمة بثمن مؤجل لمن هو عليه "(3) .

وجاء في (تكملة المجموع) للسبكي: "تفسير بيع الدين بالدين المجمع على منعه: وهو أن يكون للرجل على الرجل دين، فيجعله عليه في دين آخر مخالف له في الصفة أو القدر، فهذا هو الذي وقع الإجماع على امتناعه "(4) .

وجاء في (منحة الخالق) لابن عابدين نقلاً عن جواهر الفتاوى: " رجل له على آخر حنطة غير السلم، فباعها منه بثمن معلوم إلى شهر لا يجوز، لأن هذا بيع الكالئ بالكالئ، وقد نهينا عنه "(5) .

5-

وذهب ابن تيمية وتلميذه ابن القيم إلى جوازه (6)، واحتجوا على ذلك:

أ- بأن لكل واحد منهما فيه غرضًا صحيحًا ومنفعة مطلوبة، إذ تبرأ ذمة المدين عن دينه الأول، وتنشغل بدين آخر، قد يكون وفاؤه أسهل عليه وأنفع للدائن، وإذا كان الأمر كذلك، فإنه يكون جائزًا شرعًا، لأن التعامل إنما شرع لجلب منافع الناس وتحصيل مصالحهم.

(1) المحلى: 8 / 503، 9 / 6.

(2)

رواه الدارقطني والبيهقي والطحاوي والحاكم والبزار وابن أبي شيبة وابن عدي وعبد الرزاق من حديث موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف. قال الشافعي: أهل الحديث يوهنون هذا الحديث. وقال أحمد: ليس في هذا حديث يصح. غير أن هذا الحديث مع ضعف سنده لعلة تفرد موسى بن عبيدة به فقد تلقته الأمة بالقبول بين عامل به على عمومه وبين متأول له، واتفقت المذاهب الأربعة على الأخذ بمضمونه والاحتجاج به؛ (انظر التلخيص الحبير: 3 / 26؛ السيل الجرار للشوكاني: 3 / 14؛ الدراية لابن حجر: 2 / 157؛ المغني لابن قدامة: 4 / 53؛ نظرية العقد لابن تيمية، ص 235؛ نيل الأوطار: 5 / 255؛ سبل السلام: 3 / 18؛ تكملة المجموع للسبكي: 10 / 107؛ بداية المجتهد: 2 / 162) .

(3)

المبدع لبرهان الدين ابن مفلح: 4 / 150.

(4)

تكملة المجموع: 10 / 107.

(5)

منحة الخالق على البحر الرائق: 5 / 281.

(6)

إعلام الموقعين: 1 / 389.

ص: 78

ب- وبأن بيع الكالئ بالكالئ المنهي عنه بالإجماع هو أن يبيع المرء شيئًا موصوفًا في الذمة إلى أجل بثمن مؤجل، أما غير هذه الصورة فهي محل خلاف العلماء. قال ابن تيمية:"والإجماع إنما هو في الدين الواجب بالدين الواجب، كالسلف المؤجل من الطرفين "(1) . أما بيع الدين الساقط بالواجب كما هو الحال في هذه الصورة فلم يرد عنه نهي لا بلفظه ولا بمعناه. قال ابن القيم: " والساقط بالواجب: كما لو باعه دينًا له في ذمته بدين آخر من غير جنسه، فسقط الدين المبيع، ووجب عوضه، وهو بيع الدين ممن هو في ذمته. . . وإذا جاز أن يشغل أحدهما ذمته، والآخر يحصل على الربح – وذلك في بيع العين بالدين – جاز أن يفرغها من دين ويشغلها بغيره، وكأنه شغلها به ابتداءً، إما بقرض أو بمعاوضة، فكانت ذمته مشغولة بشيء، فانتقلت من شاغل إلى شاغل، وليس هناك بيع كالئ بكالئ، وإن كان بيع دين بدين، فلم ينه الشارع عن ذلك لا بلفظه ولا بمعنى لفظه، بل قواعد الشرع تقتضي جوازه، فإن الحوالة اقتضت نقل الدين وتحويله من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، فقد عاوض المحيل المحتال من دينه بدين آخر في ذمة ثالث، فإذا عاوضه من دينه على دين آخر في ذمته كان أولى بالجواز "(2) .

6-

وبالنظر في أدلة الفريقين يبدو لي رجحان قول جمهور الفقهاء بعدم جواز هذه الصورة، وذلك لصدق (بيع الكالئ بالكالئ) المنهي عنه بإجماع الفقهاء عليها (3) ، حيث إن معناها (بيع النسيئة بالنسيئة) أو (بيع الدين المؤخر الذي لم يقبض بالدين المؤخر) باتفاق أهل العلم (4)، وهذه الصورة من مشتملاته. قال ابن هبيرة الحنبلي في (الإفصاح) :"واتفقوا على أن بيع الكالئ بالكالئ باطل"(5) . ولأن قصر شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم معنى بيع الكالئ بالكالئ على صورة السلف المؤجل من الطرفين غير مسلم، لافتقاره إلى دليل يفيده، ولوجود صور أخرى يصدق عليها معناه وتدخل تحت عمومه، وقد نقل الإجماع على حظر بعضها باعتبارها من أفراده، ومنها هذه الصورة.

(1) نظرية العقد لابن تيمية، ص 235؛ مجموع فتاوى ابن تيمية: 29 / 274.

(2)

إعلام الموقعين: 1 / 389.

(3)

وقد حكى هذا الإجماع الإمام أحمد وابن المنذر وابن رشد وابن قدامة وابن تيمية والسبكي وغيرهم؛ (انظر المغني: 4/ 53؛ نظرية العقد لابن تيمية، ص 235؛ الإجماع لابن المنذر، ص 117؛ بداية المجتهد: 2 / 162؛ تكملة المجموع للسبكي: 10 / 107؛ الزرقاني على الموطأ: 3 / 308؛ سبل السلام: 3 / 18) .

(4)

المذهب: 1 / 278؛ أحكام القرآن للجصاص: 1 / 466، 483؛ مرقاة المفاتيح: 3 / 322؛ نظرية العقد، ص 235؛ حاشية ابن رحال على شرح ميارة: 1 / 317.

(5)

الإفصاح: 1 / 361.

ص: 79

الصورة الثانية – بيع الدين الحال للمدين بثمن مؤجل:

7-

وقد ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة في المذهب إلى عدم جوازها، لأنها من بيع الكالئ بالكالئ الذي ورد النهي عنه، وأجمع الفقهاء على حظره. ويسمي المالكية هذه الصورة (فسخ الدين في الدين) لأن ما في ذمة المدين من الدين الأول قد فسخ وزال بالتزامه دينًا آخر بدله (1) .

قال أبو عبيد القاسم بن سلام: " النسيئة بالنسيئة في وجوه كثيرة من البيع، منها: أن يسلم الرجل إلى الرجل مائة درهم إلى سنة في كر طعام، فإذا انقضت السنة وحل الطعام، قال الذي عليه الطعام للدافع: ليس عندي طعام، ولكن بعني هذا الكر بمائتي درهم إلى شهر، فيبيعه منه، ولا يجري بينهما تقابض. فهذه نسيئة انقلبت إلى نسيئة، ولو كان قبض الطعام منه، ثم باعه منه أو من غيره بنسيئة لم يكن كالئًا بكالئ"(2) .

وقال المطرزي: " النسيئة بالنسيئة هو أن يكون على رجل دين، فإذا حل أجله استباعك ما عليه إلى أجل "(3) .

وقال الباجي: " بيع ثوب إلى أجل بحيوان على بائعه إلى أجل أدخل في باب الكالئ بالكالئ"(4) .

8-

وخالفهم في ذلك ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وقالوا بجواز هذا البيع، وحجتهم على ذلك نفس الحجة التي ساقوها على الصورة السابقة وهي بيع الدين المؤجل للمدين بثمن مؤجل (5) .

9-

والراجح في نظرية ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من عدم جواز هذه الصورة، وذلك لصحة اندراجها تحت مفهوم بيع الكالئ بالكالئ المحظور بإجماع أهل العلم، ولأنها ذريعة إلى ربا النسيئة، حيث إن استبدال الدين الحال بدين مؤجل من غير جنسه مظنة الزيادة في الدين في مقابل الأجل الممنوع للمدين، وذلك في معنى ربا الجاهلية (تقضي أم تربي) . وقد نبه إلى هذا المعنى القاضي عياض بقوله في معنى بيع الكالئ بالكالئ:"وتفسيره: أن يكون لرجل على آخر دين من بيع أو غيره، فإذا جاء لاقتضائه لم يجده عنده، فيقول له: بع مني شيئًا إلى أجل أدفعه إليك – وما جانس هذا – ويزيده في المبيع لذلك التأخير، فيدخله السلف بالنفع"(6) .

(1) الزرقاني على خليل: 5 / 81؛ منح الجليل: 2 / 562؛ التاج والإكليل: 4 / 367؛ مواهب الجليل: 4 / 368؛ حاشية الحسن بن رحال على شرح ميارة: 1 / 317؛ المعونة: 2 / 992.

(2)

غريب الحديث لأبي عبيد: 1 / 21 وقد نقله عنه ابن منظور في اللسان: 1 / 147؛ والفيومي في المصباح: 2 / 654.

(3)

المغرب في ترتيب المعرب: 2 / 228.

(4)

المنتقى شرح الموطأ: 5 / 33.

(5)

انظر ف 5 من البحث.

(6)

مشارق الأنوار للقاضي عياض: 1 / 340؛ وانظر أيضًا: الزرقاني على خليل: 5 / 81؛ منح الجليل: 2 / 562؛ الموافقات: 4 / 40.

ص: 80

الصورة الثالثة – بيع الدين الحال للمدين بثمن حال:

10 – لقد فرق الفقهاء في هذه الصورة بين حالتين، حالة ما إذا كان الدين مستقرًا، وحالة ما إذا كان غير مستقر.

الحالة الأولى: فإن كان الدين مستقرًا، كغرامة المتلف، وبدل القرض، وقيمة المغصوب، وبدل الخلع، وثمن المبيع، والأجرة بعد استيفاء المنفعة، والمهر بعد الدخول، فقد ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة إلى جواز بيعه من المدين بثمن حال (1) .

واحتجوا على ذلك:

أ- بما ورى أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم والبيهقي والدارقطني وغيرهم عن ابن عمر، رضي الله عنه، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: إني أبيع الإبل بالنقيع، فأبيع بالدنانير، وآخذ مكانها الدراهم، وأبيع بالدراهم، وآخذ مكانها الدنانير، فقال عليه الصلاة والسلام:((لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما شيء)) (2) . قالوا: فهذا ابن عمر يأخذ الدنانير مكان الدراهم، والدراهم مكان الدنانير، وهو بيع لأحدهما بالآخر، ويقره النبي صلى الله عليه وسلم، على ذلك، فكان ذلك دليلاً على جواز بيع ما في الذمة من أحد النقدين بالآخر إذا كان المشتري هو المدين، وكان الثمن حالاً، وإذا جاز بيع أحد النقدين بالآخر جاز بيع غيرهما مما يثبت في الذمة من باب أولى.

ب- وأن ما في ذمة المدين مقبوض له، فإذا دفع ثمنه للدائن كان ذلك بيع مقبوض بمقبوض، وهو جائز شرعًا.

11-

واشترط ابن تيمية وابن القيم – وهو قول الإمام أحمد – لصحة ذلك الاعتياض أن يكون بسعر يومه (3) لقوله صلى الله عليه وسلم في بعض روايات حديث ابن عمر: ((لا بأس إذا كان بسعر يومه إذا افترقتما وليس بينكما شيء)) (4) . حيث شرط النبي، عليه الصلاة والسلام، لصحة الاعتياض عن الدين أن يكون بسعر يومه، أي بثمن المثل أو دونه، لا أكثر منه، لئلا يربح الدائن فيما لم يضمن، حيث صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن ربح ما لم يضمن (5) . وما ذهب إليه الشيخان ابن تيمية وابن القيم قول وجيه، وفقه في المسألة سديد.

12-

واستثنى جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة من قولهم بجواز بيع الدين من المدين بثمن حال بدل الصرف ورأس مال السلم، فلم يجيزوا بيع أي منهما للمدين قبل قبضه، لأن في ذلك تفويتا ًلشرط الصحة، وهو القبض في بدلي الصرف ورأس مال السلم قبل الافتراق (6) .

(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص 358؛ رد المحتار: 4 / 166؛ شرح منتهى الإرادات: 2 / 222؛ كشاف القناع: 3/ 293؛ المهذب: 1 / 269؛ نهاية المحتاج: 4 / 88؛ المجموع شرح المذهب: 9 / 274؛ فتح العزيز: 8 / 434 وما بعدها؛ المبدع: 4 / 198؛ أسنى المطالب: 2 / 84؛ المغني: 4 / 134؛ تبيين الحقائق: 4 / 82؛ بدائع الصنائع: 7 / 3103؛ القواعد لابن رجب، ص 79، 80؛ الأشباه والنظائر للسيوطي، ص 331؛ وانظر م (424) من مرشد الحيران.

(2)

عارضة الأحوذي: 5 / 251؛ بذل المجهود: 15 / 12؛ سنن ابن ماجه: 760؛ السنن الكبرى للبيهقي: 5 / 284؛ سنن الدارقطني: 3 / 24؛ المستدرك: 2 / 44؛ التلخيص الحبير: 25/3.

(3)

مجموع فتاوى ابن تيمية: 29 / 519؛ شرح ابن القيم على مختصر سنن أبي داود: 5 / 134، 154، 116.

(4)

عارضة الأحوذي: 5 / 251؛ بذل المجهود: 15 / 12؛ سنن ابن ماجه: 760؛ السنن الكبرى للبيهقي: 5 / 284؛ سنن الدارقطني: 3 / 24؛ المستدرك: 2 / 44؛ التلخيص الحبير: 25/3.

(5)

أخرجه ابن ماجه والدارقطني وأبو داود والترمذي والنسائي والطحاوي والحاكم وأحمد والدارمي وغيرهم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. (سنن ابن ماجه: 2 / 738؛ سنن النسائي: 7 / 259؛ بذل المجهود: 15 / 179؛ عارضة الأحوذي: 5 / 243؛ مسند أحمد: 2 / 175؛ سنن الدارقطني: 3 / 75؛ المستدرك: 2/17؛ إرواء الغليل: 5 / 146) .

(6)

رد المحتار: 4 / 166، 244، 209؛ تبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه: 4 / 82، 118، 136؛ بدائع الصنائع: 7 / 3102 وما بعدها؛ أسنى المطالب: 2 / 85؛ القواعد لابن رجب، ص 82؛ وانظر م (559) من مرشد الحيران.

ص: 81

الحالة الثانية: أما إذا كان الدين غير مستقر، كالمسلم فيه، والأجرة قبل استيفاء المنفعة أو مضي زمانها، والمهر قبل الدخول ونحو ذلك، فقد فرق الفقهاء في حكم بيعه من المدين بين ما إذا كان دين سلم أو غيره (1) :

أولاً – دين السلم:

13-

لقد اختلف الفقهاء في صحة بيع رب السلم الدين المسلم فيه للمدين على قولين:

أحدهما: لجمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة؛ وهو أنه لا يصح بيع المسلم فيه ممن هو في ذمته، لقوله صلى الله عليه وسلم:((من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره)) (2) . حيث دل على حظر بيع دين السلم من صاحبه أو غيره (3) .

والثاني: للمالكية وأحمد في رواية عنه صححها ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وهو قول ابن عباس، وهو جواز بيع المسلم فيه قبل قبضه لمن هو في ذمته بثمن المثل أو دونه لا أكثر منه (4) . قال ابن المنذر:"ثبت عن ابن عباس أنه قال: "إذا أسلفت في شيء إلى أجل، فإن أخذت ما أسلفت فيه، وإلا فخذ عوضًا أنقص منه، لا تربح مرتين" (5) .

* واحتجوا على جواز بيعه من المدين بثمن المثل أو دونه:

أ – أنه قول ابن عباس، رضي الله عنه، ولا يعرف له في الصحابة مخالف.

ب- وبأن دين السلم دين ثابت، فجاز الاعتياض عنه كبدل القرض والثمن في البيع.

ج – وبأنه أحد العوضين في البيع، فجاز الاعتياض عنه كالعوض الآخر.

(1) وأساس التفرقة كما قال السيوطي في الأشباه والنظائر، ص 326 أن "جميع الديون التي في الذمة بعد لزومها وقبض المقابل لها مستقرة إلا دينًا واحدًا وهو دين السلم، فإنه وإن كان لازمًا فهو غير مستقر، وإنما كان غير مستقر لأنه بصدد أن يطرأ انقطاع المسلم فيه، فينفسخ العقد ".

(2)

أخرجه أبو داود وابن ماجه والدارقطني والبيهقي عن أبي سعيد الخدري. (بذل المجهود: 15 / 146؛ سنن ابن ماجه: 2 / 766؛ سنن البيقهي: 6 / 30؛ سنن الدارقطني: 3 / 45؛ الدراية في تخريج أحاديث الهداية: 2 / 160) .

(3)

رد المحتار: 4 / 166، 209؛ كشاف القناع: 293؛ المجموع: 9 / 273؛ البدائع: 7/3178؛ الأم: 3 / 133؛ المغني: 4 / 334؛ شرح منتهى الإرادات: 2 / 222؛ أسنى المطالب: 2 / 84؛ مجموع فتاوى ابن تيمية: 29 / 500، 503، 506؛ وانظر م (559) من مرشد الحيران؛ وم (492) من مجلة الأحكام الشرعية الحنبلية.

(4)

القوانين الفقهية، ص 296؛ مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية، ص 345؛ مجموع فتاوى ابن تيمية: 29 / 503، 504، 518، 519؛ تهذيب سنن أبي داود لابن القيم: 5 / 113 وما بعدها.

(5)

تهذيب سنن أبي داود لابن القيم: 5 / 113.

ص: 82

د – ولأن حديث ((من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره)) ضعيف لا تقوم به حجة كما ذكر علماء الحديث. قال الحافظ ابن حجر: " فيه عطية بن سعد العوفي، وهو ضعيف. وأعله أبو حاتم والبيهقي وعبد الحق وابن القطان بالضعف والاضطراب "(1) . وحتى لو ثبت، فمعنى لا يصرفه إلى غيره: أي لا يصرفه إلى سلم آخر ببدل مؤجل، أو لا يبعه بثمن مؤجل، وذلك خارج عن محل النزاع. قال ابن القيم: " فثبت أنه لا نص في التحريم ولا إجماع ولا قياس، وأن النص والقياس يقتضيان الإباحة (2) .

* واستدلوا على عدم جواز الاعتياض عنه ببدل يساوي أكثر من قيمته (3) :

أ – أن يتهم في الأكثر بسلف جر نفعًا.

ب- ولأن دين السلم مضمون على البائع، ولم ينتقل إلى ضمان المشتري، فلو باعه المشتري من المسلم إليه بزيادة، فيكون رب السلم قد ربح فيما لم يضمن، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع ما لم يضمن.

14-

غير أن المالكية اشترطوا لصحة جواز بيعه من المسلم إليه ببدل حال ثلاثة شروط بينها الخرشي بقوله: " يجوز للمسلم إليه أن يقضي دين السلم من غير جنس المسلم فيه، سواء حل الأجل أم لا، بشروط ثلاثة:

الأول: أن يكون المسلم فيه مما يباع قبل قبضه (وهو ما سوى الطعام) كما لو أسلم ثوبًا في حيوان، فأخذ عن ذلك الحيوان دراهم، إذ يجوز بيع الحيوان قبل قبضه.

الثاني: أن يكون المأخوذ مما يباع بالمسلم فيه يدًا بيد، كما لو أسلم دراهم في ثوب مثلاً، فأخذ عنه طشت نحاس، إذ يجوز بيع الطشت بالثواب يدا بيد.

الثالث: أن يكون المأخوذ مما يجوز أن يسلم فيه رأس المال، كما لو أسلم دراهم في حيوان، فأخذ عن ذلك الحيوان ثوبًا، فإن ذلك جائز، إذ يجوز أن يسلم الدراهم في الثوب" (4) .

15-

وعندي أن مذهب المجيزين بشرط أن يكون البيع بثمن المثل أو دونه لا أكثر منه أولى بالاعتبار والترجيح لقوة مسندهم ونصاعة برهانهم، وسلامته من الإيراد عليه.

(1) التلخيص الحبير: 3 / 25.

(2)

تهذيب سنن أبي داود لابن القيم: 5 / 117.

(3)

القوانين الفقهية، ص 296.

(4)

شرح الخرشي: 5 / 227؛ وانظر القوانين الفقهية، ص 274؛ عقد الجواهر الثمينة: 2 /563.

ص: 83

ثانيًا – الديون الأخرى غير المستقرة:

16-

اختلف الفقهاء في حكم بيع ما لم يستقر عليه ملك الدائن من الديون – غير السلم – لعدم قبض المدين البدل المقابل لها، كالأجرة قبل استيفاء المنفعة أو مضي زمانها، وكالمهر قبل الدخول، والجعل قبل العمل ونحو ذلك على قولين:

أحدهما: للحنابلة في المذهب؛ وهو عدم جواز بيعها ممن هي عليه، لأن ملكه عليها غير تام (1) .

والثاني: للحنفية والشافعية في الأظهر وأحمد في رواية، وهو جواز بيعها ممن عليه الدين، كالديون التي استقر عليها ملك الدائن، إذ لا فرق بينهما (2) . وقد صحح ابن تيمية وابن القيم هذا القول بشرط أن يكون الاعتياض عنها بسعر يومها أو أقل، كما هو الشأن في الديون الأخرى عندهم (3) . وهو الراجح في نظري.

الصورة الرابعة – بيع الدين المؤجل للمدين بثمن حال:

17-

والأحكام المتعلقة بهذه الصورة، وخلاف الفقهاء فيها وأدلتهم هي نفس ما بيناه في الصورة السابقة (بيع الدين الحال للمدين بثمن حال) ، وفيها غنية عن الإعادة والتكرار.

الصورة الخامسة – بيع الدين المؤجل لغير المدين بثمن مؤجل:

18-

ذهب جماهير أهل العلم إلى عدم جواز بيع الدين المؤخر من غير المدين بثمن مؤخر، سواء اتفق الأجلان أو اختلفا، إذ يصدق عليه (بيع الكالئ بالكالئ) المنهي عنه بإجماع الفقهاء، ولأنه بيع ما لا يقدر على تسليمه، وذلك غرر، فلا يحل شرعًا. قال ابن تيمية:" فإن ذلك منع منه لئلا تبقى ذمة كل منهما مشغولة بغير فائدة حصلت لا له ولا للآخر، والمقصود من العقود القبض، فهو عقد لم يحصل به مقصود أصلاً، بل هو التزام بلا فائدة "(4) . وقال ابن القيم: " فإن المنهي عنه – أي من بيع الكالئ بالكالئ – قد اشتغلت فيه الذمتان بغير فائدة، فإنه لم يتعجل أحدهما ما يأخذه، فينتفع بتعجيله، وينتفع صاحب المؤخر بربحه، بل كلاهما اشتغلت ذمته بغير فائدة"(5) .

(1) شرح منتهى الإرادات: 2 / 223؛ كشاف القناع: 3 / 294.

(2)

رد المحتار: 4 / 166؛ نهاية المحتاج: 4 / 88؛ المجموع: 9 / 275؛ فتح العزيز: 8 / 434 وما بعدها.

(3)

الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية، ص 131؛ تهذيب سنن أبي داود لابن القيم: 5 / 113، 117، 134، 154؛ مجموع فتاوى ابن تيمية: 29 / 519.

(4)

مجموع فتاوى ابن تيمية: 29 / 472؛ نظرية العقد لابن تيمية، ص 235.

(5)

إعلام الموقعين: 1 / 389.

ص: 84

الصورة السادسة – بيع الدين الحال لغير المدين بثمن مؤجل:

19 – ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة إلى عدم جواز بيع الدين الحال لغير المدين بثمن مؤجل، لأنه بيع ما ليس في يد البائع، ولا له من السلطة شرعًا ما يمكنه من قبضه، فكان بيعًا لشيء لا يقدر على تسليمه، إذ ربما منعه المدين أو جحده، وذلك غرر، فلا يجوز (1) .

الصورة السابعة – بيع الدين الحال لغير المدين بثمن حال:

20-

اختلف الفقهاء في ذلك على أربعة أقوال:

أحدها: لجمهور الفقهاء من الحنفية والحنابلة والشافعية في الأظهر؛ وهو عدم جواز بيع الدين الحال من غير المدين بثمن حال، وذلك لانطوائه على غرر عدم القدرة على التسليم (2) .

قال السرخسي: "وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم من قرض أو غيره، فباع دينه من رجل آخر بمائة دينار وقبض الدنانير، لم يجز، وعليه أن يرد الدنانير، لأن البيع لا يرد إلا على مال متقوم، وما في ذمة زيد لا يكون مالاً متقومًا في حق عمرو، فلا يجوز بيعه منه، ولأن البائع لا يقدر على تسليمه حتى يستوفى، ولا يُدرى متى يستوفى"(3) .

وجاء في شرح منتهى الإرادات: " ولا يصح بيع دين مطلقًا لغيره، أي من غير من هو عليه، لأنه غير قادر على تسليمه، أشبه الآبق"(4) .

وقال السيوطي: " أما لغير من هو عليه بالعين، كأن يشتري عبد زيد بمائة له على عمرو، ففيه قولان أظهرهما في الشرحين والمحرر والمنهاج: البطلان، لأنه لا يقدر على تسليمه "(5) .

والثاني: وجه عند الشافعية وقول للإمام أحمد صححه ابن تيمية وتلميذه ابن القيم: وهو الجواز مطلقًا (6) .

قال ابن القيم: "والدين في الذمة يقوم مقام العين، ولهذا تصح المعاوضة عليه من الغريم وغيره"(7) .

وجاء في الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية: " ويجوز بيع الدين في الذمة من الغريم وغيره، ولا فرق بين دين السلم وغيره، وهو رواية عن أحمد "(8) .

والثالث: للمالكية؛ وهو التفريق بين دين السلم وغيره، قالوا:

أ – فإن كان دين سلم، فيجوز بيعه من غير المدين بعوض حال من غير جنسه – إذا لم يكن طعامًا – بمثل ثمنه وبأقل وأكثر، كي لا يدخله بيع الطعام قبل قبضه، أو يؤول إلى بيع الكالئ بالكالئ.

قال ابن رشد الحفيد: " وأما بيع دين السلم من غير المسلم إليه فيجوز بكل شيء يجوز به التبايع ما لم يكن طعامًا، لأنه يدخله بيع الطعام قبل قبضه "(9) .

وجاء في القوانين الفقهية: " ويجوز بيع العرض المسلم فيه من غير بائعه بالمثل وأقل وأكثر يدًا بيد، ولا يجوز بالتأخير للغرر "(10) .

(1) رد المحتار: 4 / 166؛ تبيين الحقائق: 4 / 83؛ البدائع: 7 / 3104؛ الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص 357، 358؛ أسنى المطالب: 2 / 85؛ نهاية المحتاج: 4 / 89؛ فتح العزيز: 8/439؛ المجموع: 9 / 275؛ الأشباه والنظائر للسيوطي، ص 331؛ المبدع: 4 / 199؛ شرح منتهى الإرادات: 2 / 222؛ كشاف القناع: 3 / 294؛ القوانين الفقهية، ص 275؛ منح الجليل: 2 / 564؛ الزرقاني على خليل: 5 / 83؛ الخرشي: 5 / 77؛ البهجة شرح التحفة: 2 / 47؛ التاودي على التحفة: 2 / 48؛ الموطأ: 2 / 675.

(2)

رد المحتار: 4 / 166؛ البدائع: 7 / 3104؛ تبيين الحقائق: 4 / 83؛ أسنى المطالب: 2/85؛ نهاية المحتاج: 4 / 89؛ المجموع: 9 / 275؛ كشاف القناع: 3 / 294؛ المبدع: 4/199.

(3)

المبسوط: 14 / 22.

(4)

شرح منتهى الإرادات: 2 / 222.

(5)

الأشباه والنظائر، ص 331.

(6)

مجموع فتاوى ابن تيمية: 29 / 503، 506؛ المبدع: 4 / 199؛ تهذيب سنن أبي داود لابن القيم: 5 / 114؛ المنثور في القواعد للزركشي: 2 / 160، 161.

(7)

إعلام الموقعين: 4 / 3.

(8)

الاختيارات الفقهية للبعلي، ص 131.

(9)

بداية المجتهد: 2 / 231.

(10)

القوانين الفقهية لابن جزي، ص 275.

ص: 85

ب- أما سائر الديون الأخرى: فيجوز بيعها من غير المدين بشروط تباعد بينه وبين الربا والغرر، وتنفي عنه سائر المحظورات الأخرى، وهذه الشروط ثمانية (1) :

1-

أن يعجل المشتري الثمن، لأنه إذا لم يعجل في الحين، فإنه يكون من بيع الدين بالدين.

2-

أن يكون الدين مما يجوز بيعه قبل قبضه، احترازًا مما لو كان طعامًا، إذ لا يجوز بيعه قبل قبضه.

3-

أن يباع بغير جنسه، أو بجنسه بشرط أن يكون مساويا له وأن يكون عرضًا غير نقد.

4-

أن لا يكون ذهبًا بفضة ولا عكسه، لاشتراط التقايض في صحة بيعها.

5-

أن يكون المدين حاضرًا في البلد، ليعلم حاله من فقر أو غنى، لأن عوض الدين يختلف باختلاف حال المدين، والمبيع لا يصح أن يكون مجهولاً.

6-

أن يكون المدين مقرًا بالدين، فإن كان منكرًا له فلا يجوز بيع دينه، ولو كان ثابتًا بالبينة، حسمًا للمنازعات.

7-

أن لا يكون بين المشتري والمدين عداوة.

أن لا يقصد المشتري إعنات المدين والإضرار به.

والرابع: للشافعية في قول – صححه كثير من أئمتهم كالشيرازي في المهذب والنووي في زوائد الروضة، واختاره السبكي وأفتى به شيخ الإسلام زكريا الأنصاري وغيره – وهو أنه يجوز بيع سائر الديون – عدا دين السلم – لغير من عليه الدين، كما يجوز بيعها من المدين ولا فرق إذا كان الدين حالاً، والمدين مقرًا مليئًا أو عليه بينة لا كلفة في إقامتها، وذلك لانتفاء الغرر الذي ينشأ من عدم قدرة الدائن على تسليم الدين إليه (2) .

أما دين السلم فلا يجوز بيعه من المدين ولا من غيره، لأنه لا يؤمن من فسخ العقد بسبب انقطاع المسلم فيه وامتناع الاعتياض عنه، فكان كالمبيع قبل القبض، ولقوله عليه الصلاة والسلام:((من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره)) . وهذا يقتضي عدم جواز بيع دين السلم لا من صاحبه ولا من غيره (3) .

21-

وبالنظر في هذه الأقوال الأربعة وأدلتها نجد أن حجج المانعين من بيع الدين في هذه الصورة تنحصر في وجود الغرر فيه، لعدم قدرة البائع على تسليمه، وفي اقترانه ببعض المحظورات الأخرى، كربا النسيئة، وبيع ما لم يقبض، وبيع الدين بالدين في بعض حالاته.

وحيث كان الأمر كذلك، فإنه يترجح لدينا أن بيع الدين الحال لغير من عليه بثمن حال إذا خلا من المحظورات الشرعية العارضة، فإنه يكون صحيحًا مشروعًا إذا انتفى غرر عدم القدرة على تسليمه.

(1) الخرشي: 5 / 77؛ منح الجليل: 2 /564 وما بعدها؛ الزرقاني على خليل: 5 / 83؛ البهجة شرح التحفة: 2 / 47 وما بعدها؛ التاودي على التحفة: 2 / 48؛ الموطأ: 2/ 675.

(2)

أسنى المطالب: 2 / 85؛ روضة الطالبين: 3 / 514؛ فتح العزيز: 8 / 439؛ المهذب: 1 / 270؛ نهاية المحتاج: 4/ 90؛ المجموع شرح المهذب: 9 / 275؛ الأشباه والنظائر للسيوطي، ص 331.

(3)

الأم: 3 / 133؛ نهاية المحتاج: 4 / 87؛ أسنى المطالب: 2 / 84؛ فتح العزيز: 8 / 432.

ص: 86

الصورة الثامنة – بيع الدين المؤجل لغير المدين بثمن حال:

22-

للفقهاء في هذه الصورة ثلاثة أقوال:

أحدها: لجمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة على الصحيح المُفْتَى به في مذاهبهم؛ وهو عدم جواز بيع الدين المؤجل بثمن حال لغير من عليه الدين مطلقًا، ولذلك لانتفاء شرط صحة البيع، وهو القدرة على تسليم المحل، حيث إن البائع ههنا يبيع ما ليس تحت يده، ولا له من السلطة شرعًا ما يمكنه من قبضه، فكان بيعًا لمال لا يقدر على تسليمه، إذ ربما جحده المدين أو منعه، وذلك غرر، فلا يجوز (1) .

والثاني: للمالكية؛ وهو التفريق بين دين السلم وبين غيره من الديون الأخرى، حيث قالوا:

أ- فإن كان دين سلم، فيجوز بيعه من غير المدين بعوض من غير جنسه – إذا لم يكن طعامًا – كي لا يدخله بيع الطعام قبل قبضه، وهو محظور شرعًا. وقد اشترط تعجيل البدل في الحال كي لا يؤول إلى بيع الدين بالدين (2) . ولا فرق بين أن يقع البيع بثمن المثل أو أقل أو أكثر.

ب- وأما سائر الديون الأخرى، فيجوز بيعها من غير المدين بثمن معجل من غير جنسها – إذا لم تكن طعامًا – بشرط أن لا تكون ذهبًا بفضة ولا عكسه، لاشتراط التقابض في صحة بيعها. كما يجوز بيعها بجنسها بشرط أن يكون مساويًّا له وأن تكون عرضًا غير نقد، فأما النقود فلا يجوز بيعها بجنسها مطلقًا، لإفضائه إلى الربا أو ذرائعه.

كذلك يشترط لصحة بيع الدين من غير المدين بثمن حال: أن يكون المدين حاضرًا في البلد، وأن يكون مقرًّا بالدين، وأن لا يكون بين المشتري والمدين عداوة، وأن لا يقصد المشتري إعنات المدين والإضرار به (3) .

والثالث: رواية عن الإمام أحمد اختارها وصححها شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم؛ وهو جواز بيع الدين المؤجل بثمن حال لغير من عليه الدين، سواء أكان دين سلم أو غيره، إذا لم يفض إلى الربا (4) . وهو وجه عند الشافعية أيضًا (5) .

قال ابن تيمية: " ويجوز بيع الدين في الذمة من الغريم وغيره، ولا فرق بين دين السلم وغيره، وهو رواية عن أحمد "(6) . وجاء في مجموع فتاوى ابن تيمية: " فمذهب مالك أنه يجوز بيع المسلم فيه من غير المستسلف، كما يجوز عنده بيع سائر الديون من غير من هو عليه. وهذا أيضًا إحدى الروايتين عن أحمد. نص عليه في مواضع بيع الدين من غير من هو عليه، كما نص على بيع دين السلم ممن هو عليه، وكلاهما منصوص عن أحمد في أجوبة كثيرة من أجوبته، وإن كان ذلك ليس في كتب كثير من متأخري أصحابه. وهذا القول أصح، وهو قياس أصول أحمد، وذلك لأنَّ دين السلم مبيع "(7) .

(1) المبسوط: 14 / 22؛ رد المحتار: 4 / 166؛ تبيين الحقائق: 4 / 83؛ أسنى المطالب: 2/85؛ الأشباه والنظائر للسيوطي، ص 331؛ شرح منتهى الإرادات: 2 / 222؛ كشاف القناع: 3 / 294؛ المبدع: 2 / 85؛ نهاية المحتاج: 4 / 89؛ المجموع شرح المذهب: 9 / 275.

(2)

بداية المجتهد: 2 / 231؛ القوانين الفقهية لابن جزي، ص 275.

(3)

الخرشي وحاشية العدوي عليه: 5 / 77؛ الزرقانى على خليل: 5 / 83؛ منح الجليل: 2 / 564 وما بعدها؛ البهجة شرح التحفة: 2 / 47 وما بعدها؛ التاودي على التحفة: 2 / 48.

(4)

إعلام الموقعين: 4 / 3.

(5)

المنثور في القواعد للزركشي: 2 / 161.

(6)

الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تميمة، ص 131.

(7)

مجموع فتاوى ابن تميمة: 29 / 506.

ص: 87

23 – وبالنظر في هذه الأقوال الثلاثة وما استند كل واحد منها إليه يبدو لي رجحان:

أ – جواز بيع العرض المسلم فيه المؤجل من غير المدين ببدل حال من غير جنسه، سواء أكان عرضًا أو نقدًا، إذا انتفى غرر عدم القدرة على التسليم والربا، وذلك لعدم وجود مانع شرعي من ذلك، حيث إن حديث ((من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره)) ضعيف لا تقوم به حجة كما ذكر علماء الحديث. . . وحتى لو ثبت فمعناه: فلا يصرفه إلى سلم جديد ببدل مؤجل أو لا يبعه بثمن مؤخر. . . ولعدم انطباق بيع الكالئ بالكالئ على هذه الصورة، إذ المراد به (النسيئة بالنسيئة) أو (الدين المؤخر الذي لم يقبض بالدين المؤخر) . وههنا بيع دين مؤخر بثمن معجل، فافترقا.

ب – جواز بيع الديون الأخرى من غير المدين بثمن حال، إذا انتقى غرر عدم القدرة على التسليم والربا وذرائعه. وعلى ذلك: فيجوز بيع دين النقود المؤجل منه بعرض معجل، وعكسه وهو بيع العرض الموصوف في الذمة المؤجل بنقد معجل، لعدم وجود ما يمنع من ذلك شرعًا. . . ولا يجوز بيع دين النقود المؤجل منه بنقد معجل من غير جنسه – لإفضائه إلى ربا النّساء – ولا من جنسه إذا كان أقل منه، لإفضائه إلى ربا الفضل والنساء. أما بيعه منه بأكثر منه أو بمساو له من جنسه معجل، فلا حجر فيه شرعًا، ولكنه ليس من شأن العقلاء دفع نقد عاجل ليأخذ مساويًّا له أو أقل من جنسه مؤجلاً في البيع.

* * *

ص: 88

المبحث الثاني

التطبيقات المعاصرة لبيع الدين

وسنعرض في هذا المبحث للكلام عن ثلاث مسائل:

المسألة الأولى

التعامل ب سندات القرض

24 – ل سندات القرض أكثر من صورة، والذي يعنينا في هذا المقام منها: الصكوك المالية التي تصدرها الحكومة أو شركة أو شخص اعتباري عام، ويتعهد المصدر بأن يدفع لحاملها مبلغًا معينًا من المال في وقت محدد في المستقبل يعرف بـ (تاريخ الاستحقاق) . وهذه السندات لا يحتسب عليها فائدة عادة، ولكنها تباع مقدمًا بحسم يجري عند بيعها من قيمتها الاسمية، يكون بمثابة الفائدة، ويحسب على أساس سعر الفائدة السائد في الأسواق المالية. ويجري تداول هذه السندات عن طريق البيع في سوق الأوراق المالية (البورصة) على نفس المبدأ.

ومن هذا القبيل سندات الخزينة التي تصدرها حكومة الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وغيرهما من الدول الغربية باسم (Treasury Bill) أو (Treasury Bond) ، وكذا السندات التي تصدرها حكومات الولايات والأقاليم والبلديات على هذا الأساس.

25 – وهذه السندات لا يجوز شرعًا إصدارها ولا شراؤها ولا تداولها بالبيع. أما شراؤها عند الإصدار، فلأنه إقراض بفائدة ربوية حسم مقدارها عن المشتري (المقرض) وقت الشراء من مبلغ القرض، والتزم المصدر (المقترض) بدفعها وقت الاستحقاق، إذ لا فرق في الآلية والحكم الشرعي بين سعر الفائدة وسعر الحسم في القروض الربوية وسنداتها.

وأما تداولها بالبيع بعد صدورها من الحسم، فهو من باب بيع الدين لغير من هو عليه، وهو غير جائز شرعًا في قول أحد من الفقهاء إذا انطوى على الربا، حتى عند من يرى صحة بيع الدين لغير من هو عليه. ولا خفاء في تحقق الربا في بيع هذا النوع من السندات، إذ البدلان من النقود – ومن المعلوم المقرر في باب الصرف عدم جواز بيع النقود بجنسها مع التفاضل أو النساء، وحتى عند اختلاف الجنس يجب التقابض – وقد انتفى في هذا البيع شرط التساوي والتقابض، فتحقق فيه ربا الفضل والنساء في قول سائر الفقهاء. (ر. ف 22 من البحث) .

ولا فرق في ذلك بين أن تكون الجهة المصدرة لها خاصة أو عامة ترتبط بالدولة، ولا أثر لتسميتها شهادات أو سندات أو صكوكًا استثمارية أو ادخارية أو تسمية الفائدة الربوية التي ينطوي شراؤها وتداولها عليها حسمًا أو فائدة أو عمولة أو عائدًا أو ربحًا أو غير ذلك.

وقد أكد هذا الحكم ووثقه قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي (المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي) رقم (62 / 11 / 6) في دورته السادسة المنعقدة في جدة من 17 – 23 شعبان 1410 هـ / الموافق 14 – 20 آذار 1990 م، وقد جاء فيه:

" تحرم أيضًا السندات ذات الكوبون الصفري باعتبارها قروضًا يجري بيعها بأقل من قيمتها الاسمية، ويستفيد أصحابها من الفروق باعتبارها خصمًا لهذه السندات".

ص: 89

المسألة الثانية

حسم الكمبيالات

26-

الكمبيالة: هي سند دين يتعهد مصدره بأن يدفع في وقت معين في المستقبل إلى شخص محدد اسمه في السند أو لأمره أو لحامل السند مبلغًا محددًا من النقود نتيجة بيع مؤجل الثمن أو قرض أو غير ذلك. ولا يحل أجل وفاء هذه الورقة التجارية إلا في التاريخ المدون عليها.

وحسم الكمبيالات: عملية مصرفية تتلخص في قيام حامل الورقة التجارية (الكمبيالة) بنقل ملكيتها وملكية الحق الثابت فيها عن طريق التظهير إلى المصرف أو غيره قبل ميعاد الاستحقاق، مقابل حصول المظهر على قيمتها مخصومًا منها مبلغ معين، وهو مجموع عمولة المصرف لقاء الاحتفاظ بالكمبيالة وتحصيلها، مع فائدة المبلغ المدفوع إلى المظهر عن المدة الباقية من تاريخ دفعه إلى تاريخ استحقاق الكمبيالة. وللمصرف أن يكرر الخصم لدى مصرف آخر أو لدى البنك المركزي.

27-

حسم الكمبيالات صورة من صور الإقراض بفائدة التي تقوم بها البنوك التقليدية، وهو عملية محظورة شرعًا، لابتنائها على قاعدة القرض الربوي، ولانطوائها بلا ريب على الربا، وهو محرم شرعًا، وذلك لأمرين:

أحدهما: أننا لو أخذنا عملية خصم الكمبيالات على ظاهرها بحسب الشكل الذي أفرغت فيه لوجدناها من قبيل بيع الدين لغير من عليه الدين، حيث يبيع صاحب الكمبيالة (الدائن) دينه المؤجل المسطور فيها لغير المدين بثمن معجل أقل منه من جنسه، وبيع الدين لغير من عليه الدين محظور مطلقًا عند أكثر الفقهاء، وجائز عند بعضهم إذا انتفى فيه الغرر والربا، غير أن الربا ليس بمنتف ههنا، بل هو متحقق، لأن العوضين من النقود، وقد باع الدائن نقدًا آجلاً لغير المدين بنقد عاجل أقل منه من جنسه، فانطوى بيعه هذا على ربا الفضل والنساء، ومن هنا كان محظورًا باتفاق الفقهاء (1) . (رف 22، 23 من البحث) .

والثاني: أننا لو نظرنا إلى عملية خصم الكمبيالات بحسب المقصود والغاية منها، لوجدناها أحد أمرين:

أ – إما إقراض مبلغ وأخذ المقرض حوالة من المقترض بمبلغ أكثر منه يستوفى بعد مدة معينة، وهو ربا صريح لا مجال للتأويل فيه، لأن الحوالة يشترط لصحتها التساوي بين الدين المحال به والمحال عليه، وهنا تحقق بين الدين المحال به (وهو مبلغ القرض) والدين المحال عليه (وهو المبلغ الذي تثبته الكمبيالة) زيادة في مقابل الأجل، وذلك من ربا النسيئة (2) .

ب- وإما قرض مضمون بالورقة التجارية المظهرة لأمر المصرف تظهيرًا تامًا، إذ المصرف لم يقصد أن يكون مشتريًّا للحق الثابت في الذمة، ولا أن يكون محالاً، وإنما قصد الإقراض، فقبل انتقال ملكية الورقة المخصومة إليه على سبيل الضمان، فإذا حل وقت استحقاقها، ولم يدفع أي من الملتزمين قيمتها، فإن المصرف يعود على الخاصم بالقيمة، دون أن يرغب أو يكلف نفسه مؤونة ملاحقة الملتزمين حتى نهاية المطاف، كما هو الحاصل عمليًّا (3) .

(1) انظر المصارف، معاملاتها وودائعها وفوائدها للأستاذ المحقق مصطفى الزرقا، ص 10.

(2)

المصارف، معاملاتها وودائعها وفوائدها للأستاذ المحقق مصطفى الزرقا، ص 10؛ الحوالة للدكتور إبراهيم عبد الحميد، ص 242، 243.

(3)

انظر تطوير الأعمال المصرفية للدكتور سامي حمود، ص 284.

ص: 90

38-

ولا يخفى أن عملية خصم الكمبيالات مغايرة تمامًا لمسألة (ضع وتعجل) السائغة شرعًا في نظر بعض الفقهاء، ذلك أن حديث (ضعوا وتعجلوا)(1) تضمن مشروعية حط الدائن لمدينة بعض الدين المؤجل نظير تعجيل باقيه على أساس أنه نوع من الصلح في الديون بين الدائن والمدين فحسب، ولذلك صنف الفقهاء مسألة ضع وتعجل تحت عنوان (صلح الإسقاط) أو (صلح الإبراء) أو (صلح الحطيطة) باعتبار أن القصد منه إسقاط الدين عن المدين وإبراء ذمته، خلافًا لربا النسيئة الذي يتضمن إنشاء دين وشغل الذمة، والفرق بينهما كما ذكر ابن القيم ِ:" أن مقابلة الأجل بالزيادة في الربا ذريعة إلى أعظم الضرر، وهو أن يصير الدرهم الواحد ألوفًا مؤلفة، فتشتغل الذمة بغير فائدة، وفي الوضع والتعجيل تتخلص ذمة هذا من الدين، وينتفع ذاك بالتعجيل له، والشارع له تطلع إلى براءة الذمم من الديون، وقد سمى الغريم المدين أسيرًا، ففي براءة ذمته تخليص له من الأسر، وهذا ضد شغلها بالزيادة مع الصبر"(2) .

ثم إن حديث الوضع والتعجيل تضمن مشروعية الصورة التي ورد فيها على أساس أن تكون العلاقة في هذه العملية ثنائية بين الدائن والمدين، إذ لا يتصور صلح الحطيطة أو الإسقاط والإبراء في علاقة ثلاثية – كما هو الحال في خصم الكمبيالات – حيث يدخل طرف ثالث ممول (وهو البنك الخاصم) فيقدم قرضًا بزيادة إلى أجل بشكل صريح أو ضمني، فافترقا. .

وقد جاء في قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورته السابعة المنعقدة بجدة من 7- 12 ذي القعدة 1412 هـ / الموافق 9 – 14 مايو 1992 م حول متعلقات موضوع (البيع بالتقسيط) ما يلي:

"الحطيطة من الدين المؤجل لأجل تعجيله، سواء أكانت بطلب الدائن أو المدين (ضع وتعجل) جائزة شرعًا، ولا تدخل في الربا المحرم إذا لمن تكن بناءً على اتفاق مسبق، وما دامت العلاقة بين الدائن والمدين ثنائية، فإذا دخل بينهما طرف ثالث لم تجز، لأنها حينئذ تأخذ حكم حسم الأوراق التجارية ".

(1) رواه الحاكم والبيهقي. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وقد اعترض الذهبي على تصحيحه، وأشار إلى ضعفه. قال ابن القيم:" قلت: هو على شرط السنن، وقد ضعفه البيهقي، ورجال إسناده ثقات، وإنما ضعف بمسلم بن خالد الزنجي، وهو ثقة فقيه، روى عنه الشافعي واحتج به "؛ (إغاثة اللهفان: 2 / 13؛ وانظر السنن الكبرى للبيهقي: 6 / 28؛ المستدرك وبهامشه تلخيصه للذهبي: 2 / 13) .

(2)

إغاثة اللهفان: 2 / 13؛ وانظر إعلام الموقعين: 3 / 371.

ص: 91

المسألة الثالثة

التوريق (تصكيك الديون)

29-

كلمة (التوريق) تعريب لمصطلح اقتصادي حديث وهو (Securitization) الذي يعني: جعل الدين المؤجل في ذمة الغير – في الفترة ما بين ثبوته في الذمة وحلول أجله – صكوكًا قابلة للتداول في سوق ثانوية. وبذلك يمكن أن تجرى عليه عمليات التبادل والتداول المختلفة، وينقلب إلى نقود ناضة بعد أن كان مجرد التزام في ذمة المدين.

وقد اشتقت هذه التسمية مما جاء في اللغة من قولهم: أورق الرجل؛ إذا صار ذا ورق. والورق: الدراهم المضروبة من الفضة. وذلك كناية عن كثرة النقود في يده (1) . ومن المعلوم أن الدائن يصير بالتوريق ذا نقود سائلة (ورق) بعد أن كان مجرد صاحب دين مؤجل في ذمة الغير، وكذا سائر من انتقلت إليه ملكية ذلك الصك. . . ونظير ذلك مصطلح (التورق) في الفقه الحنبلي الذي يعني (أن يشتري الشخص سلعة نسيئة، ثم يبيعها نقدًا لغير البائع بأقل مما اشتراها به، ليحصل بذلك على النقد)(2) . حيث إن قصد ذلك الشخص بالبيعتين هو الحصول على الدراهم الناضة (النقود السائلة) لا غير.

وقد أطلق بعض العلماء المعاصرين على هذه العملية اسم (التصكيك) وذكر أنها تقوم في الأساس على خلق أوراق مالية قابلة للتداول، مبنية على حافظة استثمارية ذات سيولة متدنية (3) . هذا وقد اكتسبت هذه الأوراق المالية (وثائق تداول الديون) أهمية كبرى في أسواق المال العالمية في السنوات الأخيرة، حيث فتحت الباب على مصراعيه لتداول الديون واستثمار الأموال في هذا السبيل الميسر المنظم.

وفي ذلك يقول الدكتور القري: " لقد بدأت فكرة تداول الديون عندما قامت مؤسسة تمويل بناء المساكن في الولايات المتحدة Government National Mortgage Association والمشهور باسم Ginne Mea – والتي تتولى عملية تمويل بناء المنازل – سنة 1968م بالتمويل لا عن طريق الإقراض المباشر، ولكن عن طريق توفير السيولة لمؤسسات الإقراض الخاصة، التي تقوم عندئذ بتقديم القروض. ثم تقوم المؤسسة بشراء تلك القروض (الديون) التي تقدمها المؤسسات لبناء المساكن، ومن ثم بتمكينها من التوسع في الإقراض. ولقد ولد ذلك سوقًا ثانوية لقروض بناء المساكن، سرعان ما توسعت، ودخلت فيها مؤسسات أخرى غير المؤسسة المذكورة Ginne Mea، مما أدى إلى تطورها، بحيث لم تعد تقتصر على قروض بناء المساكن، بل شملت كل أنواع الديون، كذلك الناتجة عن تمويل شراء السلع الاستهلاكية والسيارات وقروض بطاقات الائتمان والقروض الخاصة بإنشاء الأصول الرأسمالية. . . إلخ، وقد أمكن بهذه الطريقة تحويل الديون طويلة الأجل وقليلة السيولة إلى أصول سائلة.

(1) القاموس المحيط، ص 1198؛ أساس البلاغة، ص 496؛ المصباح المنير: 2 / 441.

(2)

وهذه المسألة معروفة عند بقية المذاهب، ولكنهم لا يسمونها تورقًا. أما عن حكم التورق عند الفقهاء: فقد ذهب جمهورهم إلى إباحته، لأنه بيع لم يظهر فيه قصد الربا ولا صورته. وكرهه عمر بن عبد العزيز ومحمد بن الحسن الشيباني. وقال الكمال بن الهمام: هو خلاف الأولى. واختار تحريمه ابن تيمية وابن القيم على أنه من بيع المضطر. غير أن المذهب الحنبلي على إباحته. (رد المحتار: 4 / 279؛ فتح القدير: 5 / 425؛ روضة الطالبين: 3 / 416؛ تهذيب مختصر سنن أبي داود لابن القيم: 5 / 108؛ كشاف القناع: 3 / 150، 186؛ الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية للبعلي، ص 129؛ مجلة الأحكام الشرعية على مذهب أحمد م 234) .

(3)

الدكتور محمد علي القري؛ الأسواق المالية، ص 116.

ص: 92

وتتم عملية تداول الديون وتنميطها بطرق مختلفة، فقد يبيع المصدر الأصلي (أي البنك مثلاً) الدين برمته إلى مالك جديد، يقوم بعد شرائه تلك الديون بقبض أقساط التسديد والفوائد المترتبة على القرض وعلى التأخير. .. إلخ. وتقتصر مهمة المصدر الأصلي على خدمة العلاقة بينهما، وتسمى Pass – Throughs. وقد تبقى ملكية الدين للمصدر الأصلي، وتبقى العلاقة مستمرة بينه وبين المدين، ولكنه – أي المصدر الأصلي – يقوم ببيع تيار الفوائد المتوقع من ذلك القرض، فيكون الدين مستحقًا للمصدر الأصلي، ويتحمل هو المخاطرة المتضمنة فيه، ولكنه يستعجل قبض الفوائد بأخذها من طرف ثالث معجلة (بمبالغ أقل طبعًا) وتسمى Pay – Throughs، أي أن المصدر يقبض مقدمًا الفوائد المتوقع دفعها فقط. أما الطريقة الثالثة، فهي إصدار سندات مضمونة بتلك الديون، ثم بيعها، فتكون الديون الأصلية ضمانًا لتلك السندات فقط، وتسمى Mortgage Baked.

وفي كل الحالات تقوم عملية تداول الديون على التنميط، إذ يقوم الدائن الأصلي بتوزيع تلك القروض إلى مجموعات متشابهة في مقدار المخاطرة المتضمنة فيها (أي ملاءة المدين) وتواريخ استحقاقها، ومعدلات الفوائد عليها، ثم يصدرها على شكل أدوات قابلة للتداول، وبذلك تستطيع أن تحول الدين قليل السيولة إلى سيولة كاملة.

وقد توسعت هذه العمليات حتى صار جل الديون قابلاً للتنضيض بهذه الطريقة، بما في ذلك الديون على الدول (دون العالم الثالث) للبنوك الدولية، ولا يلزم أن يكون لربا وثائق مثل الأسهم والسندات، بل كثيرًا ما تبقى على صفة قيود محاسبية في دفاتر المؤسسات المعنية، وتتداول بينهم بواسطة الكمبيوتر " (1) .

حكم التوريق في الفقه الإسلامي:

أما عن الحكم الشرعي للتوريق ومدى مشروعيته، فالنظر الفقهي يقتضي التفريق بين نوعين من المديونية: مديونية النقود، ومديونية السلع (عروض التجارة) . وبيان ذلك فيما يلي:

أ – توريق الدين النقدي:

30 – إذا كان الدين الثابت في الذمة المؤجل السداد نقودًا، فقد اتفقت كلمة الفقهاء على عدم جواز توريقه، وامتناع تداوله في سوق ثانوية، سواء بيع بنقد معجل من جنسه – حيث إنه يكون من قبيل حسم الكمبيالات، وينطوي على ربا الفضل والنساء باتفاق الفقهاء _ أو بيع بنقد معجل من غير جنسه، لاشتماله على ربا النساء، وذلك لسريان أحكام الصرف عليه شرعًا. ولا فرق في ذلك الحكم بين ما إذا كان سبب وجوب الدين النقدي في الذمة قرضًا أو بيعًا أو إجارة أو غير ذلك.

31 – وبناءً على ذلك فلا يجوز توريق دين المرابحة (المصرفية) المؤجل، وتداوله من قبل المصارف الإسلامية أو الأفراد في سوق ثانوية أو عن طريق البيع المباشر بنقد معجل أقل منه، كما يجري في عمليات توريق الديون المختلفة وتداولها في سوق الأوراق المالية، حيث إن ذلك من الربا باتفاق أهل العلم.

32-

أما عن حكم بيع صكوك المضاربة لدى البنوك الإسلامية، التي تمثل حصصًا شائعةً في وعاء المضاربة، فيفرق في شأنها بين ثلاث حالات:

الحالة الأولى: أن تكون موجودات وعاء المضاربة سلعًا عينية. فهذه لا حرج شرعًا في بيع صكوكها بنقود معجلة أقل من قيمتها السوقية أو أكثر أو مساوية، ولا حرج أيضًا في شراء المساهم (الجديد) حصة المساهم (الخارج) ، لأن ذلك كله من قبيل بيع الأعيان بالنقود المعجلة، ولا ينطوي على صريح الربا أو شبهته، وهو خالٍ أيضًا من الغرر المحظور شرعًا، والأصل فيه الحل والمشروعية.

الحالة الثانية: أن تكون موجودات وعاء المضاربة ديون مرابحات مؤجلة فقط. فهذه الديون لا يحل توريقها، ولا يجوز بيع صكوكها بنقود معجلة أقل من مقدار الديون المؤخرة، كما أنه لا يجوز شراء مساهم (جديد) حصة مساهم (خارج) بنقود ناجزة أقل من المقدار المؤجل الذي تمثله، لاشتمال ذلك على الربا باتفاق أهل العلم.

(1) الأسواق المالية للدكتور القري بتصرف، ص 116 – 118.

ص: 93

الحالة الثالثة: أن تكون موجودات وعاء المضاربة خليطًا من سلع عينية (ونحوها من المنافع) وديون مرابحات. وفي هذه الحالة يفرق بين صورتين:

الأولى: أن تكون قيمة الأعيان (ونحوها من المنافع) أكثر من مقدار الدين الموجود في الوعاء، وعندها يسري على هذه الصورة حكم الحالة الأولى، وهو الحل والجواز، إذ (الأقل تبع للأكثر، وللأكثر حكم الكل)(1) ، كما هو مقرر في قواعد الفقه، ولأنه (يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها)(2) ، حسب ما جاء في القواعد الفقهية أيضًا.

والصورة الثانية: أن تكون قيمة الأعيان والمنافع أقل من مقدار دين المرابحة، وعندها يسري على هذه الصورة حكم الحالة الثانية، وهو الحرمة والحظر، إذ (الأقل لا يزاحم الأكثر)(3) ، ولأن (إقامة الأكثر مقام الكل أصل في الشرع)(4) كما جاء في قواعد الفقه.

وقد جاء تأكيد ذلك في قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي بجدة حول سندات المقارضة وسندات الاستثمار ونصه:

"الصورة المقبولة شرعًا ل سندات المقارضة بوجه عام لا بد أن تتوافر فيه العناصر التالية:

- أن تكون صكوك المقارضة قابلة للتداول بعد انتهاء الفترة المحددة للاكتتاب، باعتبار ذلك مأذونًا فيه من المضارب عند نشوء السندات، مع مراعاة الضوابط التالية:

أ- إذا كان مال القراض المتجمع بعد الاكتتاب وقبل المباشرة في العمل بالمال ما يزال نقودًا، فإن تداول صكوك المقارضة يعتبر مبادلة نقد بنقد، وتطبق عليه أحكام الصرف.

ب- إذا أصبح مال القراض ديونًا، فتطبق على تداول صكوك المقارضة أحكام تداول التعامل بالديون.

ج- إذا صار مال القراض موجودات مختلطة من النقود والديون والأعيان والمنافع، فإنه يجوز تداول صكوك المقارضة وفقًا للسعر المتراضى عليه، على أن يكون الغالب في هذه الحالة أعيانًا ومنافع (5) .

33 – غير أن عدم جواز توريق المديونية النقدية باعتباره لونًا من حسم الأوراق التجارية لا يعني إغلاق باب المشروعية بالكلية أمام فكرة توريق الدين النقدي، وذلك لأننا لو طورنا مفهوم التوريق التقليدي السائد، ووضعنا بعض القيود الشرعية على ممارساته لأمكننا الخروج بصورة مقبولة شرعًا للتوريق.

وبيان ذلك: أننا لو صككنا الدين النقدي المؤجل على أساس قصر مبادلته على عروض التجارة (أي السلع العينية) الحاضرة، بأن يجعل ثمنًا لها، لكان ذلك جائزًا شرعًا.

أ- بناء على قول مالك والنخعي والقاضي شريح وزفر بن الهذيل وغيرهم بجواز الشراء بالدين من غير من هو عليه، حيث جاء في المبسوط للسرخسي:"وعلى قول زفر: الشراء بالدين من غير من عليه الدين صحيح، كما يصح ممن عليه الدين، لأن الشراء لا يتعلق بالدين المضاف إليه، ألا ترى أنه لو اشترى بالدين الظنون (6) شيئًا، ثم تصادقا على أن لا دين، كان الشراء صحيحًا بمثل ذلك الثمن في ذمته، فكذلك هنا يصح الشراء بمثل ذلك الدين في ذمة المشتري "(7) . وجاء فيه أيضًا: "ذكر عن إبراهيم وشريح أنهما كانا يجوزان الشراء بالدين من غير من عليه الدين، وقد بينا أن زفر أخذ بقولهما في ذلك "(8) .

(1) المبسوط للسرخس: 3 / 39.

(2)

مجلة الأحكام العدلية م (54) .

(3)

المبسوط للسرخسي: 2 / 115.

(4)

المبسوط: 16 / 100، 26 / 100.

(5)

القرار رقم (5) د 4 / 08 / 88 (الدورة الرابعة للمجمع المنعقدة بجدة ما بين 6- 11 فبراير 1988م) .

(6)

الدين الظنون: هوالدين الذي لا يرجى قضاؤه، ويئس صاحبه من عوده إليه في الغالب، لإعدام المدين أو جحوده، مع عدم البينة على الدين، أو لأي سبب آخر؛ (الأموال لأبي عبيد، ص 466؛ المحلى لابن حزم: 6 / 103؛ أساس البلاغة، ص 291؛ القاموس المحيط، ص 1566) .

(7)

المبسوط: 14 / 22.

(8)

المبسوط: 14 / 47.

ص: 94

وروى مالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وابن شهاب وأبي بكر بن حزم أنهم نهوا عن أن يبيع الرجل حنطة بذهب إلى أجل، ثم يشتري بالذهب تمرًا قبل أن يقبض الذهب (1) . ثم عقب مالك على ذلك بقوله:"وإنما نهى هؤلاء عن أن يبيع الرجل حنطة بذهب، ثم يشتري الرجل بالذهب تمرًا قبل أن يقبض الذهب من بائعه الذي اشترى منه الحنطة. فأما أن يشتري بالذهب التي باع بها الحنطة إلى أجل تمرًا من غير بائعه الذي باع منه الحنطة قبل أن يقبض الذهب، ويحيل الذي اشترى منه التمر على غريمه الذي باع منه الحنطة بالذهب التي له عليه في ثمن التمر فلا بأس بذلك. وقد سألت عن ذلك غير واحد من أهل العلم، فلم يروا به بأسًا"(2) .

ب- وتخريجًا على القول المشهور في مذهب المالكية، وهو وجه عند الشافعية، ورواية عن أحمد اختارها ورجحها ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وهو جواز بيع الدين النقدي المؤجل لغير المدين بسلعة حاضرة، إذا انتفى غرر عدم القدرة على تسليم الدين في وقت محله (3) .

وبناءً على ما تقدم يمكن للبنك الإسلامي أن يشتري (مثلاً) ألف سيارة بثمن معجل، ثم يبيعها للعملاء بثمن مؤجل موثق بكفيل أو رهن، ولا حرج بعد ذلك شرعًا في أن يعمد إلى توريق تلك الديون على عملائه، والشراء بصكوكها كمية أخرى من السيارات الحاضرة من المصنع مثلاً، ثم يبيعها بثمن مؤجل موثق آخر، ثم يورق ثمنها، ويشتري به سلعًا حاضرة أخرى غيرها، وهكذا. . . وبذلك لا تتجمد تلك الديون النقدية المؤجلة في الفترة ما بين ثبوتها في الذمة وحلول أجلها، بل تتحول إلى ما يشبه النقود السائلة بجعلها ثمنًا لسلع عينية حاضرة.

ب- توريق الدين السلعي:

34-

إذا كان الدين الثابت في الذمة – المؤجل الوفاء – سلعيًّا، بأن كان مبيعًا موصوفًا في الذمة، منضبطًا بمواصفات محددة، طبقًا لمقاييس دقيقة معروفة، سواء أكان من المنتجات الزراعية كالحبوب أو الحيوانية كالألبان ومشتقاتها أو الصناعية كالحديد والإسمنت والسيارات والطائرات أو من منتجات المواد الخام كالبترول والغاز الطبيعي أو نصف المصنعة كالنفط والكلنكر وغيرها. . . فإنه يمكن تخريج جواز توريقه على قول الإمام أحمد الذي رجحه ابن تيمية وابن القيم – وهو وجه عند الشافعية أيضًا – بجواز بيع الدين المؤجل من غير المدين بثمن معجل إذا خلا من الربا، وكذا على مذهب المالكية القائلين بجواز بيعه إذا لم يكن طعامًا، وسلم من الغرر والربا وبعض المحظورات العارضة الأخرى التي ذكروها، مع مراعاة ما تلزم مراعاتها من القيود والشرائط الشرعية (4) .

فإن قيل: كيف جوزتم بيع الدين قبل قبضه من غير المدين، مع أنه بيع لما لم يقبض، وهو منهي عنه في الأحاديث الصحيحة؟! فالجواب ما قاله ابن تيمية في الرد على ذلك:" النهي إنما كان في الأعيان لا في الديون"(5) . فافترقا. . . والله تعالى أعلم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

أ. د نزيه كمال حماد

(1) الموطأ: 2 / 643.

(2)

الموطأ: 2 / 643.

(3)

انظر ف 22، 23 من البحث.

(4)

انظر ف 22، 23 من البحث.

(5)

مجموع فتاوى ابن تيمية: 29 / 519؛ المسائل الماردينية لابن تيمية، ص 102.

ص: 95