الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المضاربات على العملة
ماهيتها وآثارها وسبل مواجهتها
مع تعقيب من منظور إسلامي
إعداد الدكتور
شوقي أحمد دنيا
أستاذ الاقتصاد – جامعة الأزهر
بسم الله الرحمن الرحيم
المضاربات على العملة – ماهيتها وآثارها وسبل مواجهتها
مع تعقيب من منظور إسلامي
من الظواهر التي يمكن اعتبارها بحق إحدى خصائص عصرنا الحاضر، وفي الوقت ذاته إحدى كبر سوءاته، ثم هي فوق ذلك تتربع بجوار قلة معها على عرش أعداء استقراره وازدهاره ومواصلة تحقيقه لمستهدفاته من إنجاز التقدم وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة بل والمتواصلة؛ ظاهرة المضاربات في العملات وما يدور في فلكها من مضاربات في الأوراق المالية.
تلك الظاهرة التي كان من ورائها مؤسسات وأشخاص فاقت قدراتهم كل ما يتصور، وباتت الحكومات حتى القوية فيها لا تزيد على أن تكون ألعوبة في أيديها. لقد أسهمت بقوة في تحويل دول بأسرها، وليس مجرد شركات ومؤسسات إلى الفقر بعد الغنى وإلى التدهور بل وما يقارب الانهيار بعد التقدم والازدهار. ماذا عن هذه الظاهرة؟ وماذا يملك الاقتصاد الإسلامي لمواجهتها؟
في هذا البحث إجابة عن كل ذلك، إن لم تكن كاملة فعسى أن تكون كافية مقنعة.
تمهيد:
للعملة أو النقود (1) قيم متعددة أشهرها وأهمها ما يعرف بالقيمة الحقيقية للنقود، وما يعرف بالقيمة الخارجية أو سعر الصرف. ومعروف أن القيمة الحقيقية للنقود تعني قوتها الشرائية إزاء السلع والخدمات، واستقرار هذه القيمة من الأهمية بمكان، لما لذلك من آثار بالغة الخطورة على كافة الأصعدة. ولذلك مجال واسع للبحث والدراسة ليس ما نحن بصدده الآن، وإنما مقصدنا القيمة الخارجية للعملة، وما تتعرض له من تقلبات عنيفة تعصف عصفًا مدمرًا بكل جوانب المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ومن المعروف أن المضاربة على العملة تعد من أهم وأخطر مسببات هذه التقلبات في القيمة الخارجية للعملة.
وفي هذه الورقة نعرض بقدر كبير من الإيجاز والبساطة لأهم المحاورة المتعلقة بعملية المضاربة على العملة، مع بيان ما يمكن أن يقدمه الاقتصاد الإسلامي من عطاء ثري في هذا المجال. والموضوعات الرئيسة التي تدور حولها هذه الورقة تتمثل فيما يلي:
أولاً: التعريف بالقيمة الخارجية للعملة وكيف تتحدد.
ثانيًا: المضاربة على العملات – أبعاد رئيسية.
ثالثًا: آثار المضاربة على العملات.
رابعًا: وسائل مواجهة المضاربة على العملة.
خامسًا: موقف الاقتصاد الإسلامي من هذه القضية.
* * *
(1) لا يخفى على المختصين ما هنالك من فروق بين مصطلح نقود ومصطلح عملة. وعمومًا فإن العلاقة بينهما هي العموم والخصوص المطلق، فكل عملة نقد، وليس كل نقد عملة.
أولاً: التعريف بالقيمة الخارجية للعملة
لكل عملة وطنية قيمة داخلية تتحدد من خلال علاقتها بالسلع والخدمات الوطنية، ولها كذلك قيمة خارجية تتحدد من خلال علاقتها بالعملات الخارجية. وطالما نحن أمام قيم تبادلية فنحن بالضرورة في رحاب الأسواق، والسوق الذي تتحدد فيه القيمة الخارجية للعملة يعرف بسوق الصرف الأجنبي. وكشأن أية سلعة تتحدد قيمتها من خلال محددات معينة تحكم عملية الطلب والعرض عليها، فكذلك الحال في النقود؛ حيث تتحدد قيمتها الخارجية في سوق الصرف الأجنبي من خلال عدة محددات تحكم عملية الطلب والعرض بالنسبة لهذه العملة. وأي اختلال في أي محدد من هذه المحددات يحدث تقلبًا في قيمة العملة هبوطًا أو ارتفاعًا عنيفًا كان أو خفيفًا.
وفيما يلي كلمة عن مفهوم القيمة الخارجية للعملة، وعن أساليب تحديدها، وعن سوق الصرف الأجنبي، وعن محددات الطلب والعرض على هذه العملة في هذا السوق.
1 -
مفهوم القيمة الخارجية للعملة (1) : بعيدًا عن التعقيد الفني يمكن القول: إن القيمة الخارجية للعملة هي قوتها التبادلية إزاء العملات الأخرى. أو هي بعبارة أكثر وضوحًا، عدد الوحدات من العملة الخارجية التي تتبادل بوحدة واحدة من العملة الوطنية. ففي مصر مثلاُ نجد القيمة الخارجية للجنيه المصري ثلث دولار أمريكي و (1.1) من الريال السعودي، وهكذا. والبعض ينظر لها من الجهة المقابلة فيرى أنها عدد الوحدات من العملة الوطنية التي تتبادل بوحدة واحدة من العملة الأجنبية. وفي النهاية المآل واحد. والتعبير الشائع عن هذه القيمة في دنيا الاقتصاد هو (سعر الصرف) .
2 -
أساليب تحديد القيمة الخارجية للعملة (2) : في ظل نظام النقد الورقي المعاصر يتحدد سعر صرف العملة أو قميتها الخارجية من خلال ثلاثة أساليب؛ الأسلوب الإداري، والأسلوب الحر، والأسلوب الحر الإداري، فهناك التحديد من قبل الدولة وهناك تحديد من قبل السوق وتفاعل قوى العرض والطلب، وهناك التحديد من قبل السوق مع تدخل الدولة عندما تجد أوضاعًا معينة. فقد تحدد الدولة لعملتها قيمة خارجية معينة لا تتغير إلا بتغيير من قبل الدولة نفسها، ولا يعني ذلك التثبيت المطلق الدائم لسعر الصرف، فقد توجد مرونة تضيق أو تتسع فقي حركة سعر الصرف الإداري، ونحن مع هذه المرونة والاهتمام بها، وقد تترك الدولة للسوق وقوى العرض والطلب الحرية الكاملة في تحديد القيمة الخارجية لعملتها، وهو ما يعرف في لغة الاقتصاد حاليًّا بالتعويم الحر أو المطلق، ومعنى ذلك أن قيمة الجنيه رهينة قوى العرض والطلب عليه، شأن أية سلعة.
(1) روبرتس ألبير، لعبة النقود الدولية، ترجمة د. عماد عبد الرؤوف، القاهرة، مكتبة مدبولي، بدون تاريخ، ص 35؛ د. زكريا نصر، العلاقات الاقتصادية الدولية، القاهرة، 1966، بدون ذكر ناشر، ص 35؛ د. جودة عبد الخالق، الاقتصاد الدولي، القاهرة، دار النهضة العربية، 1996، ص 183.
(2)
د. مدحت صادق، النقود الدولية وعمليات الصرف الأجنبي، القاهرة، دار غريب للنشر والتوزيع، 1997، ص 20 وما بعدها؛ روبرتس ألبير، مرجع سابق، ص 35 وما بعدها؛ د. حمدي رضوان التابع والمتبوع في الاقتصاد الدولي، القاهرة، مكتبة التجارة والتعاون، بدون تاريخ، ص 244 وما بعدها.
وقد تترك الدولة لقوى السوق أن تمارس هذه المهمة لكن مع شيء من التوجيه والإدارة والتدخل، وهو ما يطلق عليه التعويم المدار أو الموجه. أي أنه إذا حدث اختلال قوي بين قوى العرض والطلب لسبب من الأسباب تدخلت الدولة بما لديها من وسائل في السوق معززة من القوة التي انهارت، حفاظًا على استقرار سعر الصرف أو القيمة الخارجية للعملة، داخل حدود عليا ودنيا، هي بدورها متحركة من حين لآخر في ظل ما تراه الدولة صالحًا داخل الظروف المستجدة.
ويلاحظ أن التعويم الكامل نادرًا ما يوجد من الناحية العملية (1) . والتسعير الحكومي كان شائعًا في فترات سابقة لكنه الآن آخذ في الانحسار بقوة، بحيث لم يعد له وجود في غالبية الدول. والذي يشيع اليوم هو ما يعرف بالتعويم المدار.
3 -
سوق الصرف الأجنبي: هي سوق لمختلف العملات الوطنية، وسعر الصرف هو الثمن في هذه السوق. معنى ذلك أن البضاعة المعروضة للبيع في هذه السوق هي عملات وطنية، وهي كذلك البضاعة المطلوبة للشراء. بالاختصار إنها سوق تباع فيها وتشترى العملات بعضها ببضع. ولهذه السوق خصائص فريدة تميزها عن بقية الأسواق، من حيث المتعاملين فيها؛ فمعظمهم مؤسسات مالية، ومن حيث مكانها فهي لا توجد في مكان معين في العالم، بل هي موجودة في كل بقاع الأرض، وهي رغم انتشارها الكوني الواسع متصلة اتصالاً وثيقًا بحكم ثورة الاتصالات، فما يجري في جزء منها في أقصى الشرق يعيشه في التو واللحظة من في الغرب، كذلك فهي متصلة زمانيًّا، فهي عاملة طوال الأربع والعشرين ساعة، على مدار اليوم كله، وقبل أن تغلق أبوابها في الشرق تكون قد فتحت في الغرب (2) .
ثم إن البضائع المتداولة فيها (العملات) لم تعد تنقل ماديًّا، وإنما هي ومضات كهربائية عبر الأجهزة البالغة التطور، وهي أكبر سوق في العالم، حيث يربو حجم التعامل اليومي فيها عادة على التريليون والنصف دولار (3) . ومعظم صفقاتها في النقد الأجنبي هي صفقات آجلة. وبداخل هذه السوق العديد من الأسواق والتي تتعامل كلها في العملات، ومن أشهر هذه الأسواق الداخلية السوق الفورية والسوق الآجلة (4) .
(1) د. مدحت صادق، النقود الدولية وعمليات الصرف الأجنبي، القاهرة، دار غريب للنشر والتوزيع 1997، ص 51؛ د. زكريا نصر، العلاقات الاقتصادية الدولية، القاهرة 1996بدون ذكر ناشر ص 44.
(2)
فرانسوا لرو، الأسواق الدولية للرساميل، ترجمة د. حسن الضيقة، بيروت، المؤسسة الجامعية للنشر، 1991، ص 41 وما بعدها؛ د. مدحت صادق، مرجع سابق، ص 121 وما بعدها؛ روبرتس ألبير، مرجع سابق، ص 85 وما بعدها.
(3)
وتجدر الإشارة إلى أن هذا المبلغ يعادل الناتج القومي الإجمالي في ألمانيا، كما يساوي أربعة أضعاف ما ينفقه العالم سنويًّا على البترول.
(4)
د. جودة عبد الخالق، مرجع سابق، ص 199 وما بعدها؛ فرانسوا لرو، مرجع سابق، ص 45 وما بعدها.
السوق الفورية (Spot Market) تشمل جميع المعاملات التي يتم فيها تبادل العملات في الحال طبقًا للسعر السائد في السوق حال إتمام الصفقة.
والسوق الآجلة (Forward Market) تشمل المعاملات التي يتم فيها الاتفاق على سعر الصرف في الحال على أن يكون تسليم العملات في وقت لاحق، يتراوح عادة بين شهر وستة أشهر.
وعادة ما يختلف في سعر الصرف الآجل للعملة عن سعرها الفوري بالزيادة أو النقص، وقد يتساويان. ويتوقف تحديد السعر الآجل للعملة على أسعار الفائدة لكلتا العملتين.
وعادة ما يستخدم المضاربون السعر الآجل مع سعر العاجل، حماية وتحصينًا ضد مخاطر المستقبل. والغالبية العظمى من حجم هذه الصفقات اليومية تتم بدافع المضاربة وتدفقات رؤوس الأموال قصيرة الأجل، وليس بغرض تسوية فاتورة التجارة الدولية أو بدافع الاستثمار طويل الأجل.
4 -
محددات السعر الخارجي للعملة في سوق الصرف الأجنبية: كي نتعرف على أسباب تقلبات القيمة الخارجية للعملة علينا أن ننظر في محددات العرض والطلب على هذه العملة، وأي اهتزاز أو تغير في محدد من هذه المحددات ينجم عند تقلب في قيمة العملة؛ ارتفاعًا أو هبوطًا، ويمكن إجمال هذه المحددات فيما يلي:
أ- حركة التجارة الخارجية المنظورة وغير المنظورة (الصادرات والواردات السلعية والخدمية) . معروف أن الصادرات تترجم في سوق الصرف بطلب على العملة الوطنية، فإذا زادت زاد الطلب على العملة والعكس صحيح. كما أن الواردات تمثل في سوق الصرف عرضًا للعملة الوطنية، فإذا زادت زاد عرض العملة والعكس صحيح. ومبادئ نظرية السعر تقول إنه إذا زاد الطلب مع ثبات العرض زاد السعر، وإذا زاد العرض مع ثبات الطلب قل السعر.
وهكذا تلعب حركة التجارة الخارجية دورًا مؤثرًا في سوق الصرف أو في قيمة العملة الخارجية؛ هبوطًا وارتفاعًا. ومعنى ذلك أن أية هزة في الميزان التجاري تحدث تقلبًا في قيمة العملة الخارجية. ومن ثم فإنه مؤشر طيب لما يمكن أن تكون عليه هذه القيمة مستقبلاً، فكلما كان هناك فائض في هذا الميزان فلا يخشى على العملة من هبوط قيمتها في سوق الصرف، وعندما يتباطأ هذا الفائض أو يتحول إلى عجز فإن ذلك يعتبر نذيرًا بما قد تتعرض له قيمة هذه العملة في من ضغوط مستقبلاً.
وقد كان هذا المحدد في الماضي يلعب دورًا رئيسًّا في تحديد سعر العملة وفي سوق الصرف، لكنه الآن فقد هيمنته وتخلى عنها للمحددات الأخرى.
ب- حركة رؤوس الأموال الدولية. وبهذا الصدد ميز رجال المال والاقتصاد بين حركات قصيرة لرؤوس الأموال لا تتجاوز مدتها السنة، وحركات طويلة لها تتعدى العام. ومما تجدر ملاحظته أن النوع الأول له الغلبة اليوم في عالمنا الاقتصادي. ويعتبر بضميمة عامل المضاربة المحدد الرئيسي لقيمة العملة الخارجية. ومن المعروف أن الطلب المتزايد على رؤوس الأموال لأجنبية معناه المزيد من العرض للعملة الوطنية وبالتالي المزيد من الضغط على قيمتها الخارجية، ثم إن الحركات السريعة وكذلك البطيئة، لكن السريعة أخطر بكثير هي الأخرى تحدث مزيدًا من عرض العملة الوطنية، ومن ثم تعرض قيمتها للانخفاض.
وهكذا نجد أن توقف أو تدني دخول رؤوس الأموال الأجنبية مع الطلب عليها وأيضًا سداد هذه الديون وفوائدها كل ذلك يمثل ضغطًا على سوق صرف العملة. وباختصار فإن قدوم رؤوس الأموال يتضمن طلبًا على العملة، كما أن خروجه يتضمن عرضًا لها. والمشكلة أنه في معمعة الإلحاح على قدوم رؤوس الأموال الأجنبية قد يحدث انخفاض أو تخفيض في قيمة العملة، إغراءً على تحقيق ذلك.
ج – عمليات المضاربة على العمليات. أصبحت هذه العمليات في السنوات الأخيرة من أهم العوامل المحددة لعرض وطلب العملة، ومن ثم باتت مسؤولة عن معظم ما يحدث في قيمتها من تقلبات، وخاصة التقلبات الهبوطية. وسندلي بمزيد من المعلومات حول هذا العامل في الفقرات التالية.
5 -
نماذج من نطاق التقلبات في القيمة الخارجية للعملات: في السبعينيات والثمانينيات أشارت المراجع (1) إلى ما كان يعتبر تقلبًا عنيفًا في أسعار بعض العملات، ومن ذلك أن الإسترليني انخفض في عام 1976 من (2) دولار إلى (1.55) دولارًا، وفي (1977) صعد إلى (1.97) دولارًا، وفي نهاية عام 1979 قفز إلى (2.4) دولار، وفي منتصف عام 1985 انخفض إلى (2) دولار، وفي نهاية 1985 صار (1.50) دولارًا. أما (الين) فقد قفز إلى (265) ينًا للدولار، وفي عام 1975 انخفض إلى (300) ين وأكثر، وفي عام 1978 وصل إلى (175) ينًا، وفي خريف عام 1982 انخفض إلى (275) ينًا، وفي شتاء عام 1985 عاد إلى (200) ين.
هذه التقلبات التي كانت تعد عنيفة لا تثمل شيئًا أمام ما حدث ويحدث للعديد من العملات في التسعينيات، لقد كانت التقلبات على مدار السنوات واليوم أصبحت على مدار الشهور بل الأيام، وكانت أقصى ما وصلت إليه ثلاثة أمثال، واليوم صارت أكبر من هذا بكثير، فمثلاً كان سعر الروبل الروسي في النصف الأول من شهر أغسطس 1998 سبعة لكل دولار أمريكي، وقبل نهاية النصف الأول من شهر سبتمبر من نفس العام هبط إلى (24) روبلاً لكل دولار.
وفقدت الروبية الأندونيسية خلال ثمانية أشهر أكثر من (80 %) من قيمتها فكانت في يوليو 1997 (2400/1) أصبحت في فبراير 98 بـ (20 %) فقط ويراد لها أن تصبح (20000/1) .
* * *
(1) روبرتس ألبير، لعبة النقود الدولية، ص 19، 20.
ثانيًا: المضاربات على العملة (1) - أبعاد رئيسة
في أيامنا هذه كثيرًا ما يكون وراء صفقات استبدال العملات دافع المضاربة. فالمضاربون على العملات منتشرون في كل مكان، يمارسون عملياتهم من خلال مؤسسات وتنظيمات، وأحيانًا يمارسون ذلك بصفة فردية إذا ما وصلوا إلى درجة بالغة من القوة (2) . وفيما يلي نقدم تعريفًا موجزًا بأهم أبعاد هذا السلوك المضاربي.
1 -
تعريف المضاربة في الفكر الاقتصادي الوضعي: يعرف الفكر الاقتصادي الوضعي المضاربة على السلع كما يعرف المضاربة على العملات وكذلك على الأوراق المالية. وجوهر العملية واحد، وإن اختلف الموضوع، المضارب يختلف عن التاجر، وإن كان يجمع بينهما دافع الربح ودوافع أخرى، إن المضارب يشتري الشيء لمجرد أنه يتوقع أن يرتفع سعر هذا الشيء وعندئذ يبعه فيحقق المكاسب. كما أنه يبيع الشيء لأنه يتوقع مزيدًا من الهبوط في سعره، فيتفادى الخسائر أو المزيد منها. وهناك أناس ومؤسسات تحترف المضاربة متخذة منها حرفة ومهنة، بحيث صارت تعرف بها، فيقال مثلاً (جورس سورس) المضارب العالمي الشهير في العملات (3) .
فالمضاربة لون من ألوان التجارة ذات مواصفات خاصة.
(1) نأسف لاستخدامنا مصطلح المضاربة هنا مع أنه استخدام في غير محله المعروف لغة وشرعًا. لكنها الترجمة الرديئة الجاهلة للمصطلح الأجنبي (Spcculation) علمًا بأن في لغته الأجنبية لا يعني من بعيد أو قريب ما يعنيه مصطلح المضاربة في لغته العربية. وإنما يعني المراهنة والمقامرة والمخاطرة التي لا تخضع لضوابط. وما دفعنا إلى هذا النهج مع علمنا بما فيه إلا تخاطب الناس بما يعرفونه، ومن ثم المزيد من التأثير. وأعترف بأنها ضرورة وهي تقدر بقدرها. ونأمل أن نتجاوزها سريعًا ونسمي الأمور بأسمائها الصحيحة. فالحق أحق أن يتبع.
(2)
وفي هذا الصدد كتبت المجلة الاقتصادية الأمريكية على صفحة غلافها عن المضارب الشهير (سوروس) الرجل الذي يحرك الأسواق.
(3)
وهناك ما يعرف بمجموعة الإثني عشر في أمريكا وهي مؤلفة من كبار اللاعبين في (وول ستريت) ، انظر تفصيلاً لذلك في (البورصات وتدعيم الاقتصاد الوطني) ، د. السيد الطيبي، كتاب الأهرام الاقتصادي، العدد 57، نوفمبر 1992، ص 24 وما بعدها وما قبلها.
وهكذا يمكن تعريف المضاربة في العملة بأنها طلب العملة لذاتها لا لاستخدامها في سداد دين ما أو في شراء أصل ما، وإنما لأن المشتري لها يتوقع ارتفاع سعرها هي مستقبلاً فيبيعها محققًا الأرباح، وهي أيضًا عرض العملة لهدف محدد هو تفادي الخسائر في الاحتفاظ بها حيث يتوقع هبوط قيمتها. ولذلك نجد بعض الباحثين يعرفها بأنها تحكيم زمني، أي بيع اليوم للشراء غدًا أو شراء اليوم للبيع غدًا (1) .
ولم تعد المضاربة اليوم قاصرة على توقع ما يحدث، وإلا لهان الخطب نسبيًّا، ولكنها أصبحت عملاً مقصودًا وليس مجرد استفادة من فرصة متوقعة، إنها باتت خالقة للفرصة وليست منتظرة لها، قد تريد جهة ما أو مؤسسة ما تحقيق هدف معين فتشيع في السوق أن السعر سيهبط أو يرتفع حسبما يتفق ومصلحتها ثم تتدخل ممارسة البيع أو الشراء. فتحدث في السعر ما تريده، ضاربة بعرض الحائط ما يترتب على ذلك من مضار ببعض الأشخاص أو الفئات أو المجتمعات، وإذا كان ذلك يحدث كثيرًا في المضاربات في السلع، فهو يحدث أكثر في الأوراق المالية، ويحدث أكثر وأكثر في العملات، لما لها من طبيعة خاصة تتميز بها عن بقية السلع، وهي عدم وجود أساس ثابت يحكم مستوى سعرها العادي بينما نجد في السلع الأخرى نفقة الإنتاج، وبالتالي فتقلبات قيمتها مرنة إلى حد كبير. ومن المعروف أن هناك ما يعرف بالمضاربين على الهبوط (Bear) فهم يتوقعون الهبوط أو يصنعونه فيبيعون، وعندما تهبط الأسعار بالقدر المغري يعودون فيشترون، لمعرفتهم بأن السعر سيرتفع مستقبلاً، حيث الهبوط كان مؤقتًا، بل ومفتعلاً في كثير من الحالات.
كما أن هناك مضاربين على الصعود (Bull) يتوقعون الارتفاع أو يصنعونه فيشترون، ثم يعيدون البيع عندما يرتفع السعر بالقدر المغري.
(1) د. زكريا نصر، مرجع سابق، ص 46؛ قارن د. السيد الطيبي، مرجع سابق، ص 11 وما بعدها؛ د. حمدي رضوان (التابع والمتبوع) ، مرجع سابق، ص 154 وما بعدها.
2-
خطورة المضاربة في العملات: من الواضح أن للمضاربة آثارًا سلبية مدمرة سنعرض لها في فقرة مستقلة قادمة، لكن ما نقصده هنا هو الإشارة إلى أن عمليات المضاربة وخاصة في العملات لم تعد مجرد عمليات فردية صغيرة لا تحدث أثرًا يذكر بقدر ما تستفيد مما يحدث بفعل عوامل أخرى، وإنما أصبحت من الضخامة بمكان من جهة، وتأخذ هي المبادرة صانعة في السوق ما تريد0 من جهة أخرى، وتمارس من خلال مؤسسات تنافس اليوم بقوة المؤسسات الإنتاجية، بل كثيرًا ما تتغلب عليها وتجعلها طوع إرادتها. وقد هيأ لها ذلك ضخامة الأرباح المحققة، وكذلك عدم تحملها تكاليف تذكر، كما أنها اخترعت من الأساليب والعمليات ما يغيرها الإغراء الكبير على ممارسة ذلك السلوك، حيث المزيد من التحوط والحماية ضد المخاطر، وحيث الدفع الجزئي أو الصوري، وحيث التكرار السريع الخاطف في عمليات البيع والشراء، وغير ذلك من الصيغ والأساليب التي تشيع داخل بورصات العملة (1)، يضاف إلى ذلك صعوبة سيطرة الدولة على قيمة عملتها في ظل الاتجاه السائد للتعويم حتى وإن كان موجهًا. وفي ذلك يقول مؤلفا (فخ العولمة) (2) : "عبر البورصات والمصارف وشركات التأمين وصناديق الاستثمار المالي وصناديق معاشات التقاعد دخلت مسرح القوى العالمية طبقة سياسية جديدة لم يعد بوسع أحد أيًّا كان، سواء كان دولة أو مشروعًا أو مواطنًا عاديًّا التخلص من قبضتها، إنها طبقة المتاجرين بالعملات والأوراق المالية الذي يوجهون بكل حرية سيلاً من الاستثمارات المالية يزداد سعة في كل يوم، ويقدرون بالتالي على التحكم في رفاهية أو فقر أمم برمتها دونما رقابة حكومية تذكر.
كل هذا يجعل الربح عاليًا من جهة والتكلفة منخفضة من جهة أخرى، وفي هذا ما فيه من الحافز على ممارسة هذه اللعبة، مهما كان فيها من مضار على بقية الأطراف. ويصور لنا مؤلف (لعبة النقود الدولية) صورة قد تكون بدائية بالنسبة لما يحدث اليوم قائلاً: "إن المضاربة الناجمة على العملات ذات ربحية عالية، فقد حقق المضاربون الذين اشتروا الدولار بالجنيه الإسترليني عند سعر التعادل (2.80) دولارًا قبل تخفيض نوفمبر 1967، ثم أعادوا شراء الجنيه عند سعر التعادل الجديد البالغ (2.40) دولارًا حققوا ربحًا قدره (16 %) ، وفي الشهور السابقة على رفع سعر المارك في سبتمبر وأكتوبر 1969 باع المضاربون الدولار ليحصلوا على المارك عند سعر التعادل أربع ماركات، وبعد رفع السعر اشتروا الدولار بسعر (3.67) مارك، محققين ربحًا قدره (8 %) .
(1) د. محمد عبد الحليم، التفسير الإسلامي لأزمة البورصات العالمية، في (أزمة البورصات العالمية في أكتوبر 1997م) ؛ المتتدى الاقتصادي (3) مركز صالح كامل، القاهرة، جامعة الأزهر؛ د. فؤاد مرسي، الرأسمالية تجدد نفسها، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، رقم 147، ص 238، وقد صرح كامديسو مدير صندوق النقد الدولي إبان أزمة المكسيك عام 1995 بأن "العالم في قبضة هؤلاء الصبيان – يقصد المضاربين – "؛ فخ العولمة، تأليف (هانس بيتر مارتين) و (هارالد شومان) ، ترجمة د. عدنان عباس علي، سلسلة عالم المعرفة (238) الكويت، جمادى الآخرة، ص 96، وقد سماهم الرئيس (جاك شيراك) وباء الإيدز في الاقتصاد العالمي.
(2)
هانس بيتر مارتين، هارالد شومان، فخ العولمة، ترجمة د. عدنان عباس علي، عالم المعرفة، الكويت، رقم (238) ، ص 96، جمادى الآخرة 1419هـ.
ومن الجدير بالملاحظة أن المضاربين حققوا هذه الأرباح في شهر أو اثنين، لذا فإن المعدل السنوي للربح يصل إلى (50 %) أو (100 %) . . . وفي عالم تكون فيه معدلات الربح السنوي 8 أو 10 %) هي الطبيعية فإن تلك المعدلات السنوية العالية للربح تجذب المغامرين " (1) . ومع ذلك فقد كبدت الكثير من الخسائر مما ألحق الإفلاس بالعديد من البنوك.
3 -
دوافع المضاربة: يعد الدافع الاقتصادي من أقدم الدوافع، ومن أهمها، سواء تمثل في جني المزيد من الأرباح أو تفادي الكثير من الخسائر، واليوم ظهرت دوافع جديدة تشارك الدافع الاقتصادي خاصة بالنسبة للمؤسسات المضاربة العملاقة على المستوى الدولي، فتعزى عمليات مضاربية بالغة الضخامة اليوم إلى دوافع سياسية ودوافع أيديولوجية مارستها دول – وإن من وراء ستار – ضد دول أخرى.
وأيًّا كانت الدوافع، وبفرض أن المضارب لا يصنع الفرصة وإنما يغتنمها فإن عينيه هي عين الصقر في أفق السماء يترصد فرائسه منقضًا على الفريسة السهلة الثمينة، إنه يراقب الأوضاع السياسية والأوضاع الاجتماعية والأوضاع الاقتصادية مراقبة وثيقة، فإذا ما كانت دلالات هذه الأوضاع إيجابية أقبل على شراء العملة، متوقعًا المزيد من الازدهار، وإن كانت سلبية أقبل على البيع متوقعًا المزيد من الضغوط.
ولنستمع إلى صاحبي (فخ العولمة) يحكيان لنا ما يقوم به المضارب الأمريكي الشهير (ترنت) : "هو يزور أهم أسواق ومناطق العالم نموًّا ما بين خمس وعشر مرات في السنة، ولمدة تتراوح ما بين أسبوع وأسبوعين، وذلك قصد الحصول على معلومات عن كل نواحي الحياة الاقتصادية هناك. ونادرًا ما يوصد باب في وجهه، فرجال الصناعة وممثلوا الحكومات والمصارف المركزية على علم ودراية بالقيمة التي لا تثمن لمثل هذا (المجاهد) من أجل تدفق رأس المال عبر الحدود والقارات. ولا يسعى (ترنت) في أحاديثه للحصول على أرقام أو تنبؤات تقوم على الرياضيات. فحسب ما يقوله، فإن (الإحصائيات متوافرة في أجهزة الكمبيوتر) ، إن المهم هو الجو العام، هو التوترات والصراعات الخفية. ولذا فعليك بالتاريخ دائمًا وأبدًا، فمن درس تاريخ بلد من البلدان دراسة جيدة سيكون بوسعه التنبؤ على نحو أفضل عما سيحدث عند اندلاع الأزمات".
ومعنى ذلك أن هناك ظروفًا وأوضاعًا تعتبر مغرية وجذابة للقيام بعملية المضاربة على العملة، وخاصة فيما يتعلق بالمضارة على الهبوط. ومن المهم الإشارة إلى رؤوس أهم هذه الإغراءات حتى تراقبها الدول الحريصة على تجنب عملاتها أكبر قدر ممكن من المضاربات عليها.
(1) روبرت ألبير، مرجع سابق، ص 77.
وقد أسهمت الأزمات المالية الحادة التي تعرضت لها بلدان عديدة في أيامنا هذه، وفي غمراتها انهارت القيم الخارجية لعملاتها، وكان لعامل المضاربة دوره البارز في ذلك، أسهمت هذه الأزمات في رصد العديد من هذه المغريات.
4-
إغراءات على المضاربة بالهبوط في العملات: لا ندعي أننا هنا سنحيط بكل هذه الإغراءات، وإنما هي الإشارة السريعة إلى بعض أهم هذه الإغراءات (1) :
1 -
تدهور معدل النمو الاقتصادي: إذا سجل الاقتصاد القومي معدلاً مرتفعًا للنمو واستمر ذلك لسنوات متعددة، ثم أخذ في التدهور بعد ذلك، فإن هذا يعد نذيرًا بأن عملة هذا البلد ستواجه قيمتها الخارجية المزيد من الضغوط. ويعد ذلك إغراءً قويًّا لدى المضاربين على الهبوط فيمارسون هذه اللعبة فيهبط سعر العملة بالفعل، وقد قيل على ألسنة بعض المحللين إن بوارد الأزمة لدول جنوب شرق آسيا قد ظهرت منذ عدة سنوات ممثلة فيما لحق معدلات نموها من تدهور، فبعد أن وصل معدل النمو في هذه الدول إلى (8 %) لعشرات السنين فمنذ عدة سنوات، أخذ هذا المعدل في التراجع الكبير، الأمر الذي أنذر بوجود خلل ما، ومن ثم فهناك بوادر لحدوث ضغط على سوق الصرف الأجنبي وبالتالي هبوط سعر العملات الوطنية، وهذه فرصة سانحة أمام كل من يضارب على الهبوط في سوق صرف هذه العملات. وقد اغتنم هذه الفرصة العديد من الجهات والمؤسسات المضاربة.
2 -
تدهور وضع الميزان التجاري: الحالة التي عليها الميزان التجاري لأية دولة وتطور هذه الحالة هي ترجمة أمينة لما يمكن أن تكون عليه سوق الصرف الأجنبي لعملة البلدة محل الدراسة.
فإذا ما أظهرت تدهورًا ناجمًا عن عقبات أمام التصدير أو ارتفاع معدل الواردات فمعنى ذلك وجود بوادر للضغط على القيمة الخارجية للعملة، حيث يتولد المزيد من العرض مع قلة الطلب، ولاشك أن وجود ذلك يغري المضاربين على ممارسة لعبتهم في سوق صرف العملة الوطنية.
والملاحظ أن الكثير من بلاد جنوب شرق آسيا قد حدث في موازينها التجارية تدهور منذ عدة سنوات، ناجم عن صعوبات كبيرة بدأت تظهر في طريق الصادرات، للعديد من الاعتبارات، والتي من بينها تشابه الصادرات إلى حد كبير في هذه الدول، ومن ثم المنافسة الشديدة على الأسواق الخارجية. وتعرض بعض الدول لمشكلات كبيرة (2) ، فقد وصل عجز الميزان التجاري لتايلاند في عام 1996 إلى (8 %) من إجمالي الناتج المحلي.
(1) غيلير مو أورتيز، ما هي الدروس التي تطرحها أزمة المكسيك بالنسبة للانتعاش في آسيا؟ مجلة التمويل والتنمية، يونيو 1998م.
(2)
د. حاتم القرشناوي، التفسير الاقتصادي للأزمة، في (أزمة البورصات العالمية) ، مرجع سابق، أوري دادوش، توقع انعكاس تدفقات رأس المال، مجلة التمويل والتنمية، صدوق النقد الدولي، ديسمبر 1995.
3 -
ارتفاع وتزايد حجم المديونية الدولية وكذلك المحلية ولاسيما المديونية قصيرة الأجل، فمعنى ذلك أن هناك عبئًا قويًّا ضاغطًا على تلك الدولة تمثل في ضخامة ما تقوم بتسديده من ديون وفوائد، ومن ثم المزيد من الطلب على العملات الأجنبية والمزيد من عرض العملة المحلية.
ويعتبر ذلك إنذارًا بما يمكن أن تتعرض له العملة من تدهور، وهذا ما حدث قبل وقوع الأزمة في الكثير من دول جنوب شرق آسيا، ويكفي أن ندرك أنه قد دخلت هذه الدول ما يوازي مائة بليون دولار من رؤوس الأموال الأجنبية في عام 1996م كما ورد على لسان المدير التنفيذية في صندوق النقد (دكتور عبد الشكور شعلان) في تصريح لصحيفة الأهرام القاهرية في 15/2/1998م. ومعنى ذلك تآكل الدعامة الواقية للنقد الأجنبي وتدهور مناعة العملة المحلية تجاه الهجمات المضاربية التي تنطلق من عقالها لحظة حدوث اهتزاز أو قرب اهتزاز في البورصة.
4 -
ضعف الجهاز المالي والمصرفي: أجمع الخبراء – على اختلافهم في تفسير الأزمة – على أن العامل المالي والمصرفي كان من وراء ما اجتاح دول جنوب شرق آسيا من أزمة اقتصادية عاصفة.
وجوانب الضعف هنا متعددة، منها ما يرجع إلى طبيعة السياسات المالية والنقدية المطبقة، ومنها ما يرجع إلى فساد في الأجهزة القائمة، وضعف شديد في أجهزة الرقابة والمتابعة، وترتب على ذلك، وعلى غيره بذخ في الإقراض، بغض النظر عن مدى جدوى المشروع، وعن ملاءة المقترض وعن جديته، ما أنتج بلايين الدولارات المعدومة على هذه المصارف، الأمر الذي اضطرها إلى المزيد من الاقتراض الخارجي والداخلي، مهما كانت الشروط القاسية، إضافة إلى ما كانت عليه أصلاً من شهية مفتوحة للاقتراض. وتفيد بعض التقارير أن نسبة الديون الرديئة إلى جملة القروض المصرفية في تايلاند حوالي (20 %) ، وفي أندونيسيا حوالي (17 %) ، وفي كوريا حوالي (16 %) ، وفي ماليزيا حوالي (16 %) .
5 -
الإسراف في الإنفاق وسوء تخصيص الموارد: هذه الوضعية هي الأخرى لا خلاف بين المحللين حول إسهامها البارز في وقوع الأزمة الاقتصادية الطاحنة. فقد طفحت على السطح ظاهرة تفشت في المجتمع، وشملت كلاً من القطاع الخاص والقطاع العام، وكلا من رجال الحكم ورجال المال، إنها ظاهرة الإنفاق الذي فاق حدود البذخ، وتربع بجدارة على عرش ما يعرف بالترف، لقد ظهرت فنادق ما فوق خمس نجوم، وكانت بعض هذه البلاد من أكبر البلاد استيرادًا للسيارات الفارهة ولغيرها من السلع المظهرية باهظة الثمن، في الوقت الذي كان فيه الكثير من السلع والخدمات الأساسية غير متوافر.
لقد ارتفع معدل الاستثمار في هذه البلاد بشكل كبير، حوالي (50 %) من الدخل القومي، ويتساءل أحد الخبراء عن مصادر تمويل هذه الاستثمارات الضخمة، إن الكثير منها كان تمويلاً خارجيًّا حوالي (100) بليون دولار في عام 1996، كما أن الكثير منها كان تمويلاً محليًّا، والسؤال المهم ماذا عن حقيقة هذه الاستثمارات ومجالاتها؟ يكاد يتفق الجميع على أن معظمها كانت في مجالات غير إنتاجية في مثل الأسهم والعقارات الفاخرة وفوق الفاخرة، وهذا استثمار غير حكيم ويزداد الأمر سوءًا إذا ما كان تمويله بقروض قصيرة الأجل.
وقد تمثل الاستثمار العقاري ليس في الإسكان الشعبي أو المتوسط ولكنه في الأبراج وناطحات السحاب وملاعب الجولف، وقد فاقت طاقة هذه المشروعات القدرة الاستيعابية للسوق المحلية وكذلك القدرة على التصدير فيما يمكن تصديره، وقد استنفد جزء كبير من الأموال في تقديم رشاوي وعمولات من أجل الحصول عى هذه التسهيلات المصرفية، والتي عرفت بقروض المجاملة. وبهذا فقدت هذه المشروعات القدرة على سداد ديونها، الأمر الذي ولد إشاعة عدم الثقة والتي عمت أسواق الأوراق المالية والصرف، فاندفع الناس في موجات متلاطمة للتخلص من الأوراق المالية والعملة المحلية، وبذلك فقدت عملات هذه الدول ما يتراوح بين (35 %) و (60 %) من قيمتها خلال عام 1997م.
6 -
ارتفاع معدلات التضخم: عندما تظهر الدلائل احتمال ارتفاع معدلات التضخم في مجتمع ما، فإن ذلك نذير ضغوط مستقبلية على قيمة العملة الخارجية، أيًّا كان نظام تحديدها، فإما أن تضطر الحكومة لتخفيضها وإما أن يقوم سوق الصرف بهذه المهمة، حيث الضغط على الميزان التجاري وصعوبة التصدير وشراهة الاستيراد، وحيث الحركة المحمومة الداخلية والخارجية للهروب من العملة واستبدالها بعملات أخرى مستقرة.
والتاريخ الاقتصادي الحديث للعديد من الدول ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية شاهد على أن تعرض المجتمع لضغوط تضخمية أثر في سلوك المتعاملين في سوق الصرف، الأمر الذي ولد بدوره المزيد من الضغوط على القيمة الخارجية للعملة والتي خفضتها بشكل بكير. وهكذا يعتبر التضخم نذيرًا بما سيحدث لسوق صرف العملة، وهذه فرصة سانحة للمضاربين على الهبوط فيبادرون بممارسة عملية المضاربة.
7-
الفساد الحكومي والقلاقل السياسية: في كثير من هذه الدول التي ضربتها الأزمة الاقتصادية شاع الفساد السياسي بصوره الذميمة العديدة، وتحالف رجال الحكم مع الأصدقاء في عالم الأعمال، وقدموا لهم تسهيلات سخية من بنوك الدولة، وحموهم من دفع ما عليهم من ضرائب، ومن سداد ما عليهم من ديون وحقوق، فقام هؤلاء الأثرياء الجدد بأعمال القرصنة على حد تعبير أحد المراقبين، إضافة إلى الحكم الفردي وانعدام ظاهرة المشاركة السياسية، بل وانعدام عملية الشورى، ومن باب أولى المتابعة الجادة والمساءلة الفعالة.
ثم إن القلاقل السياسية والاضطرابات الداخلية ومع الدول المجاورة كل ذلك يولد عامل الخوف ويزعزع من عامل الأمان، وهذا قد أوجد ظاهرة النقود الساخنة (Hot Money) . والتي تتميز بسرعة الحركة وسرعة التبخر معًا. والتي تتحرك بشكل دائب من مكان لآخر سعيًا وراء الربح السريع، وبالطبع فإن الذي يمارس ذلك بمقدرة هم المضاربون المحترفون.
هذه إشارة موجزة إلى ما يمكن اعتباره بيئة خصبة لقيام ونمو النشاط المضاربي في سوق الصرف الأجنبي، وهي إذا كانت بمثابة إغراءات للمضاربين فهي تحذيرات قوية للدول الحريصة على عملتها وعلى تماسك اقتصادها.
ثالثًا: آثار المضاربات في العملة
قبل أن ندخل في تناول الآثار المترتبة على النشاط المضاربي في العملة، ومدى تدميرها للعملة أولاً، وللاقتصاد القومي ثانيًا، ولأوضاع المجتمع عامة ثالثًا. أحب أن أشير إلى ما يطرحه الباحثون في هذا الصدد من تمييز بين نوعين من المضاربة يطلقون على الأول المضاربة الاستقرارية وعلى الثاني المضاربة غير الاستقرارية. والتمييز بينهما يمكن توضيحه باختصار في كون المضارب في النوع الأول يقوم بالشراء عندما ينخفض السعر، ويقوم بالبيع عندما يرتفع السعر، بينما نجده في النوع الثاني يقوم بالشراء عندما يرتفع السعر، أملاً في استمرار الارتفاع، يقوم بالبيع عندما ينخفض السعر، متوقعًا في ذلك استمرار الانخفاض.
ويلاحظ أن النوع الأول لا غبار عليه، بل إنه يحدث من الآثار الشيء الجيد على سعر العملة دافعًا له إلى الاستقرار، فالشراء عند بداية الانخفاض يوقف هذا الانخفاض. والبيع عند بداية الارتفاع يوقف أو على الأقل يقلل من الارتفاع. إذن هي بالفعل مضاربة استقرارية. بينما نجد في النوع الثاني عملاً اختلاليًّا يزيد من عدم الاستقرار، فعند بداية أو توقع الارتفاع يشتري فيحدث الارتفاع ويزداد الاختلال، وعند بداية الهبوط أو توقعه يبيع فيحدث الهبوط ويزداد الاختلال.
ومما يؤسف له أن النوع الثاني هو السائد والمسيطر حاليًّا في دنيا المضاربات (1) . وهو الذي يولد المزيد من الآثار السلبية التي لا يقف مداها عند الجوانب الاقتصادية بل تتعداها إلى الجوانب الاجتماعية والسياسية. وفيما يلي إشارة إلى بعض هذه الآثار:
1-
تدهور القيمة الخارجية للعملة والذي يبلغ في بعض الحالات حد الانهيار أو ما يقاربه، ومعنى فقدان العملة للكثير من قيمتها الخارجية تدهور قيمة الأصول الاقتصادية العينية والمالية في الاقتصاد القومي، بحيث تتاح للأجانب بأبخس الأسعار، لاسيما في ظل حرية الاستثمارات الأجنبية القائمة.
إن توقع هبوط سعر الشيء ناهيك عن افتعال هبوطه يؤدي فعلاً إلى هبوطه، حيث الإقدام المتزايد على البيع ومن ثم المزيد من العرض. وقد برهنت الأزمات المعاصرة على حدوث هذا الأثر، فوجدنا تدهورًا يصل إلى حد الانهيار في العديد من القيم الخارجية للعملات، ووجدنا تسارعًا بالتخلص في البداية من العملات المحلية وكذلك الأوراق المالية، فزاد الضغط على العملة فهبطت بشدة، وفي أثرها هبطت بشدة أيضًا قيمة الأوراق المالية المقومة بالعملة المحلية فدخل المضاربون بأثمان قد لا تصل إلى نصف القيمة، مستحوذين بذلك على الأصول العينية لهذه الدول بأبخس الأثمان.
(1) لمعرفة موسعة انظر، د. حمدي رضوان التابع والمتبوع، مرجع سابق، ص 154 وما بعدها؛ د. السيد الطيبي، مرجع سابق، ص 28 وما بعدها؛ جون هدسون ومارك هرندر، العلاقات الاقتصادية الدولية، ترجمة د. طه منصور، الرياض، 1987، دار المريخ، ص 831 وما بعدها.
2-
تدهور معدلات النمو الاقتصادي، فبعد أن وصلت إلى (10 %) سنويًّا في دول جنوب شرق آسيا أصبحت الآن لا تتجاوز (4 %) ، وبعضها صارت صفرًا بل سالبة، ومعنى ذلك تدهور مستويات المعيشة، وحدوث حالة من الانكماش والركود، وإفلاس العديد من المؤسسات وتشريد الملايين من قوة العمل وانضمامهم إلى جيش البطالة فقد أغلق في أندونيسيا (16) بنكًا، وفي تايلاند (30) بنكًا.
وتفيد بعض التقارير الواردة من دول جنوب شرق آسيا أن الأزمة الاقتصادية التي ضربتها قضت أو كادت على الطبقة الوسطى فيها؛ فملايين الأشخاص الذين عاشوا حياة أفضل من آبائهم وتعلموا بشكل أفضل وحصلوا على عمل أفضل عادوا من جديد ليعانوا كما عانى آباؤهم من قبل، وساءت ظروف معيشتهم من جديد، فالجوع وسوء التغذية وتدني مستوى العلاج تزداد انتشارًا في هذه الدول. وقد وصل عدد العاطلين في صيف عام 1997 إلى خمسة ملايين شخص، ويتوقع أن يرتفع الرقم إلى عشرين مليونًا مع نهاية العام الحالي، ويوميًّا يفقد حوالي ألفي شخص عملهم في تايلاند. وهكذا باتت الأزمة تهدد طبقة اجتماعية كاملة كان قد أوجدها النمو الاقتصادي السابق.
3-
تآكل الاحتياطيات الدولية وتعرية الاقتصاد ومن ثم تعرضه لمختلف التأثيرات الخارجية، وتزايد حدة المديونية الخارجية، فسحبت تايلاند من جملة احتياطيها وقدره (30) مليار دولار مبلغًا وقدره (23.4) مليار دولار في محاولة منها للحفاظ على قيمة عملتها، ومع ذلك فلم تصمد وتركت عملتها للتعويم. وفي هونج كونج، هب بعض كبار الرأسماليين المحليين للدفاع ولدعم دولار (هونج كونغ) وقد تحمل ثلاثة منهم في ذلك خسائر بلغت (2) مليار دولار (1) .
وقد ربت المديونية الدولية لدول جنوب شرق آسيا من صندوق النقد الدولي وحده من جراء هذه الأزمة على (120) مليار دولار، ومع هذه الضخامة بما تحمله من أعباء ثقيلة؛ فإنها عجزت حتى الآن عن إعادة الثقة في العملات والبورصات الآسيوية.
4-
مع سيادة حالة من الركود يشيع التضخم، ومن ثم نجد الركود التضخمي. وقد شاهدنا جميعًا كيف ارتفعت الأسعار المحلية بشدة عقب الأزمات التي ألمت بروسيا وبدول جنوب شرق آسيا. ومن الناحية النظرية يمكن رد ما يحدث وحدث من تضخم في دول الأزمة إلى العديد من العوامل والاعتبارات والتي منها انكماش العرض وارتفاع سعر الفائدة، وما قد يكون هنالك من تزايد الصادرات. إضافة إلى عامل التوقعات المتشائمة ومن ثم تكالب على الشراء (2) .
(1) د. حاتم القرنشاوي، مرجع سابق.
(2)
جون هدسون، ومارك هرندر، العلاقات الاقتصادية الدولية، ص 835.
5-
إضافة إلى ذلك فهناك ما يعرف بالآثار المعدية حيث لا تقف الأزمة بآثارها عند البلد المصابة، بل سرعان ما تنتشر في الدول الأخرى، لاسيما الدول المجاورة، كما حدث في انتشارها من تايلاند إلى بقية دول جنوب شرق آسيا، ثم تتسع دائرة انتشارها حتى تعم العالم كله. وذلك لما هنالك من ترابط وتداخل بين اقتصاديات الدول، وما هنالك من سوق دولية للاستثمارات، وخاصة قصير الأجل، وهي شديدة الحساسية لكل ما يحدث. وفي سوق الأوراق المالية والعملات تشيع نزعة القطيع. فالكل يفر طالما أن أحد الأفراد قد فر من عدو ما، وسرعان ما يكون الفرار لمجرد الفرار، ودونما وجود حيوان مفترس، بل ربما حركة عشب تجعل القطيع يفر هنا وهناك. وهكذا حركات رؤوس الأموال قصيرة الأجل وغير المباشرة.
وقبل أن نختم حديثنا عن الآثار المترتبة على المضاربة والتي أشرنا في عجالة إلى بعضها نجد من المهم علميًّا وعمليًّا التنبيه على أن هذه الآثار السلبية تحدث من جراء التقلبات العنيفة في القيم الخارجية للعملة، وخاصة منها ما كان ذا اتجاه هبوطي، وهو الشائع الآن. وهذه التقلبات تتولد عن العديد من العوامل بعضها ذو صبغة اقتصادية وبعضها ذو صبغة اجتماعية وبعضها ذو صبغة سياسية. وبعضها دولي المصدر وبعضها داخلي المصدر. وبالتالي فهي لا تقف عند حد عمليات المضاربة في سوق النقد الأجنبي، إن الوعي بذلك مهم في إجراءات الوقاية وفي إجراءات العلاج. ومع ذلك فإنه باتفاق الخبراء وذوي الاهتمام تلعب المضاربة دورًا بارزًا وتمثل عاملاً رئيسًا في إحداث هذه التقلبات العنيفة، الأمر الذي يسوغ للباحث أن يشير إلى هذه الآثار المترتبة على أنها نتائج لعمليات المضاربة.
ومن التصريحات ذات الدلالة في هذا الشأن قول رئيس وزراء ماليزيا: " إن المضاربة في العملة تسببت في إفقار ماليزيا حيث أخذ المضاربون (60 %) من ثروات البلاد علاوة على أموال طائلة من البورصة".
رابعًا: مواجهة المضاربات في العملة
في ضوء الآثار السلبية الفادحة المترتبة على التقلبات العنيفة والخاطفة في القيم الخارجية للعملات والتي تسأل عنها بدرجة رئيسة عمليات المضاربة في سوق الصرف الأجنبي، فإن من الضروري ومن الأهمية بمكان التصدي لهذه العمليات المضاربية الاختلالية ومواجهتها بكل ما يمكن من وسائل وأساليب. وقبل أن نشير إلى بعض هذه الوسائل ننبه إلى ما يكتنف عملية المواجهة هذه من صعوبات وعقبات، ترجع في جزء منها إلى طبيعة سوق الصرف الأجنبي، ونوعية المتعاملين فيه، ومن ذلك تداخل عمليات تبادل العملات بهدف إشباع حاجات حقيقية مطلوبة وبهدف المضاربة وعدم وجود فوراق مميزة بوضوح وحسم بينهما. وكذلك ما يفرضه اليوم النظام الاقتصادي العالمي الراهن من حرية تكاد تكون مطلقة لخدمات المال والتجارة ولعمليات البورصة على المستوى الدولي، الأمر الذي يقيد كثيرًا من قدرة الدول على المناورة ضد ما قد يمارس على عملاتها من مضاربات، ومع ذلك فلا مفر من المواجهة مهما كانت تكلفتها ومهما كانت درجة فعاليتها، حيث الآثار المترتبة من الخطورة والمأساوية بما يجعلها قمينة بالقيام بالمواجهة.
ومن الطبيعي أن المواجهة الصحيحة ما اجتمع لها العنصر القبلي والعنصر البعدي، بمعنى ضرورة وجود مواجهة قبلية ومواجهة بعدية، فقبل وقوع الأزمة وقبل ممارسة التلاعب والمضاربة بالعملة، على الدولة أن تتخذ من الوسائل ما يحول بين عملتها وبين هذه الممارسات قدر طاقاتها، فهي بمثابة التحصين ضد المرض. وإذا ما وقعت الأزمة فعلى الدولة أن تهب لعلاج المرض الذي حل من خلال ما تمتلكه من وسائل، وفيما يلي نجمل القول حيال هذه الوسائل أو بالأحرى بعضها:
1 -
تجنيب المجتمع الإغراءات على القيام بالمضاربات في عملته: وهذا الأسلوب هو أسلوب وقائي وعلاجي في الوقت نفسه، فعلى الدولة أن تكون على أعلى درجة من اليقظة حيال الإغراءات التي سبق تناولها، وعليها أن تمتلك أنجح وسائل الإنذار والتحذير المبكر، بحيث إذا ما ظهر إغراء من هذه الإغراءات مثل تدهور معدل النمو أو تدهور الميزان التجاري أو فساد النظام المالي أو. . . إلخ. فعليها بالمبادرة الفورية والجادة في علاجه، ومنع ظهوره وانتشاره، حتى لا توجد الفرصة أمام عمليات وألاعيب المضاربين، وعلى الدولة التي أصيبت بداء المضاربة أن تفتش جيدًا عن الإغراء، والظرف الملائم الذي جذب المضاربين وتعمل على علاجه العلاج المناسب الناجع.
2 -
ضبط العمل بالبورصة: والمعروف أن المضاربين في بورصات العملة والأوراق المالية لا يقفون عند المضاربة بمفهومها الأولي البسيط (المضاربة الاستقرارية) وهو الشراء أو البيع بهدف الاستفادة من فرصة سانحة أو على وشك الحدوث، إنهم لا ينتظرون الفرصة، وإنما يصنعونها صنعًا، ثم إنهم يمارسون عملياتهم من خلال صور وأساليب عديدة كلها تستهدف حمايتهم من المخاطر من جهة، وتكبير العائد من جهة ثانية، وتدنية التكلفة من جهة ثالثة. ومن ذلك عمليات الصرف الآجل والبيع على المكشوف وبيع المستقبليات والاختيارات والتعامل على المؤشرات والشراء الجزئي أوالهامشي، والتكرار السريع لعمليات الشراء والبيع خلال فترات وجيزة، والتعامل على صفقات قد تكون بالغة الضخامة (1) .
كل ذلك يدعم من مركز المضاربين، ويدفعهم دفعًا إلى ممارسة عملياتهم وألاعيبهم. وإذا لم يكن للدولة من قدرة أو طاقة على منع قيام المضاربات في البورصات، لاسيما ما كان منها خارج حدودها فإنها تمتلك من القدرة والصلاحية ما يمكنها من منع أو تقييد هذه الأساليب التي يستند عليها المضاربون. فلها أن تحد من تكرار البيع والشراء على الشيء الواحد (2) ، وإن كان بفرض ضرائب (3) ، ولها أن ترفض بعض العقود.
وممن حذر بقوة من عدم ضبط العمل في البورصات – وحتى قبل وقوع هذه الأزمات الأخيرة – الاقتصادي الفرنسي الشهير (موريس آليه) حيث يقول في إحدى محاضراته (4) :
" إن البورصات كي تكون نافعة جوهريًّا – وهذا ممكن – يجب إصلاحها بما يلي: يجب منع تمويل العمليات بخلق وسائل دفع من لاشيء بواسطة الجهاز المصرفي، ويجب زيادة هوامش المشتريات والمبيعات المؤجلة زيادة جوهرية، ويجب أن تكون هذه الهوامش نقدية، ويجب إلغاء التسعير المستمر والاكتفاء في كل ساحة مالية بتسعيرة واحدة في اليوم لكل ورقة مالية، ويجب إلغاء البرامج التلقائية للشراء والبيع، ويجب إلغاء المراهنة على الأرقام القياسية (المؤشرات) ".
إذن علينا كي نحد من عمليات المضاربة على العملة ومن آثارها بإصلاحين؛ إصلاح داخل البورصة، وإصلاح خارج البورصة.
(1) وبالفعل فإن قوانين بعض الدول تنص على ذلك حيث تحدد حدًّا أدنى من الوقت لإعادة التعامل فيما سبق، وهذا يحد كثيرًا من عمليات المضاربة، حيث يجردها من آلية تلجأ إليها.
(2)
وهناك من الاقتصاديين من نادى بفرض ضريبة على المتاجرة بالعملات مثل (بومل) و (وتوبين) ، وهي بدورها تحد كثيرًا من عمليات المضاربة في العملة، انظر فخ العولمة، ص 156؛ الاقتصاد الدولي، ص 186.
(3)
د. محمد عبد الحليم، مرجع سابق.
(4)
محاضرة ألقاها في المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب – البنك الإسلامي للتنمية، جدة، بعنوان: الشروط النقدية لاقتصاد الأسواق، من دروس الأمس إلى إصلاحات الغد، 1413هـ، ص 36.
3-
من وسائل المواجهة القبلية تكون احتياطيات نقدية دولية بالقدر الكافي تحصينًا وتدعيمًا لمركز العملة في سوق الصرف: ومن وسائل المواجهة العلاجية (البعدية) استخدام هذه الاحتياطات لدعم ومساندة العملة عندما تتعرض لاهتزازات في قيمتها. ولاشك أن ذلك قد يحد من هبوط قيمة العملة، لكن ذلك قد لا يجدي إذا ما استفحل الأمر، ثم إنه تدمير وإفناء لهذه الاحتياطات، الذي من المهم الاحتفاظ بها، ثم إن استخدامها في ذلك قد يعطي إشارة سلبية بما عليه العملة من ضعف، فتحدث أثرًا نفسيًّا سلبيًّا، فيزداد الموقف سوءًا، كما حدث في بعض حالات الأزمة الآسيوية الراهنة.
4 -
من الوسائل التي ينادي بها الفكر الاقتصادي الوضعي والتي استخدمت بالفعل، رفع سعر الفائدة كعلاج جزئي للأزمة تجنيبًا للعملة من المزيد من التدهور، وعلى أن يلاحظ أن لسعر الفائدة صلة وثيقة بعمليات المضاربة على العملة، ثم إن رفع سعرها يقلل من عائد الأوراق المالية فيسرع الناس بالتخلص منها، فيشتد الضغط على العملة، فتزداد تدهورًا. ثم إنه مهما ارتفع فلن يجعل المستثمر في الأوراق المالية يبقي على استثماراته، حيث لن يعوضها ارتفاع سعر الفائدة عما يخسره من تدهور سعر العملة، إضافة إلى ما يحدثه هذا الارتفاع من تشويه في الاستثمارات ومن تزايد عبء المديونية.
5 -
المزيد من استخدام رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية: من خلال تقديم المزيد من الإغراءات والتي من بينها عدم فرض ضريبة أو تقليل معدلاتها. لكن ذلك الإجراء إبان الأزمة قد يعطي دلالة سلبية، فيوحي بالموقف الضعيف للاقتصاد القومي، وبالتالي السرعة المتزايدة في هروب رؤوس الأموال لا في إقدامها مما يزيد الطين بلة. ثم إن المزيد منها ومهما كان دوره قصير الأجل فإن دوره في الأجل الطويل هو تهيئة الفرصة أمام أزمات اقتصادية جديدة (1) ، وقد اعتبر أحد العوامل المسؤولة عن اشتعال أزمة دول جنوب شرق آسيا.
6 -
كذلك فهناك السياسات التقشفية المالية والنقدية: وهي قد تفيد في بعض الحالات ولا تفيد، بل تزيد الحالة سوءًا في بعضها الآخر، وبالتالي فاستخدامها يحتاج إلى درجة عالية من المهارة.
7 -
الاعتماد على النفس: لاسيما في عمليات التمويل، والتدقيق القوي في نشاط الاستثمار الأجنبي، وعدم التعويل الكبير عليه، فهو بمثابة قنابل موقوتة.
8 -
تدعيم التكتل الاقتصادي وعدم الانفراد في الساحة الدولية: ففي ذلك دعم قوي للدولة عند حدوث أزمة، كما أنه إسهام في تجنيبها هذه الأزمات، وذلك من خلال السياسات الاقتصادية المتكاملة والمتعاونة، وليست المتنافسة، كما كان الحال في دول جنوب شرق آسيا، حيث من عوامل أزمتها المنافسة القاتلة بينها وبين بعضها في الصادرات.
9 -
عدم ترك الحبل على الغارب للسوق وتقوقع الدولة في بؤرة الحراسة التقليدية: فمن الضروري أن يكون للدولة دور قوي وفعال في المجالات الاقتصادية وخاصة مجالات المال والنقد، ولاسيما في مجال الصرف الأجنبي.
10 -
هناك حل أقدمت عليه ماليزيا بعدما تعرضت له من جائحة اقتصادية مزلزلة، تواجه به عمليات المضاربة على العملة وهو عدم قابلية العملة الوطنية للتحويل خارج نطاق الدولة. ويرى القائمون على الأمر هناك أن هذا الحل مثالي في عدم تمكين المضاربين من تعويم العملة من جراء عرضها وطلبها خارج الدولة، ومع هذا فلا يخلو هذا الحل من مشكلات وعقبات.
(1) سوزان ساكاولر، الزيادة الكبيرة في تدفقات رأس المال: أهي نعمة أم نقمة؟ مجلة التمويل والتنمية، مارس 1994؛ غيليرمو أورتيز، ما هي الدروس التي تطرحها أزمة المكسيك بالنسبة للانتعاش في آسيا؟ مجلة التمويل والتنمية، يونيو 1998م.
خامسًا: الاقتصاد الإسلامي والمضاربة في العملة
قبل الدخول في استعراض موقف الاقتصاد الإسلامي من المضاربة في العملات نجد من المهم الإشارة إلى بعض الأمور التي نراها بمثابة مفتاح الموقف. وهي:
1-
إن موقف الاقتصاد الوضعي حيال النقود مضطرب إلى حد بعيد: فبينما نراه يذهب إلى التمييز القاطع بين النقود وبين السلع والخدمات جاعلاً هذه في جهة وتلك في الجهة المقابلة من حيث الخصائص والمميزات، وإلى التحديد الحاسم لعلاقة النقود بالثروة، وهل هي من وجهة نظر المجتمع ثروة أم حق على الثروة. ذاهبًا إلى أنها حق على الثروة وليست داخلة فيها – الحديث عن النقود الورقية والائتمانية وليس عن النقود السلعية وخاصة منها المعدنية من الذهب والفضة – بينما نراه يقف هذا الموقف الجيد والدقيق إذا به يعامل النقود في كل أموره معاملة السلع والخدمات، مدخلاً لها في نطاق الثروات والأصول الاقتصادية. فهي تباع أية سلعة وخدمة، وهي تؤجر كما تؤجر السلع والخدمات، وهي يتاجر فيها كما يتاجر في بقية السلع والخدمات. بل لقد أصبحت التجارة في النقود وأشباهها من أروج التجارات في عصرنا، هذا تحت سمع وبصر ومباركة الاقتصاد الوضعي.
وبدلاً من أن يتكسب الناس من ممارسة النشاط الاقتصادي الإنتاجي في الزراعات والصناعات والتجارة في منتجاتهما؛ أصبحوا يجنون الأرباح الوفيرة، ومن ثم أصبحوا من كبار الأثرياء على المستويات المحلية والمستويات العالمية نتيجة تجارتهم في النقود والأوراق المالية، أو بعبارة أخرى نتيجة انغماسهم فيما أصبح يعرف بالاقتصاد الرمزي.
وبسبب من ذلك – إضافة إلى غيره – كان ما كان وما هو كائن وما هو متوقع أن يكون من أزمات طاحنة تفتك بالاقتصاد الحقيقي، وتكاد تقضي على كل منجزاته. وامتدادًا من هذا الموقف البادي الاختلال وجدنا الاقتصاد الوضعي يكاد يكل كل أمر من النقود إلى الأفراد والمؤسسات الخاصة، وجهاز الأسواق. فطالما عوملت النقود كسلعة تطلب لذاتها شأن أية سلعة فلم لا يخضع شأنها للأفراد؟ ولم لا تدخل الأسواق وتخضع في تحديد قيمتها بل وفي تحديد سعرها إلى قوى العرض والطلب؟
وهكذا انقض الاقتصاد الوضعي على نفسه قاضيًا على كل ما شيده من مبادئ رشيدة.
2-
إذا كان هذا هو موقف الاقتصاد الوضعي حيال ما يعترف هو به من أن النقود أخطر ظاهرة اقتصادية عرفها الإنسان: وأثرت فيه إيجابًا وسلبًا، فإن موقف الاقتصاد الإسلامي مغاير تمامًا.
فالنقود لديه ليست سلعة ولا خدمة، وإنما هي حق على كل السلع والخدمات أو حاكم عليها، كما عبر بحق الإمام الغزالي، إنها في جهة والسلع والخدمات في جهة مقابلة، إنها بتعبير الفقهاء ثمن وما عداها مثمنات، إنها لا تقصد ولا تشبع حاجة بذاتها، وإنما من خلال قدرتها على حيازة وتملك السلع والخدمات ذات المنافع المباشرة وذات القيم الاستعمالية المنفصلة عن القيم التبادلية. بالاختصار الشديد هي شيء وما عداها شيء آخر مغاير تمام المغايرة. وبالتالي فالتعامل معها مغاير تمامًا للتعامل مع غيرها، فهي أداة للتجارة وليست محلاً لها. هي لا تؤجر كما تؤجر بعض السلع، وهي ليست محلاً للتربح بل أداة له (1) .
وهذه بعض نصوص فقهية.
يقول ابن رشد: "المقصود من النقود المعاملة أولاً لا الانتفاع – لاحظ أنه يتحدث وفي ذهنه النقود المعدنية – أما المقصود من العرض – السلع – فهو الانتفاع أولاً لا المعاملة. وأعني بالمعاملة كونها ثمنًا "(2) .
ويقول السرخسي: "الذهب والفضة خلقا جوهرين للأثمان لمنفعة القلب والتصرف"(3) . أي أنهما خلقا ليتاجر بهما، ومن خلالهما تتداول السلع والخدمات.
ويقول النيسابوري: "وإنما كان الذهب والفضة محبوبين لأنهما جعلا ثمن جميع الأشياء، فمالكهما كالمالك لجميع الأشياء "(4) .
ويقول ابن تيمية: " والدراهم والدنانير لا تقصد لذاتها، بل هي وسيلة إلى التعامل بها"(5) .
ويقول الغزالي: " من نعم الله تعالى خلق الدراهم والدنانير وبهما قوام الدنيا، وهما حجران لا منفعة في أعيانهما، ولكن يضطر الخلق إليهما من حيث إن كل إنسان يحتاج إلى أعيان كثيرة – سلع كثيرة – في مطعمه وملبسه وسائر حاجاته. .. فخلق الله تعالى الدنانير والدراهم حاكمين متوسطين – وسيط للمبادلة – بين سائر الأموال – السلع والخدمات – حتى تقدر بهما الأموال. . فمن ملكها فكأنه ملك كل شيء لا كمن ملك ثوبًا فإنه لم يملك إلا الثوب"(6) .
(1) د. شوقي دنيا، النظرية الاقتصادية من منظور إسلامي، الرياض، مكتبة الخريجي، 1404هـ، ص 308 وما بعدها.
(2)
بداية المجتهد ونهاية المقتصد: 1 / 251، القاهرة، مكتبة الحلبي.
(3)
المبسوط: 2 / 184، بيروت، دار المعرفة.
(4)
غرائب القرآن: 2 / 162.
(5)
الفتاوى الكبرى: 19 / 251، الرياض، الرئاسة العامة للبحوث العلمية.
(6)
إحياء علوم الدين: 4/ 9، بيروت، دار المعرفة.
ويقول ابن القيم: " إن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات. والثمن هو المعيار الذي يعرف به تقويم الأموال. فيجب أن يكون محددًا مضبوطًا لا يرتفع ولا ينخفض، إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن له ثمن يعتبر به المبيعات، بل الجميع سلع، وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة. . وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء. . ولا يقوم هو بغيره إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض فتفسد معاملات الناس، ويقع الخلف ويشتد الضرر. كما رأيت من فساد معاملاتهم والضرر اللاحق بهم حين اتخذت الفلوس سلعة تعد للربح، فعم الضرر وحصل الظلم "(1) .
ويقول في موضع آخر: " ويمنع المحتسب من جعل النقود متجرًا – سلعة يتاجر فيها – فإنه بذلك يدخل على الناس من الفساد ما لا يعلمه إلا الله بل الواجب أن تكون النقود رؤوس أموال يتجر بها ولا يتجر فيها "(2) .
إن التحليل الاقتصادي السليم، بل مجرد النظرة الاقتصادية الموضوعية في هذه النصوص تكشف لنا عن موقف إسلامي واضح وحاسم حيال النقود وضوابط التعامل معها.
3-
اتساقًا مع هذا الموقف المبدئي الصحيح للاقتصاد الإسلامي حيال النقود جاء موقفه حيال المسؤولية عنها وعن إنتاجها وصناعتها: إن المسؤول عن ذلك هو الدولة وليس شيئًا آخر، ومسؤولية الدولة في ذلك لا تقل عن مسؤوليتها حيال أي أمر يتوقف على صلاحه صلاح الدنيا، ومن ثم صلاح الدين. وأي عمل يلحق الضرر بنقود المجتمع مرفوض إسلاميًّا حتى ولو كان من قبل الدولة نفسها، وعلى الدولة مسؤولية وقاية النقود منه ودفعه إذا وقع أًّا كانت صورته، وأيًّا كان مصدره يستوي في ذلك الغش والتزوير وتقليل القيمة، والاحتكار والمضاربة وغير ذلك من كل ما يجد من صور وعمليات تلحق الضرر بالعملة (3) ، وما ذلك إلا لأن النقود إذا فسدت فسد اقتصاد المجتمع وفسدت بذلك اجتماعياته، وإذا صلحت صلح اقتصاد المجتمع وكل جوانبه.
(1) إعلام الموقعين: 2 / 156، القاهرة، مكتبة الكليات الأزهرية.
(2)
الطرق الحكمية، ص 281، القاهرة، المؤسسة العربية للطباعة والنشر.
(3)
ولها في ذلك استخدام ما تراه صالحًا من رقابة على الصرف أو تقويم موجه إضافة إلى حظر الممارسات المحظورة في بورصة الصرف الأجنبي، وكذلك سعر الفائدة، حيث تبين أنه يلعب دورًا خطيرًا في ممارسة النشاط المضاربي على العملات والأوراق المالية.
إن ذلك لا يحيل النقود إلى صنم يعبد، فلم يدعُ دين على من يعبد النقود مثلما دعا الإسلام " تعس عبد الدينار والدرهم، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش". لكنها أداة ضرورية وفق الله تعالى الإنسان إلى التعرف عليها. وهذه بعض عبارات العلماء المسلمين في هذا الصدد، مع الإحالة إلى ما سبق ذكره في الفقرة السابقة من نصوص بالغة الدقة والوضوح في هذا الشأن.
يقول الماوردي في عبارة دقيقة مطولة مخاطبًا الملك رئيس الدولة ورأس الحكم في الدولة: "وليعلم الملك أن الأمور التي يعم نفعها إذا صلحت ويعم ضررها إذا فسدت؛ أمر النقود "، ثم أخذ يعدد له المفاسد المترتبة على التلاعب في النقود بأي شكل من التلاعب، خاصة ما يتعلق بقيمتها. إلى أن قال:" وإن كان النقد سليمًا من غش ومأمونًا من تغيير صار هو المال المدخور، فدارت به المعاملات نقدًا ونساءً، فعم النفع وتم الصلاح، وقد كان المتقدمون يجعلون ذلك دعامة من دعائم الملك. ولعمري إن ذلك كذلك، لأنه القانون الذي يدور عليه الأخذ والعطاء، ولست تجد فساده في العرف إلا مقترنًا بفساد الملك"(1) .
ويقول محمد الأسدي: " وربما يقال: إن من تقصير السياسة فساد النقود، وفي فساد النقود دخول الخلل في المعايش والنقص في الأموال والمعاملات "(2)، ثم يواصل قائلاً:"فإذا كانت النقود من الشرف بهذه المرتبة والمزية فمن الواجب الاعتناء بها، وعدم إهمال أمرها. ويجب على ولي الأمر نصره الله أن يأمر بحسن إقامتها وتعديلها وتناسبها في إعدادها وتشكيلها، وتصحيح تدويرها وهندامها وتقرير قيمتها وأوزانها "(3) .
(1) تسهيل النظر، ص 254 وما بعدها، بيروت، دار الهضة العربية، 1981.
(2)
التيسير والاعتبار، ص 116، القاهرة، دار الفكر العربي، 1967.
(3)
التيسير والاعتبار، ص 119، القاهرة، دار الفكر العربي، 1967.
ويقول الإمام أحمد: " لا يصلح ضرب الدراهم إلا في دار الضرب بإذن السلطان، لأن الناس إن رخص لهم في ذلك ركبوا العظائم "(1) . ويقول النووي: "إن ضرب النقود من أعمال الإمام "(2) . ويقول ابن خلدون: "والسلطان مكلف بإصلاح السكة والاحتياط عليها والاشتداد على مفسديها"(3) .
هذه نصوص متواترة تؤكد على أن أمر النقود هو من اختصاص ومسؤوليات الدولة، وحتى إذا مارسها القطاع الخاص فليكن تحت إشراف ورقابة الدولة (4) .
4-
من خلال هذين الموقفين المتغايرين لكل من الاقتصاد الإسلامي والاقتصاد الوضعي حيال النقود نجد من المهم الإشارة إلى أمر برز بوضوح وخاصة في الآونة الأخيرة على لسان بعض كبار الاقتصاديين من غربيين وغيرهم. وهو طرح تساؤل جوهري حول مدى صلاحية الفكر الاقتصادي الوضعي الراهن. وما إذا كان في حاجة إلى ثورة فكرية تفعل فيه ما سبق أن فعلته الثورة الفكرية الكينزية.
يقول الدكتور حازم الببلاوي في معرض تعليقه على الأزمة الاقتصادية التي ضربت بلاد جنوب شرق آسيا: "وجاء أحداث جنوب وشرق آسيا لتلقي من جديد الشكوك حول مدى كفاءة التنظيم الدولي في التنبؤ بالأزمات المالية قبل وقوعها. وليس الأمر مقتصرًا على كفاءة وفاعلية جهاز صندوق النقد الدولي، بل إنه قد ينصرف إلى جوهر النظريات الاقتصادية السائدة والتي يبدو أنها مازالت بعد قاصرة عن الإحاطة بتطورات الواقع الاقتصادي. فهل نحن بحاجة إلى ثورة جديدة في الفكر الاقتصادي كما جاءت نظرية كينز في الثلاثينيات من هذا القرن انقلابًا في الفكر السائد، ولكي تلقي ضوءًا على أسباب الأزمة العالمية في ذلك الوقت؟ سؤال مطروح "(5) .
وقبله ببضع سنين قال الاقتصادي الفرنسي الشهير (موريس آليه) ما هو أشد من ذلك تجريحًا وذمًا في الفكر الاقتصادي المعاصر، ومن أقواله في ذلك (6) :"إنها بالتأكيد لفضيحة فكرية وسياسية كبيرة أن مجتمعاتنا الديمقراطية، بعد تكرر الأزمات الكبرى منذ قرنين على الأقل، لم يظهر أنها قادرة على تحديد المؤسسات الاقتصادية، التي إن لم تؤدِّ إلى إلغاء التقلبات الاقتصادية، فعلى الأقل إلى التخفيف من حدتها بصورة جوهرية "، "إنه في الوقت الذي فرغت فيه فرنسا من الاحتفال بعيدها المائتين للثورة الفرنسية ولإعلان حقوق الإنسان يجب علينا أن نعلن أنه من الحقوق الأساسية للإنسان هي أن يجد هذا الإنسان حماية فعالة من الطريقة الظالمة بل غير الأمينة التي يعمل بها اليوم اقتصاد أسواق، سمح به تشريع غير ملائم، وربما حاباه وشجعه"، ثم جاءت حركة غريبة نشيطة وقوية عقب هذه الأزمات الطاحنة، فقد عقدت مؤتمرات دولية على أعلى مستوى لدراسة قواعد اللعبة وإعادة النظر فيها، ثم تبلور الموقف عمومًا فيما طرح تحت عنوان (الطريق الثالث) .
(1) أبو يعلى، الأحكام السلطانية، ص 181، القاهرة، مكتبة الحلبي.
(2)
روضة الطالبين: 2 / 258.
(3)
المقدمة، ص 526، القاهرة، دار إحياء التراث العربي.
(4)
والبعض يرى أن للدولة القيام بتحديد القيمة الخارجية لعملتها طبقًا لما ذهب إليه بعض العلماء من جواز عملية التسعير، ولكني أرى أن المستند الشرعي لقيام الدولة بذلك طالما كان ذلك أمرًا مطلوبًا هو أقوى بكثير من الاستناد على مسألة التسعير، حيث إن التسعير وما دار حوله كان بإزاء السلع والخدمات الخاصة. أما النقود فهي أمر مغاير تمامًا وهي أمر عام من شؤون الدولة.
(5)
حول أزمة نمور جنوب شرق آسيا، مقال بصحيفة الأهرام القاهرية في 7/2/1998م.
(6)
مرجع سابق، ص 16، 52.
وإنني بدوري أتساءل: في ظل هذه الوضعية المتردية للفكر الاقتصادي الوضعي المعاصر، وعجزه عن عمل شيء فعال لإصلاح واقع الناس ألا يحق لنا، بل يجب علينا أن نعلن بقوة موضوعية ونذيع هنا وهناك بعض إن لم يكن كل مبادئ وأدوات ووسائل الاقتصاد الإسلامي؟ على الأقل فيما يتعلق بالجانب النقدي والمالي وما يقوم عليه من مؤسسات من مصارف وبورصات؟ وبهذا نقي العالم مما يتعرض له بشكل سريع ومتكرر من أزمات وعواصف تخلق باقتصادياته أفدح الأضرار.
إن كل ما نادى به (موريس آليه) من إصلاحات ضرورية للنظام النقدي والمالي وللمؤسسات القائمة فيه هو من المبادئ التي يقوم عليها الاقتصاد الإسلامي. إنه يجزم بحق – ومعه غيره – بأن من عوامل الأزمة ما يسبق الأزمة من سخونة مرتفعة في الاقتصاد ونشاط محموم هنا وهناك، ويؤكد على أن ذلك لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية، بل لا بد من التراجع والتراجع السريع الذي يؤدي إلى فقدان الثقة بالاقتصاد كله.
وقد برهن الواقع على صدق هذا الفكر من حيث ما حدث البلاد جنوب شرق آسيا. ويؤكد على أنه لا علاج لذلك إلا بحظر خلق النقود من لاشيء وإبرام العقود دون دفع، فعند ذلك " لا يمكن أبدًا حدوث ارتفاعات عظيمة في أسعار البورصات التي سجلت قبل الأزمات الكبرى، لأن كل نفقة مخصصة لشراء أسهم يقابلها في موضع ما نقص في نفقات أخرى بمبلغ مكافئ. وتنشأ في الحال آليات منظمة تميل إلى إلغاء كل مراهنة على الأسعار لا مسوغ لها "(1) . إننا لو نظرنا جيدًا إلى أحكام النقود والعقود في الإسلام لوجدنا فيها أكثر مما ينادي به موريس آليه.
وفي اعتقادي أن التعرف على موقف الاقتصاد الإسلامي من عمليات المضاربة على العملات يصبح من السهولة بمكان طالما أمسكنا بمفاتيح القضية السابقة في أيدينا. ويمكن الإشارة إلى أهم جوانب هذا الموقف فيما يلي:
1-
استقرار قيمة النقد داخليًّا وخارجيًّا من مقاصد الشريعة ومطلوباتها لما يتوقف عليه من مصالح عامة الناس، وهو من الوظائف الأساسية للدولة الإسلامية. ومعروف أن الاستقرار شيء والتثبيت شيء آخر، الأول لا يختلف حول فوائده أحد، أما الثاني ففوق أنه متعذر فإن له مثالب لا تحبذ المناداة به على الدوام. وأمام الدولة أكثر من وسيلة لتحقيق هذا الهدف خارجيًّا، ومن ذلك الرقابة على الصرف بضوابط، وكذلك ما يعرف بالتعويم المدار، وسن القوانين التي تمنع من المضاربة على العملة أو على الأقل تجعل منها، مثل تقييد عمليات تكرار البيع والشراء، وفرض ضرائب على ذلك، وحظر الكثير من أساليبها وصورها.
(1) المصدر السابق، ص 23.
2-
التجارة في النقد – وهي غير الصرف المعتد به شرعًا (1) - مرفوضة شرعًا لما تحدثه من فساد عام يحيق بكل جوانب المجتمع. وسبق ذكر تصريح الفقهاء بذلك. لكن القضية اليوم بالغة التعقيد، ففي الداخل كثيرًا ما تختلط عمليات صرف العملات وهي جائزة بالتجارة فيها. ومن الصعوبة التمييز والتفرقة بين هذا النشاط وذاك. ثم إن سوق الصرف اليوم هي سوق عالمية تنتشر في شتى بقاع العالم، ولم يعد يتم انتقال النقود ماديًّا تحت سمع وبصر الدولة، بل يتم بومضات كهربائية. ثم إن النظام الاقتصادي العالمي القائم والذي ترعاه منظمات دولية يسمح بالتجارة في النقود. كل هذا يمثل عقبات أمام أية دولة تريد الهيمنة الفعالة الكاملة على عملتها. ومع ذلك فيظل أمام الدولة صلاحية وضع الضوابط والقيود التي تقلل بقدر الإماكن من الآثار السلبية للتجارة في العملة. والله تعالى يقول:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] .
3-
إذا كانت ممارسة مهنة التجارة في النقود بهدف التربح مرفوضة شرعًا فمن باب أولى كون عمليات المضاربة فيها، وخاصة ما هو سائد ومسيطر في دنيا البورصات اليوم، لما يتولد عنها من مفاسد عامة تصل في بعض الحالات إلى حد تدمير الاقتصاد القومي. وقد اعترف العديد من الخبراء بأنها مقامرات ومراهنات حولت البورصات إلى نوادي وملاعب للقمار، ولو كان رهانًا أو قمارًا على سلعة خاصة أو حتى سلعة عامة لكان الخطب أهون أما أن يكون على نقود الدولة ذات العلاقة الوثيقة بكل ما في الدولة من سلع وخدمات فإن الخطب يكون مفجعًا.
4-
العمليات السائدة في بورصات النقد الأجنبي اليوم والتي يعتمد عليها المتعاملون وخاصة المضاربون، هي عمليات مخالفة لنصوص شريعة مثل البيع الآجل، والبيع الهامشي، والتعامل في المستقليات وفي الخيارات والمؤشرات، كل ذلك أثبتت البحوث الفقهية المعاصرة تحريمه (2) . إن ذلك الحكم الشرعي الرافض يحد كثيرًا من عمليات المضاربة إن لم يقض عليها.
5-
الإسلام يحرم تحريمًا باتًّا مغلظًّا نظام الفائدة. ولا يخفى على مطلع مدى خطورة الدور الذي يلعبه نظام الفائدة في قيام المضاربة على العملات، وفي الاندفاع في هذا النشاط المدمر إنه يبرز في عمليات المراجحة (3) ، وكذلك السوق الآجلة، إضافة إلى عمليات الاستثمارات الأجنبية، وخاصة ما كان منها قصير الأجل وغير مباشر، حتى إن استخدامه لعلاج آثار المضاربة مشكوك في فعاليته. إن موقف الاقتصاد الإسلامي حيال موضوع الفائدة يكفي بمفرده لتجنيب الاقتصاديات الكثير من الأزمات العاصفة، وخاصة إذا ما استخدمت الصيغ التمويلية البديلة من مشاركات ومرابحات وغيرها.
(1) في ملحق للبحث أوضحنا هذه المسألة، حيث لم يتمكن بعض الباحثين من إدراك ما هنالك من تمييز بين النشاطين.
(2)
انظر بحوث الدورة السابعة لمجمع الفقه الإسلامي، مجلة المجمع، العدد السابع، الجزء الأول، 1992.
(3)
المراجحة أو الموازنة (Arbitrage) هي شراء عملة ما من أحد أسواق الصرف وبيعها في الحال في سوق أخرى بغرض تحقيق أرباح من فروق أسعار الصرف بين الأسواق المختلفة. فلنفرض أن سعر الدولار في مصر (340) قرشًا وسعر الجنيه المصري في لندن (0.2) جنيه إسترليني وسعر صرف الجنيه الإسترليني في نيويورك (1.6) دولار فيمكن لشخص أن يحول دولارًا إلى جنيهات مصرية (3.4) جنيه مصري ثم يحول هذا المبلغ إلى جنيهات إسترلينية (0.68) جنيه إسترليني في سوق لندن ثم يحول هذا المبلغ الإسترليني إلى (1.08) دولار في نيويورك وهكذا صار الدولار (1.08) دولارًا وهنا ربح (8 %) . ومن المهم الإشارة إلى أن عمليات المراجحة قد تكون للاستفادة من فروق أسعار الصرف للعملة في سوقين للصرف. وأبسط صورة لها أن يكون سعر الصرف بين الدولار والإسترليني في سوق ما هو مثلاً (1.40) دولارًا وفي السوق الثانية (1.38) دولارًا، فيمكن للشخص أن يشتري جنيهات من السوق الثانية ويبيعها في السوق الأولى، وهذه عملية لا غبار عليها شرعًا طالما استوفت شروطها. وقد تكون الموازنة أو المراجحة للاستفادة من فروق أسعار الفائدة. وهنا نجد الشخص يقوم بشراء العملة ذات الفائدة الأعلى وإيداعها في المصرف للاستفادة من الفروق في الفائدة، وقد يقترض الشخص عملة بفائدة ثم يقوم بتحويلها إلى عملة أخرى يودعها في المصرف بفائدة أعلى لنفس المدة وفي النهاية يسدد ما عليه ويكسب الفرق.
6-
وانسجامًا مع المواقف السابقة فإن الاقتصاد الإسلامي لا يعول كثيرًا على عمليات الإقراض والاقتراض في دنيا الأعمال، وطالما أن الفائدة مرفوضة فلن يبقى لها تلقائيًّا مكان يذكر.
7-
كذلك فإن الإسلام وإن لم يرفض من حيث المبدأ مشاركة الأجانب في الاستثمارات المحلية، فإنه يضع لها من الأطر والضوابط ما يقلل إلى حد كبير من مخاطرها. كما أنه يدفع بها دفعًا قويًّا صوب المجالات الإنتاجية، أو ما يعرف بالاستثمارات المباشرة وليس الاستثمارات المالية.
8-
أقر الإسلام العقوبات الرادعة الزاجرة على كل من يتلاعب في العملة (1) .
9-
كذلك فإن الإسلام يصل في تحريم الإسراف في الإنفاق بكل صوره إلى درجة غير مسبوقة ولا ملحوقة، ويضع من التشريعات العملية ما يجعل ذلك واقعًا معاشًا، ويقدم للدولة في ذلك من الصلاحيات الشيء الكثير، حتى لا تهيئ المجال لظهور هذا المرض الاجتماعي والاقتصادي المعدي الخطير (2) .
وقد رهنت التجارب الراهنة على أن الإسراف ليس مجرد انحراف سلوكي أو اجتماعي، بل إنه انحراف اقتصادي يلحق بالمجتمع من الأضرار الاقتصادية ما يكاد يأتي عليه. وهذا ما يعمق لدينا الإيمان بمبادئ الاقتصاد الإسلامي التي تقوم على الاعتدال وتجريم عمليات التبذير والإسراف والترف.
من جوانب مواجهة الآثار الاقتصادية والاجتماعية للأزمات الاقتصادية:
1-
الإسلام يعطي للدولة صلاحية القيام بما تراه ضروريًّا لعلاج آثار الأزمات الاقتصادية والتي قد يكون منشؤها المضاربة في العملات، من قبيل السياسة الشرعية. ولها في ذلك حظر بعض المباحات مثل التوسع في الإنفاق وتنظيم الصادرات والواردات، وتنظيم انتقالات رؤوس الأموال دخولاً وخروجًا، وإعادة النظر في تخصيص الموارد وتوزيعها بين الاستخدامات المختلفة بما يتطلبه الظرف الراهن، بل وتقليل أعداد العاملين في بعض المشروعات، وفرض الضرائب على بعض الأنشطة والفئات، طالما أن المصلحة العامة اقتضت ذلك، والمعروف أن تصرف الحاكم منوط بالمصلحة.
2-
يمكن القول إجمالاً إن الأثر العام لهذه الأزمات الاقتصادية الراهنة، والتي باتت تضرب مختلف بقاع العالم بدرجة أو بأخرى هو ازدياد حدة الفقر واتساع رقعته. وعلى البلدان التي تعرضت لهذه الأزمات أن تتخذ من التدابير ما يخفف من وطأة آثار هذه الأزمات. وللإسلام موقفه الصريح والحاسم حيال ما تتعرض له الدولة أو الأمة أو الجماعة من نكبات أيًّا كان مصدرها وعواملها. في مثل تلك الحالات الطارئة لا يترك البعض ليموت جوعًا، ويعيش الآخرون، في الحديث الشريف:((إذا بات مؤمن جائعًا فلا مال لأحد)) ، " إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في إناء واحد ثم اقتسموه بينهم بالسوية، فهم مني وأنا منهم ".
وفي الأثر عن عمر رضي الله عنه في عام الرمادة يقول مخاطبًا أحد حكام أقاليم الدولة: "أفتراني هالكًا ومن معي، وتعيش أنت ومن معك "، كما يقول:" لو لم أجد للناس ما يسعهم لأدخلت على أهل بيتي مثلهم، فإن الناس لا تهلك على أنصاف بطونها ". وترجمة هذه التوجيهات والأحكام إلى واقع عملي مناسب مسؤولية المجتمع كله، شعوبًا وحكومات. ويمكن لصندوق الزكاة وصندوق التكافل الاجتماعي أن يلعبا دورًا مهما في ذلك.
(1) الغزالي، إحياء علوم الدين، مرجع سابق: 2 / 130؛ د. رفيق المصري، الإسلام والنقود، جدة، جامعة الملك عبد العزيز، 1410 هـ، ص 16.
(2)
د. شوق دنيا، تمويل التنمية في الاقتصاد الإسلامي، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1984، ص 223 وما بعدها؛ د. عبد السلام العبادي، الملكية في الشريعة الإسلامية: 1 / 95، عمان، مكتبة الأقصى.
ومن المعروف أن المعروض من كثير من السلع والخدمات يقل، وبالتالي فمن المتوقع إن لم يكن المؤكد أن الأسعار سترتفع بشدة، وفي ذلك ما فيه من صعوبة على الفقراء، أصلاً، وعلى من أصبحوا بتأثير الأزمة فقراء. وهنا يلقى الإسلام على القادرين شطرًا كبيرًا من المسؤولية المتعددة الجوانب، من تقليل للاستهلاك، حتى لا ترتفع الأسعار بشدة، ومن دعم للفقراء بصورة المتعددة؛ نقديًّا وعينيًّا، ومن عدم مغالاة في تحقيق الأرباح ومن ثم الاضطرار إلى رفع الأسعار. وعلى الدولة أن تتابع ذلك وأن تحض عليه، وفي النهاية لها أن تسن من التشريعات والسياسات والإجراءات ما يحقق ذلك. وقد مارست الدولة الإسلامية ذلك في بعض عصورها. وخاصة زمن سيدنا عمر رضى الله عنه.
وعلى الدولة أن تسارع قدر وسعها في تقديم الإعانات المختلفة للفئات المتضررة، وعليها أن تيسر وتسهل بل وتدعو وتأمر بالتحركات العمالية عبر الأقاليم وعبر المدن وعبر الريف، حيث من المعروف أن كل الأقاليم في الدولة وكل القطاعات الاقتصادية لا تكون إصابتها واحدة من جراء الأزمة، وبالتالي موقفها من العمالة مختلف. لقد تولت الدولة بكل مستوياتها بدءًا برئيسها في عهد عمر رضى الله عنه توزيع السلع الأساسية على المصابين المتضررين من أزمة الجفاف، واليوم ينادي بعض الخبراء بأهمية قيام الحكومة بإيجاد نظام فعال لتوزيع الغذاء. وكذلك غيره من ضروريات الحياة (1) .
(1) صندوق النقد الدولي، التخفيف من وطأة التكاليف الاجتماعية للأزمة الآسيوية، مجلة التمويل والتنمية، سبتمبر 1998م.
الخاتمة
في هذا البحث الموجز وعدنا بتقديم إجابة عن التساؤلين اللذين مثلا قضية البحث، أو كما يقال:"إشكالية البحث". ونأمل أن يكون قد وفى بما وعد. وفي هذه الخاتمة نعيد تأكيد الاهتمام بما يلي:
1-
استقرار القيمة الخارجية للعملة وتحصينها ضد التقلبات العنيفة مطلب اقتصادي وشرعي على درجة كبيرة من الأهمية لما يترتب عليه من فوائد ومنافع اقتصادية واجتماعية بالغة الأهمية.
2-
المضاربة على العملات باتت اليوم وبحكم توجهاتها وما أتيح لها من إمكانيات وآليات؛ من أخطر ما يواجهه استقرار الاقتصاد القومي والعالمي وتقدمه.
3-
أصبحت أسواق الصرف الأجنبي وبورصات التعامل في العملات بمثابة فرس جامح أو أسد قاضم، تفعل فيما يعرف بالاقتصاد الحقيقي أو العيني ما يحلو لها من إضاعة وتدمير، مما يحتم تكتل الجميع في كبح جماحها وتضبيط حركتها، وهناك العديد من الأدوات والوسائل ما يمكن من ذلك. وعلى رأس كل ذلك أن يكف الاقتصاد الوضعي عن نمط تعامله الراهن مع النقود على أنها سلعة من السلع فهي ليست كذلك. وهذا ما سبق له أن اعترف به، لكنه نسي أو تناسى ما قاله.
4-
الاقتصاد الإسلامي له موقفه المتميز من النقود ومن التعامل معها وبها، وهو بهذا قادر على حماية مجتمعاته المؤمنة به من الوقوع فريسة للتلاعب بعملاتها والمضاربة عليها.
5-
ثم إن منهجه حيال التنمية والعلاقات الاقتصادية الدولية وحيال الاستهلاك والتمويل، كفيل بدوره بتحصين قيمة النقود ضد التقلبات العنيفة التي تتعرض لها بفعل عوامل متعددة من أهمها المضاربة عليها.
6-
وأخيرًا فمن الآليات القوية في تحقيق استقرار القيمة الخارجية للنقود، وعدم المضاربة عليها، أو على الأقل تعقيم ما قد يحدث عليها من مضاربات؛ قيام تكتل اقتصادي إسلامي ينسق بين السياسات الاقتصادية للدول الإسلامية في الداخل والخارج.
والله أعلم.
ملحق في التمييز بين الصرف والتجارة في النقد
في صلب البحث أشرنا إلى أن التجارة في النقد لها موقف مغاير لموقف الصرف في الإسلام، وقلنا أن الأولى مرفوضة إسلاميًّا، وقد صرح بذلك تصريحًا صريحًا العديد من الفقهاء، وإن الصرف مشروع إسلامي بشروط معينة. ونحب هنا أن نوضح بقدر الإمكان ما هنالك من تمييز بين السلوكين، وأن نتعرف على بعض جوانب الحكمة في تحريم الأولى وإباحة الثانية.
تعريف الصرف: الصرف هو بيع الأثمان ببعضها. والأثمان في الاصطلاح الفقهي تعني النقود، سميت بذلك لقيامها بوظيفة الثمنية في المبادلات، ففي كل بيع نجد ثمنًا ونجد مبيعًا. والنقود هي الأثمان المطلقة في العقود، سواء كانت في مواجهة بعضها ولو من جنسها أو من غير جنسها، أو مواجهة سلع وخدمات. إنها متى ظهرت في المبادلة كانت ثمنًا على كل حال. وبعض الفقهاء يصرح في الصرف بأنه مبادلة أو بيع النقود ببعضها.
يقول الإمام السرخسي: "الصرف اسم لنوع بيع وهو مبادلة الأثمان بعضها ببعض. والأموال ثلاثة؛ نوع منها في العقد ثمن على كل حال، وهو الدراهم والدنانير صحبها حرف الباء أو لم يصحبها، سواء كان ما يقابلها من جنسها أو من غير جنسها "(1) .
فمبادلة العملة بعملة من جنسها أومن غير جنسها هو صرف في المصطلح الفقهي، ما عدا الفقه المالكي، حيث قصر هذا المصطلح على مبادلة العملة بعملة من غير صنفها، مثل الذهب بالفضة، والريال بالجنيه. أما بيع العملة بعملة من صنفها فإن كانت عددًا فيسميها مبادلة وإن كانت وزنًا فيسميها مراطلة.
أهمية عملية الصرف في حياة الناس: للصرف، وخاصة بالمفهوم المالكي له، أهمية بينة في حياة الناس، وذلك من حيث تسهيل وتيسير تحصيلهم وتحقيقهم لمطالبهم ومقاصدهم، فما يتوصل إليه بالفضة وهي قليلة القيمة بالنسبة للذهب قد لا يتأتى التوصل إليه بالذهب. والصورة أكثر وضوحًا في العملات المساعدة النحاسية وغيرها. كذلك فإن الحصول على سلع وخدمات في دولة ما يستلزم بذل عملات هذه البلدة وليس غيرها. ومن ثم كان من الضروري قيام صرف أو مبادلة بين العملتين. وغير خاف أن التجارة الدولية وتحركات رؤوس الأموال الدولية تعتمد بصورة أو بأخرى على عملية الصرف بين العملات.
لكن الأهمية الواضحة هذه قد تخفت أو تتلاشى عند مبادلة النقد بنقد من نفس جنسه، ذهب بذهب، أو ريال بريال، أو جنيه بجنيه. اللهم إلا إذا ظهر فضل حقيقي أو معنوي في أحدها يغري الفرد على إتمام هذه المبادلة، وإن لم يكن وراءها نفع للطرف الثاني أو للمجتمع.
مشروعية الصرف: الفعل إذا حقق مطلبًا سليمًا تتطلبه حياة الناس الرشيدة لا يحظره الإسلام بل يجيزه، ويضع له من الضوابط ما يحول بينه وبين ما قد يكون له من آثار سلبية. وبالتأمل في تناول الفقهاء لمشروعية الصرف وجدنا أمرًا قد يكون جديرًا بالنظر وهو خلافهم حول: هل هو جائز بشروط أم هو ممنوع إلا بشروط؟ والفرق كبير بين هذا وذاك رغم أن المآل قد يكون واحدًا. وقد نقل بتفصيل هذا الحوار الفقهي الإمام السرخسي (المبسوط: 14/ 2) . وقد يكون للموقف الأول قوته ووجاهته إذا ما نظرنا للصرف على أنه تبادل عملة بعملة مغايرة، بينما يكتسب الموقف الثاني نفس المزية إذا ما نظرنا للصرف على أنه مبادلة عملة بعملة من جنسها. حيث في الأولى – كما سبق الإشارة – توجد حاجة حقيقية، بينما في الثانية لا نكاد نجد ذلك بوضوح مع ما قد يتولد عنها من شرور.
وبتجاوز هذا الخلاف الدقيق وبفرض سيرنا على أنه جائز بشروط، فإن هذه الشروط لا تختلف من فريق لفريق بل الجميع متفق عليها لوجود النص الصريح عليها في السنة الصحيحة. وهذه الشروط تنحصر في شرطين:
1-
التماثل المقداري أو الكمي، وزنًا أو عددًا. وذلك إذا كانت المبادلة بين نقد ونقد من جنسه ذهب بذهب، ريال بريال. . . إلخ. لا تتفاوت في المقدار أو العدد تحت أي اعتبار حتى ولو اختلفت في الصفات بل وفي الجودة. والحديث الشريف يصرح بقوله:((مثلاً بمثل)) ، وفي حديث آخر يحدد نوع المثلية هذه بقوله:((وزنًا بوزن)) ، والأحاديث الشريفة يفسر بعضها بعضًا.
(1) المبسوط: 14 / 2.
أما إذا كانت المبادلة بين نقد ونقد مغاير سواء من حيث المادة المصنوع منها مثل الذهب والفضة والنحاس، أو من حيث بلد الإصدار مثل ريال وجنيه، فلا مجال لشرط التماثل هذا.
2-
التقابض أو الفورية المتبادلة: بمعنى أن يتم عند العقد القبض المتبادل بين الطرفين، هذا يسلم هذا ويستلم منه. فإذا لم يحدث قبض من كلا الطرفين أو من طرف منهما فسد العقد، وأصبح التعامل محرمًا. وهذا الشرط يعم كل تبادل في النقود، سواء كانت من صنف واحد أو من أصناف مختلفة. فريال بريال وريال بجنيه وذهب بذهب بفضة، وهلم جرا، لا بد في كل ذلك من التقابض المتبادل الفوري حتى يكون التعامل جائزًا. وبعبارة أخرى لا بد من ذلك وإلا كان التعامل حرامًا.
كل ذلك أخذًا من النص الصحيح "فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد " أو " ها وها"" الذهب بالذهب والفضة بالفضة مثلاً بمثل سواء بسواء يدًا بيد ".
تلمس الحكمة أو بعض جوانبها من هذين الشرطين: تجدر الإشارة أولاً إلى ما لهذين الشرطين من أهمية قصوى في نظر الإسلام، ويكفي أن ندرك أن افتقاد هذين الشرطين أو أحدهما يدخل التعامل في لجة الربا، وكفى به حرمة وبشاعة. ولا شك أن هذا يضيف بعدًا جديدًا لأهمية اكتشاف الحكمة من وراء ذلك أو على الأقل بذل المحاولة الجادة.
وقد يسهل من المهمة طرح هذا التساؤل ومحاولة الإجابة عليه: ما الذي يحدث للحياة الاجتماعية والاقتصادية لو تغاضينا في هذه المبادلات العملانية – إن جاز التعبير – عن هذين الشرطين أو أحدهما؟ وحتى يكون فهمنا جيدًا علينا أن نضع نصب أعيننا أننا أمام تعامل في النقود ولسنا أمام تعامل في سلعة من السلع أو خدمة من الخدمات العادية المعروفة، التعامل هنا محله النقد، هو المعقود عليه وهو في نفس الوقت المعقود به. وللنقد طبيعته وخصائصه وله مهامه ووظائفه. لو وضعنا كل ذلك أمامنا فإن ذلك يمكن أن يوصلنا إلى معرفة ما يصيب الحياة الاقتصادية والاجتماعية من جراء التغاضي عن هذين الشرطين أو أحدهما، عند ذلك تصبح النقود سلعة مثل أية سلعة في المجتمع، تقصد لعينها من بعض الأفراد والجهات ويتربح من بيعها وشرائها، وتؤجر وتستأجر، وتحتكر وتخزن، ويتلاعب في سوقها عرضًا وطلبًا للتأثير على سعرها، وتتقلب أسعارها صعودًا وهبوطًا عمدا أو بحوالة الأسواق، وكل ذلك ضد طبائع النقود، كما أنه يقضي على وظائفها التي لا غنى عنها، بل إنه يقضي على وجودها ذاته، كما قال بحق علماء الإسلام، حيث يصير كل ما في المجتمع سلعًا دون نقد. فهل يعيش المجتمع دون نقود؟ ثم لننظر أثر ذلك على الديون وتراكمها محليًّا ودوليًّا، وعلى الاقتصاد الحقيقي، وعلى العلاقات الاقتصادية الدولية، وعلى الاستقرار السعري الداخلي، وعلى التنمية الاقتصادية وما تقوم عليه من عمليات الإنتاج والتبادل؟ وعلى الاستهلاك.
إن التغاضي عن هذين الشرطين أو أحدهما يفتح الباب على مصراعيه للتجارة في النقود، حيث التربح السريع والضخم، والمجال المفتوح للثراء السريع. لكنا لو تأملنا جيدًا في نطاق وطبيعة التعامل في النقود في ظل هذين الشرطين لوجدنا أن التعامل فيها عند اتحادها يكاد ينعدم نهائيًّا، حيث لن يحقق لأي طرف أية مزية أو فائدة. وبالتالي تكون التجارة فيه عبثية، كما قال بحق الإمام الغزالي:" وأما بيع الدرهم بدرهم فجائز، من حيث إن ذلك لا يرغب فيه عاقل ولا يشتغل به تاجر، فإنه عبث يجري مجرى وضع الدرهم على الأرض وأخذه بعينه. ونحن لا نخاف عى العقلاء أن يصرفوا أوقاتهم إلى وضع الدرهم على الأرض وأخذه بعينه، فلا نمنع مما لا تتشوق النفوس إليه. . "(1)
(1) الإحياء: 4 / 90.
ويبقى التعامل عند اختلاف نوع العملة، لكنه في نطاق الحاجة الحقيقية فقط، وفي نطاق المحافظة على طبيعة وخصائص النقود، فهو تعامل لا يقضي على النقود بل يدعم من دورها ومهامها، ففي داخله تظل النقود ثمنًا، يباع ويشترى للتوصل به إلى الحصول على السلع والخدمات لا لتحويله إلى سلعة من هذه السلع. هذا التعامل في ظل هذه الضوابط جائز واتخاذه مهنة أو تجارة جائزة، لكنها تجارة مكروهة؛ لعسر التحرز من الوقوع في الأخطاء، ولذلك قال العلماء من الأفضل الابتعاد عنها إلا للتقي الحريص على دينه، يقول الإمام الباجي:". . يقتضي جواز المصارفة لمن لم يتخذ ذلك متجرًا، وأما من اتخذ ذلك متجرًا أو صناعة فقد كره جماعة من السلف، قال مالك، أكره للرجل أن يعمل بالصرف إلا أن يتقي الله "(1) .
وليس معنى ذلك زوال هذا النشاط من دنيا الناس، إنه نشاط أساسي، لكنه لا ينبغي أن يكون مجالاً للتربح والتجارة، وإنما الأحرى أن يكون نشاطًا خدميًّا تقوم به الدولة بالدرجة الأولى.
في ضوء هذا التحليل السريع المبسط يمكننا فهم مقصود علمائنا رحمهم الله تعالى من قولهم التجارة في النقد ممنوعة ومرفوعة شرعًا، إنهم لا يقصدون بذلك منع ورفض قيام شخص أو مؤسسة بمزاولة نشاط التعامل في النقد بالمواصفات الموضوعة، إن ذلك لا يدخل ضمن التجارة في النقد بالمعنى الذي يهدفون إليه، والذي ينصرف إلى ممارسة هذا النشاط في غيبة هذه الضوابط. أو بعبارة أخرى التجارة في النقد بما يحيل النقد سلعة كأي سلعة، لكن التعامل فيه بما يبقى عليه وصف النقدية والثمنية فلا يدخل في نطاق التجارة في النقد، وهذه بعض أقوالهم.
يقول ابن رشد الحفيد: " إن منع التفاضل في هذه الأشياء – الأموال الربوية غير النقود – يوجب ألا يقع فيها تعامل – بيع وشراء – لكون منافعها غير مختلفة، والتعامل إنما يضطر إليه في المنافع المختلفة. . وأما الدينار والدرهم فعلة المنع – منع التفاضل – فيها أظهر إذ كانت هذه ليس المقصود منها الربح – أي التجارة فيها على أنها سلعة – وإنما المقصود بها تقدير الأشياء التي لها منافع ضرورية "(2) .
(1) المنتقى: 4 / 271.
(2)
بداية المجتهد: 2 / 110.
ويقول الغزالي: " كل من عامل معاملة الربا على الدراهم والدنانير – تعامل في غيبة الشرطين أو أحدهما – فقد كفر النعمة وظلم، لأنهما خلقا لغيرهما لا لنفسهما إذ لا غرض في عينيهما، فإذا اتجر في عينيهما فقد اتخذها مقصودًا على خلاف وضع الحكمة. . . فأما من معه نقد فلو جاز له بيعه بالنقد – التعامل فيه على أنه سلعة – فيتخذ التعامل على النقد غاية عمله فيبقى النقد مقيدًا عنده وينزل منزلة المكنوز.. "(1) .
ويقول ابن تيمية: " إن المقصود بالأثمان – النقود – أن تكون معيارًا للأموال، يتوسل بها إلى معرفة مقادير الأموال، ولا يقصد الانتفاع بعينها، فمتى بيع بعضها ببعض إلى أجل قصد بها التجارة التي تناقض مقصود الثمنية، واشتراط الحلول والتقابض فيها هو تكميل لمقصودها من التوسل بها إلى تحصيل المطالب، فإن ذلك إنما يحصل بقبضها لا بثبوتها دينًا في الذمة مع أنها ثمن من طرفين، فنهى الشارع أن تباع بثمن إلى أجل "(2) .
ويقول ابن القيم: " وحاجة الناس إلى ثمن – نقد – يعتبرون به المبيعات – السلع والخدمات حاجة ضرورية عامة. . إلى أن يقول: فلو أبيح ربا الفضل في الدراهم والدنانير – عدم التماثل – مثل أن يعطى صحاحًا ويأخذ مكسرة أو ثقالاً ويأخذ خفافًا أكثر منها لصارت متجرًا – سلعة يتاجر فيها – وجر ذلك إلى ربا النسيئة فيها ولا بد فالأثمان لا تقصد لأعيانها بل يقصد التوصل بها إلى السلع، فإذا صارت في أنفسها سلعًا تقصد لأعيانها فسد أمر الناس"(3) .
كما يقول: " وسر المسألة أنهم منعوا من التجارة في الأثمان – النقود – بجنسها لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأثمان "(4) . ولهذا قال في كتاب آخر: " ويمنع المحتسب من إفساد نقود الناس وتغييرها، ويمنع من جعل النقود متجرًا فإنه بذلك يدخل على الناس من الفساد ما لا يعلمه إلا الله، بل الواجب أن تكون النقود رؤوس أموال يتجر بها ولا يتجر فيها"(5)
وهكذا نجد الاتساق في أقوال ومواقف الفقهاء؛ إذ يقولون بجواز الصرف وبحرمة التجارة في النقد. وهذا ما ينادي به اليوم الفكر الاقتصادي الحكيم. والله أعلم.
شوقي أحمد دنيا
(1) الإحياء: 4/ 90.
(2)
الفتاوى: 29 / 471.
(3)
إعلام الموقعين: 2 / 156.
(4)
الإعلام: 2 / 159.
(5)
الطرق الحكمية، ص 281.
المضاربات في العملة
العرض – التعقيب والمناقشة
العرض
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
في هذه الجلسة الصباحية المباركة بمشيئة الله تعالى، نتناول موضوع المضاربات في العملة والوسائل المشروعة لتجنب أضرارها الاقتصادية والتي كتب فيها بحثان سبق توزيعهما عليكم والعارض هو الأستاذ شوقي أحمد دنيا، والمقرر هو الأستاذ أحمد محيي الدين أحمد.
الدكتور شوقي أحمد دنيا:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن تبع سنته وعمل بشريعته إلى يوم الدين.
السيد الرئيس:
الإخوة الكرام، الأعضاء والخبراء:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قبل أن أبدأ كلمتي حدث اتفاق بيني وبين الأخ الدكتور أحمد، صاحب الورقة الثانية على أن يتولى كل منا عرض ورقته، فهل هذا مقبول يا سيادة الرئيس؟
موضوعنا الآن كما تعلمون حضراتكم (المضاربات على العملة) . والورقة المعروضة بعنوان المضاربات على العملة، ما هيتها وآثارها وسبل مواجهتها مع تعقيب من منظور إسلامي.
بداية هذه الورقة المتاحة حاليا هي ورقة موجزة إلى حد كبير لعوامل متعددة، ولكن هناك ورقة أخرى أكثر تفصيلا وتبيانا لبعض القضايا التي وجدت أنها في حاجة إلى تبيان، وقد أودعت الورقة الثانية لدى إدارة الدورة.
إن النقود كما تعلمون كفقهاء وكاقتصاديين نالت أهميتها القصوى لدى فقهائنا من قبل رحمهم الله، ونالت أيضا أهمية كبيرة لدى علماء الاقتصاد، هذه قضية ينبغي أن نعيها جيدا وأن ندرك ما وراءها حيث إن الكثير من المشكلات الاقتصادية المعاصرة والتي تصل إلى حد الأزمات المدمرة والجائحة للعديد من الاقتصاديات اليوم هي في منشأها وفي أصلها لا تخرج عن خلل ما في التعامل مع النقد سواء التعامل مع النقود وعدم فهم حقيقة النقود والحكمة منها وعدم الفهم الدقيق لما وراء وظائفها وأهميتها في اقتصاديات الأمم والشعوب مما يسجل بالتقدير والإعجاب أن الإسلام قد عنى كل العناية بهذه القضية رغم أنه قد لا يبدو ذلك جليا للنظرة الأولى السريعة، لكن المتأمل والمتدبر في كل ما قيل في القرآن الكريم وفي السنة النبوية الشريفة وعلى ألسنة الفقهاء في مختلف المذاهب فيما يتعلق بأحكام الصرف وأحكام البيوع المختلفة كل شيء يدخل فيه النقد سترى أن هناك موقفا قويًّا ومميزا ودقيقا للإسلام حيال النقد، للأسف الشديد هذه القضية كانت تغيب عنا أو عن بعضنا في أيامنا هذه رغم خطورتها البالغة. الاقتصاديون الوضعيون (هم الآخرون) يعترفون بأن النقود وموضوع النقود ومشكلات النقود من أعقد وأخطر القضايا والمشكلات والموضوعات والمسائل الاقتصادية وهم بدورهم (والحق يقال) وخاصة في بداية مواقفهم وفي أصولها كان موقفهم إلى حد كبير جيدا حيث شخصوا طبيعة النقد وعلاقته بالثروة وبالأموال وبالسلع والخدمات، وبينوا أن النقد في واد والسلع والخدمات الأخرى في واد آخر، ولكنهم (وبكل أسف) انقضوا في الممارسات العملية على أنفسهم وخرجوا على ما قالوه واعتبروا النقد سلعة كأي سلعة تباع وتشترى وكان ما كان.
وهذا ما سبق أن حذر منه وبقوة وبوضوح عجيب علماؤنا السابقون إن رخص لهم في ذلك ركبوا العظائم، هذه كلمة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، وهناك كلمات لابن القيم ولابن تيمية والغزالي ولابن رشد، وغيرهم سوف نعرض لها تباعا إن شاء الله توضح لنا مدى ما كان لدى علمائنا من بصيرة ثاقبة بأهمية النقد، يكفي أن نعلم أن الربا يتمحور في الإسلام أساسا حول النقود والتعامل بها وكفى بالربا سوءة وجريمة في نظر الإسلام.
الموضوع هو (المضاربة في العملات أو على العملات) موضوع المضاربة في العملات هذا موضوع شرعي يندرج تحت موضوع أوسع وأشمل وهو التعامل في العملات أو التجارة فيها. ولكي نفهم المضاربة على العملات ونتعرف على الحكم الشرعي فيها، ينبغي أن نتعرف ولو بعجلة سريعة جدًا على التجارة في العملة، وعلى التعامل فيها وعلى قيمتها، وعلى ما يعرف بسوق الصرف الأجنبي إلى آخره، وهذا ما أشارت إليه الورقة المطروحة بإيجاز شديد.
فكما تعلمون للنقود أكثر من قيمة يعرفها الاقتصاديون ويعرفها الفقهاء المهتمون بهذه القضية، قيمة قانونية، وقيمة حقيقية، والقيمة الحقيقية تكلم فيها المجمع كثيرًا، وعقد لها ندوات كثيرة؛ وهي أنها ترجع إلى التضخم والكساد أو الاستقرار النقدي. . . إلى آخره، وقيمة خارجية وهذه هي موضوعنا الآن القيمة الخارجية للنقد. ما معنى القيمة الخارجية للنقد؟ لكل عملة وطنية قيمة خارجية، ما هي قيمتها الخارجية؟ قيمتها الخارجية ببساطة شديدة جدًا وبدون الدخول في تعقيدات فنية لا داعي لها ولا أهمية لها هنا هي نسبة تبادل العملة الوطنية إلى العملات الخارجية، بكم أشتري الدولار بالدينا؟ بكم نشتري الجنيه المصري بالريال السعودي؟ كأنها ثمن ومثمن، فالثمن هو العملة الوطنية والمثمن هو العملة الخارجية، أو بالعكس وكلاهما واحد، المهم أننا في سوق للعملة لتحديد قيمتها وسعرها ليس داخليًّا في مواجهة السلع والخدمات، وإنما في مواجهة العملات الأجنبية لمختلف البلدان.
هذه القيمة تتحدد عادة من خلال ما يعرف بسوق الصرف الأجنبي. سوق الصرف الأجنبي سوق عجيبة الشأن. والورقة أشارت إلى بعض خصائص هذه السوق. أكبر سوق في العالم هي سوق التعامل في العملات اليوم، سوق عالمية بمعنى الكلمة مكانًا وزمانًا، ليس لها مكان معين منحصر كبقية أسواق السلع الأخرى وإنما هي منتشرة في كل بقاع العالم. إذن هي متصلة مكانيًّا.
ثانيًا: هي متصلة زمنيًّا على مدار الأربع والعشرين ساعة تجد سوق النقد قائمة، إذا أغلقت في جزء من أجزائها وفي ركن من أركانها فتحت في جزء آخر، ولذلك على مدار الأربع والعشرين ساعة تجد على مستوى الكرة الأرضية سعر العملة الفلانية معروفًا ومحددًا للجميع، للقاصي وللداني. حجم التعامل فيها وصل إلى درجة رهيبة تفزع حتى الاقتصاديين، الاقتصاديون أنفسهم فزعوا من هذا الحجم، الحجم وصل في اليوم إلى أكثر من تريليون ونصف، وطبعًا هذا المبلغ رهيب، أكثر من ألف وخمسمائة مليار يوميًّا حجم التعامل في النقود لكي نعرف صورة هذا الحجم وخطورة هذا الحجم هذا يعادل حجم الناتج الإجمالي لألمانيا، ونحن نعلم اقتصاد ألمانيا وضخامته وقوته.
حجم الناتج الإجمالي السنوي لألمانيا يتعامل العالم به يومًا واحدًا وليس أسبوعيًّا أو سنويًّا، وهذا يساوي أربعة أضعاف ما ينفقه العالم سنويًّا على سلعة استرايتجية خطيرة وهي البترول، سبحان الله!! هذا التعامل في النقود ما الدافع إليه؟ هذا التعامل الضخم الرهيب الذي تمارسه مؤسسات عملاقة أصبحت المؤسسات الإنتاجية اليوم بجوارها شبه أقزام، هذا التعامل الرهيب ما الدافع إليه؟ ماذا وراءه؟ هل وراءه تحركات سلع وخدمات والتقاء رؤوس أموال؟ هل وراءه مجرد التعامل النقد بالنقد؟ مما يؤسف له أن الغالبية العظمى من هذا الحجم والتي تتجاوز (80 %) في بعض الإحصائيات ترجع إلى التعامل في النقد للنقد أو للمضاربة ولالتقاء رؤوس الأموال قصيرة الأجل وهي الأخرى تجري وراء المضاربة.
ما هي محددات سعر العملة الخارجية أو قيمة العملة الخارجية؟ القيمة الخارجية للعملة يعني طلب العملات الأجنبية عليها أو طلب وتهافت العملة الوطنية على العملات الأجنبية. هذا يعني مبدئيًّا أو إجمالاً إنجاز القرض، ونجد حركة التجارة المنظورة وغير المنظورة تؤثر في قيمة العملة الخارجية، الصادرات والواردات سواء السلعية أو الخدمية، ولكن الصواب أن يكون هو الدور الرئيسي، لأنه هو الأصل، لكنه للأسف توارى وراء المحددات الأخرى مثل حركات رؤوس الأموال وخاصة قصيرة الأجل، ومثل عمليات المضاربة على العملات.
في هذا اليوم يتحدد السعر أو عادة يتحدد السعر الخارجي للعملة بأحد ثلاثة أساليب معروفة، وطرح هذه الأساليب من الأهمية بمكان على هذا المجمع الموقر، لكي نتعرف على الأسلوب الأكثر قربًا من الإسلام، ومن ثم يمكن لنا أن نتبناه ونعمل على تشجيعه.
هناك السعر الإداري أو التسعير الإداري للعملة. فكما تسعر الدولة سلعها وخدماتها الداخلية تتدخل فتسعر العملة. وهذا الأسلوب كان سائدًا في الماضي وتوارى إلى حد كبير في السنوات الأخيرة بدعوى تحرير الإدارة ورؤوس الأموال وسعر الصرف إلى آخره، كما برهنت الأزمات المعاصرة التي نحياها ونعيشها ونكتوي بنارها على هذا الأسلوب.
الأسلوب الآخر المضاد له والمقابل له على طول الخط هو التسعير السوقي أو سعر السوق أو السوق الحر المبني على العرض والطلب ومن خلاله يتحدد سعر العملة، فترتفع اليوم إلى عنان السماء وتهبط غدًا إلى كذا، هذا السعر يسمى التعويم الحر أو المطلق، ويعني أن الدولة لا تتدخل على الإطلاق في هذا السوق. وهذه الصورة رغم أنه يشاع عنها أنها هي السائدة أو أنها هي التي ينبغي أن تسود ويشجع ويروج ويسوغ لسيادتها إلا أنه ليست هناك دولة واحدة في العالم أقدمت على التحرير الكامل – وخاصة من الدول الراشدة والتي هي حريصة على اقتصادياتها – لسعر الصرف وتركه للعرض والطلب، وإنما هناك تدخل من قبل الدولة في هذه السوق، وهذا هو الأسلوب الثالث. الأسلوب الثالث ما يسمى بالتعويم الموجه، بمعنى أن السوق لها دورها فإذا حدث اختلال غير مرغوب فيه الدولة تتدخل بما لديها من وسائل وأساليب لتعيد للسعر قدرًا من التوازن.
ما معنى المضاربة على العملة أو المضاربة في العملة؟ وهل تختلف عن التجارة في العملة؟ وهل الصرف المعروف شرعًا يختلف عن التجارة في العملة؟ تساؤلات أساسية وخطيرة ومهمة وينبغي أن تكون واضحة بشكل جلي أمام واضعي السياسة وأمام خبراء الفقه الإسلامي.
الأصل أن تطلب العملة أو أن تعرض لاستخدامها في سداد دين أو لشراء أصل. هذا هو أصل خلقة النقود. النقود خلقت من أجل أن تكون وسيلة للتبادل، أستخدمها في سداد دين علي، أو أشتري بها أصلاً ما، أو أشتري بها سلعة ما، أو أشتري بها خدمة ما. لكن أحيانًا تشترى أو تطلب النقود وتعرض لذاتها وليس لكونها وسيلة لشراء شيء آخر، لأن المشتري لها يتوقع ارتفاع سعرها مستقبلاً فيبيعها محققًا الأرباح، وهي أيضًا عرض العملة لهدف محدد وتفادي الخسائر من الاحتفاظ بها حيث يتوقع هبوط قيمتها.
فالمضاربة إذن على العملة هي طلب للعملة، وعرض لها، وتعامل فيها كما لو كانت سلعة تطلب للتجارة بها، والتربح بها، وتعرض كذلك لتفادي خسائر من التمسك بها وليس لاستخدامها في شيء آخر.
لم تعد المضاربة قاصرة على توقع ما يحدث وإلا لكان الخطب، ولكنها أصبحت عملاً مقصودًا وليس مجرد الاستفادة من الفرصة المتوقعة، إنها باتت خالقة للفرصة وليس منتظرة لها. قد تريد جهة ما، أو مؤسسة ما تحقيق هدف معين فتشيع في السوق أن السعر سيهبط أو سيرتفع حسب ما يتفق مع مصلحتها، ثم تتدخل في ممارسة البيع أو الشراء فتحدث في السعر ما تريده ضاربة بعرض الحائط ما يترتب على ذلك من مضار ببعض الأشخاص أو الفئات أو المجتمعات.
هذه أصبحت اليوم عملية خطيرة ولم تعد مجرد عمليات فردية لا تحدث خطرًا يذكر بقدر ما تستفيد مما يحدث بفعل عوامل أخرى، وإنما أصبحت من الضخامة بمكان تأخذ بالمبادرة صانعة في السوق ما تريد، تمارس من خلال مؤسسات تتنافس اليوم بقوة المؤسسات الإنتاجية بل كثيرًا ما تتغلب عليها وتجعلها طوعًا لإرادتها. ويكفي أن نعرف في أزمة المكسيك عام 1995 م أن مدير صندوق النقد الدولي قال، وهو يعالج هذه الأزمة:"العالم في قبضة هؤلاء الصبيان "، مشيرًا إلى المضاربين وذكر بأنهم صبيان لصغر سن معظمهم من جهة، ولصغر أهميتهم الحقيقية والفعلية، لكنهم مع ذلك وبكل أسى وحسرة أصبح العالم في قبضتهم.
هناك كتاب ظهر أخيرًا واسمه (فخ العولمة) أشار إلى هذا الموضوع إشارات خطيرة وهو مترجم في (عالم المعرفة) في العدد الأخير له ليتنا نطلع عليه ونقرؤه، يقول:" عبر البورصات والمصارف وشركات التأمين وصناديق الاستثمار المالي وصناديق معاشات التقاعد دخلت مسرح القوى العالمية طبقة جديدة لم يعد بوسع أحد أيًّا كان سواء كان دولة أو مشروعًا أو مواطنًا عاديًّا التخلص من قبضتها، إنها طبقة المتاجرين بالعملات والأوراق المالية الذين يوجهون بكل حرية سيلاً من الاستثمارات المالية يزداد سعة في كل يوم ويقدرون بالتالي على التحكم في رفاهية أو فقر أمم برمتها دونما رقابة حكومية". هذا كلام مكتوب وموجود في الغرب وكتبه عالمان ألمانيان، يتحدث – أي الكلام – عن صعوبة وخطورة ما يجري حاليًّا على الساحة الدولية فيما يتعلق بالمجال المالي.
لعلنا نتساءل: إذا كان الأمر بهذه الخطورة وبهذه الجسامة، كيف ونحن عالم إسلامي ونحن عالم نامٍ إلى حد كبير ما زال ضعيفًا اقتصاديًّا وماليًّا، كيف نتجنب هذه العمليات المدمرة والتي تعتبر أسوأ من الجوائح التي تكلم عنها فقهاء المسلمين قديمًا؟ ويكفي أن نعلم ما جرى في جنوب شرق آسيا وما ضاع من الجهود التي استمرت لثلاثة عقود أو أكثر من النمو المتواصل حيث وصل معدل النمو إلى (10 %) وهذا معدل بالغ الارتفاع في عرف الاقتصاديين الإنمائيين.
هذا الجهد الجبار الذي بذل على مدار السنوات العديدة ضاع أو كاد يضيع في غمضة عين. رئيس وزراء ماليزيا يقول: " أصبحنا فقراء بفعل المضاربة في العملات، أخذت منا ما يقارب (60 %) من ثروتنا الوطنية". شيء خطير، كيف نتجنب أو كيف نواجه هذا الخطر الجسيم؟ لكي أواجه هذا الخطر عليَّ أن أتعرف على الدوافع. ما الذي يدفع هذه المؤسسات الكبرى العملاقة العالمية للمضاربة في العملات وللتدخل في الأسعار الخارجية للعملة ولإحداث تقلبات عنيفة فيها؟ لماذا؟ ما هي الدوافع التي تدفعهم إلى ذلك؟ هي دوافع متعددة، دوافع اقتصادية ودوافع سياسية ودوافع مذهبية، إلى آخر هذه الدوافع. التي يعنينا أنه أيًّا كانت هذه الدوافع فإن هناك عوامل – وهذا ما ينبغي أن نركز عليه – مهيئة ومساعدة سمتها الورقة إغراءات على القيام بالمضاربة في العملة، هذه الإغراءات على الدولة أن تتجنبها. ما هي الإغراءات التي تجعل المضارب يقدم على عمل عملته النكراء التي تحدث ما تحدث؟ إغراءات عديدة.
اسمحوا لي أيضًا أن أقرأ لكم نصًّا صغيرًا عن ما يقوم به بعض المضاربين لكي يتعرفوا على مواطن الضعف والثغرات الموجودة لكي يقتصنوا الفرصة ويغتنموها فيفعلون ما يريدون، يقول صاحب (فخ العولمة) : باحتياج ما يقوم لنا به المضارب الأمريكي الشهير. . . الذي يهمنا قوله هنا أنه هو يقود أهم أسواق ومناطق العالم نموًّا ما بين خمس وعشر مرات في السنة. وبالنظر إلى جولاتهم خلال مدار السنة، يتضح أن مهمة هؤلاء الناس ليس إبرام صفقات حقيقية وعينية ومفيدة، إنما التعرف على الأوضاع الموجودة في العالم خاصة، العالم الذي هو محل نظر والذي فيه نمو وحرمة ونشاط، وفيه استثمارات فإنهم يترقبونه بل ويزورونه ما بين أسبوع وأسبوعين قصد الحصول على معلومات عن كل نواحي الحياة الاقتصادية هناك، وهذه هي الخطورة البالغة لتحديد أسعار النقد الأجنبي وتشجيعه دون حدود ودون ضوابط، ونادرًا ما يوصد باب في وجهه، فرجال الصناعة وممثلو الحكومات والمصارف المركزية على علم ودراية بالقيمة التي لا تثمن لمثل هذا الشخص من أجل تدفق رأس المال عبر الحدود والقارات، ولا يسعى في حديثه للحصول على أرقام أو تنبؤات تقوم على الرياضيات؛ لأنه وحسب قوله فإن هذه الإحصائيات متوفرة في أجهزة الكمبيوتر إن المهم هو الجو العام، والتوترات والصراعات الخفية.
ولذلك أنا لا أتفاءل أبدًا مما يحدث حاليًّا في أندونيسيا وفي ماليزيا وفي بقية دول العالم من الصراعات الداخلية القوية، لأن مردودها سيكون سلبيًّا للغاية على العملة ثانية، وعلى الاقتصاديات القومية لتلك الدول بالتالي. فحسب ما يقول فإن الاحصائيات متوفرة في أجهزة الكمبيوتر. إن المهم هو الجو العام، والتوترات والصراعات الخفية ولذلك فعليك بالتاريخ – يقول كلام شخص مضارب – دائمًا وأبدًا، فمن درس تاريخ بلد من البلدان دراسة جيدة يستطيع التنبؤ على نحو أفضل عما يحدث عند اندلاع تلك الأزمات.
الإجراءات مكتوبة في الورقة ولا داعي لسردها، تدهور معدل النمو الاقتصادي، تدهور وضع الميزان التجاري، ارتفاع وتجاوز حد المديونية الدولية، ضعف جهاز المال والمصارف، الإسراف في الإنفاق وسوء تخصيص الموارد، ارتفاع معدلات التضخم، الفساد الإداري والحكومي والقلاقل السياسية، كل هذه الأشياء هي بيئة مغرية تمامًا لقيام هذه الفئة المتخصصة في التلاعب باقتصاديات الدول.
آثار المضاربة في العملة واضحة لا تخفى على أحد فآثارها تدميرية على المجال الاقتصادي وعلى المجال الاجتماعي، وعلى المجال الأمني، وعلى المجال السياسي، وحتى لا نبالغ في القول فإن هذه الآثار هي آثار ترجع أساسيًّا إلى التقلبات العنيفة وخاصة الهبوط في القيمة الخارجية للعملة، لكن طالما أن المضاربة هي أهم عامل في هذه التقلبات فيمكن أن تعزى هذه الآثار إلى المضاربة في العملة.
تدهور القيمة الخارجية للعملة هذا هو الأثر الأول، ونحن نعلم جميعًا ولسنا بحاجة إلى التعريف بما جرى لعملات دول جنوب شرق آسيا وروسيا والمكسيك وبريطانيا سابقًا.
ثانيًّا – تدهور معدلات النمو الاقتصادي، وهذا يعني تدني أوضاع البلد اقتصاديًّا وبدلاً من أنها كانت ترقى في مجال النمو والتقدم أصبحت الآن إما راكدة أو أن معدل النمو سالبًا، وهذا شيء بالغ الخطورة. كم من الملايين تركوا العمل؟ كم من الملايين من الشركات والمؤسسات أفلست؟ كم من الملايين ممن كانوا يحصلون على دخول أصبحوا فقراء؟ شيء غريب جدًّا ناتج عن هذه التلاعبات في سوق العملة وفي غيرها.
إذن الذي نريد أن نصل إليه هو كيف نواجه المضاربات في العملة؟ كيف نواجه هذه القضية الخطيرة وهذه الظاهرة؟
الأمر الأول: تجنيب المجتمع إغراءات القيام بالمضاربات في عملته. يعني بمعنى آخر أنا أرى الميزان التجاري وميزان المدفوعات، وكذلك أرى الوضع النقدي والوضع المالي للجهاز المصرفي، وأرى كذلك رقابة جيدة، أرى كل هذه الأشياء التي تثير شهية المضاربين وأحاول أن أبتعد عنها.
الأمر الثاني: ضبط العملة في البورصة، وهذه قضية خطيرة، والفقه الإسلامي له باع طويل فيها، وكذلك الإسلام له باع في ذلك. البورصة أصبحت سوقًا رهيبة تجري فيها أشياء تصل إلى حد – كما هم يسمونها – التلاعب بالقمار (نوادي القمار) ، فالإسلام والفقه الإسلامي لهما موقف من هذا وهو موقف طيب إلى آخر مدى فيما يتعلق بضبط العمل في البورصة سواء من جهة الأساليب أو الإجراءات أو القيود أو الضوابط. لا بد لكل دولة أن تترك البورصة – على الأقل في داخلها – تعمل ما تشاء بل يجب أن تضبطها.
كذلك من الأشياء المهمة التي أقدمت عليها ماليزيا – ورغم أنها تواجه الآن بمواقف من الدول الغربية – ما يعرف بالرقابة على الصرف. الرقابة على الصرف معناها أن الدولة لها دور في النقود وفي قيمتها الخارجية ولا يترك الحبل على الغارب للسوق الخارجية.
الاقتصاد الإسلامي موقفه من أفضل ما يكون وعلينا أن نعيه جيدًا، هو يفرق تمامًا في كل أحكامه الشرعية، في الديون التي تكلمنا عنها بالأمس، يفرق تمامًا بين التعامل مع النقد والتعامل مع بقية السلع والخدمات، هذا شيء وهذا شيء آخر، هذا له أحكامه وهذا له أحكامه، تمييز واضح ودقيقي وفني اقتصاديًّا ومن أحكم ما يكون أن أميز بين هذا وبين ذاك، أما أن تختلط المسائل وتصبح جميع السلع تباع وتشترى ويقدر فيها فسوف يحدث ما حدث.
لذا أنا أهيب بالمجمع الموقر أن يوصي المسؤولين عن السياسات المالية والنقدية وأولي الأمر في العالم الإسلامي بأهمية النقود وأهمية التعامل معها، وأن هذه إحدى المسؤوليات الأساسية للدولة الإسلامية، ومسؤولية إصلاح النقد، وكثيرًا ما كان يوجه علماء المسلمين السابقين الحكام إلى هذا. الإمام الماوردي وهو يوجه الحاكم تكلم عن هذا وغيره. أهيب بالمجمع أن يوصي المسؤولين على الأقل إن لم يصدر قرارات حيال أهمية عناية الدولة ومسؤولية الدولة عن النقد أو عن العملة داخليًّا وخارجيًّا.
وأستغفر الله العظيم من كل ذنب ومن كل خطأ، وأشكركم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدكتور أحمد محيي الدين أحمد:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله العليم الخبير الذي شرع لنا من الدين ما فيه صلاح معاشنا ومعادنا، وأزكى الصلاة وأتم التسليم على إمامنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه بإحسان إلى يوم الدين.
أشكر لمجمع الفقه الإسلامي هذه الفرصة في تقديم هذا البحث ومقابلة هؤلاء العلماء الأجلاء، والبحث يتكون من مقدمة أساسية طرحت فيها بعض التساؤلات المهمة التي تصلح حوارًا وتوجه النقاش نحو غاية معينة ومستهدفة. والبحث يتكون من أربعة محاور:
المحور الأول: عن أشكال وأنواع التعامل في العملات، حيث يوضح مصادر الطلب والعرض، وأهم المتعاملين، ووسائل التداول، وأنواع التعامل.
المحور الثاني: التأصيل الفقهي لتبادل العملات من حيث أحكام التعامل في الصرف وتطبيقاتها على أنواع التعاملات السائدة، وتأصيل موقف الاقتصاد الإسلامي من الاتجار في النقود، وسلطة ولي الأمر في تقييد المباح.
المحور الثالث: تناول حالة عملية وهي دور المضاربة في العملات في أزمة دول جنوب شرق آسيا.
المحور الرابع: كان عبارة عن مجموعة من التوصيات وخلاصة البحث بينت الوسائل الممكنة لتجنب أضرار المضاربة في العملات.
الذي يهمني إيراده من المحور الأول في هذا العرض هو أن هناك معاملات ضرورية، ومهمة تقتضيها ظروف التعامل الاقتصادي تتطلب التعامل في العملات كاحتياجات الاستيراد والتصدير والسياحة، وتحويل أرباح الاستثمارات، والقروض والمساعدات الدولية ونحوها. هذه المعاملات ترتب حقوقًا بالعملات الأجنبية على المقيمين أو للمقيمين على الدول الأجنبية.
هناك معاملات اكتشفها المتعاملون أثناء بحثهم الدائب عن الأرباح، ومن هذه المعاملات عمليات الحماية والتغطية للحقوق والالتزامات المقومة بالعملات الأجنبية. وعمليات المراجحة أو التحكيم أو الموازنة، وهي عمليات تستهدف الاستفادة من فروق أسعار الصرف، وتحقيق أرباح سريعة من وراء ذلك وهي عمليات المضاربة.
هذا التفصيل مهم جدًّا ونحن نناقش هذا الأمر.
كذلك أريد أن أبرز في هذا العرض من المحور الأول أنواع التعامل في أسواق العملات حيث يوجد التعامل الهادي ويتم تسليم العملات المباعة والمشتراة خلال يومي عمل بخلاف اليوم الذي تم التعاقد فيه على العملية مع مراعاة أيام العطلات الرسمية.
وتوجد التعاملات الآجلة حيث يتم فيها الاتفاق على تسليم وتسلم العملات المتبادلة في تاريخ لاحق بينما يتفق على أسعار تلك العمليات عند التعاقد.
وهناك عمليات المقايضة (swap) وهي عمليات مبادلة مؤقتة بين عمليتين حيث يتم بيع أو شراء عملة مقابل عملة أخرى في السوق العاجلة، وفي الوقت نفسه يجري تعامل آجل لبيع العملة التي سبق شراؤها وشراء العملة التي سبق بيعها، وعند موعد الاستحقاق يسترد كل طرف عملته بالسعر المحدد عند إجراء العملية.
المحور الثاني تناولت فيه التأصيل الفقهي لتبادل العملات، حيث أبرزت وللتذكرة فقط أحكام التعامل في الصرف، ثم طبقتها على أنواع التعاملات السائدة، وأشرت إلى جواز العمليات العاجلة بالرغم من أن التسليم يتأخر لمدة يومين بسبب أمور تنظيمية وإدارية وللتثبت والتدقيق وإنجاز الوثائق. ولقد حسم هذا الأمر مجمعكم الموقر وأجاز هذه العملية.
ووصلت إلى منع عمليات الصرف الآجلة بموجب الأحكام الفقهية القطعية خاصة وأنها مطية للمضاربة. أكدت على أن عمليات الصرف الآجلة هي عقود لازمة منظمة لم يراعَ فيها أبدًا أن تكون وعودًا. هذه النقطة أبرزها للذين يحاولون تخريج التعامل الآجل على أساس المواعدة في الصرف. . يقول أحد الخبراء: " إنه عندما يتم الاتفاق على سعر معين فإنه يصير ملزمًا ولا يستطيع أي طرف التنصل منه، أو التراجع عنه مهما كانت النتائج المتوقعة ومهما كانت الخسائر التي سوف يتحملها ذلك الطرف نتيجة الالتزام به ".
هناك تعاطف كبير أيها الإخوة تجاه المستوردين أو المصدرين ومختلف أصحاب الحاجات الحقيقية لحماية التزاماتهم بالعملات الأجنبية عندما يتخوفون من ارتفاع العملات المقومة بها تلك الالتزامات، أو لصيانة مكاسبهم عندما يتخوفون من تدني العملة التي وقع بها ذلك الاستيراد. والقضية تتطلب تداولاً عميقًا متخصصًا لأنها قضية مهمة جدًا ولا أجد في الحلول المتاحة الآن مخارج مهمة.
عمليات المقايضة تتضمن الصرف الآجل وهو ممنوع كما أشرنا، وكما أنها تشتمل على بيعتين في بيعة، أو عقدين في عقد وهو ممنوع كذلك.
بالنسبة لسلطة ولي الأمر في تقييد المباح أثرناها لأن التعامل العاجل في العملات بما في ذلك التعامل في أسواق الصرف العاجلة يقع صحيحًا من الناحية الشرعية، لكن السؤال المطروح: إذا ما أفرز هذا التعامل ظواهر سلبية تؤثر على استقرار النشاط الاقتصادي وعلى وضع ميزان المدفوعات ويربك السياسات الاقتصادية والنقدية، هل يجوز للسلطات المختصة أن تمنع أو تقيد حرية المتعاملين في إجراء المعاملات في أسواق الصرف العاجلة أو الدولية أو المحلية؟
ناقشنا هذه القضية من خلال سلطة ولي الأمر في تقييد المباح فكما تعرفون أن المباح هو ما لا يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، وبالتالي فهو يستوي فيه الفعل والترك. أي أن الفرد المسلم حر بأن يفعل وحر بأن يترك فهو بالخيار، وإليه يعود الترجيح بين الفعل والترك بناءً على تقدير مصلحته، وقد يحدث أن يتولى ولي الأمر هذا الترجيح نيابة عن المسلمين وبموجب تقدير المصلحة العامة.
وبعد مناقشة مستفيضة خلصت إلى أنه فيما يختص بالمتاجرة في العملات لغرض الكسب من فروق الأسعار عن طريق المضاربة، وليس استجابة لحاجات حقيقية في التعامل، فلولي الأمر (السلطة المختصة) أن يمنع أوي قيد عمليات المتاجرة في العملات، وله أن يتدخل بكل الوسائل المتاحة في تنظيم آلياتها وتحديد الأسعار، ووضع سقوف لتحركاتها متى ما أظهرت الدراسات والوقائع أن ذلك التصرف ملائم ويحقق المصلحة ويدفع المفسدة، ويحفظ استقرار النشاط الاقتصادي ويدعم السياسات المقررة ويدعم الميزان التجاري وميزان المدفوعات، ولا يجد ذلك إلا بالتالي:
- أن يكون الضرر الكلي الناتج عن تلك المتاجرة مؤكد الوقوع أو كثيرًا غالب، وحتى ولو كانت تلك المتاجرة تحقق مكاسب لأفراد بعينهم.
- أما إذا كان الضرر قليلاً أو نادر الوقوع فلا يلتفت إليه إذ العبرة بأصل الحق الثابت فلا يعدل عنه إلا لعارض الضرر الكثير بالغير.
- أن تكون المصلحة من اتباع السياسات المقيدة للمتاجرة في العملات راجحة في تقدير أهل الاختصاص والمعرفة.
ولكن أيها العلماء الأفاضل لا بد وأن اعترف أنه وبناءً على ما يحدث في واقع التعامل في العملات دوليًّا قد يصعب إن لم يستحل التعرف على نوايا المتعاملين كما أنه قد يتعذر على السلطات المختصة التحكم في مسار عمليات الصرف، إلا أنه يمكن اتخاذ الكثير من الإجراءات التي تستهدف بالأساس تقليل عمليات المتاجرة في العملات بقصد المضاربة، كما سنوضح ذلك في التوصيات اللاحقة.
الجزء الثالث من هذا المحور يتناول تأصيل موقف الاقتصاد الإسلامي من المتاجرة في النقود، ولقد بين الأخ الدكتور شوقي دنيا معالم هذه الوظائف، ولا أريد أن أعيد ما ذكره.
ونتحدث الآن عن حقيقة دور المضاربة في العملات فيما حدث في دول جنوب شرق آسيا. طبعًا بدأت الأزمة في تايلاند عندما بدأ هجوم المضاربين على البات، حيث أنفقت الحكومة ما يعادل أربعة وعشرين مليار دولار، ورفعت أسعار الفائدة إلى ما يزيد عن (30 %) في محاولة مستميتة للدفاع عنه، إلا أنها عجزت عن حمايته، وفقد البات (30 %) من قيمته، وامتدت الأزمة إلى كل من أندونيسيا والفلبين وكوريا وماليزيا، وكان أبرز مظاهرها الانخفاض الشديد في قيمة عملات تلك الدول.
إذن فالأزمة بدأت ببوادر انهيار في العملات وانتهت بانهيار كبير في أسعار عملات تلك البلدان تجاه الدولار. إلا أن ذلك الوجه البارز للأزمة يجب ألا يشغلنا عن حقيقة الأزمة، هل هي أزمة نقدية مالية أم أزمة اقتصادية هيكلية شاملة؟ فكما نعلم فإن أسعار الصرف تعتبر أداة ربط بين اقتصاد مفتوح وباقي اقتصاديات العالم، وفي نفس الوقت تلعب أسعار الصرف دورًا بارزًا في تحديد القدرة التنافسية للاقتصاد وفي وضع ميزان المدفوعات وفي معدلات التضخم والنمو الحقيقي، كما أن حركة التصحيح الاقتصادي تبدأ عادة بتعديل أسعار صرف العملة.
هذا الدور المهم لأسعار الصرف، لأنها محل انعكاس كل السياسات الاقتصادية جعل الكثيرين يتجهون بالأساس إلى المضاربة في العملات باعتبار أنها العامل الحاسم فيما آل إليه وضع تلك البلدان. وقد يكون البعض قد نسي أنه وفي ظل اقتصاد مفتوح مسموح به بالتداول الحر وتحويل العملات، ومستقطب لرؤوس أموال ضخمة تم ضخها في ذلك الاقتصاد فإن أية بوادر أو مظاهر لاختلالات أساسية في ذلك الاقتصاد يجعل رؤوس الأموال تهرب، وبالطبع فإن أول محطة للهروب تتمثل في التخلي عن العملة المحلية واقتناء العملة الأجنبية مما يشكل ضغطًا هائلاً على العملة المحلية ينذر بتداعيات خطيرة.
وقد لخصت أسباب ما حدث في ثمانية عوامل موجودة في البحث، ولكني ألخص الأمر في أن هناك أزمة كامنة في الحياة الاقتصادية لتلك الدول، لكنها ما كان لها أن تسبب انهيارًا كبيرًا لولا تدخل عامل المضاربة في العملات التي كرس وعمق الأزمة وحولها إلى انهيار كبير.
وأود أن أطلع سعادتكم على هذه الإحصائيات المهمة لكي نعرف دور المضاربة.
جاء في إحدى الدراسات: يقدر حكم التعامل الدولي الكلي في أسواق الصرف – إجمالي عمليات البيع والشراء – أن ما يقرب من (1400) مليار دولار يتم تبادلها يوميًّا في أسواق الصرف، وهو ما يمثل مبلغ سنة من التجارة العالمية.
وهذا يعني أن التجارة الدولية تعتبر مؤثرًا هامشيًّا في أسواق الصرف، وأن أغلب عمليات بيع وشراء العملات الدولية ترجع لأسباب أخرى كالمضاربة والمتاجرة في النقود. كما جاء في دراسة أخرى أنه مقابل كل دولار واحد من الأنشطة التجارية يتم تبادل (83) دولارًا في أسواق الصرف، وهذا الإحصاء يوضح أن المال قد حاد عن مهمته الأولى وهي تمويل الاقتصاد.
أفادت بعض الإحصاءات أنه وفي تايلاند وصل حجم استثمارات المحافظ ذات الطابع المضاربي إلى نحو (24) مليار دولار في غضون السنوات الأربع التي سبقت الأزمة.
يقول (داني رودك) وهو اقتصادي من جامعة هارفارد: إنه لشيء مخيف أن تجبر الحكومات على اتباع سياسات تستند في جوهرها إلى ما يمليه (20) أو (30) من متداولي العملات في نيويورك ولندن وفرانكفورت
لا أريد أن أطيل وأخلص إلى بعض التوصيات وسوف أكتفي بذكر أربع منها:
أولاً: لا بد أن نخلص إلى منع وتحريم عمليات التعامل الآجل في العملات في الأسواق المحلية تحت أي مسمى أو أي غرض كان، وعدم توفير الإطار التشريعي والتنظيمي والإجرائي لها. كذلك العمل بقدر الإمكان على منع التعامل الآجل في العملات الوطنية في الأسواق الدولية، وعدم منح ذلك النوع من التعامل أية ضمانات أو تسهيلات أو اعتراف بالحقوق والالتزامات الناشئة عنه.
ثانيًا: العمل بقدر الإمكان على منع عمليات المضاربة في العملات سواء تمت في الأسواق الآجلة أو حتى في الأسواق العاجلة المعترف بها شرعًا، والعمل على إيجاد معايير فاعلة لتصنيف أعمال المضاربة عن غيرها من المعاملات الحقيقية المطلوبة، ومراقبة حركة التدفقات المالية بغرض المضاربة وتقييدها.
ثالثًا: لا بد من التنبه الكامل إلى أن العولمة وإن أصبحت حقيقة واقعة لا بد من التعامل معها – كما يحلو للبعض أن يقول – فإنها تحمل في طياتها مخاطر ومحاذير، منها:
- فتح الاقتصاد أمام المستثمرين الأجانب والمضاربين مما قد يؤدي في أي لحظة إلى حدوث أزمات مالية تتبعها أزمات نقدية ومصرفية وانهيارات.
- في إطار ونطاق العولمة تنتقل الأزمات وبسرعة من دولة لأخرى خصوصًا إذا كانت تتشابه في الخصائص الاقتصادية وهو أمر حاصل لمعظم اقتصاديات الدول الإسلامية.
- في حالة عدم إجراء إصلاحات اقتصادية شاملة تجعل الاقتصاد المحلي قويًّا ومنافسًا ومنتجًا – وهو ما لا يتوقع حصوله في الأجل القصير – فإن النتائج السلبية للعولمة هي التي سوف تسود وتكون أكثر وضوحًا. ولذلك لا بد من النظر في تحصين الاقتصاديات المحلية قبل أو في الوقت نفسه الذي تتم فيه الآن الهرولة نحو تطبيق مقتضيات العولمة.
رابعًا: على الدول الإسلامية أن تتبنى صورًا من صور التعاون المالي لإنشاء صندوق طوارئ لإدارة الأزمات حال حدوثها، وذلك منعًا لانهيار أو تأخر نمو أقطار وبلاد يعول عليها كثيرًا في دعم ومساندة اقتصاديات الدول الإسلامية الأخرى لما تمتلكه من تجارب وبنى أساسية قوية أيدي عاملة مدربة.
أشكر لكم صبركم واستماعكم، وأرجو أن تطلعوا على البحث لأن فيه الكثير من الجوانب التي نريدها. وشكرًا جزيلاً.
التعقيب والمناقشة
الدكتور الزبير:
بسم الله الرحمن الرحيم، وأصلي وأسلم على سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
معالي الرئيس، أود أن أبسط قضية المضاربة ولو كان هذا الموضوع من أصعب المواضيع الاقتصادية لدارسي الاقتصاد. فالمجرب في عصرنا نوعان: نوع نافع ومهم ويتم دائمًا على أساس أن الأصل فيه تحقيق التوقعات المبنية على أساس التنبؤ الصحيح. وهذا النوع من المضاربة نوع نافع، لأنه يحقق التوافق بين الطلب والعرض. ولكن حتى في العملات إذا كانت المضاربة من النوع النافع يحقق منافع للدولة وللنشاط الاقتصادي. وهناك نوع آخر وهو النوع المضر وهو الذي نتحدث عنه اليوم. فإذا كان من هذا النوع الضار فإنه يؤدي إلى أزمات كبيرة جدًا وقد تحدث الإخوة الباحثون عن هذا النوع الضار من المضاربة.
والحقيقة هناك قضيتان، القضية الأولى قضية تسعير العملة، وقضية التسعير موجودة في فقهنا، والحقيقة نستطيع أن نعتمد على رأي الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في تحديد أسعار السلع إذا كان هذا التسعير يؤدي إلى منافع ويؤدي إلى مصلحة عامة. فلذلك يمكن القياس – قياس العملة – لأن العملة إذا اعتبرت من الأمور التي يمكن تثبيت أسعارها فلا شك أننا نستطيع أن نعتمد على رأي الإمامين في قضية التسعير، ولكن هل في تثبيت أسعار العملة في الصرف بالنسبة للعملات الأخرى هل يؤدي إلى منافع محضة أو أن هناك خليط بين منافع ومفاسد؟ في رأي كثير من الاقتصاديين أن ربط العملة وتثبيتها وتثبيت سعر الصرف بسعر محدد غير متغير قد يسبب بعض الخسائر للدول التي تسلك هذا المنهج.
وهناك بدائل أخرى، بدائل ذكرها البحث الأول، تعويم العملة وأيضًا هناك تعويم تعتمده كثير من الدول المربوط بحدين حد أعلى وحد أسفل، حد الأرضية والسقف، وتتحرك العملة في حدود ذلك، لأنه لا يمكن إطلاقًا أن تثبت العملة بينما الأسواق العالمية تتغير فيها أسعار العملات الأخرى بين حين وآخر. لا يمكن لنا تثبيت السعر في سعر محدد ونتجنب مضار التقلبات التي تحدث في أسعار العملات الأخرى.
فإذن أنا أرى – والله أعلم، وأعرضه على إخواننا – أن النظر يكون في ترك حرية العملة وتغيرها، ولكن في حدود دنيا وحدود عليا، ويمكن للجهات المصرفية أن تتدخل في تثبيت ذلك، وحتى هذين الحدين يتغيران بتغير الأسعار الدولية.
هذا ما أردت أن أقوله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدكتور صالح المرزوقي:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على النبي الأمين وبعد؛
أولاً: إن الأسباب الرئيسية للأزمات الاقتصادية والخسائر المفزعة التي بلغت مئات المليارات من الدولارات، والتي حلت بالكثير من دول جنوب شرق آسيا، وأثرت على دول العالم مثل أوروبا وأمريكا واليابان وغيرها، هي تعاطي الربا والعمليات المخالفة كالعمليات الآجلة وبيع المستقبليات والخيارات والمؤشرات والمقايضة المخالفة لأحكام الشريعة الإسلامية، مثل بيع الدين بالدين وهذا ممنوع، وبيع النقود بالنقود بعيدًا عن الضوابط الشرعية، وبيع العملة وعدم القبض، بل الاكتفاء بالتسجيل في الكمبيوتر، ثم بيعها إلى ثان وثالث ورابع وخامس دون أن يقبض البائع أو المشتري، وخشية من وقوع هذه الآثار السيئة على البلدان الإسلامية فإنني أقترح على المجمع الموقر في هذه الدورة المباركة أن يستغل هذا الظرف ويوجه نداءً يناشد فيه الدول الإسلامية حكومات وشعوبًا على تجنب الربا في جميع المعاملات عمومًا وفي المصارف خصوصًا، وأن تلتزم بلدانهم بتطبيق المعاملات المالية الجائزة شرعًا والابتعاد عن المعاملات الممنوعة شرعًا.
وبناءً على ثبوت فشل السياسات الاقتصادية. . . وعدم قدرتها على التصدي لهذه الأزمات الاقتصادية المتكررة، واعتراف كثير من علماء الاقتصاد الوضعي بهذا، إذا رأى مجلسكم الموقر أن يمتد أثر هذا المجمع بتوجيه النصح لجميع دول العالم بالابتعاد عن المعاملات المحرمة مع بيان البدائل الشرعية التي تم الاتفاق عليها في المجمع، فسوف يكون هذا محمودًا لكم وربما يتحقق به خير كثير في العاجل والآجل.
ثانيًا: عرض أخي الكريم سعادة الدكتور شوقي دنيا بشكل مركز في بحثه القيم أسباب المشكلة الاقتصادية التي تعرضت لها الأسواق المالية في دول جنوب شرق آسيا، وتعرض لبيان موقف الاقتصاد الإسلامي، وقد أجاد وأفاد، وفي آخر صفحة من بحثه تكلم عن موقف الاقتصاد الإسلامي من الاتجار بالنقود، وسرد متونًا كثيرة للعملاء في هذا الشأن، وخلص إلى أن التجارة في النقد وهي غير الصرف المعتد به شرعًا مرفوضة شرعًا، حيث قال: إن التجارة في النقود مرفوضة شرعًا. والذي أود أن أنبه عليه أن التجارة في النقود - فيما أعلم ليست - مرفوضة شرعًا بحسب ما توصل إليه فهمي القاصر لقوله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب)) – إلى أن قال -: ((فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد)) ، وقال. . .: سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم عن الصرف، إلى أن قال: فكلاهما يقول: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق دينًا)) ، وقال صلى الله عليه وسلم:((الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما)) . وهذه الأحاديث قد دلت على جواز التجارة في النقود، لأن صرف النقود من عملة إلى عملة ضروري لعموم الناس.
وما ذكره العلماء مما يفهم من البحث أن التجارة فيه ممنوعة، ومما قالوه ما جاء في حاشية الرهوني:" وحكمه الأصلي الجواز وهو ظاهر الأقوال والروايات وكره مالك العمل به إلا لمتقٍ"، وقال ابن رشد:" وباب الصرف من أضيق أبواب الربا فتخلصوا من الربا على من كان عمله الصرف عسيرًا إلا لمن كان من أهل الورع والمعرفة ما يدل به ويهرب منه وقليل ما هم ". فكلام هؤلاء العملاء لا يدل على عدم الجواز في تجارة النقود وإنما يدل على أن كثيرًا ممن يعملون في هذا المجال ينقصهم العلم بأحكامه أو لا يتورعون فيها مما يؤدي إلى انزلاقهم في الحرام، لكن مثل هاتين الحالتين لا تعودان على هذا النوع من العقود بالحرمة أو الكراهة وإنما تلحق الحرمة والبطلان العقد إذا لم يستوفِ الشروط اللازمة له.
والغزالي أيضًا لا يمنع بيع أحد النقدين بالآخر كما جاء في كتابه (الجهل بالدين)، وأما قوله:"فإذا اتجر في أعيانهما فقد اتخذهما مقصودًا على خلاف وضع الخدمة إذ طالب النقد لغير ما وضع له ظلم "، قوله هذا غير مسلم لأنه ما دام الله – سبحانه وتعالى – أجاز بيعهما وشراءهما على لسان رسوله كما بينه فيما سبق فإن من لوازمه وجود من يتخذها مقصودًا إذا توفر لمن أرادها، وهذه هي الحكمة الربانية، إذ لو لم يوجد الصيارفة الذين يشتغلون بالتجارة في النقود لشق على الناس أو تعذر حصول مقصودهم من المعاملة الأخرى.
وأما ما ذكره الإمام أحمد وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم من منع المنتسب في التجارة في النقود، فهذا المنع موافق لمقاصد الشريعة الإسلامية، فأنا أوافق الدكتور شوقي والدكتور أحمد محيي الدين في هذه المسألة الأخيرة.
ثالثًا: يقول الدكتور أحمد محيي الدين – جزاه الله خيرًا -: إن عمليات الصرف العاجلة لا تتم بالتسليم في مجلس العقد وإنما يقع التسليم فيها خلال يومي عمل – هذا في عمليات الصرف – لاحقين ليوم العقد. ويقول: ويمكن التغاضي عن هذه المدة تطبيقًا لقاعدة (المشقة تجلب التيسير) ثم استشهد بقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقوله:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] . ويقول: ووجه المشقة الذي يصعب تحاشيه هو عدم إمكانية إجراء عملية الصرف من دون الالتزام بهذه الإجراءات التي أصبحت أعرافًا دولية ونظامًا عالميًّا.
وعلى هذا نقول للأخ الكريم هذا مخالف لحكم الله لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((والفضة بالفضة، مثلاً بمثل، يدا بيد)) ، وقوله صلى الله عليه وسلم لابن عمر:((لا بأس إذا كان بسعر يومها ولم تفترقا وبينكما شيء)) . وقول عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – لـ طلحة بن عبيد الله لما أخذ الذهب يقلبه في يده وقال: لـ أوس بن الحدثان الذي صارفه: انتظر حتى يأتي خادمي من الغابة. فقاعدة (المشقة تجلب التيسير) لا يعتد بها في مقابلة هذه النصوص الصريحة الصحيحة، والأعراف الدولية والاحتجاج بها في مقابلة النص فكيف يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:((يدا بيد)) ويقول بعضنا اليوم: يجوز القبض في الصرف بعد ثلاثة أيام؟! استمع إلى كلام الإمام مالك في الصرف في بيع معين موصوف، يقول: وبيع المعين الموصوف إذا كان متصلاً قريبًا بمنزلة النفقة يحلها من أمه ولا يبعث رسولاً يأتيه بالذهب ولا يطلب إلى موضع يزنها، وإنما يزنها مكانه ويعطيه ديناره مكانه فهذا جائز في المدونة.
فالذي يظهر لي أن بيع النقد بما يسمى العملية العاجلة بالصورة التي ذكرها الباحث لنا والتي تطبقها أسواق العملات العالمية غير جائزة شرعًا، والعقود التي تمارس على هذه الصورة عقود باطلة لا يعتد بها شرعًا، ولا يترتب عليها أجر لأنها مخالفة لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
وتعرض لعمليات الصرف الآجل، وذكر أقوالاً لبعض الباحثين بإباحتها – وليس هو رده – واحتجاجهم بعدم تحقيق فوائد وبالحاجة وبعموم البلوى، والظاهر أن الاستدلال بالحاجة وبعموم البلوى في هذا الوقت أصبحت بلوى علينا، لكنه جزاه الله خيرًا لم يوافقهم ورد عليهم، ولكن يلاحظ عليه أنه قدم ردودًا عقلية وأخر الرد الحاسم ولم يوضحه، فكان عليه أن يقدمه أو يورد النص بدلاً من إيراد معناه.
وتكلم عن عمليات المقابضة ولكنه لم يوضحها، كقوله: مع إيراد عملية متزامنة في السوق الآجل لبيع العملة التي سبق شراؤها أو شراء العملة التي سبق بيعها. لا أدري هل البيع الأخير مشروط في البيع الأول أم ماذا؟ ولم يبين كيفية اشتمالها ما على بيعتين في بيعة. وما ذكره بالنسبة لحق ولي الأمر في تقييد المتاجرة في العملات لغرض الكسب من فروق الأسعار وليس استجابة لحاجات حقيقية أراه مناسبًا بالنسبة لضبط هذا الأمر، أما منعه فلا أميل إليه.
وأتفق معه في الضوابط التي ذكرها. كما أنه توصل إلى ذكر وسائل مشروعة لتجنب آثار المضاربة في العملات وكان موفقًا فيما تعرض إليه.
هذا ما أحببت أن أقوله، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد.
الشيخ عبيد العقروبي:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على نبينا محمد.
أود أن أؤكد على ما ذهب إليه الباحثان الكريمان في بحثيهما بخصوص التأكيد على مواجهة المضار الناتجة عن المضاربة في العملة، لأن هذا ما حدث في بلدان العالم الإسلامي والعربي ومع الأسف الشديد هناك شركات تعمل في هذا لإطار وبهذا الأسلوب الذي انتهجته في البداية وهي أن تأخذ مقابل أن تعطيهم أرباحًا هائلة من (7) إلى (12 %) شهريًّا مما أدى بكثير من الناس أن يجربوا هذه المؤسسات والشركات التي دخلت السوق، وكثير من الذين كانوا يقومون على هذه المؤسسات ليس لديهم دراية – وكما ذكر بعض الإخوة جزاهم الله خيرًا – بالأسواق المالية فأدى إلى امتصاص كثير من أموال الناس، وكثير من الناس بدؤوا يبيعون متاجرهم ويضعون هذه الأموال في تلك المؤسسات حتى تدر عليهم دخلاً سريعًا وأموالاً كثيرة. ومع الأسف الشديد أن هذه المؤسسات انتشرت ولدينا منها في دولة الإمارات، فهذه المؤسسات امتصت أموالاً هائلة من أفراد المجتمع وأصبح الناس الآن لا يجدون ما يقتاتون به. فنؤكد على المجمع بما أنه مجمع عالمي وإسلامي، وكل الناس يستمعون إلى ما يوصي به وما يقرره أن يبادر بأسرع وقت ممكن في إصدار فتوى في هذا الأمر، وألا يترك الشعوب الإسلامية والدول أن تقع في هذه المضاربات التي تؤدي إلى استهلاك أموال الناس وإلى وقوعهم في هذا الحرام.
وكذلك أقترح بأن تقوم الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي أوعن طريق مجمع الفقه الإسلامي بعمل حلقات وندوات في أجهزة الإعلام المرئية، وتأخذ من هؤلاء العلماء وتعمل لهم لقاءات بخصوص هذه المعاملات التي أصبحت الآن تسري في مجتمعاتنا، ومع الأسف الشديد أن الناس في البداية لا يسمعون النصح من الذين يحدثونهم ويصدقونهم ويرشدونهم حتى يقعوا ثم يطلبون النصح والمعونة من الفقهاء والواعظين.
وجزاكم الله خيرًا.
الشيخ عكرمة صبري:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
كما هو معلوم أن الفقه الإسلامي تناول النقد بشكل مفصل وذلك من خلال الصرف بشكل خاص ومن خلال النظام الاقتصادي الإسلامي بشكل عام، ولم يحصل أن وقع المسلمون في عصورهم الزاهرة في أزمات مالية وذلك حينما كانوا يحتكمون للأحكام الفقهية الإسلامية. لذا إذا أردنا أن نحمي النقود في العالم الإسلامي في هذه الأيام علينا أن تلزم بما يأتي:
أولاً: أن يكون للعملة غطاء ذهبي للمحافظة على قيمتها ولحمايتها من الانهيار لأن الذهب هو الأصل في التعامل، وأما الأوراق النقدية فما هي إلا بديل لتقوم مقام الذهب.
ثانيًّا: الالتزام بأحكام الصرف في الإسلام.
ثالثًا: الابتعاد عن المضاربات المالية وعدم الخوض في أسواق البورصة.
وعليه أوصي المجلس الموقر بما يأتي:
1-
المطالبة بعدم إصدار عملات ورقية إلا بعد تأمين الغطاء الذهبي لها.
2-
مطالبة الدول العربية والإسلامية بإغلاق أسواق البورصة لمخالفتها الصريحة للأحكام الشرعية، وحتى لا نقع في أفخاخ متنوعة ومتعددة وليس في فخ واحد، وحتى لا نكون تبعيين لغيرنا، والسعيد من اتعظ بغيره والشقي من اتعظ بنفسه.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله.
الدكتور سامي حسن محمود:
بسم الله الرحمن الرحيم
موضوع المضاربة في العملة في الواقع هو نوع من الشراء والبيع الصوري دونما حاجة لذلك إلا الاقتناص والتلاعب بالأسواق. وما يحصل للمضاربات على العملة يمكن أن يحدث على أي سلعة كالقمح والأرز والنحاس والألمنيوم وغير ذلك، وقد حدث في سوق السلع الدولية قصص معروفة عن هذه المضاربات.
وإذا تفحصنا أسباب الخلل والضرر والأذى في هذه المضاربات بشكل عام نجد أن هذه الأسباب تعود إلى الخروج عن ضوابط البيع وما يجوز فيه شرعًا وما لا يجوز. فالبيوع في الإسلام في نطاق المضاربة يمنع فيها بيع النجش لما فيه من إضرار بالمشترين الحقيقيين، فالتضرر بالشراء وكذلك بالبيع دون رغبة فعلية في الشراء والبيع ممنوع شرعًا، فإذا تم البيع فإنه مقيد ببيع ما هو موجود (ولا تبع ما ليس عندك) وأستثني من ذلك السلم حيث ضبط ذلك البيع بإيجاد البديل وصفًا وكمية مع وجوب دفع رأس المال كاملاً. وعندما ينتقل الأمر إلى الصرف وهو بيع النقود بالنقود فقد بين الشرع فيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن البيع مقيد بالتبادل عند اتحاد الجنس مع التقابض، وكذلك شرط تقابض البدلين عند اختلاف الجنس.
وإن تطبيق هذه الضوابط كفيل بأن يصون الأسواق ويصون المتعاملين في بلاد المسلمين وخارج ديار الإسلام، وما حدث في بعض دول جنوب شرق آسيا سواء منها ما كان من الدول الإسلامية أو غير الإسلامية، فإنه كان نتيجة لعدم الانضباط في بيع العملة بالضوابط الشرعية في شرط وجوب تقابض البدلين، فكان هناك تعامل بالأجل وتعامل بالهامش، أي أن عقد البيع تدفع منه نسبة (5 %) مثلاً من القيمة على أساس أن يكمل الباقي عند حلول موعد الأجل.
أما تبايع الآجال فهو الشراء والبيع على أساس التسليم المستقبلي للعملة المشتراة أو المباعة. والمخالفة واضحة للضوابط التي تستند إلى حديث النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم في وجوب التقابض.
وأما البيع على الهامش فهو اتفاق على الشراء أو البيع المستقبلي مع دفع نسبة من الثمن (5 %) أو (7 %) أحيانًا. وقد تحدثت شخصيًّا منذ ثمان سنوات مع محافظ البنك المركزي لإحدى دول جنوب شرق آسيا محذرًا من تعامل البنك في سوق العملات الأجنبية على أساس الهامش والأجل، فقال لي: إن هذه البيوع تعتمد على الخبرة، فقلت له: إن الخبرة محدودة بضوابط الشرع وإن عقل المسلم يقف عند ضوابط الشرع ويتقيد بها لأن في ذلك طاعة وحماية.
فالقضية إذن هي رد حياة المسلمين إلى طريق الانضباط والالتزام بشرع الله. وقد تضافرت في دول جنوب شرق آسيا مخالفتان شرعيتان كانت نتيجتهما العاجلة هذا الانهيار الاقتصادي الذي حدث في الناتج الكلي وذهاب التقدم الذي تحقق، ويا ليت قومي يعلمون!
المخالفة الأولى كانت الإغراء في بيع سندات الديون وبالتالي زيادة كمية النقود بالمقارنة مع حجم السلع المنتجة.
والمخالفة الثانية هي التبايع الآجل بالصرف مع استعمال الهامش، أي بيع العربون. فجاء المضاربون من كل حدب وصوب وتلاعبوا بهم تلاعب اللاعب بالكرة.
والمطلوب هو لفت النظر إلى هذه الضوابط، وأن التقيد بالضوابط الشرعية للصرف فيه تطبيق لشريعة الله وحماية عباد الله. هذه الضوابط كفيلة بردع المضاربين بقليل من الوعي والصدق لدى المسؤولين في إدارة السياسة المالية للبلاد الإسلامية. يضاف إلى ذلك الواجب الإسلامي العام بالاعتصام بحبل الله والتوحد في مواجهة العولمة بتقوية أسواق رأس المال الإسلامي والتبادل التجاري بين دول العالم الإسلامي. عند ذلك فإن الاحتماء بحمى الله وشرعه يؤمن لنا رحمة الله ونصره.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ الصديق الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
أحسن الباحثان الاقتصاديان الفقيهان الحديث عن الجانبين الاقتصادي والفقهي، جزاهما الله خيرًا. ولكني لم أسمع منهما حديثًا عن المتاجرة أوالمضاربة في الأسهم، وكنت أعتقد أن لها صلة قوية بالمضاربة في النقود، بل أنا أعتقد أنها حقيقة مضاربة في النقود. ورأيي هو أن التعامل في الأسهم يجب أن يكون مقصورًا على شراء الأسهم بقصد الاستفادة من ريعها، أما التعامل فيها بقصد الربح من تداولها فقط فلا فرق بينه وبين المتاجرة أو المضاربة في النقود. وتحضرني في هذه المناسبة عبارة لابن عباس عندما سئل عن الحكمة في منع بيع الطعام قبل قبضه، فقال:"ذاك دراهم بدراهم والطعام مرجأ"، وأنا أقول: إن هذا القول ينطبق تمامًا على المتاجرة بالأسهم بقصد الربح، وأقول: هي دولارات وبدولارات، وحقيقة السهم مرجأة. وحبذا لو حدثنا الباحثان عن صيغة المضاربة في الأسهم بالمضاربة على العملة من الناحية الاقتصادية.
نقطة أخرى أثارها الدكتور المرزوقي حيث إنه اعترض على رأيين شرعيين ذكرهما الباحثان، أحدهما يتعلق بما يطبق في أسواق الصرف مع أن هناك فارقًا زمنيًّا ومكانيًّا أو ما يشبههما، وأوافقه على هذا. وقد انتهج صاحب البحث أن يوجد لهذا تبريرات ولكنها لا تقف أمام النص.
المسألة الثانية: أخالفه فيها مخالفة شديدة وهي ما ورد في البحثين: (التجارة في النقود مرفوضة شرعًا)، أقول: إن هذا هو الصواب التجارة بمعنى المضاربة في النقود مرفوضة شرعًا. قد يقول الدكتور المرزوقي: لا يدل كلام العلماء على عدم جواز التجارة في النقود، وأقول: إن العلماء اختلفوا في الصرف، هل الأصل فيه الجواز أو المنع؟ أي بيع النقود وإن كان هذا ورد في بعض ألفاظ الحديث كلمة (بيع) :((لا تبيعوا الذهب بالذهب)) ، وورد في بعضها مجردة من لفظ البيع أو التجارة " الذهب بالذهب، والفضة بالفضة"، (أحكام الصرف) . فالفقهاء اختلفوا في هذا، بعضهم قال: إن الأصل في الصرف المنع ولكنه جاز استثناءً، وهذا هو ما أرجحه، وقال به: بعض أئمة المذاهب لا أذكرهم بالتحديد ولكن عددًا منهم قالوا: إن الأصل في الصرف المنع. ثم حتى لو لم يكن العلماء المتقدمون عند المتاجرة في الصرف، لو لم يقولوا هذا ممنوع فإن الواجب على علمائنا الآن أن يقولوا بمنعها بعدما سمعوا ورأوا بأعينهم، فقد رأينا هذا بأعيننا في بلادنا، ورأينا ما فيها من مضار، لو لم يكن فيها قول سابق مطلقًا لوجب علينا أن نقول بمنعها الآن. هذا ما أردت أن أقوله، وشكرًا لكم.
الدكتور محمد علي القري:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد؛
فإنني أقدم شكري أولاً للأخوين الباحثين على ما قدماه من مادة دسمة في هذا الموضوع، ثم أقول أولًا: يحسن بنا ألا نسمي ما يجري في أسواق العملات اليوم مضاربة، لأن المضاربة هي شركة في الربح، وإن ما يجري ويقع في هذه الأسواق من معاملات غير جائزة لا يمكن أن يكون مضاربة. وإن ما يجري على لسان العامة من استخدام كلمة (مضاربة) لتعني المغامرة والمجازفة والمخاطرة، والأولى أن نسميها بأسمائها الصحيحة. والترجمة من اللغات الأجنبية أيضًا تشير إلى أنهم يسمونها مخاطرة ومقامرة وليس مضاربة.
ثانيًّا: إن المقامرة على العملات ظاهر ما فيه من مفاسد وأضرار، ولا يخفى ذلك على العقلاء وذوي الحكمة حتى في البلاد الغربية التي تنتشر فيها هذه العمليات لكن المشكلة الأساسية أنه لا يوجد طريقة عملية قابلة للنص عليها في القوانين للتفريق بين من يشترون العملات لغرض القمار وأولئك الذين يشترونها لحاجات مشروعة. لا يمكن التعرف على المقابل من المعاملة ذاتها، ومن ثم لا يمكن ردعه ومنعه من الشراء بالقوانين، هذا أمر لا يمكن تحقيقه مع الأسف الشديد. ولذلك فإن دولة من دول العالم إذا رغبت في فتح أبوابها لرأس المال الأجنبي كما هي سياسة أكثر دول العالم اليوم اضطرت إلى فتح المجال لكلا الفريقين، للمستثمر الحقيقي الذي يأتي لغرض الاستثمار وزيادة القدرة الإنتاجية وتوفير فرص العمل والحصول على الأرباح، وللمقامر الذي يدخل في الفرص ليقتنصها بصرف النظر عما يسببه من أضرار اقتصادية، وهذا مكمن الخطر الذي وقع فيه كثير من الدول.
ومع ذلك فقد نجحت بعض الدول في الاستفادة من رأس المال الأجنبي مع التضييق على المقامرين. مثال ذلك ما أقدمت عليه دولة تشيلي في أمريكا الجنوبية حيث إنها سنت قانونًا للاستثمار الأجنبي يمنع كل من أدخل أمواله للقطر من إخراج تلك الأموال قبل مرور سنة كاملة على ذلك، فابتعد المقامرون عن هذا البلد؛ إذ لا مصلحة لهم في دفع عملته إلى الانهيار حيث سيكونون هم أول الخاسرين من ذلك.
يا معشر السادة الأفاضل، إن العالم قد تغير تغيرات جذرية وبخاصة في العقدين الأخيرين من هذا القرن الميلادي ففي العالم أكثر من مائتي عملة نقدية في وقت أصبحت مصالح كل دولة من دول العالم متشابكة مع دوله الأخرى، وهي في تزايد مستمر، كل ذلك يولد فرصًا ذهبية للنمو ولتوليد فرص العمل وللتجارة وكذلك فإنه يولد فرصًا للمقامرين والمجازفين على عملات الدول المختلفة. وإنه بقدر ما تنمو التجارة النافعة بين دول العالم بقدر ما يحتاج التجار إلى حماية أنفسهم من تقلبات العملة. هذه الحاجة المشروعة للتجار، لأن مجال عملهم هو بيع السلع والتجارة فيها وليس تحمل المخاطرة وتقلبات عملات الدول المختلفة.
إن قواعد التعامل بالنقود في ظل الشريعة الإسلامية لا مجال فيها لهذه المقامرة والمجازفة، لأن المطلب الأول للمقامر هو أن يبيع أو يشتري بالأجل. فالمقامرة بالتعريف، إنما هي معتمدة على توقع الارتفاع أو الانخفاض في السعر في المستقبل، ومن ثم فلا مجال في ظل شروط الصرف الصحيح للمقامرين. ولكن ذلك أيضًا يغلق الباب على حاجات مشروعة للتجار لحماية أنفسهم في هذا العالم الذي يغرق في مخاطر الصرف وتقلبات العملات. لكنه يصعب تقليل الضوابط الصارمة لهذا الموضوع، فليس بأيدينا إلا الإرشاد والتوجيه في ذلك.
أما ما ذكر من أن سياسة سعر الصرف الثابت ربما تكون حلاً للمشكلة وأنها تساعد على إبعاد الأسواق عن المقامرة، فأقول: هذا كلام فيه نظر، إذ الواقع أننا في عالم لا يمكن لأي دولة تثبيت سعر صرف عملتها، حتى الولايات المتحدة أقوى الدول وأغناها لا تستطيع أن ترغم الناس على سعر لعملتها. إذن فإن معنى سياسة سعر الصرف الثابت هو أن الدولة تحدد لعملتها سعرًا ثم تتدخل برفع سعر الفائدة لحماية هذا السعر. ولكن كان يمكن تثبيت سعر صرف العملة المحلية دون استخدام سعر الفائدة لذلك. عليه يجب أن نحذر من المناداة بمثل هذه السياسة لأن من لوازمها استخدام الفائدة لتثبيت سعر الصرف.
وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدكتور علي محيي الدين القره داغي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
الشكر موصول للأستاذ شوقي على بحثه القيم، وكذلك الأخ الدكتور أحمد محيي الدين على بحثه الطيب.
أولاً: كان بودي في الحقيقة شرح المضاربة في الفقه الإسلامي وفي الاقتصاد وأشار إلى ذلك الدكتور محمد علي القري، وذلك حتى لا يستقر المفهوم السيئ للمضاربة الشرعية. فالمضاربة حينما تطلق وخاصة في مصطلحنا الفقهي يراد بها أمر مشروع محبوب. بينما المضاربة في البحوث وهي معروفة في الاقتصاد ولكنه لو كان اختيار مصطلح آخر أو على أقل تقدير التفرقة الاصطلاحية والتفرقة الحقيقية بين هذين المصطلحين.
ثانيًّا: بخصوص التجارة في النقد بضوابطه الشرعية يقول الدكتور شوقي: إذا كانت ممارسة مهنة التجارة في النقود بهدف الربح مرفوضة شرعًا. كذلك يبنى عليها على إطلاقها. وأنا أتفق مع فضيلة الدكتور صالح حيث سبقني وقد ذكرت أيضًا الأدلة والنقول على أن مهنة التجارة المشروعة في النقود وهي مشروعة بضوابطها الشرعية. هذا ولكني أخالف الدكتور صالح في مسألة الصرف العاجل حيث أجازه المجمع، وكان بودي أن الدكتور أحمد يشير إلى أن المسألة ليس يومين وإنما القضية أن المبلغ يدخل في الحساب فورًا، ويسجل باسم الطرفين فورًا، ولكن التصرف في هذا المبلغ لا يتم في بعض الأحيان إلا في يومين، فلذلك أجازه المجمع بهذه الضوابط وبهذا الوصف.
ثالثًا: كنت في الحقيقة أتوقع أيضًا استقصاء جميع أنواع التجارة في النقود أو ما سماه المضاربة في النقود، وذكر جميع صورها الواقعة، وهذه العملية حسب ما يجري في البورصة وفي البنوك. فهناك أنواع أخرى مثل البيوع المعلقة، وكذلك الأنواع التي تتضمن النسيئة والربا وهو ما يسمى التعامل بالنقود بالهامش مثلما أشار إليه الدكتور سامي. فهناك قضايا كثيرة تجري في البورصات وليس هذه الصور الثلاث أو الأربع، وحتى هذه الصور الثلاث أو الأربع كنت أود حقيقة أن يركز عليها التفصيلات والخطوات العملية لهذه الأمور حتى نكون على بينة لأنه كما يقال:"الحكم على الشيء فرع من تصوره".
رابعًا: ما ذكره فضيلة شيخنا الضرير حول الأسهم ربما تنطبق على الأسهم قبل أن تتحول الشركة أو تبدأ بالعمل وهي نقود، لأن السهم يمثل الواقع الذي عليه، فقبل العمل هذه الأسهم تمثل النقود لا يجوز التجارة بها إلا بضوابط الصرف، لكن بعد ما تحولت الشركة إلى عمل وإلى صناعة وإلى تجارة حينئذ فالسهم يمثل ذلك الواقع، فإذا كان جاز التعامل في الصناعة – في المصنع وفي الخشب وفي الأمور الأخرى – فكذلك يجوز التعامل فيما يمثل هذا المصنع أو هذا الشيء.
فحقيقة رأي شيخنا على العين والرأس، لكن لا أستطيع أن أفهم هذا الرأي بحيث أقتنع به.
خامسًا: الإخوة الكرام معظمهم ألقوا بالأئمة جميعًا في انهيار اقتصاديات النمور الستة – كما سميت – إلى قضية المضاربة بالعملات، ولذلك حظروا من المضاربة أو حتى التعامل بالعملات تحذيرًا شديدًا، ولكن الدراسات الاقتصادية كلها تشير إلى أنها تعود إلى عدة أشياء منها ليست المضاربة فقط وإنما إلى سوء استخدام التعامل الكبير في المضاربات، وإلا فإن هناك بورصات عالمية في بريطانيا وفي أمريكا وفي غيرها ولم تؤدِّ إلى هذه الانهيارات. هذا جانب، والجانب الآخر هناك أسباب أخرى منها:
الهيكلة الاقتصادية لهذه الدول كانت هشة، ولم تكن صحيحة ولم تكن قوية. وكذلك هناك خطورة كبيرة جدًّا، الدولة – كما أشار إلى ذلك فضيلة الشيخ الدكتور الزبير – تدعم العملة وفي الوقت نفسه البورصة متفوحة وهذا مخالف أيضًا للواقع، إذا كانت البورصات مفتوحة على الخارج لا بد أن تكون العملة معومة حتى لا تتضرر، ولذلك كلنا نعرف أنه حينما انهارات العملات ضخت الدولة على سبيل المثال ماليزيا بعشرة مليارات لشراء النقود، أي أنها هي التي دفعت. يعني أنه لو لم تكن الدولة مقيدة بسعر عملتها، وكانت العملة معومة ربما لم يكن بهذا الشكل. إضافة إلى الفساد الإداري الذي كشف عنه الآن العالم سواء كان في أندونيسيا أصبح الفساد الإداري معروفًا، أصبح أربعون مليار دولار للأسرة الحاكمة وكذلك في ماليزيا. فلا ينبغي حقيقة أننا حينما نلقي باللائمة على شيء نركز على موضوع معين، فالقضية ليست قضية أحادية ولا ثنائية وإنما ربما الأسباب أكثر من عشرة.
سادسًا: مسألة أخيرة ذكرها الدكتور أحمد حول موضوع سلطة ولي الأمر في تقييد المباح.
هذه المسألة في الحقيقة لها خطورة وخاصة في عالمنا اليوم بهذا الإطلاق، ولذلك حينما رجعت إلى كتب المحققين مثل:(سليمان بن قرافي وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم) ، نجد أنهم فرقوا بين نوعين من المباح، قالوا: هناك مباح دل الشرع على إباحته فهذا لا يجوز لولي الأمر أن يمنعه ولا أن يقيده، مثل التعدد والطلاق، وحتى في بعض الدول منع التعدد وقالوا إن هذا من سلطة ولي الأمر، والذي قال بذلك علماء سلطة، هذا نص عليه المحققون بأن هذا لا يجوز لأنه مباح بنص شرعي.
أما المباح الذي يجوز تقييده بسلطة ولي الأمر هو المباح العام أو ما يسمى بـ (العفو) وهو الذي ذكره حديث سليمان (ما أحل الله في كتابه، وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته فهو حلال، وما حرمه الله فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو) . هذه المنطقة الواسعة التي تسمى منطقة العفو يجوز لولي الأمر أن يمنع وأن يصدر فيها من باب السياسة الشرعية إذا كان هناك مصلحة معتبرة وليست مصلحة موهومة.
أشكر سيادة الرئيس على إتاحة الفرصة لي، وجزاكم الله خيرًا، والسلام عليكم.
الشيخ أحمد الخليلي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛
فإني أشكر الباحثين الكريمين على بحثيهما الواسعين، وأشكر جميع الذين أسهموا في المداخلات والتعقيبات حول الموضوع المطروح، وقد أغنوني عن كثير مما كنت أريد أن أقوله، لكني أردت أن أؤكد أولاً أن مما غرق فيه العالم بأسره بما فيه العالم الإسلامي من المعاملات الربوية ما هو إلا حرب بين الناس وربهم، فإن الله سبحانه وتعالى يقول:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة 278 – 279] .
وما هذا الأمر الذي يعاني منه العالم اليوم من انهيار الاقتصاد إلا أثر من آثار هذه الحرب. فإن الربا سعير يأتي على الطارف واليابس من أموال الناس، ويأتي على كل ثرواتهم. فإذن قبل كل شيء على الأمة الإسلامية أن يكون لها منهج اقتصادي مستقل مأخوذ من الإسلام الحنيف من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والفقه الإسلامي الواسع، ثم بجانب ذلك لا بد مع كون الأمة الإسلامية تسعى إلى الوحدة أن تكون لها وحدة اقتصادية، وأنا أظن ولست ذا خبرة في المجال الاقتصادي أن وجود الدينار الإسلامي المشترك يمكن أن يحد الكثير الكثير من هذه المحاذير عندما تدعمه الدول الإسلامية باختلاف طاقاتها واختلاف قدراتها، فالدول الإسلامية متفاوتة في القدرات المالية وغيرها.
ولا بد من ضبط جميع المعاملات بالضوابط الشرعية التي حددها الإسلام الحنيف، فنحن نرى أن الناس يهرعون وراء اقتناء الأموال من غير طريق شرعي، فالأسهم والتجارة فيها أصبح أمرًا خطيرًا وأصبحت الأمة معرضة للإفلاس بين حين وآخر؛ لأن أصحاب رؤوس الأموال صبوا رؤوس أموالهم في هذا الوعاء من غير مبالاة وتركوا المجالات المتعددة مجالات الضرب في الأرض بالاتجار المشروع، فقد يدخل أحد من الناس السوق ويشتري ويبيع في دقائق معدودة أو في ساعة واحدة يشتري ويبيع ما لا يعلمه ولا يعرف ما الذي اشتراه وإنما يقول بأنه اشترى سهمًا، وأنا سألت بعض هؤلاء: ما الذي اشتريته؟ قال: اشتريت أسهمًا. أسهم أي شيء؟ هل تعرف عينًا معينة اشتريتها؟ يقول: لا. ثم يبيع لا يعرف ما الذي اشتراه ولا يعرف ما الذي باعه.
هذا أمر خطير، يربح في دقائق معدودة أو في يوم واحد يربح مئات الألوف من أي شيء لا يعلم هو مما ربح، وعندما تكون الخسارة تكون إلى غير حد محدود. فالقضية خطيرة. ثم بجانب ذلك أرى أنه من الضرورة بمكان أن يسمى كل شيء باسمه الشرعي، فالعالم الآن يعاني كثيرًا من هذا اللبس الحاصل بسبب إطلاق الأسماء على غير مسمياتها الصحيحة، فالربا مثلاً سمي (فائدة) ، والرقص والغناء (فنًا) ، والزنا سمي (حبًّا) ، والخمر سميت (المشروبات الروحية) وهكذا، وكذلك المضاربة، المضاربة هي مشروعة شرعًا، ولكن مشروعة في تجارة مشروعة، لا أن تكون هذه المضاربة خارجة عن الحدود الشرعية التي رسمها الدين الحنيف.
فأرجو أن يؤخذ بكل ذلك في الاعتبار، والله ولي التوفيق، والسلام عليكم ورحمة الله.
الأستاذ عبد اللطيف الجناحي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
أهنئ أولاً الأمانة العامة على اختيارها هذا الموضوع في مثل هذا الوقت، وأشكر الباحثين على بحثيهما.
نحن في فترة زمنية تشهد انهيار العديد من العملات وخاصة في العالم الثالث وأوربا الشرقية حيث إن هناك عملات فقدت (30 %) من قيمتها في يوم واحد. إحدى الدول خسرت نتيجة للمضاربات (70) مليار دولار في شهر واحد، سوق الإمارات العربية المتحدة نتيجة للمضاربات في الأسهم كما تفضل وذكر أحد الإخوة قبلي نتوقع خسارته ما بين (30) إلى (50) مليار درهم. إذن نحن أمام اقتصاد عالمي وضعي مخلخل، والنظرية الرأسمالية ستتبع النظرية الشرقية في الانهيار. وأود أن أحيل الباحثين الكريمين إلى كتاب صدر في أمريكا قريبًا كتبه كاتبان من كبار الاقتصاديين الأمريكيين، ونظرًا لأهميته قدم له السناتور (درمان) وهو سناتور في البيت الأبيض، والكتاب يقرع ناقوس الخطر بانهيار الاقتصاد النقدي العالمي ويحذر أمريكا بأنها ستكون في عداد الدول المفلسة في عام 2000م.
إذن لا بد لنا ونحن نخوض هذا الموضوع أن نشخص الوضع الاقتصادي العالمي، وما هي مآخذنا على هذا الوضع الذي نعيشه؟
أولاً: لا يوجد في العالم قواعد للسلوك النقدي تتمتع بالاستقرار وتنبني على العدالة وتكافؤ الفرص بين الدول.
ثانيًّا: لا توجد قاعدة تحدد القيمة النسبية للعملات المختلفة تمنع تخفيض الدولة لعملاتها، أو تجنب تلك الدول التأثير الخارجي المؤدي لتخفيض العملة.
ثالثًا: لا توجد في عالم الاقتصاد الوضعي آلية موضوعية عادلة قادرة على إعادة التوازن عند اختلال قيمة عملة من العملات.
ومن الملاحظ بصفة عامة أن القواعد التي تنبي عليها قوة العملات المختلفة قواعد هشة خاصة بعد الخروج عن قاعدة الذهب والفضة. كما نلاحظ أن خارطة العالم مقسمة بشكل أو آخر تقسيمًا عسكريًّا يرضي الأطماع العسكرية، بينما يجب أن تقسم خارطة العالم تقسيمًا إنتاجيًا يلبي إشباع الحاجات البشرية التنموية الموصلة لسعادة وتعاون إنساني أكبر.
هذا التوجه العالمي في ميدان الاقتصاد خلق شيئين، خلق سباقًا في مجال التسلح وخلق سباقًا في مجال المضاربة، بسببهما طبعًا اتجه العالم إلى إشباع رغبتين، وهما: إشباع الطموحات العسكرية وإشباع الطموحات الفردية في جمع الثروة.
الجدير بالذكر أن هذا التخلخل الاقتصادي ليس وليد أحداث طارئة وإنما هو من طبيعة النظام الرأسمالي ومولود معه، ولقد أحس به اقتصاديو العالم بانهيار الأسس النقدية التقى مندوبو أربع وأربعين دولة في مدينة برتن وودز بيهونشاير في أمريكا ليحاولوا الوصول إلى قواعد نقدية عادلة، ومن أهم الأوراق التي لفتت نظري وتم تداولها في ذلك ورقة اللورد (كنز) ، والتي استهدفت خلق طابع للنظام الاقتصادي العالمي يتميز بالمعالجة الفنية ويبتعد عن السلوك المضاربي، ويحد من هيمنة السياسة على الاقتصاد، وأظهره بشكل أنه يفي بخلق التوازن بين عملات الدول، ولكن نظرًا لهيمنة قوى معينة لم يخرج المؤتمر بنظام اقتصادي متوازن مما أدى إلى انسحاب الاتحاد السوفيتي، وتمخض المؤتمر عن ميلاد صندوق النقد الدولي الذي خلق أساسًا كأداة خادمة لمصالح الدول الرأسمالية.
منذ عام 1945 واقتصاديات العالم تستهلك بشدة في المضاربات وفي خلق الآليات العسكرية، ونتيجة لعدم وجود قاعدة نقدية عادلة في ظل نظام اقتصادي عالمي متكافئ تمخضت جميع الحركات التحررية عن نتائج اقتصادية سلبية للبلدان المتحررة. والملفت للنظر أنه عندما اقتضت مصلحة أمريكا الخروج على القواعد المتفق عليها والتي ذكرتها آنفًا لم تتردد في ذلك، فمثلاً في 15/8/1971م وبدون ترتيب مسبق مع أي جهة في العالم بما في ذلك صندوق النقد الدولي أعلن نيكسون منفردًا ومن طرف واحد إيقاف قابلية تحويل الدولار إلى الذهب، فانهارت بذلك مداولات (برتن ووردز) من أركانها. وبالنتيجة فإن هذا الخلل الاقتصادي أدى إلى ظهور مشاكل اقتصادية متعددة في العالم مثل: المضاربات، التضخم، البطالة السابق في تخفيض العملات، الاهتزاز الواضح للشعوب الضعيفة، وكلها يعود بحكم سيطرة عملة تداول عالمية واحدة للدولة الأقوى.
هذه الصور المعتمة لاقتصاديات العالم تجعلنا نفكر في وضع نوع من المعايير للاقتصاد العالمي الذي ننشده.
ماذا نريد نحن من الاقتصاد؟
الإخوان طبعًا تحدثوا عن تثبيت العملة بالدولار مثلاً أو بأي عملة أخرى، هذا التحديد لدينا مثل نضربه لأن تايلاند مثلاً ربطت عملتها بالدولار وانهار هذا الارتباط في يوم وليلة وبدلاً من خمسة لدولار إلى عملتهم أصبح الآن خمسين، فهذه المعالجات معالجات وقتية في الحقيقة ولها تأثير ضعيف في الاقتصاد وهي مجرد تهدئة للأوضاع. نحن نريد معالجات أوسع من هذا:
1-
نريد وضع نظام اقتصادي بضوابط ومعايير لتداول العملة يحترمها الجميع وتحقق المصلحة العالمية وتحد من أدوات الجاذبية لاقتناء العملة، أو التحول من عملة إلى عملة أخرى بآلية واحدة وهي الآلية الموجودة حاليًّا وهي سعر الفائدة.
2-
نريد الحد من الهيمنة السياسة على الاقتصاد.
3-
نريد تحقيق معدل نمو أفضل.
4-
نريد عدالة اجتماعية وتوزيعًا عادلاً للثروة.
5-
نريد استقرارًا لقيمة النقد.
كل هذه العوامل لا يمكن أن تتحقق وبشهادة علماء الاقتصاد الغربيين وغير الغربيين إلا إذا أخذنا شيئين من روح الاقتصاد. أخذنا بالدرجة الأولى سعر الفائدة، فإذا ألغينا سعر الفائدة وضبطنا العملية وحققنا أنه لا يكون هناك مضاربات على هذه العملة.
هذه هي النقاط الرئيسية التي وددت أن أثيرها وأنا أعتقد أن الوقت مناسب جدًا للعمل على ترويج النظرية الاقتصادية الإسلامية، لأن فيها علاج لأمراض الوضع الاقتصادي العالمي القائم.
وشكرًا جزيلاً لكم.
الشيخ عبد الله بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
قد أبدأ ببعض الفروع الشرعية التي أثيرت، وأعتقد أن المضاربة هنا استعملت في معناها اللغوي وليس في مصطلحها الشرعي، والمعنى اللغوي يحتمل فعلاً ما ذكره الإخوة، لأن المضاربة هي نوع من ضرب الشيء بالشيء ومفاعله لأن كل واحد يضرب، والمعنى اللغوي يحتمل المقامرة ويحتمل ما ذكر من المخاطرة والمقامرة.
بالنسبة للفروع التي أثيرت وهي مسألة الصرف المؤجل. الصرف المؤجل أعتقد أنه على شطر خلاف أو على الخلاف وربما الراجح بالنسبة لي شخصيًّا. إذا كانت هذه العملات تحتمل أن تكون عروضًا فإن الصرف المؤجل أجلاً قصيرًا لن يكون شيئًا كبيرًا، لا يخالف الشرع مخالفة كبيرة ولا يقتضي احتجازه. أما الصرف فلا يشك أحد في جوازه، الصرف جائز إجماعًا وكان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وتعامل به أصحابه وتعامل فيه الأمة من بعدهم، فلا يمكن أن يقال: إن الأصل هو التحريم، هذا بعيد جدًّا، لكنه مع هذا الأمر المجمع عليه قد يعرض له ما يوجب تخريجه من باب الذرائع، ونحن نعرف أن سد الذرائع هو تحريم الحلال الذي يؤدي إلى حرام وفساد، الحلال إذا أدى ارتكابه إلى فساد يجوز تحريمه أي الحكم بحرمته لما يتضمنه من الفساد. هذا أمر واضح ومعروف.
أما سلطة ولي الأمر فإنها منوطة بالمصلحة، لكن يقول ابن عابدين: إن ولي الأمر إذا منع من المباح يجب امتثال أمره. إذا منع من المباح، والمباح هو التخيير، هو خطاب التخيير المباح، لكن هذا الأمر لا يحدث حكمًا شرعيًّا وإنما يحدث حكمًا مؤقتًا بالنسبة للمكلف، وهذا الحكم – كما قلت – منوط بالمصلحة لأنه معزول عن غير المصلحة كما يقول الحريري عن التجارات: فأما التجارات ما أشبهها بالطيور الطيارات. هذه العملات أيضًا طائرة وتطير في كل مكان وشرها مستطير، وقد قال قديمًا المالكية: إن مالكًا – رحمه الله تعالى- كره السلم في الفلوس، لأنه يؤدي إلى الفساد والكساد. هذه العملات أيضًا تؤدي إلى الفساد والكساد، وقد شكا النقريسي قديمًا من الفلوس التي أدت في زمانه إلى الغلاء الشديد، وطالب بالرجوع إلى الذهب والفضة لكونهما أصلي النقد. أما ما وقع في الدول الآسيوية فهو مؤشر واضح ونذير لغيرهم بأن الورم لا يكون شحمًا.
أعيذها نظرات منك صادقة
أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
فهذه الدول اعتمدت على ضخ المال الأجنبي، فأصبحت متورمة وافتخرت وتباهت بأنها أصبحت غنية وثرية، لكن هذا الفخر لم يدم طويلاً، فقد تدخل المضاربون وبين ليلة وضحاها أصبحت كالصريم. تحركت الأوضاع الاقتصادية وتلتها الأوضاع الاجتماعية، واضطرابات سياسية وسقوط الحكم. وأعتقد أن هذا السيناريو – كما يقولون- أو هذا المسلسل في غاية الأهمية وقد يجعل حكومات العالم الإسلامي أكثر صوغًا وإصغاءً للنصائح التي نسديها إليها إذا قدمنا نصائح عملية مؤصلة يمكن الاعتماد عليها لإدارة الأزمات، أما إذا بقينا في ذكر الشكاوى أو وصف الحالة وهي حالة معروفة ومنشورة في الجرائد ومعروفة في كل مكان فأعتقد أن أحدًا لن يثق بما يقدم إليه.
معالي الرئيس، هذه العولمة واتفاقيات (الجات) جعلت العالم في مهب الرياح سماسرة الربا، وألقت العالم في اليم.
ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له
إياك إياك أن تبتل بالماء
الناس في مهب رياحهم وكل منهم يطلب إليه أن يمسك ما لا يمسك وما لا يستطيع.
لهذا ففي رأيي أن الأزمة كبيرة جدًّا وتحتاج منا إلى شيء من التروي ومن البحث الجاد المؤصل ليس بحثًا سريعًا كهذا. هذا البحث يمكن أن يكون في محاور متعددة منها السوق الإقليمية التي يتحكم فيها نسبيًّا كالسوق الخليجية والسوق العربية والسوق الإسلامية.
إعادة النظر في العملات الحالية، ولست بعيدًا ممن يقول إن هذه العملات يجب إيجاد أو البحث عن عملة مشتركة كالدينار الإسلامي الذي يعتمد على سلة من العملات.
دعوى إلى دراسة هذا الموضوع في ندوة مع البنك الإسلامي للتنمية.
- تصنيف الموضوع إلى محاور يدرس كل منها على حدة.
- التنبيه إلى الرجوع للمعاملات الإسلامية، يثبت الأسواق وتبيين ذلك عمليًّا بالتأصيل.
وقد أخبرني الإخوان في الكويت بأن بيت التمويل الكويتي لم يخسر درهمًا ولا دينارًا في أزمة المناخ المشهورة، وهذا أمر مهم جدًا يمكن أن يكون دليلاً واضحًا على أن الربا يمحق، والله سبحانه وتعالى يمحق الربا ويسل المال الحلال كما تسل الشعرة من العجين، فهذا بيت التمويل وهو موجود في مناخ المناخ ومع ذلك لم يخسر شيئًا.
في النهاية أعتقد أنه يجب تشكيل لجنة لهذا الموضوع لتدرسه من جوانبه. إنه اختبار أكيد لاقتصادنا الإسلامي، واختبار لنا جميعًا. وشكرًا.
الشيخ صالح المرزوقي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
قال الأخ الفاضل الدكتور علي القره داغي: إن الصرف العاجل جائز لأنه يدخل في حساب المشتري فورًا وإن كان لا تصرف فيه إلا بعد ثلاثة أيام. وقد أخبرني الدكتور منذر قحف – جزاه الله خيرًا – بأنه لا يدخل في حساب العميل مباشرة، وهو من أهل الاختصاص في هذا الشأن، وبناءً على ثبوت عدم دخوله في الحساب وعدم قدرة صاحبه فيه فالذي يظهر لي – والله أعلم – عدم جوازه.
ويقول الشيخ الصديق الضرير:
أولاً: إنه يعترض على ما ذكرته بشأن جواز المتاجرة في النقود، وقال: إنه حتى ولو لم يقل به الفقهاء قديمًا فيجب أن نقول به اليوم بناءً على النتائج التي حصلت في الأسواق العالمية. والذي أود أن أبينه في هذا الشأن أن الفقهاء قالوا بجواز الصرف، وسبق أن قرأت عليكم كلام الإمام مالك وكلام الرهوني ومما قال:"وحكمه الأصلي الجواز".
ثانيًا: الشيخ الصديق الضرير في سفره إلى الحج أو إلى حضوره دورة المجمع في البحرين ألا يحتاج إلى صرف شيء من النقود السودانية إلى عملة البلد الذي رغب في السفر إليه؟ من الثابت أنه يحتاج إلى هذا بل إنه قد فعل. ثم كيف يقول البعض إنه ممنوع شرعًا والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما)) ، ويقول صلى الله عليه وسلم:((فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد؟)) فهل نسمع ونطيع لقول رسول صلى الله عليه وسلم أم للبعض؟ وإذا كان البعض يرى أن الصرف جائز ولكن التجارة في العملات ممنوعة فما هو الحد الفاصل بين القسمين؟ وكيف نعرف أن هذا يصرف لقضاء حاجاته وهذا يصرف ليتاجر في العملة؟ ثم إن الفقهاء – رحمهم الله – ذكروا شروطًا أربعة للصرف وهي: التماثل، والتقابض، والحلول، وعدم الخيار. ولم يذكروا فيها شرط أن يكون الصرف لقضاء حاجات المشتري للنقود ويمنع إذا كان المراد به التجارة لم يذكروا هذا شرطًا ولم يذكره أي منهم.
والذي أود أن أؤكده أن التجارة في النقود جائزة، وإذا قلنا بغير هذا فإننا سنخالف ما نص عليه علماؤنا وفقهاؤنا وسنخالف الواقع ولن يسمع الناس لنا كلامًا.
والذي أود أن أؤكده أن التجارة في النقود جائزة إذا التزمت الشروط الشرعية. نعم، يمكن القول بالمنع بالنسبة لدخول ولي الأمر في تجارة النقود أو من يمثله مثل البنك المركزي أو غيره. ومن أسباب انهيار الأسواق المالية إجراء العقود بعيدًا عن الضوابط الشرعية، وعندما أقول هذا لا أعني أنهم عوقبوا من المولى لأنهم خالفوا الشريعة، نعم هذا نوع من العقاب ولكن الضوابط الشرعية والأوامر الشرعية ما شرعت إلا لجلب المصالح ودفع المفاسد. لم يحكم الله – سبحانه وتعالى – بالحرام ولم يمنعنا ويحرم هذه الأشياء الممنوعة سواء الربا أو الإخلال بالشروط الشرعية إلا لما يترتب عليه من مفاسد، فترتبًا على هذا الإخلال وقعت هذه المفاسد.
هذا ما أحببت أن أضيفه، وشكرًا، والسلام عليكم ورحمة الله.
الشيخ علي السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير الرسل.
الشكر وكل الشكر للأخوين الكريمين لبحثيهما القيمين، ولجميع الإخوة الذين عقبوا.
أبدأ أولاً القول بأن كلمة (المضاربة) كما تحدث بعض الإخوة غير دقيقة وتختلط بالقراض وهي أقرب إلى القمار، ولذلك يجب أن تحرر.
وأثني أيضًا بما ذكره بعض الإخوة من أن سبب الكارثة هو الربا، فهذا محق، والسحق هذا نتيجة طبيعية للتعامل بالربا.
ثم نبدأ بعد ذلك في الملاحظات.
تأخر القبض يومي عمل والنقاش الذي دار حوله، لا أريد أن أقول بأن هذا جائز أو أنه غير جائز، ولكن أريد هنا أن أبين واقعة من الوقائع التي حدثت، وأذكر هنا على سبيل المثال ما ذكره ابن القيم في كتابه القيم (إعلام الموقعين) عن تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان وذكر بعض الأمثلة ومنها جواز طواف الحائض، قال: إذا منعنا الحائض من الطواف ما الذي ينتج عن هذا؟ ذكر ثمانية نتائج وبين أن كلها لا تصلح إلا نتيجة واحدة وهي أنها في حال الضرورة يجوز لها أن تطوف، وكانت تمنع من قبل لأنه المكاري كان يلزم بالبقاء إلى أن تطهر، أما في عصرنا فهو لا يلزم، فلا يمكن أن تعود بغير حج، وبين كل الحالات، وذكر أن هذا ليس مخالفة للنص، وإنما هو أخذ بالنص عند العجز عن تطبيقه. فالطواف هنا لمن تقدر على الطواف، فإن عجزت. . كالقيام في الصلاة إن عجز عن القيام، كالطهارة في الصلاة إن عجز عن الطهارة لا تسقط الصلاة، فبين هذا في كتابه.
السؤال هنا. . إذا قلنا بأنه لا يجوز أن يتأخر القبض يومي عمل ماذا تفعل المصارف الإسلامية إذا احتاجت مثلاً إلى مائة مليون دولار من أين تشتري هذا المبلغ؟ إذا اتجهت إلى الأسواق المالية العالمية (بورصة النقود) فهناك احتمال التأخر، إذا قلنا لها هذا لا يجوز فماذا تفعل؟ هذا سؤال. الذين يمنعون أرجو أن يوجدوا لنا حلا.
الأمر الآخر بالنسبة للبيع الآجل في العملات، أرجو أن يؤكد المجمع في هذا القرار أن يؤكد على قراراته السابقة المتصلة بالنقود، لا بد من التذكير هنا بالقرارات السابقة المتصلة بالنقود. وأذكر على سبيل المثال هنا أن هيئة أفتت بجواز المواعدة على الصرف ما دام الوعد غير لازم، يعني الصرف في الذمة أو الاتفاق على سعر الصرف الآن والقبض يتم بعد مدة ما دام الوعد غير لازم. هذا وإن كان غير صحيح وغير جائز إلا أننا نقول في القرارات أو الفتاوى يجب أن ينظر إلى الواقع العملي، لا نقول بعيدًا عن الواقع العملي. كما بين الإخوة أنه إذا تمت مواعدة (اتفاق) على الصرف الآجل فهذا عقد لازم، ليس مجرد وعد بل هو عقد لازم. فإذن لا تأتي الفتوى بعيدًا عن الواقع العملي.
بالنسبة للعملات في البيع الآجل قد نجد أن البنوك الإسلامية تذكر أنها في حاجة إلى الاتفاق على سعر الصرف الآن لا من باب المضاربة أو المقامرة على العملات وإنما من باب تجنب المخاطر. يعني بنك إسلامي في حاجة إلى مائة مليون دولار في وقت معين وإذا لم يثبت سعر الصرف الآن يتعرض لمخاطر، أو مطلوب منه عشرة ملايين جنيهات إسترلينية في وقت معين وفي هذا الوقت الآن معروف سعر الصرف في ذلك الوقت قد يتغير سعر الصرف، فكيف يتجنب هذه المخاطر؟ تجنب المخاطر بجواز الاتفاق على سعر الصرف الآن البيع الآجل هذا لا يجوز لأن هذه مخالفة شرعية. لكن أيضًا يجب أن نبحث عن البديل وفعلاً عدد من البنوك الإسلامية بينت لهم البديل الذي يمكن أن يلجؤوا إليه لتجنب مخاطر سعر الصرف، فإذا كان يطلب منهم مائة مليون دولار في وقت معين فعليهم أن يبيعوا بالأجل لهذا الوقت بنفس المبلغ، يعني سلعة تباع والثمن يسلم في ذلك الوقت ويتسلمه المصرف الإسلامي ويقوم بسداده، فهذا إذن يتجنب المخاطر لأنه من الآن باع بالأجل وأصبح سيأتيه مائة مليون دولار ويسلمها، ويمكن أن يكون هذا قبل الموعد بيوم أو يومين.
الحل الآخر بالنسبة إذا كان ارتبط بعمل ما وسيأتيه عشرة ملايين جنيه إسترليني في وقت معين، وعملة هذا المصرف ليست مرتبطة بالإسترليني ويخشى مخاطر الصرف فماذا يفعل؟ قلت لهم هنا يستطيعون أن يشتروا بالأجل الإسترليني بحيث إنه عندما يأتي هذا الوقت وموعد التسلم بعد يوم أو يومين، فعندما يأتي هذا الوقت يأخذون المبلغ الذي لهم ويدفعونه ثمنًا للشراء الآجل الذي اشتروا به، والسلعة التي اشتروها يستطيعون أن يتصرفوا فيها تصرفًا حالاً أو آجلاً بعملة أخرى، فهذا بديل ويمكن أن يكون في بيع المرابحة أو الشراء بالمرابحة، البيع أو الشراء يمكن أن يكون بديلاً شرعيًّا لتجنب مخاطر سعر الصرف وبديلاً للمواعدة على الصرف.
نقطة خطيرة في الحقيقة متصلة بالنقود ولجأت إليها قلة من البنوك الإسلامية وهي ما يعرف بالبيع الموازي للعملات. يبيع عملة بسعر معين ويسلم العملة ثم يشتري العملة التي باعها بسعر أعلى وتسليم متأخر في وقت متأخر، والفرق بين السعرين إذا نظرنا إليه نرى أنه هو سعر الفائدة، فهو يبيع ويسلم العملة لبنك ربوي، ثم يشتري الآن هذه العملة مرة أخرى بسعر أعلى والتسليم بعد ثلاثة شهور، وتبقى عملته في البنك ثم يتسلمها مرة أخرى بعد ثلاثة شهور مع زيادة عن المبلغ الذي وضعه. هنا أرجو أن يشار أيضًا إلى أن البيع الموازي للعملات ما هو إلا عقد ربوي.
القول بأن النقود تكون مقصودة لذاتها والنقاش الذي دار حولها، يجب أن نفرق بين من يقصد النقود للتجارة المشروعة والصرف المعروف ومن يقصدها في حال ما عرف الآن بالمضاربة، فلا بد من قيود بحيث تضبط هذه العملية ولا تترك هكذا.
الاقتراحات بأن يكون هناك الغطاء الذهبي وإغلاق البورصات. هذه اقتراحات طيبة لكن التنفيذ غير ممكن، لا يمكن الآن أن يعود العالم إلى الغطاء الذهبي ولا يمكن الآن أن نغلق الأسواق المالية العالمية وإنما يمكن أن ننشئ أسواقًا إسلامية تنضبط بشرع الله عز وجل.
وكذلك الاقتراح بالدينار الإسلامي الذهبي. سلطة ولي الأمر في تقييد المباح لا بد أن تكون منضبطة وإلا لجعلنا من ولي الأمر مشرعًا وحاكمًا على النصوص.
أرجو إذن أن يؤكد المجمع على قراراته السابقة، وكذلك أن تتشكل اللجنة (لجنة الصياغة) من فقهاء واقتصاديين لوضع الاقتراحات المناسبة لعلاج المضاربة في توصيات مناسبة والتحذير من مضار هذه المضاربة.
والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدكتور عمر جاه:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد النبي العربي الأمي الأمين، وعلى آله وصحبه وسلم.
أود أن أتقدم بكلمة شكر إلى الأخوين العالمين اللذين قدما إلينا بحثيهما الجيدين لهذا الموضوع الخطير. وأنا لست متخصصًا في مجال الاقتصاد، ولكنني كمراقب شاهدت في هذه السنة بالذات قضايا خطيرة جاءت نتيجة التعامل بالعملة، وأريد أن أثني على كلام الأخ القري الذي اقترح الدقة في استعمال الألفاظ. والمضاربة كما تكلم كثير من المشائخ كلمة مستعملة في التعامل التجاري، هذا لا غبار عليه، وأوافقه على أن القضية هي في مشكلة الترجمة، لأن الكلمة الإنكليزية هي (speculation comentwo) . هي تكهن في مستقبل أي عملة من العملات هم يقررون أن قيمة العملة هذه سوف تكون كذا في شهر كذا، وجورج سورس أمريكي معروف وهو من أصل يهودي من هولندا أصبح يتحكم في سوق العملة. رئيس وزراء ماليزيا ذكره اسمًا بأنه هو السبب، والواقع إذا رجعنا إلى الوراء قليلاً لنجد أمثلة أنه قبل خفض العملة الإنكليزية (الإسترليني) تكهن بذلك فاستطاع أن يكسب بلايين من الجنيهات، وتكهن بانهيار العملة في جنوب شرق آسيا فحصل نفس الشيء، ثم تكهن بالنسبة لروسيا واقترح على روسيا أن يخفضوا عملتهم بنسبة معينة فصار ما صار.
إذن هناك قضية خطيرة، وهناك قوى سواء حكومية أو فردية تتحكم في هذا.
قضية التكهن والمغامرة هي الممنوعة لكن التجارة بالعملة أو بالنقود – كما قال الشيخ صالح – أنه لا يمكن منعها، لأن هناك تجارًا مسلمين ومؤسسات تشتغل في الصرف سواء عن طريق البنوك أو عن طريق الأفراد. وما ذكره شيخنا الضرير هو ما ينطبق علينا جميعًا.
فأنا عندي عملة ولا يمكن أن أتصرف فيها وأنا في المدينة التي لا تستعمل فيها هذه العملة، لا بد من صرفها. إذن بيع النقود بالنقود إذا توفرت الشروط فهو لا غبار عليه. لكن القضية قضية خطيرة وعندي سؤلان أوجههما إلى الأخوين اللذين قدما البحثين الأخ شوقي والأخ أحمد محيي الدين.
السؤال الأول للأخ شوقي: ذكر الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الماليزية منذ شهر بالضبط وإثبات قيمة الصرف، أسأله لأنني على علم بأن هذه الإجراءات لا تستمر مدة طويلة، لا يمكن ذلك اقتصاديًّا، ولكن كونه خبيرًا اقتصاديًّا أسأله: ما هي مضاعفات هذه الإجراءات؟ وإلى أي مدى تستمر؟ وما هي التكلفة الأساسية على الحكومة الماليزية في هذا؟
ثم أخي أحمد محي الدين أسأله لأنه يقترح أن يكون لولي الأمر سلطة في ضبط هذه الأمور، ونحن نعرف أننا نعيش في عالم يسمى بالعولمة وكأننا نعيش في قرية صغيرة لا يستطيع أي فرد منا أن يتحكم في شيء، ولا نستطيع إلا أن نتجاوب معهم، وأعود وأقول إن التكهن في مستقبل العملات هذه أكبر مشكلة تواجهنا، وأخالف من يقول إن السبب الأساسي ليس هو المضاربة، وأنا أعيش بالمنطقة، وأعرف أنه لو لم تكن هناك هذه التكهنات لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تنخفض قيمة العملة بنسبة (60 %) في مدة شهر أو شهرين لا يمكن ذلك. اختلاسات سوء الإدارة، والمحسوبيات، هذه مشاكل نعرف أنها تؤثر في التنمية الاقتصادية، لكن آثارها تأتي لمدة طويلة ولا تنحصر في شهر أو شهرين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الأستاذ صباح زنكنه:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
في الواقع نحن أمام عدة مستويات في هذه الأزمات، هنالك المستوى الوطني كما شهدنا من الكلمات، وهنالك المستوى العالمي والدولي، وهنالك مستوى آخر يرجع إلى البنية الاقتصادية المعتمدة على القروض والفائدة. الأسباب ذكرها السادة الأعزاء. هنالك ارتفاع في العجز في الحساب الجاري للدول وهذا العجز صاحبه هبوط في ميزان التبادل التجاري وهنالك سرعة هروب رأس المال الأجنبي عمومًا والمحافظ الاستثمارية خصوصًا مما أدى إلى ظهور الفقاعة في قيمة الأصول. هنالك الاستقراض الأجنبي قصير الأمد الذي يحمل فوائد أكثر ويهز الاقتصاد الوطني. هنالك ضعف المؤسسات المالية الوطنية. هنالك ضعف في الإدارة العامة ومآسيها. هنالك المؤسسات المالية الوطنية. هنالك ضعف في الإدارة العامة ومآسيها. هنالك الآثار النفسية السيئة التي تنتج عن انعدام الشفافية ونشر المعلومات الصحيحة مما تفقد الناس ثقتهم بالاقتصاد. هنالك الإغراق في زيادة كمية النقود عن طريق استخدام بيع سندات القروض. في المستوى العالمي كما تلاحظون بدأت الأزمات في عدة أماكن وهي لا تخص العالم الإسلامي فقط، هنالك في شرق آسيا وفي روسيا وفي أوروبا أيضًا ولكن تلافوها بقدر ما، وفي أمريكا اللاتينية أيضًا، هذا يؤدينا إلى نتيجة معينة وهي أن الهيكلية والبنية التحتية للاقتصاد الرأسمالي مصابة بضعف أساسي، ولا بد من إصلاحه، وهذا الإخفاق أعاد إلى الذهان الإخفاقات السابقة للنظام الشيوعي، وهنالك اتجاهات منها ما يسمى بالطريق الثالث لإعادة النظر في التنظيم العالمي للاقتصاد، وهنالك أقوال لشخصيات اقتصادية قد تقترب إلى النظام الاقتصادي الإسلامي كـ (موريس آليه) الفرنسي الحائز على جائزة نوبل والذي تكهن بهذه الأزمات قبل فترة ليست بالقصيرة حينما يقول: في كل مكان أصبحت المضاربة على العملات والأسهم مدعومة بالائتمانات إذ يستطيع المرء أن يشتري بدون دفع وأن يبيع دون أن يملك مما يؤدي إلى أزمات كثيرة. أهم النتائج والدروس التي يمكن أن نستخلصها من هذه الأزمة:
أولاً: على الدول الإسلامية خاصة أن تدرك أن الجهود الدولية التي دخلت لفض هذه الأزمة والمساعدة عليها لا يمكن أن تؤدي لوحدها لحل الأزمة وإنما يمكن أن تؤدي دورًا داعمًا فقط.
ثانيًّا: أن حجم تداول العملات العالمية وبكميات هائلة، أو ما يسمى بالنقود الساخنة تجعل من المشكك فيه أن تستطيع السياسات الوطنية والمحلية لوحدها أن تكون قادرة على صيانة التحولات الاقتصادية المفتوحة من انهيارات وتضخم السوق.
ثالثًا: أن الدول التي تستهدف درجة عالية من النمو تحت ظروف التجارة الحرة المفتوحة وسياسات الاستثمار المعروفة عليها أن تضع أولوية لتطوير القطاع المالي والطاقة المؤسساتية والقدرة المؤسساتية لتتمكن من التعامل مع التغييرات الحادة في الأسواق.
رابعًا: أن سياسات الاستثمار في الدول الأعضاء يجب أن تستعمل لتغيير اتجاه حركة الاستثمارات وتركيبتها؛ لخلق وتشجيع القطاعات الأساسية، كالبنية التحتية ونشاطات الزراعة والقطاع الزراعي.
خامسًا: أن السماح بحرية تبديل العملات وتدفق رؤوس الأموال قد تكون أهدافًا مطلوبة على المستوى البعيد، لكنها تحتاج إلى أسلوب أنسب للدول الإسلامية في إيجاد علاقة بين تحرير حسابات رأس المال من جهة وبين التقدم في التجارة وتبادل المنابع الخارجية وتطوير القطاع المالي من جهة أخرى.
سادسًا: أن أهم خطوة للبدء في عملية الاندماج في السوق العالمية لرأس المال هي امتلاك النظام المصرفي الكفء والقوي والمنضبط بالشرع الإسلامي.
سابعًا: أن يتم المحافظة على التوازن بين القطاعات المختلفة في النمو لا أن يطغى قطاع على قطاع آخر.
ثامنًا: الاستفادة من أدوات التمويل غير الافتراضية بحيث تساعد على عزل البنوك من الانهيارات والهزات المالية.
تاسعًا: في حالة تعرض اقتصاد ما لخطر اقتصادي أو مشاهدة علامات مبكرة لأزمة ما يجب عدم التأخير باتخاذ الوسائل التصحيحية.
عاشرًا: أن النظام الاقتصادي يجب أن يشمل الانتظام في القطاعات أيضًا وحتى ينزل إلى مستوى المشاريع نفسها أيضًا.
الحادي عشر: لإدارة القروض الخارجية يجب الاحتفاظ بتوازن بين مجمل القرض العام – الذي يشمل قرض الدولة وقرض القطاع الخاص – وبين الاحتياطي الخارجي، وهذا ما لم نشهده في اقتصاديات شرق آسيا، وكان الاحتياطي الخارجي أقل من القروض الأجنبية.
الثاني عشر: لاجتناب الأضرار يجب أن تعطى إدارة الأزمات، هنالك إدارة متخصصة بالأزمات، يجب أن تعطى هذا النوع من الإدارة أهمية مركزية في النشاطات المالية.
ما هي الجهود التي يمكن أن تتخذها البلدان الإسلامية في هذا الاتجاه؟
أولاً: نظرًا لمحدودية الجهود الوطنية والمحلية للحصول على رأس المال الخارجي فإن بعضًا من التفاهم بين هذه الدول للدخول في المستويات الدولية سيكون ضروريًّا للتأثير على اتجاه حركة رأس المال وتركيبته بدلاً من أن يفرضوا هم علينا التركيبة التي يدخل فيها رأس المال في القطاعات وأن نغير من هذه التركيبة بالتنسيق بيننا.
ثانيًا: التعاون الدولي للدول الإسلامية عبر القطاع المصرفي والوسطاء الماليين والوسائل الأخرى يمكن أن يساعد في تنظيم الأمور.
ثالثًا: الحاجة لإمكانية دراسة إيجاد صناديق إقليمية تساعد على الاستقرار في حالة بروز وظهور أزمة ما.
رابعًا: تشجيع استعمال العملات المحلية المجدية بين الدول الإسلامية، ويمكن أن يساعد على إيجاد أسواق مالية جديدة.
وكذلك تشجيع وزيادة سهم التجارة البينية بين الدول الإسلامية بدل أن ترتكن الدول الإسلامية للتجارة مع الدول الأخرى وتتعرض اقتصاديتها بين آنٍ وآخر إلى هزات كبيرة من السوق العالمية؛ يمكنها أن تنمي السوق التجارية فيما بينها وتحصن اقتصادياتها.
خامسًا: إيجاد نظام تنبيه مبكر حول تطورات المال في الدول الأعضاء يمكن أن تقام هذه المراكز إقليميًّا.
سادسًا: ضرورة إيجاد زيادة عدد وكالات ومؤسسات الاعتمادات بغرض تشجيع وتسهيل الاستثمارات البينية بين الدول الأعضاء أنفسها.
سابعًا: تشجيع دور البنوك الإسلامية في تحسين الاستقرار الاقتصادي والمالي بعيد المدى في الدول الأعضاء.
ثامنًا: الاستفادة من الأجواء النفسية الإيجابية. هذه الأزمة أدت إلى نوعين من الآثار النفسية. آثار سلبية أدت إلى تفكك الاقتصاد، وآثار إيجابية. الآثار الإيجابية نجد أن هنالك تقبلاً أكبر للبنوك الإسلامية والأساليب الإسلامية في التعاملات المالية والنقدية، وعليه يجب بذل جهود أكبر لتشجيع انتشار هذه البنوك.
تاسعًا: يجب تطوير طرق التمويل الإسلامية الجديدة والتي يمكن أن تخدم النمو الاقتصادي.
عاشرًا: بذل جهود أكبر لتحريك المنابع الإسلامية وغيرها لدعم مسيرة المعافاة الاقتصادية في الدول المتأثرة.
الحادي عشر: يمكن تقوية دور البنك الإسلامي للتنمية أيضًا كمحفز وكبنك كبير يمكنه أن يصبح بنكًا رئيسيًّا لدعم الدول الإسلامية المصابة بالأزمة.
الثاني عشر: بذل عناية خاصة لخلق أجواء مساعدة لجذب الاستثمارات البينية.
وشكرًا لكم.
الشيخ مختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلِّ وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، ربنا لا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا.
أفتتح كلمتي بالشكر والتقدير للعارضين زيادة على المعلومات الدقيقة في الميدان الاقتصادي التي كشفت لنا عن وجوه كنت أجهلها من قبل، والتي تساعدنا على فهم أدق للمشكلة من جميع نواحيها، بجانب ذلك قد حرك أوتار قلبي بالعربية الدقيقة المنمقة التي لا أجدني أطرب كما أطرب لرجل مفوه في اللغة العربية يتناول بها كل القضايا، فشكرًا لهما وتقديرًا وزادهما الله فصاحة وبيانًا وبلاغة.
الأمر الثاني الذي أريد أن أخلص إليه هو أنه من هذه العربية التي ارتوينا منها جميعًا، والتي لا يستطيع فقيه أن يبحث في الأحكام الشرعية دون أن يكون على حظ وافر منها، أقول:
إن القضية الأولى أن ابن مالك لما تحدث في باب الحال قال: إن الحال لا بد أن يكون مشتقًا ولا يجوز أن يكون جامدًا، وإذا جاء جامدًا فلا بد من تأويله. وضرب لذلك مثلاً في بيته لما قال:
كبعه مدًا بكذا يدًا بيد
وكر زيد أسدًا أي كأسد
وقد أخذ هذا المثال اقتباسًا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يدًا بيد)) ، وقال: إنه لا يفهم على عربية لا يفهم على هذا المنطوق المادي ولكنه يفهم على التأويل أي مناجزة. فإذا أخذنا بكلمة (المناجزة) التي هي مفهوم الحديث حسب ما فهمه أئمة اللغة فإن (المناجزة) يصبح فهمها ينطبق على الوقائع باعتبار تحقيق المناط لهذه المناجزة. فالتعامل في الصرف أو في المبادلة – المبادلة إذا كانت ذهبًا بذهب والصرف إذا كان ذهبًا بفضة أو فضة بذهب والمراطلة إذا كان وزنًا كما هو معلوم لديكم جميعًا – لهذه المناجزة في عهده لا تقع إلا بين آخذ ومعطي كلاهما يواجه الآخر. اليوم أصبحت هذه القضية تقع بين رجل في المغرب الأقصى وآخر في أندونيسيا وتتم بينهما المناجزة ويتم بينهما الصرف. والصرف بين رجل في أندونيسيا ورجل في المغرب الأقصى ليست على وزن المناجزة التي تقع عند الصراف في متجره، وهذا لنا فيه سابقية، فنحن في مجمعنا هذا أخذنا قرارًا بالقبض وأعطيناه مفهومًا حسب تطور العالم وأصبح تبادل الوثائق مقبولاً كقبض للسلعة، ولذلك أفهم أن المناجزة عندما تتم بطريقة لا رجوع فيها لأحد الطرفين ولا يمكن لأحد الطرفين أن ينكر الآخر لكن ما تتم مناجزة الأمور به حسب الواقع هو مناجزة ولا يخرج عن المناجزة وإن تأخر حتى يومين كما قال بعض الخبراء.
الأمر الثالث: وقع الحديث عن المتاجرة بقصد الربح. إذا أباح الله شيئًا فقد أباحه بكل ما يترتب عليه وهو أعلم، وسبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] ، ولنا في هذا سابقية في الحج {ِليَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 28] . فالتفريق بين هذا جائز وهذا لا، ما اقتنعت بالدليل الذي اعتمد إليه الذاهب إلى ذلك. كما أن الربح السريع لم يحرمه الشرع. حرم الغش وحرم الخداع، حرم كل شيء، أما الربح السريع فذلك رزق يرزقه الله من يشاء، وكما يتحقق الربح السريع تتحقق الخسارة السريعة. فهذا الذي دخل السوق ربح أو خسر إنما جاءه قدر الله الذي قدره له.
الأسهم: أخذنا قرارًا في مجمعنا على أنها تمثل حقًا في موجودات الشركة، ولذلك قلنا: لا تباع قبل أن تتحول هذه الإسهامات الأولى إلى أعيان، فإذا تحولت في معظمها إلى أعيان أصبح يجوز بيع السهم باعتبار أن المقابل هو ما يأخذه المسهم وما يدخل في ملكه على حسب الاشتراط من الأعيان، ولهذا يجوز له أن يأخذ السهم طمعًا في الربح الذي يتحقق للشركة في نهاية السنة ويجوز له أن يشتري السهم ليربح فيه إذا غلا السهم، وغلاء السهم يتبعه أيضًا إمكانية رخصه وخسارته، وهذا حلال ولا أستطيع أن أقول: هذا يجوز وهذا لا يجوز وأنه لا فارق بينهما.
جاءت قضية المضاربة من جمال لغتنا العربية واسمحوا لي إذا رجعت إلى العربية دائمًا. من جمال لغتنا أن فيها الاشتراك وأن الاشتراك يكون حتى بين الضدين، وكثير من الكلمات تستعمل في الشيء وضده ويؤخذ المعنى حسب المقام، ثم إن اللفظ بعد الاشتراك يأخذ في سوق الكلام قبولاً عاما إلى أن ينقلب إلى حقيقة عرفية خاصة أو إلى حقيقة عرفية عامة، وكما تعلمون فقد أفاضالقول في هذا الإمام القرافي في (الفروق) وأبدع رحمة الله عليه. فكلمة (المضاربة) هي كلمة مستعملة في معنيين، معنى شرعي هو القراض، ومعنى محرم شرعًا وهو القمار، فاستعمالها لا حرج فيه وهو جار على عرف عربي معلوم.
استمعت اليوم إلى أن المباح يقع على قسمين: قسم يعتمد فيه الإباحة الأصلية، وقسم هو مبني على الإباحة التي وجد بها نص شرعي، وأن هناك من قال إن التحقيق فرق بينهما. هذا التحقيق أؤكد أنه ليس تحقيقًا ذلك أن تتبعي القاصر للأحكام الشرعية في مفهومها ما وجدت رجلاً اعتنى بها اعتناءً كاملاً كـ الشاطبي في الجزء الأول من (الموافقات) . وما اعتنى الشاطبي من بين الأحكام الشرعية كاعتنائه بالمباح. فقد اعتنى بالمباح اعتناءً دقيقًا وتتبعه تتبعًا دقيقًا واعتمد في ذلك على النصوص الشرعية، وما وجدت له أن هناك مباح ونصف مباح!! فالتفرقة بين هذا وذاك هو أمر لا أساس له إلا أن الله تعالى يبيح لنا أشياء وينص على إباحتها – هي مباحة بالعرف الأصلي – تأكيدًا.
والذي فهمته واقتنعت به بعد تتبعي للمباحات الشرعية المنصوص عليها هو إشارة للامتنان الإلهي حتى تنطلق الألسنة بالشكر على من علله عليهم بالإباحة. وإذا تتبعنا الآيات التي وردت فيها الإباحة وجدنا أن الإباحة يتبعها الدعوة إلى الشكر وللاعتراف بالفضل وإلى النظر في التيسير، فقال تعالى:{فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15] ، فهذه إباحة وأكدها وأراد أن تطبق، لكن إذا أخذت دولنا اليوم بمنع هذا المباح وأرادت أن تحتفظ بحدودها القومية ولا تترك واحدًا يدخل مع أنه جاء في معرض الامتنان والتحريض عليه، فهذه طريقة استعملها الشارع وهي معنى المباح وأن التحليل فيه إظهار المزية وأن ولي الأمر أخذ قرارًا يمنع غير المواطن من دخول بلده إلا بتأشيرة، وكلنا يأخذ تأشيرة قبل أن يقدم. وتارة المباح ينص عليه بقصد إظهار التوسعة مع بيان أن عدم الأخذ بالتوسعة أولى، وفي هذا كثير من المباحات التي أباحها الشرع إظهارًا للتوسعة، ولكنه ينص مع ذلك أن عدم التوسعة أولى {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 238] .
وهنا أنهي كلامي. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ الصديق الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. لقد سمعت كلامًا عجبًا من أحد الإخوة العلماء الأفاضل، هذا الكلام فهمت منه أنه فهم من كلامي أنني أمنع الصرف، وقد أكد هذا بعبارات لا لبس فيها، فخاطبني بأني إذا دخلت بلدًا ألا أحتاج إلى صرف ما عندي من نقود؟ نعم أحتاج وهذا جائز وهذا هو الصرف. ثم قال لي: كيف يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب والفضة بالفضة)) وهناك من يمنع الصرف فهل نسمع كلامه أم نسمع كلام الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لا حول ولا قوة إلا بالله، نسمع كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.
ما كنت أعتقد أن أحدا يظن أن في هذا المجلس من يقول بمنع الصرف. إن الذي قلته هو: أن المضاربات أو المقامرات لا تجوز شرعًا، وأقولها وأكررها المضاربات، المقامرات، المجازفات التي تجري في الأسواق المالية الآن لا تجوز شرعًا وهي ليست بصرف، وأيدت هذا بكلام ربما هو الذي أدى إلى سوء الفهم وهذا خطأ مني، لذلك أريد أن أصححه بعبارات واضحة.
حدث خلاف بين الأئمة الأربعة، في المذاهب الأربعة هناك خلاف في الأصل في الصرف، الصرف الذي جوزه الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديثه، هل الأصل فيه الجواز أم الأصل فيه المنع؟ وإنما جاز لحاجة الناس إليه بهذه النصوص. هذا هو الذي قلته تأييدًا لرأيي في منع المجازفات لأن الفقهاء إذا كان اختلفوا في أصل الصرف بشروطه الضيقة المعروفة فقال بعضهم، ولم أكن متأكدًا من المذهب الذي قال بهذا، وقد دلني أحد الإخوة بأنه المذهب الحنفي: يقرر أن الأصل في الصرف المنع وإنما جاز لحاجة الناس إليه. ومعروف عندكم جميعًا أن ما جاز للحاجة يقتصر فيه على موضع الحاجة ولا يجوز أن يتعداه إلى غيره، فما حدث يحدث الآن في الأسواق المالية هو تعد واضح لهذه الحاجة، فإذا قلنا بمنعه فليس هذا أننا نقول بمنع الصرف، ولا أدري كيف يفهم هذا من هذا؟! يسأل عن الحد الفاصل بين المتاجرة والمجازفة. والله أظن أن هذا واضح لا يحتاج إلى توضيح وما يحدث في الأسواق المالية واضح الآن. الصرف هو جاز كالمثال الذي واجهني به، دخلت البلد وأحتاج إلى نقود وأصرفها. المتاجرة التي ذكرها الأخ الفاضل أن العلماء أجازوها هي المتاجرة في زمانهم، وليست هذه المجازفة والمقامرة التي تحدث الآن في الأسواق المالية، وأعتقد أن هؤلاء العلماء الذين أجازوا المتاجرة لو عرضت لهم هذه المسألة ما ترددوا في منعها، ولهذا قلت: إنه على فقهاء العصر أن يمنعوا هذه المقامرات خصوصًا بعد ما ثبت ضررها الظاهر.
وشكرًا لكم.
الدكتور منذر قحف:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
في الحقيقة لا بد لي باعتبار أنني أتكلم للمرة الأولى في هذا الجمع لا بد لي أن أشكر مجمع الفقه الإسلامي ووزارة الأوقاف في دولة البحرين على الجهد الطيب في التحضير والإعداد لهذا المؤتمر، وأن أشكر الكاتبين على ما كتباه وما قدماه من معلومات ممتازة وجيدة في هذا الموضوع.
هناك نقاط كثيرة قد أغناني عنها كثير من الإخوة وسأقتصر على المهم مما لم أشعر أنه قد أغني عنه إلا أنني أريد أن أبدأ بالنقطة الأخيرة جدًّا التي أثارها فضيلة الشيخ الضرير. في الحقيقة أنه لا يمكن التمييز، ووضع حد فاصل بين المضاربة والمتاجرة، لأن كل تاجر يشتري بقصد البيع بسعر أعلى، فهو بهذا المعنى مضارب، والتمييز إذا رأينا أنه إذا اشترى من الصراف البسيط في شارع من شوارع مدينة صغيرة فذلك الصراف يشتري من صراف جملة، وصراف الجملة متصل بالأسواق العالمية، فهو جزء من تلك الأسواق العالمية لا يستطيع أن يخرج عنها. التمييز بين المضاربة والمتاجرة بالعملة غير ممكن ولا يمكن وضع حدود على الرغم من الظن بأن الحدود واضحة. الحدود في الحقيقة غير واضحة أبدًا. الذي يمكن هو التحقيق من غلواء المضاربة والتخفيف من حرارة الأسواق، وهذا متيسر بأول قيد وضعته الشريعة وهو منع الصرف الآجل، هذا قيد كبير بكل تأكيد هو بنفسه يزيل جزءًا كبيرًا من حرارة المداولات في أسواق العملة ومثلها أيضًا في أسواق السلع الأخرى.
النقطة المهمة التي أردت أولاً أن أبدأ بها هي أنه إذا أردنا أن نصل إلى توصية تتعلق بما حصل من أزمات نقدية تفاقمت إلى غيرها في بلدان جنوب شرق آسيا، مع ملاحظة أن هذه البلدان ليست فقط هي البلدان الإسلامية فهناك بلدان إسلاميان من ثلاثة حصلت بهما أزمة، وهناك بدلان حصلت بهما أزمة بنفس الشدة وهما غير إسلاميين، وهناك بلد ثالث وهو اليابان حصلت به أزمة أيضًا إلا أنها أقل شدة.
الأسباب الحقيقية وراء ذلك هي ما أشار إليه قبل ذلك (موريس آليه) وجود بنية مالية ونقدية كبيرة على قاعدة صغيرة من السوق الحقيقية من الإنتاج والتعامل الحقيقي. فهذا التناقض بين السوق المالية والنقدية، أو هذا الاتساع الكبير بالسوق المالية والنقدية مقابل وجود قاعدة صغيرة هو الذي أنتج بهزة بسيطة لا يوجد في السوق عمق يستطيع أن يمتص مثل الهزة فتقع الأزمة، وهذا ما حصل في تايلاند وكوريا وأندونيسيا وماليزيا ثم في اليابان. مثل هذه المشكلات قد حصلت أيضًا في بلدان أخرى، حصلت في بلدان رأسمالية مرات عديدة، ولكن سعة الإنتاج الحقيقي للاقتصاد استطاعت أن تستوعب الهزة، ولم تؤثر عليه وتجاوز الهزة.
وفي بلدان ضعيفة فيها القاعدة الحقيقية للإنتاج والتداول حصلت بها أيضًا هذه الهزات، فهل يمكن علاجها بالطرق التقليدية؟ أيضًا ينبغي أن نلاحظ أنه يمكن علاجها وقد عولجت في بلدان عديدة بالطرق التقليدية الربوية نفسها فكيف نقول إن الربا هو السبب؟ أنا أقول إن الربا من الأسباب المهمة وسائر المعاملات المحرمة ولكننا ينبغي أن ندرك الواقع أيضًا. لو أن هذه البلدان لم يكن فيها ربا لكانت قدرتها على تخطي الأزمات – أنا أتكلم عن البلدان الغربية ذات العمق الاقتصادي وعن البلدان غير الإسلامية غير ذات العمق الاقتصادي التي استعملت علاجات ربوية ونجحت في هذه العلاجات، كان ذلك ممكنًا لأنه أمكن ضخ كميات كبيرة من المساعدة الأجنبية بأشكال متعددة – قروض وغيرها ومعظمها ربوي – من أجل إنقاذ ذلك الاقتصاد.
العلاج إذن ممكن بالطريقة الربوية وكان يمكن أن تكون الأزمة أخف لو أنه لم يوجد ولم توجد المعاملات غير المشروعة، لأن حرمة الربا وحرمة المعاملات غير المشروعة تخفف من حرارة السوق.
يعني الأمر واضح مثلاً التمويل في المصارف الإسلامية حتى تمويل المرابحة الذي يعترض عليه أو يتحرج منه بعض الناس، هذا التمويل هو تمويل سلعي حقيقي ليس فيه قلب للديون مثلاً، وليس فيه زيادة للديون، وليس فيه تطوير وتوريق للديون، بينما التمويل الربوي يمكن أن يحصل فيه كل هذا، فتقوم أهرامات فوق أهرامات، أو طبقات فوق طبقات مما يسمى بالهرم المعكوس، هذا لا يحصل في التمويل المشروع.
فإذن الدعوة إلى ضرورة الالتزام بالقواعد الشرعية في المعاملات المالية من تحريم للربا وتحريم للمعاملات الأخرى (الصرف الآجل وغير ذلك وتبايع الديون) هذه دعوة ينبغي أن نقدمها حقيقة للعالم كله وبخاصة للبلدان الإسلامية، وأن نطالبها بأن تعيد تنظيم أسواقها الآلية على المنهج الشرعي، لأنه يخفف من حدة هذه الأزمات. هذا لا يكفي وحده نحتاج فوق ذلك إلى حكمة في إدارة السوق المالية والسوق النقدية في إدارة السياسة المالية والنقدية بصورة عامة، إلى حكمة كثيرة ينبغي أن نؤكد عليها أيضًا.
جانب آخر ذكره الدكتور المرزوقي. أنا أقول إنه في المعاملات الدولية النقدية لا بد من بضعة أيام (يومان أو ثلاثة) حتى يحصل القبض وحتى يحصل القيد (الدائن والمدين) لحساب كل متعامل. أما العملية تبدأ فور التعاقد فهي تبدأ فور التعاقد، فيؤخذ مثلاً من حساب أحدهما، ولكن لا يسجل له ما اشتراه إلا بعد مرور هذين اليومين بسبب المبادلات الدولية وما يستغرقه من زمن للاتصال، أما في المعاملات المحلية فيمكن هذا. لذلك يمكن القول أنه من الممكن إعادة تنظيم الأسواق النقدية والمالية المحلية بحيث يكون فيها قبض فوري لا يستغرق الأيام خلافًا للأسواق العالمية.
نقطة أخرى، أرجو أن تكون اقتراحاتنا فيما يقع في أيدينا وفيما نستطيع كمسلمين وكمجتمعات إسلامية وكبلدان إسلامية أن نفعله؛ فلا تكون اقتراحاتنا تتعلق بما يطالب به الغير أن يفعله، لأن ذلك ليس في أيدينا وخارجًا عن مقدورنا. وأيضًا ألا نبني تصوراتنا على أشياء قديمة قد تجاوزتها الأمة وقد تجاوزها الناس كلهم مثل الغطاء الذهبي. الغطاء الذهبي يعني المطالبة بالعودة للغطاء الذهبي كالمطالبة للعودة لركوب الخيل بدلاً من الطائرات. في الحقيقة هي من نفس النوع. فينبغي أن نبتعد عن هذا. ثم لا نبني أيضًا آمالنا على أن الرأسمالية ستنهار، اطمئنوا أيها السادة العلماء إن الرأسمالية لن تنهار في حياتنا على الأقل نحن، وهي لن تنهار بهذه السرعة والكتب التي تتحدث عن انهيارها قديمة جدًا. وشكرًا لكم.
الرئيس:
شكرًا لعله غلط سمعي أو أنه صحيح أن بعض الدول التي سميتموها وجدت حلا لمشكلتها في بعض المعاملات الربوية. فما أدري هل ذكرتم الشيء هذا؟
الدكتور منذر قحف:
المكسيك مثلاً حصل فيها هذا.
الرئيس:
مثل هذه الأشياء ينبغي التوقي من ذكرها، وأنت في مجال بحث شرعي وليس في مجال تبرير الربا. نحن في مجال رد الربا.
الأستاذ عبد اللطيف الجناحي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أنا طبعًا أشكر للدكتور منذر قحف على تعقيبه، ولكن يأذن لي بأن وجدت بعض التناقضات في كلامه. ما تفضلتم به يا سيادة الرئيس هو قاله فعلاً، وهو أنه عولجت مشاكل بالربا، ولكن في موضع آخر قال: إن جنوب شرق آسيا سبب انهيارها الربا. أنا لا أستطيع أن أوفق بين هذا الكلام وبين ما قاله.
في الواقع هناك عاملان مهمان إذا انتزعا من الاقتصاد العالمي تصحح سير الاقتصاد وهما الربا والصرف الآجل. احذفوا هذين العاملين من الاقتصاد ستجدون الاقتصاد يمشي سليمًا، وهذا ما نقوله نحن وتنبؤوا له، والكلام القديم 1944م قيل لأنه ظهرت بوادر انهيار الاقتصاد الغربي، وأنا يذكرني كلامه أن الاقتصاد الغربي لن ينهار، أنه في 1969م كانت هناك محاضرة وقلت لهم: الاقتصاد الشرقي في سبيله للانهيار فقالوا: كيف؟ وصلوا القمر، الخبز لم يتغير سعره وبدؤوا يشيدون المفتنون بالاقتصاد الشرقي والآن تكشفت الأمور. فلا محال من العودة إلى اقتصاد عادل وليس هناك أعدل من الاقتصاد الإسلامي.
الرئيس:
لعل أصحاب الفضيلة والإخوان الذين طلبوا الكلمة يسمحون لنا، لأن لدي الآن اثني عشر اسمًا، والوقت قد قارب، والجلسة المسائية قريبة إن شاء الله، فتأذنون باختتام الجلسة.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فعفا الله عن الشيخ ابن بيه إذ رجع بنا على الأعقاب في جعل العملات عروض تجارة، وهذا أمر قد فرغت منه المجامع العلمية في بيان علته الشرعية، ولو أخذ بهذا القول لجرمنا الاقتصاد الإسلامي بالكوارث الاقتصادية الموجودة اليوم.
وأما موضوع الدينار الإسلامي الذي ذكره الشيخ الخليلي فهذا قد صدر فيه قرار المجمع ونسأل الله – سبحانه وتعالى – التوفيق.
وأما مسألة الأسهم التي ذكرها الشيخ الضرير وأثارها وعلق عليها بعض الإخوة والشيخ علي السالوس، فهذه محلولة ولله الحمد بقرار من المجمع مطول ومفصل وفيه الخير والبركة ويلتقي مع ما ذكره الشيخ علي.
وأما قضية الاصطلاح فلا شك أن الاصطلاح الشرعي له حرمته وله قيمته وأن الاشتراك اللفظي والاشتراك المعنوي أمران موجودان في لغة العرب، وفي عدد من الاصطلاحات العرفية العامة أو الخاصة، ولكن حينما تأتي هذه الاصطلاحات الحادثة ويكون فيها لبس أو تلبيس على المعاملات التي أباحها الله تعالى، فإنه ينبغي لفقهاء المسلمين وعلماء الشريعة وطلبة العلم والمهتمين بالدعوة إلى الله أن يأتوا بالاصطلاح الذي يتلاقى مع حقيقة هذه المعاملة.
قد ترون مناسبًا أن تتألف لجنة الصياغة من أصحاب الفضيلة المشائخ والأساتذة: الشيخ الصديق، الشيخ علي السالوس، الدكتور القري، الأستاذ الجناحي، بالإضافة إلى الدكتور شوقي أحمد دنيا، والدكتور أحمد محيي الدين أحمد.
وبهذا ترفع الجلسة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
قرار رقم: 93 (5 / 11)
بشأن
الاتجار في العملات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فإن مجلس الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الحادي عشر بالمنامة في دولة البحرين، من 25 – 30 رجب 1419 هـ (14 – 19 نوفمبر 1998م) .
بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع (الاتجار في العملات)، واستماعه إلى المناقشات التي دارت حوله:
قرر ما يلي:
أولاً: التأكيد على قرارات المجمع رقم (21/9/3) بشأن النقود الورقية وتغير قيمة العملة، ورقم 63 (1/7) بشأن الأسواق المالية الفقرة ثالثًا: التعامل بالسلع والعملات والمؤشرات في الأسواق المنظمة رقم (2) التعامل بالعملات، ورقم 53 (4/6) بشأن القبض، الفقرة ثانيًا:(1- ج) .
ثانيًّا: لا يجوز شرعًا البيع الآجل للعملات، ولا تجوز المواعدة على الصرف فيها. وهذا بدلالة الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
ثالثًا: إن الربا والاتجار في العملات والصرف التي لا تلتزم بأحكام الشريعة الإسلامية، من أهم أسباب الأزمات والتقلبات الاقتصادية التي عصفت باقتصاديات بعض الدول.
التوصيات:
يوصي المجمع بما يلي:
- وجوب الرقابة الشرعية على الأسواق المالية، وإلزامها بما ينظم أعمالها وفق أحكام الشريعة الإسلامية في العملات وغيرها، لأن هذه الأحكام هي صمام الأمان من الكوارث الاقتصادية.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.