المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعداد الدكتورعبد الله الشيخ المحفوظ بن بيه - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ١١

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الحادي عشر

- ‌بيع الدين والأوراق الماليةوبدائلها الشرعيةإعدادالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌أحكام التصرف في الديوندراسة فقهية مقارنةإعداد الدكتورعلي محيي الدين القره داغي

- ‌بيع الدينأحكامه – تطبيقاته المعاصرةإعدادأ. د نزيه كمال حماد

- ‌بيع الدينإعداد الدكتورعبد اللطيف محمود آل محمود

- ‌بيع الدين وسندات القرضوبدائلها الشرعيةفي مجال القطاع العام والخاصإعداد الدكتورمحمد علي القري بن عيد

- ‌بيع الدين وسندات القرضوبدائلها الشرعية في مجال القطاع العام والخاصإعدادالدكتور سامي حسن حمود

- ‌المضاربات في العملةوالوسائل المشروعة لتجنب أضرارها الاقتصاديةإعداد الدكتورأحمد محيي الدين أحمد

- ‌المضاربات على العملةماهيتها وآثارها وسبل مواجهتهامع تعقيب من منظور إسلاميإعداد الدكتورشوقي أحمد دنيا

- ‌عقود الصيانةوتكييفها الشرعيإعدادالشيخ محمد المختار السلامي

- ‌عقود الصيانةوتكييفها الشرعيإعدادالدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌عقود الصيانة وتكييفها الشرعيعقد الصيانةإعدادآية الله محمد على التسخيري – مرتضى الترابي

- ‌عقود الصيانةإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌عقود الصيانة وتكييفها الشرعيإعدادالدكتور محمد أنس الزرقاء

- ‌ضوابط الفتوىفي ضوء الكتاب والسنةومنهج السلف الصالحإعداد الدكتورعبد الوهاب بن لطف الديليمي

- ‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعداد الدكتوروهبة مصطفى الزحيلي

- ‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعداد الدكتورعبد الله الشيخ المحفوظ بن بيه

- ‌العمل الفقهيعند الإباضيةإعدادناصر بن سليمان بن سعيد السابعي

- ‌الإسلامفي مواجهة الحداثة الشاملةإعدادالدكتور ناصر الدين الأسد

- ‌مجمع الفقه الإسلامي الدوليووحدة الأمة الإسلاميةإعدادمحمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌الوحدة الإسلاميةمنهجية المقارنة بين المذاهب الفقهيةإعدادالدكتور عبد الستار أبو غدة

- ‌الوحدة الإسلاميةمعالمها وأعلامهاإعدادالأستاذ محمد واعظ زادة الخراساني

- ‌الوحدة الإسلامية{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}إعدادالشيخ عدنان عبد الله القطان

- ‌الوحدة الإسلاميةأدب الحوار وأخلاقيات البحثإعدادالدكتور سعيد بن عبد الله بن محمد العبري

- ‌‌‌الإسلام في مواجهة العلمنةإعدادالدكتور عمر عبد الله كامل

- ‌الإسلام في مواجهة العلمنةإعدادالدكتور عمر عبد الله كامل

- ‌الإسلام في مواجهة العلمنةموقف الإسلام من مسألة الحكم والسيادةإعدادآية الله الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الديمقراطية والعلمانيةوحقوق الإنسانالمرجعية الغربية والمرجعية الإسلاميةإعدادالأستاذ إبراهيم بشير الغويل

الفصل: ‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعداد الدكتورعبد الله الشيخ المحفوظ بن بيه

‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "

والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرة

إعداد الدكتور

عبد الله الشيخ المحفوظ بن بيه

أستاذ الدراسات الإسلامية بكلية الآداب

جامعة الملك عبد العزيز

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه.

(سبل الاستفادة من النوازل الفتاوى والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرة) .

تحت هذا العنوان طلب مني أن أكتب هذا البحث الذي أقدمه اليوم إلى أصحاب الفضية، طالباً بين يدي الموضوع المعذرة عن الاختصار الذي قد يعتبره البعض مخلاً في موضوع متسع الأرجاء مترامي الأطراف لا يسعه إلا كتاب كامل، وليس ذلك من طبيعة هذا النوع من الأعمال.

ومع ذلك فقد حاولت أن أقدم بحثاً مفيداً غير مستوعب، وقسمته إلى ثلاثة فصول:

الفصل الأول: تعريف النوازل والفتوى – لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره – وفي هذا الفصل أوضحنا معنى النازلة والفتوى لغة واصطلاحاً ومن هو المفتي، وأصناف المفتين.

الفصل الثاني: تعرضنا للعمل الإقليمي عند المالكية، فعرفناه بالحد مع النقول المتعلقة بتقديمه على الراجح والمشهور، وتعرضنا لشروط إجراء العمل والمجالات التي يدخل فيها، وذلك في سلسلة من المسائل تجيب عن كل ما يتعلق بالعمل.

الفصل الثالث: ذكرنا فيه تصورنا للاستفادة من الفتاوى والعمل الفقهي في ثلاثة طرق، وليس هذا العدد حصرياً، ولكنه توجيه للبحث في هذا الاتجاه الذي لم يتطرق إليه كثيراً إلى الآن على حد علمي:

- الطريق الأول: هي التعرف على ضوابط الإفتاء عن طريق استقراء نماذج معتمد أهل الفتوى قديماً وحديثاً.

- الطريق الثاني: هو استخلاص القواعد الكلية والجزئية التي اعتمدوا عليها للفتاوى، مع ملاحظة سياقها والتخريج عليها، لتكون أساساً نستفيد فيه من التطبيقات المعاصرة.

- الطريق الثالث: كان عن أمثلة من الفروع والفتاوى تمكن استفادة من عباراتها أو إشارتها في القضايا المعاصرة.

وختمنا بحثنا بخاتمة، أوجزنا فيها نتيجة البحث ومساره.

وبالله سبحانه وتعالى التوفيق، وهو الهادي بمنه إلى سواء الطريق.

ص: 584

النوازل

النازلة: في اللغة هي اسم فاعل من نزل به ينزل إذا حل، تنزل الوصف منزلة للموصوف فأصبح اسماً (للشدة من شدائد الدهر) ، كما ذكر صاحب المحكم واقتصر عليه في التاج، وتجمع على نوازل، وهو جمع مقيس في كل فاعله، سواء كانت أسماً أو وصفاً، قال ابن مالك فواعل لفوعل وفاعل – إلى قوله – وحائض وصاهل وفاعله.

ويجمع على نازلات قياساً أيضاً، قال أبو الطيب المتنبي:

قد عرض السيف دون النازلات له

وطاهر الحزم بين النفس والغيل

وأطلقت النازلة على الفتوى الفقهية، ويبدو لي أنها إنما تطلق عليها إذا كانت جواباً على قضية واقعة، وليست على قضية مفترضة يطرحها الطلبة على الفقيه لاقتناص الفائدة، وكثير استعمال فقهاء الغرب الإسلامي للفظ النوازل إلى جانب الفتوى والأجوبة بنسبة أقل، واستعملت النوازل في المشرق، مثل نوازل أبي الليث السمرقندي، كما استعمل الأحناف كلمة الواقعات، وهو مصطلح يخصهم يستعمل مع النوازل كرديف مؤكد؛ كنوازل وواقعات الناطقي.

فالنوازل من النزول أي الحلول، لأنه مسألة يجهل حكمها تحل بالفرد أو المجتمع أو للمح معنى الشدة لما يعانيه الفقيه في استخراج حكم النازلة، ولما كان السلف لشدة ورعهم يتحرجون من الفتوى ويسألون هل نزلت؟

فالنوازل إذن: هي وقائع حقيقية تنزل بالناس فيتجهون إلى الفقهاء بحثاً عن الفتوى، فهي تمثل جانباً حياً من الفقه متفاعلاً مع الحياة المحلية لمختلف المجتمعات.

- أما الفتوى: فهي اسم مصدر من أفتاه في الأمر إذا أبانه له، وهي الإجابة على ما يشك فيه حسب عبارة الراغب، كما في التاج يقال: استفتى الفقيه فأفتاه والاسم الفتيا والفتوى ويجمع على فتاوى، وقد يفتح تخفيفاً كما نص عليه مرتضى.

ص: 585

وهي اصطلاحاً: تبين الحكم الشرعي عن دليل لمن سأل عنه (1) :

قال القرافي: إنها إخبار عن الله تعالى فالمفتي كالمترجم، قال المنهج بعد تعريف الحكم:

لأجل ما يصلح من دنيا وقد

اختص بالفتيا جميع ما ورد

من العبادات وما قد منعا

منها وأسباب شروط جمعا

وما للآخرة فيه اختلفا

ورسمها إخبار من قد عرف

بأنه أهل بحكم شرعاً

والحكم وهي في سواه اجتمعا

(2)

قال في التكميل:

إخبار الفتوى كمن يترجم

والحكم وإلزام كنائب اعلموا

وعند ابن القيم: بمنزلة الوزير الموقع عن الملك.

- فمن المفتي؟ وبأي شيء يفتي؟

- إنه معترك الأقلام ومزدحم الأفهام.

- فالمفتي الأول في الشرع هو النبي صلى الله عليه وسلم، مبلغاً عن الله تعالى:

{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} [النساء: 127]، {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176] .

وبعده عليه الصلاة والسلام تعاقب على الفتوى أصحابه الكرام وفي مقدمتهم الخلفاء الراشدون، وحفظت الفتوى عن مائة وثلاثين ونيف من الصحابة كما ذكر الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين (3) ، كما كان سبعة من الصحابة من المكثرين من الرواية، فإن سبعة منهم كانوا من المكثرين من الفتيا؛ وهم عمر وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت وعائشة أم المؤمنين وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم.

(1) شرح المنتهى: 3 / 456؛ والموسوعة الفقهية: 32 / 20.

(2)

المنجور، ص 614.

(3)

إعلام الموقعين: 1 / 10.

ص: 586

وقد أشرعت فتاوى الصحابة أبواباً عظيمة للتابعين ومن تبعهم بإحسان بينت المنهج السديد والطريق الملحّب لكيفية تطبيق النصوص على الوقائع المتجددة، فسلك سبيلهم أئمة أعلام ساروا على دربهم وانسابوا في سربهم. ومر الزمان واتسعت الحادثات وتكاثرت الفتاوى وتنوعت الردود وتعددت المذاهب، فمن مقتف لخطا الرعيل الأول شبراً بشبر وذراعاً بذراع، وقد سميت هذه المدرسة بمدرسة أهل الحديث أو أهل الأثر. ومنهم من توسع في الفهم والتأويل وافترع أبكار المسائل، وولد النوازل فأعمل رأيه وركب مطية الاستنباط، ووسع جيوبه وجر ذيوله، وهذه المدرسة تسمى بمدرسة الرأي. بالإضافة إلى أن كلتا المدرستين كان منها من أخذ بنصيب من أساليب ومفاهيم المدرسة الأخرى، حتى نشأت أصول تجمع بين الأثر والرأي ووضعت ضوابط الاستنباط، فكانت رسالة الشافعي في أصول الفقه في أواخر القرن الثاني نتاج الجدل الدائر بين مدرسة الأثر ومدرسة الرأي، وخطوة عظيمة نحو تأصيل التعامل مع النصوص وإقامة ميزان للاستدلال، ومع أن مدرسة الرأي تأخرت طويلاً في تقديم نظرتها الخاصة لتظهر في القرن الرابع مع أبي الحسن الكرخي والجصاص، فكانت إضافة مفيدة وفرت قاعدة للمقارنة الخصبة بين المدرستين، فكانت كتب أصول الفقه التي ألفت في القرون اللاحقة ميداناً للمقارنة الخصبة بين المدرستين، فقد ألف الساعاتي البغدادي (694هـ) كتابه بديع النظام الجامع بين كتاب البزدوي والأحكام للآمدي وكانت أسس الفتوى وصفات المفتي تشغل حيزاً لا بأس به في مؤلفات هذه المدارس.

فالفتوى لها شأن عظيم في الإسلام فهي خلافة للنبي صلى الله عليه وسلم في وظيفة من وظائفه في البيان عن الله تعالى، فبقدر شرفها وأجرها يكون خطرها ووزرها لمن يتولاها بغير علم، ولهذا ورد الوعيد، ففي حديث الدارمي عن عبيد الله ابن جعفر مرسلاً:((أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار)) .

والفتوى أعم من الحكم، إذ أن الأحكام قسمان: منها ما يقبل حكم الحاكم مع الفتوى فيجتمع الحكمان، ومنها ما لا يقبل إلا الفتيا (1) .

أما القسم الثاني فهو العبادات والمشار إليها بأمور الآخرة، وقد بين القرافي خير بيان في الفرق بين قاعدة الفتوى وبين قاعدة الحكم، فالفتوى تدخل في الأحكام الاعتقادية، وتدخل في الأحكام العملية جميعها من عبادات ومعاملات وعقوبات وأنكحة، وتدخل في الأحكام التكليفية من واجبات ومحرمات ومندوبات ومكروهات ومباحات، وتدخل في الأحكام الوضعية من أسباب وشروط وموانع وصحة وفساد (2) .

الفرق بين علم الفقه وعلم الفتوى والقضاء:

إن علم الفتوى والقضاء أخص من علم الفقه، وقد أوضح ذلك الإمام ابن عرفة، حيث قال:"علما القضاء والفتوى أخص من العلم بالفقه، لأن متعلق الفقه كلي من حيث صدق كليته على جزئيات، فحال الفقيه من حيث هو فقيه كحال عالم بكبرى قياس الشكل الأول فقط، وحال القاضي والمفتي كحال عالم بها مع علمه بصغراه ولا خفاء أن العلم بها أشق وأخص، وأيضاً فقها القضاء والفتوى مبنيان على إعمال النظر في الصور الجزئية وإدراك ما اشتملت عليه من الأوصاف الكامنة فيها، فيلغى طريدها ويعمل معتبرها "(3) .

(1) المنجور، ص 616.

(2)

الفروق للقرافي: 4 / 48 وما بعدها.

(3)

التسولي: 1 / 17.

ص: 587

قال محرر هذا البحث: ويعني بكبرى قياس الشكل الأول القضية الثانية التي يكون فيها الحد الوسط موضوعاً، وهو نفسه المحمول في الصغرى التي تكون أولى في الترتيب.

وموضوع الصغرى هو الجزئي المقصود للتعرف على حكمه في النتيجة. وهاتان القضيتان تعتبران مقدمتين تنشأ عنهما النتيجة المطلوبة في الشكل الأول من الأشكال الأربعة المنتجة، أما قوله الأوصاف الطردية والمعتبرة؛ فيعنى بالطريدية الأوصاف التي لا تصلح مناطاً للحكم، فهي مطرودة عن العلية أو التي لا تنبني على وجودها أو فقدها ثمرة. أما الوصف المعتبر فهو المناسب الذي تترتب عليه الأحكام ويصلح للعلية.

وهذا الكلام نفيس جداً، فهو ينبه على أن المفتي لا بد أن يكون بصيراً بالواقع، مدركاً لجزئيات الوقائع، حتى يستطيع تطبيق الأحكام والقواعد الفقهية، فحفظ المسائل الفقهية لا يكفي إذا لم يكن الفقيه قادراً على تطبيقها على الواقع، وقادراً على الاستنباط من القواعد، وقد شبه حفيد ابن رشد الفقيه الذي يحفظ المسائل ببائع الخفاف الذي عنده خفاف كثيرة لكنه ليس خفافاً؛ لأنه لا يحسن أن يصنع خفافاً لمن لا يوافق قدمه ما عنده من الخفاف (1) .

ومعرفة الواقع تارة يعبرون عنها بالعرف حتى لا يطبق الحكم في غير محله، حيث إن الحكم مبني على عرف تدور معه الفتوى فيغفل عنه، فيخطئ في التطبيق. وتارة يعبرون عنه بتحقيق المناط وهو حسن تطبيق القاعدة على أحاد صورها، ولذلك نقول كلمة عن هذين الدليلين اللذين يشترك فيهما المجتهد والمقلد.

بأي شي تكون الفتوى؟

- الأصل في الفتوى أن تكون بالكتاب أو بالسنة الثابتة نصاً أو ظاهراً أو اقتضاء أو إيماء – أو إشارة إلى مفهوم موافقة أو مخالفة عند الثلاثة خلافاً لأبي حنيفة، وتكون الفتوى بالقياس على أصل قائم من الكتاب والسنة والقياس، الذي لا يختلف فيه القائلون بالقياس هو قياس العلة منصوصة أو مستنبطة لوجود مناسب معتبر مؤثراً أو ملائماً، وكذلك عن طريق السبر والتقسيم والدوران طرداً وعكساً على الأصح.

(1) بداية المجتهد مع الهداية: 7 / 376.

ص: 588

كما تستند إلى الإجماع الذي لا يعرو عن أصل من كتاب وسنة على الصحيح، كما – تستند عند بعض العلماء على الاستصحاب والمصالح المرسلة وسد الذرائع والاستحسان وقول الصحابي، وشرع من قبلنا عند من يقول بهذه الأدلة الثانوية على التفصيل المعروف – في كتب الأصول، فلا نطيل به كل هذا بالنسبة للمجتهد، إلا أنه يوجد دليلان يشترك فيهما المجتهد والمقلد، وهما العرف والقياس المعتمد على تحقيق المناط؛ لهذا فلابد من كلمة تختص بهذين الدليلين.

العرف: هو ما يتعارف عليه الناس كالمعروف والعارفة، وحجية العرف مستفادة من الكتاب والسنة قال تعالى:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241]، {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وقال تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] ، وفي الحديث ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) ، ومن ما يستدل به لحجية العرف السنة التقريرية؛ كتقرير النبي صلى الله عليه وسلم للناس على صنائعهم وتجاراتهم. و "قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين "(1) .

وقد أقر صلى الله عليه وسلم – القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية (2) .

قال القرافي: "وأما العرف فمشترك بين المذاهب ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك فيها "(3) .

ولهذا اعتبرته المذاهب الفقهية، فقد ورد عن الأحناف رحمهم الله تعالى حمل بعضهم قوله عليه الصلاة والسلام:"الطعام بالطعام "على البر؛ لأنه كان طعامهم ذكر ذلك إمام الحرمين في البرهان (4) .

وعن مالك أنه خصص قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [البقرة: 233] بالعرف قائلاً: إن المرأة الشريفة لا ترضع بناء على العرف وهو يوجب الرضاع على غيرها (5) .

أما الشافعي: (فالذي رآه أن عرف المخاطبين لا يوجب تخصيص لفظ الشارع)(6) . ولكن الشافعي قد يأخذ بالعرف في ترتيب الأحكام على كلام الناس؛ قال الرافعي: "الشافعي يتبع مقتضى اللغة تارة وذلك عند ظهورها وشمولها وهو الأصل، وتارة يتبع العرف إذا استمر واطرد. وقال ابن عبد السلام قاعدة الإيمان البناء على العرف إذا لم يضطرب، فإن اضطرب فالرجوع إلى اللغة "(7) .

أما الإمام أحمد فإنه يقول في الجائحة: "إني لا أقول في عشر ثمرات ولا في عشرين ثمرة، ولا أدري ما الثلث، ولكن إذا كانت جائحة تعرف الثلث أو الربع أو الخمس توضع"، وقال ابن قدامة أنه ظاهر المذاهب (8) .

ما نقل يدل على أن العرف قد يكون أساساً لاستنباط الحكم فيخصص العام في دليل الاستحسان، إلا أن العرف قد يكون أساساً لتغير الفتوى، لهذا فإن العلماء فيما يتعلق بالعرف لم يفرقوا بين مجتهد ولا مقلد.

قال في مراقي السعود في تعريف الاستحسان: "أو هو تخصيص بعرف ما يعم ورعي الاستصلاح بعضهم يؤم".

ومن الواضح أنهم يرون أن المقلد يتصرف طبقاً للعرف، فيمكن أن يراجع مذهب إمامه على ضوئه، بل إنه يخالف ظاهر النص بسبب اختلاف العرف الذي كان قائماً عليه على خلاف في هذه المسألة لأنه من باب تحقيق المناط، وبهذا الصدد نذكر اختلافهم في تغير العرف بالنسبة لضمان ما أتلفته الماشية، كما في حديث ناقة البراء، فإن على أهل الحوائط حفظ حوائطهم بالنهار، وعلى أهل الماشية حفظ ماشيتهم بالليل، وفي حال تغير العرف بأن كان أهل الحوائط يحفظونها ليلاً وأهل الماشية يحفظونها نهاراً.

(1) متفق عليه.

(2)

رواه مسلم.

(3)

شرح تنقيح الفصول، ص 488، ويراجع كتاب (العرف) للشيخ عادل عبد القادر قوته، ص 129.

(4)

1 / 446.

(5)

القرطبي: 3 / 161.

(6)

البرهان: 1 / 446.

(7)

السيوطي في الأشباه والنظائر، ص 67.

(8)

المغني: 6 / 179.

ص: 589

قال السيوطي: "كما لو جرت عادة قوم بحفظ زرعهم ليلاً ومواشيهم نهاراً فهل ينزل ذلك منزلة العرف العام في العكس وجهان والأصح نعم "(1) .

كذلك نجد أن أبا يوسف يرى جواز معيار العد فيما معياره الوزن عند تغير العادة مع ورود النص. قال الدر المختار: "وما نص الشارع على كونه كلياً: كبر وشعير وتمر وكل وملح، أو وزنيّا: كذهب وفضة فهو كذلك لا يتغير أبداً. . . إلى قوله: لأن النص أقوى من العرف، فلا يترك الأقوى بالأدنى، وما ينص عليه حمل على العرف وعن الثاني اعتبار العرف مطلقاً ورجحه الكمال ".

قوله: ورجحه الكمال حيث قال: عقب ما ذكرناه ولا يخفى أن هذا لا يلزم أبا يوسف، لأن قصاره أنه كنصه على ذلك وهو يقول يصار إلى العرف الطارئي بعد النص بناء على أن تغير العادة يستلزم تغير النص، حتى لو كان صلى الله عليه وسلم حيًّا نص عليه، وأطلل ابن عابدين حيث أوضح "أن النص معلول بالعرف فيكون هو المعتبر في أي زمن كان "(2) .

قال ابن القيم في (تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد) : "هذا فصل عظيم النفع جداً وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم (3) .

قال القرافي في (الأحكام) : "إن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد: خلاف الإجماع وجهالة في الدين، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد: يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة، وليس هذا تجديداً للاجتهاد من المقلدين حتى يشترط فيه أهليه الاجتهاد، بل هذه قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها، فنحن نتبعهم فيها من غير استئناف اجتهاد "(4) .

وتحقيق المناط:

والمناط: هو العلة من النوط إلى التعليق، فالحكم معلق بها تقول ناط به نوطأ؛ أي علقه قال حسان:

وأنت زنيم نيط في آل هاشم

كما نيط خلف الراكب القدح الفرد

ويقال: هو منه مناط الثريا أي بعيد، وهو تحقيق العلة المتفق عليها في الفرع علة حكم ما في محله بنص أو إجماع، فيبين المجتهد وجودها في الفرع (5) . قال في مراق السعود: تحقيق علة عليها ائتلفا في الفرع تحقيق مناط عرفاه؛ كتحقيق الطوافة في الفأرة فيحكم لها بحكم الهرة. وهو تطبيق القاعدة الشرعية المتفق عليها أو المنصوص عليها.

(1) الأشباه والنظائر، ص 67؛ العرف لعادل قوته، ص 215.

(2)

حاشية ابن عابدين: 4 / 112.

(3)

ابن القيم، إعلام الموقعين: 3 / 11.

(4)

القرافي، الأحكام، ص 218.

(5)

شرح مختصر الروضة: 2 / 233.

ص: 590

وتحقيق المناط لا ينقطع فيه الاجتهاد إذ لا يمكن التكليف به، كما قال الشاطبي، وأمثلته كثيرة وهي التي ركز عليها الفقهاء (1) .

وقال الشاطبي: "الاجتهاد على ضربين؛ أحدهما: لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع التكليف، وذلك عند قيام الساعة، والثاني: يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا.

فأما الأول فهو الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط، وهذا الذي لا خلاف بين الأمة في قبلوه، ومعناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي، لكن يبقى النظر في تعيين محله " (2) .

فمن هو المفتي؟

قال في الدر المختار: "المفتي عند الأصوليين هو المجتهد؛ أما من يحفظ أقوال المجتهد فليس بمفت، وفتواه ليست بفتوى بل هو ناقل"(3) .

وأصل المفتي في اصطلاح علماء الأصول – كما في تحرير الكمال – هو المجتهد المطلق وهو الفقيه. قال الصيرافي: هو موضوع لمن قام الناس بأمر دينهم وعلم عموم القرآن وخصوصه وناسخه ومنسوخه، وكذلك في السنن والاستنباط، ولم يوضع لمن علم مسألة وأدرك حقيقتها. وقال – أي السمعاني -: هو من استكمل فيه ثلاثة شرائط: الاجتهاد والعدالة والكف عن الترخيص والتساهل.

ولكن بعض العلماء في العصور المتأخرة عزفوا عن اشتراط الاجتهاد في الفتوى؛ فقال السبكي: فيمن لم يبلغ رتبة الاجتهاد المطلق مراتب؛ إحداها: أن يصل إلى درجة الاجتهاد المقيد فيستقل بتقدير مذهب إمام معين ونصوصه أصولاً يستنبط منها، نحو ما يفعل بنصوص الشارع، وهذه صفة أصحاب الوجوه، والذي أظنه قيام الإجماع على جواز فتيا هؤلاء، وأنت ترى علماء المذهب ممن وصل إلى هذه الرتبة هل منعهم أحد من الفتوى أو منعوا هم أنفسهم منها؟

- الثانية: من لم يبلغ رتبة أصحاب الوجوه لكنه فقيه النفس حافظ للمذهب قائم بتقديره، غير أنه لم يرتضِ في التخريج والاستنباط كارتياض أولئك وقد كانوا يفتون ويخرجون، وما زال العلماء، يتدرجون حتى قال المازري في كتاب الأقضية: الذي يفتي في هذا الزمان أقل مراتبه في نقل المذهب أن يكون قد استبحر في الاطلاع على روايات المذهب وتأويل الشيوخ لها، وتوجيههم لما وقع فيها من اختلاف ظواهر واختلاف مذاهب، وتشبيههم مسائل بمسائل قد يسبق إلى النفس تباعدها، وتفريقهم بين مسائل ومسائل قد يقع في النفس تقاربها وتشابهها إلى غير ذلك مما بسطه المتأخرون في كتبهم وأشار إليه المتقدمون من أصحاب مالك في كثير من رواياتهم، فهذا لعدم النظر يقتصر على نقله على المذهب.

ولكنهم نزلوا درجات أخرى لعموم الجهل، فاكتفوا بمعرفة تقييد مطلقات روايات المذهب، بأن تكون المسألة موجودة في التوضيح أو في ابن عبد السلام، كما يقول الحطاب وقد أشار في مراقي السعود إلى ذلك بقوله: بذل الفقيه الوسع أن يحصل ظناً بأن ذاك حتم مثلاً فذاك للمجتهد الرديف. قال في شرحه: يعني أن الفقيه والمجتهد مترادف في عرف أهل الأصول، والفقيه في عرف الفقهاء من تجوز له الفتوى من مجتهد ومقلد. ومن تجوز له الفتوى المجتهد المطلق، والمجتهد المقيد مجتهد مذهب كان أو مجتهد فتيا، وغير المجتهد إذا كان عالماً بالأصول أو جاهلاً لها بشرطه الآتي (4) .

- وبعد أن استكمل أوصاف المجتهد المطلق الذي هو أول من تجوز له الفتوى في قائمة المفتين شرع في بيان الآخرين بقوله

: هذا هو المطلق والمقيد

منسفل الرتبة عنه يوجد

ملتزم أصول ذاك المطلق

فليس يعدوها على المحقق

مجتهد المذهب من أصوله

منصوصه أم لا حوى منقوله

وشرطه التخريج للأحكام

على نصوص ذلك الإمام

مجتهد الفتوى الذي يرجح

قولاً على قول وذاك أرجح

لجاهل الأصول أن يفتي بما

نقل مستوفي فقط وأمما

(5)

(1) نشر البنود: 2 / 208.

(2)

الموافقات: 4 / 89 – 90.

(3)

الدر المختار: 4 / 306.

(4)

نشر البنود 2 / 315.

(5)

نشر البنود: 2 / 321.

ص: 591

- ذلك حال تطور نظرتهم إلى المفتي من مجتهد مطلق إلى مجتهد مذهب أو فتوى، إلى فقيه النفس حافظ متبحر في الاطلاع على الروايات، عارف بتخصيص عمومها وتقييد مطلقها إلى من يكتفي بحفظ ذلك من كتاب يوثق به.

وهكذا نجد أن الفتاوى تغيرت مرجعيتها من حيث صفة القائم عليها في كونه مجتهداً مطلقاً في الصدر الأول، إلى مقلد تتفاوت رتبته بحسب الزمان، وكذلك من حيث الدليل المعتمد الذي كان كتاباً وسنة أو قياساً، إلى أن أصبح الدليل أقوال الإمام المقلد وقواعده، أو التخريج على أقواله ورواياته.

ونعني بالتخريج: القول في المسألة التي لا نص فيها للإمام، بمثل قوله في مسألة تساويها إذا نص المجتهد على حكم في مسألة لعلة بينها فمذهبه في كل مسألة وجدت فيها تلك العلة كمذهبه فيها.

قال في المراقي:

إن لم يكن لنحو مالك ألف

قول بذي وفي نظيرها عرف

فذلك القول هو المخرج

وقيل في الأخذ عليه حرج

وظهرت في كل مذهب إلى جانب كتب الفقه كتب الفتاوى والنوازل؛ كفتاوى السبكي وابن الصلاح في مذهب الشافعي والفتاوى الهندية وفتاوى قاضيخانه في المذهب الحنفي، وقد ذكر في (كشف الظنون) أكثر من مائة وخمسين تأليفاً من الفتاوى وفي المذهب المالكي كفتاوى ابن رشد والبرزلي وغيرهما. وسنتعرض بإشارة خاصة إليها، وإلى المذهب الحنبلي مع فتاوى ابن تيمية.

- وقد حاولت مختلف المذاهب ضبط الفتاوى عندما لم تعد من خصائص المجتهد المطلق، والفتاوى قد لا تكون نتيجة نازلة ولكنها تكون نتيجة توليد للمسائل.

وقد كان من السلف من يكره افتراض المسائل وتوليد الوقائع، وقد كانوا يسألون عن المسألة هل نزلت؟

وكان مالك يكره ذلك ويكره أرأيت؟

إلا أن أصحاب أبي حنيفة سلكوا منحى آخر في افتراض الصور الذهنية، وهكذا وسعوا جيوب الفتوى، وجروا ذيولها على مسائل وقعت وأخرى لم تقع، وربما لم تقع أبداً، إلا أنهم أثروا الفقه بتأليفهم ما سموه مسائل الأصول المروية عن الإمام وأصحابه، وقد تضمنت كتب محمد بن الحسن الستة: المبسوط والزيادات والجامع الصغير والجامع الكبير والسير الكبير والصغير، وهي التي تعرف بظاهر الرواية. وبقيت مسائل النوادر التي ليست في الكتب الستة، ولكنها في غيرها وهناك مسائل الفتاوى والواقعات التي عرضت لعلماء الأحناف من غير الطبقة الأولى، وهي ما استنبطها المجتهدون المتأخرون لما سئلوا عنها، ولم يجدوا فيها رواية، وهم أصحاب أبي يوسف ومحمد وأصحاب أصحابهم وهلم جرًّا وهم كثيرون.

- فمن أصحابهما مثلاً: عصام وابن رستم ومحمد بن سماعة، وقد يتفق لهم أن يخالفوا أصحاب المذهب لدلائل وأسباب ظهرت، وأول كتاب جمع في فتواهم – فيما بلغنا – كتاب (النوازل) للفقيه أبي الليث السمرقندي، ثم جمع المشايخ بعده كتباً أخر كمجموع النوازل والواقعات للناطفي (1) .

وحاول الأحناف ضبط الفتاوى، فقال صاحب تنوير الأبصار، "يفتى بقول أبي حنيفة على الإطلاق"، علق عليه ابن عابدين بقوله: أي سواء كان معه أحد أصحابه أو انفرد، لكن سيأتي قبيل الفصل أوالفتوى على قول أبي يوسف فيما يتعلق بالقضاء لزيادة تجربته. وعلق على قول صاحب الدر بقوله:(وهو الأصح) قائلاً: ما يأتي عن الحاوي وفي جامع الفصولين من أنه لو معه أحد صاحبيه أخذ بقوله، وإن خالفاه قيل كذلك، وقيل يخير إلا فيما كان الاختلاف بحسب تغير الزمان؛ كالحكم بظاهر العدالة وفيما أجمع المتأخرون عليه؛ كالمزارعة والمعاملة فيختار قولهما (2) .

(1) حاشية ابن عابدين باختصار وحذف: 1 / 47.

(2)

تنوير الأبصار: 4 / 302.

ص: 592

وتوجيه هذا الكلام أن الأحكام تبتنى في كل إقليم وفي كل عصر على عرف أهله وهو مأخوذ من الفتح. (1)

وقال بعد ذلك: وفي فتاوى ابن الشلبي لا يعدل عن قول الإمام إلا إذا صرح أحد المشايخ بأن الفتوى على قول غيره، وبهذا سقط ما بحثه في البحر من علينا الفتوى بقول الإمام وإن أفتى المشايخ بخلافه، وقد اعترضه محشية الخير الرملي (2) ، وقال في تنوير الأبصار مع الدر المختار في بيع المعدوم، ومنه بيع ما أصله غائب؛ كجزر وفجل، أو بعضه كورد وياسمين ومرصاد، وجوزه مالك لتعامل الناس وبه، أفتى بعض المشايخ عملاً بالاستسحان (3) . "ومقدار الوزن لا يعلم بالعد كما العكس وكذا قال العلامة البركوي في أواخر الطريقة المحمدية: أنه لا حيلة فيه إلا التمسك بالرواية الضعيفة. لكن شارحها سيدي عبد الغني النابلسي بأن العمل بالضعيف مع وجود الصحيح لا يجوز، وفي الكافي الفتوى على عادة الناس" (4) .

وقال الأحناف: إن المتون مقدمة على الشروح والشروح مقدمة على الفتاوى، والعمل على ما في المتون إذا تعارض ما في المتون والفتاوى فالمعتمد ما في المتون، كما في أنفع الوسائل، وكذا يقدم ما في الشروح على ما في الفتاوى (5) .

لكن مراجعة كتب الفتاوى؛ كالهندية وقاضيخانه، تبرز بوضوح تأثير المتأخرين في ترجيح كفة الفتاوى وما يفتى به في بلخ وخوارزمة وغيرهما. وأما المالكية فإنهم مع كراهية إمامهم رحمه الله تعالى لافتراض المسائل وتقدير الوقائع فإنهم في وقت مبكر اقتصوا آثار المدرسة العراقية الحنفية في افتراض المسائل عندما سلك أسد بن الفرات مسلك الأحناف في توليد المسائل بعد ملازمته لمحمد بن الحسن، فكان يطرح على ابن القاسم تلميذ مالك تلك المسائل فيجيبه عليها، فدون منها مدونة كبيرة عرفت باسم (الأسدية) عاد بها إلى أفريقيا وقفا أثره سحنون بن سعيد الذي راجع المدونة على ابن القاسم وصححها فأسقط الكثير وأثبت فتاوى أخرى لابن القاسم، ودون ما أملاه عليه ابن القاسم وعاد به إلى بلاده ليصبح المرجع في الفتوى لدى أمة المذهب في تونس وإفريقيا بخاصة، حيث اختصره ابن أبي زيد القيرواني في مختصره، ولخصه أبو سعيد البرادعي في تهذيبه الذي ألا اعتمده العلماء كما قال في طليحيته: واعتمدوا التهذيب للبرادعي، والمدونة في البرادعي، وقد شرحت المدونة وكثر التعليق عليها.

وإن كان أهل الأندلس أكثر اهتماماً بالعتبية وقد بينها ابن رشد في بيانه وتحصيله يراجع ابن خلدون في المقدمة.

فكانت هذه المدونات والمستخرجات وكتب ابن يونس واللخمي وابن أبي زيد وابن المواز مرجع النازل والفتاوى في أقطار الشمال الأفريقي والأندلس. إلا أن علم الفتاوى والنوازل كان له رواج كبير إلى جانب علم القضاء والتوثيق، فقد كانت لكل علم من أعلام الفقه نوازله وفتاويه الخاصة في مسائل ترد عليه، سواء في حضرة تونس أو القيروان أو فاس أو قرطبة.

ولعل أقدم النوازل بالغرب الإسلامي: نوازل القرويين ونوازل ابن رشد (الجد) وابن الحاج القرطبي ومذاهب الحكام في نوازل الأحكام لمحمد بن القاضي عياض قد جمعها من بطائق والده التي دونها تحت عنوان (أجوبة القرطبين) ، ويرى بعض الباحثين أن فتاوى القاضي عياض كانت تشكل مدونة العمل السبتي الذي كان رائداً للعمل الفاسي والعمل الرباطي والعمل السوسي والعمل التطواني الذي استفيد من نوازل في الأحكام الشرعية بتطوان للفقيه الحائك، وقد أدمجها المهدي الوزاني في نوازله الصغرى (6) .

(1) الحاشية: 4 / 719.

(2)

الحاشية، ص 303.

(3)

4 / 101.

(4)

الحاشية: 4 / 182.

(5)

الحاشية: 4 / 317.

(6)

يراجع في بحثه (سبتة في عصر القاضي عياض)، دورة القاضي عياض: 2 / 254.

ص: 593

وقد دونت هذه الفتاوى تارة مفردة أو مع غيرها كفتاوى ابن رشد، وفتاوى البرزلي تلميذ الإمام ابن عرفة وغيرهما، وقد ظهرت مؤلفات النوازل ككتاب (المعيار المغرب والجامع المعرب عن فتاوى أهل أفريقية والأندلس والمغرب) للإمام الونشريسي أحمد بن محمد التلمساني نزيل فاس المتوفى سنة 914هـ.

وهو جامع كبير جمع ثروة فقهية عظيمة، وكان سجلاً تاريخياً واجتماعياً واقتصادياً لهذه المناطق، وذلك ما يميز كتب النوازل بصفة خاصة هو لصوقها بالحياة وغوصها في أعماق المجتمعات وبحثها عن الحلول الفقهية لمشاكل البشر المتجددة مما أنشأ علم الفتاوى بأسلوبه المميز وضوابطه التي تميز بين الراجح والمشهور وما يجري به العمل، وتقوم بعملية ترجيح بين الشيوخ، ليكون المفتي على بصيرة من أمره وجلية في تصرفه. فقالوا: إن الراجح هو ما قوي دليله، والمشهور ما كثر قائله وقيل: بترادفهما ولا بد أن يزيد نقله المشهور على الثلاثة، كما في فتاوى عليش.

ورجحوا تشهير ابن رشد على ابن يونس وتشهير ابن يونس على اللخمي وسووا بين ابن رشد وعبد الوهاب البغدادي والإمام المازري وقدموا طبقة المصريين على طبقة المدنيين، وهذه على المغاربة وهؤلاء على العراقيين من أصحاب مالك وذكروا الكتب المعتمدة والكتب الضعيفة التي لايرضى بها إلا من يرضيه ما يرضي أم الحليس.

أم الحليس لعجوز شهربة

ترضى من اللحم بعظم الرقبة

على حد استعارة النابغة الغلاوي في نظم الطليحة، وهو مع أصله نور البصر للهلالي مرجع في الترجيح والإفتاء مع إضافة والدنا – الشيخ المحفوظ في نظمه لمراتب الترجيح.

ص: 594

إلا أن الأهم في عملية الفتوى عند المالكية هو اعتماد العمل كمرجح أقوى من الراجح والمشهور، وهو العمل الفقهي الذي أخذ أصله عن عمله أهل المدينة، فما به العمل غير المشهور مقدم في الأخذ غير مهجور. وعمل أهل المدينة عند مالك هو من السنة العملية، وقد بين مالك في رسالته إلى الليث بن سعد تمسكه بعمل أهل المدينة حيث قال منكراً على الليث: بلغني أنك تفتي الناس بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس في بلدنا الذي نحن فيه. . . ويضيف: وإنما الناس تبع لأهل المدينة. . . ثم يقول: فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهراً معمولاً به لم أرَ لأحد خلافه. قال ابن القاسم وابن وهب: العمل عند مالك أقوى من الحديث.

واحتج المالكية بحديث: ((المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها)) واحتجوا بأقوال الصحابة. قال القاضي عياض في المدارك: باب فضل عمل أهل المدينة وترجيحه على عمل غيرهم واقتداء السلف بهم قال زيد بن ثابت: إذا رأيت أهل المدينة على شيء فاعلم أنه السنة. قال ابن عمر: لو أن الناس إذا وقعت فتنة ردوا الأمر إلى أهل المدينة لصلح الأمر، ولكنه إذا نعق ناعق اتبعه الناس. وأضاف: عن أبي بكر بن حزم: يا ابن أخي إذا وجدت أهل هذا البلد قد أجمعوا على شيء فلا يكن في قلبك شيء.

وقال ربيعة: ألف عن ألف أحب إلي من واحد على واحد.

وقد جرى في ذلك نزاع طويل معروف، وقد فصل العلامة تقي الدين ابن تيمية في هذه المسألة، فجعل ذلك على أربع مراتب.

- المرتبة الأولى: ما يجري مجرى النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل مقدار الصاع والمد وترك صدقة الخضراوات والأحباس فهذا مما هو حجة باتفاق العلماء.

أما الشافعي وأحمد وأصحابهما فهو حجة عندهم بلا نزاع، كما هو حجة عند مالك وذلك مذهب أبي حنيفة وأصحابه. وذكر ابن تيمية ما جرى بين مالك وأبي يوسف لما اجتمع بمالك وسأله عن هذه المسائل وأجابه مالك بنقل أهل المدينة المتواتر، فرجع أبو يوسف إلى قومه وقال: لو رأى صاحبي مثل ما رأيت لرجع مثل ما رجعت.

- وبعد نقل طويل يخلص إلى أن عمل أهل المدينة الذي يجري هذا المجرى حجة باتفاق المسلمين.

- المرتبة الثانية: العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، فهذا حجة في مذهب مالك وهو المنصوص عن الشافعي، وكذا ظاهر مذهب أحمد، أن ما سنه الخلفاء الراشدون فهو حجة يجب اتباعها.

- المرتبة الثالثة: إذا تعارض في المسألة دليلان كحديثين أو قياسين جهل أيهما أرجح، وأحدهما يعمل به أهل المدينة ففيه نزاع؛ فمذهب مالك والشافعي أنه يرجح بعمل أهل المدينة، ومذهب أبي حنيفة أنه لا يرجح به ولأصحاب أحمد وجهان.

وانتهى إلى قوله: فهذه مذاهب جمهور الأئمة توافق مذهب مالك في الترجيح لأقوال أهل المدينة.

- وأما المرتبة الرابعة: فهي عمل المتأخرين بالمدينة، ورجح أنه ليس بحجة عند المحققين من أصحاب مالك ودافع شيخ الإسلام عن أهل المدينة دفاعاً قويًّا، قال في ثناياه:"وإذا تبين أن إجماع أهل المدينة تفاوتت فيه مذاهب جمهور الأئمة علم بذلك أن قولهم أصح وأقوال أهل الأمصار رواية ورأيًّا، وأنه تارة يكون حجة قاطعة وتارة حجة قوية وتارة مرجحاً للدليل، وليست هذه الخاصية لشيء من أمصار المسلمين "(1) ، أي أكثر من مائة صفحة أجرى فيها مقارنة بين مذهب أهل المدينة وبين غيره، أثنى فيها على مالك وأصحابه، وختم ذلك بقوله:"فكذلك بيان السنة ومذهب أهل المدينة وترجيح ذلك على غيرها من مذاهب الأمصار أعظم أمور الدين عند ظهور بدع الجهال للمتبعين للظن وما تهوى الأنفس والله أعلم ".

(1) يراجع ذلك كله في الفتاوى: 20 / 294 – 396، باختصار وحذف وتصرف.

ص: 595

وأما ابن القيم ففرق بين نقل أهل المدينة واجتهادهم، فصحح النقل ورجح به وناقش في الاجتهاد ورد كثيراً من المسائل التي تركت لها الأحاديث لمخالفتها للعمل (1) ، والذي يظهر لي والله أعلم أن عمل أهل المدينة تارة يكون عمل جميع علماء المدينة فيكتسب قوة ومكانة. وتارة يكون عمل بعضهم فيكون أضعف وقد يكون ذلك اختياراً للإمام مالك فيقتصر على كونه عملاً لأهل المدينة، وهو عمل بعضهم ويكون قوله من باب العام يراد به الخاص فقد قال أبو عمر بن عبد البر في التمهيد في ترجمة ربيعة بن أبي عبد الرحمن:"وحدثنا مصعب قال: حدثنا الداروردي إذا قال مالك وعليه أدركت أهل بلدنا وأهل العلم ببلدنا، والأمر المجمع عليه عندنا؛ فإنه يريد ربيعة بن أبي عبد الرحمن وابن هرمز"(2) . وبهذا يمكن أن نفهم كثيراً من القضايا التي حاول العلماء ردها لوجود مخالفة بعض علماء فيها المدينة لما ذهب إليه المالكية.

ومن ناحية أخرى:

- توجد في غير مذهب مالك إشارات إلى الترجيح بالعمل دون ذكر قطر؛ ففي كتاب طبقات الحنابلة لأبي يعلى في ترجمة علي بن عثمان الحراني قال: سمعت أبا عبد الله يقول: شر الحديث الغرائب التي لا يعمل بها ولا يعتمد عليها (3) .

وفي رواية لأحمد بن حنبل لمسائل عن رفع اليدين في الصلاة، يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن غير واحد من أصحابه: أنهم فعلوه إذا افتتح الصلاة وإذا أراد أن يركع وإذا رفع رأسه من الركوع. قلت له: فبين السجدتين؟ قال: لا، قلت: فإذا أراد أن ينحط ساجداً؟ قال: لا، فقال له العباس العنبري: يا أبا عبد الله، أليس يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله؟ قال: هذه الأحاديث أقوى وأكثر (4) .

كذلك عمل أحمد بحديث ضعيف وهو: "العرب أكفاء إلا حائكاً أو حجاماً"، فقيل لأحمد رحمه الله تعالى: كيف تأخذ به وأنت تضعفه؟ قال: العمل عليه قال: الموفق؛ أي أنه يوافق أهل العرف (5) . وسئل الإمام أحمد عن حديث الزكاة "ومن أباها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا"فقال: ما أدري ما وجهه. وسئل عن إسناده فقال: هو عندي صالح الإسناد (6) . مما يدل على أن الإمام كان يلتفت إلى العمل.

- أما عمل الأمصار والأخرى غير المدينة:

فهو أمر لا نجده في غير مذهب مالك إلا أن اعتبار المفتى به التي نجدها في ثنايا كلام بعض المذاهب، وقد قدمنا بعض ذلك من مذهب أبي حنيفة، واعتبار العرف في الجملة، توعز بوجود عمل ما يختلف في الزمان والمكان.

- أما متأخرو المالكية فإنهم جعلوه مصدراً من مصادر الفتوى إلى جانب الراجح والمشهور، فهو مقدم عليهما حيث يرجح به القول الضعيف، وأنكره المقري والتلمساني.

وحقيقة إجراء العمل أنه: الأخذ بقول ضعيف في القضاء والفتوى من عالم يوثق به في زمن من الأزمان، ومكان من الأمكنة، لتحقيق مصلحة أو لدرء مفسدة، وقد يكون مسايرة لعرف أو مجاراة لرأي من له الأمر.

(1) إعلام الموقعين: 2 / 274.

(2)

التمهيد: 3 / 4.

(3)

كتاب طبقات الحنابلة لأبي يعلى: 1 / 229.

(4)

يراجع كتاب طبقات الحنابلة لأبي يعلى: 1 / 235.

(5)

يراجع كتاب العرف للشيخ عادل عبد القادر قوته: 1 /121.

(6)

يراجع المغني لابن قدامة: 4 / 7، طبعة هجر.

ص: 596

كما جرى عمل أهل قرطبة برد عمل السفيه قبل الحكم عليه بالسفه بأمر بعض الأمراء. قال في نظم العمل:

ثم بقرطبة بالرد جرى

عملهم بأمر بعض الأمرا

- إذاً فالعمل الفقهي القطري من خصائص المذهب المالكي، حيث رجحوا به الضعيف ومحوا به السقيم.

وهذه أقوال أهل المذهب في الترجيح بالعمل وفي تعريفه وأسباب جريانه وشروط إجرائه، قال الشيخ المسناوي:"وإذا جرى العمل ممن يقتدي به بمخالف المشهور لمصلحة وسبب فالواقع في كلامهم أنه يعمل بما جرى به العمل ممن يقتدى به، وإن كان مخالفاً للمشهور، وهذا ظاهر إذا تحقق استمرار تلك المصلحة وذلك السبب، وإلا فالواجب الرجوع إلى المشهور، هذا هو الظاهر "(1) .

قال السجلماسي نقلاً عن ابن فرحون في تبصرته: "كثيراً ما يوجد في كتب الموثقين في المسألة ذات الأقوال الذي جرى به العمل كذا.

ونصوص المتأخرين متواطئة، على أن ذلك مما يرجح به القول المعمول به ". (انتهى وباختصار كثير) .

والمراد بالعمل بالقول حكم الأئمة به واستمرار حكمهم، قال الشيخ مصطفى في آخر باب القضاء من حاشيته نحوه قول الأجهوري في آخر باب الفلس:"إن المراد بما به القضاء ما عمل به القضاة وحكموا به فهو في جملة ما به العمل".

وإذا كان القول المعمول به راجحاً بالعمل لم يجز للقاضي ولا للمفتي العدول عنه، وإن كان ما يعدل عنه مشهوراً.

قال سيدي عيسى السجستاني في نوازله – بعد أن وجه العمل الجاري في مسألة ذكرها -: فإذا اتضح لك توجيه ما جرى به العمل لزم إجراء الأحكام عليه، لأن مخالفة ما جرى به العمل فتنة وفساد كبير.

وفي مسائل النكاح في الدر النثير عن الشيخ أبي الحسن: أن القاضي لا يقضي بين المالكية إلا بمشهور المذهب، أو بما صحبه العمل من الموثوق بعملهم ودينهم. ففي العطف بأو فيهما دليل على أنه يقضى بالمشهور ما لم يجرِ العمل بغيره، فإن جرى بالشاذ قضى به وترك المشهور.

قال القاضي سيدي محمد المجاصي في بعض أجوبته: وخروج القاضي عن عمل أهل بلده ريبة قادحة، لكن يقتصر من العمل على ما ثبت، ويسلك المشهور فيما سواه.

وقال سيدي عبد الله في مراقي السعود:

وقدم الضعيف إن جرى عمل

به لأجل سبب قد اتصل (2)

ومن المهم أن نعرف لماذا عدل العلماء عن المشهور والراجح إلى القول الضعيف؟ والجواب كما يقول السجلماسي في شرحه: "إن أصل العمل بالشاذ وترك المشهور الاستناد لاختيارات شيوخ المذهب المتأخرين لبعض الروايات والأقوال لموجب ذلك كما بسطه ابن الناظم في شرح تحفة والده ومن الموجبات تبدل العرف أو عروض جلب المصلحة أو درء المفسدة فيرتبط العمل بالموجب وجوداً وعدماً ولأجل ذلك يختلف باختلاف البلدان ويتبدل في البلد الواحد بتبدل الأزمان "(3) .

(1) البناني: 5 / 124.

(2)

نشر البنود: 2 / 333.

(3)

شرح نظم العمل المطلق: 2 / 7.

ص: 597

قلت: وما أشار إليه من تغيير العمل استناداً لاختيارات الشيوخ، يدل على أن العمل قد ينشأ عن اجتهاد ترجيحي، بمعنى أن الشيوخ قد يلاحظون ضعف مستند القول المشهور في المذهب، فيعتمد قولاً ضعيفاً قوي مستنده، وهي مسألة لم يعرج عليها كثير ممن اهتموا بالعمل قديماً وحديثانً وقد وجدت لها أمثلة من ذلك: مسألة اشتراط الخلطة لإيجاب اليمين على المدعى عليه.

وهي مسألة تعتمد على زيادة غير ثابتة في حديث: ((البينة على المدعي واليمين على من أنكر إذا كانت بينهما خلطة)) ، وقد رفض علماء الغرب الإسلامي العمل بإيجاب الخلطة، فأوجبوا اليمين بدونها، قال البناني:"واعلم أن العمل جرى بثبوت اليمين، ولو لم تثبت خلطة، قاله أبو الحسن وابن عرفة وغيرهما "(1) .

وقال الشيخ محمد المامي الموريتاني في مقدمة كتابه في عمل بلاد شنقيط الذي سماه كتاب البادية: "وما ألجأني إلى جذع نخلة هذا العلم الغريب إلا مخاض ضرورات أهل البادية وعوائدهم وهم قطر من المسلمين لهم ضرورات وعوائد والضرورات والعوائد مما تبنى عليه الأحكام "وقال: "إن اتباع نص الرواية في بعض النوازل من الجهل".

وأنشد من قصيدته (الدلفينية) التي يرد به على مخالفيه من علماء القطر:

وللنوازل أحوال وأزمنة

تنوعت مثل أحوال الأزامين

فيكشف الغم تنزيل الخلاف على

حالين أو زمني ما هو مفتون

وبعض العلماء في شنقيط لم يوافقوا على بعض ما يجري به عمل الناس، وقد ألف سيدي عبد الله صاحب مراقي السعود كتابه:(طرد الضوال والهمل عن الكروع في حياض العمل) .

فمما سلف ندري أن العمل يجري لعرف أوضرورة أو مصلحة أو ترجيح. وللعمل شروط لإجرائه، ذكرها الهلالي في نور البصر، ونظمها النابغة الغلاوي الشنقيطي في نظم الطليحية حيث قال:

شروط تقديم الذي جرى العمل

به أمور خمسة غير همل

أولها ثبوت إجراء العمل

بذلك القول بنص ما احتمل

والثاني والثالث يلزمان

معرفة الزمان والمكان

وهل جرى تعميماً أو تخصيصا

ببلد أو زمن تنصيصا

وقد يعم عمل بأمكنة

وقد يخص وكذا في الأزمنة

رابعها كون الذي أجرى العمل

أهلاً للاقتداء قولاً وعمل

وحيث لم يثبت له الأهلية

تقليده يمنع في النقلية

خامسها معرفة الأسباب

فإنها معينة في الباب

فعند جهل بعض هذي الخمس

ما العمل اليوم كمثل أمس

وقد نص الشيخ ميارة في شرحه للامية الزقاق على ثلاثة شروط؛ وهي: أن يكون العمل صدر من العلماء المقتدى بهم، وأن يثبت بشهادة العدول المثبتين في المسائل، وأن يكون جارياً على قوانين الشرع وإن كان شاذاً) (2) .

(1) البناني: حاشية علي الزرقاني: 7 / 137.

(2)

شرح العمل المطلق للسجلماسي: 2/ 9.

ص: 598

قلت: وما ذكره ميارة رحمه الله تعالى غير واضح؛ فكيف يعرف كونه موافقاً لقوانين الشرع وهو قول شاذ، إلا أن يكون أراد بالقوانين القواعد الشرعية الكلية وأصول الاستنباط، وقد استعملها ابن رشد الحفيد في ذلك حيث قال:"ونحن نذكر من هذه المسائل ما اشتهر الخلاف فيه بين الفقهاء ليكون ما يحصل من ذلك في نفس الفقيه يعود كالقانون والدستور الذي يعمل عليه فيما لم يجد فيه نصاً عمن تقدمه، أو فيما لم يقف على نص فيه لغيره"(1) .

وهناك استدراك آخر، وهو أنهم نصوا جميعاً: على أن المقلد الصرف لا يجوز له أن يحكم بالشاذ ولا بالقول الضعيف، بل إنه إذا عدل عن الراجح والمشهور نقض حكمه، وقد جرى العمل بهذا في حواضر الغرب الإسلامي قال صاحب عمل فاس سيدي عبد الرحمن الفاسي:

حكم قضاة الوقت بالشذوذ

ينقض لا يتم بالنفوذ

وقال السجلماسي:

ومنذ دهر وزمان انقضى

كان بإفريقية والي القضا

محجراً عليه أن لا يحكما

إلا بما شهر عند العلما

وغير ما تشهيره منقول

هو عن الحكم به معزول

ونقل في شرحه ما نقل المازوني في نوازل الجامع من درره المكنونة، وهو ما نقله ابن المشاط في قول الإمام ابن عرفة: إنما يعتبر من أحكام قضاة العصر ما لا يخالف المشهور في المذهب. وقد تبعه على هذه المقالة تلميذه الشيخ الحافظ أبو القاسم البرزلي، حيث قال: الذي جرى به العمل أن لا يحكم القاضي بغير مشهور مذهب مالك وقد وقع ذلك في زمان السيوري ففسخ حكم القاضي، ووقع في زمان الشيخ أبي القاسم الغبريني ففسخ حكم حاكم بشاذ من القول إذا لم يكن القاضي من أهل العلم والاجتهاد، لأن كل من كان مقلداً لا يعرف وجوه الترجيح لا يجوز له أن يحكم بالشاذ، وهو معزول عنه ويفسخ حكمه، وإنما يحكم بغير المشهور من القضاة من ثبتت له وجوه الترجيح. . . إلى آخر كلام البرزلي (2) .

(1) بداية المجتهد مع الهداية: 7 / 332.

(2)

شرح السجلماسي للعمل المطلق: 2 / 101 – 102.

ص: 599

وهذا الكلام يدل على أن الذي يجري العمل هم علماء الترجيح، ولعل بذلك يفسر قول النابغة في شروطه إجراء العمل:

رابعها كون الذي أجرى العمل

أهلاً للاقتداء قولاً وعمل

ومع إنكار أبي بكر الطرطوشي للحجر على القاضي والمفتي وتقيده بمذهب أو بقول، خلص معتبراً ذلك جهلاً من أهل قرطبة، وقال:"لا يلزم واحداً ممن يعتزى إلى مذهب، تقليد ذلك في الحكم وألف توى "(1) .

- يجب التنبيه على أن العمل لا يجري إلا في مقابل قول: فإذا وجد قول واحد فلا يقال جرى به العمل، وقد نبه على ذلك شارح العمل المطلق في توجيه رد ابن عات في الطرر على ما في المتيطية من قولها: وجرى به القضاء قال في الطرد: وقوله: "وبالأول جرى خطأ "قال السجلماسي: وبيان وجه الخطأ والله أعلم أنه لا يقال في القول معمول به إلا في مقابلة قول أهمل ولم يؤخذ به. .. فلا يقال في القول الواحد جرى العمل به (2) . .

- العمل لا بد له من قول يعتمد عليه، فهو ترجيح من الخلاف وليس إنشاء لرأي جديد مستقل، لأن صاحبه ليس مجتهداً، ولهذا طعنوا في بعض المسائل التي جرى بها العمل، بأنها لا تستند إلى قول المذهب، وقد ردوها بذلك، فمن ذلك مسألة عقلة المدعى فيه بمجرد الدعوى التي جرى بها عمل فاس.

حيث قال سيدي عبد الرحمن الفاسي:

وكل مدع للاستحقاق

مكن من الإثبات بالإطلاق

من غير أن يشهد ذلك أحد

له فشرط ذاك ليس يعتمد

وقد رد هذا العمل أبو علي سيدي الحسن بن رحال قائلاً: إن هذا العمل لا مستند له، ولا يوجد قول في المذهب يوافقه، قال:"والعمل إنما يجري بقول وإن كان ضعيفاً".

وقالوا: إن مجرد الدعوى لا يعقل به مال أحد حتى ينضم إليه سبب شاهد عدل، أو مرجو تزكية ولطخ شهود غير عدول (3) .

(1) يراجع كلامه في نشر البنود: 2 / 332؛ ويراجع كتاب (فقه النوازل (للعلامة الشيخ بكر أبو زيد: 1 / 24.

(2)

السجلماسي: 2 / 102.

(3)

والكلام لابن فرحون في التبصرة: 1 / 179 بالمعنى.

ص: 600

وقد أشار السجلماسي إليه في نظم العمل المطلق حيث قال:

ومن أقام شاهداً أو أكثرا

غير عدول إن ذا العبد البرا

ملك له مكن مما يطلب

من وضع قيمة له ويذهب

به لبينته واللطخ في

ذا العهد عند أهل فاس منتفي (1)

وقد يجري العمل بقولين فيضطر للترجيح كمسألة من مكثت عاماً في بيت الزوجية، ويتصادقان على نفي المسيس فلها قيل: الصداق كاملاً، وقيل: لا بل نصفه، وبهما قد عملا والأول الأشهر.

- هل يعمل بالقول الضعيف الذي لم يصحبه عمل؟

أكثر العلماء يقول: إنه لا يجوز به العمل وحكى في نشر البنود الاتفاق على ذلك من أهل المذهب وغيرهم، خلافاً للقاضي (لعله الباقلاني فعند الإطلاق عند الأصوليين فهو الباقلاني، مع أنه في مراقي السعود قد يطلقه على القاضي عبد الوهاب البغدادي) إلا إذا كان العامل به مجتهداً مقيداً ورجح عنده الضعيف فيعمل به ويفتي ويحكم (2) ، وقد ذكر ذلك الهلالي في نور البصر، ونظمه النابغة في الطليحية في أداب الفتوى حيث قال:

ولم يجز تساهل في الفتوى

بل تمنع الفتوى لغير الأقوى

وكل من يكفيه أن يوافقا

قولاً ضعيفاً لم يجد موافقا

وكل عالم بذاك عرفا

عن الفتاوى والقضاء صرفا

إلا أن البناني والدسوقي ذكرا أن منع الفتوى بالضعيف إنما هو من باب سد الذرائع؛ فتجوز الفتوى به عند الضرورة، ويجوز أن يفتي صديقه بالضعيف لأنه يتحقق ضرورته (3) .

أما سيدي عبد الله في مراقي السعود فضبط مسألة الفتوى بالضعيف بقوله:

وذكر ما ضعف ليس للعمل

إذا ذاك عن وفاقهم قد انحظل

بل للترقي في مدارج السنا

ويحفظ المدرك من له اعتنا

ولمراعاة الخلاف المشتهر

أو المراعاة لكل ما سطر

وكونه يلجى إليه الضرر

إن كان لم يشتد فيه الخور

وثبت العزو وقد تحققا

ضراً من الضربه تعلقا

فالشروط أربعة: أن تلجئ إليه الضرورة، وأن لا يكون القول المعمول به ضعيفاً جداً، وأن تثبت نسبته إلى قائل يقتدى به علماً وورعاً، وأن تكون الضرورة محققة.

قال في الشرح: "ولذلك سدوا الذريعة، فقالوا: تمنع الفتوى بغير المشهور خوف أن لا تكون الضرورة محققة، لا لأجل أنه لا يعمل بالضعيف إذا تحققت الضرورة يوماً ما "وهو كلام البناني الذي نقله عن المسناوي (4) .

وقد اختلفت عبارات الشافعية فيما يتعلق بالقول الضعيف الذي يقابل الراجح، فقد قال الشبر ملسي في حاشيته على نهاية المحتاج:"وهو موافق في ذلك لقولهم للعمل بالراجح واجب فما اشتهر من أنه يجوز العمل لنفسه بالأوجه الضعيفة كمقابل للأصح غير صحيح".

وعلق عليه الرشيدي بقوله: "ففي فتاوى العلامة ابن حجر رحمه الله ونفعنا به ما ملخصه بعد كلام أسلفه، ثم مقتضى قول الروضة وإذا اختلف متبحران في مذهب لاختلافهما في قياس أصل أمامهما، ومن هنا تتولد وجوه الأصحاب، فنقول: بأيهما يأخذ العامل فيه ما في اختلاف المجتهدين. أي فيكون الأصح التخيير أنه يجوز تقليد الوجه الضعيف في العمل، ويؤيده إفتاء البلقيني بجواز تقليد ابن سريح في الدور وأن ذلك ينفع عند الله تعالى، ويؤيده أيضاً قول السبكي في فتاويه: يجوز تقليد الوجه الضعيف في الأمر نفسه بالنسبة للعمل في حق نفسه لا الفتوى والحكم، فقد نقل ابن الصلاح الإجماع على أنه يجوز) (5) . اهـ

(1) شرح نظم العمل المطلق: 1 / 270.

(2)

نشر البنود: 2 / 275.

(3)

الدسوقي، حاشية الدردير: 4 / 130.

(4)

البناني: 5 / 124.

(5)

1 / 47.

ص: 601

وقد مر عن الأحناف قول بعضهم: لا حيلة إلا العمل بالرواية الضعيفة ومنازعتهم في ذلك بقولهم: إن العمل بالقول الصحيح هو الواجب. لكن تقدم عنهم ترك قول الإمام إذا كانت فتوى الشيوخ على خلافه. ومثاله: "فإذا شرط على المزارع أو ربها الحصاد أو الدياس فسدت (المزارعة) من أيهما كان البذر في ظاهر الرواية، وفي النوازل جاز على قول الإمام الثاني رحمه الله تعالى: وعلى قول الثاني استقر الفتوى بين أئمة خوارزم. . إلى قوله: وجوزه مشايخ بلخ "(1) ، ومحل الشاهد أن عبارة استقرار الفتوى بين أئمة من خوارزم إنما هو نوع من إجراء العمل.

- فإن البحث العملي للاستفادة منها سيكون بثلاث طرق:

1 -

الطريق الأول:

بدراسة الفتاوى وتصنيفها إلى مجموعات بحسب معتمد الفتوى وطريقة الاستنباط، فعلى سبيل المثال يمكن تصنيف الفتاوى إلى ثلاثة نماذج، وذلك بحسب تصنيف المفتين:

- فتاوى تعتمد الينبوع الأصلي من الكتاب والسنة والقياس وأقوال الصحابة والتابعين وتمثل هذا النموذج فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث يعتمد اعتماداً واصباً على الكتاب والسنة وأقوال السلف، يصحح ويرجح ويحيي أقوالاً للصحابة والتابعين شبه مهجورة إذا ظهر له أنها أسعد بالدليل والقواعد، وهو لذلك يقرر أن الإجماع لا ينعقد بعد خلاف الصحابة، وهو مذهب أبي الخطاب والحنفية، خلافاً للقاضي وبعض الشافعية (2) .

وقد اختلف المالكية على قولين: أحدهما الباجي في الفصول اختار فيه، أن الإجماع بعد الخلاف يرفع الخلاف قائلاً:"فإن ذلك يكون إجماعاً تثبت الحجة به، هذا قول كثير من أصحابنا "وأنكر القول الثاني بقوة (3) .

أما أبو الحسن بن القصار، فقد مال إلى أن الخلاف باق بعد ذكر القولين، قائلاً في مقدمته في علم الأصول:"والجيد وهو الذي يختاره شيخنا أبو بكر بن صالح الأبهري رحمه الله أن الخلاف باقٍ "(4) .

وقد نبهت على هذا، لأن كثيراً من الناس يستشكل بعض فتاوى ابن تيمية حيث يدعي البعض انعقاد إجماع في محل الخلاف وهو موضوع يجب أن يحرر وتكاد فتاوى ابن تيمية تكون المجموعة الفريدة بعد عصر المجتهدين التي ارتفعت عن التقليد وسمت عن مجرد النقل عن الأئمة إلى مرتبة الاستنباط والتصرف في الأدلة تفصيلاً لمجمل وتأويلاً لمشكل وترجيحاً عند تعارض.

- النموذج الثاني من الفتاوى هو فتاوى مجتهدي المذهب والفتيا: وهذه الطبقة تعتمد مذهب إمامها لكنها ترجح في نطاق المذهب وفي بعض النوازل تستشهد بالكتاب والسنة تعضيداً لما تذهب إليه وتتصرف تصرف المجتهدين إلا أن الغالب على هذه الطبقة أنها لا تخرج عن المذهب ولكنها تختار وتستظهر وتضع القواعد وتقسم وتقيس وتخرج وتمثل هذه الطبقة فتاوى ابن رشد وهو يلجأ إلى ذلك غالباً في قضايا يلج فيها النزاع بين جمهرة العلماء، فترفع إليه أو يرد فيها على من انتقد قوله في مسألة.

أما النموذج الثالث:

فهو طبقة المقلدين لا ترتقي في استدلالها إلى نصوص الشارع، ولكنها تعتمد على روايات المذهب وأحياناً على أقوال المتأخرين وتخريجاتهم كفتاوى قاضيخانة من الأحناف وعليش من المالكية وغيرهما وهو النموذج الشائع الفاشي في القرون الماضية.

(1) فتاوى قاضيخان: 6/ 92 بحاشية الفتاوى الهندية.

(2)

شرح مختصر الروضة: 3 / 95.

(3)

كتاب الفصول، ص 425.

(4)

المقدمة، ص 159، تحقيق السليماني.

ص: 602

- إن هذا التصنيف سيكون مقدمة ضرورية للتعامل مع البحر المتلاطم من الأقوال والآراء التي تزخر بها فتاوى الطبقات الثلاث من المفتين للتعرف على ضوابط الفتوى بالنسبة لكل طبقة ومرجعيتها في الإفتاء.

مع أن الضوابط في مجملها لا يختلف عليها، فالمفتي يجب أن يكون عالماً ورعاً، كما قال في مراقي السعود:

وليس في فتواه مفت يتبع

إن لم يضف للدين والعلم الورع

ولكن الاختلاف في ماهية العلم المشترط في الفتوى، فالعلم بالنسبة للمجتهد هو علم بالكتاب والسنة كما قدمنا، وبالنسبة للمقلد علم بنصوص إمامه، وفي كلتا الحالتين عليه أن يكون ورعاً غير متساهل في الفتوى.

-آداب الفتيا:

قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: لاينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال: أولها: أن تكون له نية، فإن لم تكن له نية لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور.

الثانية: أن يكون له حلم ووقار وسكينة.

الثالثة: أن يكون قوياً على ما هو فيه وعلى معرفته.

الرابعة: الكفاية (أي من العيش) وإلا مضغه الناس.

الخامسة: معرفة الناس (1) .

-وأشار المقري إلى نصائح للمفتي تصلح أن تدرج في الضوابط:

إياك ومفهومات المدونة، فقد اختلف الناس في القول بمفهوم الكتاب والسنة، فما ظنك بكلام الناس .... إلى قوله

ولا تفتِ إلى بالنص إلا أن تكون عارفاً بوجوه التعليل، بصيراً بمعرفة الأشباه والنظائر، حاذقاً في بعض أصول الفقه وفروعه، إما مطلقاً أو على مذهب إمام من العدوة، ولا يغرك أن ترى نفسك أو يراك الناس حتى يجتمع لك ذلك والناس العلماء واحفظ الحديث تقو حجتك، والآثار يصلح رأيك والخلاف يتسع صدرك، واعرف العربية والأصول، وشفع المنقول بالمعقول والمعقول بالمنقول (2) .

والمراد من هذا أن الفتاوى التي تصدر عن فقهاء هذا الزمن، على أصحابها أن يصنفوها في إحدى الطبقات حتى يلتزموا بالضوابط الشرعية لكل طبقة، فعندما يقيس المفتي عليه أن يلتزم بشروط القياس، وعندما يقلد قولاً عليه أن يقلد القول الصحيح، وعندما يقلد الضعيف عليه أن يبين سبب ذلك.

إن فتاوى أهل زماننا بحاجة إلى التأصيل على ضوء أصول فتاوى الأولين. انطلاقاً من مجموع الضوابط والشروط التي وضعها العلماء، سواء في العصور الأولى لازدهار الاجتهاد، أو تلك التي وصلوا إليها للضرورة والحاجة، عندما أجازوا قضاء المقلد وفتواه بشرط أن يحكم بالراجح والمشهور وما عليه العمل بشروط، أو ما به الفتوى الذي يوازي عند غير المالكية العمل عند المالكية. كما أن الفتوى بالضعيف للضرورة التي ليست ضرورة بالمعنى الفقهي، وهي الأمر الذي إذا لم يرتكبه المضطر هلك أو قارب الهلاك، فهذه تبيح المحرم، ولا يحتاج إلى قول لتستند عليه. لكن الضرورة التي تعم الحاجة وهو تعبير مستفيض في كلام الفقهاء.

2-

الطريق الثاني:

هو البحث عن القواعد والضوابط والأسس التي أقام عليها المفتون أحاكمهم وفتاويهم في مختلف العصور، وهي قواعد تنير دروب تطبيق النصوص على الوقائع المتجددة، فقد كانت القواعد والمبادئ العامة خير معين على مقارعة صعاب النوازل، وتقويم اعوجاج ملتويات المسائل، وهذه القواعد تتعلق برفع الحرج: المشقة تجلب التيسير، والأمر إذا ضاق اتسع وجلب المصالح ودرء المفاسد ونفي الضرر وارتكاب أخف الضررين والنظر في المآلات، والعبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني، وسد الذرائع وتحكيم العرف، وتحقيق المناط، والإذن في العقود، وفي مدونات الفتاوى تطبيق حي للقواعد والضوابط على الواقعات نقتطف منه بعض الأمثلة:

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة، ولا يحرم ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه نصاً أو قياساً "(3) .

وقد قال الشاطبي: "إن الأصل في المعاملات الإباحة حتى يدل دليل على خلافه ".

(1) إعلام الموقعين: 4 / 199.

(2)

المعيار: 6 / 377.

(3)

الفتاوى: 29 / 132.

ص: 603

وسئل الشاطبي رحمه الله عن الاشتراك في الألبان وخلطها لإخراج الزبد والجبن فتختلف النسبة ويجهل التساوي، فقال: إنه لا يعرف فيه نصاً بعينه ولكنه أجازه لقوله تعالى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220] وذلك في شأن الأيتام واعتبر هذا النوع من الشركة من المخالطة رفعاً للحرج واغتفر للغرر اليسير والربا اليسير قائلاً: "وله نظائر في الشرع كبيع العارية بخرصها تمراً، أو رد القيراط على الدرهم في البيع "وبناها على الرفق ودفع الحرج (ولا حرج في الدين) .

وذلك ما في العتبية من سماع ابن القاسم عن مالك: "عن معاصر زيت الجلجلان والفجل، يأتي هذا بأرادب، وهذا بأخرى، حتى يجتمعوا فيه فيعصرون جميعها، فقال مالك) : إنما يكره هذا، لأن بعضه يخرج أكثر بعض، فإذا احتاج الناس إلى ذلك فأرجو أن يكون خفيفاً، لأن الناس لابد لهم مما يصلحهم والشيء الذي لا يجدون عنه بدًّا، فأرجو أن يكون لهم في ذلك سعة إن شاء الله – ولا أرى به بأساً. قال: والزيتون مثل ذلك ".

"قال ابن رشد: خففه للضرورة إلى ذلك، إذ لا يتأتى عصر اليسير من الجلجلان والفجل على حدة مراعاة لقول من يجيز التفاضل في ذلك من أهل العلم، قال: وهذا من نحو إجازتهم للناس خلط أذهابهم في الضرب بعد تصفيتها ومعرفة وزنها، فإذا خرجت من الضرب أخذ كل منهم على حسب ذهبه وأعطى الضراب أجرته "(1)

- إنها أمثلة لتطبيق قاعدة رفع الحرج، والتخفيف فيما يصلح الناس في مقابل المزابنة المحرمة بالنص، وقد ذكر ذلك في مقابل قاعدة الشك في التماثل كتحقيق التفاضل.

وفي جواب لسيدي محمد بن مرزوق في مسألة مقدار الدراهم اليسيرة التي يبيعها الحاضن هل هي دراهم شرعية أو من دراهمنا؟

فقال في جوابه: ولا يتوقف مع النصوص في هذا بل في اليسير والكثير إلى عرف الناس (2) .

وفي جواب للبرزلي في مسألة نكاح يتنازع في صحته، وقد وجه صحته قائلاً: لأن الأصل عدم التعدي والإقدام على المحرمات وإمضاء العقود وعدم التعرض لحلها إلا بالوجه المحقق، وأجراه على القاعدة المعلومة في العقود المحتملة للصحة والفساد فيها قولان، والمشهور إنها محمولة على الفساد، أو تحمل على الاختلاف في دعوى الصحة والفساد، والمشهور قول مدعي الصحة (3) .

كقول قاضيخانة: الرهن أمانة عند المرتهن كالوديعة فبكل فعل يغرم المودع يغرم المرتهن، لكن بالهلاك لا يغرم المودع ويسقط في الرهن.

وفي كل موضع لا يغرم المودع، كذلك المرتهن والوديعة لا يودع ولا يعار ولا يؤجر فكذا الرهن لا يرهن ولا يؤجر ولا يعار، وليس له أن يودع من ليس في عياله (4) .

(1) المعيار: 5 / 215 وما بعدها.

(2)

المعيار: 5 / 291.

(3)

المعيار: 4 / 336 وما بعدها.

(4)

بهامش الفتاوى الهندية:6 / 68.

ص: 604

3-

الطريق الثالث في سبيل الاستفادة من الفتاوى والعمل:

هو البحث عن بعض النوازل التي تشبه القضايا المعاصرة في وجه من الوجوه وصورة من الصور، فيطبق عليها أو يستأنس بها لإيجاد حل للقضية المعاصرة، ومن الواضح أن كل زمان يطرح قضاياه ونوازله، وبخاصة في زماننا الذي انمحت فيه الحدود وزالت فيه الحواجز، وغزت العالم الإسلامي في عقر داره أعراف العالم الآخر ونظمه وقوانينه، فنظمت المعاملات والمبادلات على أسس لا توافق في أحايين كثيرة الأسس الفقهية المعروفة، بيد أن الأمر ازداد تعقيداً بظهور المخترعات العلمية الحديثة التي قطرت معها قطاراً من المسائل، نشأت عن الحاجات التي أوجدتها لدى المجتمع، كتلك المتعلقة بالطب من زراعة الأعضاء ونقلها إلى الهندسة الوراثية (1)

ولهذا فإن الفتاوى والنوازل القديمة قد لا تجدي فتيلاً في حل المسائل المعاصرة التي يمكن أن تحل من خلال القواعد كما أسلفنا، ومع ذلك فإنه بإمعان النظر في كتب الفتاوى والعمل يستطيع المتوسم أن يعثر على فروع ومسائل تشبه تلك التي تطرحها المعاملات المعاصرة، ويبنغي التنبيه على أن دلالتها عليها قد لا تكون دلالة مطابقة، ومفهومها قد لا يكون مفهوم موافقة، بل أنها تدل عليها دلالة تضمن، أو التزام بوجه من الوجوه وشكل من الأشكال تنبئ عما رواء الأكمة بدون غوص في مضامينها، أو تعمق في محتواها، غير ملتزم بترجيح وجه من أوجه الخلاف، إذ أن المقصود إثارة الموضوع ليعلم أن له شواهد في النوازل تبيحه أو تحرمه، أو تحكي الخلاف فيه، وهو أمر سيتيح للفقيه عندما يعالج أيا من هذه النوازل سندا يستند إليه ليرجح من الخلاف على أساس من المرجحات، ويكفيه منقبة لهذا الخلاف أنه يرفع عن الباحث إصر مخالفة الإجماع،ويسلكه في مسلك الاتباع.

-من أسلم ذهباً إلى شخص في قمح وباع منه قمحاً بذهب إلى أجل:

فأجاب الفقيه ابن الحاج: إن ذلك جائز إذا كان في صفقتين، ولا يجوز إذا كان في صفقة واحدة، لأنه ذهب وطعام بذهب وطعام (2) .

- الموجد بأخذ الأجرة مقدماً لا يجب عليه دفع الزكاة إلا لما مضى من الزمان.

-مسألة التسالف بين الأحباس، وقول ابن حبيب في الواضحة: إن الأموال المرصودة في وجه من وجوه البر يمكن أن تصرف في أوجه أخرى من أوجهه. وهذا يوسع على هيئات الإغاثة لتبادل الاقتراض ومساعدة بعضها البعض.

-مسألة التضخم:

سئل فقهاء طليطلة عمن أوصى لرجل بسكة فحالت السكة إلى سكة أخرى، فشوور فيها فقهاء قرطبة، فأجابوا بوجوب الوصية في السكة الجارية يوم مات الموصي لا يوم أوصى، وأقاموها من مسألة الخيش والمسح والخريطة.

وذكر كلام المتيطي: لو اكترى داراً لكل شهر بكذا فاستحالت السكة وتمادى المكتري في السكنى حتى مضت مدة وكانت السكة التي استحالت إليها أحسن من القديمة التي عقد عليها الكراء، فهل يجب للمكري على المكتري من القديمة أو من الحديثة؟ فقال ابن سهل: له من السكة القديمة التي عقد عليها الكراء، كما لا حجة لبعض على بعض بغلاء أو رخص لا يحتمل النظر غير هذا، ولا يجوز على الأصول سواه (3) .

وفي قياس التضخم على الجائحة سئل شيخ الإسلام ابن تيمية:

عمن استأجر أرضاً فلم يأتها المطر المعتاد فتلف الزرع هل توضع الجائحة؟

فأجاب: أما إذا استأجر أرضاً للزرع فلم يأتِ المطر المعتاد فله الفسخ باتفاق العلماء، بل إن تعطلت بطلب الإجارة بلا فسخ في الأظهر.

وأما إذا نقصت المنفعة فإنه ينقص من الأجرة بقدر ما نقصت المنفعة نص على هذا الإمام أحمد بن حنبل وغيره فيقال: كم أجرة الأرض مع حصول الماء المعتاد؟ فيقال: ألف درهم ويقال كم أجرتها مع نقص المطر هذا النقص؟ فيقال: خمسمائة درهم، فيحط عن المستأجر نصف الأجرة المسماه، فإنه تلف بعض المنفعة المستحقة بالعقد قبل التمكن من استيفائها، فهو كما لو تلف بعض المبيع قبل التمكن من قبضه.

وكذلك لو أصاب الأرض جراد أو نار أو جائحة أتلف بعض الزرع؛ فإنه ينقص من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة (4) .

(1) يراجع كتاب فقه النوازل للعلامة الشيخ بكر أبو زيد، ففيه إنارة على بعض هذه القضايا.

(2)

المعيار: 6 / 162.

(3)

المعيار: 6 / 228 وما بعدها.

(4)

الفتاوى لابن تيمية: 3 / 257.

ص: 605

مسألة تغير السكة أو انقطاعها:

وأفتى ابن عتاب بقرطبة حين انقطعت سكة ابن جهور بدخول ابن عباد بسكة أخرى – أن يرجع في ذلك إلى قيمة السكة المقطوعة من الذهب ويأخذ صاحب الدين القيمة من الذهب، وكان أبو محمد بن دحون رحمه الله يفتي بالقيمة يوم القرض، ويقول: إنما أعطاها على العوض (1) .

- كان أبو عمر بن عبد البر يفتي فيمن اكترى داراً أو حمامًا بدراهم موضوفة جارية بين الناس حين العقد، ثم غيرت دراهم ذلك إلى أفضل منها أن يلزم المكتري النقد الثاني الجاري حين القضاء دون النقد الجاري حين العقد وخالفه الباجي.

وقد نزل ببلنسية حين غيرت دراهم السكة التي كانت ضربها (2) .

-وقال أبو حفص العطار: من لك عليه دراهم وقطعت ولم توجد فقيمتها من الذهب بما تساوي يوم الحكم.

وفي كتاب ابن سحنون: إذا أسقطت تتبعه بقيمة السلعة يوم قبضت، لأن الفلوس لا ثمن لها (3) .

- الإيجار المنتهي بالتمليك. وفي مسألة المكتري يبتاع الدار المكتراه ويشترط أن الكراء عنه محطوط.

سئل عنها فقهاء قرطبة:

أجاب عبد الله بن موسى الشارقي: بعدم الجواز لأنه ابتاع الدار والكراء الذي عليه بالثمن الذي دفع، فصار ذهباً وعرضاً بذهب وعرض. وإن باعه من غير المكتري بعد عقد الكراء فإن لم يعلم الأجنبي فهو عيب إن شاء رد وإن شاء أمسك، وإن علم به فلا رد له ولا حق له في الكراء مع البائع المكرى إلا أن يشترطه؛ وفصل تفصيلاً فيما يتعلق بالإيجار إن كان ذهباً أو ورقاً.

ابن الحاج: إن باع مع الكراء عرضاً، والثمن عيناً جاز للمشتري أخذه، ولو باعها من المكتري، فقال الشيخ أبو بكر بن عبد الرحمن وأبو عمر ابن الفاسي وأبو عمر بن عبد البر في الكافي: إن ذلك جائز، وهو فسخ لما تقدم من الكراء في قول أبي بكر، وفسخ لما بقي من المدة في قول أبي عمران، وقال في جواب ابن دحون والشارقي وابن الشقاق المتقدم الذكر وجواب هؤلاء: لا يدل على أن الكراء يفسخه الشراء.

وفي فتاوى المعيار: بيع الدار على أن يقبضها مشتريها بعد عشر سنين على مذهب ابن شهاب جائز.

(1) المعيار: 6 / 163.

(2)

6 / 164.

(3)

المعيار: 6 / 106.

ص: 606

وأما في القاعة: فيجوز إلى عشر سنين أو أكثر، لأنها مأمونة، وقد مر العمل هنا بجواز ذلك إلى عشرين وثلاثين سنة لأمنها.

وأما قسم القاعات بين مالكيها وتبقى كل قاعة تحت يد مكتريها إلى انقضاء المدة فيجوز ذلك، كما يجوز بيعها على أن لا يقبضها المشتري إلا إلى أمد بعيد، وقد سبق بيان ذلك.

- هذا باختصار وحذف من أجوبة أبي الفضل راشد بن أبي راشد الوليدي (1) .

- مسألة الاستصناع:

إجارة الصانع على أن مواد المصنوع عليه، ودون تحديد أجل، ودون دفع شيء مقدم، كما يدفع في السلم، العرف في هذه المسألة (التي ليست بسلم محض ولا بيع معين على ما نص علماء رضي الله عنهم وعنكم) ، كما في السؤال الذي ورد على الونشريسي فأجاب جواباً مطولاً.

- فقال ما مضمونه: إذا تواصفا السلعة وشرع في العمل يومئذ أو لأيام يسيرة جداً، فلا نزاع في الجواز، وسواء قدم النقد أو أخره على هذا المبيع المجتاز، لأنه بيع معين وأجارة صانع معين، واجتماعهما في صفقة واحدة وعقد واحد جائز سائغ لا خلل فيه ولا محذور، إلا على شذوذ من القول لا يلتفت إليه ولا يعول عليه عند الجمهور.

إلى قوله

قال في كتاب الجعل منها (المدونة) : "ولا بأس أن يؤاجر على بناء دارك هذه والجص والآجر من عنده، ولما تعارف الناس ما يدخلها وأمد فراغها كان عرفهم كذكر الصفة والأجل ".

- وأطال قائلاً

أنه قول مالك وابن القاسم مقيداً بأن يكون الأجير صاحب صنعة عمل الجص والآجر، فيصير تأخير النقد جائز كالاشتراء من الخباز ومن الجزار الدائمي العمل كل يوم خبزاً أو لحماً، والثمن معجل أو مؤخر إذا شرع في العمل.

وقال عن ابن رشد: "ولاشتهارها سميت بيعة المدينة ".

وختم بحثه بقوله: وقال ابن أبي منين في مسألة الجعل والإجارة: هذه مسألة لا يحملها القياس، وإنما هي استحسان واتباع، وقال سحنون: لا تحتملها الأصول. قال في التنبيهات، ومنعها عبد الملك في الثمانية (2) .

وقد بين بعد ذلك أحكام فلس الأجير أو موته وتأثير ذلك على الصفقة.

قلت: هذه المسألة التي لم يقدم فيها الثمن ولا المثمن، فلا هي بيع آجل ولا سلم عاجل ولا إجارة محضة ولا جعالة، من أهم سند في عقود الاستصناع الحديثة التي يكتفي فيها بالاتفاق والوصف وآجال التسليم عن دفع الثمن الذي قد يكون مقسطاً بحسب ما ينجز من أجزاء الصفقة، وهو أمر لا مانع منه، بل هو أولى في الجواز مما هو مذكور هنا.

- ومن ذلك مسألة استهلاك العين المنغمرة (الأدوية تكون فيها مادة الكحول مستهلكة) أجاب أبو الفرج في مسألة الجلود التي فيها الذهب تغزل فيها خيوطه تباع بالذهب، فأجاب: إنها تباع لأنها كالعورض لوجود الاستهلاك وعدم تيسره، وهذا الوصف يسقط عنه حكم العين، ويعدم منه حكم العلة الموجبة لحكم التحريم، وهي كونه ثمناً للمبيعات، ونظير هذا في أن الاستهلاك ينقل الحكم عن العين ما قالوه في لبن المرأة إذا خلطوه بطعام أو دواء واستهلك فيه، ثم أو شربه الصبي؛ أن لا حكم له في التحريم على الأصح الأظهر (3) .

- مسألة التطوع من المبتاع يرد المبيع إذا أحضر الثمن، وهو إقالة وصيفة من بيع الوفاء:

وجاز في رسوم الابتياع

كتب التطوع من المبتاع

لبائع بأنه التزم أن

يقبله متى أتاه بالثمن

واختير في ذاك كتاب مفرد

إذ هو عن ظن الفساد أبعد (4)

(1) 6 / 464.

(2)

المعيار للونشريسي: 6 / 233 – 236.

(3)

المعيار: 6 / 311.

(4)

العمل المطلق للسجلماسي.

ص: 607

* * *

الخاتمة

-وفي الختام؛ فقد أنجزنا هذا البحث بتوفيقه تعالى، وقد عرفنا فيه الفتوى التي هي إخبار عن الله تعالى بحكم شرعي في مقابل الحكم الذي هو إلزام بالحكم، وقد بينا فيه نسبة علم الفتيا والقضاء لعلم الفقه، فالمفتون هم خاصة الفقهاء، وهذا معنى كون علمها أخص من علم الفقه، وإلا فعلم الفتيا أعم، لكونه يشتمل على علم الفقه، ويزيد عليه بتنزيل الأحكام على الوقائع، وهو أمر يفترض علماً بالواقع وفهماً للعلاقة بين الحكم والواقع، وهي العلاقة التي ستكون الفتوى نتيجتها كإنتاج الشكل الأول من الأشكال الأربعة المنتجة إذا رتبت كبراه على صغراه، فمن لا يعرف أن الإنسان داخل في جنس الحيوان، وتلك هي الصغرى لا يستفيد من كون كل حيوان متغيراً وهي الكبرى، وذلك ما عناه الإمام ابن عرفة في تعريفه لعلمي القضاء والفتوى.

وقد تطرق البحث إلى الأدلة التي تعتمد عليها فتاوى المجتهدين استنباطاً من الأصلين، وفتاوى المقلدين اتباعاً للأولين.

ثم أوضحنا من هو المفتي، ودرجات المفتين من مجتهد مطلق على كل قيد، ومجتهد مقيد بقيد لمذهب والفتيا، ومقلد أخلد إلى أرض التقليد.

ثم عقدنا فصلاً عن العمل الفقهي القطري، وهو خصيصة من خصائص المذهب المالكي في الغرب الإسلام:(شمال إفريقية والأندلس) ، وقد عرفناه بأنه ترجيح قول ضعيف لمصلحة أو ضرورة من أهل الترجيح علماً وعملاً، ومن جملة ما أضفنا من المسائل والأقوال التي اشتملت على قيد أو شرط، يمكن أن نعتبر أن إجراء العمل والعدول عن الراجح والمشهور في المذهب، لسبب اقتضى ذلك من مصلحة أو ضرورة أو حاجة في زمان معين ومكان معين من أهل العلم، الذين يحق لهم الاختيار والترجيح والتخريج على أقوال الإمام وقواعد المذهب، وقد يكون العدول عن الراجح والمشهور لأرجحيته من حيث الدليل الأصلي، فهو وبهذا المعنى اجتهاد من المرجح، وقد مثلنا لذلك بمسألة الخلطة، ولم يسبق لأحد ممن كتب عن العمل أن اهتدى إلى هذا الملحظ، كما أبنّا شروط إجراء العمل الثلاثة أو الخمسة، وناقشنا بعضها لنصل إلى أن القول الضعيف قد يكون مرجعاً للفتوى، وأن منعه إنما هو سد للذريعة، وهو أمر لا يختص بالمالكية، بل نجده عند الأحناف في المفتى به وعند الشافعية ولو بغير ضرورة.

ص: 608

وفي الفصل الثالث: صورنا كيفية الاستفادة من النوازل والفتاوى في التطبيقات المعاصرة في ثلاث سبل هي: أولاً: الاستفادة من ضبط المنهج بعد استقراء نماذج الفتاوى التي ينبغي أن يحتذى بها على قدر اقتدار المفتي وملكته في الاستنباط، إذا كان متمكناً متبحراً أو عالماً متبصراً أو مقلداً مضطراً وعلى الراجح والمشهور مقتصر.

فمثال الشيخ تقي الدين بن تيمية للأول، وابن رشد الثاني، وكثير من الفقهاء الآخرين والمتأخرين للثالث، وفي كل خير، وفي اتباع كل بحسب الوسع والسعة منجاة إن شاء الله، إذا استرشدنا بنصائحهم، وقد ذكرنا بعض هذه النصائح، وعولنا على درء المفاسد وجلب المصالح.

أما الطريق الثاني: فهو استخراج القواعد والأسس والضوابط التي راجت في سوق الفتاوى، فكانت خير بضاعة وزاد لاجتياب مفاوز النوازل ومتاهات الفتاوى.

وفي الطريق الثالث: ذكرنا أمثلة من الفروع التي يصلح عليها التخريج لبعض القضايا المعاصرة، دون الخوض في التفاصيل، اكتفاء بالتنبيه والإشارة، دون توضيح العبارة، فلسنا في وارد إصدار الفتوى، ولكننا في مورد التنبيه والفحوى

ولعل فيما ذكرنا سداداً من عوز.

ونستغفره سبحانه وتعالى مما كتبت أقلامنا وأنتجته أفهامنا.

عبد الله الشيخ المحفوظ بن بيه

ص: 609