الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحكام التصرف في الديون
دراسة فقهية مقارنة
إعداد الدكتور
علي محيي الدين القره داغي
أستاذ الفقه والأصول بجامعة قطر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين محمد، وعلى آله وصحبه، ومن تبع هداه إلى يوم الدين.
وبعد؛
فإن من أسباب خلود الشرعية الإسلامية وصلاحيتها لكل زمان ومكان أن أودع فيها منزلها الحكيم الخبير كل ما تحتاج إليه البشرية من حلول لمشاكلهم الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، فقال الله تعالى:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] .
لذلك لم تحتج هذه الشريعة طوال أكثر من أربعة عشر قرنًا إلى أن تنقل قاعدة قانونية، أو مبدءًا قانونيًّا من غيرها، بل استطاع الفقهاء المسلمون في كل عصر أن يستنبطوا من الشريعة نفسها الحلول الناجحة لكل مشكلة جدت على الرغم من اختلاف الحضارات وتعدد الشعوب والأقوام.
ولذلك نجد أمامنا تراثًا ضخمًا من فقه النوازل لا يوجد أبدًا لأية أمة أخرى، وهو تراث غني مليء بالتجارب والحلول الناجحة، صالح للاستفادة منه لجيلنا الحاضر، وللأجيال اللاحقة من خلال التنقية والاجتهاد الانتقائي للوصول إلى ما هو الراجح الذي يدعمه الدليل من الكتاب والسنة ومقاصد الشريعة الغراء، ثم الاعتماد على الاجتهاد الإنشائي فيما لا يوجد فيه قول من أقوال فقهائنا الكرام رضي الله عنهم.
ولذلك لا نجد قضية من قضايا عصرنا إلا ونجد لها حكم الله تعالى إما نصًّا أو دلالة، أو استنباطًا من المبادئ الكلية والقواعد العامة لهذه الشريعة.
ومن هذا المنطلق كان بحثنا حول التصرف في الديون بالبيع، ونحوه حيث وجدنا أن النصوص الشرعية قد تناولت أحكامها، وأن فقهاءنا قد فصلوا القول فيها، وأن ما استجد منها من أمور يمكن معرفة حكمه بوضوح من خلال المنهج السابق.
ومن هنا كان بحثنا حول التعريف بالدين لغة واصطلاحًا؛ وما ذكره الفقهاء حول الدين والعين بإيجاز، وما يقابلهما في القانون، ثم تطرقنا إلى تقسيمات الدين، وخطورة الدين وآثاره السلبية وأسبابه؛ ثم ركزنا على أحكام التصرف في الديون، سائلاً الله تعالى أن يجعل أعمالي خالصة لوجهه الكريم، وأن يعصمني من الخطأ والزلل في العقيدة والقول والعمل، وأن أكون قد وفقت فيما أصبو إليه؛ إنه مولاي، فنعم المولى ونعم النصير.
أولاً – التعريف بالدين لغة واصطلاحًا:
الدَّين – بفتح الدال – لغة يطلق على ما له أجل، وأما الذي لا أجل له فيسمى بالقرض، وقد يطلق عليهما أيضًا، ويقال دنته وأدنته أي أعطيته إلى أجل وأقرضته، وداينته أي أقرضته. وجمعه ديون، وأدين، واسم فاعله دائن، واسم مفعوله: مدين، ومديون عند التميم وأصل اشتقاقه ينبئ عن الذل والخضوع، فهو من دان بمعنى خضع واستكان (1) .
وقد ورد لفظ الدين – بفتح الدال – في القرآن الكريم أكثر من مرة، بل إن أطول آية فيه هي آية الدَّين، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]، وقد فسره المفسرون بعدة تفسيرات:
قال الشافعي: " يحتمل كل دين، ويحتمل السلف "(2) .
وقال الطبري: "إذا تبايعتم أو اشتريتم به، أو تعاطيتم، أو أخذتم به إلى أجل مسمى
…
وقد يدخل في ذلك القرض والسلم، كل ما جاز فيه السلم مسمى أجل بيعه من الأملاك بالأثمان المؤجلة، كل ذلك من الديون المؤجلة إلى أجل مسمى إذا كانت آجالها معلومة" (3) .
وقال الجصاص: " ينتظم سائر عقود المداينات التي تصح فيها الآجال"، لكنه ذكر أن القرض وإن كان يسمى دينًا إلا أنه لا يدخل في منطوق هذه الآية، لأنه في الديون المؤجلة.
فعلى هذا فالدين في الآية هو: " كل دين ثابت مؤجل سواء كان بدله عينًا أو دينًا"(4) ؛ وقد ذكروا أيضًا أن ابن عباس قال: "نزلت هذه الآية في السلم خاصة"، لكنها تتناول جميع المداينات إجماعًا، ولأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (5) .
(1) القاموس المحيط: 3 / 226؛ ولسان العرب، ص 1467؛ والمصباح المنير: 1 / 220.
(2)
أحكام القرآن للشافعي: 1 / 137.
(3)
تفسير الطبري، تحقيق الأستاذ شاكر، ط. دار المعارف: 6 / 43.
(4)
أحكام القرآن للجصاص، ط. دار الفكر، بيروت: 1 / 482 – 484.
(5)
وراجع: تفسير ابن عطية، ط. مؤسسة دار العلوم بالدوحة: 2 / 500؛ وأحكام القرآن للالكيا الهراسي: 1 / 364؛ وأحكام القرآن لابن العربي: 1 / 342؛ وتفسير القرطبي، ط. دار الكتب: 3 / 377؛ وزاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي: 1 / 340؛ والتحرير والتنوير للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، ط. دار التونسية: 3 / 99.
وورد لفظ (الدين) في السنة المشرفة بمعنى الدين الشامل لحقوق الله تعالى وحقوق العباد المتعلقة بالذمة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في جواب الرجل الذي سأله عن قضاء صوم شهر عن أمه المتوفاة:((نعم، فدين الله أحق أن يقضى)) (1) ؛ وورد مثله في الحج حيث قال: ((نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء)) (2) ؛ وورد فيه بمعنى الدين الخاص بالمال الذي ثبت في ذمة شخص لشخص آخر مثل قوله صلى الله عليه وسلم حينما أتي بجنازة: ((هل عليه من دين)) ؟ قالوا: نعم (3)، وفي رواية قالوا: ثلاثة دنانير، فقال أبو قتادة: وعلي دينه (4) .
وأما الفقهاء فقد أطلقوا الدين على معنيين: معنى عام، ومعنى خاص.
أحدهما: إطلاق عام على كل ما يجب في ذمة الإنسان بأي سبب من الأسباب، سواء كان من حقوق الله تعالى، أو من حقوق العباد؛ وقد رأينا أنه بهذا المعنى قد ورد في السنة المشرفة أيضًا، ذكر الحافظ ابن حجر أن لفظ الدين يشمل كل حق ثبت في ذمة الشخص من حج وكفارة ونذر، وزكاة ونحوها (5) . فعلى هذا يمكن تقسيم الدين إلى نوعين: دين الله تعالى، ودين الآدمي.
والثاني: إطلاقه على ما يثبت في ذمة الإنسان بسبب عقد، أو استهلاك، أو استقراض، أو تحمل التزام، أو قرابة ومصاهرة (6) .
ولا يخفى أن هذا المعنى أخص من المعنى الأول؛ إذ هو خاص بما ثبت من حقوق العباد في ذمة المدين، ومقابله العين، والعمل، والنفس، قال الكاساني:"إن المكفول به أربعة أنواع: عين، ودين، ونفس، وفعل ليس بدين ولا عين ولا نفس "(7) ، فعلى ضوء هذا يقسم محل الالتزامات إلى هذه الأنواع الأربعة، ولكننا لو دققنا النظر فيه لأمكن إرجاع الجميع إلى الدين والعين، إذًا الفعل الملتزم به داخل في الدين ما دمنا نحن فسرناه بما ثبت في الذمة، لا بالمال فقط، وكذلك الالتزام بإحضار نفس راجع إلى الحق المتعلق بالعين (8) .
ويقابل هذين المصطلحين الشرعيين مصطلحان في القانون المدني هما: الحق الشخصي، والحق العيني؛ فالحق الشخصي – ويسمى الالتزام أيضًا -: هو رابطة بين شخصين دائن ومدين، بمقتضاها يطالب الدائن المدين بإعطاء شيء، أي بنقل ملكية شيءٍ أو القيام بعمل، أو بالامتناع عن عمل. وأما الحق العيني: فهو سلطة يمنحها القانون لشخص على عين بالذات (9) ، ونحن لسنا بصدد الخوض في تفاصيل هذه المسألة، إذ أن بحثنا معقود لبيان الديون المالية (10) .
(1) رواه البخاري في صحيحه – مع الفتح – كتاب الصوم: 4 / 192؛ ومسلم في صحيحه: 2 / 804.
(2)
رواه البخاري في صحيحه – مع الفتح – كتاب الحج: 4 / 64.
(3)
رواه البخاري في صحيحه – مع الفتح – كتاب الكفالة: 4 / 474.
(4)
رواه البخاري في صحيحه – مع الفتح – كتاب الحج: 4 / 764.
(5)
فتح الباري: 4 / 66.
(6)
يراجع: حاشية ابن عابدين على الدر المختار، ط. دار الفكر: 5 / 157؛ وفتح القدير مع شرح العناية على الهداية: 5 / 431؛ وكشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي: 2 / 4؛ والمنثور في القواعد للزركشي: 2 / 158؛ والقواعد لابن رجب، ص 54؛ والأشباه والنظائر للسيوطي، ص 354؛ وتبيين الحقائق للزيلعي: 4 / 171؛ والبحر الرائق: 6 / 46.
(7)
بدائع الصنائع: 7 / 1415.
(8)
المصادر السابقة، ويراجع في الدين والعين: د. السنهوري مصادر الحق: 1 / 47؛ ود. محمد زكي عبد البر: الدين والعين في الفقه الإسلامي، بحث في مجلة القانون والاقتصاد، سنة 43.
(9)
د. السنهوري: الوسيط: 1 / 103؛ ود. محمد زكي عبد البر: بحثه السابق، ص 6؛ ود. محمود جمال الدين زكي: الوجيز في النظرية العامة للالتزام، ط. جامعة القاهرة 1978، ص 11.
(10)
يراجع في تفصيل ذلك: المصادر السابقة.
تقسيمات الدين:
يقسم الدين باعتبار الزمن إلى: حال، ومؤجل، فالدين الحال: هو ما يجب أداؤه عند طلب الدائن، ويقال له الدين المعجل أيضًا.
والدين المؤجل: هو ما لا يجب أداؤه قبل حلول الأجل، لكن لو أدي قبله يصح ويسقط عن ذمته (1) ؛ وقد ذكر الزركشي أن الدين المؤجل يحل بموت المدين إلا في ثلاث صور:
الأولى: المسلم إذا لزمته الدية ولا مال له ولا عصبة، تحمل عنه بيت المال، فلو مات أخذ من بيت المال مؤجلاً.
الثانية: إذا لزمت الدية في الخطأ وشبه العمد الجاني كما لو اعترف وأنكرت العاقلة فإنها تؤخذ من الجاني مؤجلة، فلو مات هل تحل الدية؟ وجهان: أصحهما نعم.
الثالثة: ضمن دينًا مؤجلاً ومات الضامن، يحل عليه الدين على الأصح ولو مات الأصلي حل عليه الدين، ولم يحل على الضامن على الصحيح (2) .
وكذلك تحل الديون المؤجلة بالفلس عند جماعة من العلماء (3) .
قال الزركشي: " ليس في الشريعة دين لا يكون مؤجلاً إلا الكتابة والدية، وليس فيها دين لا يكون إلا حالاً إلا في القرض (4) ، ورأس مال السلم، وعقد الصرف، والربا في الذمة
…
" (5) .
وأما الدين الحال، فقد قال الإمام المتولي والإمام الروياني: إنه لا يتأجل إلا في مسألتين: إحداهما: إذا قال صاحب الدين عند حلوله: لله علي أن لا أطالبه إلا بعد شهر؛ لزم (6) .
الثانية إذا أوصى من له الدين الحال أن لا يطالب إلا بعد شهر فإنه تنفذ وصيته، وقيدها ابن الرفعة في المطلب بأن يكون في حدود الثلث.
(1) المنثور في القواعد للزركشي: 2 / 158.
(2)
المنثور في القواعد للزركشي: 2 / 158- 159.
(3)
منهم المالكية، والشافعي في أحد قوليه، وأحمد في إحدى روايتيه، انظر: الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 3 / 264؛ وشرح ابن ميارة على تحفة الحكام: 2 / 240؛ والروضة: 4 / 28؛ والمغني لابن قدامة: 4 / 481.
(4)
المنثور في القواعد: 2 / 159.
(5)
وقد استشكلها الزركشي، فراجع المنثور: 2 / 26.
(6)
المنثور في القواعد: 2 / 27.
وقد قسم التهانوي الدين إلى: دين صحيح وهو الدين الثابت الذي لا يسقط إلا بالأداء أو الإبراء كدين القرض ونحوه. وإلى دين غير صحيح وهو ما يسقط بغيرهما بسبب آخر مطلقًا مثل دين الكتابة فإنه يسقط بتعجيز العبد المكاتب نفسه (1) .
ثانيًا – خطورة الدين وآثاره السلبية:
للديون آثار سلبية لا تقف عند الجانب الاقتصادي فقط، بل يتعداه إلى الجوانب السياسية والاجتماعية، وإلى نطاق العقيدة، والأخلاق، والحرية الشخصية.
فقد أشار رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم إلى ذلك حيث كان يستعيذ من الدين مع استعاذته من الكفر والإثم، والبخل، والهم والحزن والعجز والكسل وغلبة الرجال.
فقد روى أحمد في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((أعوذ بالله من الكفر والدين)) (2) ، فلا شك أن في جمعهما معًا في استعاذة واحدة إشارة إلى وجود نوع من الترابط والتلازم – وإن كان تلازمًا عاديًّا – بينهما فيما بين عامة الناس الذين لم يتزودوا بزاد التقوى؛ إذ الديون في الغالب دليل على الفقر، وهو إن وجد في الإنسان قد يؤدي به إلى الزلات إن لم يكن قد ربي على الإيمان والقناعة والرضا.
وقد روى البخاري وغيره بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: ((اللهم إني أعوذ بك من اللهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين وغلبة الرجال)) (3) ، فقد استعاذ من ثمانية أشياء بينهما ترابط وثيق، فالهم والحزن يؤديان إلى العجز والكسل.
وهذا ما أثبته الطب الحديث، فقد أثبت أن نسبة كبيرة من أسباب الأمراض الخطيرة ترجع إلى القلق النفسي والهموم، والعكس أيضًا صحيح، حيث إن العجز والكسل يؤديان إلى الأحزان، فالعلم خير وسيلة لطرد الهموم، وأن البطالة مكان خصب للمشاكل والغموم، ثم إن الجبن والبخل يترتب عليهما الهم والحزن، فالجبان خائف مترقب لا يهدأ باله ولا تسكن نفسه، لأنه يخاف من نفسه وماله، ويعيش في الخوف الذي يصبح له كابوسًا يطارده، فيحدث له الهم والحزن، وكذلك الأمر في البخيل فهو ممسك ماله لخوفه عليه من الضياع والهلاك، فإذا أنفق شيئًا أو أجبر عليه فقد لزمته الهموم ويتراكم عليه الخوف، فقد قيل: فالناس لخوف الفقر فقراء.
ثم أشار صلى الله عليه وسلم إلى الترابط بين ضلع الدين – أي شدته – وبين غلبة الرجال، وحقًا إنهما متلازمان في الغالب، ويترتب الثاني على الأول، كما أن الدين يأتي في الغالب نتيجة للعجز والكسل والهم والحزن.
ثم إن نفس المؤمن المدين معلقة بدينه في يوم القيامة حتى يقضى عنه، بل إن ((القتال في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين)) (4) .
(1) كشاف اصطلاحات الفنون: 2 / 305.
(2)
مسند الإمام أحمد: 3 / 27.
(3)
صحيح البخاري – مع الفتح – ط. دار الطباعة بالقاهرة، كتاب الدعوات: 7 / 155؛ مسند الإمام أحمد: 2 / 173، 3 / 122.
(4)
رواه مسلم في صحيحه مرفوعًا، كتاب الإمارة: 3 / 1502؛ وأحمد في مسنده 2 / 220.
وبالإضافة إلى ذلك فإن للدين آثارًا سلبية في نطاق الأخلاق والاجتماع والسياسة، فقد أشار الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى خطورة الدين على الأخلاق والسلوك، فقد روى الشيخان وغيرهما بسندهم عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في الصلاة فيقول: ((اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم)) قالت: فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم! قال: ((إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف)) (1) ، بالإضافة إلى أنه قد يسلك سبلاً ملتوية في سبيل الحصول على المال، ولا سيما إذا رأى بجنبه الأغنياء المترفين، وقد قيل قديمًا: إن صوت المعدة لا تنكر قوته (2) .
وفي نطاق السياسة كان للديون آثارها الكبيرة في تبرير المستعمر احتلاله لبعض البلدان، أو كان من خلالها يعبر نحوها عبر شركاتها الاحتكارية، فقد كانت الشركات الشرقية البريطانية هي التي مهدت لاحتلالها الهند، كما أن للديون المتراكمة على الخلافة العثمانية آثارًا خطيرة في إسقاطها (3) ، ولا تزال كثرة الديون وتراكمها على بعض الدول الإسلامية لها آثارها الخطيرة على قراراتها السياسية، حيث غلت يداها عما تريده حقًا.
ثالثًا – أسباب الديون وتفاقمها:
توجد للديون أسباب مباشرة، وغير مباشرة، فالأولى هي ما يسميه الفقه الإسلامي بالسبب الشرعي، حيث سمى العقد مثلاً سببًا لترتب آثاره، ويسميه الفقه الوضعي بمصادر الالتزام، والثانية هي التي تكون وراء العقد، أو الضمان، فمثلاً إن السبب غير المباشر للقرض هو الحاجة إلى المال التي تدفع صاحبها إلى الاستقراض وهكذا.
إذًا فالأسباب المباشرة للديون هي:
1-
العقود التي تترتب عليها التزامات مالية في ذمة الإنسان، وهي تشمل عقد البيع، والقرض، والنكاح، وغيرها؛ ولا شك أن القرض هو أهم أسباب الديون.
2-
التصرف الانفرادي كالنذر ونحوه.
3-
الضمان حيث هو سبب لثبوت ما ضمن به من المتلفات، والديات في ذمة المتلف.
4-
تحمل الحمالة والالتزامات عن الناس.
5-
القرابة والمصاهرة حيث جعلهما الشرع سببين لثبوت النفقة على تفصيل فيها.
وأسباب الديون غير المباشرة (4) .
إذا كانت تلك الأمور السابقة أسبابًا مباشرة للديون فإن وراء هذه الأسباب أسبابًا أخرى غير مباشرة، فإذا كان القرض هو السبب الشرعي للدين ومصدره، فإن الحاجة هي السبب للاستقراض، وكذلك الأمر بالنسبة للضمان، فالإتلاف هو السبب للضمان الذي يترتب عليه دين في الذمة وهكذا.
فلما كان السبب الرئيسي في الديون هو القرض، فإن الحاجة هي السبب الرئيسي له، ولذلك سنلقي بصيصًا من الضوء على الحاجة وأسبابها.
فحاجة الفرد إلى النقود أو الأعيان لأي غرض من الأغراض تدفعه إلى الاستقراض أو تجعله غير قادر على أداء ما عليه، بحيث لا يتوفر عنده مال أو عنده ولكنه لا يكفي لتلبية متطلباته المشروعة أو غير المشروعة، فقد يكون الشخص له مال ولكنه لجشعه يستدين ليأكل أموال الناس بالباطل، وهذا الصنف الأخير لا يمثل الشريحة العريضة للمجتمع.
إذن فالسبب الغالب هو الحاجة إلى المال، ويعود سببها بإيجاز إلى الأمور الآتية:
1-
الكسل حتى تأكل نفقاته أمواله فيحتاج إلى الاستدانة.
2-
عدم الاكتساب، أو يكتسب لكنه بشكل لا يفي بحاجاته أو متطلباته وذلك بأن يعمل في نطاق عمل لا يستطيع الإجادة فيه فيخسر أو لا يربح، وبعبارة أخرى لا يشتغل بعمل يناسب طاقاته الخاصة ومهاراته البدنية أو الفكرية أو لا يقوم بالتثمير والاستثمار في أمواله، أو يقوم به ولكن مع عدم وضع خطة دقيقة وإسناد الأمر إلى غير أهله لا ينجح المشروع.
(1) صحيح البخاري – كتاب الاستقراض: 5 / 54؛ ومسلم – كتاب المساجد: 1 / 12؛ والسنن الكبرى للبيهقي: 5 / 356.
(2)
الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي، مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام، ص 4.
(3)
مذكرات السلطان عبد الحميد، ترجمة وتعليق د. محمد حرب – دار الهلال، ص 33.
(4)
يراجع: بدائع الصنائع: 5 / 2196 – 2248؛ وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 2 / 508؛ والروضة: 9 /40؛ والكافي: 3 / 354.
3-
الإسراف حتى وإن كان في المباحات، والقاعدة الفقهية الحاكمة في هذه المسألة هي البدء بالضروريات، ثم الحاجيات، ثم المحسنات مع عدم الإسراف فيها.
4-
عدم العدالة في توزيع الثروات، أي وجود ظلم اجتماعي، وطفح نظام الطبقات كما هو الحال في النظام الرأسمالي، أو كبت الحرية الشخصية، وإزالة الملكية الفردية، وعدم وجود المنافسة المشروعة فيما بين الأفراد كما هو الحال في النظام الاشتراكي، أو سوء التخطيط والإدارة والتنظيم كما هو الحال في دول العالم الثالث.
5-
تكاليف المعيشة الباهظة لأي سبب كان. وهذا السبب ناتج من السببين السابقين.
6-
كارثة تلحق به فتحوجه إلى الاستدانة. وهذا استثناء، كما أن على الدولة أن تقوم بواجبها نحو هؤلاء.
ويمكن أن نوجز هذه الأسباب كلها في عدم التزام الفرد والمجتمع بمنهج الله سواء من حيث الاكتساب والإنفاق، أو من حيث طريقة التثمير والاستثمار، أو من حيث توزيع الثروة والتوازن المطلوب، أو من حيث الغاية والهدف من المال.
وأما أسباب تفاقم الديون وتضخمها وتضاعفها فتعود إلى الربا – أي الفوائد التي توضع على الدين نظير الأجل – (1) فالديون الاستهلاكية تتضاعف عليها الفوائد الربوية دون حصول على ربح للمدين حتى تصل إلى حالة قد يعجز عن أدائها، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] .
وأما الديون التجارية فيعود سبب تفاقمها إلى شيئين، أولهما: الربا، والثاني: عدم قيامه باستثمارها على الوجه المطلوب حتى يؤدي إلى أرباح تستغرق الفائدة الربوية ومتطلبات المعيشة، وفي نظر المسلم أن السبب الأول هو الأساس وأنه وحده يكفي حيث لا توجد البركة في المال المرابى قال تعالى:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276] ، والواقع أيضًا يؤيد ذلك، حيث ثبت للعالم اليوم أن النظام الربوي لا يخدم سوى حفنة من المرابين الذين يعيشون على سحق البشرية لصالحهم، فإلى هؤلاء يرجع جهد البشرية كلها، وكدها وعرق جبينها فهم الرابحون والذين لهم الضمان الكامل لأموالهم مع فوائدها في حين يكون الشخص المدين معرضًا للربح والخسارة، فعلى ضوء نظرية الاحتمال تتجمع الأموال في النهاية في يد من يربح دائمًا (2) .
ومن هنا أجمعت الشرائع جميعًا (3) وأصحاب العقول السليمة على حرمة الربا، وإن كان اليهود قد حرفوا التوراة في هذه المسألة أيضًا وحصروا حرمته بالنسبة لليهودي فقط، وهذا مبني على نظرتهم العنصرية بأنهم شعب الله المختار (4) .
(1) يراجع: أحكام القرآن للجصاص: 1 / 464؛ وأحكام القرآن لابن العربي: 1 / 342؛ والأٍستاذ المودودي كتابه عن الربا.
(2)
في ظلال القرآن: 1 / 469؛ والأستاذ سعيد بحثه السابق، ص 39.
(3)
المصادر السابقة، وسيأتي لذلك المزيد من البحث في المبحث الخاص بالعلاج في هذا البحث.
(4)
يراجع: التوراة – الإصحاح: 23 من سفر التثنية؛ والمصادر السابقة.
أحكام التصرف في الديون
يمكن أن ترد على الديون تصرفات كثيرة، نذكر هنا أهمها:
بيع الدين بالدين إذا لم يكونا نسيئين:
فالتحقيق (1) أن الممنوع منه هو بيع الدين النسيء بالدين النسيء، لأن الإجماع على منع (الكالئ بالكالئ) وهو كما فسره علماء اللغة وغريب الأحاديث بيع النسيئة بالنسيئة، وهي التأخير (2) ؛ قال البيهقي: قال أبو عبيدة: " هو النسيئة بالنسيئة"(3) .
وأما الفقهاء فقد اختلفوا في تفسيره اختلافًا كبيرًا أثر في وجهات نظرهم في حكمه، لكن المجمع عليه هو ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث قال: قال أحمد: لم يصح منه – أي في النهي عن بيع الكالئ بالكالئ – حديث، ولكن هو إجماع، وهذا مثل أن يسلف إليه شيء مؤجل، فهذا الذي لا يجوز بالإجماع " (4) ، ثم قال ابن تيمية: " وإذا كان العمدة في هذا الإجماع، والإجماع إنما هو في الدين الواجب بالدين الواجب كالسلف المؤجل من الطرفين" (5) .
لذلك أخرج ابن تيمية: بيع ما هو ثابت في الذمة ليسقط بما هو في الذمة عن صور الكالئ بالكالئ، فقال:"ليس في تحريمه نص ولا إجماع ولا قياس، فإن كلاً منهما اشترى ما في ذمته وهو مقبول بما في ذمة الآخر "(6) .
ولكن في حصر صور بيع الكالئ بالكالئ على هذه الصورة نظر (7) ، غير أنها تنحصر عند التحقيق في بيع الدين النسيء بالدين النسيء، ويمكن الاستفادة من بيع الدين بالدين في سوق المال ما داما غير نسيئين فيما يأتي:
بيع الديون لمن هو عليه:
جاء في المذهب: " وأما الديون فينظر فيها، فإن كان الملك عليه مستقرًا كغرامة المكلف، وبدل العرض جاز بيعه ممن عليه قبل القبض، لأن ملكه مستقر عليه فجاز بيعه كالمبيع بعد القبض"(8) .
(1) قام الأخ الدكتور نزيه حماد بتحقيق هذه المسألة، وأجاد فيها فليراجع كتابه: دراسات في أصول المداينات، ط. دار الفاروق، ص 242 وما بعدها.
(2)
يراجع: لسان العرب مادة كلأ؛ وغريب الحديث لأبي عبيد: 1 / 20.
(3)
السنن الكبرى: 5 / 290.
(4)
قاعدة العقود – التي طبعت باسم نظرية العقد – ط. دار المعرفة: ص 234 – 235.
(5)
قاعدة العقود – التي طبعت باسم نظرية العقد – ط. دار المعرفة: ص 234 – 235.
(6)
قاعدة العقود: ط. دار المعرفة، ص 234 – 235.
(7)
نزيه حماد؛ أصول المداينات طبعة دار الفاروق، ص 245.
(8)
المهذب وشرحه المجموع: 9 / 272.
والمراد باستقرار الدين أن سببه قد تحقق فعلاً، وأمن من الفسخ كتسليم المبيع، أو يحقق الوطء في المهر، أو نحو ذلك كغرامة المتلف، وبدل العرض، وقيمة المغصوب، وعوض الخلع، وثمن المبيع، والأجرة بعد استيفاء المنفعة، والمهر بعد الدخول (1) .
ويسمى هذا النوع أيضًا بالاستبدال، والاعتياض، وهو جائز في جميع الديون المستقرة بالاتفاق، والثانية ما عدا دين السلم عند الجمهور – كما سبق – (2) .
ولكن يشترط في بيع الدين بالدين لمن هو عليه ملاحظة قواعد الصرف بحيث لو باع دينه الذي كان نقودًا بالنقود يشترط فيه التقابض في المجلس، ويدل على ذلك حديث ابن عمر في هذا الباب – ولكن إذا لم يكن من باب الصرف فيجوز البيع بتأجيل وغيره كبيع الدين بالعين، أو بالعكس (3) .
وهذا الحل يفيد كثيرًا في تصفية الديون بين الناس، وفي المصارفة في الذمة دون الحاجة إلى القبض الفعلي، وذلك بأن يكون لرجل دنانير في ذمة رجل آخر، وللآخر عليه ريالان فاصطرفا بما في ذمتهما جاز عند الأكثر منهم المالكية، والحنفية؛ أما اقتضاء أحد النقدين من الآخر ويكون صرفًا بعين، وذمة فهو جائز في قول أكثر أهل العلم، لحديث ابن عمر (4) . وذكر ابن القيم أن مسألة التقاص فيها غرض صحيح ومنفعة مطلوبة، لأن ذمتهما تبرأ من أسرها، وهي مطلوبة للشرع والعاقدين (5) .
جعل الدين الحال رأس مال في السلم:
وهذه المسألة نقل فيها الإجماع على عدم جوازه بناء على أنه داخل في بيع الكالئ بالكالئ (6) .
غير أن شيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم بينا أنه لا إجماع فيها، بل هي جائزة، قال ابن القيم:"وأما بيع الواجب بالساقط فكما لو أسلم عليه في كر حنطة بعشرة دراهم في ذمته فقد وجب له عليه دين، وسقط له عنه دين غيره، وقد حكى الإجماع على امتناع هذا، ولا إجماع فيه، قاله شيخنا واختار جوازه، وهو الصواب، إذ لا محذور فيه، وليس بيع كالئ بكالئ فيتناوله النهي بلفظه، ولا في معناه فيتناوله بعموم المعنى، فإن المنهي عنه قد اشتغلت فيه الذمتان بغير فائدة، فإنه لم يتعجل أحدهما ما يأخذه فينتفع بتعجيله، وينتفع صاحب المؤخر بربحه، بل كلاهما اشتغلت ذمته بغير فائدة، وأما ما عداه من الصور الثلاث فلكل منها غرض صحيح ومنفعة مطلوبة "(7) .
(1) المنثور في القواعد للزركشي، ط. وزارة الأوقاف الكويتية: 2 / 159 – 160؛ والأشباه والنظائر للسيوطي، ص 351؛ ود. نزيه حماد: أصول المداينات، ص 47.
(2)
يراجع: حاشية ابن عابدين: 4 / 166؛ والمدونة: 4 / 80؛ والمجموع للنووي: 9 / 274؛ والمغني لابن قدامة: 4 / 53؛ وقال النووي في المجموع: 9 / 274: "فيجوز الاستبدال عنه بلا خلاف، كما لو كان له في يد غيره مال بغصب، أو عارية فإنه يجوز بيعه له ".
(3)
فتح العزيز: 8 / 436؛ والمجموع: 9 / 274.
(4)
يراجع: بدائع الصنائع: 7 / 3155؛ ومجموع الفتاوى: 29 / 472؛ والمغني لابن قدامة: 4 / 530 – 540؛ ود. نزيه حماد، ص 146.
(5)
إعلام الموقعين، ط. شقرون: 2 / 8 – 9.
(6)
جاء في المغني: 4 / 329 – 330: " وإذا كان له في ذمة رجل دينارًا فجعله سلمًا في طعام إلى أجل لم يصح، قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من أحفظ عنه من أهل العلم؛ لأنه بيع دين بدين.
(7)
إعلام الموقعين: 2 / 8.
بيع الساقط بالواجب:
هذا مصطلح استعمله ابن القيم في تقسيم بيع الدين بالدين وأجازه، فقال:" والساقط بالواجب كما لو باعه دينًا له في ذمته بدين آخر من غير جنسه فسقط الدين المبيع ووجب عوضه، وهي بيع الدين ممن هو في ذمته ".
ثم بين فائدة هذا النوع للطرفين (1) .
لكن الفقهاء الذين أجازوا هذا النوع – وهم الحنفية، والحنابلة، ووجه للشافعية – اشترطوا لصحة بيع الدين ممن هو عليه بشيء موصوف في الذمة أن يقبض الدائن العوض قبل التفرق في المجلس حتى لا يقع في المنهي عنه من بيع الكالئ بالكالئ (2) .
هذا كله في الديون المستقرة، أما الديون التي لم يستقر ملك الدائن عليها لعدم قبض المدين العوض المقابل لها كالأجرة قبل استيفاء المنفعة، أو مضى زمانها، وكالمهر قبل الدخول، فهذه الديون اختلف الفقهاء في جواز تمليكها ممن هي عليه بعوض، والذي يظهر رجحانه هو جواز ذلك كما سبق في السلم.
تمليك الدين لغير المدين:
لخص الإمام الرافعي والنووي هذا الموضوع تلخيصًا طيبًا نذكره ثم نذكر آراء الفقهاء فيه وهو:
الدين في الذمة ثلاثة أضرب: مثمن، وثمن، ولا مثمن ولا ثمن (3) .
الضرب الأول – المثمن: وهو المسلم فيه فلا يجوز بيعه، ولا الاستبدال عنه، وهل تجوز الحوالة به أو عليه فيه ثلاثة أوجه.
الضرب الثاني – الثمن: فإذا باع بدراهم أو دنانير في الذمة، ففي الاستبدال عنها طريقان: أحدهما القطع بالجواز قاله القاضي أبو حامد وابن قطان، وأشهرهما على قولين: أصحهما وهو الجديد جوازه، والقديم منعه.
ولو باع في الذمة بغير الدراهم والدنانير فإن قلنا: الثمن ما ألصقت به الباء صح الاستبدال عنه كالنقدين، وادعى البغوي أنه المذهب وإلا فلا؛ لأن ما ثبت في الذمة مثمنًا لم يجز الاستبدال عنه.
وأما الأجرة فكالثمن، وأما الصداق وبدل الخلع فكذلك إن قلنا: إنهما مضمونان ضمان العقد، وإلا فهما كبدل الإتلاف.
(1) إعلام الموقعين: 2 / 8 – 9.
(2)
بدائع الصنائع: 7 / 3230؛ وكشاف القناع: 3/ 294؛ والمجموع: 9 / 274؛ ود. نزيه حماد: أصول المداينات طبعة دار الفاروق، ص 148.
(3)
ذكر الرافعي في الفتح: 8 / 431؛ والنووي في المجموع: 9 / 273 أن حقيقة الثمن مختلف فيها على ثلاثة أوجه: أحدها: أنه ما ألصق به الباء كقولك: بعت كذا بكذا، فالأول مثمن، والثاني ثمن. وهذا قول القفال. والثاني: أن الثمن هو النقد فقط. والثالث: أن الثمن هو النقد، والمثمن ما يقابله، فإن لم يكن في العقد نقد، أو كان العوضان نقدين فالثمن ما دخلت عليه الباء، والمثمن ما يقابله. ورجح الرافعي والنووي الوجه الثالث.
الضرب الثالث – ما ليس ثمنًا ولا مثمنًا: كدين القرض، والإتلاف فيجوز الاستبدال عنه بلا خلاف كما لو كان له في يد غيره مال بغصب، أو عارية فإنه يجوز بيعه له (1) .
وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على أربعة آراء:
الرأي الأول: جواز تمليك الدين بعوض وبغير عوض.
وهذا وجه للشافعية، ورواية للحنابلة (2) .
الرأي الثاني: عدم جواز تمليك الدين لغير من هو عليه بعوض أو بغير عوض.
وهذا رأي الحنفية، والشافعية في قول، والحنابلة في رواية، والظاهرية (3) غير أن الحنفية استثنوا بعض الحالات منها الوصية (4) .
الرأي الثالث: جواز بيع سائر الديون ما عدا دين السلم لغير من عليه الدين، وهذا قول للشافعية صححه جماعة من أئمتهم منهم الشيرازي، والنووي واختاره السبكي، والقاضي زكريا الأنصارى (5)، قال النووي:" أما بيعه لغيره كمن له على إنسان مائة فاشترى من آخر عبدًا بتلك المائة فلا يصح على الأظهر. . وعلى الثاني: يصح.. قلت: الأظهر الصحة والله أعلم "(6) .
الرأي الرابع: جواز بيع الدين لغير المدين إذا لم يكن فيه غرر، أو محظور شرعي آخر، جاء في شرح الخرشي:" والمعنى أن الدين ولو حالاً لا يجوز بيعه بدين، قال المؤلف: ولا بد من تقدم عمارة الذمتين، أو إحداهما، ويتصور في ثلاثة كمن له دين على شخص فيبيعه من ثالث بدين، وفي أربعة كمن له دين على إنسان، ولثالث دين على رابع فيبيع كل ما يملك من الدين بمال صاحبه من الدين. . . ولا يتصور بيع الدين بالدين في أقل من ثلاثة ".
ثم قال: " وفهم من قوله (بدين) عدم منع بيع الدين بمعين يتأخر قبضه، أو بمنافع معين. . . ولا يجوز للشخص بيع ما له على الغير من دين سواء كان حيًّا أو ميتًا ولو علم المشتري تركته، لأن المشتري لا يدري ما يحصل له بتقدير دين آخر إلا أن يكون من هو عليه حاضرًا بالبلد مقرًا، والدين مما يباع قبل قبضه لا طعامًا من بيع، وبيع من غير جنسه، وليس ذهبًا بفضة، ولا عكسه، وأن لا يكون بين المشتري والمدين عداوة، وأن لا يقصد المشتري إعنات المدين، وأما إن لم يقر فلا يجوز لأنه من شراء ما فيه خصومة"(7) .
والذي يظهر لنا رجحانه هو أن بيع الدين لمن هو عليه ولغيره جائز مع ملاحظة قواعد الصرف، وكون الدين ثابتًا مقدورًا عليه يمكن تسليمه بالفعل، أو عن طريق المصارفة في الذمة، وأن لا يكون فيه محظور شرعي آخر من جهالة فاحشة، وغرر ونحو ذلك. والله أعلم.
(1) نقلنا النص عنهما مع اختصار؛ فتح العزيز: 8 / 431 – 439؛ والمجموع: 9 / 273 – 275.
(2)
المنثور في القواعد للزركشي: 2 / 160؛ والمبدع: 4/ 199؛ ومجموع الفتاوى: 29 / 506.
(3)
حاشية ابن عابدين: 4/ 166؛ وبدائع الصنائع: 7 / 3104؛ والروضة: 3/ 514؛ والأشباه والنظائر للسيوطي، ص 331؛ والمحلى لابن حزم: 9 / 6، 117.
(4)
حاشية ابن عابدين: 4 / 116؛ ويراجع للمزيد د. نزيه حماد: أصول المداينات طبعة دار الفاروق، ص 158.
(5)
المهذب مع المجموع: 9 / 275؛ والروضة: 3 / 514؛ والأشباه والنظائر للسيوطي، ص331.
(6)
الروضة: 3 / 514.
(7)
شرح الخرشي على المختصر مع حاشية العدوي: 5 / 77 – 78.
الصلح عن دين بدين:
هذا له عدة صور:
منها أن يتصالح الدائن مع مدينه بأن يكون للمدين أيضًا دين آخر عليه من نفس جنسه، فيتصالحان بما في ذمتيهما سواء كان ما في ذمتيهما متساويين أم لا، وهذا بمثابة إسقاط من الطرفين، وإبراء، وتخارج.
ومنها: أن يتصالح الدائن مع مدينه في الذمة، وذلك بأن يصالحه على موصوف في الذمة من غير جنسه، (كأن يصالحه عن دينار في ذمته بأردب من قمح، أو نحوه في الذمة)(1) ، فهذا الصلح صحيح عند جمهور الفقهاء – الحنفية والمالكية، والحنابلة – إذا تم قبض البدل في المجلس قبل التفرق (2) .
وذهب الشافعية إلى أنه يشترط تعيين بدل الصلح في المجلس، ولا يشترط القبض في المجلس على أصح الوجهين (3) .
أما إذا كان بدل الصلح ليس في الذمة فيجوز مع تفصيل، ذكره النووي حيث قال:
" أما إذا كان صالح الدائن على دينه عن بعض الأموال التي يقع فيها الربا على ما يوافقه في العلة، فلا بد من قبض العوض في المجلس، فإن لم يكن العوضان ربويين، فإن كان العوض عينًا صح الصلح ولا يشترط قبضه في المجلس "(4) .
المقاصة:
حيث فصل الفقهاء فيها ولا سيما المالكية، وقالوا: إنها " إسقاط مالك من دين على غريمك في نظير ماله عليك بشروطه "(5) . أي بشروط الإسقاط.
والمقاصة قد تكون جائزة، وقد تكون واجبة، والغالب عليها الجواز، ووجوبها في ثلاث أحوال وهي:"إذا حل الدينان، أو اتفقا أجلاً، أو طلبها من حل دينه فإن المذهب وجوب الحكم بها "(6) .
وقد فصل علماء المالكية تفصيلاً للحالات التي يمكن أن تقع فيها المقاصة فبلغت ثماني وأربعين حالة، لخصها الدردير فقال:" واعلم أن الدينين إما من بيع، أو من قرض، أو مختلفين، وفي كل إما أن يكونا عينًا، أو طعامًا، أو عرضًا " قال الدسوقي: " فهذه تسعة أحوال، وفي كل إما أن يكون الدينان حالين، أو أحدهما حالاً، والآخر مؤجلاً، أو يكونا مؤجلين متفقين في الأجل، أو مختلفين فيه، فالجملة ست وثلاثون حالة " وعلق الشيخ محمد عليش على ذلك، فقال:" بل ثمانية وأربعون حالة، أسقط المحشي منها اثنتي عشرة صورة اختلافهما قدرًا وصفة، وحكمها حكم صور اختلاف القدر فقط "(7) .
(1) مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد، المادة (1628) .
(2)
تبيين الحقائق: 5 / 42؛ والتاج والإكليل للمواق: 5 / 81؛ والمغني: 4 / 534؛ ويراجع لمزيد من التفصيل د. نزيه حماد: أصول المداينات طبعة دار الفاروق، ص 260.
(3)
روضة الطالبين: 4 / 195 حيث قال: " وإن كان دينًا صح على الأصح، ولكن يشترط التعيين في المجلس، ولا يشترط القبض بعد التعيين على الأصح ".
(4)
الروضة: 4 / 195.
(5)
الشرح الكبير: 3 / 227.
(6)
الشرح الكبير: 3 / 227..
(7)
انظر الشرح الكبير للدردير، مع حاشية الدسوقي، وتقريرات الشيخ محمد عليش على الشرح؛ والحاشية: 3 / 227 فتجد فيها هذه الصور، من ص 227 إلى 231.
التصرف في دين السلم:
السلم كما هو معروف بيع شيء موصوف في الذمة إلى أجل معلوم بثمن معجل، أو أنه عقد على موصوف في الذمة، ويجوز أن يكون الثمن نقودًا أو غيرها، والمسلم فيه أي شيء يمكن ضبطه عن طريق الوصف، ويشترط فيه تعجيل الثمن في مجلس العقد عند الجمهور، وعدم تأخيره أكثر من ثلاثة أيام عند المالكية (1) ، وأن يكون الأجل معلومًا إما تحديدًا، أو حسب العرف كالحصاد والجذاذ، والمقدار محددًا وزنًا أو كيلاً، أو عددًا، أو ذرعًا، وأن يكون المسلم فيه مما ينضبط بالصفات التي يختلف الثمن باختلافها، وأن يكون مقدور التسليم عليه عند الحلول.
والسلم يمكن أن يكون في جميع السلع والمعادن، والحيوان والبضائع، وحتى في المنافع عند جماعة من الفقهاء، كما أنه يمكن تجزئة تسليم المسلم فيه على أوقات متفرقة معلومة، وأيضًا يمكن أن يكون سلمًا حالاً، أو مؤجلاً، وكذلك يمكن أن يكون رأس مال السلم نقدًا، أو سلعة، أو طعامًا، أو حيوانًا، أو نحو ذلك (2) .
والمقصود أن دائرة عقد السلم واسعة تسع كثيرًا من الأمور، ولذلك يمكن الإفادة منه في سوق المال الإسلامية إفادة كبيرة، باعتباره عقدًا فيه مرونة كبيرة، ويحقق كثيرًا من مصالح المجتمع، ومنافع للعاقدين، ولاسيما لمن لم يكن لديه السيولة، أو لديه الأعيان في المستقبل، أو هو قادر على توفيرها في الوقت المحدد، كما أن تداول عقود السلم يؤدي إلى نوع من الضمان، والتشجيع على الإنتاج المستقبلي في الزراعة والصناعة ونحوهما.
ففيه فائدة للمسلم (البائع) ، حيث يستفيد من السيولة المتحققة لديه للإنتاج الزراعي، أو الصناعي، أو التجارة، كما أن المسلم إليه (المشتري) يستفيد من تصريف نقوده وتدويرها واستثمار فائق أمواله من خلال رخص الثمن، وتحقيق الأرباح.
وإدارة سوق المال يمكن الإفادة منها من خلال تداول عقود السلم، وصكوكه، والسمسرة فيها، ونحو ذلك.
التصرفات في المسلم فيه:
تصرفات المسلم إليه في المسلم فيه إما أن تكون بعد القبض، أو قبله، ولذلك تنقسم إلى نوعين:
النوع الأول – التصرف في المسلم فيه بعد القبض:
فللمسلم إليه (المشتري) بعد قبض المسلم فيه (حسب العرف)(3) جميع التصرفات المشروعة من بيع عاجل، وآجل، ومرابحة، ومشاركة، وتولية، وتأجير، ورهن ونحو ذلك بدون خلاف، لأنه دخل في ملكه التام.
(1) يراجع لتفصيله: فتح القدير – ط. مصطفى، بالقاهرة: 7 / 69؛ وحاشية ابن عابدين: ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت: 4 / 203؛ والمدونة، ط. السعادة، مصر 1323هـ: 4 / 2؛ والمقدمات والممهدات: ط. دار الغرب الإسلامي: 2 / 19؛ والأم: ط. دار المعرفة – بيروت: 3 / 89؛ والغاية القصوى: ط. دار الاعتصام: 1 / 493؛ والروضة: ط. المكتب الإسلامي: 4 / 3؛ والمحلى لابن حزم: 10 / 45؛ والمغني: 4 / 3- 4.
(2)
المصادر السابقة؛ ويراجع: الغاية القصوى: 1 / 494؛ والمغني: 4 / 304.
(3)
يراجع قرار مجمع الفقه الإسلامي الموقر في تحديد القبض في دورته السادسة، وبحثنا عن القبض وصوره المعاصرة المقدم إلى تلك الدورة.
النوع الثاني – التصرف في المسلم فيه قبل القبض:
هذه المسألة تحتاج إلى تفصيل لأنها تحتمل عدة احتمالات:
الاحتمال الأول: التصرف فيه عن طريق الاعتياض عنه ممن عليه السلم.
الاحتمال الثاني: بيع المسلم فيه لشخص آخر.
الاحتمال الثالث: التصرف في المسلم فيه بالمشاركة، والحوالة، والتولية، ونحو ذلك.
الاحتمال الرابع: أن ينفسخ عقد السلم بالإقالة أو نحوها، فهل يجوز أن يصرف الثمن في عوض آخر غير المسلم فيه؟
ومجمع الفقه الإسلامي تحدث في قراره في دورته السابعة عن حالة واحدة وهي: "عدم جواز بيع السلعة المشتراة قبل قبضها"؛ لذلك أرى إعادة الموضوع بكامله وطرحه على بساط البحث والمناقشة للوصول إلى رؤية شاملة واضحة.
وهأنذا أعرض هذا الموضوع بجميع جوانبه واحتمالاته وما ثار فيه من خلاف، وما نراه راجحًا على ضوء ما يأتي:
الاحتمال الأول: الاعتياض عن المسلم فيه من المسلم نفسه عند حلول الأجل:
وقد فصل شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم (رحمهما الله) في هذه المسألة؛ ننقل منهما بعض النصوص (1) :
جاء في مجموع الفتاوى: "سئل – رحمه الله – عن رجل أسلف خمسين درهمًا في رطل من حرير إلى أجل معلوم، ثم جاء الأجل فتعذر الحرير، فهل يجوز أن يأخذ قيمة الحرير؟ أو يأخذ عوضه أي شيء كان؟
فأجاب: " هذه المسألة فيها روايتان عن الإمام أحمد: إحداهما: لا يجوز الاعتياض عن دين السلم بغيره كقول الشافي.
والقول الثاني: يجوز ذلك، كما يجوز في غير دين السلم وفي المبيع من الأعيان وهو مذهب مالك، وقد نص على هذا في غير موضع، وجعل دين السلم كغيره من المبيعات، فإذا أخذ عوضًا غير مكيل، ولا موزون يقدر دين السلم حين الاعتياض لا بزيادة على ذلك، أو أخذ نوعه يقدره مثل أن يسلم في حنطة فيأخذ شعيرًا بقدر الحنطة، فإنه يجوز، وقد ذكر ذلك طائفة من الأصحاب، لكن في بعض الصور. .. روايتان ".
ثم قال: " وأما المطلعون على نصوص أحمد فذكروا ما هو أعم من ذلك، وأنه يجوز الاعتياض عن دين السلم بغير المكيل والموزون مطلقًا. . . وكذلك إن أخذ قيمته مما لا يكال، ولا يوزن كيف شاء. . . ".
ثم ذكر أن بعض الروايات قيدت بأن لا يأخذ مكان المسلم فيه إلا بقيمته أو أنقص منها، وهذا هو قول ابن عباس رضي الله عنهما (2) . وجاء في المجموع أن السلم إذا فسخ لانقطاع المسلم فيه كان لصاحب رأس المال بيعه قبل استرداده (3) .
وقد استدل المانعون بعدة أدلة أهمها ما يأتي:
1-
ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره)) (4) .
(1) مجموع الفتاوى: 29 / 503 – 519؛ وشرح سنن أبي داود لابن القيم، بهامش عون المعبود: 9 / 353. . .
(2)
مجموع الفتاوى: 19 / 503 – 518.
(3)
المجموع للنووي: 9 / 266.
(4)
الحديث رواه أبو داود: الحديث رقم 3451؛ عون المعبود: 9 / 353؛ وابن ماجه: 2 / 766: الحديث رقم: 2283؛ والبيهقي: 6 / 25؛ والدارقطني: 308.
2-
أن هذا يدخل في بيع الشيء قبل قبضه، وهذا لا يجوز، لأنه يدخل ضمن النهي عن ربح ما لم يضمن.
يقول ابن تيمية: " فإن علته في منع بيع دين السلم كونه مبيعًا فلا يباع قبل القبض"(1) ثم بين بأن مبنى ذلك على ما رواه ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم ((نهى عن بيع الطعام قبل قبضه)) ، وقال:((ولا أحسب كل شيء إلا بمنزلة الطعام)) (2) .
3-
الإجماع حيث ذكر صاحب المغني الإجماع على ذلك فقال: " أما بيع المسلم فيه قبل قبضه فلا نعلم في تحريمه خلافًا"(3) .
وهذه الأدلة كلها مجال للنقاش والرد والبدل على ضوء ما يأتي:
1-
فبالنسبة للدليل الأول (الحديث) فهو:
أولاً: ضعيف لا ينهض حجة في مثل هذه القضايا، حيث في سنده عطية بن سعد وهو كما قال عبد الحق في أحكامه: لا يحتج به، وقد ضعفه أحمد، وغيره، وقال ابن عدي: وهو مع ضعفه يكتب حديثه، وقال مسلم بن الحجاج: قال أحمد: وذكر عطية العوفي فقال: هو ضعيف، ثم قال: بلغني أن عطية كان يأتي الكلبي ويسأله عن التفسير وكان يكنيه بأبي سعيد فيقول: قال أبو سعيد وكان هشيم يضعف حديث عطية، وقال أبو حاتم: ضعيف يكتب حديثه، وقال النسائي: هو ضعيف، وذكر ابن عدي: أن عطية مع أهل البدعة، وذكره ابن حبان في الضعفاء، وذكر أنه كان يسمع أحاديث من الكلبي ويرويها فإذا قيل: من حدثك بهذا؟ فيقول: حدثني أبو سعيد، فيتوهمون أنه يريد أبا سعيد الخدري، وإنما أراد الكلبي، قال ابن حبان: لا يحل كتب حديثه إلا على التعجب" (4) .
فرجل هذا حاله كيف يؤخذ منه أحاديث الأحكام؟ لذلك فالحديث ضعيف لا ينهض حجة، لأن مداره على رجل (مجمع على ضعفه)(5) .
ثانيًا: أن الحديث – على فرض ثبوته – ليس نصًا على الدعوى، حيث يحتمل أكثر من معنى فقد قال الطيبي:" يجوز أن يرجع الضمير في (غيره) إلى (من) في قوله " من أسلف" يعني لا يبيعه من غيره قبل القبض، أو إلى شيء أي لا يبدل المبيع قبل القبض بشئ آخر "(6) .
وقد أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذا الحديث بجوابين أحدهما أنه ضعيف، ثم قال:" والثاني: المراد به أن لا يجعل السلف سلمًا في شيء آخر فيكون معناه النهي عن بيعه بشيء معين إلى أجل وهو من جنس بيع الدين بالدين، ولهذا قال: " لا يصرفه إلى غيره " أي لا يصرف المسلم فيه إلى مسلم فيه آخر، ومن اعتاض عنه بغيره قابضًا للعوض لم يكن قد جعله سلمًا في غيره"(7) .
(1) مجموع الفتاوى: 29 / 505.
(2)
الحديث رواه البخاري في صحيحه – مع الفتح – كتاب البيوع، باب بيع الطعام قبل أن يقبض: 4 / 349؛ ومسلم: 3 / 1159.
(3)
المغني لابن قدامة: 4 / 334.
(4)
انظر تهذيب التهذيب: ط. دار صادر بيروت: 7 / 224 – 226؛ والمغني في الضعفاء، ط. قطر: 1 / 617.
(5)
قال الذهبي في المغني: 1 / 617 عطية بن سعد العوفي الكوفي تابعي مشهور، مجمع على ضعفه، وقال الحافظ ابن حجر في التلخيص: 3 / 225 وهو – أي هذا الحديث – ضعيف، وأعله أبو حاتم، والبيهقي وعبد الحق، وابن القطان بالضعف والاضطراب.
(6)
عون المعبود: 9 / 354.
(7)
مجموع الفتاوى: ط. الرياض: 29 / 17 حـ؛ ويراجع كذلك شرح ابن القيم على سنن أبي داود: 9 / 355.
ثالثًا: أن الحديث رواه الدارقطني بلفظ آخر ليس فيه ما يدل عليه اللفظ السابق، وهو " من أسلف في شيء فلا يأخذ إلا ما أسلم فيه، أو رأس ماله "(1) ، فهذا اللفظ ليس فيه النهي عن صرفه إلى غيره، لكن الحديث ضعيف جدًا، ومضطرب ومعلول كما قال الحافظ ابن حجر وغيره (2) ، فلا ينهض حجة.
2-
وأما البيع قبل القبض – كقاعدة عامة – ستأتي مناقشته فيما بعد عند كلامنا عن بيع المسلم فيه لغير المسلم.
3-
وأما الإجماع الذي ادعاه صاحب المغني ابن قدامة، فقد رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية فقال:" وأما ما ذكره الشيخ أبو محمد في (مغنيه) ، قال: "بيع المسلم فيه قبل قبضه لا نعلم في تحريمه خلافًا" فقال: رحمه الله، بحسب ما علمه، وإلا فمذهب مالك أنه يجوز بيعه من غير المستسلف، كما يجوز عنده بيع سائل الديون من غير من هو عليه، وهذا أيضًا إحدى الروايتين عن أحمد نص عليه في مواضع بيع الدين من غير من هو عليه، كما نص على بيع دين السلم ممن هو عليه، وكلاهما منصوص عن أحمد في أجوبة كثيرة من أجوبته، وإن كان ذلك ليس في كتب كثير من متأخري أصحابه، وهذا القول أصح، وهو قياس أصول أحمد "(3) .
وإذا كان هذا هو القول الأصح للإمام أحمد، فلنذكر رأي المالكية في هذه المسألة: جاء في المدونة: " قلت: فإن كنت أسلفت في شعير، فلما حل الأجل أخذت سمراء، أو محمولة؟ قال: لا بأس بذلك وهو قول مالك، قلت: ولا ترى هذا بيع الطعام قبل أن يستوفى؟ قال: لا إذا حل الأجل فأخذت بعض هذا من بعض مثل الذي ذكرت لي، أخذت مثل كيله، فإنما هذا بدل، وليس هذا بيع الطعام قبل أن يستوفى "(4) .
ثم ذكر أن هذا " إنما يجوز بعد محل الأجل، أن يبيعه من صاحبه الذي عليه السلف، ولا يجوز أن يبيعه من غير صاحبه الذي عليه السلم. . . حتى يقبضه من الذي عليه السلف، لأنه إن باعه من غير الذي عليه ذلك بمثل كيله وصفته صار حوالة، والحوالة عند مالك بيع من البيوع فلذلك لا يجوز أن يحتال بمثل ذلك الطعام الذي سلف فيه على غير الذي عليه السلف، لأنه يصير دينًا بدين وبيع الطعام قبل أن يستوفى "(5) .
هذا في السلم في الطعام حيث يجوز الاعتياض عنه إلا ممن عليه السلم، ويكون بعد حلول الأجل، أما قبل حلول الأجل فتجوز الإقالة، وحينئذ يكون له الحق أن يأخذ رأس ماله، أو الطعام الذي أسلم فيه (6) .
(1) الدارقطني: 308.
(2)
تلخيص الحبير: 3 / 25.
(3)
مجموع الفتاوى: 29 / 506؛ وقد سرد ابن القيم في شرح سنن أبي داود – بهامش عون المعبود: 9 / 353 – مجموعة من أجوبة أحمد وأصحابه منها أن القاضي قال: نقلت من خط أبي حفص في مجموعه: " فإن كان ما أسلم فيه مما يكال أو يوزن فأخذ من غير نوعه مثل كيله مما هو دونه في الجودة جاز، وكذلك إن أخذ بثمنه مما لا يكال، ولا يوزن كيف شاء ". . . ومنها ما قال حرب: سألت أحمد: فقلت: رجل أسلم إلى رجل دراهم في بر، فلما حل الأجل لم يكن عنده بر، فقال قوم: الشعير بالدراهم فخذ من الشعير. . مثل كيل البر، أو أنقص ".
(4)
المدونة: 4 / 34.
(5)
المدونة: 4 / 34 – 35.
(6)
المدونة: 4 / 59، 69.
فالاعتياض عن الطعام يجوز عند مالك ممن عليه السلم، ولكنه لا يجوز بيعه قبل القبض (1) .
أما غير الطعام فيجوز بيعه لغير المسلم مطلقًا أما ممن له فلا يجوز قبل حلول الأجل بأكثر، جاء في المدونة في كتاب السلم:"قلت أرأيت إن أسلمت في طعام معلوم. . . أيجوز لي أن أبيع ذلك الطعام. . . قبل أن أقبضه؟ قال: لا يجوز ذلك في قول مالك. قلت: وما سوى الطعام والشراب مما سلفت فيه كيلاً أو وزنًا فلا بأس أن أبيعه قبل أن أقبضه من الذي باعني، أو من غيره؟ قال: قال مالك: " لا بأس أن تبيع ما سلفت فيه إذا كان من غير ما يؤكل ويشرب من غير الذي عليه ذلك السلف بأقل أو بأكثر، أو بمثل ذلك إذا انتقدت، وأما الذي عليه ذلك السلف فلا تبعه منه قبل الأجل بأكثر، ولا تبعه منه إلا بمثل الثمن، أو بأقل، ويقبض ذلك " (2) .
وجاء في الشرح الكبير: " وجاز بلا جبر قبل زمانه أي أجل المسلم فيه قبول صفته – أي موصوفها فقط لا أوفى ولا أجود، ولا أقل ولا أكثر. . . قبل محله إلا الموضع الذي اشترط فيه القبض أو موضع العقد عند عدم الشرط فيجوز في العرض مطلقًا حل الأجل أم لا، وفي الطعام إن حل ".
وعلق الدسوقي على ذلك بأن في العرض والطعام قولين " أحدهما لابن القاسم، وأصبح الجواز قبل محله بشرك الحلول فيهما. والثاني لسحنون واختاره ابن زرقون: الجواز قبل محله وإن لم يحل فيهما "(3) .
وجاء فيه أيضًا: " وجاز قضاؤه ولو قبل الأجل بغير جنسه، أي المسلم فيه بشروط أربعة" وهي: إن جاز بيعه قبل قبضه كسلم ثوب في حيوان فأخذ عنه دراهم، إذ يجوز بيع الحيوان قبل قبضه، وثانيها: قوله: وجاز بيعه أي المأخوذ عن المسلم فيه بالمسلم فيه مناجزة كدراهم في ثوب أخذ عنه طشت نحاس، إذ يجوز بيع الطشت بالثوب يدًا بيد. . . والثالث قوله: وأن يسلم فيه – أي في المأخوذ- رأس المال، كالمثال المتقدم، إذ يجوز سلم الدراهم في طشت نحاس، والرابع أن يعجل المأخوذ ليسلم من نسخ الدين في دين " (4) .
وجاء في بداية المجتهد: "اختلف العلماء في بيع المسلم فيه إذا حان الأجل من المسلم إليه فمن العلماء من لم يجز ذلك أصلاً، وهم القائلون بأن كل شيء لا يجوز بيعه قبل قبضه. . . وأما مالك فإنه منع شراء المسلم فيه قبل قبضه في موضعين:
أحدهما: إذا كان المسلم فيه طعامًا. . .
والثاني: إذا لم يكن المسلم فيه طعامًا فأخذ عوضه المسلم ما لا يجوز أن يسلم فيه رأس ماله. . . ".
ثم قال: " وأما بيع السلم من غير المسلم إليه فيجوز بكل شيء يجوز التبايع به ما لم يكن طعامًا، لأنه لا يدخله بيع الطعام قبل قبضه (5) .
الخلاصة: أن مالكًا أجاز الاعتياض عن المسلم فيه ممن هو عليه السلم إلا الطعام حيث لا يجوز فيه بيعه قبل قبضه، وهذا رواية عن أحمد، وفي رواية أخرى أجاز بيع المكيل والموزون بغير المكيل والموزون، وكذلك الاعتياض عن المكيل والموزون أو بالعكس، إذا كان يقدره (6) .
(1) المدونة: 4 / 59، 87.
(2)
المدونة: 4 / 87.
(3)
الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 3 / 219.
(4)
الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 3 / 219.
(5)
بداية المجتهد: ط. مصطفى الحلبي: 2 / 206.
(6)
مجموع الفتاوى: 29 / 511.
وأما الدليل على جواز الاعتياض عن المسلم فيه ممن عليه السلم فهو ما يأتي:
1-
الاستدلال بالحديث الثابت الذي يرويه ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: " كنت أبيع الإبل بالنقيع – بالنون سوق المدينة وبالباء مقبرتها – فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة، فقلت يا رسول الله: رويدك، أسألك إني أبيع الإبل بالنقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء)) "(1) .
وقد اعتبر شيخ الإسلام هذا الحديث دليلاً على جواز الاعتياض عن المسلم فيه فقال: "والدليل على ذلك أن الثمن يجوز الاعتياض عنه قبل قبضه بالسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم. . . فقد جوز النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتاضوا عن الدين الذي هو الثمن بغيره مع أن الثمن مضمون على المشتري لم ينتقل إلى ضمان البائع، فكذلك المبيع الذي هو دين السلم يجوز بيعه وإن كان مضمونًا على البائع لم ينتقل إلى ضمان المشتري، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يجوز الاعتياض عنه إذا كان بسعر يومه لئلا يربح فيما لم يضمن"(2)، ثم ختم كلامه بقوله: " والصواب الذي عليه جمهور العلماء. . . أنه يجوز بيع الدين ممن هو عليه، لأن ما في الذمة مقبوض للمدين، لكن إن باعه بما لا يباع به نسيئة اشترط فيه الحلول والقبض لئلا يكون ربا، وكذلك إذا باعه بموصوف في الذمة، وإن باعه بغيرهما ففيه وجهان:
أحدهما: لا يشترط، كالاشتراط في غيرهما.
والثاني يشترط، لأن تأخير القبض نسيئة كبيع الدين بالدين، ومالك لم يجوز بيع دين السلم إذا كان طعامًا، لأنه بيع، وأحمد جوز بيعه وإن كان طعامًا أو مكيلاً، أو موزونًا من بائعه إذا باعه بغير مكيل، أو موزون، لأن النهي عن بيع الطعام قبل قبضه هو في الطعام المعين، وأما في الذمة فالاعتياض عنه من جنس الاستيفاء، وفائدته سقوط ما في ذمته عنه، لا حدوث ملك له، فلا يقاس هذا بهذا، فإن البيع المعروف هو أن يملك المشتري ما اشتراه، وهنا لم يملك شيئًا، بل سقط الدين من ذمته، وهذا لو وفَّاه ما في ذمته لم يقل: إنه باعه دراهم بدراهم، بل يقال أوفاه حقه، بخلاف ما لو باعه دراهم معينة بدراهم معينة فإنه بيع، فلما كان في الأعيان إذا باعها بجنسها لم يكن بيعًا، فكذلك إذا وفاها من غير جنسها لم يكن بيعًا بل هو إيفاء فيه معنى المعاوضة " (3) .
(1) الحديث رواه أحمد في مسنده: 2 / 82، 154؛ وأبو داود في سننه – مع عون المعبود – كتاب البيع: 9 / 203؛ وابن ماجه في سننه لكنه بدون (سعر يومها) ؛ كتاب التجارات: 2 / 70؛ والدارمي: 2 / 174؛ والنسائي، البيوع: 7 / 281؛ قال النووي في المجموع: 9 / 273: "حديث ابن عمر صحيح رواه أبو داود والترمذي، والنسائي، وآخرون بأسانيد صحيحة عن سماك بن حرب عن سعيد عن ابن عمر "، ثم ذكر بأن الحديث إذا روي مرفوعًا، وموقوفًا، ومرسلا كان محكومًا بوصله ورفعه على المذهب الصحيح الذي قاله الفقهاء والاًصوليون ومحققو المحدثين من المتقدمين والمتأخرين ".
(2)
مجموع الفتاوى: 29 / 510.
(3)
مجموع الفتاوى، 29 / 512.
ومما يدل على تسامح أكثر في بيع اعتياض دين السلم من المسلم إليه أن ابن عباس الذي لم يجوز بيع المبيع قبل قبضه مطلقًا (1) أجاز بيع دين السلم ممن هو عليه إذا لم يربح، حتى أنه لم يفرق بين الطعام وغيره، ولا بين المكيل والموزون وغيرهما، قال ابن تيمية:" لأن البيع هنا من البائع الذي هو عليه، وهو الذي يقبضه من نفسه لنفسه، بل ليس هنا قبض، لكن يسقط عنه ما في ذمته فلا فائدة في أخذه منه، ثم إعادته إليه، وهذا من فقه ابن عباس"(2) .
2-
بل إن شيخ الإسلام ذكر في توضيح الرأي القائل بجواز الاعتياض عنه سواء تعذر المسلم فيه أم لا (3) : أن قول ابن عباس في جواز ذلك لا يعرف له في الصحابة مخالف، وذلك لأن السلم دين ثابت فجاز الاعتياض عنه كبدل القرض، وكالثمن في المبيع، ولأنه أحد العوضين في البيع فجاز الاعتياض عنه كالعوض الآخر ما دام بسعر يوم الاعتياض (4) .
قال ابن القيم: " قال ابن المنذر: ثبت عن ابن عباس أنه قال: " إذا أسلفت في شيء إلى أجل، فإن أخذت ما أسلفت فيه، وإلا فخذ عوضًا أنقص منه لا تربح مرتين" رواه شعبة، فهذا صحابي، وهو حجة ما لم يخالف ".
ثم قال: " والذين منعوا جواز بيعه لمن هو في ذمته قاسوه على السلم، وقالوا: لأنه دين فلا يجوز بيعه كدين السلم، وهذا ضعيف من وجهين:
أحدهما: أنه قد ثبت في حديث ابن عمر جوازه، (حيث يدل على جواز بيع للثمن ممن هو في ذمته قبل قبضه، فما الفرق بينه وبين الاعتياض عن دين أسلم بغيره) ؟
(1) صحيح البخاري: مع الفتح: 4 / 349.
(2)
مجموع الفتاوى: 29 / 514.
(3)
جاء هذا في جواب سؤال هذا نصه: " وسئل عن الرجل يسلم في شيء فهل له أن يأخذ من المسلم إليه غيره، كمن أسلم في حنطة، فهل له أن يأخذ بدلها شعيرًا سواء تعذر المسلم فيه أم لا"؟ مجموع الفتاوى: 29 / 518.
(4)
مجموع الفتاوى: 29 / 519.
والثاني: أن دين السلم غير مجمع على منع بيعه – كما سبق -.
والذين فرقوا بين دين السلم وغيره لم يفرقوا بفرق مؤثر، والقياس التسوية بينهما (1) . بحيث ينقطع طعمه في الفسخ، ولا يتمكن من الامتناع من الإقباض إذا رأى المشتري قد ربح فيه لم يطرد النهي في بيعه من بائعه قبل قبضه لانتفاء هذه العلة في حقه. وهذه العلة أظهر وتوالي الضمانين ليس بعلة مؤثرة ولا تنافي بين كون العين الواحدة مضمونة له من وجه وعليه من وجه آخر، فهي مضمونة له وعليه باعتبارين. وأي محذور في هذا؟ كـ منافع الإجارة. فإن المستأجر له أن يؤجر ما استأجره، فتكون المنفعة مضمونة له وعليه، وكالثمار بعد بدو صلاحها له أن يبيعها على الشجر، وإن أصابتها جائحة رجع على البائع فهي مضمونة له وعليه ونظائره كبيرة.
وأيضًا فبيعه من بائعة شبيه بالإقالة وهي جائزة قبل القبض على الصحة.
وأيضًا فدين السلم تجوز الإقالة فيه بلا نزاع، وبيع المبيع لبائعه قبل قبضه غير جائز في أحد القولين.
فعلم أن الأمر في دين السلم أسهل منه في بيع الأعيان. فإذا جاز في الأعيان أن تباع لبائعها قبل القبض فدين السلم أولى بالجواز، فكما جازت الإقالة فيه قبل القبض اتفاقًا بخلاف الإقالة في الأعيان.
ومما يوضح ذلك: أن ابن عباس لا يجوز بيع المبيع قبل قبضه، واحتج عليه بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه وقال:((أحسب كل شيء بمنزلة الطعام)) ، ومع هذا فلقد ثبت عنه أنه جوز بيع دين السلم ممن هو عليه إذا لم يربح فيه. ولم يفرق بين الطعام وغيره، ولا بين المكيل والموزون وغيرهما؛ لأن البيع هنا من البائع الذي هو في ذمته. فهو يقبضه من نفسه لنفسه، بل في الحقيقة ليس هنا قبض، بل يسقط عنه ما في ذمته فتبرأ ذمته وبراءة الذمم مطلوبة في نظر الشرع، لما في شغلها من المفسدة، فكيف يصح قياس هذا على بيع شيء غير مقبوض لأجنبي لم يتحصل بعد، ولم تنقطع علق بائعه عنه؟
وأيضًا: فإنه لو سلم المسلم فيه، ثم أعاده إليه جاز. أي فائدة في أخذه منه. ثم إعادته إليه، وهل ذلك إلا مجرد كلفة ومشقة لم تحصل بها فائدة؟
ومن هنا يعرف فضل علم الصحابة وفقههم على كل من بعدهم.
(1) شرح سنن أبي داود للحافظ ابن القيم، بهامش عون المعبود: 9 / 356.
قالوا: وأما استدلالكم بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن: فنحن نقول بموجبه، وأنه لا يربح فيه، كما قال ابن عباس:(خذ عرضًا بأنقص منه، ولا تربح مرتين) .
فنحن إنما نجوز له أن يعاوض عنه بسعر يومه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر في بيع النقود في الذمة:((لا بأس إذا أخذتها بسعر يومها)) فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما جوز الاعتياض عن الثمن بسعر يومه لئلا يربح فيما لم يضمن.
وقد نص أحمد على هذا الأصل في بدل العوض وغيره من الديون أنه إنما يعتاض عنه بسعر يومه لئلا يربح فيما لم يضمن.
وكذلك قال مالك: يجوز الاعتياض عنه بسعر يومه كما قال ابن عباس لكنَّ مالكًا يستثني الطعام خاصة، لأن من أصله أن بيع الطعام قبل قبضه لا يجوز بخلاف غيره.
وأما أحمد: فإنه فرق بين أن يعتاض عنه بعرض أو حيوان أو نحوه، دون أن يعتاض بمكيل أو موزون. فإن كان بعرض ونحوه جوزه بسعر يومه، كما قال ابن عباس ومالك، وإن اعتاض عن المكيل بمكيل، أو عن الموزون بموزون، فإنه منعه لئلا يشبه بيع المكيل بالمكيل من غير تقابض، إذ كأن لم توجد حقيقة التقابض من الطرفين. ولكن جوزه إذا أخذ بقدره مما هو دونه، كالشعير عن الحنطة، نظرًا منه إلى أن هذا استيفاء لا معاوضة، كما يستوفى الجيد عن الرديء. ففي العرض جوز المعاوضة، إذ لا يشترط هناك تقابض. وفي المكيل والموزون: منع المعاوضة، لأجل التقابض، وجوز أخذ قدر حقه أو دونه. لأنه استيفاء. وهذا من دقيق فقهه – رضي الله عنه.
قالوا: وأما قولكم: إن هذا الدين مضمون له، فلو جوزنا بيعه لزم توالي الضمانين فهو دليل باطل من وجهين.
أحدهما: أنه لا توالي ضمانين هنا أصلاً، فإن الدين كان مضمونًا له في ذمة المسلم إليه، فإذا باعه إيَّاه لم يصر مضمونًا عليه بحال. لأنه مقبوض في ذمة المسلم إليه، فمن أي وجه يكون مضمونًا على البائع؟ بل لو باعه لغيره لكان مضمونًا له على المسلم إليه ومضمونًا عليه للمشتري وحينئذ فيتوالى ضمانان.
الجواب الثاني: أنه لا محذور في توالي الضمانين، وليس بوصف مستلزم لمفسدة يحرم العقد لأجلها. وأين الشاهد من أصول الشرع لتأثير هذا الوصف؟ وأي حكم علق الشارع فساده على توالي الضمانين؟ وما كان من الأوصاف هكذا فهو طردي لا تأثير له.
وقد قدمنا ذكر الصور التي فيها توالي الضمانين. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جوز المعاوضة عن ثمن المبيع في الذمة ولا فرق بينه وبين دين السلم.
قالوا: وأيضًا فالمبيع إذا تلف قبل التمكن من قبضه كان على البائع أداء الثمن الذي قبضه من المشتري، فإذا كان هذا المشتري قد باعه فعليه أداء الثمن الذي قبضه من المشتري الثاني، فالواجب بضمان هذا غير الواجب بضمان الآخر. فلا محذور في ذلك.
وشاهده: المنافع في الإجارة والثمرة قبل القطع. فإنه قد ثبت بالسنة الصحيحة التي لا معارض لها: وضع الثمن عن المشتري إذا أصابتها جائحة، ومع هذا يجوز التصرف فيها، ولو تلفت لصارت مضمونة عليه بالثمن الذي أخذه، كما هي مضمونة له بالثمن الذي دفعه.
قالوا: وأما قولكم: إن المنع منه إجماع، فكيف يصح دعوى الإجماع مع مخالفة حبر الأمة ابن عباس، وعالم المدينة مالك بن أنس؟
فثبت أنه لا نص في التحريم، ولا إجماع ولا قياس، وأن النص والقياس يقتضيان الإباحة كما تقدم والواجب عند التنازع: الرد إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم".
3-
أن الأصل في العقود أنها تنعقد بمجرد الإيجاب والقبول – مع توافر الشروط المطلوبة – فإذا انعقد العقد تحققت التزامات الطرفين، ويجب الوفاء بها تنفيذًا لقوه تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] .
الاحتمال الثاني: بيع المسلم فيه لشخص آخر قبل القبض:
لقد ثار خلاف كبير في بيع المبيع قبل القبض يمكن إرجاعه إلى ثلاثة اتجاهات وهي:
الاتجاه الأول: يرى عدم جواز بيع المبيع قبل قبضه مطلقًا سواء كان المعقود عليه طعامًا أم غيره وسواء أكان مكيلاً أم موزونًا، عقارًا أو منقولاً.
وهذا مذهب الشافعي وأكثر أصحابه (1) وأحمد في رواية (2) ومحمد بن عبد الحق وزفر من الحنفية (3) ، والظاهرية (4) ، والزيدية (5) ، ورواية للإمامية (6) ، والإباضية في المشهور عنهم (7) ، وروي ذلك عن ابن عباس، وجابر بن عبد الله وسعيد بن المسيب في رواية عنه، وسفيان الثوري (8) .
الاتجاه الثاني: يرى جواز بيع المبيع، وكل تصرف فيه مطلقًا، وهذا رأي عطاء بن أبي رباح، وعثمان البتي (9) ، ورأي للإمامية (10) .
الاتجاه الثالث: يرى التوسط والتفصيل، وأصحاب هذا الاتجاه مختلفون على خمسة آراء حيث ذهب أكثرهم إلى عدم جواز بيع الطعام قبل قبضه، وإلى جواز ما عداه، وهذا رأي مالك في المشهور عنه (11) وأحمد في رواية عنه (12) واختيار أبي ثور وابن المنذر (13) وإليه أشار البخاري في صحيحه (14) .
وهذا الرأي هو الذي يدعمه الدليل (15)، وقد قال الحافظ ابن المنذر:" هو أصح المذاهب. . . "(16) .
هذا هو الخلاف في بيع الشيء قبل قبضه بصورة عامة، وهل هذا الخلاف يجري في بيع المسلم فيه قبل قبضه؟
إنه من الثابت في كتب المالكية والحنابلة أن مذهب مالك على جوازه فيما عدا الطعام (17) ، وكذلك نص عليه أحمد (18)، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:" فمذهب مالك أنه يجوز بيعه من غير المستسلف، كما يجوز عنده بيع سائر الديون من غير من هو عليه، وهذا أيضًا إحدى الروايتين عن أحمد، نص عليه في مواضع بيع الدين من غير من هو عليه، كما نص على بيع دين السلم ممن هو عليه، وكلاهما منصوص عن أحمد في أجوبة كثيرة من أجوبته. . . وهذا القول أصح، وهو قياس أصول أحمد (19) ثم قال: " والمقصود أن أصل أحمد ومالك جواز التصرف، وأنه يوسع في البيع قبل انتقال الضمان إلى المشتري، بخلاف أبي حنيفة والشافعي، والرواية الأخرى عن أحمد " (20) .
وأصل الخلاف يعود إلى مسألة الضمان هل هو من ضمان البائع، أم من ضمان المشتري، وهل ذلك الضمان يمنع المشتري من التصرف فيه؟
فمالك وأحمد في المشهور عنه ومن معهم قالوا: إن ما تمكن المشتري من قبضه فهو من ضمانه، وأن المشتري يستطيع أن يتصرف في المبيع قبل التمكن من قبضه، لأن ضمان البائع له لا يمنع تصرف المشتري الذي انتقلت إليه ملكية المبيع والمسلم فيه بمجرد العقد، قال ابن تيمية:"فظاهر مذهب أحمد أن جواز التصرف فيه ليس ملازمًا للضمان ولا مبنيًّا عليه، بل قد يجوز التصرف فيه حيث يكون من ضمان البائع كما ذكر في الثمرة، وصنائع الإجارة، وبالعكس كما في الصبرة المعينة"(21) .
(1) الأم: 3 / 60؛ والمجموع للنووي: 9 / 264 – 275.
(2)
المغني لابن قدامة: 4 / 121 – 123.
(3)
بدائع الصنائع: 7 / 3100؛ وفتح القدير: 7 / 22.
(4)
المحلى لابن حزم: 9 / 592.
(5)
البحر الزخار: 4 / 311.
(6)
المختصر النافع، ص 148.
(7)
شرح النيل: 8 / 59.
(8)
المصنف لعبد الرزاق: 8 / 38 – 44؛ والمحلى: 9 / 594؛ والمغني: 4 / 121.
(9)
المحلى: 8 / 597؛ والمغني: 4 / 220؛ وشرح ابن القيم على السنن: 9 / 382.
(10)
المختصر النافع، ص 148.
(11)
المدونة: 4 / 90.
(12)
المغني: 4 / 120؛ ومجموع الفتاوى: 29 / 398؛ وشرح ابن القيم على سنن أبي داود: 392/9
(13)
المغني: 4 / 121 – 123.
(14)
حيث ترجم البخاري في صحيحه: باب بيع الطعام قبل أن يقبض: 4 / 349؛ وباب إذا اشترى متاعًا، أو دابة، فوضعه عند البائع أو مات قبل أن يقبض: 4 / 351.
(15)
يراجع في تفصيل الأدلة والآراء: بحثنا عن القبض وصوره المعاصرة المقدم إلى مجمع الفقه الموقر في دورته السادسة بجدة عام 1990 م.
(16)
المجموع: 9 / 270 – 271.
(17)
المدونة: 4 / 88، 90، 91، 95؛ وبداية المجتهد: 2 / 206.
(18)
مجموع الفتاوى: 29 / 506.
(19)
مجموع الفتاوى: 29 / 506.
(20)
مجموع الفتاوى: 29 / 5 – 509.
(21)
مجموع الفتاوى: 29 / 5 – 6 – 509.
بينما ربط أبو حنيفة والشافعي جواز التصرف بالضمان فإذا لم ينتقل الضمان إلى المشتري لا يجوز له التصرف فيه حتى لا يتوالى الضمانان.
لكن شيخ الإسلام رد على هذا الأصل بأنه مأخذ ضعيف، وأنه لا محذور في وجود ضمانين، لأن الواجب بضمان هذا غير الواجب بضمان ذاك (1) ، فلو تلف المبيع قبل التمكن من القبض فإن المشتري الثاني يعود إلى المشتري الأول وهو على البائع، وكل يرجع على الآخر بما دفعه.
ويدل على أن ضمان البائع لا يمنع من تصرف المشتري في المبيع حديث ابن عمر الثابت السابق في البيع بالذهب والأداء بالفضة، أو بالعكس، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"فقد جوز النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتاضوا عن الدين الذي هو الثمن بغيره، مع أن الثمن مضمون على المشتري لم ينتقل إلى ضمان البائع، فكذلك المبيع الذي هو دين السلم يجوز بيعه وإن كان مضمونًا على البائع لم ينتقل إلى ضمان المشتري، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما جوز الاعتياض عنه بسعر يومه لئلا يربح فيما لم يضمن، وهكذا قد نص أحمد على ذلك في بدل القرض وغيره من الديون، إنما يعتاض عنه بسعر يومه "(2) .
ومن ناحية أخرى أن ما في ذمة المدين البائع مقبوض للدائن فحينما يبيعه للآخر فكأنه سلمه إليه، وحل محله. يقول ابن تيمية:"إن ما في الذمة مقبوض للمدين "(3) ، كما أن الموجود في الذمة فكأنه موجود في الواقع والخارج.
الاحتمال الثالث: التصرف في المسلم فيه بالتولية، والشركة، والحطيطة، والمصالحة، والحوالة، والوكالة ونحوها:
فعقد الوكالة والسمسرة في السلم جائز، لأن القاعدة فيها هي أن كل من صح تصرفه في شيء بنفسه وكان مما تدخله النيابة صح أن يوكل فيه رجلاً أو امرأة، مسلمًا كان أو كافرًا، وكل ما يصح أن يستوفيه بنفسه وتدخله النيابة صح أن يتوكل لغيره فيه " (4) .
وأما التولية، والشركة في المسلم فيه قبل قبضه فمحل خلاف بين الفقهاء:
فذهب مالك إلى جوازهما سواء كان المسلم فيه طعامًا، أم غيره، جاء في المدونة: "قلت: أرأيت إن اشتريت سلعة من السع فأشركت فيها رجلاً قبل أن أنقده، أو بعد ما نقدته أيصلح ذلك في قول مالك أم لا؟
قال: لا بأس بذلك عند مالك.
قال: ولقد سألت مالكًا عن رجل اشترى من رجل طعامًا بثمن إلى أجل فأتاه رجل، فقال: أشركني في هذا الطعام، وذلك قبل أن يكتال طعامه الذي اشترى.
قال مالك: لا بأس بذلك إن أشركه على أن لا ينتقد إلا إلى الأجل الذي اشترى إليه الطعام، فإن انتقد فلا خير في ذلك (5) .
(1) مجموع الفتاوى: 29 / 5 – 6 – 509.
(2)
مجموع الفتاوى: 29 / 510.
(3)
مجموع الفتاوى: 29 / 512.
(4)
يراجع المغني لابن قدامة: 5 / 88؛ وحاشية ابن عابدين: 4 / 399؛ وروضة الطالبين: 4 / 291؛ وبداية المجتهد: 2 / 301؛ والمدونة: 4 / 49.
(5)
المغني لابن قدامة: 5 / 88.
وكذلك الأمر في التولية، جاء في المدونة:" قلت: أرأيت إن اشتريت سلعة من رجل بنقد، فلم أقبضها حتى أشركت فيها رجلاً، أو وليتها رجلاً أيجوز ذلك؟ "
قال: لا بأس بذلك عند مالك.
قلت: وإن كان طعامًا اشتريته كيلاً، وفقدت الثمن فوليته رجلاً أو أشركته فيه قبل أن أكتاله من الذي اشتريته.
قال مالك: لا بأس بذلك، وذلك الحلال إذا انتقد مثل ما نقد.
قلت: لِمَ جوزه مالك وقد جاء في الحديث الذي يذكره مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قبل أن يستوفى؟
قال: قد جاء هذا، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الطعام قبل أن يستوفى إلا ما كان من شرك، أو إقالة، أو تولية.
قال سحنون: وأخبرني ابن القاسم عن سليمان بن بلال عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه إلا ما كان من شرك، أو إقالة، أو تولية)) .
قال مالك: " اجتمع أهل العلم على أنه لا بأس بالشرك والإقالة والتولية في الطعام قبل أن يستوفى إذا انتقد الثمن ممن يشركه، أو يقيله، أو يوليه"(1)
وهذا الحديث الذي رواه الإمام سحنون بسنده، رواه أيضًا عبد الرزاق في مصنفه عن معمر، عن ربيعة عن ابن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((التولية، والإقالة، والشركة سواء لا بأس به)) . وأما ابن جريج فقال: أخبرني ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا مستفاضًا بالمدينة، قال:((من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه ويستوفيه إلا أن يشرك فيه، أو يوليه، أو يقيله)) (2) .
والحديث الذي رواه سحنون، وعبد الرزاق مرسل لكنه مرسل سعيد بن المسيب، وهو يحتج به عند جمهور العلماء (3) .
وأما سند الحديث فـ الحافظ عبد الرزاق معروف بأنه ثقة حافظ (4) وهو قد روى عن معمر وغيره، ومعمر أيضًا ثقة ثبت، بل عده علي بن المديني، وأبو حاتم فيمن دار الإسناد عليهم، بل اعتبره النقاد من أثبت الناس (5) ، وأما ربيعة المعروف بربيعة الرأي فهو أيضًا ثقة ثبت من التابعين الفقهاء المفتين، حتى قال مالك:" ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة"(6) .
(1) المدونة: 4 / 80 – 81.
(2)
المصنف للحافظ أبي بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني، تحقيق خليل الرحمن الأعظمي، ط. المجلس العلمي: 8 / 49؛ ونصب الراية: 4 / 31.
(3)
المجموع: 1 / 60 – 63؛ والإحكام للآمدي: 2 / 178؛ والمقدمة لابن الصلاح، ص 130.
(4)
تقريب التهذيب، ط. دار المعرفة: 1 / 505؛ وتهذيب التهذيب: 6 / 310.
(5)
تهذيب التهذيب: 10 / 243 – 246؛ وتقريب التهذيب: 2 / 266.
(6)
يراجع للمزيد من التفصيل: تهذيب التهذيب: 3 / 258؛ وتقريب التهذيب: 1 / 247.
إذن فالحديث مرسل صحيح الإسناد، أو أنه لا تقل درجته عن الحسن الذي ينهض حجة، وكذلك فهو نص في الدعوى حيث يدل بنصه على جواز الشرك، والإقالة، والتولية في الطعام قبل القبض والاستيفاء، ويقاس عليه بطريق أولى غير الطعام.
وذهب جماعة آخرون منهم الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة (3) إلى عدم جواز الشركة، والتولية في المسلم فيه قبل قبضه. واستدلوا بأن هذه التصرفات معاوضة في المسلم فيه قبل القبض فلم يجز، كما لو كانت بلفظ البيع، ولأنهما نوعا بيع، فلم يجوزا في المسلم قبل قبضه كالنوع الآخر (4) .
ويمكن أن يرد على هذا الاستدلال بأنه لا نسلم أن التولية والشركة بيع، ولو سلم فالبيع نفسه محل خلاف، فلا يكون الدليل ملزمًا، لأنه أيضًا محل خلاف.
ويكاد الخلاف السابق ينسحب على الصلح في المسلم فيه قبل قبضه (5) .
والذي يظهر رجحانه رأي مالك لقوة دليله، ومنطقه، وموافقة رأيه للأصل القاضي بأن الأصل في العقود والشروط الإباحة إلا ما دل على حرمته، فليس هناك نص من الكتاب ولا من السنة يمنع التصرف في المسلم فيه قبل القبض عن طريق الشرك، أو التولية، أو الحطيطة، أو الصلح لكنه بشرط واحد، وهو أن ينقد الثمن حتى لا يكون بيع دين نسيء بدين نسيء.
وأما الحوالة بالمسلم فيه (دين السلم) ، أو عليه فمحل خلاف كبير.
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار: 4 / 209 – 210.
(2)
يراجع: تحفة المحتاج مع حواشي الشيرواني؛ وابن قاسم العبادي، ط. دار صادر بيروت: 3 / 30 – 31؛ والغاية القصوى: 1 / 497.
(3)
المغني لابن قدامة: 4 / 234 – 235؛ والمبدع شرح المقنع، ط. المكتب الإسلامي: 4 / 197 – 198.
(4)
المغني لابن قدامة: 4 / 235.
(5)
يراجع المدونة: 4 / 31؛ وروضة الطالبين: 4 / 4؛ والتحفة مع حواشيها لابن قاسم والشيرواني: 4 / 31؛ والمغني لابن قدامة: 4 / 542.
فذهب جماعة من الفقهاء منهم الحنفية (1) ، ووجه للشافعية (2)، والمالكية (3) . .. في غير ما إذا كان البدلان: المحال به، وعليه طعامًا من بيع، إلى جواز الحوالة بدين السلم وعليه.
وذهب الحنابلة (4) ، ووجه للشافعية – رجحه النووي (5) إلى أنه لا تجوز الحوالة بدين السلم، ولا عليه.
وهؤلاء المانعون استدلوا على ما يأتي:
أولاً: أنهم اعتمدوا في منعهم هذا على أن دين الحوالة يجب أن يكون مستقرًّا، وأن السلم بعرض الفسخ (6) .
ويمكن الجواب عنه بأن هذا الشرط نفسه محل خلاف وليس عليه دليل من الكتاب والسنة، والإجماع؛ فالنص النبوي الشريف في الحوالة لم يشترط كون الدين مستقرًّا أم غير مستقر، بل قال:((فإذا أتبع – أو أحيل – على مليء فليتبع)) (7) ، فالنص لم يشترط سوى كون المحال عليه مليئًا قادرًا على أداء الدين، ولذلك قال الشوكاني معلقًا على اشتراط استقرار الدين لدى البعض: " فلا أدري لهذا الاشتراط وجهًا، لأن من عليه الدين إذا أطال على رجل يمتثل حوالته، ويسلم ما أحال به كان ذلك هو المطلوب، لأن به يحصل المطلوب بدين الحال ولو لم يكن في ذمة المحال عليه شيء من الدين (8) ، ولذلك أجاز الحانبلة أنفسهم استعمال لفظ الحوالة في صورتين ليستا بحوالة، وإنما هي وكالة وقرض (9) .
ثانيًا: واستدل المانعون كذلك بأن الحوالة إما بيع وهو لا يجوز قبل قبض المبيع، أو هو كالبيع، أي يقاس عليه فيكون حكمه مثل حكمه.
والجواب عن ذلك من وجوه:
الوجه الأول: " أن هذا الكلام مبني على أن الحوالة بيع، وهذا بناء ضعيف؛ لأن الحوالة عقد مستقل له شروطه ومواصفاته، وأن اسمها ومسماها قد أثبتهما الشرع، فلا يقبل أن تدخل في عقد آخر، ومن هنا فاختلاف الاسم والمسمى لغة وشرعًا يدل على اختصاص هذا العقد بأحكامه الخاصة به دون غيره، ولذلك لا يشترط في عقد الحوالة التقابض حتى ولو كان الدينان من النقود، أو الطعام، ولا يدخل في بيع الدين بالدين الذي منعه الفقهاء، وجاز فيه كون أحد الدينين أكثر من الآخر وغير ذلك. (10)
(1) جاء في الدر المختار – مع حاشية ابن عابدين: 4 / 208: " وصحت الكفالة والحوالة والارتهان برأس مال السلم ".
(2)
يراجع: فتح العزيز بهامش المجموع: 10 / 340؛ والروضة: 3 / 512.
(3)
الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 3 / 327.
(4)
المغني لابن قدامة: 4 / 335، 577؛ والمبدع: 4 / 198.
(5)
انظر الروضة: 3 / 512؛ وتحفة المحتاج: 5 / 228.
(6)
المغني لابن قدامة: 4 / 335.
(7)
الحديث متفق عليه، رواه الشافعي، وأحمد، وأصحاب السنن، انظر: صحيح البخاري مع الفتح: 4 / 464 ومسلم: 3 / 1197؛ وسنن أبي داود مع العون: 9 / 195؛ والترمذي مع التحفة: 4/ 535؛ وابن ماجه: 2/ 803؛ والسنن الكبرى للبيهقي: 6 / 70؛ والنسائي: 7 / 278؛ والأم: 3 / 203؛ ومسند أحمد: 2 / 463.
(8)
السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار: 4 / 242.
(9)
جاء في المغني: 4 / 579: " وإن أحال من لا دين له عليه رجلاً على آخر له عليه دين فليس ذلك بحوالة، بل هي وكالة. . وإنما جازت الوكالة بلفظ الحوالة، لاشتراكهما في المعنى. . . وإن أحال من عليه دين على من لا دين عليه فليست حالة أيضًا. . . وإنما هو اقتراض، فإن قبض المحتال منه الدين رجع على المحيل، لأنه قرض. . . وإن أحال من لا دين عليه فهي وكالة في اقتراض، وليست حوالة، لأن الحوالة إنما تكون لدين على دين ". وعند المالكية لو أعلم المحيل المحال بأنه لا دين له على أعمال عليه، أو علم من غيره، وشرط المحيل البراء من الدين الذي عليه، ورضي المحال صح التحول، ولا رجوع له على المحيل، لأنه ترك حقه حيث رضي بالتحول؛ انظر: الشرح الكبير مع الدسوقي: 3 / 326.
(10)
المغني لابن قدامة: 4 / 335.
الوجه الثاني: أن قياس الحوالة على البيع قياس مع الفارق، لما ذكرنا في الوجه الأول.
الوجه الثالث: أن المقيس عليه نفسه مختلف فيه فلا يصلح أن يكون أصلا ملزمًا للطرفين، فبيع المبيع قبل قبضه – بما فيه المسلم فيه – محل خلاف كما سبق.
ثالثًا: استدلوا بما روي: " من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره "(1) .
والجواب عنه – كما سبق – أنه ضعيف جدًا لا ينهض حجة ولو فرضنا ثبوته فلا يدل على منع الحوالة، لأن معناها النهي عن عدم صرف المسلم فيه إلى شيء آخر، ولا يدل الحديث على منع الحوالة به أو عليه.
ويتبين من خلال هذه المناقشة الموجزة ضعف الحجج التي بنى عليها المانعون، حيث لم تصمد أمام المناقشة.
أما المجيزون للحوالة بـ دين السلم، أو عليه فحجتهم قوية – كما سبق.
وقد يرد تساؤل حول حق المحال في الحفاظ على حقه إذا لاحظنا أن المحيل تبرأ ذمته بمجرد الحوالة، وأن المحال عليه (المسلم) يمكن أن ينفسخ سلمه للأسباب المقبولة شرعًا في الفسخ أو الإقالة، وحينئذ ماذا يفعل المحال في الحفاظ على حقه؟
للجواب عن ذلك نقول: إن هذه المسألة تحتاج إلى تفصيل؛ لأن لها شقين:
الشق الأول: هل تبرأ ذمة المحيل إذا تمت الحوالة بشروطها؟
للجواب عن ذلك نقول: إن فيها اختلافًا كبيرًا بين الفقهاء:
1-
حيث ذهب الحسن في رواية، وشريح، وزفر إلى أن الحوالة لا يترتب عليها براءة ذمة المحيل مطلقًا، بل تبقى ذمته مع ذمة المحال عليه مشغولة كالكفالة (2) .
2-
وذهب أبو حنيفة إلى أن المحتال لا يرجع إلى المحيل إلا بالتوى (3) وهو بأحد أمرين: أن يجحد المحال عليه الحوالة، ويحلف ولا بينة للمحتال والمحيل، أو يموت مفلسًا بغير دين، ولا عين، ولا كفيل.
3-
وأضاف صاحباه إليهما حالة ثالثة وهي: أن يحكم بإفلاسه الحاكم في حياته (4) .
4-
وذهب الثوري إلى أنه يرجع على المحيل في حالة الموت فقط (5) .
5-
وذهب الحسن في رواية، وقتادة إلى أنه إذا كان يوم أحال عليه مليئًا لم يكن له حق الرجوع على المحيل (6) .
6-
وذهب مالك إلى أن المحال لا يرجع على المحيل وإن أفلس المحال عليه، أو جحد بعد الحوالة، غير أن مالكًا استثنى حالتين هما:
الحالة الأولى: أن يعلم المحيل بإفلاسه فقط دون الحال، فحينئذ له الرجوع عليه، لأنه غره، قال الدردير:" والظاهر أن الظن القوي كالعلم، ومثل علمه بإفلاسه علمه بلدده، أو عدمه – أي فقره "(7) .
وهناك رواية عن أحمد بمثل هذا القول (8) .
(1) فتح العزيز شرح الوجيز بهامش المجموع: 10 / 338.
(2)
فتح الباري: 4 / 464؛ والمغني لابن قدامة: 4 / 580.
(3)
التوى على وزن الحصى بمعنى الهلاك، المصباح مادة (توي) .
(4)
حاشية ابن عابدين: 4 / 293.
(5)
فتح الباري: 4 / 464.
(6)
صحيح البخاري مع الفتح: 4 / 464.
(7)
الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 3 / 328.
(8)
المغني: 4 / 581.
الحالة الثانية: أن يشترط المال على المحيل أنه إذا أفلس المحال عليه يرجع على المحيل فله شرطه، قال الدسوقي: " ونقله الباجي كأنه المذهب، وقال ابن رشد: هذا صحيح ولا أعلم فيه خلافا. (1)
وذهب وجه للشافعية إلى مثل هذا. (2)
7 – وذهب الشافعية، والحنابلة في المشهور عنهم إلى أن الحوالة تبرئ ذمة المحيل إذا جرت بشروطها – ومن رضا الأطراف – ولا سيما المحيل والمحال، وفى المحال عليه خلاف – ومن كون الدين ثابتا، أو مستقرا، وتماثل الدينين أو أن لا يكون ما على المحال عليه أقل – وحينئذٍ ليس للمحال الحق في الرجوع عليه بأي حال من الأحوال. (3)
فمسألة براءة ذمة المحيل عن الدين ليست منصوصًا عليها، ولا متفقًا عليها، بل الذي يظهر رجحانه هو أن ذمته إنما تبرأ بشروط وضوابط منها أن يكون المحال عليه مليئا وقت الحوالة كما اشترط ذلك النص النبوي الشريف، ومنها أن لا يموت أو يفلس قبل أداء الدين، وأن لا يشترط المحال حق الرجوع إليه مطلقا.
الشق الثانى: أن دين السلم في حالة فسخه يبقى في ذمة المسلم من خلال الثمن، لأنه قد استلم الثمن فعلا، فإما أن يدفع المسلم فيه بشروطه ومواصفاته، وحينئذ يتسلمه المحال كما هو بدلا من دينه الذي كان على المحيل (المسلم إليه) أو تحدث ظروف تؤدي إلى فسخ السلم بشروطه، وحينئذ يتسلم الثمن، وإذا وجد نقص في دينه فإنه يرجع إلى المحيل بناء على الرأي القائل بعدم براءة ذمته – كما سبق -.
وهناك حل آخر، وهو جواز الاعتياض عنه، بل بيعه لآخر بشروطه كما سبق.
ومن هنا فلا مانع أن يشترط في الحوالة على دين السلم، أو به أن يوضع هذا الشرط، وهو أنه في حالة نقص المتسلم عن الدين فإن المحال يرجع إلى المحيل تحقيقًا للعدالة، كما أن المحال ينبغي أن يحتاط لنفسه فلا يقبل إلا في حدود الثمن إلا إذا كان المسلم مليئًا معروفًا بقدرته على الوفاء.
الاحتمال الرابع: أنه إذا انفسخ عقد السلم بإقالة (4) ، أو غيرها، فهل يجوز أن يأخذ عن دين السلم عوضًا من غير جنسه؟:
هذه المسألة ذكر فيها العلامة ابن القيم وجهين:
أحدهما: أنه لا يجوز ذلك حتى يقبضه، ثم يصرفه فيما يشاء وهذا اختيار الشريف أبي جعفر، وهو مذهب أبي حنيفة.
والثاني: يجوز أخذ العوض عنه، وهو اختيار القاضي أبي يعلى، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وهو مذهب الشافعي، وهو الصحيح، فإن هذا عوض مستقر في الذمة فجازت المعاوضة عليه كسائر الديون من القرض وغيره.
(1) حاشية الدسوقي: 3 / 328، لكن الدسوقي بعد نقله هذا الكلام عن ابن عرفة قال:"فيه نظر؛ لأن شرطه هذا مناقض لمقتضى العقد، وأصل المذهب في الشرط المناقض للعقد أن يفسده. تأمل ". لكن الحقيقة ليس في هذا الشرط تناقض لمقتضى العقد.
(2)
جاء في الروضة: 4 / 232: " فلو شرط في الحوالة الرجوع بتقدير الإفلاس أو الجحود فهل تصح الحوالة والشرط، أم الحوالة فقط، أم لا يصحان؟ فيه أوجه. هذا إذا طرأ الإفلاس، فلو كان مفلسًا حال الحوالة، فالصحيح المنصوص: أنه لا خيار للمحتال سواء شرط يساره أم أطلق، وفيه وجه يثبت خياره في الحالين، وفي وجه يثبت إن شرط فقط، واختار الغزالي الثبوت مطلقًا".
(3)
الروضة: 4 / 231 – 232؛ والمغني: 4 / 580 – 581.
(4)
جاء في المغني: 4 / 336: " قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الإقالة في جميع ما أسلم فيه جائزة " وأما في بعضه فمحل خلاف.
وأيضًا فهذا مال رجع إليه بنسخ العقد فجاز أخذ العوض عنه كالثمن في المبيع.
وأيضًا فحديث ابن عمر في المعاوضة عما في الذمة صريح في الجواز (1) .
وهؤلاء المانعون استدلوا بالحديث السابق وهو: ((من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره
…
)) وقد سبق أن الحديث ضعيف جدًا لا ينهض حجة، وأنه يحتمل معاني أخرى كما سبق، قال ابن القيم: " ولو صح لم يتناول محل النزاع، لأنه لم صرف المسلم فيه في غيره، وإنما عاوض عن دين السلم بغيره، فأين المسلم فيه من رأس مال السلم؟ (2) .
واستدلوا كذلك بأنه مضمون على المسلم إليه بعقد السلم فلم تجز المعاوضة عليه قبل قبضه وحيازته كالمسلم منه.
ويجاب عنه بأن قياسكم المنع على نفس المسلم فيه، فالكلام فيه أيضًا قد تقدم، وأنه لا نص يقتضي المنع، ولا إجماع ولا قياس.
قال ابن القيم: " ثم لو قدر بتسليمه لكان الفرق بين المسلم فيه، ورأس مال السلم واضحًا، فإن المسلم فيه مضمون بنفس العقد، والثمن إنما يضمن بعد فسخ العقد فكيف يلحق أحدهما بالآخر فثبت أنه لا نص في المنع، ولا إجماع، ولا قياس "(3) .
ثم بين ابن القيم أن حكم رأس المال في السلم بعد الفسخ حكم سائر الديون، ولذلك لا يجوز أن يجعل سلمًا في شيء آخر، وأنه إذا أخذ فيه أحد النقدين عن الآخر وجب قبض العوض في المجلس، لأنه صرف بسعر يومه، لأنه غير مضمون عليه، وإن عاوض عن المكيل بمكيل، أو عن الموزون بموزون من غير جنسه كقطن بحرير، أو كتان وجب قبض عوضه في مجلس التعويض، وإن بيع بغير مكيل، أو موزون كالعقار والحيوان فهل يشترط القبض في مجلس التعويض؟ فيه وجهان:
أصحهما: لا يشترط، وهو منصوص أحمد.
والثاني: يشترط. .. (4) .
قال ابن القيم: "ونظير هذه المسألة: إذا باعه ما يجري فيه الربا كالحنطة مثلاً بثمن مؤجل فحل الأجل فاشترى بالثمن حطنة أو ميكلاً آخر من غير المجلس مما يمتنع ربا النساء بينهما، فهل يجوز ذلك؟ فيه قولان:
أحدهما: المنع، وهو المأثور عن ابن عمر، وسعيد بن المسيب، وطاوس، وهو مذهب مالك، وإسحاق.
والثاني: الجواز، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة (5) ، وبه قال جابر بن زيد، وسعيد بن جبير، وعلي بن الحسين، وهو اختيار صاحب المغني (6) وشيخنا. . . " (7) .
ثم قال: " والصحيح الجواز، لما تقدم، قال عبد الله بن زيد: قدمت على علي بن حسين، فقلت له: " إني أجد نخلي، وأبيع ممن حضرني التمر إلى أجل فيقدمون بالحنطة، وقد حل الأجل فيوقفونها بالسوق، فأبتاع منهم، وأقاصهم؟ قال: لا بأس بذلك، إذا لم يكن منك على رأي "، يعني إذا لم يكن حيلة مقصودة. فهذا شراء للطعام بالدراهم التي في الذمة بعد لزوم العقد الأول، فصح، لأنه لا يتضمن ربا بنسيئة ولا تفاضل، والذين يمنعون ذلك يجوزون أن يشتري منه الطعام بدراهم، ويسلمها إليه، ثم يأخذها منه وفاء أو نسيئة منه بدراهم في ذمته، ثم يقاصه بها، ومعلوم أن شراءه الطعام منه بالدراهم التي في ذمته أيسر من هذا، وأقل كلفة والله أعلم "(8) .
(1) شرح سنن أبي داود للحافظ ابن القيم بهامش عون المعبود: 9 / 360؛ ويراجع مذهب أبي حنيفة في: حاشية ابن عابدين: 4/ 209، لكنه أجاز الاستبدال في حالة كون عقد السلم فاسدًا.
(2)
شرح سنن أبي داود للحافظ ابن القيم بهامش عون المعبود: 9 / 360؛ ويراجع مذهب أبي حنيفة في: حاشية ابن عابدين: 4/ 209
(3)
شرح سنن أبي داود لابن القيم: 9 / 360 – 361؛ ويراجع المذهب الشافعي في: الروضة: 3/493.
(4)
شرح سنن أبي داود لابن القيم بهامش عون المعبود: 9 / 361.
(5)
يراجع: حاشية ابن عابدين: 4 / 210؛ والروضة: 3 / 493، و 4 / 29؛ ويراجع المدونة: 4 / 69 – 79.
(6)
المغني لابن قدامة: 4 / 337.
(7)
شرح سنن أبي داود: 9 / 361.
(8)
شرح سنن أبي داود بهامش عون المعبود: 9 / 361 – 362.
والخلاصة أن الإقالة جائزة في عقد السلم بالاتفاق، وأن المسلم إليه (المشتري) له الحق في أن يأخذ بدل رأس ماله (دينه) أي شيء من المسلم، مع ملاحظة قواعد الصرف فيما لو كان رأس ماله نقدًا، ويأخذ الآن نقدًا آخر مكانه، أما لو كان رأس ماله عينًا فيسترد مثله إن كان مثليا، وقيمته إن كان قيميا.
وكذلك له الحق في أن يشتري برأس مال السلم – بعد فسخه – أي شيء آخر مع ملاحظة قواعد الربا في النقود والطعام، ولكنه لا يجوز له أن يشتري به دينًا نسيئة، لأنه لا يجوز بيع الدين النسيء.
وله الحق في الحوالة، والتولية والإشراك، والصلح ونحو ذلك، كما سبق.
صور من بيع الدين المعاصر بناءً على ما أسند إلى الشافعية!!
يلاحظ أن بعض البلاد التي يسود فيها المذهب الشافعي تقوم بعض مؤسساتها المالية الإسلامية ببيع دين المرابحة، وحتى بعض علمائها حل معاملات شبيهة بخصم الكمبيالات (سندات الدين) التجارية، فمن هذه الصور أن يقوم المصرف اليوم ببيع سلعة بالمرابحة إلى أحمد بثمن مقدر بعشرة آلاف دولار (مثلاً) لمدة سنة، وحينئذ يتحول الثمن إلى دين يستحق الأداء بعد سنة موثق بسندات القبض، وعندئذ يقوم المصرف ببيع تلك السندات على محمود حالاً أو في زمن أقل من السنة مثلاً بمبلغ أقل من دين المرابحة، ثم يقوم محمود باستيفاء الدين كاملاً (قيمة الصفقة السابقة بين المصرف وأحمد) بعد انتهاء مدته.
تحقيق مذهب الشافعية في بيع الدين:
وبالرجوع إلى المصادر المعتمدة في المذهب الشافعي نرى أن خلافه ليس في بيع الدين بالدين على التفصيل الذي ذكرناها، وإنما خلافه في بيع الدين بالعين، كما ظهر ذلك من خلال ما نص عليه الشافعي وفقهاء المذهب، فقد جاء في الأم:" من سلف في طعام موصوف فحل السلف، فإنما له طعام في ذمة بائعه، فإن شاء أخذه به كله حتى يوفيه إياه، وإن شاء تركه كما يترك سائر حقوقه إذا شاء، وإن شاء أخذ بعضه وأنظره ببعض، وإن شاء أقاله منه كله. .. ".
ثم قال: " فالقياس والمعقول مكتفى به فيه " كما ذكر عدة آثار تدل على ذلك (1) .
وقد لخص الأئمة الشيرازي والرافعي والنووي مذهب الإمام الشافعي في بيع الديون، جاء في المهذب: " وأما الديون فينظر فيها فإن كان الملك عليها مستقرًا كغرامة المتلف، وبدل القرض جاز بيعه ممن عليه قبل القبض، لأن ملكه مستقر عليه، فجاز بيعه كالمبيع بعد القبض، وهل يجوز من غيره؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز، لأن ما جاز بيعه ممن عليه جاز بيعه من غيره كالوديعة.
والثاني: لا يجوز، لأنه لا يقدر على تسليمه إليه، لأنه ربما منعه، أو جحده، وذلك غرر لا حاجة به إليه فلم يجز.
والأول أظهر، لأن الظاهر أنه يقدر على تسليمه إليه من غير منع ولا جحود وإن كان الدين غير مستقر نظرت فإن كان مسلما فيه لم يجز بيعه.
وإن كان ثمنا في بيع ففيه قولان: قال في الصرف: " يجوز بيعه قبل القبض لما روى ابن عمر، قال: " كنت أبيع الإبل بالبقيع (2) بالدنانير فآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم فآخذ الدنانير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لا بأس بذلك ما لم تتفرقا وبينكما شيء)) (3) ، ولأنه لا يخشى من انفساخ العقد فيه بالهلاك فصار كالبيع بعد القبض.
(1) الأم، ط دار المعرفة، بيروت: 3 / 132.
(2)
جاء في المجموع: 27319 وقوله بالبقيع هو الباء الموحدة، وإنما قيدته لأني رأيت من يصحفه.
(3)
الحديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والنسائي والحاكم وغيرهم وصححه النووي وغيره كما سبق وضعفه الألباني في الإرواء: 5 / 173.
ورى المزني في جامعه الكبير أنه لا يجوز. . . . ". (1)
وقال النووي في شرحه: " وهل تجوز الحوالة به بأن يحيل المسلم إليه المسلم بحقه على من له عليه دين قرض، أو إتلاف أو الحوالة عليه بأن يحيل المسلم من عليه قرض دين أو إتلاف على المسلم إليه فيه ثلاثة أوجه:
أصحها: لا، والثانى: نعم، والثالث: لا يجوز عليه، ويجوز به. ..
ثم قال: " فإذا باع بدراهم أو دنانير في الذمة ففي الاستبدال عنها طريقان.
…
أحدهما: القطع بالجواز.
…
وأما الأجرة فكالثمن، وأما الصداق وبدل الخلع، فكذلك إن قلنا: إنهما مضمونان ضمان العقد، وإلا فهما كبدل الإتلاف.
ثم قال: " وإن جوزنا الاستبدال فلا فرق بين بدل وبدل، ثم ينظر إن استبدل ما يوافقهما في علة الربا كدنانير عن دراهم اشترط قبض البدل في المجلس، وكذا إن استبدل عن الحنطة المبيعة شعيرًا إن جوزنا ذلك.
وفي اشتراط تعيين البدل عند العقد وجهان:
أحدهما: بشرط، وإلا فهو بيع دين بدين.
وأصحهما: لا يشترط كما لو تصارفا في الذمة، ثم عينا وتقابضا في المجلس.
وإن استبدل ما ليس موافقًا لها في علة الربا كالطعام والثياب عن الدراهم نظر:
إن عين البدل والاستبدال جاز، وفي اشتراط قبضه في المجلس وجهان.
صحح الغزالي وجماعة الاشتراط، وهو ظاهر نصه في المختصر.
وصحح الإمام والبغوي عدمه، قلت: هذا الثاني أصح، وصححه الرافعي في المحرر. وإن لم يعين، بل وصف في الذمة فعلى الوجهين السابقين، وإن جوزناه اشترط التعيين في المجلس وفي اشتراط القبض الوجهان:
ثم قال: وأما دين القرض والإتلاف فيجوز الاستبدال عنه بلا خلاف كما لو كان له في يد غيره مال بغصب، أو رعاية فإنه يجوز بيعه له. . . ولا يجوز استبدال المؤجل عن الحال ويجوز عكسه.
وهذا الذي ذكرناه كله في الاستبدال وهو بيع الدين ممن هو عليه، فأما بيعه لغيره كمن له على رجل مائة فاشترى من آخر عبدًا بتلك المائة، ففي صحته قولان مشهوران: أصحهما: لا يصح لعدم القدرة على التسليم.
والثاني: يصح بشرط القبض في المجلس.
ثم قال: " ولو كان له دين على إنسان ولآخر مثله على ذلك الإنسان فباع أحدهما ما له عليه بما لصاحبه، لم يصح سواء اتفق الجنس أو لا، لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ "(2) .
وهذا الكلام هو ملخص لما ذكره الرافعي في شرح الوجيز (3) وعليه نصوص الكتب الشافعية (4) حيث تدل على أنه ليس هناك خلاف للشافعية في عدم جواز بيع الدين بالدين، وأن قواعد الصرف تنسحب على كل التعامل الذي يجري بالدين حيث يشترط فيه التماثل والتقابض في المجلس إذا كانا من جنس ربوي واحد، والتقابض في المجلس إذا كان من جنسين ربويين مختلفين، أما إذا كانا من غير ذلك فتطبق عليه القواعد العامة في البيع، بأن كان الدين دراهم ودنانير (النقود) والمستبدل عنه طعامًا، أو غيره من القيميات، أو المثليات (ما عدا النقود) فيجوز البيع زيادة ونقصانًا ودون الحاجة إلى القبض في المجلس.
وأما إذا كان الدين غير النقود بأن باع بغيرها في الذمة مثل أن باع جمله بسيارة موصوفة في الذمة فيجوز الاستبدال عنها بأي شيء آخر على أحد الوجوه. (5)
(1) المهذب مع شرحه المجموع: 9 / 372.
(2)
المجموع: 9 / 273 – 275.
(3)
فتح العزيز: 8 / 431 – 439.
(4)
روضة الطالبين: 3 / 512؛ والمنهاج مع شرحه للعلامة المحلي، وحاشيتي القليوبي وعميرة، ط. عيسى الحلبي بالقاهرة: 2 /214
(5)
فتح العزيز: 8 / 435.
جاء في المنهاج للنووي وشرحه للمحلي: " ولا يشترط في الأصح القبض للبدل ما لا يوافق في العلة للربا كثوب عن دراهم، كما لو باع ثوبًا بدراهم في الذمة، لا يشترط قبض الثوب في المجلس، والثاني يشترط لأن أحد العوضين دين، فيشترط قبض الآخر في المجلس كرأس مال السلم "(1) .
وأما بيع الدين لغير من عليه الدين ففيه خلاف بين الشافعية على قولين، أحدهما يصح، والآخر لا يصح، مع خلاف في الترجيح لأحدهما، وعلى القول بالصحة؛ قال المحلي:"يشترط عليه قبض العوضين " في المجلس، فلو تفرقا قبل قبض أحدهما بطل البيع كذا في الروضة وأصلها كالتهذيب، وفي المطلب أو مقتضى كلام الكثيرين يخالفه (2) قال القليوبي معلقًا على ما هو المعتمد في الروضة وأصلها:"وعلم أنه لا فرق بين ما اتفقا في علة الربا وعدمه على المعتمد الذي اقتضاه كلام الشيخين"(3)، ولكن النووي في زيادات الروضة قال:" الأظهر الصحة" أي دون الحاجة إلى القبض في المجلس (4) .
الخلاصة:
فعلم مما سبق أن ما يجري من تلك الدولة من بيع الدين المؤجل لشخص آخر بثمن معجل أقل من الدين لا يجوز أبدًا عند الشافعية، وليس عليه أي قول من أقوال الإمام الشافعي، ولا وجه من وجوه أصحابه، وإنما هو نابع من عدم فهم بعض العبارات المطلقة الواردة في جواز بيع الدين دون الخوض في مرادها وما تتطلبها قواعد المذهب في مسائل الصرف ونحوها.
كما أن ذلك لا يجوز عند أحد من الفقهاء السابقين – حسب علمي – بل هو داخل في ربا النسيئة، ولا يختلف عن سندات الدين التي صدر بحظرها قرارات المجامع الفقهية. هذا والله أعلم.
(1) شرح المنهاج للمحلي: 2 / 215.
(2)
شرح المحلي، مع حاشية القليوبي وعميرة: 2 / 215؛ ويراجع الروضة: 3 / 513.
(3)
شرح المحلي، مع حاشية القليوبي وعميرة: 2 / 215؛ ويراجع الروضة: 3 / 513.
(4)
الروضة: 3 / 514.
خلاصة أحكام التصرف في الدين
ينقسم التصرف في الدين إلى تصرف من الدائن، وتصرف من المدين، ثم إن التصرف من الدائن قد يكون مع المدين نفسه أو مع غيره.
1 – تصرف الدائن في دينه، للمدين نفسه أو لغيره:
التصرف في الدين إذا كان بتمليكه للمدين نفسه فإما أن يكون الدين مملوكا للدائن بصورة مستقرة، كبدل القرض وثمن المبيع والمهر بعد الدخول، وإما أن يكون ملكه له غير مستقر كالأجرة قبل استيفاء المنفعة والمهر قبل الدخول.
1 /1 – تصرف المدين في الدين للمدين نفسه فيما ملكه مستقر عليه:
1/1 / 1 – لا خلاف بين الفقهاء في جواز تمليك الدائن للمدين نفسه دينا استقرت ملكيته، لأن ذلك التصرف يقع من المالك فيما استقر ملكه عليه وهو من قبيل الاستبدال (البيع) أو الهبة (الإسقاط) . والدليل على ذلك من السنة قول ابن عمر، رضي الله عنه: كنت أبيع الإبل بالدنانير وآخذ مكانها الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ مكانها الدنانير، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فسألته عن ذلك فقال:((لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما شيء)) .
1/ 1 / 2- ويستثنى من جواز تمليك الدين بعوض (عند جمهور الفقهاء) بدل الصرف ورأس مال السلم، فلا يجوز التصرف فيهما قبل القبض، لأن ذلك يخل بشرط صحتهما وهو القبض قبل الافتراق وإذا باع الذهب الذي في الذمة بفضة اشترط قبضها في المجلس.
1/ 1/ 2/ 1- وفي تمليك الدين للمدين يجوز عند بعض الفقهاء أن يكون العوض نفسه دينا ويسمى ذلك (تطارح الدينين) وهو إن يبيع دينا له بدين عليه للمدين ولكن شريطة حلول أجل الدينين وبراءة الذمتين، إذ يعتبر حلول الأجلين بمثابة التقابض، ولذا يسمي هؤلاء الفقهاء هذه المعاملة (الصرف في الذمة) . وأما حديث النهي عن بيع الكالئ بالكالئ – أي الدين بالدين – فالمراد الدين الواجب بالدين الواجب، أي السلف المؤجل من الطرفين. وههنا دينان ساقطان، وليس في تحريم ذلك نص ولا تترتب في هذا مفسدة بيع الدين بالدين (حيث تبقى الذمة مشغولة مع وجود العقد، والمقصود من العقود القبض فلم يحصل) ، أما هنا فقد حصلت بالبيع براءة كل منهما من دين صاحبه.
1 / 1 / 2/ 2- كما يجوز أيضا عند بعض الفقهاء تمليك الدين بجعله رأس مال للسلم، لأنه قبض حكمي، فلم يتحقق فيه انتفاء قبض رأس مال السلم، لأنه بالتمليك للمدين صار مقبوضا فارتفع المانع ويسمى هذا (بيع الساقط بالواجب) .
1/ 1/ /2 / 3- في حالة بيع الدائن دينه إلى المدين نفسه بشيء موصوف في الذمة يشترط قبض العوض قبل التفرق كي لا يكون بيع دين بدين، أما إذا كان العوض شيئا معينا فلا يشترط قبضه اكتفاء بتعينه.
1 / 2 – تصرف المدين في الدين للمدين نفسه فيما لم يستقر ملكه عليه:
التصرف من الدائن مع المدين في دين غير مستقر الملك، كالأجرة قبل استياء المنفعة، والمسلم فيه، والمهر قبل الدخول إذا كان بغير عوض فهو جائز، لأنه إسقاط. أما بعوض فيختلف الحكم في السلم عن غيره.
1 / 2 / 1 – بيع السلم:
يجوز عند بعض الفقهاء الاعتياض عن الدين المسلم فيه إذا كان بثمن المثل أو دونه لا أكثر منه لأنه لا يندرج بهذا القيد في جر منفعة بالسلف، أما إذا كان بأكثر ففيه ذلك المحذور. وبعض الفقهاء منع ذلك مطلقا لأن دين السلم غير مستقر لاحتمال فسخه بانقطاع المسلم فيه، فلا يصح البيع أصلا.
1/2/2 – غير دين السلم من الديون التي لم يستقر ملك الدائن لها. يجوز الاستبدال عن تلك الديون.
2 -
تمليك الدائن دينه لغير مدينه:
يجوز عند بعض الفقهاء تمليك الدائن دينه لغير مدينه بعوض وبغير عوض إذا انتفى غرر العجز عن تسليمه، ولم يقترن به شيء من المحظورات كربا النسيئة، وبيع الدين بالدين.
يتم هذا عن طريق الحوالة، وأحكامها معروفة.
* وفى جميع الأحوال لا يجوز بيع الدين لغير من هو عليه بأقل من قدره نظير الأجل الذي ينتظر إليه مشتري الدين (خصم الكمبيالات والسندات) لأن هذا من الربا المحرم.
علي محيى الدين القره داغي