المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعداد الدكتوروهبة مصطفى الزحيلي - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ١١

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الحادي عشر

- ‌بيع الدين والأوراق الماليةوبدائلها الشرعيةإعدادالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌أحكام التصرف في الديوندراسة فقهية مقارنةإعداد الدكتورعلي محيي الدين القره داغي

- ‌بيع الدينأحكامه – تطبيقاته المعاصرةإعدادأ. د نزيه كمال حماد

- ‌بيع الدينإعداد الدكتورعبد اللطيف محمود آل محمود

- ‌بيع الدين وسندات القرضوبدائلها الشرعيةفي مجال القطاع العام والخاصإعداد الدكتورمحمد علي القري بن عيد

- ‌بيع الدين وسندات القرضوبدائلها الشرعية في مجال القطاع العام والخاصإعدادالدكتور سامي حسن حمود

- ‌المضاربات في العملةوالوسائل المشروعة لتجنب أضرارها الاقتصاديةإعداد الدكتورأحمد محيي الدين أحمد

- ‌المضاربات على العملةماهيتها وآثارها وسبل مواجهتهامع تعقيب من منظور إسلاميإعداد الدكتورشوقي أحمد دنيا

- ‌عقود الصيانةوتكييفها الشرعيإعدادالشيخ محمد المختار السلامي

- ‌عقود الصيانةوتكييفها الشرعيإعدادالدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌عقود الصيانة وتكييفها الشرعيعقد الصيانةإعدادآية الله محمد على التسخيري – مرتضى الترابي

- ‌عقود الصيانةإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌عقود الصيانة وتكييفها الشرعيإعدادالدكتور محمد أنس الزرقاء

- ‌ضوابط الفتوىفي ضوء الكتاب والسنةومنهج السلف الصالحإعداد الدكتورعبد الوهاب بن لطف الديليمي

- ‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعداد الدكتوروهبة مصطفى الزحيلي

- ‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعداد الدكتورعبد الله الشيخ المحفوظ بن بيه

- ‌العمل الفقهيعند الإباضيةإعدادناصر بن سليمان بن سعيد السابعي

- ‌الإسلامفي مواجهة الحداثة الشاملةإعدادالدكتور ناصر الدين الأسد

- ‌مجمع الفقه الإسلامي الدوليووحدة الأمة الإسلاميةإعدادمحمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌الوحدة الإسلاميةمنهجية المقارنة بين المذاهب الفقهيةإعدادالدكتور عبد الستار أبو غدة

- ‌الوحدة الإسلاميةمعالمها وأعلامهاإعدادالأستاذ محمد واعظ زادة الخراساني

- ‌الوحدة الإسلامية{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}إعدادالشيخ عدنان عبد الله القطان

- ‌الوحدة الإسلاميةأدب الحوار وأخلاقيات البحثإعدادالدكتور سعيد بن عبد الله بن محمد العبري

- ‌‌‌الإسلام في مواجهة العلمنةإعدادالدكتور عمر عبد الله كامل

- ‌الإسلام في مواجهة العلمنةإعدادالدكتور عمر عبد الله كامل

- ‌الإسلام في مواجهة العلمنةموقف الإسلام من مسألة الحكم والسيادةإعدادآية الله الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الديمقراطية والعلمانيةوحقوق الإنسانالمرجعية الغربية والمرجعية الإسلاميةإعدادالأستاذ إبراهيم بشير الغويل

الفصل: ‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعداد الدكتوروهبة مصطفى الزحيلي

‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "

والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرة

إعداد الدكتور

وهبة مصطفى الزحيلي

رئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه

بجامعة دمشق – كلية الشريعة

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم:

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه البررة، وبعد

فإن حركة التجديد في الفقه الإسلامي لم تتوقف ولله الحمد في أي عصر من العصور، منذ بداية عهد الصحابة بعد انتهاء فترة النبوة، وإلى يومنا الحاضر، وعن تفاوت حصادها كثرة وقلة، صعوداً وهبوطاً، ونماء وركوداً أحياناً، وظل العطاء الفقهي مستمراً في كل زمان، على الرغم مما تعرض له من صعوبات، وإعراض بعض السلطات الزمنية عن الأخذ به، أو شيوع اصطلاح إغلاق باب الاجتهاد، لحماية الثروة الفقهية الموروثة من العبث والضياع، وسد الباب أمام أدعياء الاجتهاد الذين لم تتوافر فيهم أهلية الاجتهاد الكافية، أو كانت لهم نوايا مشبوهة في محاولة الانقضاض على صرح الفقه وتقويضه من الداخل، فكان الإغلاق مؤقتاً من قبيل ما يسمى بالسياسة الشرعية، لأنه لا يعقل تعطيل الاجتهاد والمجتهدون وغيرهم يعلمون بأن الاجتهاد فرض من فروض الكفايات على أهل كل عصر، وواجب أن يقوم به فئة في كل زمن.

وكان من أبرز مزايا الفقه الإسلامي التي مكنته من الاستمرار والفاعلية: توافر مقومات الثبات لأصوله وأسسه، ووجود ظاهرة المرونة والسماحة واليسر فيه، ومواكبة المتغيرات والتطورات فيما لا يمس كيان الثوابت، ويتجاوب مع ظروف العصر.

وأثبت الفقهاء والمفتون قدرتهم البارعة في الجمع بين الثابت والمتغير فيما أصدروه من فتاوى جديدة عامة في الأقطار الإسلامية، أو مقصورة على بعض البيئات والأوضاع المحلية، ومراعاة المصالح المتجددة، والأعراف الزمنية، وظروف الوقائع والنوازل الطارئة أو المستجدة.

ونجم عن الحشد الهائل من هذه الفتاوى في مختلف المذاهب، ولا سيما مذهبا الحنفية والمالكية، وجود ثروة كبرى في ميدان الفقه، يمكن الاستفادة منها إما بذاتها، أو بمعرفة كيفية استنباطها أو إصدارها، في مجال التطبيقات المعاصرة لمسائل الفقه والاجتهاد، فنشأ علم الفتاوى أو النوازل.

وقد برع فقهاء المالكية في الأندلس لدى جماعة الفقهاء الذين كانوا الخلفاء يرجعون إليهم في كل شيء، وفي المغرب العربي، في إغناء ظاهرة الفتيا، وتعدد أنماطها بحسب الحواضر التي اشتهرت بفقهائها، ومراعاة الأعراض المحلية والعوائد الزمنية التي لها مسوغ شرعي، فوجد ما سماه المالكية (العمل) أو (العمليات) ؛ فكان (العمل الفاسي) و (عمل تونس) و (عمل القيروان) ، ويقصد به ما اختار الفقهاء تطبيقه من الأحكام في عصر معين أو بلد محدد، ولو لم يتفق مع الراجح في المذهب أو المقولات الفقهية السابقة أو المشهورة.

ص: 489

وظهر لدى غير المالكية ما يشبه (العمل) ضمن أسماء أخرى كالسياسة الشرعية أو الأحكام السلطانية أو الحسبة لدى الشافعية والحنابلة في العصر العباسي وتوابعه، ولدى الحنفية في ظل السلطة العثمانية في مجال الأحكام القضائية أو فتاوى شيوخ الإسلام، ومنها معروضات المفتي أبو السعود الحنفي العمادي، وفتاوى ابن عابدين، وضوابطه في رسائله ومصنفاته، وغيره من المفتين، مثل تنقيح الفتاوى الحامدية والفتاوى الخيرية، والمهدية، والفتاوى الهندية وومثلها عند الشافعية الفتاوى الكبرى لابن حجر الهيتمي، ومجموع الفتاوى الكبرى لابن تيمية، وإعلام الموقعين لابن قيم الجوزية، وكتب القواعد الفقهية كالأشباه والنظائر ابن نجيم الحنفي، أو للسيوطي، وقواعد الأحكام في مصالح الأنام لشيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام، والقواعد لابن رجب الحنبلي، وغير ذلك.

إن هذه الفتاوى في النوازل الطارئة تمنحنا الجرأة في تغطية أحكام المستجدات المتشابهة، وتفيدنا أيضاً فيما لا يشبهها، لأنها تعلمنا كيفية علاج المشكلات والتطبيقات المعاصرة.

خطة البحث:

غاية البحث: تحديد خصائص وضوابط الفتاوى (والنوازل) والعمل الفقهي، وبيان سبل الاستفادة منها، بحيث يسهم ذلك في تجديد حيوية الفقه، للاستفادة منه في التطبيقات المعاصرة، وتكون خطة البحث كما يأتي:

- تحديد المراد بالنوازل والواقعات أو العمليات.

- الفرق بين الإفتاء والقضاء.

- الفرق بين الاجتهاد والإفتاء.

- آراء العلماء في ضرورة مراعاة البيئة والأعراف والمصالح ونحوها.

- الثوابت والمتغيرات في الشريعة.

- ما يلزم المفتي مراعاته أو شروط الإفتاء.

- ضوابط الفتوى بالنوازل (الضوابط العشرة) وأمثلتها.

ويلاحظ أن أغنى أو أخصب كتاب في النوازل عند فقهاء المالكية هو:

كتاب (المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل أفريقية والأندلس والمغرب) لأبي العباس أحمد بن يحيى الونشريسي، ثلاثة عشر مجلداً، طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية، فهو يمتاز بكثرة ما احتوى عليه من نوازل وأحداث عاشها الناس في هذا الجناح الغربي من العالم الإسلامي، مصطبغة بالصبغة المحلية، ومتأثرة بالأعراف السائدة، والمؤثرات الوقتية، وكان ذلك مدعاة إلى اجتهاد الفقهاء لاستنباط الأحكام الشرعية الملائمة، عن طريق استقراء النصوص الفقهية القديمة ومقارنتها وتأويلها، كما جاء في مقدمة محقق الكتاب.

ص: 490

- المراد بالنوازل الواقعات أو العمليات:

الفارق المتميز بين مدرسة أهل الرأي بالكوفة أو العراق بزعامة الإمام أبي حنيفة النعمان رحمه الله، وبين مدرسة أهل الحديث في المدينة أو الحجاز بزعامة الإمام مالك: هو أن فقه المدرسة الأولى يعني ببحث الاحتمالات أو الافتراضات النظرية التي شعبت الفقه وضخمته وعقدته، وأعيت المقلدين والأتباع بحفظ أجوبة المسائل والحوادث التي تتجاوز عشرات الآلاف، وأما فقه أهل الحديث فيقتصر على بحث الحالات الواقعية والمسائل المستجدة.

والنوازل أو الواقعات أو العمليات: هي المسائل أو المستجدات الطارئة على المجتمع، بسبب توسع الأعمال، وتعقد المعاملات، والتي لا يوجد نص تشريعي مباشر أواجتهاد فقهي سابق ينطبق عليها. صورها متعددة، ومختلفة بين البلدان أو الأقاليم، لاختلاف العادات والأعراف المحلية.

فقد تنشأ مسألة أو نازلة تندثر، وقد تثار قضية في بلد أو إقليم لا تحدث في بلاد أو أقاليم أخرى، وقد تكون المسألة عامة، كالأعراف العامة غير المقصورة على بلد، وإنما تعم البلاد الإسلامية كلها أو أكثرها.

قال الخليفة الراشدي عمر بن عبد العزيز: "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور ".

الفرق بين الإفتاء والقضاء:

القضاء: إصدار الحكم في الخصومة أو المنازعة من القاضي أو الحاكم لفصل النزاع، ويكون ملزماً للمتخاصمين، وينفذ الحكم القضائي بقوة الحكومة (السلطة التنفيذية) لإحقاق الحق وإبطال الباطل، وتحقيق الاستقرار، ومنع استمرار النزاع أو الخصام.

أما الإفتاء: فهو إخبار المفتي بحكم الله تعالى بما يجده في الأدلة من حكم الله تبارك وتعالى إما صراحة من النصوص الشرعية، وإما استنباطاً من قبل المجتهد.

والقضاء يحكم دائماً على ظواهر الأشياء، فيقال: هذا شيء يجوز قضاء لا ديانة، والمفتي يعنى بأمور الديانة، والحاكم يعتمد على طرق الإثبات، قال القرافي: الحاكم يتبع الحجاج، وهي جمع حجة، والحجة: الدليل والبرهان، والحجاج: البينة والإقرار ونحوهما من القرائن، والقضاء بشاهد ويمين المدعي، والنكول:(الامتناع عن اليمين) ، وعدد القرافي الحجاج في كتابه (الفروق)(1) فبلغت نحو العشر.

(1) الفروق: 1 / 129.

ص: 491

والمفتي يتبع الأدلة، ولا يعتمد على الحجاج، والأدلة: الكتاب والسنة ونحوهما من الإجماع والقياس والاستحسان والاستطلاع وغيرها من الأدلة والمختلف فيها (1) ، وعدد القرافي الأدلة في كتابه (الفروق)(2) فبلغت نحو العشرين دليلاً. وأوصلها الشيخ جمال الدين القاسمي إلى نيف وأربعين دليلاً.

والأدلة يجب فيها اتباع الراجح وترك المرجوح. وليس للمفتي أن ينشئ حكماً بالهوى واتباع الشهوات، بل لابد من أن يكون ذلك القول الذي حكم به، قال به إمام معتبر، لدليل معتبر (3) .

وإذا كان المفتي مجتهداً، وجب عليه اتباع الأدلة بعد استقرائها، ويخبر الناس بما ظهر له منها من غير زيادة ولا نقص. وأما إن كان مقلداً لمجتهد، كما في زماننا، فهو نائب عن المجتهد في نقل ما لخص إمامه لمن يستفتيه، فهو بمثابة وكيل أو مترجم عن المجتهد (4) ، وحكم الحاكم ليس خبراً يحتمل التصديق والتكذيب، بل إنشاء لا يحتملهما، فإنه إلزام أو إذن، ومن أنشأ إلزاماً على غيره أو على نفسه، أو إذن لغيره في فعل، لا يقال له، صدقت ولا كذبت (5) .

- الفرق بين الاجتهاد والإفتاء:

الأصل في المفتي: أن يكون هو المجتهد أو الفقيه (6) ،ثم صار لفظ المفتي في عصرنا يطلق على متفقهة المذاهب، الذين يقتصر جهدهم على تطبيق نصوص الفقه المذهبي على الوقائع، وذلك الإطلاق من قبيل المجاز أو الحقيقية العرفية بحسب اصطلاح الحكومات المعاصرة. والفارق بين الاجتهاد والإفتاء: هو أن الإفتاء أخص من الاجتهاد، فإن الاجتهاد هو استنباط الأحكام، سواء أكان هناك سؤال في موضوعها أم لم يكن.

(1) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام للقرافي، ط حلب، ص 30 وما بعدها.

(2)

الفروق: 1 / 128.

(3)

الإحكام للقرافي، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام للقرافي، ط حلب، ص 30 وما بعدها.

(4)

لإحكام للقرافي، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام للقرافي، ط حلب، ص 29، 84.

(5)

لإحكام للقرافي، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام للقرافي، ط حلب، ص 48.

(6)

الإحكام للآمدي: 3 / 167؛ إرشاد الفحول للشوكاني، ص 234.

ص: 492

أما الإفتاء فإنه لا يكون إلا إذا كانت واقعة وقعت، ويتعرف الفقيه حكمها.

والفتوى الصحيحة تتطلب عدا توافر شروط الاجتهاد في المجتهد شروطاً أخرى، وهي معرفة واقعة الاستفتاء، ودراسة نفسية المستفتي، والجماعة التي يعيش فيها، وظروف البيئة أو البلد التي حدثت فيها النازلة أو الواقعة أو العمل، ليعرف مدى أثر الفتوى سلباً وإيجاباً (1) .

ولا بد من أن يتصف بصفات أو ضوابط لها صلة بالممارسة العملية وقبول الناس لفتواه: وهي العقل والبلوغ والحرية بالاتفاق، والحياة، والأعلمية، والعدالة، على اختلاف فيها.

والعدالة شرعاً: يراد بها أهلية قبول الشهادة والرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعرفها الغزالي بقوله:"العدالة: عبارة عن استقامة السيرة والدين، وحاصلها يرجع إلى هيئة راسخة في النفس، تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعاً، حتى تحصل ثقة النفوس بصدقه، وذلك إنما يتحقق باجتناب الكبائر، وبعض الصغائر، وبعض المباحات "(2)

فلا يستفتى مجهول العدالة حتى تعلم عدالته بقول عدل أو عدلين أو بالاستفاضة والشهرة، لأن العدل يكون غالباً موفقاً إلى اختيار الصواب، وليطمئن الناس إلى كلامه، بخلاف الفاسق فإنه مذموم، ويحيط الشك كثيراً بأقواله.

وقال ابن فرحون في تبصرة الحكام (3) : إن المكلفين قسمان: مجتهد وغير مجتهد، وغير المجتهد: أوجب الشرع عليه الرجوع إلى قول المجتهدين العدول، فنزل الشرع ظن المجتهد في حقه كظنه، لو كان مجتهداً لضرورة العمل، وهذا أمر مجمع عليه.

آراء العلماء في ضرورة مراعاة البيئة والأعراف والمصالح ونحوها:

اتفقت كلمة العلماء على ضرورة مراعاة أحوال الواقعة النازلة، من عرف البلد والزمان، وما يحقق مصالح الناس في معاملاتهم وتصرفاتهم، وذلك ينسجم مع مهمة المفتي وسلامة الفتوى، فإن لم يراعِ المفتي ظروف الواقعة أو المسألة المستجدة، أعرض الناس عن فتواه، ووقعوا في الحرام أو المنكر عمداً أو خطأ.

(1) أصول الفقه للأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة، ص 387.

(2)

المستصفى: 1 / 100.

(3)

تبصرة الحكام: 1 / 59.

ص: 493

وهذه طائفة من أقوال أئمة الفقه والعلم:

قال الإمام القرافي رحمه الله في الفرق الثامن والعشرين بين قاعدة العرف القولي يقضي به على الألفاظ ويخصصها، وبين قاعدة العرف الفعلي، لا يقضى به على الألفاظ ولا يخصصها (1) .

"على هذا القانون (وهو اتباع الأعراف المحلية) تراعى الفتاوى على طول الأيام، فمهما تجدد في العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك، لا تجره على عرف بلدك، وسأله عن عرف بلده وأجره عليه، وأفتهِ به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح. والجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين، وجهل مقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين.

وعلى هذه القاعدة تتخرج أيمان الطلاق والعتاق، وصيغ الصرائح والكنايات، فقد يصير الصريح كناية يفتقر إلى النية، وقد تصير الكناية صريحاً، مستغنية عن النية " (2) .

وقال ابن القيم رحمه الله في فصل تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد:

"هذا فصل عظيم النفع جداً، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف مالا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد.

وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل.

فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه، فقد استقام على سواء السبيل

إلخ " (3) .

وقال العلامة الشام ابن عابدين رحمه الله في رسالته: " (نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف) :

"فهذا كله وأمثاله دلائل واضحة على أن المفتي ليس له الجمود على المنقول في كتب ظاهرة الرواية، من غير مراعاة الزمان وأهله، وإلا يضيع حقوقاً كثيرة، ويكون ضرره أكثر من نفعه "(4)

"وبما قررناه اتضح لك معنى ما قاله في القنية وأشرنا له في البيت السابق (5) ، من أنه ليس للمفتي ولا للقاضي أن يحكما بظاهر الرواية، ويتركا العرف، والله أعلم "(6) .

"ولهذا قالوا في شروط الاجتهاد: إنه لابد فيه من معرفة عادات الناس، فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان، لتغير عرف أهله، أو لحدوث ضرورة، أو فساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولاً، للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد، لبقاء العالم على أتم نظام، وأحسن أحكام، ولهذا ترى مشايخ المذهب خالفوا ما نص عليه المجتهد في مواضع كثيرة، بناها على ما كان في زمنه، لعلمهم بأنه لو كان في زمنهم، لقال بما قالوا به، أخذاً من قواعد مذهبه "(7) .

(1) الفرق بينهما كما ذكر صاحب تهذيب الفروق: 1 / 189: أنه في العرف القولي يصير الأصل مهجوراً، وكان العرف ناسخاً للغة، والناسخ يقدم على المنسوخ، أما في العرف الفعلي فيظل اللفظ اللغوي مستعملاً في مسماه اللغوي، فلا يكون العرف الفعلي ناسخًا للغة حتى يقدم، من حيث كونه ناسخاً، على المنسوخ.

(2)

الفروق: 1 / 171 – 177؛ وانظر تهذيب الفروق بهامشه: 1 / 187 وما بعدها.

(3)

إعلام الموقعين: 3 / 14 – 15، ط محيي الدين عبد الحميد.

(4)

رسائل ابن عابدين: 2 / 131.

(5)

وهو قولهم: والعرف في الشرع له اعتبار لذا عليه الحكم قد يدار.

(6)

رسائل ابن عابدين: 2 / 133.

(7)

رسائل ابن عابدين: ص 125.

ص: 494

وقال العزّ بن عبد السلام: "أمر الله عباده بتحصيل مصالح إجابته وطاعاته، ودرء مفاسد معصيته ومخالفته، إحساناً إليهم وإنعامًا عليهم "(1) .

هذه الأقوال وأمثالها تقرر أصالة الذي نريد إثباته، وهو ضرورة مراعاة ظروف الواقعة، وأعراف الناس، وتطورات الزمان، وترك الجمود على العبارات الفقهية المنقولة التي راعت ظروفاً معينة في عصر أصحابها، مما يدل على تجديد حيوية الفقه الإسلامي ومرونته وإمكان تغطيته أحوال الناس، وتحقيق تطبيقات العصر، ومواكبة التقدم والتطور، ومراعاة المصالح المتجددة، والأعراف السائدة في كل زمان ومكان، سواء أكان العرف عاماً أم خاصاً.

الثوابت والمتغيرات في الفقه أو الشريعة:

الأحكام الشرعية قسمان كبيران: ثوابت ومتغيرات.

أما الثوابت أو الأحكام الأساسية: فهي المنصوص عليها صراحة في النصوص الشرعية من القرآن والسنة النبوية، القطعية (اليقينية التي لا تحتمل أي معنى آخر سوى المعنى المتبادر منها) أو الظنية التي تقرر مبدأ عاماً أو حكماً غير معلل بعلة المصلحة، أو إقرار عرف معين أو مؤقت لفترة زمنية محددة.

والمراد بالحكم الظني: هو الحكم الذي يتبادر إلى الذهن، ويحتمل معنى آخر احتمالاً ضعيفاً أو نادراً يجعل دلالة الحكم ظنية (أغلبية) غير قطعية.

وهذه الثوابت لا تتبدل ولا تتغير، لأنها ذات صفة دائمة، أو ذات حاكمية مطلقة على الأحداث والوقائع، لكون المصلحة فيها ثابتة وغير قابلة للتبدل، وليس للأعراف المتغيرة تأثير عليها، مثل فرضية العبادات من صلاة، وصيام وحج وزكاة، وتقرير أصول الإيمان بالله وملائكته وكتبه واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وأصول الإسلام أو أركانه الخمسة: وهي شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً، وحرمة المحارم في آية: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ

} [النساء: 23]، والتراضي في العقود في آية:{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، ومبدأ إلزامية العقود والوفاء بها في آية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، وضمان الضرر الواقع بالآخرين في حديث:((لا ضرر ولا ضرار)) (2) ، وتحريم أكل أموال الناس بالباطل، وحماية الحقوق الخاصة أو العامة في آية:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] ، وتحريم القتل والسرقة والزنا وتطفيف الكيل والميزان في آيات سورة الإسراء [31 – 35] وغيرها، وجعل الإقرار حجة قاصرة على المقر، والمسؤولية الفردية أو الشخصية في آية:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] ، وكون الأصل براءة الذمة من التكاليف، وبراءة المتهم حتى تثبت إدانته، وجعل الأصل في الأشياء والأفعال والأقوال الإباحة في آية:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، وسد ذرائع الشر والفساد في آية:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] ، ونحو ذلك مما جاءت الشريعة الإلهية لإقراره، وإصلاح شؤون الفرد والجماعة.

أما النصوص القابلة للتغير فهي ثلاثة:

1-

النص المعلل بعلة ثم تتغير العلة: كامتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن التسعير بقوله: ((إن الله هو القابض الباسط الرزاق المسعِّر)) (3) ، لأن مسوغ التسعير لم يوجد، وهو مغالات التجار بالأسعار، ثم تغير العرف، فأفتى فقهاء المدينة السبعة والإمام مالك، ومتأخروا الزيدية فيما عدا قوت الآدمي والبهيمة، بجواز التسعير، لأن غلاء الأسعار في عهد التابعين وأئمة المذاهب صار بسبب من التجار أنفسهم، لطمعهم وجشعهم، أما في عهد النبوة فكان الغلاء بسبب قلة العرض للسلعة، وزيادة الطلب، وتبدل الأمر بعدئذٍ، فجاز التسعير بالعرف الجديد.

2-

النص العرفي المراعى فيه حال المبادلة القائم، بالكيل في الأموال الربوية:((المكيال مكيال أهل المدينة، والوزن وزن أهل مكة)) (4) ، ثم تغير، فأصبح أسلوب التبادل بالوزن، لذا أفتى الإمام أبو يوسف رحمه الله بأن مقياس تبادل الأموال الربوية لتحقيق المساواة وعدمها: هو المقياس العرفي، وأنه يتبدل بتبدل العرف، أي ما آل إليه الأمر، وهو الصواب، وهو أيضاً رأي المالكية.

3-

الأحكام التي روعي فيها تنظيم بيت المال، مثل عدم إعطاء الزكاة لبني هاشم وبني المطلب، وأن الزكاة لا تحل لهم كما لا تحل للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كان سائغاً في العهد النبوي، حيث كان لهم سهم من الفئ والغنائم، فلما فسد نظام بيت المال، وحجب عنهم هذا السهم، أفتى فقهاء الحنفية والمالكية بعطائهم من الزكاة، حفاظاً عليهم، وإبقاء على كرامتهم.

(1) قواعد الأحكام، ص 2.

(2)

رواه ابن ماجة والدارقطني مسنداً (متصلاً) ، ورواه مالك، مرسلاً (غير متصل) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(3)

رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) إلا النسائي؛ وصحح الترمذي من حديث أنس ابن مالك رضي الله عنه.

(4)

رواه أبو داود، والنسائي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

ص: 495

وقد تتبدل وسائل حماية الحقوق، كالأخذ في نظام المحاكم الحالية بأسلوب القضاء الجماعي، وتعدد درجات المحاكم، ما دام الهدف أو المبدأ الشرعي واحداً: وهو إحقاق الحق، ومحاربة الباطل، ورعاية المصالح، ودرء المفاسد.

وأما المتغيرات أو القابلة للتغير، فهي الأحكام الاجتهادية المبنية على قاعدة أو مصدر القياس أو رعاية المصلحة، وهذه الأحكام وحدها هي التي يمكن تبدلها، وهي المقصودة بالقاعدة الشرعية المعروفة، "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان "(1) .

قال ابن عابدين: "نظراً لتغير الأعراف بتغير الأزمان، فإن الأحكام المبنية على العرف تتغير أيضاً "(2) .

وعوامل التغير إما فساد (فساد الأخلاق أو القياس أو المصلحة) ، أو تطور (تطور أساليب الحياة)(3)، ويتضح ذلك بالأمثلة التالية:

أمثلة فساد الأحوال:

1-

أفتى المتأخرون من العلماء بجواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن الكريم، وعلى وظائف الإمامة والخطابة والأذان وسائر الطاعات من صلاة وصيام وحج، وهو حكم خولف فيه ما كان مقرراً سابقاً بين العلماء، ومنهم أئمة الحنفية وغيرهم، نظراً لتغير الزمان، وانقطاع عطاءات المعلمين والقائمين بالشعائر الدينية من بيت المال، فلو اشتغل هؤلاء بالاكتساب من زراعة أو تجارة أو صناعة، لزم ضياع القرآن، وإهمال تلك الشعائر (4) .

2-

تضمين الأجير المشترك كالخياط والصباغ والكواء، فإن الأصل هو أنه أمين، لا يضمن إلا بالتعدي أو التقصير، ثم قرر بعض الصحابة، مثل عمرو وعلي، ومن تبعهم من الفقهاء ضمانه، نظراً لكثرة الادعاء بهلاك ما في يده، ومحافظة على أموال الناس. وقد قضى الونشريسي بتضمين الراعي المشترك (5) .

3-

عدم الاكتفاء بظاهر العدالة في الشهادة: فإن أبا يوسف ومحمد رحمهما الله قررا أنه لابد من تزكية الشهود (أي إظهار عدالة الشاهد وصلاحيته للشهادة بوساطة ثقة) ، للمحافظة على حقوق الناس وعدم ضياعها، علماً بأن ذلك مخالف لما قرره أبو حنيفة من أنه يكتفي بظاهر العدالة فيما عدا الحدود والقصاص، ولم يشترط التزكية، بناء على ما كان في زمنه من غلبة العدالة، لأنه كان في الزمن الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية، وهو القرن الأول والثاني والثالث، فنظراً لتغير الزمان، وفشو الكذب، أفتى الصحابان بما يخالف رأي الإمام رحمه الله، نزولاً تحت وطأة العرف.

قال الونشريسي: لا يستفسر القاضي من الشهود العدول عن شهادتهم إلا في الزنا والحدود، لما ورد أن الحدود تدرأ بالشبهات (6) .

4-

تحقق الإكراه من غير السلطان: كان أبو حنيفة يفتي بأنه لا يتحقق الإكراه إلا من السلطان، لا من غيره، نظراً لما شاهده في عصره، من أن المنعة والقدرة لم تكن لغير السلطان. ونظراً لفساد الزمان وتغير الحال وظهور الظلمة، فإن الصاحبين أفتيا بتحقق الإكراه من غير السلطان، بناء على ما شهداه في زمانهما (7) .

5-

منع النساء الشابات من حضور المساجد لصلاة الجماعة، بخلاف ما كان عليه الحال في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، نظراً لفساد الأخلاق، وغلبة السوء.

6-

أفتى فقهاء الحنفية بمنع الزوج من السفر بزوجته، وإن أوفاها المهر المعجل، لفساد الزمان وسوء المعاملة، وأفتوا أيضاً بعدم تصديق المرأة بعد الدخول بها، بأنها لم تقبض المشروط تعجيله من المهر، مع أنها منكرة للقبض، علماً بأن القاعدة تقرر: أن القول قول المنكر بيمينه، وقد تركت هذه القاعدة هنا، لأن المرأة في العادة لا تسلم نفسها قبل قبض المعجل (8) .

(1) المجلة، م 39.

(2)

رسائل ابن عابدين: 2 / 125.

(3)

المدخل الفقهي العام للأستاذ الشيخ مصطفى الزرقاء: ف 541 – 555، ص 916 وما بعدها.

(4)

تنقيح الفتاوى الحامدية: 2 / 137.

(5)

المعيار المعرب: 8 / 343.

(6)

المعيار المعرب: 9 / 416.

(7)

الفتاوى الهندية: 5 / 37.

(8)

رسائل ابن عابدين: 2 / 126.

ص: 496

7-

أخذ زكاة الأراضي: وهو العشر من المستأجر دون المؤجر، أفتى به الصحابان خلافاً لرأي الإمام أبي حنيفة، لأنه أحسن للزمان وأكثر فائدة، وأعظم جدوى بالنسبة للفقراء، ولأن الزكاة تؤخذ من الزرع، فتتبع مالك الزرع، وهو هنا المستأجر، علماً بأن أبا حنيفة كان يرى العشر على المؤجر، لأن الزكاة مؤنة الملك، وملك الأرض للمؤجر.

هذه الأمثلة ونحوها كبيع الوفاء (1) ، ودخول الحمام من غير بيان مدة المكث ومقدار الماء المستهلك، والإعفاء عن طين الشارع للضرورة، اختلفت أحكامها لاختلاف عادات أهل الزمان وأحوالهم.

8 – عارض المدونية: الأصل المقرر عند الحنفية وغيرهم أن تبرعات المدين نافذة، ولو استغرقت ديونه أموله كلها، وهذا مقتضى القياس، ثم لما فسدت الذمم، ولجأ المدينون لتهريب أموالهم من وجه الدائنين من طريق وقفها أو هبتها لأقاربهم، أفتى متأخرو الحنفية والحنابلة بعدم نفاذ هذه التبرعات إلا فيما يزيد عن وفاء ديونهم.

9-

الأصل المقرر عند الحنفية عدم ضمان منافع الغصب، سواء استوفاها الغاصب أو عطلها، مثل ركوب الدابة، وسكنى الدار، وزراعة الأرض، ثم استثنى متأخرو الحنفية ثلاثة مواضع يجب فيها أجر المثل، وهي أن يكون المغصوب مال وقف، أو مال يتيم، أو شيئاً معداً للاستغلال، بأن بناه صاحبه أو اشتراه لذلك الغرض (2) .

10-

الأصل في المذهب الحنفي والشافعي أن القاضي يقضي بعلمه الشخصي في الوقائع، في الأظهر عند الشافعية، إلا في الحدود والقصاص، ثم أفتى المتأخرون – وأشار الشافعي لذلك – بأن القاضي لا يقضي بعلمه الشخصي مطلقاً للتهمة (3) .

وجاء في المعيار المعرب: قال العبدوسي: لا يحكم القاضي بعلمه في التسفيه بإجماع، وإنما يحكم بعلمه بعد ثبوته ببينة عدلة، هذا والحكم المقرر عند المالكية والحنابلة: أنه لا يقضي الحاكم بعلم نفسه في حد ولا غيره، إلا فيما علمه في مجلس القضاء (4) ، وهذا هو المقرر في القوانين الوضعية؛ حيث يقضي القاضي بعلمه في جرائم الجلسات.

أمثلة التطورات:

1-

تدون السنة النبوية: دونت السنة النبوية، في مطلع القرن الثاني الهجري، بأمر الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، خوفاً من ضياعها بموت رواتها وحفظتها، لأن أسلوب الكتاب أثبت وأدوم من حفظ الذاكرة علماً بأن النبي صلى الله عليه وسلم في بدء أمره ودعوته نهى عن كتابة أحاديثه، حتى لا تختلط بالقرآن، وقال لأصحابه:((لا تكتبوا عني شيئاً، ومن كتب غير القرآن فليمحه)) (5) .

2-

ظاهرة السجلات العقارية أو العينية: كان من المقرر فقهاً ضرورة وصف المبيع بحدوده الأربع، ووجود التسليم، أي التخلية، فلما ظهر نظام السجل العقاري، أصبح بيان الحدود الأربعة عبثاً، واستقر الاجتهاد القضائي على حصول التسليم بمجرد تسجيل العقد في السجل العقاري، وبالتسجيل تنتقل تبعه ضمان هلاك المبيع، من عهدة البائع إلى عهدة المشتري، أخذاً بتطور أساليب التنظيم والضبط المحققة للمراد، بدلاً من التسليم الفعلي للعقار الذي كان لابد منه، بل إن الدولة لا تعترف بانتقال ملكية العقارات إلا بهذا التسجيل، وليس بمجرد التعاقد.

(1) بيع الوفاء: هو أن يبيع المحتاج إلى النقد عقاراً، على أنه متى وفى الثمن، استرد العقار.

(2)

تنقيح الفتاوى الحامدية: 2 / 168، 173؛ الدر المختار ورد المحتار: 5 / 144 – 145.

(3)

الدر المختار ورد المحتار: 4 / 369؛ مغني المحتاج: 4 / 398.

(4)

المعيار المعرب: 9 / 257؛ بداية المجتهد: 2 /458 وما بعدها؛ المغني: 9 / 53 وما بعدها.

(5)

رواه مسلم في صحيحه.

ص: 497

ويلاحظ أن مسألة تغير الأحكام بتغير الأزمان، لست أخذاً بالعرف، وإنما هي تطبيق بمبدأ المصالح المرسلة، لأن فساد الأحوال ليس من قبيل الأعراف المتعارفة، وإنما هو انحراف في الأخلاق، أو تبدل وسائل التنظيم، مما يجعل ظروف الاجتهاد الجديدة ومراعاة المصالح هي الدافعة لتغير الأحكام، وليست مجرد نشوء أعراف جديدة (1) .

- ما يلزم المفتي مراعاته أو شروط الإفتاء:

تتطلب عدالة المفتي أموراً ثلاثة إذا اختار أحد آراء المذاهب: (2) .

أ- أن يتبع القول لدليله: أن يعمل بالراجح دليلاً من الآراء إذا تعارضت الأدلة، ولا يختار من المذاهب أضعفها دليلاً، بل يختار أقواها دليلاً، لأن الفتيا شرع عام على المكلفين إلى قيام الساعة، واتباع الشرع إنما يكون بالدليل وليس اتباعاً للهوى، والأدلة يجب فيها اتباع الراجح، أما الحكم أو الفتيا بما هو مرجوح فخلاف الإجماع.

ب- أن يجتهد ما أمكن الاجتهاد في أن لا يترك الأمر المجمع عليه إلى المختلف فيه، لأن اتباع الإجماع واجب أولاً.

ج- أن لا يتبع أهواء الناس، بل يتبع المصلحة والدليل، والمصلحة المعتبرة: هي مصلحة الكافة. وهذه الضوابط عامة في العبادات والمعاملات وأحكام الأسرة والعلاقات الدولية ونحوها.

ضوابط الفتوى بالنوازل والعمل الفقهي:

إذا كانت النازلة أو المسألة المستجدة مشابهة لما سبقها، فيقضى أو يفتى بها، ما دامت منسجمة مع مقاصد الشريعة وأصولها، ومحققة للمصلحة الزمنية والأعراف الصحيحة التي لا تصادم نصوص الشريعة. وأما إذا اختلفت المصلحة، أو تبدل العرف، فيمكن الاستفادة من صنيع المفتين السابقين، ومعرفة كيفية الإفتاء، والتعلم من طرائق الاستدلال التي سلكوها، وتنزيلها على المقاصد التشريعية والأصول الاستدلالية، ويمكن حصر هذه الأصول أو الضوابط بعشرة، وهي كفيلة بتجديد حيوية الفقه، ومعرفة كيفية الاستفادة من فتاوى النوازل في التطبيقات العصرية، وهذه الضوابط هي في تقديري إجمالاً عشرة، وهي ما يلي:

الضابط الأول – مراعاة الضرورة أو الحاجة:

الضرورة أشد باعثاً أو دافعاً لتجاوز القواعد القياسية العامة من الحاجة؛ فالضرورة: ما يترتب على عدم مراعاتها خطر أو ضرر شديد محقق كالموت جوعاً. وأما الحاجة: فهي ما يترتب على تركها مشقة وحرج أو عسر وصعوبة، وقد عرف الزركشي والسيوطي الضرورة فقالا: هي بلوغه حدا إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب، كالمضطر للأكل واللبس، بحيث لو بقي جائعاً أو عريانا لمات أو تلف منه عضو (3) .

وللمالكية والحنابلة تعريف مقارب أو مشابه (4) .

وتطبيقات الضرورة أو الحاجة من النوازل والفتاوى كثيرة، منها ما يأتي، وقاعدتها المقررة هي: الضرورات تبيح المحظورات (5) .

فمن أمثلة الضرورة:

- كشف العورات أمام الطبيب، للمداواة.

- تناول بعض المآكل أو المشارب المحظورة لإنقاذ النفس من الهلاك أو الموت جوعاً، فيباح تناول شيء من الميتة أو الخنزير أو الخمر، أو أخذ مال شخص آخر غير مضطر مثله، لدفع خطر الهلاك، إما محققاً، أو بظن غالب، أو الوقوع في وهن لا يحتمل.

- اقتحام المنزل لإطفاء حريق أو تفادي هدم جدار وسقوطه، لكن هناك أمور ثلاثة لا تحل ولو في حال الضرورة. وإن ارتفع الإثم أو العقاب عن فاعلها، وهي الكفر والقتل والزنا.

- الأصل فيمن يتولى القضاء أن يكون مجتهداً عدلاً، لكن ذكر الغزالي في وسيطه، وحكاه عنه الرافعي في الشرح، وجزم به في المحرر، أن من ولاه ذو شوكة، نفذ حكمه، وإن كان جاهلاً أو فاسقاً للضرورة، قال ابن حجر: وهذا هو اللائق بهذا الزمان.

وكذلك المتغلب على إقليم، لو نصب فاسقاً أو جاهلاً، تنفذ أحكامه للضرورة (6) .

(1) المدخل الفقهي للأستاذ الزرقاء، ف 553.

(2)

الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي، ص 30 / 79، 80؛ أصول الفقه للأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة، ص 390.

(3)

قواعد الزركشي، مخطوط: ق 137 ب، وقد طبع أخيراً في الكويت.

(4)

المغني: 8 / 595؛ الشرح الكبير للدردير: 2 / 115.

(5)

المجلة: م 21.

(6)

فتاوى ابن حجر: 4 / 297 – 298.

ص: 498

- يرى الإمام أبو حنيفة رحمه الله أن حكم القاضي ينفذ ظاهراً وباطناً للضرورة في العقود والفسوخ، وخالفه الصاحبان وبقية الفقهاء، قالوا: لا ينفذ حكم القاضي في الأموال وغيرها، فلا يحل الحرام، ولا يحرم الحلال (1) .

- بيع التلجئة: هو العقد الذي ينشئه البائع لضرورة أمر، فيصير كالمدفوع إليه، وصوره ثلاثة عند الحنفية:

1-

إذا كان في نفس المبيع فهو باطل.

2-

وإذا كان في البدل: نحو أن يتفقا في السر أن الثمن ألف، ويتبايعان في الظاهر بألفين، فالثمن هو المذكور في السر.

3-

وإذا اتفقا في الباطن أن الثمن ألف، ويتبايعان في الظاهر بمائة دينار، قال محمد بن الحسن: القياس أن يبطل العقد، وفي الاستحسان: يصح بمائة دينار، والفرق بين هذه الصورة وما قبلها: أن الثمن في الظاهر في هذه الصورة أقل، وعن أبي حنيفة: بيع التلجئة موقوف، إن أجازه جاز وإن رده بطل (2) .

- علاج التضخم في القرض: لو استقرض الفلوس فكسدت، قال أبو حنيفة: عليه مثلها كاسدة، ولا يغرم قيمتها، وقال أبو يوسف: عليه قيمتها يوم القبض. وقال محمد: عليه قيمتها في آخر يوم كانت رائجة، وعليه الفتوى. قال في الفتاوى الهندية (3) :(وبعض مشايخ زماننا أفتوا بقول أبي يوسف، وقوله أقرب إلى الصواب في زماننا) .

- وهناك ما يسمى عند الحنفية باستحسان الضرورة، واستحسان العرف، والمصلحة المرسلة لضرورة.

أما الاستحسان بالضرورة: فهو أن توجد ضرورة تحمل المجتهد على ترك القياس والأخذ بمقتضى الضرورة، مثل تطهير الآبار والأحواض التي تقع فيها نجاسة، فمقتضى القياس: أنه لا يمكن تطهيرها بنزح الماء كله أو بعضه، لأن نزح بعض الماء الموجود في البئر أو الحوض لا يؤثر في طهارة الباقي فيها، ونزح كل الماء لا يفيد في طهارة ما ينبع من ماء جديد، لملاقاته لمحل النجاسة في قاع البئر وجدرانه، والدلو تنجس أيضاً بملاقاة الماء، فلا تزال تعود وهي نجسة، إلا أنهم استحسنوا ترك العمل بموجب القياس، فحكموا بالطهارة بنزح مقدار من الماء للضرورة المحوجة إليها.

قال الحنفية: إن وقعت في البئر فأرة أو عصفورة ونحوها فماتت: نزح منها ما بين عشرين دلواً إلى ثلاثين، بحسب كبر الدلو وصغرها، بعد إخراج الفأرة، فإن ماتت فيها حمامة أو نحوها كالدجاجة والسنور والهر، نزح منها ما بين أربعين دلو إلى ستين. وإن ماتت فيها شاة أو كلب أو آدمي، نزح جميع ما فيها، فإن انتفخ الحيوان فيها أو تفسخ، نزح جميع ما فيها، صغر الحيوان أو كبر، لانتشار البلّة في أجزاء الماء. (4)

وأما استحسان العرف: فهو كعقد الاستصناع: وهو شراء ما سيصنع وفقاً للطلب، وهو جائز في كل ما جرى التعامل فيه (5) ، وما يقترضه الجيران من بعضهم بعضاً من الحوائج من الدقيق والخبز ونحوهما، قال الحنفية: إذا استقرض الدقيق وزناً لا يرده وزناً، ولكن يصطلحان على القيمة، وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى: يجوز استقراضه وزناً استحساناً، إذا تعارف الناس ذلك، وعليه الفتوى. (6)

وأما المصلحة لضرورة: فمتفق على الأخذ بها، قال الغزالي: المناسب المرسل يعتبر إن كانت المصلحة ضرورية قطعية كلية، وإلا فلا، فالضرورية: هي التي تكون من إحدى الضروريات الخمس: وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسب والمال. وأما القطعية: فهي التي يجزم بحصول المصلحة فيها، والكلية: هي التي تكون موجبة لفائدة عامة للمسلمين، مثال ذلك: مشروعية قتل أساري المسلمين بيد الأعداء، إذا تترسوا بهم، للضرورة، حتى لا يتخذوا ذلك دريئة للتقدم في ديار المسلمين، والاستيلاء عليها، وقتل المسلمين كافة (7) .

(1) الفقه الإسلامي وأدلته للباحث: 6 / 756.

(2)

الفتاوى الهندية: 3 / 178.

(3)

الفتاوى الهندية: 3 / 175.

(4)

فتح القدير: 1 / 68 - 74

(5)

الفتاوى الهندية 3/ 177

(6)

الفتاوى الهندية3/ 173

(7)

المستصفى: 1 / 140 – 132.

ص: 499

ومثل: توظيف الخراج على الأراضي، إذا خلت الأيدي من الأموال، ولم يكن من مال المصالح ما يفي بحاجات الجيش، فيجوز لولي الأمر أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند، لأنه إذا تعارض شران أو ضرران، قصد الشارع دفع أشد الضررين، وأعظم الشرين. أفتى بذلك كبار العلماء كالغزالي والعز بن عبد السلام والقرطبي والشاطبي وابن عابدين وغيرهم.

وجاء في الأحكام السلطانية للماوردي (1) : إذا ضاقت على بيت المال الديون والحقوق عن سدادها، جاز لولي الأمر إذا خاف الفساد أن يقترض على بيت المال ما يصرفه في الديون دون الارتفاق، وكان من حدث بعده من الولاة مأخوذا بقضائه إذا اتسع له بيت المال. وأما الفائض من الحقوق عن مصارف بيت المال: فذهب أبو حنيفة إلى أن يدخر في بيت المال لما ينوب المسلمين من حادث. وذهب الشافعي إلى أنه لا يدخر، وإنما يصرف في مصالح المسلمين، لأن النوائب تعين فرضها عليهم إذا حدثت.

وذكر الماوردي مراتب الضرب في التعزير، فمن سرق نصاباً من غير حرز ضرب أعلى التعزيز. خمسة وسبعين سوطا، وإذا سرق من حرز أقل من نصاب، ضرب ستين سوطاً، وإذا سرق أقل من نصاب من غير حرز، ضرب خمسين سوطاً، فإذا جمع المال في الحرز واسترجع منه قبل إخراجه، ضرب أربعين سوطاً، وإذا نقب الحرز ودخل ولم يأخذ، ضرب ثلاثين سوطاً، وإذا نقب الحرز، ولم يدخل، ضرب عشرين سوطا، وإذا تعرض للنقب أو لفتح باب ولم يكمله، ضرب عشرة أسواط، ثم قال الماوردي: وهذا الترتيب، وإن كان مستحسناً في الظاهر، فقد تجرد الاستحسان عن دليل يتقدر به (2)

ومن أمثلة الحاجة: مشروعية طائفة من العقود لحاجة الناس إليها، استثناء من القواعد القياسية العامة، كالحكم والإجازة، والوصية والجعالة، والحوالة والكفالة، والصلح والقراض.

(المضاربة) والقرض ونمو ذلك:

- يباح من ربا الفضل ما تدعو الحاجة إليه، كالعرايا (بيع الرطب بالتمر) ، وبيع الذهب أو الفضة السبيكة بالمصوغ منه صياغة مباحة، كخاتم الفضة، وحلية النساء، وما أبيح من حلية السلاح وغيرها.

- مشروعية الخيارات في العقود.

- إباحة ضمان الدرك: وهو أن يضمن البائع للمشتري إن خرج المبيع مستحقاً لغير البائع أو معيباً أو ناقصاً (3) .

- بيع الثمار المتلاحقة الظهور كالتين والموز والقثاء واليقطين والبطيخ.

- إباحة عقد الاستصناع (المقاولة من صانع على أن يعمل شيئاً) لحاجة الناس إليه. وإباحة البيع لأجل أو بالتقسيط للحاجة إليهما، ولا بأكثر من الثمن الحال (النقدي) ، ودخول الحمام بأجر، مع جهالة مدة المكث فيها وجهالة مقدار الماء المستعمل أو المستهلك، ومثله نزول الفنادق بالطعام والشراب.

(1) الأحكام السلطانية للماوردي، ص 207، ط صبح؛ وانظر الأحكام السلطانية لأبي يعلى، ص 237.

(2)

ص 228 وما بعدها؛ وانظر الأحكام السلطانية لأبي يعلى، ص 264.

(3)

مغني المحتاج: 2 / 1- 2.

ص: 500

- إباحة الحنفية بيع الوفاء وصحته، للحاجة بسبب كثرة الديون على الناس (1) . وإباحة الحنفية أيضاً للمحتاج الاستقراض بالربح، مثل أن يقترض شخص عشرة دنانير مثلاً، ويجعل لأصحابها من الربح شيئاً معلوماً، في كل يوم ربحاً خاصاً به. أو يدفع المستقرض إلى المقرض ملعقة مثلاً ويستأجره على حفظها، في كل يوم ربحاً خاصاً به. أو يدفع المستقرض إلى المقرض ملعقة مثلاً ويستأجره على حفظها، في كل شهر بكذا، يجوز ذلك بالتعارف العام، لما فيه من احتياج عامة الناس إليه، وقد تعارفوا ذلك سلفاً وخلفاً، فجاز على خلاف القياس (2) .

- يباح النظر إلى العورات للمداواة، كما يباح النظر لوجه المرأة للمعاملة والإشهاد والخطبة والتعليم ونحوها، للحاجة لذلك، لكن بقدر الحاجة في كل ما ذكر، لأن (الضرورة أو الحاجة تقدر بقدرها) .

- التزام المذهب غير ملزم: قال الإمام النووي: الذي يقتضيه الدليل أنه لا يلزم المقلد التمذهب، بل يستفتي من شاء أو من اتفق، قال ابن حجر: وظاهره جواز الانتقال من مذهب لآخر. وأفتى شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام بجواز تقليد إمام مذهب في مسألة، وآخر في أخرى، وهكذا من غير التزام مذهب معين (3) .

وقال ابن السبكي: يجوز تقليد الصحابة رضي الله عنهم (أي خلافاً للمعتمد في المذهب) وهو الصحيح عندي (4) .

وأفتى جماعة كالعز بن عبد السلام وابن حجر: بأنه يجوز للعامي تقليد من شاء من المجتهدين، ولو مفضولاً، مع وجود الأفضل، ما لم يتبع الرخص، بل وإن تتبعها (5) .

ويجوز للقاضي أخذ رزق من الخصمين بشروط عشرة؛ كالفقر وتساوي الخصمين في مقدار الأجر (6) . وكل ما ذكر مشروع للحاجة.

- لا مانع عند الحنفية وبعض الحنابلة والشافعية من الأخذ بنظام قضاء الجماعة (7) .

ولا مانع فقهًا من تعدد درجات التقاضي، بدليل أن الإمام علي رضي الله عنه قضى بين خصمين في اليمن، وأجاز لهما إذا لم يرضيا أن يأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتياه، فأقر قضاء علي. وهذا مفهوم أيضاً من رسالة عمر رضي الله عنه في القضاء لأبي موسى الأشعري.

(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص 79، 92.

(2)

رسائل ابن عابدين: 2 / 117.

(3)

فتاوى ابن حجر: 4 / 305.

(4)

فتاوى ابن حجر: 4 / 307.

(5)

فتاوى ابن حجر: 4 / 315.

(6)

فتاوى ابن حجر: 4 / 320.

(7)

الفتاوى الهندية: 3 / 317؛ التبصرة لابن فرحون: 1 / 37.

ص: 501

وقد تقدم أن تغير وسائل حماية الحق بحسب المصلحة الزمنية تتفق مع المبدأ الذي تقوم عليه الأحكام الشرعية، وهو إحقاق الحق، وإبطال الباطل، ورعاية المصلحة، ودرء المفسدة.

- أخذ بعض فقهاء المالكية كابن فرحون، وبعض الحنابلة كابن القيم بجواز القضاء بالقرائن أحياناً، مع التحفظ والحذر، ولو في نطاق الحدود، وصار ذلك مذهب المالكية والحنابلة، مثل إثبات الزنا بالحمل، وإثبات شرب الخمر بظهور رائحتها من فم الشارب المتهم، وثبوت السرقة بوجود المال المسروق في حيازة المتهم، ورد المسروق أو الوديعة أو اللقطة لمن يصفها بعلامات مميزة، دون حاجة للشهادة أو اليمين (1) .

واكتفى الحنفية بالأخذ بالقرينة القطعية، كرؤية شخص مدهوش ملطخ بالدم، ومعه سكين ملوثة بالدم، مما يدل على أنه هو القاتل إلا إذا ثبت العكس بدليل قاطع (2) .

- الطلاق المقترن بلفظ الثلاث أو المتكرر أو المتتابع، قال الجمهور: يقع الطلاق المقترن بلفظ الثلاث، أو المتكرر، كما أوقعه الزوج، لكن الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وبعض المعاصرين (المشايخ: محمود شلتوت، ومحمد السايس، وعلي الخفيف، ومحمد الزفزاف) والقوانين في مصر والسودان والمغرب وسورية ولبنان والأردن والعراق، والشيعة الإمامية؛ يرون أن الطلاق المقترن بعدد لفظاً أو إشارة لا يقع إلا واحدة، لأن القول بوقوعه واحدة أقل مفسدة من القول بوقوعه ثلاثاً، والقاعدة المقررة هي (يرتكب أخف الضررين وأقلهما فساداً) . وكذلك الطلاق المتتابع عند بعض المعاصرين (الشيخ محمد أبو زهرة) لا يقع إلا واحدة، لأن الظاهر أن هذا الطلاق ولو في مجالس متعددة يراد به التأكيد، أي إن الطلاق المتكرر يأخذ حكم المقترن بالعدد عن طريق القياس (3) ، والدافع لهذا هو حاجة الناس.

- طلاق الهازل أو الذي يجري على اللسان بدون قصد: قال بعض المالكية، وبعض الزيدية، والظاهرية والجعفرية: طلاق الهازل لا يقع لعدم القصد إليه والعزم عليه، لأن الهازل لا نية له في الطلاق، والحديث صريح في اشتراط النية ((إنما الأعمال بالنيات)) (4)، وأما حديث:((ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة)) (5) ، فتشككوا فيه، ولم يصح عندهم.

- بيع المعدوم: من شروط البيع عند الحنابلة (6) وغيرهم: القدرة على تسليم المبيع، فلا يصح بيع الآبق، والشارد، ولو لقادر على تحصيلهما، لما رواه أحمد من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن شراء العبد وهو آبق "، ولمسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر، وفسره أبو يعلى وجماعة: بما تردد بين أمرين ليس أحدهما أظهر.

(1) تبصرة الحكام لابن فرحون: 1 / 312؛ الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن القيم: ص 97 وما بعدها، 214 ما بعدها؛ الفقه الإسلامي وأدلته: 6 / 391 – 392.

(2)

المجلة: م 1741.

(3)

فتاوى ابن تيمية: 3 / 17؛ إغاثة اللهفان: 3 / 326؛ الفصول الشرعية، ص 74.

(4)

رواه البخاري ومسلم عن عمر رضي الله عنه.

(5)

رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة، وهو كما ذكر السيوطي وغيره: حسن.

(6)

منار السبيل: 1 / 289.

ص: 502

ثم – في تقديري – للحاجة أجاز ابن تيمية وابن القيم بيع المعدوم عند العقد إذا كان محقق الوجود في المستقبل بحسب العادة، لأنه لم يثبت النهي عن بيع المعدوم، لا في الكتاب ولا في السنة ولا في كلام الصحابة، وإنما ورد في السنة النهي عن بيع الغرر: وهو ما لا يقدر على تسليمه، سواء أكان موجوداً أو معدوماً، كبيع الفرس النافر والجمل الشارد، فليست العلة في المنع، لا العدم ولا الوجود (1) .

- بيع عقار القاصر: للوصي بيع عقار القاصر، لحاجة النفقة، بمثل القيمة، لكن من دقائق الفقه الحنفي: أنه لا يجوز للجد بيع العروض والعقار، لقضاء الدين وغيره، ويجوز ذلك للوصي، لأن الوصي هو المختص بحفظ الأموال وله الولاية على المال.

ولا يجوز للوصي بيع عقار القاصر من غير حاجة ولا مسوغ شرعي. قال في الذخيرة: الوصي يملك بيع عروض الصغير من غير حاجة، ولا يملك بيع عقاره إلا لحاجة، لأن وظيفته إذ ذاك حفظ الأموال، وبيع العروض من الحفظ، لأن حفظ الثمن أهون. أما العقار: فهو محصن بذاته، محفوظ بنفسه، فلا يكون بيعه من باب الحفظ، إلا إذا كان العقار في معرض الهلاك، فبيعه يكون بمنزلة العروض (2) .

- أجاز الحنفية والمالكية نقل الزكاة من بلد المزكي إلى بلد آخر، لقرابة محاويج، ليسد حاجتهم، أو إلى قوم هم أحوج إليها، أو أصلح، أو أورع، أو أنفع للمسلمين، أو من دار الحرب إلى دار السلام، أو إلى طالب علم أو إلى الزهاد (3) .

الضابط الثاني – رعاية المصلحة:

المصلحة في اللغة: جلب المنفعة، أو دفع المضرة، وفي الشرع: المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، وما لهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة، كما ذكر الإمام الغزالي (4) .

وبعبارة أخرى: المصالح المرسلة التي هي أصل من أصول التشريع الإسلامي: هي الأوصاف التي تلائم تصرفات الشارع ومقاصده، ولكن لم يشهد لها دليل معين من الشر بالاعتبار أو الإلغاء، ويحصل من ربط الحكم بها جلب – مصلحة – أو دفع مفسدة عن الناس (5) .

والمصالح أنواع ثلاثة متفاوتة الدرجة بحسب أهميتها، وهي: الضروريات والحاجيات والتحسينات (6) .

(1) إعلام الموقعين: 2 / 8 وما بعدها.

(2)

تنقيح الفتاوى الحامدية: 2 / 322 – 323؛ الفتاوى الخيرية بهامشه: 2 / 336.

(3)

الفتاوى الهندية: 1 / 178؛ الدر المختار: 1 / 93 – 95؛ أحكام القرآن لابن العربي: 1 / 158.

(4)

المستصفى: 1 / 139 – 140.

(5)

الموافقات للشاطبي: 1 / 39.

(6)

الموافقات: 2 / 8 – 12؛ روضة الناظر وجنة المناظر: 1 / 414؛ فواتح الرحموت: 2 / 262؛ المستصفى: 1 / 139

ص: 503

وأمثلتها من الفتاوى لدى الصحابة الكرام: جمع المصحف الشريف في عهد أبي بكر وعثمان، وتضمين الصناع مع أنهم أمناء، حفاظاً على أموال الناس، ومنع التهاون بها، وتجميد سهم المؤلفة قلوبهم من الصدقات، لعدم الحاجة إلى التأليف بعد أن عز الإسلام، وعدم تطبيق حد السرقة عام الرمادة (المجاعة) ، وإمضاء الطلاق الثلاث بكلمة واحدة ثلاثاً زجراً عن كثرة استعماله، ووضع الخراج على الأراضي المفتوحة عنوة وتركها بيد أهلها، وتدوين الدواوين، واتخاذ السجون، وتوريث الزوجة المطلقة في مرض الموت (طلاق الفرار) .

ومن أمثلتها ما يلي:

عند الحنفية تحت ستار الاستحسان المصلحي (1) : مشروعية دفع القيمة في الزكاة وفي اليمين والنذر والكفارة، وقصر خمس الغنائم على الفقراء دون غيرهم ولو من ذوي القربى، وتضمين القابض على سوم الشراء، ونحو ذلك.

وعند الشافعية (2) : قياس جميع المسكرات المشروبة أو المأكولة على الخمر في التحريم، فرض الخراج على الأغنياء عند خلو بيت المال، وقتل الأسارى المسلمين إذا تترس بهم العدو، وإعطاء المظنة حكم المظنون قياساً على الخلوة بالأجنبية، وقال عز الدين بن عبد السلام: الاعتماد في جلب معظم مصالح الدارين، ودرء مفاسدهما، على ما يظهر في الظنون (3) .

ومن فتاوى المتأخرين من الحنفية عملاً بالمصلحة: إقرار مشايخ بخارى وسمرقند بيع الوفاء في أواخر القرن الخامس الهجري، الذي يشبه ثلاثة عقود:

البيع الصحيح، والبيع الفاسد، والرهن، وهو في الحقيقة رهن، فأعطى من كل واحد من هذه العقود ما يناسب غايته من الأحكام، قال النسفي في فتاواه:"البيع الذي تعارفه أهل زماننا احتيالاً للربا، وسموه (بيع الوفاء) هو في الحقيقة رهن "والصحيح إن كان بلفظ البيع لا يكون رهناً، وهو عند الصحابين: بيع غير لازم (4)

-ومثل ذلك إقرار العمل بعقد الاستصناع (5) . والرهن المستعار: وهو أن يستعير الإنسان شيئاً من صديقه، لا ليستعمله، بل ليرهنه ويستدين به، وهو عقد لازم، مع أن الأصل في عقد الإعارة أنه عقد تبرع غير لازم، فيفسخه المعير متى شاء، والعارية أمانة لا تضمن بالهلاك عند الحنفية، وهذا المرهون مضمون (6) .

- وأفتى الحنفية (7) . بجواز فسخ الإجارة بالأعذار، من جانب المؤجر أو المستأجر، أو العين المؤجرة، نزولاً تحت وطأة المصلحة.

- وأفتى بعض المعاصرين (الأستاذ مصطفى الزرقا) خلافاً لاتجاه وقرارات المجامع الفقهية بجواز عقد التأمين التجاري ذي القسط الثابت.

والاستصناع عند غير الحنفية تنطبق عليه قواعد عقد السلم، أو العرف في بعض أحكامه، قال شيخ الإسلام العز بن عبد السلام:

استصناع الصناع الذين جرت عادتهم بأنهم لا يعملون إلا بالأجرة إذا استصنعهم مستصنع من غير تسمية أجرة؛ كالدلال والحلاق والقاصد، والحجام والنجار والحمال والقصار، فالأصح أنهم يستحقون من الأجرة ما جرت به العادة، لدلالة العرف على ذلك (8)

(1) مقاصد الشريعة للدكتور حسين حامد: 2 / 604.

(2)

المستصفى: 1 / 139 وما بعدها.

(3)

قواعد الإحكام: 1 / 3.

(4)

الفتاوى الهندية: 3 / 178.

(5)

الفتاوى الهندية: 3 / 177.

(6)

البدائع 6 / 146؛ تبيين الحقائق: 6 / 88؛ الدر المختار: 5 / 365.

(7)

الفتاوى الهندية: 4 / 198 وما بعدها؛ 458 وما بعدها: 463؛ تكملة فتح القدير: 7 / 222 وما بعدها.

(8)

قواعد الأحكام: 2 / 111.

ص: 504

الضابط الثالث – الاستحسان:

وبه قال الحنفية والمالكية والحنابلة، وهو ينحصر في أمرين:

1-

ترجيح قياس خفي على قياس جلي، بناء على دليل.

2-

استثناء مسألة جزئية من أصل كلي أو قاعدة عامة، بناء على دليل خاص يقتضي ذلك. والكلام في الاستحسان هنا يقتصر على استحسان الفقيه المستنبط الذي يطبق نصوص الشارع ويقيس عليها، ويستحسن على وفقها بالعدول عن حكم القياس، مستلهمًا من غرض الشارع ومقاصد شريعته، وهذا يشمل نوعين فقط، وهما: الاستحسان القياسي، واستسحان الضرورة (1) . وقد ذكرت أمثلة النوع الثاني في مراعاة الضرورة.

وأمثلة الاستحسان بالقياس الخفي: الحكم بطهارة سؤر سباع الطيور الجوارح، لأن المنقار عظم طاهر، وتشبيه الوقف بالإجارة في إفادة كل منهما مجرد الانتفاع بالعين، لأن المقصود من الوقف هو مجرد الانتفاع، وذلك لا يتحقق إلا بدخول حقوق الارتفاق في الوقف، دون نص عليها. كالمسيل والشرب والطريق والمرور.

واستحسان المصلحة: يدخل تحت مبدأ أو قاعدة المصلحة المرسلة، مثل صحة وصية المحجور عليه لسفه في سبيل الخير، لأن الوصية لا تفيد الملك إلا بعد وفاة المحجور عليه، ولأن الوصية التي لا تنفذ إلا من الثلث، لا تكون نافذة إلا بعد وفاء الديون، فاستثنيت الوصية من الأصل العام لمصلحة جزئية: وهي تحصيله الثواب وجلب الخير للمحجور عليه، مع عدم الإضرار به في حياته.

الضابط الرابع – مراعاة الأعراف والعادات:

العرف: هو ما اعتاده الناس، وساروا عليه، من كل فعل شاع بينهم، أو لفظ تعارفوا إطلاقه على معنى خاص لا تألفه اللغة، ولا يتبادر غيره عند سماعه، وهذا يشمل العرف العملي والعرف القولي.

وهو بحسب إطاره أو شموله إما عرف عام وإما عرف خاص.

والعرف العام: هو الشائع في أغلب البلاد أو كلها بين الناس، على اختلاف أزمانهم وبيئاتهم كالاستصناع، وبيع المعاطاة، وقسمة المهر إلى معجل ومؤجل، وتقديم الإكرامية (البقشيش) للخدم في المطاعم والفنادق، ودخول الحمامات العامة والمسابح من غير تحديد مقدار الماء المستعمل ومدة المكث.

والعرف الخاص: هو الذي يختص ببلدة معينة أو فئة من الناس، كأهل حرفة ما دون غيرها، وهذا يتجدد بتجدد الأزمنة واختلاف الأمكنة، كعرف التجار فيما يعد عيباً يجيز الفسخ أو الرد، ودفع أثمان البضاعة المؤجلة من تاجر الجملة كل يوم خميس، وتقسيط ثمن البضاعة أقساطاً معلومة، ودفع الأجرة شهريا أو كل ثلاثة أو ستة شهور أو سنوياً، وتجديد عقد الإيجار تلقائياً بقوة القانون، ودفع أجر المحامي على قسطين: قسط عند التوكيل، وقسط بعد فصل الدعوى في المحكمة.

ومنه: الاصطلاحات الخاصة بكل فن أو علم كاصطلاح الفقهاء، وعبارات الواقفين، والتجار والزراع والصناع، ويلاحظ أن أكثر فتاوى النوازل أو الواقعات تكون بسبب التأثر بالأعراف العامة، أو الخاصة في بلد أو إقليم أو قطر.

(1) المدخل الفقهي للأستاذ الشيخ مصطفى الزرقا: ف 15 – 17، 30 –31.

ص: 505

والعرف حجة في الشريعة، فتفهم النصوص الشرعية من القرآن والسنة بدلالة العرف القائم حين ورود النص، ولا يلتفت لتبدل الأعراف، ويخصص النص عند الحنفية والمالكية بالعرف العام العملي، فلا تلزم المرأة الشريفة بالقدر بإرضاع ولدها، ويقصد بالطعام الذي يحرم في الربا البر، كما يخصص القياس، ويترك النص المذهبي بالعرف الخاص المعارض له، فيحكم بطهارة خرء الحمام في المسجد، وتصح الإجارة المشروطة بشرط متعارف عليه، ويباح استقراض الخبز عدداً للتعامل به بين الجيران، ويجوز بيع دود القز والنحل لتعامل الناس به، وللأب أو الجد قبض مهر البنت البكر البالغة، للعرف والعادة، ما لم تنهَ عن ذلك (1) .

وتترك القاعدة الفقهية الكلية أو الاستحسان أو الاستصلاح بالعرف العام، لعموم الحاجة، ورعاية المصلحة العامة، لأن (العادة محكمة)(2) و (استعمال الناس حجة يجب العمل بها)(3) و (المصلحة العامة تقدم على المصلحة الخاصة) و (العرف بمنزلة الإجماع شرعاً عند عدم النص) ، كما ذكر الكمال بن الهمام (4) .

وهناك إحدى عشرة قاعدة تدل على حجية العرف، وهي معروفة (5) .

ومن فتاوى الفقهاء المبنية على العرف والعادة ما يلي:

- الأيمان ولا نذور مبنية على العرف، وكذا ألفاظ الطلاق والزواج، وقد يراد بالطلاق الزجر المحض دون قصد التطليق، مثل (عليَّ الطلاق) أو (عليّ الحرام) .

والطلاق المعلق على شيء إن كان يراد به الحث على فعل شيء أو الترهيب من فعل شيء، ولم يقصد به تطليق المرأة، ليس طلاقاً في رأي ابن تيمية، وإنما هو يمين فيه كفارة يمين.

وقال ابن حجر: كلمة (عليّ الحرام) أصبحت من صرائح ألفاظ الطلاق عرفا، وليس من ألفاظ الكنايات التي تحتاج إلى نية، فإذا تقدم ذكر المرأة فهو طلاق صريح، ومع عدم تقدمها: كناية في الزوجة (6) .

- وألفاظ الواقفين تبنى على العرف، مثل تعيين ناظر على الوقف، ومثل كلمة:(على الفريضة الشرعية) ، يراد بها إعطاء الذكر ضعف الأنثى.

- والبيع بثمن قليل رمزي يعد هبة، والهبة بعوض معلوم بيع، وبيع الثمار على الأشجار بلفظ الضمان أو التضمين في بلاد الشام بيع. د

وقد يعبر العوام عن شرط البراءة عن العيوب في بيع السلعة، كسيارة ونحوها بعبارة (كوم عظام) أو (حاضر حلال) ونحو ذلك.

- وتدخل عرفاً توابع المبيع في البيع، كأدوات إصلاح السيارة، ومضخة استخراج الماء في بيع البستان، وآلات غلي الماء في بيع الحمام.

(1) رسائل ابن عابدين: 2 / 116؛ العرف والعادة للشيخ أبي سنة، ص 101 – 102.

(2)

المجلة: م 36.

(3)

المجلة: م 37.

(4)

فتح القدير: 6 / 57.

(5)

الأشباه والنظائر للسيوطي، ص 80 – 90؛ الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص 101 – 112

(6)

فتاوى ابن حجر: 4 / 132 – 143.

ص: 506

-والوصية بثمرة البستان تجعل للموصي له الثمرة الموجودة، لا المعدومة.

- وتراعى عرفاً أساليب العوام في العقد والتعليق والتنجيز والإذن والإجازة، وإن خالفت مذاهب اللغويين.

- كل هذا يدل على أن العرف اللفظي يحدد المقصود من كلام المتكلم، قال القرافي: الصحيح تقديم العرف اللفظي على اللغة، وهو أمر واجب متعين، لأنه ناسخ مقدم على المنسوخ فكذا ههنا (1) وهذا أيضاً شائع في عبارات الحنفية حيث يقولون: إن لفظ الماضي مثل: بعت واشتريت يدل على تنجيز البيع عرفاً، والعرف قاض على اللغة.

- وقرر علماء المذهب الحنفي والمالكي بصفة عامة في الأعراف أن: " الثابت بالعرف الصحيح غير الفاسد - شرعاً – ثابت بدليل شرعي "(2) .

وقال شارح كتاب الأشباه والنظائر لابن نجيم: "الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي "، وقال السرخسي في المسبوط:"الثابت بالعرف كالثابت بالنص ".

وقرر الحنفية كما تقدم: أن العرف الثابت العام: وهو الذي اتفق عليه الناس في كل الأمصار كدخول الحمام وعقد الاستصناع يترك به القياس، ويسمى استحسان العرف، ويخصص به العام إذا كان ظنياً، ولم يكن قطعياً.

والعرف الخاص: وهو السائد في بعض الأقاليم أو لدى طائفة من الناس كعرف التجار أو عرف الزراع ونحو ذلك، لا يقف أمام النص، ولكنه يقف أمام القياس الذي لا تكون علته ثابتة بطريق قطعي من نص أو ما يشبه النص في وضوحه وجلائه (3) .

وعقد الإمام عز الدين بن عبد السلام في كتابه (قواعد الإحكام)(4) فصلاً بعنوان: (فصل في تنزيل دلالة العادات وقرائن الأحوال منزلة صريحة الأقوال في تخصيص العموم، وتقييد المطلق وغيرهما)، وله أمثلة منها:

- التوكيل في البيع المطلق: فإنه يتقيد بثمن المثل وغالب نقد بلد البيع، تنزيلاً للغلبة منزلة صريح اللفظ.

(1) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الإحكام، ص 73.

(2)

أصول الفقه للشيخ محمد أبو زهرة، ص 273.

(3)

أصول الفقه للشيخ محمد أبو زهرة، ص 274.

(4)

قواعد الإحكام، 2 / 107 وما بعدها.

ص: 507

- حمل الإذن في النكاح على الكفء ومهر المثل، وهو المتبادر إلى الإفهام.

- إذا باع ثمرة قد بدا صلاحها، فإنه يجب إبقاؤها إلى أوان جذاذها، والتمكين من سقيها بمائها، لأن هذين مشروطان بالعرف، فصارت كما لو شرطاهما بلفظه.

- حمل الودائع والأمانات على حرز المثل، فلا تحفظ الجواهر والذهب والفضة بإحراز الثياب والأحطاب، تنزيلاً للعرف منزلة تصريحه بحفظها في حرز مثلها.

- حمل الصناعات على صناعة المثل في حملها.

وذكر السيوطي (1) فصلاً في تعارض العرف مع الشرع، وهو نوعان:

أحدهما: أن لا يعلق بالشرع حكم: فيقدم عليه عرف الاستعمال، فلو حلف: لا يأكل لحماً، لم يحنث بالسمك، وإن سماها الله لحماً.

والثاني: أن يتعلق به حكم: فيتقدم على عرف الاستعمال، فلو حلف لا يصلي، لا يحنث إلا بذات الركوع والسجود، أو لا يصوم، لم يحنث بمطلق الإمساك.

وفي تعارض العرف مع اللغة ذكر وجهين في المقدم منهما:

أحدهما: وإليه ذهب القاضي حسين: الحقيقة اللفظية تقدم عملاً بالوضع اللغوي.

والثاني: وعليه البغوي: الدلالة العرفية، لأن العرف محكم في التصرفات، سيما في الأيمان.

وقال الرافعي في الطلاق: وإن تطابق العرف الوضع اللغوي فذاك، وإن اختلفا فكلام الأصحاب يميل إلى الوضع. والإمام (إمام الحرمين) والغزالي يريان اعتبار العرف.

كانت عادتهم بالمدينة: أن الرجل لا يدخل بامرأته حتى تقبض جميع صداقها، واليوم عادتهم على خلاف ذلك، فالقول قول المرأة مع يمينها، لأجل اختلاف العوائد (2) ، وأما اليوم فتسجل عقود الزواج وحقوق المرأة في سجلات المحاكم الشرعية.

- صبغ الثوب المغصوب بالأسود: كان أبو حنيفة يرى أن السواد نقصان، وقال الصحابان: السواد زيادة.

(1) الأشباه والنظائر للسيوطي، ص 83 – 84.

(2)

الإحكام للقرافي، ص 231 – 234.

ص: 508

جاء في الفتاوى الهندية (1) : والصحيح أنه لا خلاف بينهم في الحقيقة، لأن جواب أبي حنيفة رحمه الله تعالى خرج في وقت كان الصبغ بالأسود ناقصاً، أو عيباً في الثبوت، وجوابهما خرج في وقت كان الصبغ بالأسود زيادة في الثوب، فوجب مراعاة العرف والعادة في المصبوغ.

- تسليم المبيع أو الثمن: تسليم المبيع: هو أن يخلى بين المبيع وبين المشتري، على وجه يتمكن المشتري من قبضه بغير حائل، وكذا التسليم في جانب المشتري، وهذا عمل بالعرف، وأجمعوا على أن التخلية في البيع الجائز تكون قبضاً، وفي البيع الفاسد روايتان، والصحيح أنها قبض (2) .

الضابط الخامس – دفع المفاسد ودرء المضار:

حرصت الشريعة على ضرورة تجنب المحرمات والمضار والفاسد قبل القيام بالواجبات، وعلى منع المنهيات قبل تحقيق المأمورات، لأن ضرر المفسدة كالوباء والحريق، قال النبي صلى الله عليه وسلم:((ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)) (3)، والقاعدة الشرعية تقول:"درء المفاسد أولى من جلب المنافع "(4) أو "من جلب المصالح "، فيحجز على الطبيب الجاهل، والمفتي الماجن، والمكاري المفلس. ويمنع الاحتكار مطلقاً في الأقوات وغيرها، منعاً من المضرة.

ويحرم الاتجار بالخمور والمخدرات، ولو تحقق ببيعها الربح المادي.

ويمنع الضرر بالجيران كاتخاذ المعاصر والأفران التي تؤذي بدخانها أو رائحتها.

وتسد النافذة المطلة على مقر نساء الجار، ولو وجد فيها منفعة.

-ولا يجوز إحداث رحى في دار إذا أضرت بالجار، ولا يجوز إحداث إصطبل إذا أضر بالجار، ولا يجوز لصاحب البيت إحداث باب لغرفة يطل منه على بيت جاره لحديث ((لا ضرر ولا ضرار)) .

وعلى صاحب الخربة أن يدفع الزبل الذي في خربته الذي أضر بجاره. ولا يجوز لأحد أن يحدث في طريق المسلمين ما يضر بهم في ممرهم وتصرفهم. وعليهم حرج ومشقة، وينهى عنه أشد النهي.

(1) الفتاوى الهندية: 5 / 127.

(2)

الفتاوى الهندية: 3 / 15

(3)

رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

المجلة: م 30.

ص: 509

ويجب على من بسط الله يده من حكام المسلمين زجره عن ذلك للحديث المتقدم: ((لا ضرر ولا ضرار)) ، فإن لم ينته، عاقبه عقوبة يرجع بها عن فعله، ولا يسامح بمثل هذا، لأنه يؤدي إلى تسامح الناس فيه، ولا من لا قائم له، فالحاكم هو النائب عن المسلمين فيه (1) .

- فسخ الإجارة لأجل الدين: قال الحنفية: متى تحقق القاضي عجز العاقد عن المضي فيم وجب العقد إلا بضرر يلحقه، وهو لم يرض به، يكون عذراً تفسخ به الإجارة دفعاً للضرر، وإذا أراد القاضي فسخ الإجارة لأجل الدين، اختلفوا فيه، فقال بعضهم: يبيع الدار، فينفذ بيعه، فتفسخ الإجارة، وقال بعضهم، تفسخ الإجارة أولاً ثم يبيع، هذا إذا كان الدين ظاهراً، فإن لم يكن، ولكن صاحب الدار أقر بالدين على نفسه، وكذبه المستأجر، قال أبو حنيفة: يصح الإقرار، ويفسخ القاضي الإجارة بينهما بإقراره بالدين، وقال صاحباه: لا يصح إقراراه (2) .

- إعارة الأرض: استعار زيد من زوجته (أو غيرها) أرضاً ليزرعها، فزرعها حنطة بعدما حرثها، وأذنت له بزرعها، ونبت الزرع، لم تؤخذ منه قبل أن يحصد الزرع وقتها (3) .

- البيع في مرض الموت للوارث: لا يجوز عند أبي حنيفة إلا برضا الورثة، وإن كان بمثل القيمة (4) .

- يجوز بيع الوصي وشراؤه بالغبن اليسير، ولا يجوز بالفاحش، لأن ولايته نظرية (5) .

ولا يجوز بيع دار اليتيم بالغبن الفاحش، وبطل بالوجه الشرعي، ورد بعد سنين إلى اليتيم بعد بلوغه أو قبل ذلك (6) .

ولا يملك الوصي بيع العقار بلا مسوغ شرعي، وهو بيع باطل لا فاسد (7) .

- ليس للوصي أن يسافر بمال اليتيم إذا كان الطريق مخوفاً، فلو سافر به حينئذ يضمن المال إذا هلك، قال الإمام الإسبيجابي، لكل من الأب والجد والقاضي وأوصيائهم أن يسافروا بأموال اليتامى إذا كان الطريق آمنا، فإذا أصيبوا في الطريق، فلا ضمان عليهم، ولهم أن يتجروا في أموالهم بالمعروف، على أن يبيعوا بمثل القيمة، فإن كان البيع بغبن فاحش تبطل عقودهم، ولا تتوقف على الإجازة بعد البلوغ، لأن لا مجيز له حالة العقد، ولا ينعقد حتى يتوقف، وكذلك شراؤهم، ولكن إذا كان بغبن فاحش، فإنه ينفذ على أنفسهم، لصدوره عن أهل في محله، فلا يبطل كالبيع (8) .

(1) الفتاوى الهندية: 8 / 448.

(2)

تنقيح الفتاوى الحامدية: 2 / 103.

(3)

تنقيح الفتاوى الحامدية: 2 / 89.

(4)

تنقيح الفتاوى الحامدية: 2 / 316.

(5)

تنقيح الفتاوى الحامدية: 2 / 323.

(6)

الفتاوى الخيرية بهامش الفتاوى الحامدية: 2 / 336.

(7)

تنقيح الفتاوى الحامدية: 2 / 323.

(8)

تنقيح الفتاوى الحامدية: 2 / 337.

ص: 510

- لا يجوز للجار اتخاذ الحمام والنحل وأمثالهما مما يؤذي الأبرجة في مسارحها عند الماء وغيره، للحديث المتقدم:((لا ضرر ولا ضرار)) (1) .

- ولا يجوز اتخاذ مطاحين يؤذي دويها الجيران (2) .

وقال العز بن عبد السلام (3) : إذا اجتمعت مصالح ومفاسد، فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد (أي معاً) فعلنا ذلك، امتثالاً لأمر الله تعالى فيهما في قوله سبحانه:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ، وإن تعذر الدرء والتحصيل، فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة درأنا المفسدة، ولا نبالي بفوات المصلحة، قال الله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] ، ثم ذكر العز (63) مثالاً لأحوال مراعاة الأمرين وترجيح المصلحة الراجحة، منها: الحجر على المفلس مفسدة في حقه، لكنه ثبت تقديماً لمصلحة الغرماء على مفسدة الحجر، وإن شئت قلت: تقديماً لمصلحة غرمائه على مصلحته في الإطلاق، بخلاف الإنفاق عليه وعلى أهله إلى يوم قضاء الدين، فإن مصلحته بالكسوة والإنفاق، ومصلحة من يلزمه، مصلحته مقدمة على مصالح غرمائه. ومثال ما رجحت مفسدته على مصلحته، قطع اليد المتآكلة، حفظاً للروح إذا كان الغالب السلامة بقطعها وأما ما تكافأت فيه المصلحة المفسدة، فقد يتخير فيه، وقد يمتنع.

الضابط السادس – مراعاة فساد الزمان:

أي مراعاة أحوال اختلاف الزمان وفساد الأخلاق، بما لا يتصادم مع أصول الشرع ومبادئه وأحكامه، وهي أحكام القياس والمصلحة المرسلة، حيث يقاس الحادث الجديد على مسألة مختلفة عن مسألة شائعة سابقاً، أو تقتضي المصلحة العمل باتجاه معين مغاير لمقتضى مصلحة كانت تنسجم مع الماضي. وقد ذكرت في قاعدة:"تغير الأحكام بتغير الأزمان " أمثلة هذا الضابط.

الضابط السابع – مراعاة أحوال التطور:

أي تجدد الأوضاع التنظيمية التي تحقق المقصود من الحكم الشرعي الذي قرره الفقهاء في الماضي، كأنظمة السجل العقاري المحقق للقبض والاكتفاء بذكر رقم المحضر في البيع، بدلاً من ذكر حدوده الأربعة. وقد سبق بيان ذلك في قاعدة تغير الأحكام.

الضابط الثامن – التزام ميزان العدالة:

الفتوى والقضاء والتحكيم تعتمد كلها على مبدأ العدالة في فصل المنازعات، وإحقاق الحقوق، وإنصاف المظلوم، وإبطال الباطل، فبالعدل تدوم الدول، وتستقر أوضاع المجتمع. وذلك يتطلب فهم المسألة، والبعد عن الميل إلى أحد الخصمين، وتجنب التوريط بالرشاوى، والهدايا وتقديم الخدمات، ومن تطبيقات ذلك: مراعاة ظروف وأحوال التضخم النقدي بقدر الإمكان في إيفاء الديون والالتزامات والأخذ بفتوى الإمام أبي يوسف في وفاء القرض بسعر النقود يوم القبض السابق.

(1) المعيار المعرب: 9 / 43.

(2)

المعيار المعرب: 9 / 59.

(3)

قواعد الأحكام: 1 / 83 – 104.

ص: 511

الضابط التاسع – إحقاق الحق:

العدالة تكون حال الفصل في المنازعة بين خصمين، وأما إحقاق الحق فهو أعم من ذلك، فقد لا تكون هناك منازعة بين الخصوم، وإنما الأمر يقتضي إرساء معالم الحق وإبطال الباطل بين الناس، ولو لم يكن هناك خصومة أو ادعاء، مثل رد المظالم الذي قام به الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، إحقاقا للحق، ودفع الظلم.

ومثل القضاء ببقاء الحق لصاحبه ولو طال الزمان، لأن التقادم (وضع اليد على مال مملوك لغيره مدة طويلة) لا يثبت الملك ولا يزيله، لأن الإسلام لا يقر التقادم المكسب على أنه سبب لكسب الملكية، وإنما هو مجرد مانع للقاضي – لا المفتي – من سماع الدعوى بالحق الذي مضى عليه زمن معين.

وهو كما ذكرت المجلة (م1661 – 1662) في الحقوق الخاصة (15) سنة، وفي الأراضي الأميرية (10) سنوات، وفي الأوقاف وأموال بيت المال (36) سنة (1) ، توفيراً لوقت القضاة، وتجنباً لما يثار من مشكلات الإثبات، وللشك في أصل الحق.

أما أصل الحق فيجب الاعتراف به لصاحبه وإبقاؤه له ديانة أو إفتاء، فمن وضع يده على مال مملوك لا يملكه شرعاً. كذلك لا يقر الإسلام التقادم المسقط للحق بترك المطالبة به مدة طويلة، فاكتساب الحقوق وسقوطها بالتقادم حكم ينافي العدالة والحق، ويصير واضع اليد (الغاصب أو السارق) مالكاً في عرف القضاء، لا في الديانة.

لكن الإمام مالك في المدونة خلافاً لمعظم أصحابه يرى إسقاط الملكية بالحيازة، كما يرى تملك الشيء بالحيازة، ولكنه لم يحدد مدة للحيازة، وترك تحديدها للحاكم، ويمكن تحديدها، عملاً بحديث مرسل رواه سعيد بن المسيب مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن زيد بن أسلم وهو:((من حاز شيئاً على خصمه عشر سنين، فهو أحق به منه)) (2) ".

(1) وجاء في تنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 8: لا تسمع دعوى الوقف بعد مضي ثلاث وثلاثين سنة، ولا تسمع دعوى القضاء بعد مضي عشرين سنة، ولا تسمع دعوى قريب الواقع أنه مالك لدار موقوفة بالإرث بعد مضي خمس عشرة سنة، وهو يعلم بالوقف، وهما في بلدة واحدة.

(2)

بحث الحيازة والتقادم في الفقه الإسلامي للدكتور محمد عبد الجواد، ص 18، 50 وما بعدها، 60، 108، 150؛ المدونة لمالك: 13 / 43؛ تبصرة الحكام على هامش فتح أعلى المالك: 2 / 362 وما بعدها، 2 / 214، ط دار الفكر – بيروت.

ص: 512

الضابط العاشر – منع النزاع والخصام:

تتفق مهمة القاضي والمفتي في إنهاء المنازعة وتسوية الخصومة، وتحقيق الاستقرار، والطمأنينة فيما بين الناس في معاملاتهم ورعاية حقوقهم. وهذا هو الهدف الأساسي أو مقصد الشريعة العام في تشريع المعاملات (العقود والتصرفات) واشتراط شرائط معينة، والحكم بصحة العقد أو بطلانه أو فساده، مما أدى إلى ظهور طائفة من البيوع المنهي عنها ومن هذه الضوابط والشروط: اشتراط القبض في التبرعات، ومع بيع الشيء قبل القبض، ومنع الغرر والجهالة تحقيقاً لاستقرار التعامل، وتحريم الربا بسبب الاستغلال وظلم أحد الطرفين العاقدين للآخر. وعلى المفتي مراعاة ذلك كله في اجتهاده أو فتواه.

التزام النصوص:

وكما يلتزم المفتي بالضوابط السابقة، يلتزم قبل كل شيء بالحكم بما تدل عليه النصوص الشرعية بحسب دلالتها مباشرة أو بحسب ظواهرها العامة، أي بنصها أو ظاهرها، فإن أول ما يجب البحث فيه عن حكم المسألة هو في النصوص من كتاب أو سنة، كما كان يفعل الصحابة الكرام في اجتهادهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن أمثلة الفتاوى أو النوازل في هذا ما يأتي:

- تمليك الدين ممن ليس عليه الدين باطل إلا في ثلاث: حوالة، ووصية، وإذا سلطه، أي سلط المملك غير المديون على قبضه، أي قبض الدين (1) . والنص الذي ينبغي مراعاته هو: ما رواه الدارقطني عن ابن عمر: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ)) أي الدين بالدين.

- لا تصح إجازة الورثة في حياة الموصي وإنما بعد الموت تصح ولا رجوع (2)، وهذا تطبيق للحديث:((لا وصية لوارث إلا أن يجيزها الورثة)) (3) أي بعد موته، لأن الشخص لا يسمى وارثاً، إلا بعد الموت، وهذا نص على أن الوصية للوارث، إنما لم تجز لحق بقية الورثة، لا لحق الشرع، كالوصية بما زاد على الثلث للأجنبي، لم تجز لحق الورثة، لأن حقهم تعلق بثلثي المال في مرض موته، بدليل أن لهم أن يقضوا تصرفه شرعاً في ثلثي ماله، ونقض التصرف في ملك الغير يدل على تعلق الحق لهم به، ولا تصح إجازتهم في حياة الموصي، وتصح بعد موته، وليس لهم أن يرجعوا بعد الإجازة، وإن لم يقبض الموصي له وصيته، لأن الوصية قبل موت الموصي غير لازمة، لأنها تمليك مضاف إلى ما بعد الموت، فبالإجازة لا تصير لازمة منبرمة، فيجب أن تكون الإجازة بمثابتها غير لازمة، يمكن للورثة الرجوع عنها.

- من أجر نفسه للقراءة على المقابر بأجر معلوم، ليقرأ في كل يوم وليلة جزءاً من القرآن، أجاب ابن المكوي المالكي بأن هذه بدعة، وهي مكروهة، وليست بحرام (4) ، لأن القربات الدينية الأصل الشرعي ألا تقبل النيابة، وهي مقصورة الثواب على فاعلها.

(1) تنقيح الفتاوى الحامدية: 2 / 29.

(2)

تنقيح الفتاوى الحامدية: 2 / 314.

(3)

رواه الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

(4)

المعيار: 8 / 260.

ص: 513

- للصديق أن يأكل من مال صديقه بغير إذنه، يجوز له ذلك إن علم بطيب نفسه (1) لقوله تعالى في رفع الحرج عن الأكل:{أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: 61] .

- من تصدق بجميع أملاكه على غيره، فقام قائم من جهته يدعي عليه السفه، وأنه كان مختل العقل، تكون صدقته نافذة إذا قبضها أو حازها المتصدق عليها (2) .

- من أوصى عند الموت أن يدفع ماله لزوجته، وكان له ورثة كابنه، فقال ابن أبي زيد القيرواني: إن أراد أن تستأثر بذلك الزوجة، فلا يجوز، وهو ميراث، وإن ادعت الزوجة أنه دين لها عليه، فعليها البينة (3) ، لأن الموصي تصرف بما يلحق ضرراً بالورثة، والإضرار بالورثة من الكبائر، لقوله تعالى:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء:12] .

- الوصية بمعصية: من أوصى أن يجعل بين أكفانه شيء من القرآن، قال ابن يزادة الله: لا أرى تنفيذ وصيته، وتجل أسماء الله عن الصديد والنجاسة، وينبش القبر لإخراج ذلك (4) .

وكذلك لو أوصى أن تدفن معه نسخ من كتاب الله أو نسخة من صحيح البخاري، قال العقباني: لا تنفذ وصيته (5) ، أي لأنه يجب تعظيم القرآن والحديث.

_ أمانة الحاكم والموظف: قال ابن زرب: من ولي من أمانات المسلمين شيئاً، فهو موكول إلى أمانته بظاهر القرآن ودلائل السنة، ولا يضمن الأوصياء في بلدان قط شيئاً، وإن فرطوا (6) .

- لو أوصى زيد بجميع ماله لعمرو (أجنبي غير وارث) ثم مات عن تركة وورثة لم يجيزوا الوصية، وقبل عمرو الوصية، تنفذ الوصية في ثلث ماله بعد إخراج ما يجب إخراجه شرعاً، وذلك لأن المسموح به شرعاً هو الإيصاء بالثلث في الحديث المتفق عليه عن ابن عباس:"الثلث والثلث كثير "، وحديث الجماعة عن سعد بن أبي وقاص:"الثلث والثلث كثير أو كبير ".

- إرث المال الحرام: سئل أبو محمد المالكي عمن هلك وترك مالاً حراماً، هل يورث عنه ويطيب أم لا؟ فأجاب:

اختلف السلف فيه، فأجاز وراثته ابن شهاب الزهري والحسن البصري والقاسم بن محمد وغيره، وفرق مالك وأصحابه بين أن يكون حراماً من وجهة الغصب، فيرد إلى أهله إن عرفوا، وإن لم يعرفوا فينبغي للورثة التمسك برأس المال إن عرفوه، والتصدق بما بقي. وإن لم يعرفوا تصدق بجميعه، يؤمرون ولا يجبرون، وأهل الورع لا يرضون التمسك (7) .

هذه نماذج وأمثلة من الفتاوى، وهذه ضوابط وخصائص فتاوى النوازل، وبيان سبل الاستفادة منها بحيث يسهم ذلك في تجديد حيوية الفقه، للاستفادة من ذلك في التطبيقات المعاصرة.

والله ولي التوفيق.

وهبة مصطفى الزحيلي

(1) المعيار: 9 / 185.

(2)

المعيار: 9 / 166.

(3)

المعيار: 9 / 386.

(4)

المعيار: 9 / 394.

(5)

المعيار: 9 / 396.

(6)

المعيار: 9 / 384.

(7)

المعايير المعرب: 9 / 545.

ص: 514