المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ١١

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الحادي عشر

- ‌بيع الدين والأوراق الماليةوبدائلها الشرعيةإعدادالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌أحكام التصرف في الديوندراسة فقهية مقارنةإعداد الدكتورعلي محيي الدين القره داغي

- ‌بيع الدينأحكامه – تطبيقاته المعاصرةإعدادأ. د نزيه كمال حماد

- ‌بيع الدينإعداد الدكتورعبد اللطيف محمود آل محمود

- ‌بيع الدين وسندات القرضوبدائلها الشرعيةفي مجال القطاع العام والخاصإعداد الدكتورمحمد علي القري بن عيد

- ‌بيع الدين وسندات القرضوبدائلها الشرعية في مجال القطاع العام والخاصإعدادالدكتور سامي حسن حمود

- ‌المضاربات في العملةوالوسائل المشروعة لتجنب أضرارها الاقتصاديةإعداد الدكتورأحمد محيي الدين أحمد

- ‌المضاربات على العملةماهيتها وآثارها وسبل مواجهتهامع تعقيب من منظور إسلاميإعداد الدكتورشوقي أحمد دنيا

- ‌عقود الصيانةوتكييفها الشرعيإعدادالشيخ محمد المختار السلامي

- ‌عقود الصيانةوتكييفها الشرعيإعدادالدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌عقود الصيانة وتكييفها الشرعيعقد الصيانةإعدادآية الله محمد على التسخيري – مرتضى الترابي

- ‌عقود الصيانةإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌عقود الصيانة وتكييفها الشرعيإعدادالدكتور محمد أنس الزرقاء

- ‌ضوابط الفتوىفي ضوء الكتاب والسنةومنهج السلف الصالحإعداد الدكتورعبد الوهاب بن لطف الديليمي

- ‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعداد الدكتوروهبة مصطفى الزحيلي

- ‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعداد الدكتورعبد الله الشيخ المحفوظ بن بيه

- ‌العمل الفقهيعند الإباضيةإعدادناصر بن سليمان بن سعيد السابعي

- ‌الإسلامفي مواجهة الحداثة الشاملةإعدادالدكتور ناصر الدين الأسد

- ‌مجمع الفقه الإسلامي الدوليووحدة الأمة الإسلاميةإعدادمحمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌الوحدة الإسلاميةمنهجية المقارنة بين المذاهب الفقهيةإعدادالدكتور عبد الستار أبو غدة

- ‌الوحدة الإسلاميةمعالمها وأعلامهاإعدادالأستاذ محمد واعظ زادة الخراساني

- ‌الوحدة الإسلامية{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}إعدادالشيخ عدنان عبد الله القطان

- ‌الوحدة الإسلاميةأدب الحوار وأخلاقيات البحثإعدادالدكتور سعيد بن عبد الله بن محمد العبري

- ‌‌‌الإسلام في مواجهة العلمنةإعدادالدكتور عمر عبد الله كامل

- ‌الإسلام في مواجهة العلمنةإعدادالدكتور عمر عبد الله كامل

- ‌الإسلام في مواجهة العلمنةموقف الإسلام من مسألة الحكم والسيادةإعدادآية الله الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الديمقراطية والعلمانيةوحقوق الإنسانالمرجعية الغربية والمرجعية الإسلاميةإعدادالأستاذ إبراهيم بشير الغويل

الفصل: ‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "

والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرة

إعداد

الشيخ خليل محيي الدين الميس

عضو المجمع

مفتي زحلة والبقاع

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة:

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه، وبعد. فيقول تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] ، والإسلام عقيدة وشريعة، عقيدة تحكم صلة الإنسان بربه، وشريعة تنظيم سلوك الناس أفراداً ومجتمعات ودول.

وأساس الشريعة هو كتاب الله تعالى وسنة رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم، والفهم الصحيح لهما، وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع، واصطحب فيه الرأي والشرع.

وقد اجتهد الأئمة الفقهاء في فهم الكتاب والسنة واستنباط الأحكام منهما ما وسعهم الجهد، وكانوا من دقة الفهم ونقاء النفس وسعة الأفق بحيث وضعوا قواعد وأصولاً للأحكام، تعد تراثاً إنسانياً ومرجعاً عاماً لكل المشتغلين بالفقه والقانون وقيض الله تعالى في كل قرن من المسلمين علماء أخيار ذوي رأي وبصيرة يفقهون كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيعرضون عليهما النوازل المستجدة ليروا فيها رأي الإسلام.

لا تخلو واقعة من حكم شرعي:

والمعتقد أنه لا يفرض وقوع واقعة مع بقاء الشريعة بين ظهراني حملتها إلا وفي الشريعة مستمسك بحكم الله تعالى فيها.

والدليل القاطع على ذلك: أن أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم استقصوا النظر في الوقائع والفتاوى والأقضية، فكانوا يعرضونها على كتاب الله تعالى، فإن لم يجدوا فيها متعلقاً راجعوا سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم.

- وعلى ذلك درجوا في تمادي دهرهم إلى انقراض عصرهم.

- ثم استن بعدهم بسنتهم

وقد علمنا اضطراراً من مطرد الاعتبار أن الشريعة تشتمل على كل واقعة ممكنة.

ص: 515

ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه: ((بم تحكم يا معاذ؟)) فقال: بكتاب الله. قال: ((فإن لم تجد؟)) قال: فسنة رسول الله. قال: ((فإن لم تجد)) ؟ قال: أجتهد رأيي

فقرره صلى الله عليه وسلم وصوبه، ولم يقل له: فإن قصر عنك اجتهادك فماذا تصنع؟ فكان ذلك نصاً على أن الوقائع تشملها القواعد التي ذكرها معاذ.

هذا: وإن قواعد الشريعة متقابلة بين النفي والإثبات، والأمر والنهي، والإطلاق والحجر، والإباحة والحظر، ولا يتقابل قط أصلان إلا ويتطرق الضبط إلى أحدهما، وتنتفي النهاية عن مقابله ومناقضه (1) .

(كل نازلة مستأنفة في نفسها) :

قال الشاطبي (790 هـ) : "إن كل نازلة مستأنفة في نفسها لم يتقدم لها نظير: وإن تقدم لها في نفس الأمر فلم يتقدم لها فلابد من النظر فيها بالاجتهاد ".

-وكذلك إن فرضنا أن تقدم لنا مثلها فلابد في كونها مثلها أولاً، وهو نظر اجتهاد أيضاً، وكذلك القول فيما فيه حكم من أروش الجنايات، وقيم المتلفات.

(1) الجويني، الغياثي، ص 433.

ص: 516

ويكفيك من ذلك أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها، وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة تتناول أعداداً لا تنحصر، ومع ذلك فلكل معين خصوصية ليست في غيره ولو في نفس التعيين.

ولابد من تحقيق المناط بالنسبة إلى كل ناظر وحاكم ومفت.

ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد لم تتنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا في الذهن، لأنها مطلقات وعمومات وما يرجع إلى ذلك، منزلات على أفعال مطلقات كذلك.

والأفعال لا تقع في الوجود مطلقة، وإنما تقع معينة مشخصة فلا يكون الحكم واقعاً عليها إلا بعد المعرفة بأن هذا المعين يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام، وقد يكون ذلك سهلاً وقد لا يكون وكله اجتهاد (1) .

ضرورة فتح باب الاجتهاد:

ولما كانت الوقائع في الوجود لا تنحصر فلا يصح دخلوها تحت الأدلة المنحصرة، لذلك احتيج إلى فتح باب الاجتهاد من القياس وغيره.

أو نقول لابد من حدوث وقائع لا تكون منصوصاً على حكمها، ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد، فإذًا لابد من الاجتهاد في كل زمان (2) .

وهذه الوقائع المستجدة هي الواقعات، والنوازل، واستنباط أحكامها من مظان الأدلة هو الفتوى والاجتهاد والتخريج.

الاستفادة من منهاج الفقهاء جميعاً في الاستنباط:

إن الشريعة الإسلامية لا تتحدد بمجتهدات عصر معين أو مذهب فقهي واحد، لأنها أبعد غوراً وأوسع مدى من حيث مبادئها الكبرى وأصولها العامة ومقاصدها التشريعية، وإن الاجتزاء بمذهب اجتهاد معين يتنافى وطبيعة الاجتهاد نفسه من حيث أنه تصرف عقلي في مقررات الوحي، وكل اتجاه من الاتجاهات الفقهية يمثل وجهة نظر معينة في هذه المقررات فهماً أو تطبيقاً، ولكنه لا يمثل فقه الشريعة كاملة من حيث هي.

والاجتهاد بطبيعته يحتمل الخطأ فثمرته هو الفقه كذلك، بل الاجتهاد بالرأي هو صلب التفقه في التشريع، هذا، ولما كان لا يتصور انقطاع الاجتهاد بالرأي في التشريع أبد الدهر لصلته الوثقى بمعاني العدل والإنصاف في الفروع، وإذا انقطع الاجتهاد فقد العدل ما به يعرف، وما به يتحقق

واقعية التشريع تقتضي من المجتهد بألا يقتصر بالاستنباط أو التطبيق على الأصول النظرية الذهنية المجردة، بل ينزل بها من أفقها التجريدي المحض إلى عالم الوقائع المشخصة بظروفها وأحوالها، ويبحث ويمحص ذلك كله، ثم يطبق على كل حالة ما يناسبها مما يقتضيه العدل والإنصاف، والمصلحة المقرة شرعاً، لأن أساس التشريع كله المصلحة والعدل، وهما المقصد الكلي للتشريع الإسلامي (3) .

(1) الموافقات: 4 / 90 – 94، بتصرف.

(2)

الشاطبي، الموافقات: 4 / 104.

(3)

بداية المجتهد: 2 / 154

ص: 517

إن الاجتهاد داخل حدود مذهب معين، والتصرف في نصوص الإمام وقواعده

مثل التصرف في نصوص الشارع في استنباط الحكم من القواعد.

وهو: أن يقيس ما لم ينص عليه إمامه بما نص عليه. وأن يطبق ما وضعه الإمام على ما يدخل تحته من جزئيات مما لم يتكلم فيها الإمام نفسه وأن يستخرج من الجزئيات والفروع المتشابهة شكلاً، والمتحدة حكماً، والتي نقل حكمها عن صاحب المذهب، قواعد وضوابط يعرف بها حكم المذهب في الفروع المتشابهة الجديدة بعد ذلك

وأن يجتهد لمعرفة حكم ما لم يرد حكمه في مذهب إمامه من فحوى كلام الإمام ومفهومه.

وأن يعرف ما بناه الإمام على أدلة وقواعد ثابتة، وما بناه على ما يتغير بتغير الأزمان والأمكنة والأعراف

وأن يجتهد فيما لم يتمكن من استنباط حكم بالتخريج على أقواله، والقياس على ما نص عليه من الأحكام بنصوص الشارع، وذلك باتباع منهجه في الاستنباط

إلا أنه لو عجز عن ذلك لا يخرج عن أن يكون مجتهداً في المذهب، لأن الاجتهاد في المذهب عمدته العمل على ما خططه صاحب المذهب، ووفق ما زيد عليه ممن سبق من كبار علماء المذهب.

وكل ذلك يتطلب إضافة إلى الشروط التي ينبغي توفرها في المجتهد على اختلاف مراتبه

أمرين هما: فقه الواقع وفقه التنزيل – ليحسن فقه النوازل المستجدة.

تعريف التخريج:

إن مصطلح التخريج: استعمل عند الفقهاء والأصوليين في غير معنى، وإن بين تلك المعاني تقارب وتلاحم.

يطلق التخريج على أمرين:

الأول: على استنباط الأحكام من القواعد، أو إخراج أحكام جزئيات القاعدة من القوة إلى الفعل (1) .

الثاني: على استنباط الأحكام من فروع الأئمة المنسوبة إليهم، سواء كانت من أقوالهم أو أفعالهم أو تقريراتهم .... ويمكن تسميته تخريج الفروع على الفروع.

كما يطلق التخريج على: نقل حكم مسألة ما يشبهها والتسوية بينهما فيه (2) .

(1) تقريرات الشربيني على شرح الجلال: 1 / 22.

(2)

المسودة، ص 533.

ص: 518

والتخريج وفق هذا التعريف يلحق بالقياس

الذي يتضمن نقل مثل حكم مسألة جزئية إلى أخرى لوجود شبه بينهما، ويمكن الجمع بين هذه التعريفات بالقول:

وهو العلم الذي يتوصل به إلى التعرف على آراء الأئمة في المسائل الفرعية التي لم يرد عنهم فيها نص، بإلحاقها بما يشبهها في الحكم عند اتفاقهما في علة ذلك الحكم عند المخرج (1) .

أو بإدخالها في عمومات نصوصه أو مفاهيمها، أو أخذها عن أفعاله أو تقريراته، بالطرق المعتد بها عنده، وشروط ذلك ودرجات هذه الأحكام.

وقد يكون التخريج – وهذا هو غالب استعمال الفقهاء – بمعنى الاستنباط المقيد، أي بيان رأي الإمام في المسائل الجزئية التي لم يرد فيها عنه نص – وذلك عن طريق إلحاقها بما يشبهها من المسائل المروية عنه، أو بإدخالها تحت قاعدة من قواعدها ....

والتخريج بهذا المعنى هو ما تكلم عنه الفقهاء والأصوليون في مباحث الاجتهاد.

وقد يطلقون التخريج بمعنى (التعليل) ، أو توجيه الآراء المنقولة عن الأئمة وبيان مآخذهم فيها عن طريق استخراج واستنباط العلة وإضافة الحكم إليها بحسب اجتهاد المخرج، ومن هذا القبيل ما يسمى (بتخريج المناط)(2) .

وبالجملة فالتخريج بأن لا يكون المفتى به منصوصاً لأصحاب المذهب لكن المفتي أخرجه من أصوله (صاحب المذهب) .

هذا

وإن التخريج هو ملجأ الفقهاء – بعد الأئمة الأربعة وكبار تلاميذهم – في تحصيل الظن بآراء أئمة المذاهب التي يقلدونها، سواء كان ذلك بتحديد القواعد التي بنيت عليها الأحكام

أو بالتعرف على أحكام الجزئيات

أو النوازل الجديدة وفقاً لتلك القواعد، أو تشبيهاً لها بما ورد عنهم من آراء في وقائع جزئية أخرى، وغير ذلك من الأساليب.

وفي العصر استجدت وقائع ونوازل جديدة

وتصدى ثلة من العلماء للوقوف على أحكامها

فرادى ومجتمعين عبر المجامع الفقهية.

الفرق بين الاستنباط والتخريج:

الاستنباط والتخريج عبارتان مختلفتان في المبنى ولكنهما متقاربتان في المعنى، ووجه التقارب في المعنى: أن كلا منهما ينبئ عن منهج في الاجتهاد.

أما الاستنباط: فهو استخراج الحكم الشرعي من الأدلة المعتبرة شرعاً.

أي: استفادة الحكم من الكتاب، أو السنة، أو الرأي المبني عليهما.

أما التخريج: فهو تفريع أحكام المسائل المستجدة على قول إمام المذهب وأصحابه، وإن شئت قلت: مقتضى دليل الإمام.

(1) الباحسين، التخريج، ص 187.

(2)

الطوخي، شرح مختصر الروضة: 3 / 242 ح والباحسين، التخريج عن الفقهاء والأصوليين، ص 12.

ص: 519

فإن قول الإمام أبي حنيفة، أو الشافعي، أو مالك، أو أحمد رضي الله عنهم، يعتبر بمثابة القاعدة الشرعية التي يتفرع عليها أحكام مسائل خرجها فقهاء المذاهب بضوابط التزامها الفقيه الإمام.

وهكذا نجد: أن التخريج هو المرحلة التالية للاستنباط، فلا تخريج إلا وهو مسبوق باستنباط ....

وبذلك يتبين: أن الفتاوى على المذهب هي ضرب من التخريج الفقهي. أما نقل نفس عبارة الإمام فلا تعتبر تخريجاً.

ومن هذا المنطلق يمكن القول: أنه يجري على فقه التخريج من الضوابط والمنهجية ما يجري على فقه الاستنباط من الوقوف على مسائل الإمام هنا، كما ينبني على أدلة الإمام هنالك.

ولابد للمخرج على أقوال الأئمة من تحصيل رتبة علمية معينة تعرف عند المؤرخين الفقهاء بـ: (طبقة أصحاب التخريج) من المقلدين؛ كالرازي وأضرابه عند الفقهاء الحنفية.

الباعث على فقه التخريج:

لم يجتهد أبو حنيفة وأصحابه مثلاً في كل المسائل، بل اجتهدوا في استنباط حكم ما وقع في عصرهم من أحداث، وما فرضوه من صورة لكي يطبقوا أقسيتهم على كل ما يتصور وقوعه من جنس ما ينطبق عليه علة القياس، ومهما يكن مقدار ما وقع في عصرهم من حوادث استنبطوا أحكامها، وما قدروا من أمور استخرجوا أحوالها، فلابد أن يكون في كل عصر أمور لم يكن لهم أحكام فيها.

وإن الناس يجد لهم من الأقضية بمقدار ما يحدث لهم من أحداث، ولذلك كان لابد من وجود المخرجين في المذاهب الذين يبنون على قواعده أحكام حوادث لم تقع في عصر أئمة المذهب، ولم يؤثر عنهم أحكام فيها. وقد كانت هذه الطبقة من الفقهاء بعد عصر أبي حنيفة من تلاميذ أولئك الأصحاب ومن جاء بعدهم، فقد اجتهد هؤلاء في تعرف أحكام الوقائع التي حدثت في عصورهم المختلفة، وبنوا ما استنبطوه على القواعد التي استخلصوها من مجموع الفروع المأثورة عن أبي حنيفة وأصحابه.

ونقل النووي عن أبي المعالي الجويني: أن كل ما اختاره المزني أرى أنه تخريج ملتحق بالمذهب.

ص: 520

عمل المخرجين الأولين:

كان عمل المخرجين الأولين يقوم على عنصرين:

أحدهما: استخراج المناهج العامة التي تعد أصولاً للاستنباط في فقه أبي حنيفة وأصحابه.

وثانيهما: تخريج أحكام المسائل التي لم ينص عليها على ذلك.

عمل المخرجين المتأخرين:

ولما جاءت طبقات المخرجين بعد استخلاص القواعد، فكان عملهم فقط.

استخراج الأحكام للوقائع التي لم تكن قد حدثت في عصر من عصور السابقين.

ولقد سمى العلماء ما يستخرجه أولئك المخرجون من أحكام الجزئية (الواقعات، والفتاوى، والنوازل) .

وفي- هذا الصدد يقول الماتن:

وكتب ظاهر الرواية أتت

ستًّا لكل ثابت عنهم حوت

إلى أن قال:

وبعدها سائل النوازل

خرجها الأشياخ والدلائل

وهكذا، اعتبرت النوازل محور اهتمام فقهاء المذاهب بعد استقرارها.

ومن النوازل قبل استقرار المذهب حد الخمر:

قال أبو الوليد رضي الله عنه (- 52 هـ) : فلا نازلة إلا والحكم فيها قائم من القرآن، إما بنص، وإما بدليل علمه من علمه، وجهله من جهله، وهذا المعنى من الاستنباط مثل ما جاء أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يجلد في الخمر أربعين، وكان عمر رضي الله عنه يجلد يها أربعين إلى أن بعث إليه خالد بن الوليد يذكر له: أن الناس قد استخفوا في الخمر، وأنهم انهمكوا فيها فما ترى في ذلك؟

فقال عمر لمن حوله – كان عنده علي وطلحة والزبير وعبد الرحمن ابن عوف -: ما ترون في ذلك. ما ترى يا أبا الحسن؟ فقال: يا أمر المؤمنين أرى أن تجلد فيها ثمانين جلدة، إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدة

وتابعه أصحابه على ذلك فقبله عمر وأخذ به لأنهم استنبطوه من الكتاب.

قال أبو الوليد ابن رشد رضي الله عنه:

والوجه في استنباطهم إياه منه: أنه لما كان الأصل المتفق عليه أن الحدود وضعت للردع والزجر عن المحارم وجب أن يرجع في حد الخمر إلى أشبه الحدود بها في القرآن، فكان ذلك حد القذف للمعنى الذي ذكره علي رضي الله عنه، فهذا وجه قول عمر بن العزيز رضي الله عنه:

تحدث للناس أقضيه بقدر ما أحدثوا من الفجور. لا أن تحدث لهم أقضية مبتدعة بالهوى خارجة عن الكتاب والسنة، وبالله التوفيق لا شريك له (1) .

- فالفقه يواكب دائماً الحياة ويرتبط بحركتها، ويزدهر بهذا الارتباط على أيدي القضاة والمفتين والمجتهدين الذي يتقون الله تعالى في بيان الأحكام، ومن أراد الوقوف على هذا الازدهار فليطلع على كتب النوازل وكتب الواقعات والفتاوى

وفي مقدمة ذلك فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (661 – 728 هـ) ، فإنك تقرأ فيها حياة كاملة بكل نواحيها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بل والجغرافية؛ حيث ترى تصوير حالة العالم الإسلامي في القرن الثامن الهجري، وتقرأ في فتاويه ومصنفاته كيف أحكم ارتباط الفقه في الحياة، بل كيف يواكب الفقه الحياة وأعاد إلى الذهن مسيرة فقهاء الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم، حيث يمكن وصف هذا النموذج (بفقه الواقع) ، حيث إذا نزلت نازلة يسألون فإن لم يجدوا نصاً اجتهدوا في استخراج الحكم لها

ومن ذلك على سبيل المثال: الأذان يوم الجمعة

حيث زاد عثمان – رضي الله عنه – الأذان الأول على الزوراء، فقاس الجمعة على باقي الصلوات، وهذه نازلة

وهذا ما واجهه الصحابة من فقه وعمل الصحابة في ذلك. وعليه مضى العمل في التابعين فمن بعدهم إلى زماننا هذا.

(1) فتاوى ابن رشد: 2 / 763.

ص: 521

ومن النوازل تضمين الصناع:

فالصانع إذا ادعى هلاك الذين بحوزته وليست له بينة على ذلك؛ كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء قبل علي يصدق، وفي عهد علي ألزمهم بالضمان وقال: لا يصلح الناس إلا ذلك.

ووجه: أن الناس في عهد علي رضي الله عنه اختلف حالهم عن حال الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد أبي بكر وعمر وعثمان؛ فإن التزامهم بالصدق وبالحق صار أخف مما سبق، فاختلف حالهم عن ذي قبل، ومن مثل هذا استنبط العلماء قاعدة اختلاف الفتوى بسبب فساد الناس.

فقه الواقع:

وهو الحكم الشرعي الذي يلائم المكلف في حالته التي هو عليها، والواقع هو المختبر الحقيقي لدعاوى الإصلاح (1) .

يقول ابن القيم: "ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقته ما وقع بالقرائن والإمارات والعلامات حتى يحيط به علماً (2) .

ويمكن تسمية هذا الفقه هول العلم القاصر عند الفقهاء الذين هم قادة الأمة ومعلمو دينها، وحافظو شريعتها، وباعثو نهضتها.

فالحاجة ليست تجديداً في الإسلام وإنما التجديد يجب أن يكون في نفر من الناس يتولون شؤون الإسلام والمسلمين، لأن الأزمة في تفكيرهم، لأنهم يريدون أن يقيموا الإسلام بمقاييس ليست صالحة، والدليل على ذلك مسألة البلوغ؛ فعهد الحنفية من دلائله بلوغ الصبي ثماني عشرة سنة، وعند الفتاة سبع عشرة سنة، ورواية عن الصحابين خمس عشرة سنة (3) .

وأما عند الشافعية فمن دلائله استكمال المولود خمس عشرة سنة قمرية (4) ؛وهو مشترك بين الذكر والأنثى، وفي رواية أخرى تسع سنوات.

فالاختلاف بين الإمام أبي حنيفة والإمام الشافعي لم يكن عن تناقض، ولكن كل واحد منهما قد تناول موضوع الرشد من جانب، لأن الحكم من ذلك يصدر عن علم بطبائع البلاد وباختلاف المناخ.

ومن المعضلات – حالياً – وسببه عدم اعتماد فقه الواقع مسألة إثبات رؤية الهلال، والتي دائمًا ترافقها منافسة في النفوذ السياسي؛ فهناك من يثبت وهنا من ينفي، وتجد السباق بينهم في الاثنين معاً من الدول، حتى تعم الفوضى والكآبة عند المسلمين.

ومحور الخلاف في هذه المسألة: هل يجوز إثباته بغير الرؤيا كالحساب، فعلى سبيل المثال: رؤية الهلال في الحجاز غالباً متحققة لصفاء الجو بخلاف البلاد الشمالية الباردة، فالجو غالباً فيها غيم ولا يمكن تحقق الرؤية، فالعلماء فريقان في الجواز والمنع، ودليل المانعين قوله عليه الصلاة والسلام:((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) (5)، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب

)) (6) ، وهذا الكلام محل إجماع العلماء السابقين.

- والفريق الآخر بجواز إثباته بالحساب، والذي ذهب إليه بعض البغداديين كالمالكية، وبعض أكابر الشافعية كما نص عليه ابن دقيق العيد (7) ، هذا لغيره وأما لنفسه فقد قال به ابن سريج والقفال والقاضي الطبري كما نص على ذلك الرافعي (8) .

وذكر الإمام القرافي أنه يوجد قولين في المذهب المالكي والشافعي في اعتبار الحساب وعدمه (9) .

فالتساؤل: لماذا لا يفتى على قول أصحاب الرأي الثاني طالما كان هناك دقة في الحساب وتطور للعلم في هذا الزمان؟ وبقي أن نشير – والتي هي من لوازم فقه الواقع – إلى التدرج في التطبيق، فالتدرج في التطبيق ليس أمراً خارجاً عن الدين كما يتوهم بعضهم، ذلك أن أمر الشارع منوط بالاستطاعة، والتكليف منوط بالطاقة، قال تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقال تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] .

لذلك ليس من فقه الواقع مطالبة المكلف بالحد الأقصى للتكليف وهو لا يطيق الحد الأدنى، المشقة تجلب التيسير، وإذا ضاق الأمر اتسع، وأيضاً إن العدول عن العزيمة إلى الرخصة في حالات قد تؤدي العزيمة فيها إلى تفويت مقصد الدين وإيقاع المكلف في الحرج، فإقامة الحدود واجبة ولكن في الغزو منهي عن إقامتها لخبره صلى الله عليه وسلم:((نهى أن تقطع الأيدي في الغزو)) (10) ، وسبب النهي هو خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله من تعطيله أو تأخيره من لحوق صاحبه بالمشركين حمية وغضباً (11) ؛ ومنها أيضاً إبقاء الحالة على ما وقعت عليه، لأن ذلك أولى من إزالتها مع دخول ضرر على الفاعل أشد من مقتضى النهي كحديث البائل في المسجد (12) ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتركه حتى يتم بوله؛ لأنه لو قطع بوله لنجست ثيابه ولحدث عليه من ذلك داء في بطنه، فترجح جانب تركه على ما فعل من المنهي عنه على قطعه بما يدخل عليه من الضرر، وبأنه ينجس موضعين وإذا ترك فالذي ينجسه موضع واحد.

(1) تأملات في الواقع الإسلامي، عمر عبيد حسنة، ص 12.

(2)

إعلام الموقعين: 1 / 69.

(3)

الاختيار لتعليل المختار، ابن مودود: 2 / 95.

(4)

روضة الطالبين النووي: 3 / 411.

(5)

البخاري، باب الصوم: 3 / 35؛ رواه الدارقطني باب الصوم: 2 / 161 ح التنقيح: 2 /291

(6)

البخاري، باب الصوم: 2 / 341.

(7)

إحكام الأحكام: 2 / 26.

(8)

العزيز شرح الوجيز: 3 / 178.

(9)

الفروق: 2 / 178.

(10)

رواه أبو داود.

(11)

إعلام الموقعين لابن القيم: 3 / 13.

(12)

رواه البخاري، انظر فتح الباري لابن حجر (430 – 431) ، كتاب الوضوء، باب 58، حديث رقم (221) .

ص: 522

وكذا بالنسبة لتأسيس البيت على قواعد إبراهيم قوله صلى الله عليه وسلم: ((ولولا أن قومك حديث عهدهم في الجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم لنظرت أن أدخل الجدر في البيت وأن ألزق بابه بالأرض)) (1) . وهذا كله لا يدرك إلا بفقه الواقع.

وكذا يحكى عن عمر بن عبد العزيز أن ابنه عبد الملك قال له: ومالك لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق، قال له عمر: لا تعجل يا بني فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه جملة ويكون من ذا فتنة (2) .

ولقد ذكر العز بن عبد السلام عدة أمثلة فيما يخص التدرج في الحكم (3) :

أحدها: أن الله أخر إيجاب الصلاة إلى ليلة الإسراء؛ لأنه لو أوجبها في ابتداء الإسلام لنفروا من ثقلها عليهم.

الثاني: الصيام لو وجب في ابتداء الإسلام لنفروا في الدخول في الإسلام.

الثالث: تأخير وجوب الزكاة إلى ما بعد الهجرة، لأنها لو وجبت في الابتداء لكان إيجابها أشد تنفيراً لغلبة الضنة بالأموال.

الرابع: الجهاد لو وجب في الابتداء لإبادة الكفرة أهل الإسلام لقلة المؤمنين ولكثرة الكافرين.

الخامس: القتال في الشهر الحرام لو أجل في ابتداء الإسلام لنفروا منه لشدة استعظامهم بذلك، وكذلك القتال في البلد الحرام.

السادس: القصر على أربع نسوة لو ثبت في ابتداء الإسلام لنفرت الكفار من الدخول فيه، وكذلك القصر على ثلاث طلقات، فتأخرت هذه الواجبات تأليفاً على الإسلام الذي هو أفضل واجب، ومصلحته تربو على جميع المصالح، ولمثل هذا قرر الشرع من أسلم على الأنكحة المعقودة على خلاف شرائط الإسلام، وكذلك أسقط عن المجانين ما يتلقونه من أنفسهم المؤمنين وأموالهم لأنه لو ألزمهم بذلك لنفروا من الدخول الإسلام، وكذلك بني على الإسلام غفران جميع الذنوب لأن عهدها لو بقيت بعد الإسلام لنفروا، وكذلك قال جماعة قد زنوا فأكثروا من الزنا وغيره من الكبائر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ما تقول وتدعو إليه حسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة؟.

(1) صحيح مسلم: 2 / 973، 15؛ كتاب الحج (70 – 71) ، باب حديث رقم (405) .

(2)

الموافقات: 2 / 71.

(3)

القواعد (50 – 51) .

ص: 523

فأنزل الله تعالى {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر: 53]، وقال في غيرهم {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وإنما أمرهم في ابتداء الإسلام بإفشاء السلام وإطعام الطعام وصلة الأرحام والصدق والعفاف لأن ذلك كان ملائماً لطبائعهم حاثًّا على الدخول في الإسلام، وكذلك ألَّف صلى الله عليه وسلم جماعة على الإسلام إلى دفعه لهم من الأموال، وامتنع عن قتل جماعة من المنافقين، وقد عرف بنفاقهم خوفاً أن يتحدث الناس بأنه أخذ في قتل أصحابه فينفروا من الدخول في الإسلام.

وهذه الأحكام كلها مآلها إلى فقه الواقع، ويكون الأداء فيه من خلال مجاهدات العقل البشري والفعل البشري، فالأزمة الفكرية أو المعادلة الصعبة في العقل المسلم – إن صح التعبير – هي في الخلط بين النص الإلهي الخالد المطلق المعصوم المجرد عن حدود الزمن والمكان، وبين الاجتهاد البشري المظنون النسبي المحدد المحكوم بحدود الزمان والمكان وظروف الحال (1) .

وقال الشيخ محمد الغزالي: "من أجل ذلك قرر المصلحون بعد تجارب مريرة أن الزمن من جزء من العلاج "(2) ، والأمة اليوم بأمس الحاجة إلى هذا العلاج.

فقه التنزيل:

يقصد به تنزيل العلم على الوقائع الجزئية أو المسائل المستجدة والحادثة، واشتهر في الزمن الماضي بالنوازل، واشتهر بلسان العصر باسم النظريات والظواهر.

وعرفه ابن القيم بأنه فهم الواجب في الواقع، وفهم الله تعالى الذي حكم به في كتابه أو على لسان قوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر، ثم يقول فمن بذل جهده استغفر وسعه في ذلك له أجرين أو أجر، فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله (3) .

وهكذا يأتي ابن القيم ليطرح من جهته جدلية العلاقة بين الثابت والمتغير في النص الشرعي أو بين المقاصد الكلية الوقائع الجزئية، وليميز بين نوعين أو ثلاثة من مستويات الفقه، ففقه في نفس الأحكام الشرعية التكليفية، وفقه في نفس الوقائع وأحوال الناس ثم يذكر الثالثة فيقول:"ثم يطابق بين هذا وهذا فيعطي الواقع حكمه من الواجب ولا يجعل الواجب مخالفاً للوقائع "(4) .

لذا أنكر على من نفى هذا العلم أو رده فقال عنهم: فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجروا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، محتاجة إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقاً صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له، وعطلوها من علمهم وعلم غيرها قطعاً: إنها حق مطابق للواقع، ظناً منهم منافاتها لقواعد الشرع، ولعمر الله إنها لم تنافِ ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن نفت ما فهموه هم من شريعته باجتهادهم، والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة الشريعة، وتقصير في معرفة الواقع وتنزيل أحدهما على الآخر (5) .

(1) الشاكلة الثقافية لعمر عبيد حسنة، ص 65.

(2)

الطريق من هنا، ص 114.

(3)

إعلام الموقعين: 1 / 69.

(4)

الطرق الحكمية، ص 4.

(5)

الطرق الحكمية، ص 13.

ص: 524

بل يغور في الموضوع أكثر فيقول: "فإن ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه، والله أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طرق العدل وأمارته وأعلامه بشيء، ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة وأبين أمارة فلا يجعله منها ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها، بل قد بين سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين ليست مخالفة له (1) .

إذًا فالجهل بشروط التنزيل للعلم على الوقائع المستجدة، والغفلة عن مقاصد الشرع، جعل عند متزمتي الفقهاء أن يقفوا عند حدود ظاهر النص ولا يتعداه، ويستشكل مع ذلك عدو الشريعة عن متابعة تطور الواقع ومواكبة مستجدات مشاكله، وهذا الأمر نجده متسعاً عند ابن تيمية وتلميذه ابن القيم فيما يسميانه (بالسياسة الشرعية) التي تتسع عندهما لتشمل كل سياسة عادلة ممكنة، والذي يؤكد ذلك ما طرحه ابن القيم: مسؤولية رجل العلم في الفهم والفتوى، ودوره في عملية الإنقاذ بعد التراجع الأكبر، حين اعتبر العالم (المدرك لمقاصد الشرع الفقيه في التنزيل على الواقع الملتزم بتبليغ العلم المتصف به)(2) مكلفاً بمسؤولية التوقيع عن رب العالمين، فإذا كانت الإشادة واقعة خاصة في هذا الدين بمنصب التوقيع عن الملوك فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات؛ فحقيق بمن أقيم فيه ولا يكون قي صدره حرج من قول الحق والصدع به (3) .

ومحل فقه التنزيل هو في النصوص التي تتضمن متغيرات، وهي التي فيها مجال الاجتهاد أوسع وأرحب وفقاً لسببين:

الأول: استنباط الحكم الملائم للواقعة، حيث يستنبط من النص الظني لا القطعي.

الثاني: الاجتهاد في التطبيق على الوقائع بظروفها وملابساتها.

وتعليل هذا الكلام ما قاله الشاطبي: "لأن الوقائع في الوجود لا تنحصر، فلا يصح دخولها تحت الأدلة المنحصرة، ولذلك احتيج إلى فتح باب الاجتهاد من القياس وغيره، فلابد من حدوث وقائع لا تكون منصوصاً على حكمها، ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد، وعند ذلك: فإما أن يترك الناس فيها مع أهوائهم، أو ينظر فيها بغير اجتهاد شرعي، وهو أيضاً اتباع للهوى وذلك كله فساد فلا يكون بد من التوقف لا إلى غاية، وهو معنى تعطيل التكليف لزوماً وهو مؤد إلى تكليف ما لا يطاق؛ فإذا لابد من الاجتهاد في كل زمان، لأن الوقائع المفروضة لا تختص بزمان دون زمان "(4) .

ويذكر في بداية كلامه عن الاجتهاد: "الاجتهاد على ضربين أحدهما: لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف، وذلك عند قيام الساعة "(5) .

والحال يحكي هذا، ومن الأمثلة: النقود الورقية؛ فالتعامل زمني النبي صلى الله عليه وسلم كانت النقود فيه مسكوكة من الذهب والفضة بيعاً وشراء وقرضاً وقسمة وتبرعاً وإيصاءً وتحبيساً، ولكن في عصرنا الحاضر انتهى دور الذهب والفضة واستبدل العالم النقدين بالأوراق النقدية، وهذه الأوراق النقدية لا نجد نصاً من كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم يتحدث عنها أو قول للفقهاء، فمسألة عدم الاعتبار كونها مساوية للذهب والفضة خطرة، فالأوجب اعتبارها، وهذا ما حدث وكان قرار المجمع الفقهي في مكة المكرمة –د- 7 / 2 – 1406 هـ: أن العملة الورقية نقد قائم بذاته له حكم النقدين من الذهب والفضة.

(1) الطرق الحكمية، ص 13.

(2)

الطرق الحكمية، ص 14.

(3)

إعلام الموقعين: 1 / 8 – 9.

(4)

الموافقات: 4 / 75.

(5)

الموافقات: 4 / 75.

ص: 525

وما يزيد الموضوع أكثر موضوعية هو ما كتبه العلماء في إفراد كتب الفتاوى عن الفقه أو النوازل، وهذا أكثره في الأندلس، إذ كتبت العشرات من الكتب في فقه النوازل، هذا في الزمن الماضي؛ وأما اليوم فالواقع ملئ بالنوازل والأحداث الوقائع والأفعال الطارئة التي لم تحطها النصوص ولا الاجتهادات السابقة، وخاصة أن الأمة تعيش مفاصل هامة، وهي بأمس الحاجة إلى فقه التطبيق لتنزيل المستجدات منازلها من الشرع، وتكفل لها الحياة نحو الأمل المنشود، وهذا كله يستلزم جهداً وحركة علمية عميقة كي يعطي حكماً منهجيًّا موافقاً للواقع، كي لا نجد هناك مردوداً سلبيًّا لا يحقق مصلحة أو يدرأ مفسدة.

وأهمها على سبيل المثال لا الحصر: نازلة الاستنساخ؛ فالعلماء والفقهاء قالوا: استنساخ البشر مرفوض شرعاً وعقلاً وغير أخلاقي لا مبرر له (1)، يبقى موضع استخدام هذا العلم في مجال الحيوان؛ يقول الدكتور عجيل النشمي (2) : لا بأس به فإن الله قد سخر لنا الحيوان ننتفع به في كل ما هو نافع؛ مثل: تحسين النوع وإكثار النسل وتطيب اللحوم ونحو ذلك، على أن لا تؤدي هذه التجارب إلى تشويه الحيوان أو تعذيبه

ويختم كلامه: إنه من السابق لأوانه الحكم القاطع في هذا الموضوع لقصور في المعلومات وتوثيقها، وهو من القضايا التي تحتاج إلى رأي مشترك يصدر من أطباء مختصين وفقهاء، وما ذكرنا محض رأي على ما ورد من معلومات في هذا الموضوع (3)

وبقي أن نؤكد فيه من القواعد والمرونة ما يمكن من استيعاب كل المستجدات، ولكن ليس معنى ذلك أن ننحني أمام بعض القضايا، فعالمية الإسلام بأحكامه وطروحاته هي المرجع والمآل.

معرفة الناس أصل في الإفتاء والتخريج:

إن معرفة الناس أصل عظيم يحتاج إليه المفتي والحاكم، فإن لم يكن فقيهاً في الأمر والنهي لم يطبق أحدهما على الآخر، وإلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح، فإنه إذا لم يكن فقيهاً في الأمر له معرفة بالناس تصور له الظالم بصورة المظلوم وعكسه، والمحق بصورة المبطل وعكسه، وهو بجهله بالناس وأحوالهم وعوائدهم وعرفياتهم لا يميز هذا من هذا، بل ينبغي أن يكون فقيهاً في معرفة مكر الناس وخداعهم واحتيالهم وعوائدهم وعرفياتهم، إن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعوائد والأحوال، وذلك كله من دين الله (4) .

(1) مجلة المجتمع، الثلاثاء، العدد (1244) ، 23 – 29 ذو القعدة 1417 هـ، ص 22 – 31.

(2)

عميد سابق في كلية الشريعة بالكويت.

(3)

مجلة المجتمع، الثلاثاء، العدد (1244) ، 23 – 29 ذو القعدة 1417 هـ، ص 27.

(4)

ابن القيم، إعلام الموقعين: 4 / 442.

ص: 526

وقال القرافي: ينبغي للمفتي إذا ورد عليه مستفت لا يعلم أنه من أهل البلد الذي منه المفتي، وموضع الفتيا أن لا يفتيه بما عادته يفتي به حتى يسأله عن بلده، وهل حدث عندهم عرف في ذلك البلد في هذا اللفظ اللغوي أم لا؟.

وإن كان اللفظ عرفياً فهل عرف ذلك البلد موافق لهذا البلد في عرفة أم لا؟ وهذا أمر متعين واجب لا يختلف فيه العلماء (1) .

والآن يصل بنا الكلام إلى (فقه التخريج)، ولنبدأ بالتأريخ له فنقول وبالله التوفيق:

تاريخ التخريج:

التخريج في مرحلته الأولى:

إن التخريج – باعتباره تفريعاً على آراء الأئمة وبيان مبنى الخلافات القائمة بينهم – كان ملازما لنشأة المذاهب الفقهية من قبل تلامذة الأئمة ثم من جاء بعدهم من العلماء

يخرجون أحكام الوقائع الجديدة التي لم يرد بشأنها شيء عن الإمام قياساً على وقائع جزئية منصوص على حكمها من قبل الإمام، أو على قواعده والأسس التي استخدمها في الاستنباط.

وبناء عليه يمكننا القول بأن محمد بن الحسن (- 189 هـ) وأبا يوسف (-182هـ) وغيرهما من تلاميذ أبي حنيفة (- 150 هـ) كانا من المخرجين على مذاهب إمامهما

وإن كانا من المجتهدين اجتهاداً مطلقاً منتسباً.

كما أن عبد الله بن وهب (-197 هـ) وعبد الرحمن بن القاسم (-192 هـ) وأشهب بن عبد العزيز القيسي (-224 هـ) وأسد بن الفرات (213- هـ) وعبد السلام بن سعيد الملقب بسحنون (- 240هـ) من أتباع مالك رحمه الله (-179 هـ) من المخرجين على مذهبه أيضاً.

ومثل هؤلاء تلامذة الإمام الشافعي رحمه الله (- 204 هـ) كالحسن بن محمد الزعفراني (-260 هـ) وأبي علي الحسن بن علي الكرابيسي (- 245 هـ) وإسماعيل بن يحيى المزني (- 264 هـ) وأبي يعقوب يوسف بن يحيى البويطي (-231 هـ) والربيع بن سليمان المرادي (- 270 هـ) .

- وكذلك تلامذة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله (- 240هـ) ، الذين نقلوا آراءه؛ كابنه عبد الله (290هـ) وابنه صالح (-266هـ) والآخرين الذين أخذوا عنه أو عن تلاميذه، كأحمد بن محمد بن عبد العزيز المروزي (-275هـ) وأبى إسحاق إبراهيم بن إسحاق الحربي (- 285 هـ) وأبي بكر أحمد بن محمد بن هارون المعروف بالخلال (- 311هـ) وأبي القاسم عمر بن حسين المزني (- 343 هـ) .

وغيرهم. ومن الممكن أن نلحظ هذا في سائر المذاهب الفقهية.

فعلماء هذا الدور ومن جاء بعدهم جمعوا الآثار ورجحوا الروايات وخرجوا علل الأحكام واستخرجوا من شتى المسائل والفروع أصول أئمتهم وقواعدهم التي بنوا عليها فتاويهم (2) .

ومن أقدم الكتب المؤلفة في هذا الباب: (تأسيس النظائر) لأبي الليث السمر قندي (- 373 هـ) ، ثم جاء بعده أبو زيد الدبوسي (- 430 هـ) ؛ فصنف كتابه (تأسيس النظر) منسج على منوال السمرقندي، وبعد ما يزيد على قرنين ظهر كتاب (تخريج الفروع على الأصول) لشهاب الدين محمود بن أحمد الزنجاني (- 256هـ) وقد ادعى قائلاً: حيث لم أرَ أحداً من العلماء الماضين والفقهاء المتقدمين من تصدى لحيازة هذا المقصود (3) ! ولكن هذه الدعوى يخدشها ظهور الكتابين السابقين. . .

(1) القرافي، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، ص 249.

(2)

الخضري، تاريخ التشريع، ص 330.

(3)

الزنجاني، تخريج الفروع على الأصول، ص 2.

ص: 527

وبعد ذلك جاء الأسنوي الشافعي (- 772 هـ) في كتابه (التمهيد في تخريج الفروع على الأصول) . . . لكنه قصر الكلام فيه على الخلافيات داخل المذهب الشافعي

ومن العلماء الذين أسهموا في ذلك: أبو الحسن علاء الدين بن عباس البعلي الحنبلي (- 803 هـ) المعروف باللحام في كتابه (القواعد والفوائد الأصولية وما يتعلق بها من الأحكام الفرعية) ، ثم جاء الفقيه محمد بن عبد الله التمرتاساني الحنفي (- 1004هـ) فصنف كتابه الوصول إلى قواعد الأصول.

وآخر ما صنف في هذا الفن كتاب (أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء) للدكتور مصطفى سعيد الخن حفظه الله.

وكتاب: أثر الأدلة المختلف فيها في الفقه الإسلامي للدكتور مصطفى البغا.

مصادر التخريج:

هي المصادر التي تؤخذ منها مذاهب الأئمة الأربعة آراؤهم ونصوصهم الصريحة، أو ما يجري مجرى نصوصهم من اقتفاء أو إيماء أو إشارة أو تنبيه على رأي أو ما شابه ذلك، مما يدخل في اصطلاحاتهم في نطاق (المنطوق) .

رأي فقهاء الأحناف:

أ- إن ما ورد عن الأئمة يعد من آرائهم الجارية مجرى النص والتي صححوا نسبتها إليهم. ومن أمثلتها:

1-

ما رواه الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله في شأن صلاة كسوف الشمس وقوله: إن شاؤوا صلوا ركعتين. . وإن شاؤوا صلوا أربعاً، وإن شاؤوا أكثر من ذلك، فلم يصرح الإمام أبي حنيفة بكون صلاة الكسوف نافلة

ولكن ذلك عرف من نصه إيماء لأن كلامه يفيد التخيير، قال الكاساني (- 587 هـ) : والتخيير يكون في النوافل لا في الواجبات (1) .

وقال محمد بن الحسن: "ولا تصلى نافلة في جماعة إلا قيام رمضان وصلاة الكسوف "، قال الكاساني: فاستثنى صلاة الكسوف من الصلوات النافلة والمستثنى من جنس المستثنى منه .... فيدل على كونها نافلة

فنص محمد لم يصرح بكونها نافلة ..... وفي مذهب الإمام أحمد رضي الله عنه ما نسب إليه إيماء: " أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يثبت نسخه. أبو الخطاب: وأومأ إليه أحمد في رواية الأشرم وغيره. وقد سئل عن القرعة فقال: في كتاب الله في موضعين {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات: 141]، و {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ} [آل عمران: 44] ، وهذا شرع يونس، وهذا شرع زكريا (2) .

(1) بدائع الصنائع: 1 / 280.

(2)

التمهيد: 2 / 411.

ص: 528

فذكر الإمام أحمد هاتين الآيتين دون أن يعلق عليهما، يفهم منه أنه يرى حجية شرع من قبلنا، ولو لم يكن ذلك مما كان لذكرهما فائدة، فهو لم يصرح بالحجية، ولكنه أومأ إليها.

2-

التخريج على نص مفهوم الإمام: نقل الحصكفي (- 1088 هـ) عن جملة من مصادر الحنفية ما يفيد ذلك: فعن النهر: أن مفاهيم الكتب – الأصل – حجة: بخلاف أكثر مفاهيم النصوص، وإن المفهوم معتبر في الروايات – أي عن الأئمة – اتفاقاً، وذكر أن ما يعتبر مفهوم كلامه اتفاقاً

أقوال الصحابة

ولكن ينبغي تقييده بما يدرك بالرأي لا مما يدرك به.

ووجه ابن عابدين (-1252هـ) ذلك في شرحه: بأن ما لا يدرك بالرأي في حكم المرفوع، والمرفوع نص، والحنفية لا يحتجون بالمفهوم في نصوص الشارع (1)، ونصت على ذلك طائفة من كتب الحنفية. ومما مثلوا به لذلك أن المتأخرين قالوا: لو قال: ما لك على أكثر من مائة كان إقراراً بالمائة، فهذا دليل على اعتبارهم المفهوم في غير النصوص الشرعية، ومما يوضح ذلك في مفاهيم الكتب أن القدوري (- 428 هـ) نص في الكتاب على أن "السهو يلزم إذا زاد في صلاته فعلاً من جنسها ليس منها

أو جهر الإمام فيما يخافت أو خافت فيما يجهر ". فأخذ بعض الحنفية من تقييده الجهر والإخفات بالإمام أن المنفرد لا سهو عليه في حالتي الجهر فيما يخافت فيه أو الإخفاء فيما يجهر فيه (2) .

رأي فقهاء المالكية:

ذكر المقري (- 758هـ) وهو من علماء المالكية – عدم جواز تخريج آراء الأئمة ثم نسبتها إليهم بناء على مفهوم المخالفة.

قال: لا يجوز نسبة بالتخريج والإلزام بطريق المفهوم أو غير المفهوم إلى غير المعصوم عند المحققين – لإمكان الغفلة أو الفارق. أو الرجوع عن الأصل عند الإلزام التقييد بما ينفيه، أو إبداء معارض في السكوت أقوى، أو عدم اعتقاده العكس إلى غير ذلك، فلا يعتمد في التقليد ولا يعد في الخلافات (3) .

(1) الحاشية: 1 / 110.

(2)

اللباب شرح الكتاب: 1 / 97.

(3)

قواعد المقري: 1 / 348 – 349.

ص: 529

رأي فقهاء الشافعية:

وفي كلام أبي إسحاق الشيرزي الشافعي (- 476 هـ) ما يدلُّ على منع مثل هذا التخريج، ورفضه أن ينسب ذلك إلى الأئمة قال:

"قول الإنسان: ما نص عليه، أو دل عليه ما يجري مجرى النص، وما لم يدل عليه – فلا يحل أن يضاف إليه، ولهذا قال الشافعي رحمه الله: لا ينسب إلى ساكت قول".

رأي فقهاء الحنابلة:

اختلفت أقوال فقهاء الحنابلة بهذا الشأن:

فقد اختار المزني وابن حامد الحربي منهم، صحة نسبة ذلك إلى الإمام.

وحجتهم في ذلك أن ما يذكر من قيد لابد أن تكون له فائدة، ولو لم يكن الأمر لكان ذكره لغواً.

قال ابن حامد: ومع هذا فقد ثبت وتقرر أن إمامنا – أحمد بن حنبل رحمه الله – وغيره من العلماء لا يأتون لكلمة من حيث الشرط إلا ولذلك فائدة، فلو كانت القضية بالشرط وعدم الشرط، سواء كان ما جاء به الفقيه من الشرط أيضاً لغواً، وهذا بعيد أن ينسب إلى أحد من العلماء (1)، وهذا الوجه قال عنه في شرح التحرير:(هو الصحيح من المذهب) .

والوجه الثاني: أنَّ مفهوم كلام الإمام لا يعد مذهباً له، ولا تصح نسبته إليه، وقد اختار ذلك أبو بكر عبد العزيز بن جعفر المعروف بغلام الخلال (- 363 هـ) .

ووجه قول هؤلاء: أن القيد لا يتعين للنفي فيما عداه، فقد يكون خاصاً بواقعة معينة، أو يكون القيد لحالة خرج الكلام فيها مخرج الغالب، أو لإمكان الغفلة، أو لوجود الفارق، أو الرجوع عن الأصل، أو غير ذلك من الأمور (2) ، وينبني على ذلك أن لا تصح نسبة أي رأي له عن طريق المفهوم.

أمثلة التخريج على المفهوم:

ومن أمثلة التخريج عن طريق المفهوم ما أخذ من نص الإمام أحمد في رواية إسحاق بن منصور، حيث نص على أن كل من لم يكن له شيء يفعله في طريق المسلمين ففعله فأصاب شيئاً فهو ضامن، فإن المفهوم منه انتفاء الضمان بما ينشأ عن الفعل المباح (3) .

(1) تهذيب الأجوبة، ص 192، وصفة الفتوى والمفتي، ص 103.

(2)

قواعد المقري، قاعدة 120

(3)

القواعد والفوائد الأصولية، ص 78.

ص: 530

هل لازم المذهب يعتبر من المذهب؟:

لازم المذهب يطلق على حالة معينة وهي:

ما إذا لم يعرف للمجتهد قول في مسألة، لكن عرف له قول في نظيرها

اختار الزركشي – في البحر المحيط – أن الصحيح في ذلك عدم جواز التخريج (1) .

وأن الأصح عدم جواز نسبة القول إلى الإمام. وعليه فإن لازم المذهب ليس بمذهب

وهذا ما صوبه شيخ الإسلام ابن يتيمة في حالة عدم التزام صاحب المذهب (2) .

أمثلة فقهية للازم المذهب:

1-

الإقالة وهل هي فسخ أو بيع:

اختلف العلماء في الإقالة؛ فذهب مالك وأبو يوسف إلى أنها بيع، وهو رواية عن الإمام أحمد، وذهب الشافعي ومحمد بن الحسن إلى أنها فسخ.

وعند أبي حنيفة أنها فسخ في حق المتعاقدين بيع جديد فيحق ثالث (3) .

وقد ترتب على هذه الآراء لوازم مختلفة تتناسب مع تلك الآراء، فمن قال: إنها فسخ لزمته أحكام متعددة منها:

جوازها قبل القبض وبعده.

وعدم استحقاق الشفعة بها.

وعدم حنث من حلف لا يبيع بها (4) .

ومن قال: إنها بيع لزمه:

1-

أنه لا يجوز ذلك قبل القبض فيما يعتبر فيه القرض.

2-

أنها تستحقه بالشفعة.

3-

يحنث بها من حلف لا يبيع.

كما اختلفوا في الخلع:

فذهب الجمهور إلى أنه طلاق. وبه أخذ مالك وأبو حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين، وذهب الآخرون إلى أنه فسخ، وبذلك أخذ الشافعي في قوله القديم، وأحمد في رواية، وغيرهم من العلماء، وهو رأي ابن عباس من الصحابة (5) .

وهذا الخلاف يلزمه خلاف في كثير من الفروع الفقهية، فمن قال: إن الخلع طلاق يلزمه أن الخلع ينقص عدد الطلقات، وأما من قال: إن الخلع فسخ، فلا تحرم عليه حتى لو خالعها مائة مرة

(1) البحر المحيط: 6 / 127.

(2)

مجموع الفتاوى: 5 / 306.

(3)

المغني: 4 / 135؛ وتبيين الحقائق: 4 / 70؛ وقواعد ابن رجب، ص 379.

(4)

المغني: 4 / 136.

(5)

بداية المجتهد: 2 / 69؛ وتبيين الحقائق: 2 / 268؛ والوجيز: 2 /41؛ المغني: 7 / 56.

ص: 531

أنواع التخريج:

إن المتتبع لجهود الفقهاء في التخريج يتبين له أن جهودهم في هذا الشأن تتوجه في مناهج ثلاثة:

الأول: تخريج الأصول من الفروع: وهو الأساس في تأسيس علم (أصول الفقه) ، وبخاصة الأئمة الذين لم يدونوا مناهجهم في الأصول، كأبي حنيفة ومالك وأحمد رضي الله عنهم.

الثاني: تخريج الفروع على الأصول: وهو النمط الظاهر من كتاب تخريج الفروع على الأصول للزنجاني، أو التمهيد في تخريج الفروع على الأصول للأسنوي، أو (القواعد والفوائد الأصولية) لابن اللحام.

الثالث: تخريج الفروع على الفروع: وهو النوع الذي حظي بعناية الفقهاء والأصوليين أكثر من غيره، سواء في الكتب التي حررت فتاوى المذاهب، أو في كتب أصول الفقه ضمن مباحث الاجتهاد والتقليد .... أو في مواضع منثورة من كتب الفقه (1) .

قلت: وهذا القسم هو الذي بني عليه بحثنا في فقه التخريج، والأسس التي يقوم عليها استنباط أحكام النوازل الفقهية موضوع الدراسة ....

ومن الملاحظ أن الأنواع الثلاثة من التخريج تمثل نوعين معاكسين من التخريج:

إحداهما: يتجه إلى تخريج القواعد والضوابط الكلية من الفروع والجزئيات.

وثانيهما: يتجه على العكس من ذلك – أي إلى تخريج الفروع والجزئيات.

إما ببنائها على القواعد الكلية، أو ببنائها على جزئيات مثلها (2) .

المنهجية في فقه التخريج:

نهج متأخرو الفقهاء في تخريجهم: هو على النمط التالي:

أن يحفظ كل أحد كتاب من هو لسان أصحابه وأعرفهم بأقوال القوم، وأصحهم نظراً في الترجيح، فيتأمل في كل مسألة وجه الحكم، فكلما سئل عن شيء، أو احتاج إلى شيء، رأى فيما يحفظ من تصريحات أصحابه، فإن وجد الجواب فيها، وإلا نظر إلى عموم كلامهم فأجراه على هذه الصورة، أو أشار إلى ضمنية الكلام فاستنبط منها.

وربما كان لبعض الكلام إيماء، أو اقتضاء يفهم المقصود.

وربما كان للمسألة بها نظير يحمل عليها.

وربما نظروا في علة الحكم المصرح به بالتخريج، أو باليسير والحذف، فأداروا حكمه على حكمه على غير المصرح به.

وربما كان له كلام لو اجتمعا على هيئة القياس الاقتراني أو الشرطي أنتجا جواب المسألة.

(1) الباحسين، التخريج، ص 6.

(2)

الباحسين، ص 7.

ص: 532

وربما كان في كلامهم ما هو معلوم بالحد الجامع المانع؛ فيرجعون إلى أهل اللسان، ويتكلفون في تحصيل ذاتياته، وترتيب حد جامع مانع له، وضبط مبهمه، وتمييز مشكله.

وربما كان كلامهم لوجهين، فينظرون في ترجيح أحد المحتملين.

وربما يكون تقريب الدلائل خفياً فيبينون ذلك.

وربما استدل بعض المخرجين من فعل أئمتهم وسكرتهم، ونحو ذلك.

فهذا هو التخريج.

ويقال له: القول المخرج لفلان كذا.

ويقال: على مذهب فلان، أو على أصل فلان، أو على قول فلان جواب المسألة كذا وكذا.

ويقال لهؤلاء: المجتهدون في المذهب.

وقالوا: من حفظ المبسوط كان مجتهداً

أي: وإن لم يكن له علاقة برواية أصلاً، ولا بحديث واحد. فوقع التخريج في كل مذهب وكثر (1) .

وإنما قالوا: من حفظ المبسوط. باعتباره المصنف الذي أحاط بالراجح من أقوال الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى.

وهو من تصنيف الإمام محمد بن الحسن. وإن كانت المتون فيما بعد لضبط أقوال الإمام، وتحرير الراجح منها. ويجري على من استظهر تلك المتون ما يجري على من استظهر المبسوط.

تخريج القواعد الأصولية على كلام الأئمة:

هذا والتخريج غير مقتصد على تخريج الفروع على قواعد الأئمة

بل إن القواعد الفقهية والأصولية نفسها هي من تخريجات الأصحاب، وليس ذلك مذهباً في الحقيقة.

ومسائل الخلاف بين أبي حنيفة والشافعي رحمهما الله على الأصول المذكورة في كتاب (البزدوي) ونحوه أكثرها أصول مخرجة على قولهم.

وقال الدهلوي: وعندي بأن الخاص مبين ولا يلحقه البيان.

- وإن الزيادة على النص نسخ.

- وإن العام قطعي كالخاص.

- وإن الترجيح بكثرة الرواة.

- وإنه لا يجب العمل بحديث غير الفقه إذا انسد باب الرأي.

- وأن لا عبرة بمفهوم الشرط، والوصف أصلاً.

- وأن موجب الأمر هو الوجوب ألبتة. وأمثال ذلك أصول مخرجة على كلام الأئمة.

- وأنه لا تصح به رواية عن أبي حنيفة وصاحبيه.

مثاله: أنهم أصلوا: إن الخاص مبين فلا يلحقه البيان.

(1) الدهلوي، حجة الله البالغة: 1 / 152.

ص: 533

وخرجوه من صنيع الأوائل في قوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77]، وقوله صلى الله عليه وسلم:((لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع)) ، وحيث لم يقولوا بفريضة الاطمئنان في الصلاة.

ولم يجعلوا الحديث المذكور بياناً للآية، فورد عليهم صنيعهم في قوله تعالى:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] ، ومسح صلى الله عليه وسلم على ناصيته حيث جعلوه بياناً.

وقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] .

وقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] .

وقوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] .

ما يلحقه من البيان بعد ذلك – فتكلفوا الجواب كما هو مذكور في كتبهم.

وإنهم أصلوا: أن العام قطعي كالخاص.

وخرجوه من صنيع الأوائل في قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ} [المزمل: 20]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"لا صلاة إلا بفاتحة القرآن ".

حيث لم يجعلوا الحديث مخصصاً لعموم الآية الكريمة التي تتناول مطلق القراءة.

وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ((فيما سقت العيون العشر)) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ليس فيما دون خمسة أواقٍ صدقة)) .

وكذلك أصلوا: أنه لا يجب العمل بحديث غير الفقيه إذا انسد باب الرأي:

وخرجوه من صنيع الأوائل في قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ} [المزمل: 20]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"لا صلاة إلا بفاتحة القرآن ".

حيث لم يجعلوا الحديث مخصصاً لعموم الآية الكريمة التي تتناول مطلق القراءة.

وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ((فيما سقت العيون العشر)) ، وقوله صلى الله عليه وسلم:((ليس فيما دون خمسة أواق صدقة)) .

وكذلك أصلوا: أنه لا يجب العمل بحديث غير الفقيه إذا انسد باب الرأي:

وخرجوه من صنيعهم في ترك حديث المصراة، ثم ورد عليهم حديث القهقهة، وحديث عدم فساد الصوم بالأكل ناسياً، فتكلفوا الجواب (1) ، والله أعلم بالصواب.

ولابد من التقرير بأن الفروع وإن لم تكن كلها منقولة عن الإمام الأعظم، لكن المشايخ خرجوا بعضها عن المنقول لا بمجرد الرأي.

(1) الدهلوي، حجة الله البالغة: 1 / 161.

ص: 534

- كما لابد من الإشارة إلى ما كان مخرجاً على المذهب من أهل التخريج فهو داخل المذهب. وفي هذا الصدد يقول ابن عابدين:

فإن فيه إحسان الظن بمشايخ المذهب (1) ، أي وإلا اتهم فقهاء المذاهب جملة بأنهم نسبوا إلى المذهب ما ليس منه، وهذا يجلون عنه وهم أهل الفضل والاجتهاد، ومؤتمنون على شرع الله تعالى، وقد وصفهم ابن قيم الجوزية بأنهم الموقعون عن الله تعالى في كتابه الموسوم:(إعلام الموقعين عن رب العالمين) .

تطور فقه التخريج والمصنفات الموضوعة في هذا الفن:

إن المسائل المستنبطة في هذا الباب مثبوثة في كتب الفقه والأصول، كما أنه أفردت به مصنفات معينة، ومن أقدم المصنفات المتخصصة بهذا الفن التي وصلت إلينا:

- رسالة وضعها أبو الحسين عبيد الله بن الحسين الكرخي المتوفى سنة أربعين وثلاثمائة (- 340 هـ) ، وإنما اقتصر فيها على ذكر (الضوابط) أو (الأصول) التي عليها مدار فروع الحنفية، وحصرها في أربعين أصلاً.

وتعقبها بالشرح والتعليق الإمام نجم الدين عمر بن أحمد النسفي المتوفى سنة إحدى وستين وأربعمائة (- 461 هـ) فذكر أمثلتها، ونظائرها وشواهدها.

وإنما كان عمله ذكر المثال الواحد أو مثالين على الأكثر ورفض التعارض بين الأدلة، ويبدو ذلك لدى تعليقه الأصلين، السابع والعشرين؛ ونصه:

"إن كل آية تخالف قول أصحابنا فإنها تحمل على النسخ، أو على الترجيح، والأولى أن تحمل على التأويل من جهة "(2) .

والأصل رقم: ثمانية وعشرون؛ ونصه: "إن كل خبر يجيء بخلاف قول أصحابنا من وجوه الترجيح، أو يحمل على التوفيق، وإنما يفعل ذلك على حسب قيام الدليل، فإن قامت دلالة النسخ يحمل عليها، وإن قامت الدلالة على غيره صرنا إليه "(3) .

(1) ابن عابدين منحة الخالق على البحر الرائق: 2 / 14.

(2)

انظر الدبوسي، تأسيس النظر، ص 152.

(3)

انظر الدبوسي، تأسيس النظر، ص 153.

ص: 535

ويبدو أن النسفي لم يطلع على ما كتبه أبو زيد الدبوسي المتوفى (- 430 هـ) ، الذي بسط الكلام في هذا الموضوع في كتابه المعروف بـ (تأسيس النظر) على الرغم من سبق الدبوسي في تاريخ الوفاة بثلاثين عاماً. وكان ذائع الصيت، وإماماً في المذهب.

* من له حق التخريج عند فقهاء الأحناف:

إفتاء غير المجتهد بمذهب مجتهد إفتاء تخريج، بأن لا يكون المفتى به منصوصاً لصاحب المذهب لكن المفتي أخرجه من أصوله.

- ويشترط في المفتي على هذا الوجه أن يكون أهلاً للتخريج ولمعرفة ما يتوقف عليه، وهو المسمى بالمجتهد في المذهب.

- وإن لم يكن غير مجتهد في المذهب لا يجوز إفتاؤه تخريجاً.

وفي شرح البديع للهندي – وهو المختار عند كثير من المحققين من أصحابنا وغيرهم – فإنه نقل عن أبي يوسف وزفر وغيرهما من أئمتنا: أنه لا يجوز لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعلم من أين قلنا (1) .

قال ابن عابدين:

فقد تحرر

أن قول الإمام وأصحابه: لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا حتى يعلم من أين قلنا

محمول على فتوى المجتهد في المذهب بطريق الاستنباط والتخريج. .

وقال: والظاهر إشراك أهل الطبقة الثالثة والرابعة والخامسة في ذلك (2) .

وقال المناوي: مجتهد الفتوى قسمان:

أحدهما: من جمع شرائط الاجتهاد .... وهذا لا يوجد.

والثاني من ينتحل مذهب واحد من الأئمة كالشفاعي، وعرف مذهبه وصار حاذقاً فيه لا يشذ عن شيء من أصوله، فإذا سئل في حادثة، فإن عرف لصاحبه نصاً أجاب، وإلا، يجتهد فيه على مذهبه، ويخرجها على أصوله، وهذا أعز من الكبريت الأحمر (3) .

الطبقة السابعة: طبقة المقلدين الذين لا يقدرون على ما ذكر (4)، وقد ورد بعض المآخذ على تصنيف بعض الفقهاء؛ كالإمام الدهلوي حيث أورد التقسيم التالي:

1-

طبقة المجتهدين اجتهاداً مطلقاً وهي قسمان:

أ- طبقة المجتهدين المستقلين، كالأئمة الأربعة.

ب- طبقة المجتهدين المنتسبين، من تلاميذ الأئمة.

2-

طبقة المجتهدين في المذهب، وهم المتمكنون من تخريج الأحكام على نصوص إمامهم.

3-

طبقة مجتهدي الفتيا، وهم المتبحرون في مذهب إمامهم المتمكنون، من ترجيح قول على آخر.

4-

طبقة المقلدين صرفاً (5)

وكان لابن الصلاح (- 643 هـ) ترتيب آخر مجمله:

إن المفتين خمس طبقات، تدخل ضمن قسمين رئيسيين هما:

- المفتي المستقل.

- والمفتي غير المستقل.

وجعل المفتي الغير مستقل أربع درجات وبذلك تكون طبقاته خمساً (6) .

(1) أمير باد شاه، تيسير التحرير: 4 / 249.

(2)

ابن عابدين، رسم المفتي، ص 31 – 33.

(3)

المناوي، فيض القدير، ص 94.

(4)

شرح عقود رسم المفتي، لابن عابدين: 1 / 11 و 12؛ ورد المحتار لابن عابدين: 1 / 77.

(5)

عقد الجيد: 5 / 17.

(6)

أدب المفتي والمستفتي، ص 19.

ص: 536

وجاء بعده ابن حمدان (- 695 هـ) وقسم الفقهاء إلى سبع طبقات متأثراً بابن الصلاح:

القسم الأول: المجتهد المطلق.

القسم الثاني: المجتهد في مذهب إمامه

وجعل له أربعة أحوال.

القسم الثالث: المجتهد في نوع من العلم

القسم الرابع: المجتهد في مسائل أو في مسألة وليس له الفتوى في غيرها

* من له حق الفتوى فيما لا نص فيه في المذهب الشافعي:

مجتهد التخريج:

(من له حق الفتوى فيما لا نص فيه لإمامه بما يخرجه على أصوله) :

- أن يكون مستقلاً بتقرير أصول إمام من أئمة الفقه بالدليل ولا يتجاوز في أدلته أصوله وقواعده، عالماً بالفقه والأصول وأدلة الأحكام تفصيلاً، بصيراً بمسالك الأقيسة والمعاني، تام الارتياض في التخريج والاستنباط، قادراً على إلحاقه من لم ينص عليه الإمام بما نص عليه بأصوله

يتخذ نصوص إمامه أصولاً يستنبط منها الأحكام كما يفعل المستقل بنصوص الشارع. . .

قال الإمام النووي: وهذه صفة أصحابنا أصحاب الوجوه، وعليه كان أئمة أصحابنا أو أكثرهم.

والعامل بفتوى هذا مقلد لإمامه لا له (1) .

وسماهم الإمام السيوطي بمجتهدي التخريج (2) .

وتنطبق عليهم صفات من جعلهم ابن القيم في الدرجة الثالثة من المجتهدين وقال فيهم: وهذا شأن كثير من أصحاب الوجوه والطرق والكتب المطولة والمختصرة، وهؤلاء لا يدَّعون الاجتهاد، ولا يقرون بالتقليد.

مراتب المجتهدين:

جاء في باب آداب الفتوى والمفتي والمستفتي:

قال أبو عمرو بن الصلاح: المفتون قسمان: مستقل وغيره، ومنذ دهر طويل عدم المفتي المستقل وصارت الفتوى إلى المنتسبين إلى أئمة المذاهب المتبوعة. وللمفتي المنتسب أربعة أحوال:

الحالة الأولى: أن لا يكون مقلداً لإمامه لا في المذهب ولا في دليله لاتصافه بصفة المستقل، وإنما ينسب إليه لسلوكه طريقته في الاجتهاد.

الحالة الثانية: أن يكون مجتهداً مقيّداً في مذهب إمامه، مستقلاً بتقرير أصوله بالدليل، غير أنه لا يتجاوز في أدلته أصول إمامه وقواعده.

وشرطه: كونه عالماً بالفقه وأصوله، وأدلة الأحكام تفصيلاً، بصيراً بمسالك الأقيسة والمعاني، تام الارتياض والاستنباط، قيما بإلحاق ما ليس منصوصاً عليه لإمامه بأصوله.

ثم يتخذ نصوص إمامه أصولاً يستنبط منها: كفعل المستقل بنصوص الشرع.

الحالة الثالثة: أن لا يبلغ رتبة أصحاب الوجوه، لكنه فقيه النفس حافظ مذهب إمامه عارف بأدلته قائم بتقريرها

وهذه صفة كثير من المتأخرين إلى أواخر المائة الرابعة، المصنفين الذين رتبوا المذهب وحرروه، وصنفوا فيه تصانيف فيها معظم اشتغال الناس اليوم.

(1) النووي، المجموع: 1 / 72.

(2)

الرد على من أخلد إلى الأرض، ص 42.

ص: 537

الحالة الرابعة: أن يقوم بحفظ المذهب ونقله وفهمه في الواضحات والمشكلات – ولكن عنده في تقرير أدلته وتحرير أقيسته – فهذا يعتمد نقله وفتواه به فيما يحكيه من مسطورات مذهبه من نصوص إمامه وتفريع المجتهدين في مذهبه (1) .

مجتهد الفتوى والترجيح:

وهو النوع الرابع من أنواع المجتهدين، وهم الطبقة التي تلي أصحاب الوجوه، الذين لم يصلوا درجتهم في حفظ المذهب، والتمرس بأصوله وقواعده، والارتياض في الاستنباط، وغير ذلك من مسالك الاجتهاد ووسائله.

إلا أنه لأن يكون المجتهد في هذه المرتبة، لابد أن يكون فقيه النفس، حافظاً للمذهب، عارفاً بأقوال الأصحاب وأوجههم،، مدركاً لتعليلاتهم وأدلتهم، متمرساً بأدلة المذهب، يتمكن من تحرير المسائل وتقريرها، وترجيح بعض الأقوال على بعضها الآخر، وتزييف الضعيف منها.

قال ابن الصلاح: وهذا لا يبلغ رتبة أصحاب الوجوه، لكنه فقيه النفس، حافظ مذهب إمامه، عارف بأدلته، قائم بتقريرها، يصور ويحرر، ويمهد ويزيف ويرجح.

لكنه قصر عن أولئك لقصوره عنهم في حفظ المذهب، أو الارتياض في الاستنباط، أو معرفة الأصول ونحوها من أدلتهم.

قال: وهذه صفة كثير من المتأخرين إلى أواخر المائة الرابعة من المصنفين الذين رتبوا المذهب وحرروه، وصنفوا فيه تصانيف فيها معظم اشتغال الناس اليوم، ولم يلحقوا الذين قبلهم في التخريج.

وأما فتاويهم، فكانوا يتبسطون فيه تبسط أولئك أو قريباً منه، ويقيسون غير المنقول عليه، غير مقتصرين على القياس الجلي.

ومنهم من جمعت فتاويه، ولا تبلغ في التحاقها بالمذهب فتاوى أصحاب الوجوه (2) .

* من له حق الفتوى والتخريج عند فقهاء المالكية:

رأي الشاطبي في شروط الاجتهاد:

مع توفر شروط الاجتهاد لابد من التقوى المذكورة في قوله تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]، والتي يعبر عنها بالحكمة ويشير إليها قوله تعالى:{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] .

قال مالك: من شأن ابن آدم أن لا يعلم ثم يعلم، أما سمعت قول الله تعالى:{إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] . وقد كره مالك كتابة العلم – يريد ما كان نحو الفتاوى – فسئل: ما الذي نصنع؟ فقال: تحفظون وتفهمون حتى تستنير قلوبكم ثم لا تحتاجون إلى الكتاب.

وقال الشاطبي: إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين:

فهم مقاصد الشريعة، والتمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها (3) .

* من له حق الفتوى والتخريج عند فقهاء الحنابلة:

تقسيم ابن قيم الجوزية (- 751 هـ) :

جعل فيه الذين نصبوا أنفسهم للفتوى أربعة أقسام هي:

المجتهد المطلق، والمجتهد المقيد في مذهب من ائتم به، والمجتهد في مذهب من انتسب إليه، والمقلد تقليداً محضاً، وبذلك يكون متبعاً لابن الصلاح في منهجه، لكنه طوى إحدى الطبقات في الطبقة التي قبلها، فجعل أهل التخريج – وهم أصحاب الوجوه والطرق – وأهل الترجيح طبقة واحدة. هي طبقة المجتهد في مذهب من انتسب إليه.

(1) النووي، المجموع: 1 / 70 – 74.

(2)

المجموع: 1 / 73؛ وجمع الجوامع: 2 / 385.

(3)

الموافقات: 4 / 106.

ص: 538

وسمى أهل الفتوى المقلدين تقليداً محضاً (1) .

وخلاصة القول: أن المصنفين في طبقات الفقهاء اتفقت كلمتهم على أن أهل التخريج يعدون من المجتهدين، وما جاء في تقسيم ابن كمال باشا حيث نعت طبقة أهل التخريج بالمقلدين

لم يكن معنياً به المخرجين الذين نحن بصدد الكلام عنهم، بل المخرجون – الذين هم موضوع بحثنا – هم الذين ذكرهم في الطبقة الثالثة

وسماهم المجتهدين في المسائل التي لا رواية فيها عن صاحب المذهب (2) .

وقال: أول من وقع عن الله هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وأول من قام بهذا المنصب الشريف سيد المرسلين، فكان يفتي عن الله بوحيه المبين، وكان كما قال له أحكم الحاكمين:{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [سورة ص: 86] ، فكانت فتاويه صلى الله عليه وسلم جوامع الأحكام، ومشتملة على فصل الخطاب.

ثم قام بالفتوى من بعده برك الإسلام، وعصابة الإيمان، وعسكر القرآن وجند الرحمن، أولئك أصحابه صلى الله عليه وسلم.

وقال: وكما أن الصحابة سادة الأمة وأئمتها وقادتها

فهم سادات المفتين العلماء (3) .

وقال: وكان السلف من الصحابة والتابعين يكرهون التسرع في الفتوى، ويود كل واحد منهم أن يكفيه إياها غيره، فإذا رأى أنها قد تعينت عليه بذل اجتهاده في معرفة حكمها من كتاب الله والسنة أو قول الخلفاء الراشدين ثم أفتى (4) .

الإفتاء في النوازل هو التوقيع عن الله:

قال ابن القيم في الإعلام:

ما يشترط فيمن يوقع عن الله ورسوله:

لما كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد العلم بما يبلغ، والصدق فيه – لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق، فيكون عالماً بما يبلغ، صادقاً فيه

وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله. فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات.

وكيف هو المنصف الذي تولى بنفسه رب الأرباب، قال تعالى:{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} [النساء: 157] . وكفى بما تولاه الله تعالى بنفسه شرفاً وجلالة إذ يقول في كتابه: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176] ، وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه، وليوقن أنه مسؤول غداً وموقوف بين يدي الله (5) .

الفتوى على غير مذهب الإمام.

تساءل ابن القيم قائلاً: هل للمفتي المنتسب إلى الإمام بعينه أن يفتي بمذهب غيره إذا ترجح عنده؟

فإن كان سالكاً سبيل ذلك الإمام في الاجتهاد ومتابعة الدليل أين كان – وهذا هو المتبع للإمام حقيقة – فله أن يفتي بما ترجح عنده من قول غيره.

وإن كان مجتهداً متقيداً بأقوال ذلك الإمام لا يعدوها إلى غيرها (6) ؛ فقد قيل: ليس له أن يفتي بغير قول إمامه.

والصواب: أنه إذا ترجح عنده قول غير إمامه بدليل راجح فلا بد أن يخرج على أصول إمامه وقواعده، فإن الأئمة متفقة على أصول الأحكام فكل قول صحيح فهو يخرج على قاعدة الأئمة بلا ريب، فإذا تبين لهذا المجتهد المقيد رجحان هذا القول وصحة مأخذه خرج على قواعد إمامه فله أن يفتي به، وبالله التوفيق.

(1) إعلام الموقعين: 4 / 184 – 185.

(2)

الباحسين، التخريج عند الفقهاء، ص 319.

(3)

إعلام الموقعين: 1 / 11 – 13.

(4)

إعلام الموقعين: 1 / 29.

(5)

إعلام الموقعين: 1 / 11.

(6)

ابن القيم، إعلام الموقعين: 2 / 465.

ص: 539

هل التخريج على قواعد الإمام بمثابة قول الإمام؟:

نسبة القول المخرج للإمام:

إن مجتهد المذهب قد يجتهد بالتخريج على قواعد الإمام فيلحق ما لم ينص عليه الإمام بما نص عليه. ولكن ما هو مصير هذه الأقوال المخرجة؟ هل تنسب للإمام الذي خرجت الأقوال على أصوله وقواعده، أم لا تنسب إليه، وإنما هي أقوال في المذهب تنسب لمخرجيها فقط؟

لقد جزم إمام الحرمين في (الغياثي)(1) بأن القول المخرج في المذهب منسوب للإمام، وأن المفتي إذا أفتى بتخريجه، فالمستفتي مقلد لإمامه، لا له.

وقال الإمام الشيرازي في (التبصرة) : لا يجوز أن ينسب إلى الشافعي رضي الله عنه ما يخرج على قوله، فيجعل قولا له (2) .

ثم رد الشيرازي على من قال من الأصحاب بأنه ينسب إليه.

قال الشيرازي: وذلك أن قول الإنسان ما نص عليه، أو دل عليه بما يجري مجرى النص، وما لم يقله، ولم يدل عليه، فلا يحل أن يضاف إليه.

ولهذا قال الشافعي – رحمه الله: لا ينسب لساكت قول.

وهذا الذي قاله الشيرازي هو الصحيح المعمول به في المذهب، كما قال ابن الصلاح، والنووي (3) .

قلت: ثم هذه التخريجات، وإن كانت لا تنسب للشافعي، على هذا الصحيح المختار، إلا أنها تعد من المذهب، وتعتبر وجوهاً فيه، ما دامت مستخرجة على نصوص الإمام وأصوله، ومن قبل أصحابه ومقلديه، وأما إن كانت مما اجتهد فيه صاحب الوجه، ولم يأخذه من أصل الإمام، فإما أن يوافق القواعد، وإما أن يخالفها. فإن وافق القواعد فهو من المذهب وإلا فلا.

قال ابن السبكي (في الطبقات)(4) : "القول الفصل فيما اجتهدوا فيه – أي أصحاب الوجوه – ولم يأخذوه من أصله أنه لا يعد، إلا إذا لم ينافِ قواعد المذهب، فإن نافاها لم يعد، وإن ناسبها عد، وإن لم يكن له مناسبة ولا منافاة – وقد لا يكون لذلك وجود، لإحاطة المذهب بالحوادث كلها – ففي إلحاقه بالمذهب تردد. وكل تخريج أطلقه المخرج إطلاقاً. فيظهر أن ذلك المخرج، إن كان ممن يغلب عليه التمذهب والتقيد، كالشيخ أبي حامد، والقفال، عد من المذهب.

وإن كان ممن كثر خروجه كالمحمدين الأربعة، فلا يعد.

وأما المزني، وبعده ابن سريج، فبين الدرجتين، لم يخرجوا خروج المحمدين، ولم يتقيدوا بقيد العراقيين والخراسانيين ".

وهذا ومن التخريج ما يكون من نقل الأقوال للإمام من مسألة أخرى، كأن ينص الإمام في مسألة على حكم، ثم ينص في مسألة أخرى تشابهها على حكم يخالف الحكم الأول.

فيأتي مجتهد المذهب ويخرج لكل مسألة من المسألتين قولاً من المسألة الأخرى، فيصير لكل مسألة قول منصوص عليه من قبل الإمام، وقوله مخرج من قبل الأصحاب.

قال ابن الصلاح: ثم تارة يخرج من نص معين لإمامه، وتارة لا يجده فيخرج على أصوله، بأن يجد دليلاً على شرط ما يحتج به إمامه، فيفتي بموجبه.

(1) الغياثي، ص 427

(2)

انظر التبصرة، ص 517 بشرحنا.

(3)

المجموع: 1 / 73؛ والمغني: 1 / 12؛ ونهاية المحتاج: 1 / 43؛ والتحفة: 1 / 53.

(4)

ابن السبكي، الطبقات: 2 / 104.

ص: 540

فإن نص إمامه على شيء، ونص في مسألة تشبهها على خلافه، فخرج من أحدهما إلى الآخر، سمي قولاً مخرجاً.

وشرط هذا التخريج أن لا يجد بين نصيه فرقًا، فإن وجده، وجد تقريرهما على ظاهرهما.

ويختلفون كثيرا في القول بالتخريج في مثل ذلك، لاختلافهم في إمكان الفرق.

قال النووي: قلت: وأكثر ذلك يمكن فيه الفرق، وقد ذكروه (1) .

ومثال التخريج في الأقوال والمسائل – والأمثلة كثيرة – ما نص عليه الشافعي في الاجتهاد في الأواني، إذ نص على أنه اجتهد فيها، وغلب على ظنه طهارة أحدهما استعمله، وأراق الآخر، فإن استعمل ما غلب على ظنه طهارته، إلا أنه لم يرق الآخر، الذي غلب على ظنه نجاسته، ثم تغير اجتهاده، بأن غلب على ظنه طهارة ما ظنه نجساً ونجاسة ما ظنه طاهراً في الاجتهاد الأول.

قال الشافعي: لا يعمل بالاجتهاد الثاني، لئلا ينتقض اجتهاد باجتهاد، بل يخلطان، بل يرقيهما ويتيمم

إلا أنه في الاجتهاد في القبلة نص على أن المصلي لو اجتهد في القبلة، وغلب على ظنه أنها في جهة الغرب مثلاً، فصلى إليها، ثم تغير اجتهاده في الركعة الثانية، فغلب على ظنه أنها في جهة الشمال، أنه يغير اتجاهه في الركعة الثانية، حتى لو تغير اجتهاده أربع مرات، يصلي أربع ركعات إلى أربع جهات، ولم يقل فيها ما قاله في مسألة الاجتهاد في الأواني من عدم العمل بالاجتهاد الثاني. فهاتان مسألتان، متشابهتان، نص فيهما الإمام على حكمين مختلفين، في الأولى لم يجز العمل بالاجتهاد الثاني، وفي الثانية أجاز العمل به.

فخرج بعض الأصحاب لكل من المسألتين قولاً من نظيرتها، ففي مسألة الاجتهاد في الأواني خرجوا لها قولاً من الاجتهاد في القبلة، فصار فيها قولان؛ قول منصوص، وهو أنه لا يجوز العمل بالاجتهاد الثاني، وقول مخرج من الاجتهاد في القبلة، وهو أنه يجوز العمل بالاجتهاد الثاني وعليه يجوز له أن يتوضأ مما غلب على ظنه طهارته بالاجتهاد الثاني.

كما خرجوا من مسألة الاجتهاد في الأواني قولا إلى الاجتهاد في القبلة، فصار فيها قولان، قول منصوص يجوز له أن يعمل بالاجتهاد الثاني، حتى يصلي أربع ركعات إلى أربع جهات، وقول مخرج، لا يجوز له أن يعمل بالاجتهاد الثاني.

على أن بعض الأصحاب أظهر فرقاً بين المسألتين، وبناء على ذلك منع التخريج فيهما (2) .

قال الإمام النووي: إذا أفتى المفتي بتخريجه والمستفتي مقلداً لإمامه لا له. هكذا قطع به إمام الحرمين في كتابه الغياثي.

وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: وينبغي أن يخرج هذا على خلاف حكاه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وغيره. إن ما يخرجه أصحابنا هل يجوز نسبته إلى الشافعي؟ والأصح أنه لا ينسب إليه. ثم تارة يخرج من نص معين لإمامه، وتارة لا يجده فيخرج على أصوله بأن يجد دليلاً على شرط ما يحتج به إمامه فيفتي بموجبه، فإن نص إمامه على شيء، ونص في مسألة تشبهها على خلافه فخرج من أحدهما إلى الآخر سمي قولاً مخرجاً.

(1) المجموع: 1 / 73.

(2)

انظر هذه المسألة ونظائرها في شرح المحلي على منهاج النووي، فقد أبدع كل الإبداع في ذكر الأقوال المخرجة، وتعليلاتها، والفوارق بين المسألتين المتناظرة، ونظيره ما فعله ابن حجر في التحفة حيث أتى فيها في هذا المجال بالعجب العجاب.

ص: 541

وشرط هذا التخريج: أن لا يجد بين نصيه فرقاً، فإن وجده وجب تقريرهما على ظاهرهما.

ويختلفون كثيراً في القول بالتخريج في مثل ذلك لاختلافهم في إمكان الفرق (1) .

قال مسروق رحمه الله: جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فكانوا كالإخاذ (جمع إخاذة، والإخاذة الغدير) يقول: الإخاذة تروي الراكب، والإخاذة تروي الراكبين، والإخاذة تروي العشرة، والإخاذة لو نزل بها أهل الأرض جميعاً لأصدرتهم.

قال الزركشي: فرع: الأوجه المحكية عن الأصحاب هل تنسب إلى الشافعي؟.

قال الزركشي في البحر: لم أرَ فيها كلاماً، ويشبه تخريجها التي قبلها يكون على طريق الترتيب، وأولى بالمنع لأنهم يخرجونها على قواعد عامة في المذهب، والقول المخرج إنما يكون في صور خاصة (2) .

ما الحكم إذا لم يعرف للمجتهد قول في المسألة؟

قال الزركشي: إذا لم يعرف للمجتهد قول في المسألة، لكن له قول في نظيرها ولم يعلم بينهما فرق؛ فهو القول المخرج فيها.

التخريج حيث أمكن الفرق كما قال ابن كج والماوردي وغيرهما.

- وأشار الشيخ أبو إسحاق في التبصرة إلى خلاف فيه فقال: لا يجوز على الصحيح.

- ثم لا يجوز أن ينسب للشافعي ما يتخرج على قوله فيجهل قولاً له على الأصح، بناء على أن لازم المذهب ليس بمذهب، ولاحتمال أن يكون بينهما فرق فلا يضاف إليه مع قيام الاحتمال اعتراض والرد عليه، فإن قيل: أليس أنه ينسب إلى الله ورسوله ما يقتضيه قياس قولهما – فكذلك ينسب إلى صاحب المذهب ما يقتضيه قياس قوله؟.

قلنا: ما دل عليه القياس في الشرع لا يجوز أن يقال: إنه قول الله ولا قول رسوله، وإنما يقال: هذا دين الله ودين رسوله. بمعنى: أن الله دل عليه، ومثله لا يصح في قول الشافعي. قاله ابن السمعاني (3) .

(1) النووي، المجموع: 1 / 72 – 73

(2)

الزركشي، البحر المحيط: 6 / 127 – 128.

(3)

المرغيناني، الهداية: 2 / 112؛ وشرح فتح القدير: 8 / 372.

ص: 542

أقوال فقهاء الحنفية:

قال صاحب الكنز: ويبطل الحد بموت المقذوف؛ لا بالرجوع والعفو.

قال الشارح: أي بطل الحد لأنه لا يورث عندنا، ولا خلاف في أنه فيه حق الشرع وحق العبد، فإنه شرع لدفع العار عن المقذوف وهو الذي ينتفع به على الخصوص فمن هذا الوجه حق العبد.

ثم إنه شرع زاجراً ومنه سمي حدًّا، والمقصود من الزواجر إخلاء العالم عن الفساد، وهذه آية حق الشرع وبكل ذلك تشهد الأحكام.

فإذا تعارضت الجهتان: فالشافعي مال إلى تغليب حق العبد تقديماً لحق العبد باعتبار حاجته وغنى الشرع.

ونحن صرنا إلى تغليب حق الشرع: لأن ما للعبد من الحق يتولاه مولاه فيصير حق العبد مدعيًا به ولا كذلك عكسه، لأنه لا ولاية للعبد في استيفاء حق الشرع إلا نيابة.

وهذا هو الأصل المشهور الذي تتفرع عليه الفروع المختلف فيها.

منها: الإرث، إذ الإرث يجري في حقوق العباد لا في حقوق الشرع، أي إنما يرث العبد حق العبد بشرط كونه مالاً أو ما يتصل بالمال كالكفالة، أو فيما ينقلب إلى المال كالقصاص، والحد ليس شيئاً منها، فيبطل بالموت.

ومنها: العفو، فإنه لا يصح العفو عن المقذوف عندنا، ويصح عنه – الشافعي -.

ومنها: أنه لا يجوز الاعتياض عنه، ويجري فيه التداخل، وعند الشافعي لا يجري (1) .

قال ابن تيمية – من الحنابلة -:

والفقهاء من أصحابنا وغيرهم إذا خرجوا على قول عالم لوازم قوله وقياسه، فإما أن لا يكون نص على ذلك لا بنفي ولا إثبات أو نص على نفيه.

وإذا نص على نفيه؛ فإما أن يكون نص على لزومه، أو لم ينص.

- فإن كان قد نص على نفي ذلك اللازم وخرجوا عنه خلاف المنصوص عنه تلك المسألة مثل أن ينص في مسألتين متشابهتين على قولين مختلفين، أو يعلل مسألة بعلة ينقضها في موضع آخر، كما علل أحمد هنا عدم التكفير بعدم الاستثناء، وعنه في الاستثناء روايتان.

- فهذا مبني على تخريج ما لم يتكلم فيه بنفي ولا إثبات، هل يسمى مذهباً؟ أو لا يسمى؟ ولأصحابنا فيه خلاف مشهور.

-فالأثرم والخرقي وغيرهما يجعلوه مذهباً له.

والخلال وصاحبه وغيرهما لا يجعلونه مذهباً لهم.

والتحقيق: أن هذا قياس قوله ولازم قوله، فليس بمنزلة المذهب المنصوص عنه، ولا أيضاً ما ليس بلازم قوله بل هو منزلة بين منزلتين، هذا حين أمكن أن لا يلازمه (2) .

(1) ابن نجيم، البحر الرائق: 5 / 39، باب حد القذف.

(2)

الفتاوى: 35 / 288.

ص: 543

ما يصح نسبته إلى صاحب المذهب في التخريج.

قال الإمام الطوفي:

إذا نص المجتهد على حكم مسألة لعلة بينها فمذهبه في كل مسألة وجدت فيها تلك العلة كمذهبه فيها، لأن الحكم يتبع العلة فيوجد حيث وجدت، ولأن هذا قد وجد في كلام صاحب الشرع. ففي كلام المجتهدين كذلك أولى، لأن الله عز وجل أوجب في سياق ذمهم بأنهم يقولون {مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2] .

ففهمنا من ذلك تعليل وجوب الكفارة بقول المنكر والزور على جهة العقوبة، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الهرة:((إنها من الطوافين)) (1)

ووجدت علة الطواف في غيرها جعلنا حكم الشرع في ذلك واحداً.

وقد روي أن قوماً على ماء لهم، مر بهم قوم آخرون فاستسقوهم فلم يسقوهم حتى ماتوا عطشاً، فضمن عمر أصحاب الماء دياتهم، فقيل لأحمد: أتقول بهذا؟ قال: إي والله، يقول عمر ولا آخذ به.

وجهه: أنه لما علل بأن عمر رضي الله عنه قاله دل على أنه يأخذ بقول عمر وغيره من الصحابة رضي الله عنهم – في كل حكم ما لم يمنه مانع، وأن قول الصحابي عنده حجة مطلقاً (2) .

مسألة: إذا نص المجتهد على حكم مسألة ولم يبين العلة:

فلا يحكم بحكم تلك المسألة في غيرها من المسائل وإن أشبهتها؛ يعني المسألة المنصوص عليها وغيرها في الصورة.

وجهه: لأن ذلك إثبات مذهب له بالقياس بغير جامع، ولجواز ظهور الفرق للمجتهد لو عرضت عليه المسألة التي لم ينص على حكمها _ أي لو عرض على المجتهد المسألتان – التي نص على حكمها وغيرها لجاز أن يظهر له الفرق بينهما؛ فيثبت الحكم فيما نص عليه دون غيره، وحينئذ لا يجوز لنا أن نثبت له حكماً يجوز أن يبطله بظهور الفرق له.

وإذا نص المجتهد على حكمه في مسألة وسكت عن مسألة أخرى تشبهها فلم ينص على حكم فيها.

فلم يجز له أن ينقل حكم المنصوص عليها إلى المسكوت عنها.

(1) رواه مالك في الموطأ: 1 / 23؛ وأحمد: 5 / 303؛ وأبو داود برقم (75) ؛ والترمذي برقم (92) ، وغيرهم.

(2)

الطوفي، شرح مختصر الروضة، ص 638.

ص: 544

كذلك إذا نص على المسألتين بحكمين مختلفين – لم يجز أن ينقل حكم إحداهما إلى الأخرى ويخرجه قولاً له فيها

والأولى جواز ذلك، وقد وقع النقل والتخريج في مذهبنا (الحنابلة)، فقال في المحرر في باب ستر العورة:"ومن لم يجد إلا ثوباً نجساً صلى فيه وأعاد "نص عليه.

- ونص فيمن حبس في موضع نجس فصلى أنه لا يعيد فيتخرج فيهما روايتان، وذلك أن طهارة الثوب والمكان كلاهما شرط في الصلاة.

- وقد نص في الثوب النجس أنه لا يعيد؛ فينقل حكمه إلى المكان ويتخرج فيه مثله.

- ونص في الموضع النجس على أنه لا يعيد، فينقل حكمه إلى الثوب النجس، فيتخرج فيه مثله، فلا جرم صار في كل واحدة من المسألتين روايتان: إحداهما بالنص. والأخرى بالنقل.

من ذلك ما جاء في باب الوصايا: ومن وجدت له وصية بخطه عمل بها. نص عليه.

- ونص فيمن كتب وصية وختمها وقال: اشهدوا بما فيها أنه لا يصح.

فتخرج المسألتان على روايتين، ووجه الشبه بين المسألتين أن في كل واحدة منهما وجدت وصية بخطه، وقد نص فيهما على حكمين مختلفين فيخرج الخلاف في كل واحدة منهما بالنقل والتخريج.

الفرق بين النقل والتخريج:

فائدة: كثيراً ما يقع في كلام الفقهاء: في هذه المسألة قولان بالنقل والتخريج.

ويقولون: يتخرج أن يكون كذا، وتتخرج على هذه المسألة، أو في هذه المسألة تخريج.

فيقال: ما الفرق بين التخريج، وبين النقل والتخريج.

الجواب: أن النقل والتخريج يكون من نص الإمام بأن ينقل عن محل إلى غيره بالجامع المشترك بين محلين، والتخريج يكون من قواعده الكلية.

واعلم: أن التخريج أعم من النقل لأن التخريج يكون من القواعد الكلية للإمام أو الشرع أو العقل، لأن حاصله أنه بناء فرع على أصل بجامع مشترك كتخريجنا على قاعدة: تفريق الصفقة – فروعاً كثيرة، ومع قاعدة (تكليف ما لا يطاق) أيضاً فروعاً كثيرة في أصول الفقه وفروعه.

وأما النقل والتخريج: فهو مختص بنصوص الإمام (1) .

(1) الطوفي: 3 / 644.

ص: 545

فقه النوازل عند فقهاء الحنفية

تعريف النوازل: هي المسائل والوقائع المستجدة والحادثة، وكانت تعرف عند فقهاء الحنفية (بواقعات المفتين) ، والواحدة منها تدعى (بواقعة الفتوى) ، وتسمى بلسان أهل العصر (بالنظريات) ، وهنالك مصنفات لكل من فقهاء الحنفية والمالكية حملت هذا الاسم منذ وقت مبكر في نشأة المذهب، حتى أناطوها (بفقه التخريج) ، لذلك وصفوا تلك المصنفات أنها في المرتبة الثالثة

بعد كتب (ظاهر الرواية) وتعرف (بالأصل) ثم مسائل النوادر والتي إسنادها في الكتب غير ظاهري أي لم تنتقل برواية الثقاة من فقهاء المذهب، حتى قالوا: الأصول ستة في مذهب أبي حنيفة كالصحيحين في الحديث، والنوادر كالسنن الأربعة، واشتهر عنهم أن المتون كالنصوص متقدمة على ما في الشروح، وما فيها متقدم على ما في (الفتاوى) ، وهو مخلوط بآراء المتأخرين (1) .

قال ابن عابدين: أعلم أن مسائل أصحابنا الحنفية على ثلاث طبقات:

الأولى: مسائل الأصول وتسمى ظاهرة الرواية، وهي مسائل مروية عن أصحاب المذهب.

الثانية: مسائل النوادر، وهي المروية عن أصحابنا لكن لا في كتب الأصل.

الثالثة: الواقعات: وهي مسائل استنبطها المجتهدون المتأخرون لما سئلوا عنها ولم يجدوا فيها رواية؛ وهم أصحاب أبي يوسف ومحمد وأصحاب أصحابهما وهلم جرا.

وقد يتفق لهم أن يخالفوا أصحاب المذهب لدلائل وأسباب ظهرت لهم. وأول كتاب جمع في فتاويهم فيما بلغنا (كتاب النوازل) لأبي الليث السمر قندي (- 373 هـ) جاء في مقدمته: "وسميته فتاوى النوازل لأنه هو تحلّى بمسائل الفتاوى "، جمع فيه فتاوى مشايخه ومشايخ شيوخه، ثم جمع المشايخ بعده كتباً أخرى، كمجموع النوازل والواقعات للناطفي، والواقعات للصدر الشهيد.

ثم ذكر المتأخرون هذه المسائل مختلطة، كما في فتاوى قاضي خان وغيره، وميز بعضهم كما في محيط رضي الدين السرخسي فإنه ذكر أولاً مسائل الأصول ثم النوادر، ثم الفتاوى (2) .

وقال الدهلوي: وقسم هو تخريج المتأخرين اتفق عليه جمهور الأصحاب، وحكمه: أنهم يفتون به على كل حال، وقسم هو تخريج منهم لم يتفق عليه جمهور الأصحاب وحكمه: أن يعرض المفتي على الأصول والنظائر من كلام السلف فإن وجده موافقاً لها أخذه به وإلا تركه كمحمد بن سماعة، ومحمد بن مقاتل الرازي، وعلي بن موسى القمي، ومحمد بن مسلم، وشداد بن حكم، نصير بن يحيى البلخي.

(1) المرجاني، ناظورة الحق، ص 5.

(2)

ابن عابدين، الحاشية: 1 / 69.

ص: 546

وقال العلامة ابن عابدين: الفتاوى والواقعات وهي مسائل استنبطها المجتهدون المتأخرون لما سئلوا عن ذلك، ولم يجدوا فيها رواية عن أهل المذهب المتقدمين، وهم: أصحاب أبي يوسف ومحمد وأصحاب أصحابهما وهلم جرا، وهم كثيرون.

فمن أصحاب أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى: مثل عصام يوسف، وابن رستم، ومحمد بن سماعة، وابن سليمان الجوزجاني، وأبي حفص البخاري، ومن بعدهم: مثل محمد بن مسلمة ويحيى بن نصير والقاسم بن سلام.

- وقد يتفق لهم أن يخالفوا أصحاب المذهب لدلائل وأسباب ظهرت لهم. . وأول كتاب جمع في فتاويهم فيما بلغنا (كتاب النوازل) لأبي الليث السمرقندي (- 373 هـ) ، ثم جمع المشايخ بعد كتباً أخرى، وكمجموع النوازل والواقعات للناطفي، والواقعات للصدر الشهيد.

ثم ذكر المتأخرون هذه المسائل مختلطة غير متميزة كما في فتاوى قاضي خان والخلاصة وغيرهما، وميز بعضهم كما في كتاب المحيط لرضي الدين السرخسي فإنه ذكر أولاً مسائل الأصول، ثم النوادر، ثم النوازل (1) .

نعم: قد يقال إذا كانت أقوالهم روايات عنه تكون تلك القواعد له أيضاً لابتناء تلك الأقوال عليها

وعلى هذا تكون نسبة التخريجات إلى مذهبه أقر لابتنائها على قواعده التي رجحها وبنى أقواله عليها.

(1) ابن عابدين، رسم المفتي، ص 17.

ص: 547

منهج فقهاء الأحناف في التخريج

وقال في منهج فقهاء الحنفية في التخريج:

إن ما خالف فيه الأصحاب إمامهم الأعظم لا يخرج عن مذهبه إذا رجحه المشايخ المعتبرون، وكذا ما بناه المشايخ على العرف الحادث لتغير الزمان أو للضرورة ونحو ذلك لا يخرج عن مذهبه أيضاً، لأن ما رجحوه لترجيح دليله عندهم مأذون به من جهة الإمام، وكذا ما بنوه على تغير الزمان والضرورة باعتبار أنه لو كان حيًّا لقال بما قالوه – لأن ما قالوه إنما هو مبني على قواعده أيضاً – فهو مقتضى مذهبه، لكن ينبغي أن لا يقال: قال أبو حنيفة كذا إلا فيما روي عنه صريحاً.

وإنما يقال فيه: مقتضى مذهب أبي حنيفة كذا

ومثله تخريجات المشايخ بعض الأحكام من قواعده أو بالقياس على قوله.

ومنه قولهم: وعلى قياس قوله بكذا يكون كذا

فهذا كله لا يقال فيه: قال أبو حنيفة.

نعم؛ يصح بأن يسمى مذهبه بمعنى أنه قال أهل مذهبه، أو مقتضى مذهبه.

والظاهر أن نسبة المسائل المتخرجة إلى مذهبه أقرب من نسبة المسائل التي قال بها أبو يوسف ومحمد عليه؛ لأن (المسائل) المخرجة مبنية على قواعده وأصوله.

وأما المسائل التي قال بها أبو يوسف ونحوه من أصحاب الإمام فكثير منها مبني على قواعد لهم خالفوا فيها قواعد الإمام، لأنهم لم يلتزموا قواعده كلها.

ومنها: أن التخريج على كلام الفقهاء، وتتبع لفظ الحديث لكل منهما أصل أصيل في الدين (1) .

فمن كان من أهل الحديث ينبغي أن يعرض ما اختاره وذهب إليه على رأي المجتهدين من التابعين، ومن كان من أهل التخريج ينبغي له أن يجعل من السنن ما يحترز به من مخالفة الصريح الصحيح، ومن القول برأيه فيما فيه حديث أو أثر بقدر الطاقة.

(1) الدهلوي، حجة الله البالغة: 1 / 156.

ص: 548

ولا ينبغي لمخرج أن يخرج قولاً لا يفيده نفس كلام أصحابه، ولا يفهم منه أهل العرف والعلماء باللغة، ويكون بناء على تخريج مناط، أو حمل نظير المسألة عليها مما يختلف فيه أهل الوجوه وتتعارض الآراء، ولو أن أصحابه سُئلوا عن تلك المسألة ربما يحملوا النظير على النظير لمانع، وربما ذكروا علة غير ما خرجه هو.

ولا ينبغي لمخرج أن يرد حديثًا أو أثرًا اتفق عليه القوم لقاعدة استخرجها هو وأصحابه، كرد حديث المصراة، وكإسقاط سهم ذوي القربى، فإن رعاية الحديث أوجب من رعاية تلك القاعدة المخرجة

وإلى هذا المعنى أشار الشافعي حيث قال: مهما قلت من قول أو أصلت من أصل فبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت، فالقول ما قاله صلى الله عليه وسلم.

ومنها: إن تتبع الآثار (السنن) لمعرفة الأحكام الشرعية على مراتب:

أعلاها: أن يحصل له من معرفة الأحكام بالفعل أبو بالقوة القريبة من الفعل ما يتمكن به من جواب المستفتين في الوقائع غالباً، بحيث يكون جوابه أكثر مما يتوقف فيه، وتخص هذه المعرفة باسم الاجتهاد.

وهذا الاستعداد يحصل تارة بالإمعان في جمع الروايات وتتبعه الشاذة والفاذة منها – كما أشار إليه الإمام أحمد بن حنبل – مع ما لا ينفك منه العاقل العارف باللغة من معرفة مواقع الكلام، وصاحب العلم بآثار السلف.

ويحصل تارة بإحكام طرق التخريج على مذهب شيخ من مشايخ الفقه من معرفة جملة صالحة من السنن والآثار، بحيث يعلم أن قوله لا يخالف الإجماع، وهذه طريقة أصحاب التخريج

وإن لم يتكامل له الأدوات كما يتكامل للمجتهد، ولا يقبل فيه قضاء القاضي، ولا يجري فيه فتوى المفتين، وأن يترك بعض التخريجات التي سبق الناس إليها، إذا عرف عدم صحتها، ولهذا لم يزل العلماء – ممن لا يدعي الاجتهاد المطلق – يصنفون ويرتبون ويخرجون ويرجحون.

ص: 549

وإذا كان الاجتهاد يتجزأ عند الجمهور والتخريج يتجزأ وإنما المقصود تحصيل الظن وعليه مدار التكليف (1) .

ومنها زعم بعضهم، أن جميع ما يوجد في هذه الشروح الطويلة وكتب الفتاوى الضخمة هو قول أبي حنيفة وصاحبيه، ولا يفرق بين القول المتخرج وبين ما هو قول في الحقيقة (2) .

- ولا يحصل معنى قولهم: على تخريج الكرخي كذا، وعلى تخريج الطحاوي كذا، وإن تخريجات الأصحاب ليس مذهباً في الحقيقة.

وقال شاه ولي الله الدهلوي: حدث التخريج بعد القرنين الأول والثاني، غير أن أهل المائة الرابعة لم يكونوا مجتمعين على مذهب واحد، والتفقه والحكاية لقوله كما يظهر من التتبع؛ فكان العامة منهم: إذا وقعت لهم واقعة استفتوا فيها أي مفتٍ وجدوه من غير تعيين مذهب.

وكان خبر الخاصة: أنه كان أهل الحديث منهم يشتغلون بالحديث وآثار الصحابة.

وكان أهل التخريج منهم يخرجون فيما لا يجدون مصرحاً ويجتهدون في المذهب

وكان هؤلاء ينسبون إلى مذهب أصحابهم، فيقال: فلان حنفي، وفلان شافعي (3) .

المعتزلة وفقه التخريج:

ويرى شاه ولي الله الدهلوي أن أول من أظهر فقه التخريج – المعتزلة، ثم استطاب ذلك المتأخرون توسعاً وتشحيذاً لأذهان الطالبين ولو لغير ذلك والله أعلم (4) .

وهكذا يبدو وجود علاقة وثيقة بين فقه الرأي وفقه التخريج، لأن فقه الرأي حوادث معينة ويلتمس لها حكم شرعي، بينما فقه التخريج ينطلق من قواعد أصولية أو فقهية معينة، وغالباً ما تكون المسائل مستجدة لا نص على حكمها في الكتاب أو السنة أوفتاوى فقهاء الأمصار.

أصالة فقه التخريج ومنهجيته:

إن التخريج على كلام الفقهاء وتتبع لفظ الحديث لكل منهما أصل أصيل في الدين، ولم يزل المحققون من العلماء في كل عصر يأخذون بهما.

ومنهم من يقل من ذا ويكثر من ذاك، ومنهم من يكثر من ذا ويقل من ذاك.

(1) الدهلوي، حجة الله البالغة: 1 / 156.

(2)

الدهلوي، حجة الله البالغة: 1 / 160

(3)

شاه ولي الله الدهلوي، حجة الله البالغة: 1 / 153.

(4)

الدهلوي، حجة الله البالغة: 1 / 160.

ص: 550

فلا ينبغي أن يهمل أمر واحد منهما بالمرة، وإنما بالحق البحت أن يطابق أحدهما بالآخر، وأن يجبر خلل كل بالآخر، وذلك قول الحسن البصري: سنتكم – والله الذي لا إله إلا هو - بينهما، بين الغالي والجافي.

فمن كان من أهل الحديث ينبغي أن يعرض ما اختاره وذهب إليه على رأي المجتهدين من التابعين، ومن كان من أهل التخريج ينبغي له أن يجعل من السنن ما يحترز به من مخالفة الصريح الصحيح، ومن القول برأيه فيما فيه حديث أو أثر بقدر الطاقة.

وكما ينبغي على المحدث أن لا يتعمق بالقواعد التي أحكمها أصحابه – وليست مما نص عليه الشارع – فيرد به حديثاً أو قياساً صحيحاً لأدنى شبهة، كما فعل ابن حزم: رد حديث تحريم المعازف الشائبة الانقطاع في رواية البخاري، على أنه في نفسه متصل صحيح.

ولا ينبغي لمخرج أن يخرج قولاً لا يفيده نفس كلام أصحابه، ولا يفهمه منه أهل العرف والعلماء باللغة، وإنما جاز التخريج لأنه في الحقيقة تقليد المجتهد، ولا يتم إلا فيما يفهم من كلامه.

أبو حنيفة وفقه التخريج:

بمناسبة الكلام عن فقه التخريج سرعان ما يتبادر إلى الذهن تقدم مذهب الحنفية في هذا الميدان، حيث كان أبو حنيفة رضي الله عنه كثير الالتزام، وعظيم الشأن في التخريج على مذهب إبراهيم النخعي، دقيق النظر في وجوه التخريجات، مقبلاً على الفروع أتمَّ إقبال، وإن منهجية فقه الرأي أسهمت في إثراء هذا التراث الفقهي الوافر.

تلاميذ الإمام أبي حنيفة وفقه التخريج:

تابع تلاميذ أبي حنيفة مسيرة إمامهم في التخريج، وخاصة محمد بن الحسن، حيث تفقه على أبي حنيفة وأبي يوسف، ثم خرج إلى المدينة فقرأ الموطأ على مالك، ثم رجع إلى نفسه فطبق مذهب أصحابه على الموطأ مسألة في كتابه (الحجة على أهل المدينة) وهو مطبوع متداول، فإن وافق فيها، وإلا فإن رأى طائفة من الصحابة والتابعين ذاهبين إلى مذهب أصحابه فكذلك، وإن وجد قياسًا ضعيفاً، أو تخريجاً لينا، يخالفه حديث صحيح فيما عمل به الفقهاء، أو يخالفه عمل أكثر العلماء تركه إلى مذهب من مذاهب السلف، مما يراه أجرح ما هناك (1) .

(1) الدهلوي، حجة الله البالغة.

ص: 551

منهج الصاحبين في فقه التخريج:

سلك الصحابان منهج إبراهيم النخعي وأقرانه ما أمكن لهما، كما كان أبو حنيفة رضي الله عنه يفعل ذلك، وإنما كان اختلافهم في أحد شيئين:

- إما أن يكون لشيخهما تخريج على مذهب إبراهيم النخعي، يزاحمانه فيه.

-أو يكون هناك لإبراهيم نظائره أقوال مختلفة يخالفان شيخهما في ترجيح بعضها على بعض، وكانت النواة الأولى في المذهب تلك المصنفات التي صنفها محمد بن الحسن، والتي جمع فيها أقوال الإمام وتلاميذه.

وتواصلت جهود العلماء فتوجه أصحاب أبي حنيفة إلى تصانيف محمد ابن الحسن تلخيصاً وتقريباً أو شرحاً أو تخريجاً أو تأسيساً أو استدلالاً، ثم تفرقوا إلى خراسان وما وراء النهر، وسمي ذلك مذهب أبي حنيفة، وهكذا أيضاً يتجلى لنا أثر فقه التخريج في نمو المذاهب المتبعة، مع العلم بأن أقوال الفقهاء بمثابة نصوص حيث لا نص من كتاب ولا سنة.

وتابع فقهاء المذاهب مسيرة أئمتهم، إسهاماً منهم في نمو المذاهب الفقهية: إفتاء، وجدالاً، وتصنيفاً؛ كل ذلك ضمن إطار المذهب.

أهل الحديث وأهل الرأي:

إن من يمعن النظر في مراحل نشأة الفقه الإسلامي وتطوره من قبل استقرار المذاهب ومن بعد استقرارها، يتضح له أنه كان قوم من العلماء في عصر سعيد بن المسيب، وإبراهيم النخعي (- 96 هـ) ، والزهري (- 124 هـ) ، يخافون الخوض في الرأي، ويهابون الفتيا والاستنباط إلا لضرورة لا يجدون منها بُدًّا، وكان أكبر همهم رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتتبع آثار الصحابة والتابعين، والمجتهدين على قواعد أحكموها في نفوسهم وهؤلاء يعرفون بأهل الحديث، وكانوا يقولون: لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله (1) .

وفي الوقت نفسه كان هناك فئة معاصرة ترفع شعارا آخر، وربما يكون على نقيض من هذا الشعار، وهو: على الفقه بناء الدين فلابد من إشاعته.

(1) الدهلوي، حجة الله البالغة: 1 / 147 – 148.

ص: 552

مدرسة أصحاب الرأي:

وهؤلاء الفقهاء ممن عاصروا مالك وسفيان الثوري، وكانوا قوماً لا يكرهون المسائل، ولا يهابون الفتيا، ويقولون: على الفقه بناء الدين فلابد من إشاعته.

وكانوا يهابون رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والرفع إليه، حتى قال الشعبي: على من دون النبي صلى الله عليه وسلم أحب إلينا، فإن كان فيه زيادة أو نقصان، كان على من دون النبي صلى الله عليه وسلم (1) .

وعن إبراهيم النخعي قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة (اكتراء الأرض بالبر) والمزابنة (بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر)) ) ، فقيل له: أما تحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً غير هذا؟ قال: بلى، ولكن أقول: قال عبد الله: قال علقمة: أحب إلي (2) .

وكان ابن مسعود إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تربد وجهه وقال: هكذا أو نحوه، هكذا ونحوه (3) .

وأخرج الدارمي في سننه عن قرظة بن كعب قال: بعث عمر بن الخطاب رهطاً من الأنصار إلى الكوفة فبعثني معهم، وقال: إنكم تأتون الكوفة فتأتون قوماً لهم أزيز بالقرآن، فيأتونكم فيقولون: قدم أصحاب محمد، قدم أصحاب محمد، فيأتونكم فيسألونكم عن الحديث، فأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا شريككم فيه (4) .

وكأن قلوب هؤلاء أميل شيء إلى أصحابهم، كما قال علقمة: هل أحد منهم أثبت من عبد الله؟

وقال أبو حنيفة: إبراهيم أفقه من سالم بن عبد الله، ولولا فضل الصحبة لقلت: علقمة بن قيس (التابعي) ، أفقه من ابن عمر (الصحابي) .

وكان عندهم من الفطانة، والحدس، وسرعة انتقال الذهن من شيء إلى شيء ما يقدرون به على تخريج جواب المسائل على أقوال أصحابهم.

قال الله تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] . وقال رسول الله صلى الله عيه وسلم: ((وكل ميسر لما خلق له)) .

تأسيس النظر:

من أوائل مصنفات الأحناف، التي حفلت بفقه التخريج، وتداوله العلماء وأفادوا من منهجه؛ كتاب (تأسيس النظر) للإمام أبي زيد عبيد الله بن عمر المتوفى سنة 430 هـ، وقد جاء في المقدمة ما نصه:"فإني لما رأيت تصعب الأمر في تحفظ مسائل الخلاف على المتفقهة – وفقهم الله لمرضاته – وتعسر طرق استنباطها عليهم، وقصور معرفتهم على الاطلاع على حقيقة مأخذها، واشتباه مواضع الكلام عند التناظر، جمعت في كتابي هذا أحرفاً – إذا تدبر الناظر فيها وتأملها – عرف محل التنازع ومدار التناطح عند التخاصم، فيصرف عنايته إلى ترتيب الكلام، وتقوية الحجج في المواضع التي عرف أنها مدار القول، وموضع التنازع في موضع التنازع، فيسهل عليهم تحفظها، ويتيسر لهم سبيل الوصول إلى عرفان مأخذها، فأمكنهم قياس غيرها عليها ". قلت: وهذا هو تخريج المسائل الذي نعرض في هذه الدراسة، أما منهجه في التأليف فأسفرت عنه عبارته، حيث قال: وإني لما نظرت في المسائل التي اختلفت فيها الفقهاء، فوجدتها منقسمة على أقسام ثمانية:

- قسم منها: خلاف بين أبي حنيفة رحمه الله، وبين صحابيه محمد بن الحسن، وأبي يوسف بن إبراهيم الأنصاري.

- وقسم منها: خلاف بين أبي حنيفة وأبي يوسف، وبين محمد بن الحسن رحمهم الله تعالى.

- وقسم منها: خلاف بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى.

- وقسم منها: بين علمائنا الثلاثة: أبي يوسف، ومحمد بن الحسن، والحسن بن زياد، وبين زفر رحمهم الله تعالى أجمعين.

(1) الدهلوي، حجة الله البالغة: 1 / 152.

(2)

سنن الدارمي: 1 / 82.

(3)

الدهلوي، حجة الله البالغة: 1 / 83.

(4)

الدهلوي، حجة الله البالغة: 1 / 85.

ص: 553

- وقسم منها: بين علمائنا وبين الإمام الأقدم مالك بن أنس رضي الله عنهم.

- وقسم منها: خلاف بين علمائنا الثلاثة محمد بن الحسن، والحسن بن زياد الؤلؤي، وزفر، وبين ابن أبي ليلى.

- وقسم منها: خلاف بين علمائنا الثلاثة، وبين أبي عبد الله الإمام القرشي.

ثم ذكر منهجه في البيان والتفصيل فليتراجع.

أمثلة من تخريج الفقهاء:

وإذا اختلف الزوجان في المهر، فقال الزوج: ألف. وقالت المرأة: ألفان؛ ففي قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى: يحكم مهر مثلها. وفي قول أبي يوسف وابن أبي ليلى رحمهما الله تعالى: القول قول الزوج إلا أن يأتي بشيء مستنكر جداً.

وإذا كان الاختلاف في الألف والألفين، والمتعة لا تزيد على خمسمائة، لها نصف ما يقوله الزوج، على أنه يجوز أن يصار إلى مهر المثل قبل الطلاق، ولا يصار إلى المتعة بالطلاق، كما إذا تزوجها على ألف وكرامة: يكون لها نصف الألف بعد الطلاق، ويكون لها كمال مهر المثل قبل الطلاق إذا لم يفِ بما شرط لها من الكرامة.

قال الكرخي: يتحالفان في الابتداء، ثم يحكم مهر المثل بعد ذلك. وكان أبو بكر الرازي رحمه الله تعالى يقول: يحكم مهر المثل أولاً.

فإن كان مهر مثلها ألفين أو أكثر فالقول قولهم مع يمينها، لأن الظاهر يشهد لها.

وإن كان لها ألف درهم أو أقل، فالقول قول الزوج مع يمينه، لأن الظاهر يشهد للزوج.

وإن كان مهر زوجها ألفاً وخمسمائة، فحينئذ يتحالفان ثم يقضي لها بمهر مثلها، لأن المصير إلى التحالف، وإذا لم يمكن ترجيح أحدهما على الآخر بشهادة الظاهر له، وذلك في هذا الموضوع والأصح ما ذكره الكرخي (1) .

وقال صاحب الهداية (-593 هـ) في باب المهر: وإن كان مهر مثلها ألف وخمسمائة وتحالفا، وإذا حلفا تجب ألف وخمسمائة، هذا تخريج الرازي (2) .

(1) السرخسي، المبسوط: 5 / 66.

(2)

المرغناني، الهداية: 1 / 213.

ص: 554

أمثلة من تخريج الأصوليين:

قال عبد العزيز البخاري في شرحه على (كشف الأسرار) :

النهي عن المشروعات يقتضي بقاء مشروعيتها:

وعلى هذا الأصل يخرج كلها، منها:

1-

أن البيع بالخمر منهي بوصفه وهو الثمن، لأن الخمر مال غير متقوم، فصلح ثمناً من وجه دون وجه، فصار فاسداً لا باطلاً، ولا خلل في ركن العقد ولا في محله، فصار قبيحاً بوصفه، مشروعاً بأصله.

2-

وكذلك بيع الربا مشروع بأصله (أي بيع هو ربا) ، وهو وجود ركنه في محله، غير مشروع بوصفه وهو الفضل في العرض، فصار فاسداً لا باطلاً.

3-

ومنها: صوم أيام التشريق حسن مشروع بأصله، وهو الإمساك لله تعالى في قوته طاعة وقربة، قبيح بوصفه، وهو الإعراض عن الضيافة الموضوعة في هذا الوقت بالصوم، فلم ينقلب بالطاعة معصية بل هو طاعة انضم إليها وصف هو معصية.

4-

ومنها: الصلاة وقت طلوع الشمس ودلوكها، مشروعة بأصلها إذ لا قبح في أركانها وشرطها، والوقت صحيح بأصله فاسد بوصفه وهو أنه منسوب إلى الشيطان، كما جاءت السنة:((فإنها تطلع حين تطلع بين قرني الشيطان)) إلا أن الصلاة لا توجد بالوقت، لأنه ظرفها لا معيارها وهو سببها، فصارت الصلاة ناقصة لا فاسدة.

5-

ومنها النهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة متعلق بما ليس بوصف فلم تفسد.

6-

ومنها: البيع وقت النداء.

7-

ومنها: أن الزنا يوجب حرمة المصاهرة (1) .

وإذا ثبت هذا الأصل، وهو:(أن النهي بحقيقته يقتضي القبح في عين ما أضيف إليه) :

1-

لم تثبت حرمة المصاهرة بالزنا، لأن المصاهرة شرعت نعمة وكرامة كالنسب، فإن ثبت كرامة لبني آدم اختصوا به من بين سائر الحيوانات، وتعلق به أنواع من الكرامات من الحضانة والإرث والنفقة والولايات.

2-

وكذلك الغصب لا يفيد الملك، لأنه عوان محض، فلا يصلح سبباً في الملك، لأن الملك نعمة وكرامة.

3-

لم يكن سفر المعصية سبباً للرخصة لكونه منهيًّا عنه، لأن الرخصة نعمة شرعت لدفع الحرج، فلا يجوز أن يتعلق بالمعصية.

(1) البزدوي، كشف الأسرار: 1 / 286 – 289.

ص: 555

4-

لا يملك الكافر مال المسلم بالاستيلاء.

قال الزنجاني الشافعي (1) في مقدمة كتابه:

ثم لا يخفى عليك أن الفروع إنما تبتنى على الأصول، وأن من لا يفهم كيفية الاستنباط، ولا يهتدي إلى وجه الارتباط بين أحكام الفروع وأدلتها التي هي أصول الفقه، لا يتسع المجال، ولا يمكنه التفريع عليها بحال، فإن المسائل الفرعية على اتساعها وبعد غاياتها، لها أصول معلومة وأوضاع منظومة، من لم يعرف أصولها لم يحط بها علماً.

وقال: وحيث لم أرَ من العلماء الماضين والفقهاء المتصدين من تصدى لحيازة هذا المقصود، بل استقل علماء الأصول بذكر الأصول المجردة، وعلماء الفروع بنقل المسائل المبددة، من غير تنبيه على كيفية استنادها إلى تلك الأصول – أحببت أن أتحف ذوي التحقيق من الناظرين بما يسر الناظرين.

فبدأت بالمسألة الأصولية التي ترد إليها الفروع في كل قاعدة، وضمنتها ذكر الحجة الأصولية من الجانبين، ثم ردت الفروع الناشئة منها إليها.

وقال الإسنوي والشافعي في مقدمة التمهيد: "وقد مهدت بكتابي هذا طريق التخريج لكل ذي مذهب، وفتحت به باب التفريع لكل ذي مطلب ". ثم دعا فقهاء المذاهب أن ينهجوا نهجه، ويسلكوا سبيله في هذا المضمار، حيث قال:"فلتستحضر أرباب المذاهب قواعدها الأصولية وتفاريعها، ثم تسلك ما سلكته فيحصل به إن شاء الله تعالى لجميعهم التمرن على تحليل الأدلة وتهذيبها، ويتهيأ لأكثر المستعدين الملازمين للنظر فيه نهاية الأرب، وغاية الطلب، وهو: تمهيد الأصول إلى مقام استخراج الفروع على قواعد الأصول، والتفريج إلى ارتقاء مقام ذوي التخريج "(2) .

وقال ابن رجب الحنبلي في مقدمة كتابه (القواعد الكبرى) :

"أما بعد؛ فهذه قواعد مهمة وفوائد جمة تضبط للفقيه أصول المذهب، وتطلعه على مأخذ الفقه على ما كان عنه قد تغيب، وتنظم له منثور المسائل في سلك واحد، وتقيد له الشوارد، وتقرب عليه كل متباعد، فليمعن النظر فيه الناظر، وليوسع العذر إن اللبيب عذر، فلقد سنح بالبال على غاية من الأعجال، الارتجال أو قريباً من الارتجال في أيام يسيرة وليال، ويأبى الله العصمة لكتاب غير كتابه، والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء من كثير صوابه "(3) . اهـ.

(1) تخريج الفروع على الأصول للزنجاني (256، ص 34 – 35) .

(2)

مقدمة القواعد، ص 4.

(3)

مقدمة القواعد، ص 4.

ص: 556

النوازل في فقه الشافعية

قال الجويني: وإن وقعت واقعات لا نصوص لصاحب المذهب في أعيانها، فما يعرى عن النص ينقسم قسمين:

أحدهما: أن يكون في معنى المنصوص عليه، ولا يحتاج في درك ذلك إلى فضل نظر وسبر غور وإمعان فكر، فلا يتصور أن يخلو عن الإحاطة بمدارك هذه المسالك من يستقل بنقل الفقه، فليلحق في هذا القسم غير المنصوص عليه بالمنصوص عليه.

وبيان ذلك بالمثال من ألفاظ الشارع: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أعتق شركاً له في عبد قوم عليه نصيب صاحبه)) . فالمنصوص عليه العبد، لكننا نعلم قطعاً أن الأمة المشتركة في معنى العبد الذي اتفق النص عليه

فلا حاجة في ذلك إلى الفحص والتنقيب عن مباحث الأقيسة، فإذا جرى لصاحب المذهب مثل ذلك لم يشك المستقل بنقل مذهبه في هذا الضرب في إلحاق ما في معنى المنصوص عليه بالمنصوص عليه.

وإذا احتوى الفقيه على مذهب إمام مقدم حفظاً ودراية، واستبان أن غير المذكور ملتحق بالمذكور فيما لا يحتاج فيه إلى استشارة معانٍ واستنباط علل، فلا يكاد يشذ عن محفوظ هذا الناقل حكم واقعة في مطرد العادات.

والسبب فيه: أن مذاهب الأئمة لا تخلو من كل كتاب بل في كل باب، عن جوامع وضوابط وتقاسيم تحوي طرائق الكلام في الممكنات وما وقع منها وما لم يقع.

فإن فرضت واقعة لا تحويها نصوص، ولا تضبطها حدود روابط وجوامع ضوابط، ولم تكن في معنى ما انطوت النصوص عليه (1) .

* * *

(1) الجويني، الغياثي، ص 423.

ص: 557

النوازل عند فقهاء الحنابلة

الفتوى في الحادثة التي ليس فيها قول لأحد العلماء:

قال ابن القيم: إذا حدثت حادثة ليس فيها قول لأحد العلماء، فهل يجوز الاجتهاد فيها بالإفتاء والحكم أم لا؟

يجوز، وعليه تدل فتاوى الأئمة وأجوبتهم، فإنهم كانوا يسألون عن حوادث لم تقع قبلهم فيجتهدون فيها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:((إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر)) (1) . وهذا يعم ما اجتهد فيه مما لم يعرف فيه قول من قبله، وما عرف فيه أقوال واجتهد فيه الصواب منها وعلى هذا درج السلف والخلف.

والحاجة داعية إلى ذلك لكثرة الوقائع واختلاف الحوادث

وأنت إذا تأملت الوقائع لرأيت مسائل كثيرة واقعة وهي غير منقولة، ولا يعرف فيها كلام لأئمة المذاهب ولا لأتباعهم.

والحق: أن ذلك يجوز – بل يستحب أو يجب – عند الحاجة وأهلية المفتي والحاكم (2) .

وقال ابن القيم: ما يصنع المفتي إذا أفتى في واقعة ثم وقعت له مرة أخرى؟

إذا أفتى في واقعة ثم وقعت له مرة أخرى، فإن ذكرها وذكر مستندها ولم يتجدد له ما يوجب تغير اجتهاده، أفتى بها من غير نظر ولا اجتهاد.

وإن ذكرها ونسي مستندها فهل له أن يفتي بها دون تجديد نظر واجتهاد؟

فيها وجهان: لأصحاب الإمام أحمد والشافعي: أحدهما: لا يلزم تجديد النظر، وجهه: لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، وإن ظهر له ما يغير اجتهاده لم يجز له البقاء على القول الأول، ولا يجب عليه نقضه، ولا يكن اختلافه مع نفسه فادحاً في علمه، بل هذا من كمال علمه، ولأجل هذا خرج عن الأئمة في المسألة قولان فأكثر (3) .

* * *

(1) أخرجه الدارقطني بهذا اللفظ عن عمرو بن العاص (22) ؛ كتاب الأقضية والأحكام: 2 / 221؛ وبنحوه مسلم رقم (1716) ؛ كتاب الأقضية.

(2)

ابن القيم، إعلام الموقعين: 4 / 486.

(3)

ابن القيم، إعلام الموقعين: 4 / 462.

ص: 558

النوازل في الفقه المالكي

النوازل والفتاوى:

النوازل والفتاوى والواقعات والأحكام هي أسماء لمسمى واحد (الفتوى) ، والغالب على أهل المشرق أن يطلقوا عليها تسمية (الفتاوى) لأنها بينت أحكام حوادث نزلت، و (كتب أجوبة) لأنها أجيب بها عن أسئلة وردت، و (كتب أسئلة) لأنها حدثت بعد أسئلة، و (كتب أحكام) لأنها بينت أحكاماً بحوادث خاصة، مما جعل المتأخرين من المغاربة يسمون المفتي (بالنوازلي)(1) . لأنه اختصاصي في الإجابة عما يحدث من النوازل.

وربما كانت النوازل الأندلسية والمغربية من متصف القرن الخامس الهجري إلى منتصف القرن التاسع منه – من أهم النوازل، لأنها كتبت في مرحلة تاريخية هامة وغنية بالأحداث، حيث اشتدت بالأندلس مشاكل ملوك الطوائف، وظهرت بالمغرب نتائج زحفه بني هلال.

وفيها بدأ الهجوم النصراني على بلاد الأندلس، فسقط طليطلة ثم قرطبة وإشبيلية وأخيراً غرناطة، كما تعددت حملات الفرمان على السواحل الشرقية للمغرب.

وفيها ظهرت دول إسلامية كبرى كالمرابطين والموحدين والمرينيين.

وفيها حدثت التحركات البشرية في هجرات متداخلة متعاكسة، كهجرة الأندلسيين من شمال بلادهم إلى وسطها فالمغربين الأقصى والأدنى، وكهجرات المغاربة الداخلية التي كانت بسبب تناوب الدول واعتمادها على العصبية القبلية.

هناك أربعة أصناف رئيسية من المناهج التأليفية لكتب النوازل المغربية والأندلسية:

الصنف الأول منها: هي التي يؤلفها أحد الفقهاء المفتين، فيجمع فيها أجوبته وأجوبة غيره من معاصريه، أو من السابقين له من مختلف البلاد، ويرتبها على ترتيب أبواب الفقه.

ومن أشهر هذه المؤلفات في هذا الصنف معلمتان بارزتان: إحداهما التونسي هو البرزكي (- 841 هـ) .

أما المعلمة الثانية في هذا الصنف من النوازل فهي كتاب (المعيار المعرب) لأحمد بن يحيى الونشريسي التلمساني (- 914 هـ) .

الصنف الثاني: من كتب النوازل هي التي جمعت أجوبة فقهاء ينتسبون إلى منطقة واحدة، أو إلى مدينة واحدة، فمن تلك التي جمعت فتاوى شيوخ منطقة واحدة يمكن أن نذكر مثلين بارزين هما:

1-

كتاب (أحكام ابن سهل الغرناطي 486 هـ) ، وهو المعروف بكتاب (الإعلام بنوازل الأحكام) ، وهو أقدم مجاميع النوازل الأندلسية، حيث جعله صاحبه خاصاً بفتاوى الأندلسيين.

(1) من ذلك ما وصف به أبو المحاسن القصري (- 1013 هـ) ، محمد مخلوف، شجرة النور الزكية: 1 / 295.

ص: 559

2-

كتاب (الدر المكنون في نوازل مازونة) للفقيه يحيى بن موسى المازوني المغيلي (- 883 هـ)(1) . هو كتاب جمع فيه نوازل علماء تونس وبيجاية والجزائر وتلمسان. أما كتب النوازل التي جمعت أجوبة فقهاء ينتسبون إلى مدينة واحدة فمنها:

أ- كتاب الحديقة: المستقلة النضرة في الفتاوى الصادرة عن الحضرة (غرناطة) ، لمؤلف مجهول.

ب- (مجموع فتاوى علماء غرناطة) تأليف أبي القاسم محمد بن طركاظ العكي الأندلسي، تولى قضاء المرية (854 هـ) ، ولم يعرف تاريخ وفاته.

والصنف الثالث: من كتب النوازل؛ هي التي جمعت أجوبة فقيه واحد، جمعها أو جمعت له من أحكامه من خلال مدة قضائه وتوليه الفتوى، أو أجاب بها عن مجموعة أسئلة وجهت إليه.

- فمن أمثلة النوازل التي تجمع للفقيه: فتاوى أبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد الجد (- 520هـ) ، جمعها تلميذه محمد بن أبي الحسن بن الوزان (- 543 هـ) .

وفتاوى القاضي عيان اليحصبي البستي (- 544 هـ)، عنوانها:(مذاهب الحكام في نوازل الأحكام) . ونوازل مفتي الأندلس أبي سعيد فرج بن لب (- 782 هـ) .

والصنف الرابع: من كتب النوازل؛ هي تلك التي يؤلفها صاحبها للإجابة عن قضية واحدة، منها: الرسالة المنصورية، وعنوانها:(مصباح الأرواح في أصول الفلاح) ، وهي جواب عن سؤال يطلب منه توضيح ما يجب على المسلمين من اجتناب الكفار وما يلزم أهل الذمة

وخاصة يهود ناحية توات من جنوب البلاد الجزائرية.

- ومنها: أسنى المتاجر في بيان من غلب على وطنه النصارى ولم يهاجر

لأحمد بن يحيى الوانشريسي التلمساني (- 914 هـ) ، وفيها من الشذ ما جعله يمنع كل موالاة النصارى، ويحرم كل تعايش معهم في جوارهم

وقد صدرت هذه الفتوى في ظروف عصبية، حيث كانت بعد سقوط مدينة غرناطة في أيدي النصارى.

وجاء في مقدمة (مذاهب الحكام) : وثمة فرع آخر برز فيه الفقهاء الأندلسيون والمغاربة وهو (النوازل) التي تدعى كتبها أيضاً بكتب (الفتاوى) وكتب (الأحكام) وكتب (المسائل) . اهـ.

وقد استمر الأندلسيون يؤلفون في هذا الفرع إلى سقوط مملكة غرناطة، ولعل نوازل (ابن طركاظ) هي آخر مجموع وصل إلينا من تراث (النوازل) الأندلسي الضخم، ومنها كتاب (مذاهب الحكام في نوازل الأحكام) للقاضي عياض وولده، ومن أقدم ما ألفه المغاربة، وهي إحدى المجموعات التي ترجع إلى عهد المرابطين ونسمي بعضها فيما يلي:

1-

نوازل ابن سهل المعروفة (بالأحكام الكبرى) ، وابن سهل هذا – مثل القاضي عياض – مارس القضاء والأحكام في المغرب والأندلس على عهد المرابطين وقبلهم. وقد ظلت هذه النوازل مرجعاً فقهيًّا، وأفاد منها بعض المؤرخين المحدثين، ويعني بدراستها وإخراجها مجزأة الدكتور محمد عبد الوهاب خلاف.

2-

نوازل ابن رشد الجد: وقد رواها عنه وجمعها تلميذه ابن الوزان، وأفاد من هذه النوازل وكتب عنها عدد من الأستاذة، منهم: عبد العزيز الأهواني، وبرونشفيغ، وإحسان عباس، وغيرهم، وكانت موضوع رسائل جامعية.

3-

نوازل ابن الحاج القاضي الشهيد: وتنقل عنها كتب النوازل المتقدمة والمتأخرة، ما تزال مخطوطة.

(1) مقدمة مناهج كتب النوازل الأندلسية والمغربية، بتصرف.

ص: 560

4-

نوازل أبي المطرف عبد الرحمن الشعبي المالقي: وينقل عنها ولد القاضي عياض والبناهي وغيرهما، ووصفها البناهي بأنها مجموعة نبيلة، وقد نشرتها دار الغرب الإسلامي أخيراً.

5-

نوازل القاضي ابن دبوس الزناتي اليفرني التي أسماها: الإعلام بالمحاضر والأحكام، وما يتصل بذلك مما ينزل عند القضاة والحكام، تقع في أربعة أسفار يوجد منها سفران في خزانة القرويين، وقد توفي القاضي أبو محمد عبد الله بن أحمد بن دبوس المذكور سنة (- 511 هـ) ، كما في طرة المخطوط.

6-

نوازل أبي الوليد هشام بن أحمد الهلالي الغرناطي، المعروف بابن بقوي، المتوفى سنة (- 530 هـ) ، وكتابه المذكور في الأحكام والنوازل يوجد مخطوطاً في الخزانة العامة والخزانة الحسنية وخزانة القرويين وغيرهما.

7-

نوازل أبي القاسم أحمد بن محمد بن عمر التيمي المعروف بابن ورد، المتوفى سنة (- 540 هـ) ، وقد عني بعض إخواننا بإعداد نوازله، وهي قيد الطبع.

8-

نوازل أحمد بن سعيد بن بشتغير اللخمي اللورقي المتوفى عام (- 516 هـ) ، وله نوازل توجد منها نسخة وحيدة في الخزانة الحسنية، وقد قام بإعدادها للطبع صديقنا الفقيه الفاضل السيد محمد أبو خبزة.

9-

اعتماد الحكام، في مسائل الأحكام، وتبيين شرائع الإسلام من حلال وحرام، مما عني بجمعه وترتيبه على توالي مدونة سحنون، الشيخ الفقيه أبو علي حسن بن زكون، وتوجد منه الأجزاء 7 / 8، 9، 10 في مجلد ضخم بالخزانة العامة بالرباط 413 ق، ومؤلف هذه المسائل مذكور في هذه النوازل التي بين أيدينا.

10 -

نوازل ابن عياض: موضوع هذا العرض، وهي أصغر حجماً من نوازل أبي الأصبغ ابن سهل، وأبي الوليد ابن رشد، ولكنها لا تقل عنهما فائدة وقيمة، وتتميز عنهما بطابعها المزدوج، أي أنها نوازل مغربية أندلسية.

إن ظهور هذه النوازل في عصر واحد وزمن متقارب يدل على حركة الفقه ورواجه في عصر المرابطين، الذي كان عصر الفقهاء أو عصر (قال مالك) ، كما عبر الشاعر الأعمى التطيلي في كافيته التي يشكو فيها من كساد بضاعة الشعر ونفاق سوق الفقه.

ص: 561

مسائل من النوازل عند فقهاء الحنفية

أ- وجوب العشاء وإن لم يغبْ الشفق.

ب- التأمين البحري – ابن عابدين.

ج – النوازل المستجدة. . . ورأي بعض الفقهاء المعاصرين (حق التأليف والنشر) .

أ- نازلة وجوب العشاء وإن لم يغب الشفق

إن أهالي قازان وبلغار، وما يقاطرهما من القرى والأمصار، افترقوا في هذه القضية زمراً واختلفوا فيها.

منهم: من يساهم بالكلية، ويزعم سقوط هذه الفريضة في تلك الأيام من السنة، وأبعدهم عن الحق وأضلهم عن سواء السبيل هذا البعض.

ومنهم: من يحتاط ويأخذ بالأحوط في مواضع الخلاف، فيصليها فرادى، ويترك الجماعة فيها مخافة الوقوع في البدعة وهي: التنقل بالجماعة وذلك باطل؛ لأنه لا مساغ للشك في وجوبه ولو سلم، فلما صلاها بظن الوجوب على الفرق فالمعتبر ذلك الظن، ولا يكون الجمع مكروهاً كما في صلاة الجمعة مع الخلاف في وجوبها، لعدم تحقق شرائط وجوبها أو صحتها في أكثر المواضع.

ومنهم: من يصليها أخذاً بمذهب مالك والشافعي وغيرهما من الأئمة.

ومنهم: من يقول: إن الوقت يدخل لأن الشفقَ هو الحمرة على الأصح وهي تغيب، وإنما يبقى البياض والصفرة وهي غيرها. .. ومن ذلك ذهب أبو المعالي من الشافعية إلى أن أول وقت العشاء حين يغيب الشفق وهو الصفرة دون البياض والحمرة.

ومنهم: من يقول: إن الشفق يغيب من جهة الغروب ومحل الأفول؛ وأما ما يبقى من الجانب الآخر وجهة الطلوع بعد وصول الشمس إلى خط نصف النهار في انحطاطها فهو محسوب من الصبح.

ص: 562

ومنهم: ومن يتكلف وينوي في كل يوم قضاء عشاء اليوم السابق.

ومنهم: من يقول بالتقدير، ويعتبر غيبة الشفق في أقرب البلاد إليهم، فإذا مضى من الزمان قدر ما يغيب فيه الشفق في أقرب البلدان إليهم دخل وقت العشاء وخرج وقت المغرب، ومقتضى ذلك أن لا يصلوها إلا في نصف الليل بالغيبوبة في أقرب البلدان إليهم، ثم الأقرب فالأقرب حتى يغيب عندهم. وهذه جملة آراء انتحلوها في هذا الباب.

وبعد سرد هذه الأقوال تزييفها قال:

وقد عرفت أن الحق في المسألة أن الوقت ليس بسبب لوجوب الصلاة وتحقيقه ليس بمشروط بالغيبوبة أو غيرها من العلامات المذكورة.

ثم على تقدير سببيته فليس هو من الأسباب والشروط التي لا تحتمل السقوط، فإذا مضى بعد المغرب زمان يغيب فيه الشفق في الأقطار الاستوائية والأيام الاعتدالية دخل وقت العشاء.

وهؤلاء الذين يدينون بإسقاط هذه الفريضة لا يراعون غيبة البياض، ولا يحافظون على غيبة الحمرة كما ينبغي في أيام الشتاء، ثم يتعللون في إسقاط فريضة من أعظم فرائض الله تعالى بزخارف الشبهات (1) .

شذ شرذمة قليلة من أحداث الأمة، وأخلاف المتفقهة؛ وزعموا أن العشاء ساقطة عن سكان بعض الأقطار في عدة من أيام السنة ينتهي اقتصار لياليها إلى غاية لا يغيب الشفق فيها، متوهماً منهم أن الوقت هو سبب لوجوب الصلاة، وظرف لها وشرط لتحققها يتوقف على غيبوبة الشفق. وهو زعم ساقط وتوهم لا مساغ له قط.

وذلك لأن سببية الوقت غير مسلمة بل غير صحيحة، لأن أدنى مراتب السبب أن يكون ملائماً للمسبب، وهو منتفٍ بين الصلاة والوقت قطعاً.

ولأن السبب لا يجوز أن يكون كل الوقت لوجوب الصلاة لمن صار أهلاً لها في آخر الوقت، ولا البعض المعين منه لصحة الأداء ممن أقامها في غير ذلك الجزء المعين مطلقاً لعدم وجوب أدائها ولا قضائها ولا الفدية عنها على من اعترضه عدم الأهلية في آخر الوقت، من موت أو جنون مطبق أو حيض أو نفاس، ولا الجزء المقارن للأداء لوجوب قضائها المساهل الذي لم يشرع فيها قط، بل تعطل في الوقت كله. . .

مع أن الجزء المقارن ليس له تقدم على الصلاة أصلاً، فكيف يكون سبباً موجباً لها ومؤديا إليها (2) .

وبالجملة جعل الوقت سبباً للعبادة، بما هو وقت؛ غير معقول.

ثم لا شك أن الوقت متحقق في حق من ليس بأهل للصلاة لاشتماله على أحواله، مع عدم الوجوب عليه، فينقدح من ذلك: أن السبب أو مرور الوقت. . .

- فقد ذهب الفقهاء المتقدمون والعلماء المحققون من مشايخنا إلى أن سبب وجوب العبادات تتالي نعم الله تعالى، وتواتر إنعامه وإحسانه إلينا في كل وقت، ومن كل وجه، وعلى كل حال.

فإنه سبحانه أسدى لعباده من أنواع البر والنعم وأصناف الفضل والكرم ما يعجز العقول عن عده والإحصاء عن الوصول إلى حده، كما قال تعالى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] ، فأوجب سبحانه عليهم العبادات بعد إتيانهم بما يجب تقديمه من الإيمان والإقرار بالصانع القادر المختار شكراً لما منحهم من باهر نعمه، وغمرهم بعظيم فضله ووافر كرمه، ليفوزوا بجواره وينقذوا من ناره. . . إلى أن قال: ثم النعم لما كانت غير داخلة تحت الضبط والإحصاء والوقت ظرفاً لحدوثها، أديرت الصلوات معه ووزعت على أوقاتها تيسيراً للعبادة، وإقامة للظرف مقام المظروف، وهو مراد من قال: إن الوقت سبب لها نسبة لما هو للحال إلى المحل على طريق المجاز العقلي، كقوله: سار الركب، وسال الوادي، وليس أنه سبب حقيقة. . .

ثم إن الوقت مقدار محدود من زمان غير محدود، وهو أمر بديهي الأنية وإن كان خفي اللمية. إن الزمان هو مقدار متجدد غير قار، فلتجعله ما شئت وسمه به. . .

(1) المرجاني شهاب الدين، ناظورة الحق، ص 148.

(2)

المرجاني شهاب الدين: ناظورة الحق، ص 108.

ص: 563

وليكن ما كان لا يدخل في حقيقته شيء من الألوان من الحمرة والصفرة والبياض، ولا الطلوع والزوال والعشي والغروب، ولا يتوقف على وجودها، وإنما هي أعلام معرفات لمضي الأزمان، وانقضاء المقدار المعين من الأوقات يتعرف بها حضور الأوقات التي جعلت بحكم الشرع مداراً لأداء الصلوات ووجوبها، لا ينتفي بانتفائها وانتفاء الأعلام المعرفة بها.

- هذا وإن سبب وجوب الصلوات الخمس. . . النعم المتواردة على التوالي، ولكنها لما كانت غير منضبطة ولا داخلة تحت الإحصاء أديرت الصلوات مع الأوقات، وجعل الطلوع والزوال والغروب والغيبوبة وأمثالها علامات لوجودها، ومعرفات لها، يتمكن بها العامة والخاصة من العلم بحضور الأوقات المعينة للصلوات. .

قلت: وهذا كلام النفيس.

وإن وجوب نفس الصلاة موزعة على أوقاتها من الظهيرة والعشي والمساء والزلفة والصباح بالبرهان القطعي. . . لكن داخله الظن وآراء الناس في بيان أول الوقت وآخره فيما نحن فيه. فإن ذكر غيبوبة الشفق في دخول وقت العشاء؛ إنما ورد في رواية عائشة وأبي موسى وعبد الله بن عمر وأنس وأبي هريرة وبريدة. .

وحديث الإمامة، وهو كما أنه خبر الواحد ظني الثبوت كذلك ظني الدلالة. فلو شرط غيبة الشفق لدخول وقت العشاء، لزم نسخ عمومات الكتاب ومحكمات الأدلة الواردة في إيجاب الصلوات الخمس على كل مؤمن ومؤمنة بالنسبة إلى سكان الأقطار التي لا يغيب فيها الشفق، بخبر الواحد الظني الثبوت والدلالة، أو تخصيصها بغيرهم بهذا الخبر.

ولذلك اختلف في مفاده فقهاء وعلماء الأمة، فإن أصحابنا وسفيان الثوري وأحمد ومالكاً في رواية، والشافعي في قوله القديم؛ ذهبوا إلى أن وقت المغرب يمتد إلى غروب الشفق مع اختلافهم في الشفق. . . وذهب الأوزاعي وابن المبارك والشافعي في قوله الجديد، ومالك في رواية إلى أن وقت المغرب قدر ما يصلى خمس ركعات متوسطات بوضوء وأذان وإقامة فحسب، ويدخل وقت العشاء بعده.

والشفق: هو البياض عند أبي حنيفة وأحمد بن حنبل والمزني.

والشفق: هو الصفرة فيما اختاره أبو المعالي الجويني، والحمرة عند آخرين.

وذهب أبو سعيد الأصطخري من الشافعية إلى أن آخر وقت العشاء إلى نصف الليل.

وقال الحسن بن زياد: آخر وقت العصر إلى اصفرار الشمس فقط.

ومن ذهب من المخالفين إلى أن وقت الظهر والعصر واحد، وكذا وقت المغرب والعشاء وجواز الجمع بين الصلاتين في السفر والحضر، ولو كان قطعياً لزمه الإجماع، ولما ساغ هذا الخلاف فيما بين هؤلاء الأئمة العظام والفقهاء الفخار، العارفين بموارد النصوص ومعانيها، ومواقع الإجماع ومبانيها، ولما وقع منهم ذلك وقوعاً متوسعاً شائعاً. .

ولكن المسألة لما كانت في محل الاجتهاد مال هؤلاء إلى هذا، وهؤلاء إلى ذلك، بما لاح لهم من الأمارات الظنية في ترجيح بعض الأدلة على بعض، وحمل غيره إلى ما ترجح عنده بحسب غالب الظن، فصار إلى ما أدى إليه رأي كل واحد منهم مذهباً له، ولمن تابعه من غير تضليل لصاحبه، ولا إسقاط لقوله من الاعتبار، بل أجمعوا على تقرير حكم المجتهد، وعلى تقليد العامي له في ذلك الحكم فإنه دليل شرعي. والمذهب أن العلامات حيثما تحققت يجب مراعاتها، ولا يجوز المساهلة في تحقيقها تحصيلاً لليقين وسلوكاً لطريق الاحتياط، وعملاً بقوله عليه الصلاة والسلام:((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) .

فيقدر وقت صلاة المغرب بمدة مغيب الشفق في الأيام الاعتدالية، والأقطار الاستوائية.. . ثم يدخل وقت العشاء إن أمكن ذلك.

ص: 564

وإلا فبقدر ما يغيب فيه أسرع من غيبته في هذه الأيام والأقطار، ثم الأسرع فالإسرع، فإن لم يمكن ذلك – بأن لايكون بين غروب الشمس وطلوعها إلا زمان قليل لا يسع التقدير فيه بشيء – فالواجب إذن إيقاع المغرب والعشاء والفجر بين المغرب والطلوع.

فإن لم يكن بينهما مدة يسع فيها تلك الفرائض فيسقط اعتبار العلامات بالكلية ويرجع الأمر إلى التقدير على منوال ما سبق في كل صلاة للضرورة، ويكون أداء لما ثبت فرضيته بالأدلة المطلقة في الوجوب.

وتلخيص البيان: أن كون الأوقات أسباباً لوجوب الصلوات ووجودها مشروط بتحقق العلامات مما لا مساغ له قط، فلا نسلم فقد الأوقات بانتفائها، ولا سقوط الصلوات بفقدانها. وقال: وقد تقرر في مقره أن الأسباب والشرائط إنما تعتبر بحسب الإمكان، ولا يسقط الممكن بسقوط ما ليس بممكن، هذا والله المستعان. . .

وقال: واعلم أنه لو انتفت تلك العلامات المعرفة للمدة الفاصلة بين أوقات الصلوات أصلاً، بأن لا يتحقق غروب الشمس ولا طلوعها مدة مديدة نصف سنة أو أقل. .. بأن تطلع الشمس كما تغرب، فإن مثل هذه المعمورة متحقق لا محال.

وأقصى المنطقة الباردة لا تغرب الشمس أكثر من ستة أشهر، فإنه لا تطلع الشمس فيها ولا تغرب إلا بحركتها الخاصة الشرقية.

وقال: وإذ قد ثبت لنا ذلك ثبوتاً لا مرد له عقلاً بالعلم الضروري، ونقلاً بالخبر المتواتر، بحيث لا يمكن إنكاره إلا من جاهل معاند.

فهل تجب الصلوات الخمس والصوم وسائر العبادات المتعلقة بالأوقات على سكان هذه الأقطار؟

لم يُرَ فيه كلام في كتب المتقدمين، ولم يُروَ فيه خبر عنهم في تصانيف واحد من العلماء الكبار المتبحرين من أهل القرن السادس وبعده؛ في وجوب العشاء والوتر وعدمه على من لم يجد وقتهما. . . بأن لا تتحقق المدة الفاصلة التي هي مدة غروب الشمس في الأيام المعتدلة والأقطار المتوسطة.

- ففي الفتاوى الظهيرية والمضمرات والتتارخانية وغيرها، أفتى الإمام الأجل برهان الدين الكبير في أهل بلد كما تغرب الشمس يطلع الفجر – أن عليهم صلاة العشاء، والصحيح أنه لا ينوي القضاء لفقد وقت الأداء.

وقال ابن الهمام: وأفتى الإمام البرهان الكبير بوجوبها (1) .

وفي التبيين: شرح الكنز للزيعلي: ذكر المرغيناني أن الشيخ برهان الدين الكبير أفتى بأن عليهم صلاة العشاء.

وقال محمد بن عبد الله التمرتاشي الغزي في كتاب تنوير الأبصار: وفاقد وقتهما مكلف بهما.

وقال الشيخ سري الدين عبد البر – المعروف بابن الشحنة – في الذخائر الأشرفية: إن الصحيح خلاف ما اختاره صاحب الكنز في هذه المسألة.

وقال في الكنز: إن الفتوى على الوجوب.

وفي المحيط البرهاني: ورد فتوى في زمن الصدر الكبير برهان الأئمة.

وكان فيها: إنا لا نجد وقت العشاء في بلدتنا؛ فإن الشمس كما تغرب يطلع الفجر من الجانب الآخر، هل علينا لصلاة العشاء؟

فكتب في الجواب: إنه ليس عليكم صلاة العشاء، وهكذا كان يعني ظهر الدين المرغيناني (2) .

(1) شرح فتح القدير: 1 / 224.

(2)

البرهاني، المحيط: 1/ 83 مخطوط.

ص: 565

وفي الظهيرية: وأفتى الشيخ الإمام برهان الدين الكبير في أهل بلد كما تغرب الشمس يطلع الفجر. . . إن عليهم صلاة العشاء، والصحيح أنه لا ينوي القضاء لفقد وقت الأداء (1) .

وفي خلاصة الفتاوى: ولو كانوا في بلدة إذا غربت الشمس طلع الفجر لا يجب عليهم صلاة العشاء. (2)

وفي الكافي لأبي البركات النسفي: ولا يجب العشاء لقوم لم يجدوا وقته بأن يطلع الفجر كما غربت الشمس، لعدم سبب الوجوب وهو وقته.

وفي الكنز له: ومن لم يجد وقتهما لم يجب.

وذكر الزاهدي في المجتبى شرح المختصر عن البدر الطاهر قال: وردت فتوى في زمن الصدر الكبير برهان الأئمة: إنا لا نجد وقت العشاء في بلدتنا هل علينا صلاته؟

فكتب: ليس عليكم صلاة العشاء، وبه أفتى ظهير الدين المرغيناني.

وفي الجواهر: إن كانوا في بلدة يقال لها: بلغار – إذا غربت الشمس طلع الفجر: لا يجب عليهم صلاة العشاء. . . كذا أفتى الصدر الكبير برهان الأئمة وظهير الدين المرغيناني.

وقد نسب الفتوى بالوجوب إلى ظهير الدين المرغيناني في غير واحد من الشروح وغيرها.

وبالجملة:

- فمأخذ القول بالوجوب هو برهان الدين الكبير.

- ومأخذ القول بعدمه هو الصدر الكبير برهان الأئمة.

- واختلف القول: عن ظهير الدين المرغيناني. (3)

ثم خلص إلى القول: بأن طائفة من أحداث الجهال المتعصبين على الحق، المنهمكين في التقليد، المتهالكين في إضاعة الصلاة قد حرفوا عبارة الظهيرية والمضمرات وغيرهما، وزادوا فيها كلمة (ليس) النافية، وسلطوها على الوجوب، زعماً منهم أنها لو لم تكن موجودة في العبارة لكان آخر الكلام منافيًّا لأوله، حيث قال: والصحيح أنه لا ينوي القضاء لفقد وقت الأداء، وهو زعم سقيم ووهم عقيم، فإن عبارات تلك الكتب محكمة في عدم هذه الكلمة، والنسخ مضطردة عليه، فإنه لو كانت موجودة فيها لم يرتبط بها قوله: والصحيح أنه لا ينوي القضاء لفقد وقت الأداء.

- لأن مفاده أن هذا الذي وجب عليه العشاء لا ينوي القضاء، لأن التقدير: فقد وقت الأداء، والقضاء تسليم ما وجب بعد انقضاء الوقت، ولأنه لا حاجة إلى نفي وجوب القضاء بعد قوله: ليس عليهم صلاة العشاء.

- على أن حق العبارة على ذلك التقدير أن يقول: والصحيح أنهم لا يجب عليهم قضاؤها.

وقد عرفت أن الخلاف فيمن لا يجد الوقت أصلاً.

ومن أفتى بالوجوب لم يبالِ بعدم الوقت وذهب إلى وجوبه مع عدمه، لأن الوقت غير مقصود بالذات ولا بسبب حقيقة، ويسقط اعتباره بأدنى سبب، كما في عرفة ومزدلفة وأيام الدجال بالاتفاق. ويجوز الجمع بين الظهر والعصر في وقت إحداهما، وكذا المغرب والعشاء عند مالك والشافعي ومن وافقهما.

وقد قالوا: إن العبادات متى دارت بين الوجوب وعدمه أوجبها الاحتياط، لأن مبناها على التكثير، لأن الإنسان إنما خلق للمعرفة وإظهار العبودية، فكيف لا، إذا قام الدليل على وجوبها قياماً لا مرد له، وثبت ثبوتاً لا ريب فيه، بخلاف أمر العقوبات فإنها تندرئ بالشبهات.

(1) هامش الخلاصة: 1 / 67.

(2)

افتخار الدين البخاري 1 / 67

(3)

وقد شارك في هذا اللقب والنسبة رجلان من بيت واحد، ولم يبين أحد أن المفتي في هذه الحادثة أيهما: أحدهما: ظهير الدين أبو الحسن علي بن عبد العزيز بن عبد الرزاق المرغيناني توفي (506هـ) وهو جد صاحب الخلاصة لأمه وعم والد قاضيخان. وثانيهما: ابنه ظهير الدين أبو المحاسن حسن بن علي المرغيناني، صاحب كتاب الأقضية وغيرها والظاهر أن تلك الفتوى بالوجوب منسوبة إليه.

ص: 566

فقولهم: الصحيح أنه لا ينوي القضاء متفرع على وجوب الأداء مع عدم تحقق وقت العشاء، ولا تنافي بين أطراف الكلام أصلاً.

ألا ترى العلامة ابن الهمام رحمه الله تعالى بعد ما بسط الكلام في الوجوب، وزين القول بالسقوط قال: الصحيح أنه لا ينوي القضاء، لفقد وقت الأداء (1) .

ب- نازلة التأمين البحري (السوكرة) :

جاء في تحرير المسألة ما نصه:

قال ابن عابدين: جرت العادة – في زمن المصنف – أن التجار إذا استأجروا مركباً من حربي يدفعون له أجرته، ويدفعون أيضاً مالاً معلوماً لرجل حربي مقيم في بلاده، ويسمى ذلك المال (سوكرة) ، مع أنه مهما هلك من المال الذي في المركب – بحرق أو غرق أو نهب أو غيره – فذلك الرجل ضامن له بمقابلة ما يأخذ منهم – ولو وكيل عنه مستأمن في دارنا يقيم في بلاد السواحل الإسلامية بإذن السلطان – يقبض من التجار مال السوكرة.

وإذا هلك من مالهم في البحر شيء يؤدي ذلك المستأمن للتجار بدله تماماً.

قال ابن عابدين: والذي يظهر لي: أنه لا يحل للتاجر أخذ بدل الهالك من ماله، ووجه هذا القول لأن هذا التزام ما لا يلزم.

ثم مضى بأسلوب الجدل الفقهي يحرر المسألة بإيراد الاعتراضات المحتملة والرد عليها فقال:

فإن قلت: إن المودع إذا أخذ الأجرة على الوديعة يضمنها إذا هلكت.

قلت: ليست مسألتنا من هذا القبيل – وجهه: لأن المال ليس في يد صاحب السوكرة بل بيد صاحب المركب. وإن كان صاحب السوكرة هو صاحب المركب يكون أجيراً مشتركاً، فقد أخذ أجرة على الحفظ وعلى الحمل، وكل من المودع والأجير المشترك لا يضمن ما لا يمكن الاحتراز عنه كالموت والغرق ونحو ذلك.

فإن قلت: لو قال الآخر: اسلك هذا الطريق فإنه آمن فسلكه وأخذ ماله لم يضمن.

ولو قال: إن كان – الطريق – مخوفاً وأخذ مالك فأنا ضامن، بعلة أنه ضمن الغار صفة السلامة للمغرور نصاً. أي بخلاف الأولى فإنه لم ينص على الضمان بقوله: فأنا ضامن.

وفي جامع الفصولين: الأصل أن المغرور إنما يرجع على الغار لو حصل الغرور في ضمن المعاوضة، أو ضمن الغار صفة السلامة للمغرور، فيصار كقول الطحان لرب البر: اجعله في الدلو فجعله فيه، فهذب من النقب إلى الماء – وكان الطحان عالماً به – يضمن إذا غره في ضمن العقد وهو يقتضي السلامة.

قلت: لا بد من مسألة التغرير أن يكون الغار عالماً بالخطر كما يدل عليه مسألة الطحان المذكورة، وأن يكون المغرور غير عالم، إذ لا شك أن رب البر لو كان عالماً بنقب الدلو يكون هو المضيع لماله باختياره، ولا يخفى أن صاحب السوكرة لا يقصد تغرير التجار، ولا يعلم بحصول الغرق هل يكون أم لا؟

- وأما الخطر من اللصوص والقطاع فهو معلوم له وللتجار، لأنهم لا يعطون مال السوكرة إلا عند شدة الخوف، طمعاً في أخذ بدل الهالك، فلم تكن مسألتنا من هذا القبيل أيضاً. . .

نعم، قد يكون للتاجر شريك حربي في بلاد الحرب، فيعقد شريكه هذا العقد مع صاحب السوكرة بين حربيين في بلاد الحرب. . . وقد وصل إليه ما لهم برضاهم، فلا مانع من أخذه.

وقد يكون التاجر في بلادهم، فيعقد معهم هناك ويقبض البدل في بلادنا أو بالعكس. .

ولا شك أنه في الأولى: إن حصل بينهما خصام في بلادنا لا يقضي للتاجر بالبدل، وإن لم يحصل خصام ودفع له البدل وكيله المستأمن هنا يحل له أخذه، لأن العقد الذي صدر في بلادهم لا حكم له، فيكون قد أخذ مال حربي برضاه.

وأما في صورة العكس، بأن كان العقد في بلادنا والقبض في بلادهم، فالظاهر أنه لا يحل له أخذه ولو برضى الحربي، لابتنائه على العقد الفاسد الصادر في بلاد الإسلام فيعتبر حكمها (2) .

(1) شرح فتح القدير: 1 / 224.

(2)

ابن عابدين، الحاشية: 4 / 170، باب المستأمن.

ص: 567

والشاهد في هذه النازلة أنه أفتى بحرمة التأمين البحري وخرجه على أنه التزام ما لا يلزم، ومنع تخريجها على تضمين المودع الوديعة إذا أخذ أجراً عليها لوجود الفارق بينهما. . .

هذا، وقد اختلفت تكييفات وتخريجات العلماء المعاصرين لهذه النازلة، واختلفت بناء على ذلك أحكامها بشأنها، فمنهم من أجازها ومنهم من منعها (1) ، فالذين قالوا بالتحريم اختلفت تخريجاتهم؛ فخرجها بعضهم على أنها من باب أكل أموال الناس بالباطل، فيدخل في النهي الوارد لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29](2) .

وخرجها الشيخ محمد بخيت المطيعي في رسالته السوكرتاه) بالقياس على القمار، حيث قال: عقد التأمين عقد فاسد شرعاً، وذلك لأنه معلق على خطر، تارة يقع وتارة لا يقع فهو قمار معنى (3) .

ومما علل به المنع في هذه الواقعة: أن ضمان الأموال شرعاً، إما أن يكون بطريق الكفالة، أو بطريق التعدي، أو الإتلاف، ولا يوجد أي من هذه الأسباب في عقد التأمين.

وخرجها آخرون على أنها من عقود الغرر؛ إذ هي عقد احتمالي (4) .

أما المجيزون للتأمين التجاري فقد اختلفوا أيضاً في تخريجه:

1-

فمنهم من خرجه على أنه من التعاون المحبب، وأنه محقق لمساندة الإنسان لغيره ومساندة الغير له (5)، وهو متضمن في قوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] .

2-

ومنهم من خرجه على أنواع التبرعات وليس من البيوع (6) .

3-

ومنهم من خرجه على قاعدة أن الأصل في العقود الإباحة، وأن التأمين عقد جديد. . . وأنه لا غرر فيه، وأنه محقق للفائدة، ولا نص يمنع منه (7) .

4-

ومنهم من خرج ذلك بالقياس على عقد المضاربة في الشريعة الإسلامية، وقد تطرق صاحب هذا القول حتى رخص بالتأمين على الحياة (8) .

5-

ومنهم من خرجه على عقد الموالاة وعلى تحمل العاقلة الدية.

6-

ومنهم من خرجه على أنه من باب المصالح المرسلة.

7-

ومنهم من خرجه على مبدأ العرف. . . (نظرية التأمين للدكتور محمد زكي السيد) .

8-

ومنهم من نزله على الضرورة، (التأمين الإسلامي للدكتور عبد السميع المعري) .

ج – ومن النوازل المستجدة:

حق التأليف والطبع والنشر:

وهو ما أطلق عليه مجمع الفقه الإسلامي (الحقوق المعنوية)، فقد اختلف العلماء في تكييفه وتخريجه. . . وبالتالي اختلفت وجهات النظر في حكمه. . . ومن تلك التخريجات:

1-

قياسه على المصنوعات، لأن الكتاب المؤلف كالمصنوع، والمؤلف كالصانع، وممن خرجه على ذلك الشيخ أبو الحسن الندوي (9) .

2-

قياسه على ما ورد في الفقه الحنفي بشأن (النزول عن الوظائف بمال)(10) ، وممن خرجه على ذلك بعض علماء الهنود، باعتبار أن كلاً منهما من الحقوق، وقد رفض الشيخ الندوي هذا التخريج لطائفة من الأسباب أهمها:

أ- إن الحكم المذكور ليس متفقاً عليه عند فقهاء الأحناف، بل أكثرهم على المنع.

ب- الفرق بين التنازل عن الوظيفة، وأخذ العوض على حق الطباعة، لأن الوظيفة شيء قد تأكد استحقاقه لصاحبه. . . بخلاف حق الطباعة (11) .

(1) فقد اتخذ مجمع الفقه الإسلامي – في دورته المنعقدة في 10 شعبان 1398 هـ بمكة المكرمة – قراراً بمنع التأمين التجاري بجميع أنواعه، وبإجماع الآراء عد الشيخ مصطفى الزرقا، وكان من قبل قد اتخذ مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في دورته العاشرة المنعقدة في الرياض بتاريخ: 4 / 4 / 1397هـ قراراً بتحريم التأمين التجاري وبجميع صوره.

(2)

انظر الغرر وأثره في العقود في الفقه الإسلامي للدكتور الصديق محمد الأمين الضرير، ص 647؛ ونظرية التأمين في الفقه الإسلامي للدكتور محمد زكي السيد، ص 81.

(3)

السوكرتاه، ص 12.

(4)

الدكتور علي السالوس، المعاملات المالية، ص 380.

(5)

التأمين في الشريعة والقانون، للدكتور غريب الجمال، ص 273؛ ومحمد يوسف موسى، ص 203 وغيرهما.

(6)

الفكر الإسلامي، الحجوي: 2 / 504.

(7)

التأمين في الشريعة، الدكتور الغريب، ص 111، والشيخ الزرقا.

(8)

مقال في لواء الإسلام، الشيخ عبد الوهاب خلاف، ع (11) ، السنة (8) .

(9)

حق الابتكار، فتحي الدريني، ص 149 – 153.

(10)

رد المحتار: 4 / 519.

(11)

حق الابتكار، فتحي الدرديني، ص 156 – 157.

ص: 568

نماذج مختارة من النوازل عند فقهاء المالكية

تطبيقات فقهية عامة لتحقيق المناط عند المالكية:

يضم هذا المبحث تطبيقات فقهية عامة لتحقيق المناط في نوازل وقعت بالفعل، وليست مفترضة الوقوع، فجاءت النوازل معروضة على المجتهد أو المفتي كما هي في الواقع، بكل ما يحف بها من عوارض وملابسات، مما اقتضى من المفتي تحقيق المناط فيها، قبل التصريح بالحكم، وقد تختلف في ذلك الأنظار بين مفت وآخر، فيختلف تبعاً لذلك الحكم.

والوقائع النازلة المعروضة في هذا المبحث يغلب عليها تحقيق المناط الخاص الملائم لمثلها، وهو من أدق وأصعب أنواع تحقيق المناط، لما يتطلبه من علم وبعد نظر عند المجتهد، حتى يصادف كل حكم شرعي محله من الوقائع عند التطبيق.

النازلة الأولى – المسح على العمامة:

سئل ابن رشد (1) من حاضرة مراكش عن رجل ضعيف الجسم والدماغ متى أراد المسح على رأسه في الوضوء يزيد مرضه، وأصابته نزلة شديدة كذلك أبداً، هل يكون فرضه المسح على العمامة أم لا؟ وهو مع ما هو سبيله من هذه الحال المذكورة، تنتابه نوب من أمراض تنضاف إلى الضعف المتقدم الذكر الذي لا ينفك عنه، فإذا أصابته النوب المذكورة لم يقدر على الوضوء بالماء وإن كان حاراً ويخاف من الهواء، هل يتيمم في هذه الحال الموصوفة ويكون فرضه فيها التيمم؟ أم كيف يفعل؟ وكيف لو أصاب أهله في هذه الحال، هل يتيمم لجنابته ما دام على هذه الحال ويجزئه ذلك؟ ومتى أصابته جنابة من مماسة أهله في الحال الأولى المتقدمة الذكر لا يقدر على غسل رأسه بالماء، وربما احتاج إلى الاغتسال من الوجه المذكور من الثلاثة الأشهر إلى الأربعة، أو أقل من ذلك أو أكثر لضعفه، فإن صب الماء على رأسه كان حاراً أو بارداً مرض أو خاف على نفسه، فهل يكون فرضه الغسل في هذه الحال؟ أو المسح على رأسه وغسل جسده بالماء؟ أو كيف يفعل؟ راجعنا على ذلك فصلاً مأجوراً إن شاء الله تعالى.

لقد رأى ابن رشد بعد تحقيق المناط الخاص في هذه النازلة؛ أنها لا تدخل تحت حكم نظائرها من رفع الحرج والمشقة عن المكلف، وإنما ينطبق عليها مناط الحكم العام من الوضوء والغسل، وذلك لأن كل ما رآه صاحب النازلة مبرراً للتخفيف عنه، لم يكن إلا من وسوسة الشيطان ليفسد عليه دينه. ولم يكن هذا الحكم إلا بعد النظر في الأعذار، هل هي نوع من أنواع الأعذار الموجبة للتخفيف والأخذ بالرخصة أم لا؟ فبعد تحقيق المناط في النوع، ظهر لابن رشد أن تلك الأعذار ليست داخلة تحت نوع الأعذار الموجبة للتخفيف، بدليل أن له القدرة على إصابة أهله، ومن كانت حاله كذلك لم يصل بعد ضعف جسده ودماغه إلى الحالة التي لا يقدر معها على المسح على رأسه بالماء، سواء أكان بارداً أو حاراً في الوضوء والغسل.

(1) ابن رشد الجد (450 – 520 هـ، 1058 – 1126م) هو محمد بن أحمد بن رشد، أبو الوليد قاضي الجماعة بقرطبة، من أعيان المالكية، وهو جد ابن رشد الفيلسوف، من تآليفه: المقدمات الممهدات في الأحكام الشرعية، البيان والتحصيل، مختصر شرح معاني الآثار للطحاوي (الأعلام: 5 / 316 – 317) .

ص: 569

النازلة الثانية – العاجز عن استعمال الماء البارد:

وسئل مفتي بجاية الشيخ أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم المشذالي (1) عن العاجز عن استعمال الماء البارد لمرض به ويقدر على استعماله سخناً، فهل يجب عليه تسخينه ليصل به إلى تحصيل الطهارة المائية إن تيسرت عليه أسباب ذلك؟ أو لا يجب عليه ذلك، ويتيمم لعجزه عن استعماله؟ فإذا قلتم: يجب عليه تسخينه فخاف خروج الوقت إن اشتغل بذلك، فهل يكون ذلك حكم الصحيح الذي خاف خروج الوقت إن تشاغل بالماء فيدخله الخلاف المعلوم فيه؟ أو يقال ليس هذا كالصحيح ويتيمم اتفاقاً لوجود المرض، فهو داخل في الآية ولا يطلب منه التسخين إلا مع فسحة الزمان؟ بينوا لنا ذلك ولكم الأجر.

فأجاب: المسألة تكلم عليها العوفي (2) ونصه: لو كان الماء بارداً لا يقدر على استعماله لمرض به إلا بتسخينه، وهو لو سخنه أوبعث إليه من الحمام لخرج الوقت، فهل يتيمم أو لا؟

ذهب بعض المعاصرين إلى أنه يدخله الخلاف فيمن لو تشاغل بالماء ذهب الوقت، وهو عندي خطأ، فإن كونه لا يقدر لمرض فهو مريض له حكم المرض فيباح له التيمم لاندراجه في الآية (3) ، بخلاف من لا يعوقه إلا قدر زمان الاستعمال فإنه صحيح فيدخله الخلاف، هذا إذا كان لمرض وإن كان لمشقة تلحقه، فإن قلنا إن المشقة من غير مرض توجب الترخص كان كالمريض وإلا فكالصحيح، انتهى كلام العوفي.

وفي تخطئته لبعض المعاصرين نظر، لاحتمال أن يقال إن المريض الذي يندرج في مضمون الآية هو الذي لا يقدر على مس الماء مطلقاً، وهذا ليس كذلك، وإنما تعذر عليه مس الماء البارد فقط، وأما المسخن فهو الذي يقدر على استعماله، لأنه باعتبار ذلك الوجه من القادرين على استعمال الماء وبه يخرج عن مضمون الآية.

فإذا كان تشاغله بتحصيل ذلك الوجه لا يفيته الوقت فواضح، وإن كان يفيته صح إجراء الخلاف فيه مما ذكر بعض العصريين، والله تعالى أعلم (4) .

(1) أبو القاسم المشذالي: هو محمد بن أبي القاسم بن محمد بن عبد الصمد المشذالي وبه عرف، البجائي (أبو عبد الله) فقيه خطيب، ولد في بجاية في المغرب، وتوفي بها، من مؤلفاته: تكملة حاشية أبي مهدي عيسى الوانوغي على المدونة في فقه المالكية مختصر البيان لابن رشد، والفتاوى، توفي في بجاية سنة (866 هـ 1462م)، (الأعلام: 7 / 5؛ معجم المؤلفين: 3 / 598) .

(2)

العوفي هو ثابت بن عبد الله بن ثابت العوفي، يكنى أبا الحسن، كان من أهل العلم والعمل، بارعاً في الفقه متضلعاً فيه، ولي القضاء بسرقسطة، استوطن قرطبة، من تصانيفه: كتاب الدلائل، توفي بغرناطة سنة 514 هـ – (ابن فرحون، إبراهيم، الديباج المذهب، بيروت، دار الكتب العلمية، دت، ص 102) الأعلام: 6/ 9.

(3)

المقصود بالآية قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 43] .

(4)

الونشريسي، المعيار المعرب: 1 / 67.

ص: 570

لقد رأى العوفي أن المكلف في هذه النازلة يدخل تحت حكم الآية فينطبق عليها حكمها، بينما يرى أبو القاسم المشذالي، أنه لا يندرج في مضمون الآية، لأن المريض المعني في الآية، هو الذي لا يقدر على مس الماء مطلقاً، بينما هو ليس كذلك، فلم يتعذر عليه إلا مس الماء البارد فقط، وبذلك يطالب باستعمال الماء من الوجه الذي يقدر عليه وفرضه الوضوء لا التيمم.

النازلة الثالثة – الصلاة بالتيمم لمن ينتقض وضوؤه عند مس الماء:

وسئل أيضاً (أبو القاسم البرزلي)(1) عن قول اللخمي: سئلت عن رجل إن توضأ لم تسلم له صلاته حتى تنتقض طهارته، وإن تيمم لا يحدث له شيء حتى تنقضي صلاته، فرأيت أن صلاته بالتيمم أولى. فأشكل ذلك على السائل بسبب أن خروج الحدث عند الملاقاة للماء وعدم خروجه مع ترك الملاقاة دليل على أنه خارج على غير الصحة والاعتياد، وكل ما كان هكذا فكيف ينقض على أصل المذهب؟ نعم جوابه يجري على قول ابن عبد الحكم في الذي لا يملك خروج الريح منه إن صلى فإنما يصلي جالساً.

فأجاب: الذي ثبت كونه من السلس غير ناقض هو السلس الذي لا انفكاك للمكلف عنه، على الوجوه التي ذكروها، ولا حيلة في رفعه ولا طهارة تسلم معه، وأما مسألة اللخمي فليس الكائن فيها بهذه الحيثية لأن المكلف إن لم يتسبب فيه لم يقع فيمكن له ثبوت الطهارة الترابية مع سلامته منه، والسلس الذي ذكروه لا يمكن ذلك فيه ولا أقل من أن يكون هذا مرجحاً لما ذكروه إن لم يكن تاماً، ولا يمكن قياس مسألته على المسألة المشهورة لقيام الفارق الذي ذكرناه والله تعالى أعلم (2) .

عندما قام الفارق لدى البرزلي بين هذه الحالة والسلس لم يرَ أنها تندرج تحت حكم السلس، وذلك لأن هذه الحالة إن لم يتسبب فيها المكلف لم تقع، بينما في السلس لا يمكن ذلك فيه، لذلك عدل بها عن حكم السلس إلى حكم التيمم، فأثبت له الطهارة الترابية مع سلامته من انتقاض وضوئه، وذلك لعدم تحقق مناط السلس فيه.

(1) البرزلي (740 – 844هـ، 1239 – 1343 م) هو أبو القاسم بن أحمد بن المعتل البلوي القيرواني التونسي، المالكي، الشهير بالبرزلي، فقيه، ولد في حدود سنة 740 هـ ورحل إلى القاهرة، صار إماماً بالزيتونة، وأفتى ووعظ، وتوفي بتونس، من آثاره: الديوان الكبير في الفقه، النوازل، الفتاوى؛ معجم المؤلفين: 2 / 637؛ الأعلام: 5 / 172.

(2)

الونشريسي، المعيار المعرب: 1 / 31.

ص: 571

النازلة الرابعة – تعطى الزكاة للفقير ولو كان له ولد غني:

وسُئل السيوري (1) عن أحد الأبوين فقير له ولد غني يأبى أن يطلب نفقته منه، هل يعطى من الزكاة؟

فأجاب: بأنه يعطى من الزكاة، قيل لأنها لا تجب له إلا بالحكم فإذا، ترك الطلب فكأنه لم يكن له ولد (2) إن الحكم العام يقتضي وجوب نفقة الابن الغني على أبيه إذا كان فقيراً، إلا أن هذه الصورة يرى السيوري أنها لا تندرج تحت ذلك الحكم العام، لقيام خصوصية في الأب أخرجته من ذلك، وهو إباؤه طلب النفقة، والحال أن النفقة لا تجب إلا بالحكم، فأصبح الأب بذلك كأنه لم يكن له ولد، وعد من جملة الفقراء، ومن ثم جازت له الزكاة لفقره وهو ملحظ دقيق من السيوري.

النازلة الخامسة – تدفع الزكاة لأهل البيت إن خيف عليهم الضياع:

سئل سيدي محمد بن مرزوق (3) عن رجل شريف أضر به الفقر، هل يواسي بشيء من الزكاة أو صدقة التطوع؟ وقد علمتم ما في ذلك من الخلاف، وحالة هذا الرجل وغيره من الشرفاء عندنا، لا سيما من له عيال تحت فاقة.

فالمراد ما نعتمده في ذلك من جهتكم، فإني وقفت على جواب الإمام ابن عرفة (4) قال فيه: المشهور من المذهب أنهم لا يعطون من الزكاة، وبذلك احتج علي من تكلمت معه في ذلك من طلبة بلدنا، فقلت له: إن وقفنا مع هذا وشبهه مات الشرفاء وأولادهم وأهاليهم هزالاً، فإن الخلفاء قصروا في هذا الزمان في حقوقهم ونظام بيت المال، وصرف ماله على مستحقه فسد. والأحسن عندي أن يرتكب في هذا أخف الضررين، ولا ينظر في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يموتوا جوعاً، فعارضني بما قلت لكم، وبما قاله الشيخ ابن رشد في الأجوبة.

فأجاب: المسألة اختلف العلماء فيها كما علمتم، والراجح في هذا الزمان أن يعطى، وربما كان إعطاؤه أفضل من إعطاء غيره، والله تعالى أعلم (5) .

(1) هو أبو القاسم عبد الخالق بن عد بالوارث، خاتمة علماء أفريقيا وآخر شيوخ القيروان، ذو البيان البديع في الحفظ والقيام على المذهب والمعرفة بخلاف العلماء، كان فاضلاً، أديباً، نظاراً، زاهداً، له تعاليق على المدونة، طال عمره فكانت وفاته سنة 460 هـ بالقيروان (الديباج المذهب، ص 158) .

(2)

الونشريسي، المعيار المعرب: 1 / 367.

(3)

محمد بن مرزوق (766 – 842 هـ 1364 – 1439م) هو محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن أبي بكر بن مرزوق الحفيد، التلمساني (شمس الدين أبو عبد الله) فقيه أصولي، محدث، مفسر، صوفي، مقرئ، لغوي، بياني، عروضي، ناظم، رحل إلى الحجاز والمشرق، وتوفي بتلمسان، من تصانيفه: أنوار الداراري في مكررات البخاري – روضة الأريب في شرح التهذيب؛ (معجم المؤلفين: 3 / 97؛ نيل الابتهاج، ص 293 وما بعدها؛ الديباج المذهب، ص 305) .

(4)

ابن عرفة (716 – 803 هـ – 1316 – 1401م) هو محمد بن محمد بن عرفة الورغمي التونسي المالكي، ويعرف بابن عرفة (أبو عبد الله) ، مقرئ، فقيه، أصولي، بياني، منطقي، متكلم، فرضي، تولى إمامة الجامع الأعظم وتوفي بتونس، من تصانيفه: المبسوط في الفقه المالكي، مختصر الفرائض، مصنف في المنطق، المختصر الشامل في أصول الدين.

(5)

الونشريسي، المعيار المعرب: 1 / 395.

ص: 572

الأصل في أهل البيت أنهم لا يعطون من الزكاة، ولكن بالنظر إلى ما آلوا إليه من فاقة وفقر بسبب فساد نظام بيت المال، وصرف ماله على مستحقيه كان الأولى إعطاءهم، لذلك رأى محمد بن مرزوق أن يعطى ذلك الرجل الشريف – بما وصف من حاله – الزكاة، لأن تطبيق حكم الأصل عليه يؤدي إلى الضرر به، ومنافٍ لقصد الشارع في إعفاف أهل البيت بتنزيههم عن أخذ مال الزكاة.

النازلة السادسة – الجهاد أفضل من الحج في حق الأندلسيين:

وسئل ابن رشد عمن لم يحج من أهل الأندلس في هذا الوقت؛ هل الحج أفضل له أو الجهاد، وكيف لو حج الفريضة؟

فأجاب: فرض الحج ساقط في زماننا هذا عن الأندلس لعدم الاستطاعة، وهي القدرة على الوصول مع الأمن على النفس والمال، وإذا سقط الفرض صار نفلاً مكروهاً للضرر، فبان أن الجهاد الذي لا تحصى فضائله أفضل، وهو أبين من أن يسأل عنه، وموضع السؤال فيمن حج الفريضة والسبيل مأمونة، هل الحج أفضل أو الجهاد؟

واختار الجهاد لما ورد فيه من الفضل العظيم، وأما من لم يحج وسبيله مأمونة فيتخرج على الفور أو على التراخي، وهذا ما لم يتعين فرض الجهاد، فإن تعين فهو أفضل من حجة الفريضة قولاً واحداً.

وأما غير أهل الأندلس كالعدوتين، فإن خافوا على أنفسهم وأموالهم فهم كالأولين، وإن لم يخافوا فالجهاد عندي لهم أفضل من تعجيل الحج، إذ هو على التراخي على الصحيح مما تدل عليه مسائل المذهب، وهذا في غير من يقوم بفرض الجهاد، وأما من قام بفرضه من أجناد المسلمين فالجهاد واجب عليهم، إذ لا يجب تعجيل الحج عليهم.

وأجاب الأستاذ أبو بكر الطرطوشي (1) بأنه حرام على أهل المغرب، فمن خاطر وحج فقد سقط فرضه ولكنه آثم بما ارتكب من الغرر (2) .

هكذا قد يكون الشيء واجباً في الحالة العادية، فينقلب في حق مكلف ما، في حالة ما، حراماً يأثم على إتيانه وكل ذلك يعرف بعد تحقيق المناط في حالة المكلف، وما هو الفرض عليه باعتبار الوقت والحال، وما هذه المسألة إلا دليلاً على ذلك، إذ نظر فيها حال ذلك الزمان وأهله، لذلك أفتوا بما يناسب حالهم، وما هو فرض الوقت في حقهم هل الجهاد أم الحج.

(1) الطرطوشي، أبو بكر (451 – 520 هـ، 1059 – 1126 م) هو محمد بن الوليد بن محمد ابن خلف بن سلميان بن أيوب الفهري المالكي المعروف بالطرطوشي (أبو بكر) فقيه، أصولي، محدث، مفسر، نشأ في طرطوشة بالأندلس، ورحل إلى المشرق فدخل بغداد والبصرة، وسكن الشام، توفي بالإسكندرية، من تصانيفه: سراج الملوك، مختصر تفسير الثعالبي، شرح رسالة ابن أبي زيد، سراج الملوك والخلفاء ومنهاج الولاة والأمراء؛ (معجم المؤلفين: 3 / 762؛ شذرات الذهب: 4 / 62) .

(2)

الونشريسي، المعيار المعرب: 1 / 432 – 433.

ص: 573

النازلة السابعة – جواز بناء المسجد على القبور الدائرة:

وسئل أبو سعيد بن لب (1) عن البناء على المقابر، مثل أن يبنى عليها مسجد أو صومعة؟.

فأجاب: أما مسألة البناء على المقابر؛ بناء مسجد أو صومعة، فقد قال مالك في مقبرة داثرة بني فيها مسجد يصلى فيه: لا بأس به، وإنما أباحوه في الداثرة دون الجديدة، لأنها يخاف في الجديدة نبش العظام، وذلك لا يجوز، فإن أمن من ذلك بأن يكون البناء فوق القبور دون حفر يصل إلى مواضع العظام فذلك جائز، وما في الحديث من النهي عن اتخاذ القبور مساجد، فإنما ذلك مخافة أن تعبد القبور، كما كان اتفق لمن سلف قبل هذه الأمة، أما إذا كان المقصود عبادة الله مع الأمن من ذلك الخوف في هذه الأزمنة، فلا حرج إلا من ناحية نبش العظام خاصة (2) .

إن هذه الصورة من بناء المساجد على القبور الداثرة، لا يتعدى إليها حكم أصلها في النهي عن اتخاذ القبور مساجد، لعدم تحقق العلة فيها وهي مخافة أن تعبد القبور، فإذا كان المقصود عبادة الله مع الأمن من ذلك الخوف، جاز ذلك، بالإضافة إلى أن الداثرة لا يخاف فيها نبش العظام بخلاف الجديدة، وكل ذلك يعرف بعد تحقيق المناط بمعنى العلة.

(1) هو فرج بن قاسم بن أحمد بن لب، أبو سعيد التغلبي الغرناطي، من الفقهاء، انتهت إليه رياسة الفتوى في الأندلس، ولي الخطابة بجامع غرناطة، له كتاب في (الباء الموحدة) والأجوبة الثمانية، وأرجوزة في الألغاز النحوية، ورسالتان في الفقه؛ (الأعلام: 5 / 140؛ نيل الابتهاج، ص 219) .

(2)

الونشريسي، المعيار المعرب: 7 / 204 – 205.

ص: 574

النازلة الثامنة – حكم القيام للناس:

سئل ابن رشد عن القيام للناس هل يباح أو يكره؟ وهل يستوي في حكمه الوالد والفقيه والصالح؟ وصار الأمر فيه اليوم إلى أنه إذا دخل شخص على قوم أو اجتاز بهم، فمن لم يقم له عده متهاوناً به منكراً عليه وحقد عليه، فما الحكم بهذا الاعتبار؟

فأجاب: لا بأس بقيام الإكرام والاحترام، وقد قال صلى الله عليه وسلم للأنصار:"قوموا إلى سيدكم"(1) .

يعني سعد بن معاذ (2) وكذلك لبني قريظة، فلا بأس بالقيام للوالدين والعلماء والصالحين، وأما في هذا الزمن فقد صار تركه مؤدياً إلى التباغض والتقاطع والتدابر، فينبغي أن يفعل رفعاً لهذا المحظور، لأن تركه قد صار وسيلة إلى هذا.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم الله)) (3) ، فهذا لم يؤمر به لعينه، بل لكونه صار تركه وسيلة لهذه المفاسد في هذا الوقت، ولو قيل بوجوبه لمن يكن بعيداً، لأنه قد صار تركه إهانة واحتقاراً لمن جرت العادة بالقيام له، ولله أحكام تحدث عند أسباب لم تكن موجودة في الصدر الأول والله أعلم.

- وسئل عن القيام والإكرام والاحترام لمن ينبغي أن يفعل أو يترك من المسلمين والكفار، وحكم الألقاب وتنكيس الرؤوس في السلام؟

فأجاب: لا بأس بالقيام لمن يرجى خيره ويخاف شره من أهل الإسلام، وأما الكفار فلا يقام لأحد منهم، لأنا أمرنا بإهانتهم وإلزامهم بإظهار الصغار، وكيف لا ينفعل ذلك بمن يكذب الله ورسوله، فإن خفنا من شرهم ضرراً عظيماً فلا بأس من ذلك، لأن التلفظ بكلمة الكفر جائز عند الإكراه، وأما إكرامهم بالألقاب الحسان فلا يجوز إلا لضرورة أو حاجة ماسة، وينبغي أن يهان الكفرة والفسقة زجراً عن كفرهم وفسقهم وغيرة لله عز وجل، وما يفعله الناس من تنكيس الرؤوس، فإن انتهى إلى حد أقل الركوع فلا يفعل، كما لا يفعل السجود لغير الله عز وجل، ولا بأس بما قصر عن حد الركوع لمن يكرم من أهل الإسلام، وإذا تأذى مسلم أمرنا بإكرامه بترك القيام، والأولى أن يقام له، فإن تأذيه بذلك يؤدي إلى العداوة والبغضاء، وكذلك التلقيب بما لا بأس به من الألقاب (4) .

(1) رواه البخاري عن أبي سعيد في كتاب الاستئذان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"قوموا إلى سيدكم "رقم (6262) .

(2)

هو سعيد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن الحارث بن الخزرج، اسمه عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسي، أمه كبشة بنت رافع، لها صحبة. أسلم على يد مصعب بن عمير، شهد بدراً وأحداً والخندق، ورمي فيه سهم فعاش بعد ذلك شهراً ثم انتقض جرحه فمات منه سنة (5 هجرية) ؛ (ابن الأثير، أسد الغابة: 2 / 461؛ ابن حجر، تهذيب التهذيب، ص 420) .

(3)

رواه البخاري عن أنس بن مالك في كتاب الأدب، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر، رقم (60565) ؛ أبو داوود في كتاب الأدب برقم (4910) .

(4)

الونشريسي، المعيار المعرب: 12 / 320 - 321

ص: 575

وهذا تحقيق للمناط في الأحكام بالنظر إليها باعتبار حال دون حال، ووقت دون وقت، أي بإدخال عنصر الزمان والمكان والحال، فقد يكون الشيء حكمه الأصلي الإباحة فينقلب إلى واجب أو حرام، مثلاً باعتبار تحقق مقصده منه، أو عدمه، وكذلك في نازلتنا هذه دخلت عوامل أخرى اقتضت من المجتهد أن ينظر إليها باعتبار مآل الحكم فيها عند التطبيق.

هذه جملة من التطبيقات الفقهية أوردناها كما هي، حتى تكون نموذجاً لكيفية إعمال أصل تحقيق المناط عند ابتغاء تنزيل الأحكام الشرعية العامة المجردة على الوقائع النازلة في حياة الناس، أفراداً وجماعة، وهو منهج في التنزيل كثيراً ما يغفل عنه من أوكل إليه هذا الأمر، فيعمد إلى تطبيق الحكم الشرعي العام المجرد على الوقائع دون التفات إلى ملابسات الواقعة، وما تقتضيه من استثنائها من حكمها الأصلي، أو اندراجها تحت حكم آخر أكثر مناسبة لها في تحقيق مقصود الحكم فيها، إلى غير ذلك من أنظار قد يتطلبها الاجتهاد بالقضاء، أو الفتوى، أو غير ذلك من أغراض تطبيق الأحكام الشرعية في واقع الناس، بما يؤدي إلى ضبط أقوالهم، وأفعالهم، ومختلف تصرفاتهم، وفق ضوابط الشريعة ومقاصدها، بما يجعل حياة الناس على استقامة، وصلاح في الدنيا، وفوز ونعيم في الآخرة، وهذا ما تبتغيه الشريعة السمحة من تشريع مختلف أحكامها، سواء أكانت اعتقادية أم عملية.

ص: 576

التأسيس لفقه النوازل

ومنهج الإمام الشاطبي

النوازل وفتح باب الاجتهاد:

إن الوقائع في الوجود لا تنحصر، فلا يصلح دخولها تحت الأدلة المنحصرة، ولذلك احتيج إلى فتح باب الاجتهاد من قياس وغيره. فلا بد من حدوث وقائع لا تكون منصوصاً على حكمها، ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد.

وعند ذلك: فإما أن يترك الناس فيها من أهوائهم، أو ينظر فيها بغير اجتهاد شرعي – وهو أيضاً اتباع للهوى – وذلك كله فساد.

فلا يكون بد من التوقف لا إلى غاية – وهو معنى تعطيل التكليف، وهو مؤدٍّ إلى تكليف ما لا يطاق. . .

فإذاً: لا بد من الاجتهاد في كل زمان، لأن الوقائع المفروضة لا تختص بزمان دون زمان (1) .

وهذا الاجتهاد الذي يتوجه إلى ما يعرف (بتحقيق المناط) أي تحقيق العلة المتفق عليها في الفرع، وهو الذي لا خلاف بين الأمة في قبوله.

ومعناه: أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي. . . أي الكتاب أو السنة أو الإجماع، لكن يبقى النظر في تعيين محله؛ أي تطبيقه على الجزئيات والحوادث الخارجية.

فإذا أوصى بماله إلى الفقراء:

فلا شك أن من الناس من لا شيء له فيتحقق فيه اسم الفقر فهو من أهل الوصية.

- ومنهم من لا حاجة به ولا فقر وإن لم يملك نصاباً. . وبينهما وسائط.

كالرجل يكون له الشيء ولا سعة له، فينظر فيه:

هل الغالب عليه حكم الفقر أو حكم الغنى؟

كذلك في فرض نفقات الزوجات والقرابات:

إذ هو مفتقر إلى النظر في حال المنفق عليه والمنفق، وحال الوقت، إلى غير ذلك من الأمور التي لا تنضبط بحصر، ولا يمكن استفتاء القول في آحادها.

ولأن كل صورة من صور النازلة نازلة مستأنفة في نفسها، لم يتقدم لها نظير، وإن تقدم لها في نفس الأمر فلم يتقدم لنا، فلابد من النظر فيها بالاجتهاد.

وكذلك إن فرضنا أنه تقدم لنا مثلها، فلابد من النظر في كونها مثلها أولاً، وهو نظر اجتهاد أيضاً. وكذلك القول فيما فيه حكومة من أروش الجنايات وقيم المتلفات.

(1) الشاطبي، الموافقات: 4 / 104.

ص: 577

هذا وإن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها، وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة تتناول أعداداً لا تنحصر، ومع ذلك فلكل معين خصوصية ليست لغيره ولو في نفس التعيين.

فلا يبقى صورة من الصور الوجودية المعينة إلا وللعالم فيها نظر سهل أو صعب، حتى يتحقق تحت أي دليل تدخل.

ومن القواعد القضائية: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) ؛ فالقاضي لم يمكن الحكم في واقعة إلا بعد فهم المدعى من المدعى عليه؛ وهو أصل الفقهاء.

ولا يتعين ذلك إلا بنظر واجتهاد ورد الدعاوى إلى الأدلة.

وهو تحقيق المناط بعينه.

فالحاصل: أنه لابد من تحقيق المناط بالنسبة إلى كل ناظر وحاكم ومفتٍ، بل بالنسبة إلى كل مكلف في نفسه.

فإن العامي إذا سمع في الفقه: أن الزيادة الفعلية في الصلاة سهواً – من غير جنس أفعال الصلاة أو من جنسها – إن كانت يسيرة فمغتفرة، وإن كانت كثيرة فلا.

فوقعت في صلاته زيادة؟ فلا بد له من النظر فيها حتى يردها إلى أحد القسمين، ولا يكون ذلك إلا باجتهاد ونظر. . . فإذا تعين له قسمها تحقق له مناط الحكم فأجراه، وكذلك سائر تكليفاته (1) .

ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد لم تنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا في الذهن، لأنها مطلقات وعمومات وما يرجع إلى ذلك، منزلات على أفعال مطلقات كذلك. . . والأفعال لا تقع في الوجود مطلقة وإنما تقع معينة مشخصة؛ فلا يكون الحكم واقعاً عليها إلا بعد المعرفة بأن هذا المعين يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام. . . وقد يكون ذلك سهلاً، وقد لا يكون، وكله اجتهاد.

وعليه: فلابد من الاجتهاد في كل زمان، إذ لا يمكن حصول التكليف إلا به، فلو فرض التكليف مع إمكان ارتفاع هذا الاجتهاد لكان تكليفاً بالمحال وهو غير ممكن شرعاً، كما أنه غير ممكن عقلاً.

(1) الشاطبي، الموافقات: 4 / 91 – 93.

ص: 578

المصلحة الجزئية – والمصلحة الكلية في المسائل:

ثبت أن الشريعة تشتمل على مصلحة جزئية في كل مسألة، وعلى مصلحة كلية في الجملة.

أما المصلحة الجزئية: بما يعرب عنها دليل كل حكم وحكمته.

وأما المصلحة الكلية: فهي أن يكون الملف داخلاً تحت قانون معين من تكاليف الشرع في جميع تصرفاته، اعتقاداً وقولاً وعملاً (1) .

وقال ابن القيم:

والمفتي مخبر عن الحكم الشرعي، وهو إما مخبر عما فهمه عن الله ورسوله. . .

وإما مخبر عما فهمه عن كتاب أو نصوص من قلده دينه. وهذا لون، وهذا لون.

فكما لا يسع الأول أن يخبر عن الله ورسوله إلا بما علمه؛ فكذا لا يسع الثاني أن يخبر عن إمامه الذي قلده دينه إلا بما يعلمه (2) .

ما يشترط في الاستنباط من النصوص أو من المعاني:

الاجتهاد إن تعلق بالاستنباط من النصوص – فلا بد من اشتراط العلم بالعربية.

وإن تعلق بالمعاني – من المصالح والمفاسد – إنما يلزم العلم بمقاصد الشرع من الشريعة جملة وتفصيلا خاصة.

وجه هذا القول:

لأن المعاني المجردة، العقلاء مشتركون في فهمها فلا يختص بذلك لسان دون غيره. إذاً من فهم مقاصد الشرع من وضع الأحكام، وبلغ رتبة العلم بها، وإلى هذا النوع يرجع الاجتهاد المنسوب إلى أصحاب الأئمة المجتهدين كابن القاسم وأشهب في مذهب مالك.

وأبي يوسف ومحمد بن الحسن في مذهب أبي حنيفة.

والمزني والبويطي في مذهب الشافعي.

فإنهم – على ما حكي عنهم – يأخذون أصول إمامهم وما بني عليه في فهم ألفاظ الشريعة، ويفرعون المسائل ويصدرون الفتاوى على مقتضى ذلك – وقد قبل الناس أنظارهم وفتاويهم وعملوا على مقتضاها – خالفت مذهب إمامهم أو وافقته.

وإنما كان كذلك لأنهم فهموا مقاصد الشرع في وضع الأحكام (3) .

تعلق الاجتهاد بالمناط:

وقد يتعلق الاجتهاد بتحقيق المناط؛ فلا يفتقر في ذلك إلى العلم بمقاصد الشارع، كما أنه لا يفتقر فيه إلى معرفة علم العربية.

والوجه في ذلك:

لأن المقصود من هذا الاجتهاد إنما هو العلم بالموضوع على ما هو فيه، وإنما يفتقر فيه إلى العلم بما لا يعرف ذلك الموضوع إلا به من حيث قصدت المعرفة، فلابد أن يكون المجتهد عارفاً ومجتهداً من تلك الجهة التي ينظر فيها؛ ليتنزل الحكم الشرعي على وفق ذلك المقتضى (4) .

(1) الشاطبي، الموافقات: 4/ 131.

(2)

ابن القيم، إعلام الموقعين: 4 / 435.

(3)

الشاطبي، الموافقات: 4 / 164.

(4)

الشاطبي، الموافقات: 4 / 167.

ص: 579

والحاصل: أنه إنما يلزم في هذا الاجتهاد المعرفة بمقاصد المجتهد فيه. فالحكم الشرعي أن من يعتريه المرض، أو يتأخر برؤه بسبب استعمال الماء، يرخص له التيمم.

فإذا أردنا معرفة الحكم الشرعي لمريض يرخص له أو لا يرخص. . . فإننا لا نحتاج إلى اللغة العربية، ولا مقاصد الشرع في باب التيمم فضلاً عن سائر الأبواب، إنما يلزم أن نعرف بالطريق الموصل، هل يحصل ضرر فيتحقق المناط؟ أم لا؟. .

ما يجوز النظر فيه وما لا يجوز:

ضابطه: إنك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحت في ميزانها فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله.

فإن لم يقد ذكرها إلى مفسدة فاعرضها في ذهنك على العقول، فإن قبلها فلك أن تتكلم فيها:

إما على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم.

وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ – فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية (1) .

فيما يتعلق بالمجتهد من جهة فتواه:

المجتهد في فتواه مخبر عن الله كالنبي، ونائب عن النبي في تبليغ الأحكام، وهو شارع من وجه لأن ما يبلغه من الشريعة، إما منقول عن صاحبها، وإما مستنبط من المنقول، فالأول يكون فيه مبلغاً.

والثاني يكون فيه قائماً مقام صاحب الوحي في إنشاء الأحكام، وإنشاء الأحكام إنما هو للشارع.

فإذا كان للمجتهد إنشاء الأحكام بحسب نظره واجتهاده فهو من هذا الوجه شارع واجب اتباعه على وفق ما قاله. . .

- وبالجملة فالمفتي – في فتواه – مخبر عن الله كالنبي (2) .

وعليه، فالمفتي هو المتمكن من درك أحكام الوقائع على يسير من غير معاناة تعلم، وإنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين:

إحداهما: فهم مقاصد الشريعة.

الثاني: التمكن من الاستنباط بناءً على فهمه فيها (3) .

المنهج في الفتوى والاجتهاد:

قال الشاطبي: المفتي البالغ ذروة الدرجة: هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يتعلق بالجمهور.

- فلا يذهب مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرق الانحلال.

(1) الشاطبي، الموافقات: 4 / 191.

(2)

الشاطبي، الموافقات، 4 / 245.

(3)

الشاطبي، الموافقات: 4 / 105.

ص: 580

والدليل على صحة هذا: أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة، وأن قصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط لا تفريط – وهذا المذهب – كان المفهوم من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأكرمين. .

وقد رد رسول الله على جماعة من أصحاب التبتل لما طلبوا منه ذلك. وقال لمعاذ لما أطال بالناس في الصلاة: ((أفتان أنت يا معاذ؟)) . (أخرجه في التيسير عن الخمسة إلا الترمذي) .

وقال: ((إن منكم منفّرين)) (رواه البخاري في صلاة الجماعة) .

وقال: ((سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا)) (رواه البخاري في كتاب الإيمان) .

فعلى هذا: يكون الميل إلى الرخص في الفتيا بإطلاقه مضاداً للمشي على التوسط، كما أن الميل إلى التشديد مضاد له أيضاً.

وإذا ثبت أن الحمل على التوسط هو الموافق لقصد الشارع، وهو الذي كان عليه السلف الصالح. . . فلينظر المقلد أي مذهب كان أجرى على هذا الطريق فهو أخلق بالاتباع وأولى بالاعتبار – وإن كانت المذاهب كلها طرقاً إلى الله تعالى، ولكن الترجيح فيها لا بد منه، لأنه أبعد عن اتباع الهوى، وأقرب إلى تحري قصد الشارع في مسائل الاجتهاد (1) .

التوسعة في اجتهاد الرأي:

إن مسائل الاجتهاد قد جعل الله فيها سعة بتوسعة مجال الاجتهاد لا غير ذلك.

قال القاضي إسماعيل: إنما التوسعة في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توسعة في اجتهاد الرأي.

فإما أن يكون توسعة أن يقول الإنسان بقول واحد منهم من غير أن يكون الحق عنده فيه فلا، ولكن اختلافهم يدل على أنهم اجتهدوا فاختلفوا.

قال ابن عبد البر: كلام إسماعيل هذا حسن جداً.

هذا وإن الشريعة قد كملت، فلا يمكن خلو الوقائع عن أحكام الشريعة فتحرى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرب الوجوه عندهم إلى أنه المقصود الشرعي والفطر والأنظار تختلف، فوقع الاختلاف من هنا، لا من جهة أنه مقصود الشارع.

فلما اجتهدوا ونشأ من اجتهادهم في تحري الصواب الاختلاف، سهل على من بعدهم سلوك الطريق؛ فلذلك – والله أعلم – قال عمر بن عبد العزيز:

ما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم. وقال: ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا (2) .

(1) الشاطبي، الموافقات: 4 / 261.

(2)

الشاطبي، الموافقات: 4 / 130.

ص: 581

الخاتمة

ضرورة الاجتهاد الجماعي في فقه النوازل

وأخيراً.. فلأنه تكون عملية الاجتهاد صادرة عن جماعة مؤهلين لها تأهيلاً علميا رصيناً موزوناً، يصدرون عن وعي سديد بمقاصد الوحي وسبل تحقيقها على أرض الواقع، ولا يتوقف الأمر عند أدوات فهم النصوص فحسب، ولكن يشتمل على ضرورة التمكن من أدوات فهم الواقع.

لذلك كان لابد من ضبط مسار الاجتهاد في اتجاهين رئيسين يكمل بضعهما بعضاً، وهذا المساران هما:

أ- مسار فهم معاني نصوص الوحي – كتاباً وسنة واستنباط الأحكام من تلك النصوص.

ب- مسار تطبيق وتنزيل نصوص الوحي على الواقع اعتماداً على علوم ومعارف مساعدة على حسن التنزيل والتطبيق الاجتهاد بناءً على هذا التصور – يستهدف تحقيق أمرين هما:

الأول: فهم النص (أو الاجتهاد النظري) ، وغايته التوصل إلى حسن فهم معاني نصوص الوحي.

الأمر الثاني: تنزيل النص وتطبيقه على الواقع، والذي يمكن أن يسمى (الاجتهاد والتنزيل التطبيقي) . . . وهدف هذا الاجتهاد التوصل إلى حسن تنزيل وتطبيق معاني نصوص الوحي المجسمة والمصورة في ذهن المجتهد على الواقع.

ص: 582

أصالة الاجتهاد الجماعي:

اعتماد الاجتهاد الجماعي بدلاً من الاجتهاد الفردي في قضايا الأمة المصيرية:

فقد روى الإمام الطبراني في معجمه الأوسط عن علي – رضي الله عنه – قال: قلت: يا رسول الله إن عرض لي ما لم ينزل فيه قضاء في أمره ولا سننه كيف تأمرني؟ قال: ((تجعلونه شورى بين أهل الفقه والعابدين من المؤمنين، ولا تقضِ فيه برأيك خاصة)) (1) ؛ ولهذا فلا غرو أن تكون طريقة الخليفة الأول أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – وخليفته أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في الحكم والفتوى دعوة رؤوس المسلمين وعلمائهم، واستشاراتهم في النوازل والقضايا. وفي ذلك يقول الدارمي في مسنده عن المسيب بن رافع: كانوا إذا نزلت بهم قضية ليس فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر، اجتمعوا لها وأجمعوا، فالحق فيما رأوا (2) .

وإن المنهج الجماعي في الاجتهاد قد عصم الأمة من الزلات والهفوات والأخطاء القاتلة، وكان ملاذاً في استكشاف واستنباط الحلول المناسبة لمشاكلها الطارئة، وقضاياها المصيرية الكبرى.

ولذلك كان تأسيس المجامع الفقهية لمناقشة قضايا الأمة الكبرى ومستجدات العصر التي عمت بها البلوى، بغية التوصل إلى موقف إسلامي يرقى إلى درجة الإجماع يتفق فيه المجتمعون على رأي معين.

والله من وراء القصد.

الشيخ خليل محيي الدين الميس

(1) الطبراني، المعجم الأوسط.

(2)

مسند الدارمي: 1 / 46.

ص: 583