المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بيع الدين وسندات القرضوبدائلها الشرعية في مجال القطاع العام والخاصإعدادالدكتور سامي حسن حمود - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ١١

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الحادي عشر

- ‌بيع الدين والأوراق الماليةوبدائلها الشرعيةإعدادالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌أحكام التصرف في الديوندراسة فقهية مقارنةإعداد الدكتورعلي محيي الدين القره داغي

- ‌بيع الدينأحكامه – تطبيقاته المعاصرةإعدادأ. د نزيه كمال حماد

- ‌بيع الدينإعداد الدكتورعبد اللطيف محمود آل محمود

- ‌بيع الدين وسندات القرضوبدائلها الشرعيةفي مجال القطاع العام والخاصإعداد الدكتورمحمد علي القري بن عيد

- ‌بيع الدين وسندات القرضوبدائلها الشرعية في مجال القطاع العام والخاصإعدادالدكتور سامي حسن حمود

- ‌المضاربات في العملةوالوسائل المشروعة لتجنب أضرارها الاقتصاديةإعداد الدكتورأحمد محيي الدين أحمد

- ‌المضاربات على العملةماهيتها وآثارها وسبل مواجهتهامع تعقيب من منظور إسلاميإعداد الدكتورشوقي أحمد دنيا

- ‌عقود الصيانةوتكييفها الشرعيإعدادالشيخ محمد المختار السلامي

- ‌عقود الصيانةوتكييفها الشرعيإعدادالدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌عقود الصيانة وتكييفها الشرعيعقد الصيانةإعدادآية الله محمد على التسخيري – مرتضى الترابي

- ‌عقود الصيانةإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌عقود الصيانة وتكييفها الشرعيإعدادالدكتور محمد أنس الزرقاء

- ‌ضوابط الفتوىفي ضوء الكتاب والسنةومنهج السلف الصالحإعداد الدكتورعبد الوهاب بن لطف الديليمي

- ‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعداد الدكتوروهبة مصطفى الزحيلي

- ‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعداد الدكتورعبد الله الشيخ المحفوظ بن بيه

- ‌العمل الفقهيعند الإباضيةإعدادناصر بن سليمان بن سعيد السابعي

- ‌الإسلامفي مواجهة الحداثة الشاملةإعدادالدكتور ناصر الدين الأسد

- ‌مجمع الفقه الإسلامي الدوليووحدة الأمة الإسلاميةإعدادمحمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌الوحدة الإسلاميةمنهجية المقارنة بين المذاهب الفقهيةإعدادالدكتور عبد الستار أبو غدة

- ‌الوحدة الإسلاميةمعالمها وأعلامهاإعدادالأستاذ محمد واعظ زادة الخراساني

- ‌الوحدة الإسلامية{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}إعدادالشيخ عدنان عبد الله القطان

- ‌الوحدة الإسلاميةأدب الحوار وأخلاقيات البحثإعدادالدكتور سعيد بن عبد الله بن محمد العبري

- ‌‌‌الإسلام في مواجهة العلمنةإعدادالدكتور عمر عبد الله كامل

- ‌الإسلام في مواجهة العلمنةإعدادالدكتور عمر عبد الله كامل

- ‌الإسلام في مواجهة العلمنةموقف الإسلام من مسألة الحكم والسيادةإعدادآية الله الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الديمقراطية والعلمانيةوحقوق الإنسانالمرجعية الغربية والمرجعية الإسلاميةإعدادالأستاذ إبراهيم بشير الغويل

الفصل: ‌بيع الدين وسندات القرضوبدائلها الشرعية في مجال القطاع العام والخاصإعدادالدكتور سامي حسن حمود

‌بيع الدين وسندات القرض

وبدائلها الشرعية في مجال القطاع العام والخاص

إعداد

الدكتور سامي حسن حمود

نائب رئيس شعبة البنوك والتمويل الإسلامي

المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب

البنك الإسلامي للتنمية ـ جدة

ملاحظة: يعبر هذا البحث عن رأي كاتبه ولا يمثل بالضرورة رأي المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بحكم انتسابه إليه بالعمل فيه.

قبس من نور الكتاب المبين

يقول الله تعالى: { {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} .} صدق الله العظيم [النساء: 13 – 14] .

نفحة من نسمات الحديث النبوي

عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

((إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب))

[متفق عليه](1)

(1) انظر: الإمام النووي؛ رياض الصالحين، الطبعة الأولى بالترتيب الجديد (دمشق، المكتب الإسلامي، 1992) ، ص 267.

ص: 136

الفصل التمهيدي

في الديون والسندات والأدوات المستحدثة

أولا ـ تعريف الدين وبيان أسباب ثبوته:

الدين في اللغة ـ كما في المعجم الوسيط – القرض ذو الأجل (1) . أما في الاصطلاح فقد اختارت الموسوعة الفقهية الصادرة عن وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بالكويت ما قاله ابن نجيم بأن الدين: " لزوم حق في الذمة (2) . وهذا تعريف واسع يشمل الحقوق غير المالية مما يثبت بذمة المكلف. لذلك يهمنا تحديد المراد من الديون نطاق هذا البحث بأنه ما يكون مرتبطا بالحقوق المالية مثل الدين الناشئ عن قرض أو ثمن مبيع أو بدل إجازة أو إتلاف (3)

وقد أمر الله سبحانه وتعالى بكتابة الدين في آية هي الأطول في القرآن الكريم حيث ابتدأها بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوه

} [البقرة: 282] .

ويذكر المفسر الشيخ عبد الرحمن السعدي أن هذه الآية تدل على جواز المعاملات في الديون سواء كانت دين سلم أو شراء ما كان مؤجلا ثمنه (4) .

ويقتضي تحديد اصطلاح الفقه في تعريف الدين بأنه: " ما وجب من مال في ذمة المدين " أن يتعلق الدين بذمة المدين ولا يتعلق بشيء من أمواله، وذلك سواء كانت هذه الأموال مملوكة للمدين حتى ثبوت الدين أم كانت مما ملكه من أموال بعد ذلك ولا يكون وجود الدين مانعا له من التصرف فيما يملك (5) .

أسباب ثبوت الدين في الذمة:

الأصل في الإنسان أنه بريء الذمة، ولكن قد تشغل ذمته بأحد الأسباب الموجبة لاعتباره مدينا. وقد أرجعت الموسوعة الفقهية أسباب وجوب الدين في ذمة الإنسان إلى تسعة أسباب (6) وهى تقبل التقسيم عند التحقيق إلى ثلاث زمر:

أـ ديون تنشأ عن تعاقد، وذلك مثل الديون الناتجة عن ثمن الشراء ودين السلم والقرض والإجارة، والزواج والطلاق على مال والكفالة بالمال. وهذه هي ديون الالتزامات التعاقدية.

ب- ديون تنشأ عن الاستحقاق أو التصرف المنفرد؛ كالديون التي تستحق على العباد مثل الزكاة حيث يصبح المستحق من الزكاة دينًا في ذمة المكلف وكذلك الوقف والوصية في حدودهما الشرعية، وهذه هي ديون التصرفات.

ج ـ ديون تنشأ عن ضمان، مثل إتلاف ملك الغير والتفريط في حفظ الأمانة والوديعة والعارية، وهذه هي ديون الضمانات.

(1) انظر: المعجم الوسيط، الجزء الأول، الطبعة الثانية، كلمة دين.

(2)

انظر: الموسوعة الفقهية، الطبعة الثانية، الجزء الحادي والعشرون، مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، كلمة دين.

(3)

انظر: الموسوعة الفقهية، الطبعة الثانية، الجزء الحادي والعشرون، مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، كلمة دين.

(4)

انظر: عبد الرحمن بن ناصر السعدي؛ تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، = الطبعة الخامسة (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1997) ، ص 98.

(5)

انظر: الموسوعة الفقهية؛انظر: الموسوعة الفقهية، الطبعة الثانية، الجزء الحادي والعشرون، مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، كلمة دين. ص 106.

(6)

انظر: انظر: الموسوعة الفقهية، الطبعة الثانية، الجزء الحادي والعشرون، مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، كلمة دين.

ص: 137

وبذلك تنحصر أسباب ثبوت الديون في ذمة من يتحملها في أحد ثلاثة أسباب هى: التعاقد، الإرادة المنفردة، الضمان.

يتبين مما سبق أن ما يقبل الثبوت في الذمة من أموال إنما يرتبط بالسبب الموجب لذلك الثبوت. ففي حالة الشراء مثلا، فإن ما يثبت في الذمة هو ثمن الشيء المشترى، وهو غالبا من الأثمان كذا دينار أو كذا ريال، أما الدين الناشئ عن السلم فإن ما يثبت الذمة هو الشيء المسلم فيه مثل مائة طن من القمح أو ألف إردب من الأرز. أما القروض فقد تكون نقودًا، وقد تكون سلعا مثلية مما يقبل الإقراض كالقمح والشعير والأرز.

أما ديون ضمان المتلفات فإن الأصل أن يرد الشيء بمثله، فإذا تعذر رد الأصل فإنه يصار إلى البدل، والبدل هو في العادة قيمة الشيء.

وأما ديون المستحقات، فإنها تكون تابعة لموجب الاستحقاق، فالزكاة عن النقود مثلا تستحق نقودا.

ثانيًا – التمييز بين الديون والأعيان المالية:

أوضح الشيخ مصطفى الزرقاء عند تناوله مسألة التمييز بين الديون والأعيان المالية أنه يترتب على هذا التمييز نتائج هامة في الأحكام الفقهية العملية أهمها ما يلي:

1 – الديون أمور اعتبارية محلها الذمم وليس لها وجود خارجي، أما الأعيان المالية فهي أموال ذات وجود خارجي.

2 – الديون لا يكون محلها إلا مالا مثليًّا وذلك لأن المال المثلي هو الذي يقبل الثبوت في الذمة، وهناك أموال قيمية تنضبط بالوصف كالأقلام المصنعة آليًّا، فإنها تأخذ حكم المال المثلي. كما استثنى الفقهاء المهر في عقود النكاح حيث أجازوا أن يكون الدين فيه من الأموال القيمية.

3 – الديون الثابتة في الذمم لا تقبل القسمة إلا بعد أن تقبض، فلا يحق لأحد الشركاء في الدين المشترك أن يستأثر بما قبضه من الدين في مقابل حصته بل يكون لشركائه في الدين أن يقاسموه في المقبوض بحسب حصصهم.

4 – الديون في الذمم لا تعتبر محلا صالحا لعقود التمليك والمعاوضة.

5 – عقد الحوالة لا يجري إلا في الديون دون الأعيان لأن الأعيان إنما تستوفى بذواتها لا بأمثالها.

6 – الديون يجري فيها التقاص، وبذلك فإنها تقضى بأمثالها، أما الأعيان فلا تجري فيها المقاصة فإذا ثبت للمدين عند الدائن مثل ما للدائن عليه جنسا وصفة واستحقاقا تقع المقاصة حكما، وذلك بخلاف ما لو كان لشخصين عين مغصوبة لكل منهما عند الآخر وهما متماثلتان، فإن لكل منهما أن يطالب الآخر بالعين التي تخصه حيث لا تقع المقاصة بينهما.

7 – الإبراء إنما يتعلق بالديون ولا يتعلق بالأعيان وذلك لأن الإبراء إسقاط وملكية الأعيان لا تقبل ذلك.

8 – إن الدعوى بالعين لا تقام إلا على ذي اليد، أما الدعوى بالدين فإنها يمكن أن ترفع على غير المدين.

ص: 138

هذه هي مجمل خصائص الدين بالمنظور الفقهي الشامل حيث تتبين طبيعة هذا الالتزام، وأنه يمثل حقًّا شخصيًّا مرتبطا بذمة المدين، وأن هذا الحق محله الذمة.

ويعبر الفقه الإسلامي عن الدين غالبا بالتزام الملتزم بالنقود، أو ما في حكمها من الأشياء المثلية التي تثبت في الذمة من المكيلات أو الموزونات أو المزروعات أو العدديات المتقاربة (المادة 158 من مجلة الأحكام العدلية) .

ثالثا – سندات القرض وموقعها من الدين:

يعتبر سند القرض من الديون سواء كان قرضا حكوميًّا أو قرضا لشركة مساهمة من القطاع الخاص، ويتم إصدار السندات الحكومية المعاصرة بقيمة نقدية أي أنها اقتراض بالنقود.

وعندما تقترض الحكومة فإنها تفعل ذلك بموجب قانون ـ غالبًا ـ وهو يسمى قانون الدين العام، وتتخذ إصدارات الدين الحكومي صورة السندات المسجلة أو السندات لحاملها أو أذونات الخزينة (1) . ويكون لهذه السندات فوائد محددة النسبة وجوائزأحيانًا وتعتبرقيمة السندات وفوائدهاوجوائزها المستحقة دينًا ممتازًا على موجودات الحكومة وتسدد من إيراداتها العامة (2) .

وتسير معظم الحكومات في البلاد الإسلامية – مع الأسف العميق – على هذا المنهج في الاقتراض بسندات الفوائد حيث تعتبر هذه السندات أسرع وسيلة لتغطية عجز الموازنة الحكومية.

وقد استحدثت إحدى دول جنوب شرق آسيا وسيلة جديدة أسمتها (السندات الإسلامية الحكومية) وفقًا لقانون برلماني صادر تحت مسمى قانون الاستثمار الحكومي لسنة 1983 (3) ورغم صدور السندات بموجب قانون الاستثمار المشار إليه أعلاه، إلا أن الواقع الذي صرح به أحد المسؤولين بالبنك المركزي لتلك الدولة يشير صراحة أن هذه السندات هي اقتراض لصالح الحكومة على أساس القرض الحسن ظاهرًا، وذلك باعتبار أن أصحاب هذه الأموال لا ينتظرون أي عائد على قروضهم، ولكن تكفل الحكومة لهم إعادة رؤوس أموالهم عند الاستحقاق (4)

ويقول هذا المسؤول بأنه تم تشكيل لجنة تتضمن ممثلين من وحدة التخطيط الاقتصادي، وشعبة الشؤون الدينية برئاسة الوزراء، ومن وزارة المالية والبنك المركزي لتقديم المشورة للحكومة حول معدل العائد الذي يتم إعلانه فقط عند استحقاق السندات ومدتها سنة واحدة.

وكانت هذه الأرباح المعلنة قد تدرجت نسبتها من عام 1989 – 1995 م) من (5،5 % - 8،5 %)(5) .

أما سندات القطاع الخاص فإن أشهر ما هو معروف منها هو سند القرض الذي تخول معظم قوانين الشركات إصداره بقيود نظامية مفروضة على الشركات المساهمة وهى سندات قرض بفائدة غالبا.

فقد عرف قانون الشركات الأردني رقم (1) لسنة 1989 م إسناد القرض بأنها: " أوراق مالية ذات قيمة اسمية واحدة قابلة للتداول تصدرها الشركة المساهمة العامة، وتطرحها للاكتتاب العام أو الخاص وفقا لأحكام هذا القانون للحصول على قرض لا تقل مدته عن خمس سنوات، وتتعهد الشركة بموجب هذه الأسناد بسداد القرض وفوائد وفقا لشروط الإصدار ". (المادة 141) .

(1) انظر: قانون الدين العام لسنة 1971 – الأردن، المادة رقم 4.

(2)

انظر: قانون الدين العام لسنة 1971 – الأردن، المادة رقم 10.

(3)

انظر: ملتقى التجربة الماليزية في العمل المصرفي الإسلامي؛ كتاب مطبوع (الكويت: اللجنة الاستشارية العليا، 1996 م) ص 228.

(4)

انظر: ملتقى التجربة الماليزية في العمل المصرفي الإسلامي؛ كتاب مطبوع (الكويت: اللجنة الاستشارية العليا، 1996 م) ص 228.

(5)

انظر: ملتقى التجربة الماليزية في العمل المصرفي الإسلامي؛ كتاب مطبوع (الكويت: اللجنة الاستشارية العليا، 1996 م) ص 228.

ص: 139

أما قانون الشركات التجارية الكويتي رقم (15) لسنة 1960 م فإنه لم يورد تعريفًا ل سندات القرض بل أخذ ضمنا بما هو معروف عموما عن تلك السندات من حيث اعتبارها قرضا، وأنها تعطي الحق لمالكها في استيفاء فائدة محددة تدفع في آجال معينة (المادة 117) .

وكان القانون الكويتي أدق في التعبير من القانون الأردني عندما اعتبر أن الشركة المساهمة تقترض في مقابل إصدارات سندات (المادة 116) ، بينما قلب القانون الأردني الوضع المنطقي عندما نص على أن تصدر الشركة المساهمة إسنادًا تعرضها بطريق الاكتتاب للحصول على قرض (المادة 141) .

أما نظام الشركات السعودي الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م / 6) تاريخ 22/3/1385 هـ وتعديلاته، فقد نص على سندات القرض للشركات المساهمة، ولكنه تميز عن غيره من القوانين بإسقاط ذكر الفائدة، أو حتى الالتزام بأداء أي عائد في مقابل هذا الإقراض.

رابعًا – الأدوات التجارية المستحدثة للديون:

تنص غالب القوانين التجارية على أدوات مختلفة للديون منها السند لأمر Promissory note وسند السحب أو الكمبيالة Bill of Exchange. والفرق بين هاتين الأداتين أن الأداة الأولى تعهد يصدره الشخص على نفسه بأن يدفع إلى شخص معين أو لأمره مبلغًا من النقود في تاريخ معين ومكان محدد، بينما تكون الأداة الثانية أمرا من دفع يوجهه الساحب إلى المسحوب عليه ليدفع للساحب نفسه أو إلى طرف آخر أو لأمره مبلغا معينا من النقود في تاريخ معين ومكان محدد، ويحتاج هذا الأمر إلى العرض على المسحوب عليه ليكتب عليه عبارة مقبولة الدفع بتاريخ كذا حتى يصبح ملزمًا له.

وتحدد القوانين التجارية أحكام التعامل بهذه الأدوات سواء من حيث إنشائها وما يتطلبه ذلك من بيانات، وكذلك أحكام تداولها، وضمانتها وأحكام انقضاء الالتزام الثابت فيها (1) .

أما الشيك وهو الصك المحرر المسحوب على بنك بطلب دفع مبلغ معين من النقود لحامله أو لشخص مسمى أو لأمره، فإنه لا يعتبر من أدوات الديون بل هو أداة وفاء. والفرق بين الشيك والسند لأمر وسند السحب أن الشيك يحرر بتاريخ معين ليدفع فور الاطلاع عليه، وهذا ما نص عليه على سبيل المثال قانون التجارة الكويتي في المادة 532:

1 – أن يكون الشيك مستحق الوفاء بمجرد الاطلاع عليه وكل بيان مخالف للشيك يعتبر كأن لم يكن.

2 – وإذا قدم الشيك للوفاء اليوم البين فيه كتاريخ لإصداره وجب وفاؤه في يوم تقديمه.

لذلك فقد نصت المادة (518) من قانون التجارة المشار إليه على أن اشتراط فائدة في الشيك يعتبر كأن لم يكن. والسبب في ذلك هو أنه يفترض عدم وجود مدة ائتمان في الشيك حيث أنه يحرر ليدفع وتقبض قيمته، وذلك على خلاف السند لأمر أو سند السحب.

ذلك أن السند لأمر وسند السحب كلاهما يجرى تحريرهما بتاريخ معين هو تاريخ الإنشاء لتدفع القيمة في تاريخ آجل هو تاريخ الاستحقاق، أي أن هناك فارقًا زمنيًّا بين تاريخ الإنشاء وتاريخ الاستحقاق. ورغم ذلك فقد يخلو السند لأمر وسند السحب من تاريخ الاستحقاق، فيعتبر كل منهما في هذه الحالة مستحقا بالاطلاع (م 406) تجارى كويتي لسند السحب (الكمبيالة) و (م 507) تجارى كويتي للسند لأمر.

وقد استحدث البنك الإسلامي الماليزي ما أطلق عليه اسم الكمبيالات الإسلامية المقبولة (2)

Accepted Bills) ، وكذلك سندات السحب للصادرات (3) .

(1) انظر: على سبيل المثال: قانون التجارة الكويتي الصادر بالمرسوم رقم 86 لسنة 1960؛ الكتاب الثالث؛ الأوراق التجارية م 405 – م 554.

(2)

انظر: Islamic Banking Practice (K. L. Islamic Bank Malaysia) P.155 (Islamic

(3)

انظر: أحمد تاج الدين؛ محاضرة في كتاب مطبوع عن التجربة الماليزية؛ مرجع سابق، ص 113.

ص: 140

أما الشكل الأول فتطبيقها مبني على أن البنك الإسلامي الماليزي عندما يكون له دين على العميل، ويكون هذا الدين ناشئا عن مراجعة سابقة مع ذلك العميل، فإن البنك يحرر سند سحب (كمبيالة) بالقيمة ويتم قبولها من قبل المسحوب عليه بمبلغ يشمل أصل الدين، ويسمح البنك المركزي الماليزي لهذه الكمبيالة المسماة (الكمبيالة الإسلامية المقبولة) أن تتم المتاجرة فيها بالبيع والشراء في السوق الثانوية. والمتاجرة بالكمبيالة المذكورة في واقع الأمر هي بيع الكمبيالة وشراؤها بنقود حاضرة تقل عن القيمة الاسمية المحررة بها تبعا لزمن استحقاقها.

أما كمبيالة الصادرات فإنها عبارة عن سند السحب الذي يصدره العميل المصدر في ماليزيا على المستورد في الخارج لدفع قيمة البضائع المصدرة حيث يكون الدفع محددا بتاريخ آجل في المستقبل، فإذا صدر هذا السند وتم قبوله من المستورد، فإنه يصبح ورقة تجارية قابلة للتداول. فإذا كانت البضائع المصدرة واقعة ضمن نطاق ما هو مطلوب تشجيعه، فإن البنك الإسلامي الماليزي يبيع هذه الكمبيالة للبنك المركزي الماليزي بشروط تفضيلية (1) ، أي بسعر يتضمن هامش ربح مخصوم حسب الاصطلاح الماليزي لبيع الديون.

كما ظهرت في ماليزيا أيضا ولأول مرة منذ عام 1990 م أدوات الدين الخاصة الإسلامية Islamic Private Debt Instruments لتكون مصدرًا بديلًا وأداة إضافية للتمويل كما يقول السيد عون إسماعيل من البنك المركزي الماليزي في محاضرته بالكويت عن التجربة الماليزية (2) .

وقد تم تصوير إصدار هذه السندات في المحاضرة المشار إليها بشكل مبهم، ولكن مؤلف كتاب التمويل الإسلامي كان واضحا في الإفصاح عن طبيعة هذه الأدوات التي صدرت لصالح شركة (شل) الماليزية في يونيو عام 1990 م تحت الاسم المبين أعلاه باستحقاق لخمس وثماني سنوات، وبعائد (7،5 %) للاستحقاق الأول (7،75 %) للاستحقاق الثاني، ثم تبع ذلك في نفس العام في شهر ديسمبر إصدار أدوات من ذات النوع لصالح شركة شل في ساراواك (ماليزيا الشرقية) باستحقاقين أيضًا؛ أولهما بمقدار (240) مليون دولار ماليزي، والثاني بمقدار (320) مليون دولار ماليزي (3) .

كما قام المجلس الوطني للرهونات Cagmas Berhard بإصدار مشروع أسهم ديون الإسكان الماليزية أو سندات (كاجماس) للمضاربة وذلك – كما يقول المحاضر عون إسماعيل من البنك المركزي الماليزي – لتمويل ديون الإسكان الإسلامية والتي تبلغ (30 مليون رنجيث ماليزي) عن طريق المؤسسات التي زودت عملاءها وموظفيها بالتمويل الإسلامي (4) .

وفي ظل هذا المشروع يقوم (كاجماس) بشراء ديون الإسكان الموجودة والمتعاقد عليها في ظل مشروع العمل المصرفي الإسلامي حيث يصدر بدوره سندات (كاجماس) للمضاربة لتمويل هذا الشراء، ويتم التفاوض على شراء الديون حيث يتشارك كل من حملة السندات و (كاجماس) في الأرباح بناء على نسبة معين من المشاركة في الربح (5) .

ورغم هذا الوصف المعقد فإن العملية إذا كانت شراء موجودات مشاريع الإسكان بهدف المشاركة في الربح عند البيع، فإن العمل لا يعتبر من بيع الديون. أما إذا كانت القضية شراء الديون التي تمثل الثمن الآجل للمساكن ليتم هذا الشرط بنقد حاضر، فإن هذا هو ما يدخل ضمن نطاق البحث عن حكم بيع الديون في الفقه الإسلامي.

* * *

هذه هي المقدمة الاستعراضية في تعريف الدين وبيان أسباب ثبوته، وما يقبل الثبوت في الذمة من أموال مع التمييز بين الديون والأعيان، وبيان موقع سندات القرض من الدين، وأخيرًا بيان أدوات الدين التجارية المعاصرة والمستحدثات الورقية الجديدة تحت المسميات الإسلامية.

* * *

وبذلك فقد تضمن هذا الفصل التمهيدي بيان مختلف أشكال الديون سواء كانت ناشئة عن التزامات بما في ذلك الاقتراض أو مرتبة على مبايعات سابقة.

فهل يجوز مثل بيع هذه الديون، وما هي ضوابط هذا البيع وشروطه في الفقه الإسلام؟

جواب ذلك سيأتي إن شاء الله في القسم الأول من هذا البحث.

ثم إن هذه السندات ذات الفوائد والتي يظن البعض أن للقطاع العام كالحكومة ومؤسساتها وللقطاع الخاص كالشركات المساهمة حاجة بإصدارها، أليس هناك عنها غنى أو بديل يحل محلها بالحلال؟

وهل أصبح الفكر الإنساني عقيمًا فلا يقدم الأدوات التي تخضع للشرع وتحقق المقصود دون مواربة أو التواء؟

والجواب على ذلك هو أن البديل موجود، ولكن ما ينقصنا هو إرادة الخلاص من الحرام، والتوجه إلى ما هو أقوم وأطهر وأسلم.

(1) انظر: أحمد تاج الدين؛ دراسة بنك ماليزيا؛ مرجع سابق، ص 113.

(2)

انظر: التجربة الماليزية كما عرضت بالكويت؛ مرجع سابق، ص 229.

(3)

انظر: philip moore ، islamic finance ، page 193

(4)

انظر: ملتقى التجربة الماليزية؛ مرجع سابق، ص 231 – 232.

(5)

انظر: ملتقى التجربة الماليزية، ص231-232.

ص: 141

القسم الأول

أحكام بيع الديون في الفقه الإسلامي

تمهيد:

تتعلق أحكام بيع الديون في الفقه الإسلامي بتحديد مفهوم البيع، وبيان أقاسمه من حيث: المحل والشروط الخاصة بالمبيع؛ للوصول بالنتيجة إلى حكم المبيع إذا كان من الديون. وبيان ما يجوز بيعه من الديون وما لا يجوز.

الفصل الأول – تحديد مفهوم البيع وتقسيمه من حيث المحل

الفرع الأول – تحديد مفهوم البيع:

يطلق البيع على المبادلة بين شيئين، فمن يبيع يعطي شيئًا ليأخذ بدله شيئًا آخر، وهو من أسماء الأضداد، ولكن إذا أطلق لفظ البائع فالمتبادر للذهن أنه يراد بذلك باذل السلعة (1) .

أما في الاصطلاح الفقهي فقد اختارت مجلة الأحكام العدلية أن تعرف البيع بأنه: "مبادلة مال بمال ".

وقد أوضح شارح المجلة المرحوم علي حيدر بأن المراد من ذلك: " أن البيع هو تمليك مال مقابل مال على وجه مخصوص"، وأن هذا القيد يقصد به إخراج التبرع والهبة بشرط العوض (2) .

ويعرف المالكية البيع بأنه: " دفع عوض في معوض"(3)، وجاء في المقدمات لابن رشد (الجد) إن البيع:" نقل الملك عن عوض "(4) .

كما عرَّف الشافعية البيع بأنه: " مقابلة مال بمال على وجه مخصوص"(5)، وأورد القليوبي تعريفًا للبيع بقوله:" عقد معاوضة مالية تفيد ملك عين أو منفعة على التأبيد لا على وجه القربة"(6) .

أما الحنابلة فقد عرفوا البيع بأنه: "مبادلة مال – ولو في الذمة – أو منفعة مباحة بمثل أحدهما على التأبيد يغر ربا وقرض "(7) .

فالبيع مبني إذن على المبادلة وذلك على أساس المعاوضة حيث يقدم البائع شيئًا ليأخذ بدلاً عنه ما يماثله في نظره قيمة، وذلك على سبيل التراضي وبهدف التمليك والامتلاك القاطع. فالبائع يعطي السلعة والمشتري يقدم الثمن وهما يقصدان تمليك بعضهما البعض ما يقدمه كل منهما عن رضا وعن اختيار.

وبديهي أن المبادلة تعني المغايرة حيث لا يعطي الإنسان العاقل شيئًا ليأخذ مثل ما أعطى، وذلك لأنه لا يفيد من ذلك شيئًا إلا إذا كان هناك فارق نوع وجودة بين البدلين، وهنا يتدخل الشرع في حالة مبادلة الجنس بجنسه كالتمر بالتمر مثلًا، فيمنع زيادة أحد البدلين عن الآخر أو تأجيل تسليم أحدهما حيث يشترط في مثل هذا البيع أن يكون يدًا بيد ومثلاً بمثل.

(1) انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية؛ مرجع سابق؛ مادة (بيع) .

(2)

علي حيدر؛ درر الحكام شرح مجلة الأحكام؛ الكتاب الأول (بيروت: دار النهضة) ، ص 92.

(3)

انظر: الحطاب؛ مواهب الجليل لشرح مختصر خليل، الجزء الرابع، الطبعة الثانية (مصر: مطبعة السعادة، 1978) ، ص 222.

(4)

انظر: ابن رشد (الجد) المقدمات الممهدات (القاهرة: مطبعة السعادة) ، ص 186.

(5)

انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية، الجزء التاسع، ص 5.

(6)

انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية، الجزء التاسع، ص 5.

(7)

انظر: أحمد بن عبد الله القاري؛ مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد، الطبعة الأولى (جدة: تهامة، 1401هـ، ص 107 المادة رقم 161) .

ص: 142

ومن هنا يمكن للناظر فهم كلام الإمام الشافعي بأن الله – سبحانه وتعالى – قد ذكر البيع في غير موضع من كتابه الكريم بما يدل على إباحته فاحتمل أن يكون هناك معنيان:

أحدهما: أن يكون الله – سبحانه وتعالى – أحل كل بيع تبايعه المتبايعان جائزي الأمر فيما تبايعاه عن تراض منهما، وهذا أظهر معانيه.

والثاني: أن يكون الله – عز وجل – أحل البيع إذا كان مما لم ينه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم المبين عن الله – عز وجل – معنى ما أراد، فيكون هذا من الجمل التي أحكم الله فرضها بكتابه، وبين كيف هي على لسان نبيه أو من العام الذي أراد به الخاص. . . أو من العام الذي أباحه إلا ما حرم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ومنه وما في معناه. (1)

فأصل البيوع – كما يقول الإمام الشافعي – كلها مباح إذا كانت برضى المتبايعين الجائزي التصرف في الأمر فيما تبايعا إلا ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان في معنى ما نهى عنه. (2) .

فالبيع إذن هو مطلق المبادلة تمليكًا وامتلاكًا، ومحله هو ما يقع عليه التعاقد.

فما هي أقسام هذا المحل؟

الفرع الثاني – تقسيم البيع من حيث المحل:

ينقسم البيع من حيث محله أي الشيء المعقود عليه إلى أربعة أقسام، وذلك وفق ما بينته مجلة الأحكام العدلية في المواد 121 – 123، وهذه الأقسام هي:

أ- بيع المال بالثمن أي مبادلة المثمنات بالأثمان، وذلك مثل بيع السيارة بعشرة آلاف دولار، وهذا القسم هو أشهر أنواع البيوع وهو الذي يسمى بيعًا عند إطلاق الوصف (م 120) .

ب- بيع النقد بالنقد وهو المسمى بالصرف كما عرفته المادة 121) من مجلة الأحكام العدلية، ويخضع هذا البيع لأحكام الصرف من حيث اشتراط المماثلة عند اتحاد الجنس مع الفورية في تقابض البدلين (كالذهب بالذهب مثلاً) ، وكذلك اشتراط الفورية لتقابض البدلين فقط عند اختلاف الجنس (كالذهب بالفضة والدولار بالريال) .

ج – بيع العين بالعين وهذه هي المقايضة أي مبادلة المال بالمال من غير النقدين حسب تعريف المادة (122) .

د – بيع السلم وهو مبادلة آجل بعاجل أي بيع مؤجل بمعجل حسب تعريف المادة (123) .

ويدل هذا التقسيم أن البيع رغم أنه مباح في الجملة إلا ما يندرج تحته من أقسام إنما يخضع للشروط التي تخص كل عقد بحسب طبيعته.

فالتبادل في البيع المطلق يجيز مثلاً تعجيل الثمن أو تأجيله أو تقسيطه، أما في بيع السلم فإنه لا بد من تعجيل أداء رأس المال.

فإذا كانت الحالة بيع صرف؛ أي بيع نقد بنقد، فإنه يشترط هنا الفورية في تقابض البدلين إذا اختلفا جنسًا؛ كالذهب بالفضة، والدولار بالدينار. أما إذا اتحد الجنس كالدينار بالدينار والدولار بالدولار، فإنه يشترط قيام المماثلة مع فورية التقايض فلا تباع المائة دولار بتسعين ولا بمائة وعشرة.

فالقول بحل البيع إذن يعني جواز المعاملة، ولكن في حدود ما أحل الله ورسوله حيث يختلف حكم البيع باختلاف محله حسب التفصيل الذي سنبينه عند الكلام عن شروط المحل، وما يتفرع عن ذلك من تفريق بين بيع الدين للمدين، وبيعه لغير من هو عليه الدين.

(1) انظر الإمام الشافعي، كتاب الأم، المجلد الثالث، الجزء السادس، الطبعة الأولى (دمشق: دار قتيبة 1962) ، ص5-6.

(2)

انظر الإمام الشافعي، كتاب الأم، المجلد الثالث، الجزء السادس، الطبعة الأولى (دمشق: دار قتيبة 1962) ، ص5-6.

ص: 143

الفرع الثالث – الشروط الخاصة بالمبيع:

اشترط الفقهاء في المبيع، وهو محل التعاقد في عقد البيع؛ شروطًا متفاوتة، وقد أوجزت هذه الشروط الموسوعة الفقهية الكويتية في خمسة شروط عامة وأضافت لها شرطين خاصين (1) .

أما الشروط العامة فهي:

1-

أن يكون المبيع موجودًا حين العقد، فلا يصح بيع المعدوم باتفاق الفقهاء، ويستثنى من ذلك بيع السلم للنص عليه بالحديث النبوي المروي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم.

2-

أن يكون المبيع مالاً، فلا يباع ما ليس بمال.

3-

أن يكون المبيع مملوكًا فلا يجوز بيع ما ليس بمملوك للبائع سواء كان من الأموال العامة أو من أملاك الغير.

4-

أن يكون المبيع مقدور التسليم، فلا يجوز بيع ما ليس مقدورًا على تسليمه، ويدخل في هذا الاعتبار كون المبيع من الديون، فهل يستطيع المشتري انتزاع المبيع الذي هو دين من ذمة المدين انتزاعًا؟

5-

أن يكون المبيع معلومًا لكل من العاقدين، فلا يصح بيع المجهول جهالة تفضي إلى المنازعة.

أما الشرطان الخاصان فهما:

6-

شرط أضافه المالكية والشافعية تتعلق بطهارة المبيع، فلا يجوز بيع ما كان نجسًا.

7-

شرطان ذكرهما المالكية ويمكن إدراجهما في شرط واحد وهو أن لا يكون المبيع مما هو منهي عن بيعه كالكلب مثلاً، أو كون المبيع طعامًا لم يقبضه مالكه حتى يستطيع أن يبيعه.

(1) انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية؛ مرجع سابق، مادة بيع.

ص: 144

الفصل الثاني – الأحكام الفقهية في بيع الدين

تمهيد:

يختلف النظر الفقهي في بيع الدين بين حالة بيع الدين لمن هو عليه أو بيعه لغير من هو عليه. ويقرر الفقه الحنفي – كما يصور ذلك الشيخ مصطفى أحمد الزرقا – أن الدين هو وصف في الذمة. واختلف النظر الفقهي الحنفي من حيث اعتبار الدين ملكًا لصاحبه وهو في الذمة، حيث رجح الشيخ الزرقا النظر الأول باعتبار الدين ملكًا لصاحبه بدليل جواز هبة الدين للمدين وهي تمليك، وكذلك اعتبار الدين المشترك من قبيل شركة الملك (1) .

أما بالنسبة لاعتبار الدين مالاً، فيقول الشيخ الزرقا بأن الدين بالمعنى الاصطلاحي في نظر الفقه الحنفي لا يعتبر كذلك، إلا أن فقهاء الحنفية قد يصفون الدين بأنه مال حكمي – كما في الأشباه والنظائر لابن نجيم – حيث يقال: إن الدين عندهم هو مال من حيث المآل (2) .

أما بالنسبة للمفهوم الفقهي الأعم، فإن تعريف المال هو ما يمكن حيازته وإحرازه والانتفاع به انتفاعًا معتادًا (3) . ويقرر الشيخ بدران أبو العينين بدران ثبوت المالية للأشياء بتمول الناس لها أو بتمول بعضهم، كما أن الشيء نفسه قد يكون مالاً في حق البعض وهو ليس بمال في حق الآخرين، وذلك كالخمر والخنزير فإنها تعتبر أموالاً بالنسبة لغير المسلمين، وهي ليست أموالاً بالنسبة للمسلمين (4) .

(1) انظر: مصطفى الزرقا، المدخل الفقهي العام: 3 / 109، دمشق، مطابع ألف باء الأديب، 1968.

(2)

انظر: مصطفى الزرقا، المدخل الفقهي العام: 3 / 109، دمشق، مطابع ألف باء الأديب، 1968.

(3)

انظر: بدران أبو العينين بدران؛ الشريعة الإسلامية؛ تاريخها ونظرية الملكية والعقود، القاهرة، مؤسسة شباب الجامعة، ص 226.

(4)

انظر: بدران أبو العينين بدران؛ الشريعة الإسلامية؛ تاريخها ونظرية الملكية والعقود، القاهرة، مؤسسة شباب الجامعة، ص 287.

ص: 145

ويرى الشيخ علي الخفيف – رحمه الله – أن شرط الحيازة لا يحول دون اعتبار المنافع أموالاً حيث يعتبر الشافعية والمالكية والحنابلة المنافع أموالاً، وذلك لأن الإحراز ليس بلازم، بل يكفي أن يحاز الأصل الذي تتولد عنه المنفعة المقصودة (1) .

وقد أخذ القانون المدني الأردني المستمد من أحكام الفقه الإسلامي بمختلف مذاهبه بهذا المفهوم الواسع للمال حيث عرف المال بأنه: كل عين أو حق له قيمة مالية في التعامل (المادة رقم 53) وبذلك يعتبر مالاً كل ما كانت له قيمة مادية في تعامل الناس سواء كان من الأعيان أم من الحقوق المالية كالديون. وفصلت المادة (54) من القانون المدني الأردني لك الأمر بالقول: إن كل شيء يمكن حيازته ماديًّا أو معنويًّا والانتفاع به انتفاعًا مشروعًا ولا يخرج عن التعامل بطبيعته أو بحكم القانون يصح أن يكون محلاً للحقوق المالية.

وبناءً على ذلك فإن الديون بأنواعها – سواء كانت ديونًا تتضمن تعهدًا بأداء مبلغ معين من النقود في تاريخ محدد أو تسليم كمية من الحبوب معينة الوصف والقدر – فإن هذه الديون جميعًا تصلح أن تكون محلاً للتصرف فيها.

وقد مرَّ آنفًا ما نقلناه عن الأستاذ الشيخ مصطفى الزرقا من ناحية ما يقرره الفقه الحنفي في جواز هبة الدين للمدين رغم أن الهبة تمليك، وكذلك اعتبار الدين المشترك من قبيل شركة الملك.

وبذلك فإنه تكاد تتلاشى الأهمية النسبية للتفريق بين الرأي الحنفي وغيره من المذاهب الفقهية حيث تصبح الديون في النتيجة كأنها أموال وهي تعامل على هذا الأساس.

فهل يصح بيع هذه الأموال وهي ديون في الذمة؟

للجواب على ذلك فإنه يحسن التفريق بين حالتين هما:

1-

بيع الدين لمن هو عليه الدين أي للمدين.

2-

بيع الدين لغير من هو عليه.

الفرع الأول – بيع الدين لمن هو عليه:

يتفق الفقه الإسلامي عمومًا على جواز بيع الدين ممن هو عليه وهبته والمصالحة عليه بالأقل.

يقول الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي بأن جمهور الفقهاء أئمة المذاهب الأربعة أجازوا بيع الدين لمن هوعليه الدين وكذلك هبته له؛ لأن المانع من صحة بيع الدين هو العجز عن التسليم، وليست هنا حاجة إليه حيث إن ما في ذمة المدين مسلم إليه من الأساس (2) . ولم يخرج عن هذا المنهج المنطقي عدا ابن حزم حيث منع ذلك لأنه بيع مجهول، وأنه بيع ما لا يدري عينه وأنه من باب أكل المال بالباطل (3) .

(1) انظر: علي الخفيف، أحكم المعاملات الشرعية، البحرين، بنك البركة الإسلامي، ص 226.

(2)

انظر: وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته: 4 / 433، دمشق، دار الفكر.

(3)

انظر: ابن حزم، المحلى، 8 / 504، بيروت، دار الفكر.

ص: 146

فعندما يكون الدين مبلغًا من النقود فإن البيع بالأقل هنا هو إبراء. فإذا قال الدائن لمدينه: أبيعك المائة ريال التي لي عليك بثمانين ريالاً، فإنما هو في الحقيقة يبرئ ذمة المدين من عشرين ريالاً، وإذا كان الدائن يملك المسامحة في كل ما له من الديون، فإن المسامحة بجزء من الدين تجوز من باب أولى.

وكذلك لو كان لزيد على عمرو دينًا من السمسم مثلاً من غير السلم كمائة أردب مثلاً، فإنه يمكن أن يبيع السمسم إلى عمرو بسعر السوق دون الحاجة للاستلام والتسليم باعتبار أن السمسم متعلق أصلاً بذمة عمرو.

ومن قبيل ذلك المصارفة في الذمة كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حينما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعه الإبل بالدراهم واقتضائه الثمن بالدنانير، وكذلك العكس حيث قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لا بأس أن تبيعها بسعر يومها ما لم تفرقا وبينكما شيء)) (1) .

فهذه المصارفة هي بيع لجنسين مختلفين، والثمن نقد حاضر والمبيع دين في الذمة، وقد أدى المدين الثمن للدائن بسعر الصرف في ذلك اليوم.

ويفيد تقييد البيع بين الدائن والمدين بالأقل إبعاد عنصر الربا وإدخال مفهوم الإبراء والإسقاط، إذ لو سمح ببيع الدين بالأكثر لكان ذلك هو الربا.

فالدين يمكن أن يباع لمن هو عليه (أي للمدين) إذا كان بالمثل، أو بالأقل على سبيل المصالحة في كل حال.

الفرع الثاني – بيع الدين لغير من هو عليه:

اختلفت الآراء الفقهية في موضوع بيع الدين لغير من هو عليه اختلافًا واسعًا، وهو ما يتطلب تفحص المسألة بشكل دقيق.

فقد عرضت الموسوعة الفقهية الكويتية موضوع اختلاف الفقهاء في حكم تمليك الدين لغير من هو عليه، حيث أوردت في ذلك أربعة أقوال هي (2) :

أولها – رواية عن أحمد ووجه عند الشافعية، وهو أنه يجوز تمليك الدين من غير من عليه الدين بعوض وبغير عوض.

(1) انظر: البيهقي، السنن الكبرى: 5 / 284، حيدر آباد الدكن، بالهند، دائرة المعارف النظامية، 1344هـ.

(2)

انظر: الموسوعة الفقهية، مرجع سابق، ص 59.

ص: 147

الثاني – قول الحنفية والحنابلة ورأي للشافعية في الأظهر، أنه لا يصح تمليك الدين لغير من هو عليه سواء كان بعوض أم بغير عوض (1) كأن يقول شخص لآخر: وهبتك الدين الذي لي على فلان فيقبل، ويقول له: اشتريت منك كذا بمالي من دين على فلان فيقبل أو يقول له: أستأجرت منك كذا بالدين الثابت لي في ذمة فلان فيقبل، "فهذا كله غير جائز لأن الواهب أو المشتري أو المستأجر يهب أو يبيع ما ليس فيه يده، ولا له من السلطة شرعًا ما يمكنه من قبضه منه، فكان بيعًا لشيء لا يقدر على تسليمه إذ ربما ضيعه المدين أو جحده، وذلك غرر فلا يجوز "(2) .

الثالث – "قول للشافعية – صححه كثير من أئمتهم كالشيرازي في المهذب والنووي في زوائد الروضة، واختاره السبكي وأفتى به زكريا الأنصاري وغيره، وهو أنه يجوز بيع سائر الديون – عدا دين السلم لغير من عليه الدين، كما يجوز بيعها للمدين ولا فرق، وذلك إذا كان الدين حالاً والمدين مقرًّا مليئًا، أو عليه بينة لا كلفة في إقامتها، وذلك لانتفاء الغرر الناشيء عن عدم قدرة الدائن على تسليم الدين إليه "(3) .

ثم أضافت الموسوعة قيدًا هامًا وإن كان يحتاج إلى توضيح وهو قولها: " وكما اشترط التقابض في المجلس في بيع الدين للمدين إذا كان مما لا يباع به نسيئة – كالربويات ببضعها -، فإنه يشترط كذلك في بيع الدين لغير من هو عليه "(4) .

الرابع – رأي الماليكة: وهو أنه يجوز بيع الدين لغير المدين بشروط تباعد بينه وبين الغرر، وتنفي عنه سائر المحظورات الأخرى، حيث أوردت الموسوعة ثمانية شروط أهمها بالنسبة لموضوع البحث منع بيع الدين بجنسه مع اشتراط التساوي إذا كان بجنسه.

وقد أوضح الشيخ السيد سابق أن بيع الدين لغير من هو عليه لا يصح عند الأحناف والحنابلة والظاهرية؛ بسبب أن البائع لا يقدر على تسليم المبيع. فإذا شرط على المدين التسليم فإن البيع لا يصح كذلك لأن فيه شرطًا بالتسليم على غير البائع فيكون شرطًا فاسدًا يفسد به البيع (5) .

(1) انظر: الموسوعة الفقهية: 21 / 131.

(2)

انظر: الموسوعة الفقهية

(3)

انظر: الموسوعة الفقهية؛ المرجع السابق، ص 130.

(4)

انظر: الموسوعة الفقهية: 21 / 130.

(5)

انظر: السيد سابق، فقه السنة: 13 / 63، جدة 1984 م.

ص: 148

أما الظاهرية: فقولهم معروف حيث إنهم لم يجيزوا بيع الدين للمدين من الأساس لأنه بيع مجهول، وأنه بيع ما لا يدري عينه، وأنه من باب أكل المال بالباطل – كما سبق بيان ذلك.

وأما الحنفية: فإنهم يرون هذا البيع أنه بيع لا قدرة فيه على التسليم إذ المال عندهم وهو دين إنما هو مال حكمي في الذمة، وأنه ليس في مقدور البائع أن يسلم ما لا يملكه. فإذا شرط التسليم على المدين فإن البيع يفسد من جهة الشرط، وذلك لأن البائع يشترط على غيره (1) .

كما فصل الأستاذ العلامة الصديق محمد الأمين الضرير الرأي المالكي في جواز بيع الدين لغير من هو عليه بشكل جلي وواضح. فقد بيَّن فضيلته أن المالكية قد وضعوا لهذا البيع شروطًا تباعد بينه وبين الغرر وأي محظور آخر ممنوع في الشرع، وقد ذكر من هذه الشروط ما يلي:

1-

أن يكون المدين حاضرًا في البلد، ليعلم حاله من فقر أو غنى؛ لأن عوض الدين يختلف باختلاف حال المدين.

2-

أن يكون المدين مقرًّا بالدين، فإن كان المدين ميتًا أو غائبًا عن البلد أو حاضرًا في البلد ولكنه لم يقر بالدين، فلا يجوز بيع دينه ولو ثبت ذلك الدين بالبينة حسمًا للنزاعات.

3-

أن يكون المدين ممن تأخذه الأحكام، وذلك حتى يمكن تخليص الدين منه إذا امتنع.

ثم أورد فضيلة العلامة الشيخ الصديق في حاشية نفس الصفحة باقي الشروط في بيع الدين لغير من هو عليه وهي الشروط الأهم والأدق، ولاسيما الأول منها حيث أضاف ما يلي:(2)

4-

أن يباع الدين بغير جنسه، أو بجنسه بشرط المماثلة (إذا كان من جنسه) .

5-

ألا يكون ذهبًا بفضة، أو فضة بذهب.

6-

ألا يكون بين المشتري والمدين عداوة.

7-

أن يكون الدين مما يجوز بيعه قبل القبض.

وينتهي العلامة الشيخ من ذلك كله إلى جواز بيع الدين مطلقًا سواء كان البيع للمدين أم لغير من هو عليه بنقد أو بدين ما دام البيع خاليًا من الربا (3) . وهو يعلل لذلك أنه لم يرد نص يعتمد عليه في منع أية صورة من هذه الصور، وأن دعوى عدم القدرة على التسليم (التي يقول بها الفقه الحنفي) – غير مسلمة بسبب أن الكلام هو في دين معترف به.

(1) انظر: السيد سابق، فقه السنة: 13 / 63، جدة 1984 م.

(2)

انظر: الصديق محمد الأمين الضرير، الغرر وأثره في العقود، البحرين، بنك البركة الإسلامي، 1984م، ص 334.

(3)

انظر: الصديق محمد الأمين الضرير، الغرر وأثره في العقود، البحرين، بنك البركة الإسلامي، 1984م، ص 335.

ص: 149

ويستطرد فضيلته بالقول: " إن بيع الدين قد تدعو الحاجة إليه وفيه مصلحة ظاهرة للمتعاقدين فلا يصح التضييق عليهم بمنعه"، وينتهي من ذلك إلى القول بأن دعوى الإجماع على منع الدين بالدين ليست مسلمة، بدليل ما جوزه بعض المالكية في بعض صوره إلى أن يقول فضيلته:" ولعل الصورة المجمع على منعها في بيع الدين بالدين هي ما كان فيه الدين من الأموال الربوية "(1) .

وأما بالنسبة للمذهب الشافعي فقد عرض الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي للمسألة في كتابه الجامع عن الفقه الإسلامي وأدلته حيث بين أن الشافعية يجوزون في الأظهر عندهم بيع الدين المستقر للمدين ولغير المدين قبل القبض (2) . وكان المأمول أن يفصل فضيلة الأستاذ وهبة هذا النقل الموجز بمثل ما فعلت الموسوعة الفقهية الكويتية على الأقل.

فقد بينت الموسوعة أنه كما يشترط التقابض في المجلس في بيع الدين للمدين إذا كان بما لا يباع به نسيئة – كالربويات ببعضها – فإنه يشترط كذلك في بيع الدين لغير من هو عليه (3) أي أن الموسوعة ترى أن الشافعية يطبقون على بيع الدين لغير من هو عليه أحكام التعامل بالأصناف الربوية، فالنقود ببعضها يشترط فيها التماثل عند اتحاد الجنس مع التقابض الفوري، أو التقابض الفوري دون مماثلة عند اختلاف الجنسين.

وإن هذا الرأي الذي تنقله الموسوعة الفقهية عن الشافعية هو ما يؤيده واقع القول في أمهات كتب الفقه الشافعي، وهو الأمر الذي كان يحتاج إلى التوضيح والبيان منعًا للالتباس ودفعًا للإيهام.

فقد أورد أبو إسحاق الفيروزآبادي الشيرازي في كتابه المهذب في فقه الإمام الشافعي هذه المسائل المتعلقة ببيع الديون وفصلها بقوله – رحمه الله تعالى كما يلي:

" ولا يجوز بيع ما لم يستقر ملكه كبيع الأعيان المملوكة بالبيع والإجارة والصداق وما أشبهها من المعوضات قبل القبض. . . وأما الديون فينظر فيها، فإن كان الملك عليها مستقرًا كغرامة المتلف وبدل القرض جاز بيعه ممن عليه قبل القبض؛ لأن ملكه مستقر عليه فجاز بيعه كالمبيع بعد القبض، وهل يجوز من غيره فيه وجهان:

أحدهما: يجوز لأن ما جاز بيعه ممن هو عليه جاز بيعه من غيره كالوديعة.

الثاني: لا يجوز لأنه لا يقدر على تسلميه، لأنه ربما منعه أو جحده وذلك غرر لا حاجة به إليه فلم يجز.

والأول أظهر؛ لأن الظاهر أنه يقدر على تسليمه إليه من غير منع ولا جحود (4) . أما إذا كان الدين غير مستقر كالسلم مثلاً؛ فإنه لا يجوز بيعه " (5) .

(1) انظر: الصديق محمد الأمين الضرير، الغرر وأثره في العقود، ص 335.

(2)

انظر: وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته: 4 / 434؛ مرجع سابق.

(3)

انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية؛ المرجع السابق، ص 132.

(4)

انظر: محمد بن علي الفيروز آبادي الشيرازي، المهذب في فقه الإمام الشافعي: 1 / 262 – 263، جاكارتا، شركة نور الثقافة الإسلامية، ص 262 – 263.

(5)

انظر: محمد بن علي الفيروز آبادي الشيرازي، المهذب في فقه الإمام الشافعي: 1 / 262 – 263، جاكارتا، شركة نور الثقافة الإسلامية، ص 262 – 263.

ص: 150

واستطرد صاحب المهذب في تفصيل المسألة عندما يكون المبيع ثمنًا حيث طبق عليه قواعد الصرف مستدلاً في ذلك بحديث عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – حيث نقله بلفظ: كنت أبيع الإبل بالبقيع بالدنانير فآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم فآخذ الدنانير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لا بأس ما لم تتفرقا وبينكما شيء)) ، وروى المزني في جامعه الكبير أنه لا يجوز لأن الملك غير مستقر (1) .

وقد بين الإمام محيي الدين بين شرف النووي موضوع بيع الدين لغير من هو عليه نقلاً عن الإمام الرافعي، فأوضح أن بيع الدين لغير من هو عليه مقصود به المغايرة في البدل، مثل من له على رجل مائة فاشترى من آخر عبدًا بتلك المائة، حيث قال: إن في صحة ذلك قولين (2) .

ويستدل من هذه النقول بكل وضوح أن الشافعية في مسألة بيع الدين لغير من هو عليه الدين لا يختلفون عن المالكية من ناحية الحرص على عدم الوقوع في الربا، وذلك بدليل التصريح بالمغايرة في البيع إما صرفًا كالذهب بالفضة أو الفضة بالذهب – كما في حديث عبد الله بن عمر السابق بيانه – أو بيعًا في مبادلة العبد بالمائة كما في كتاب المجموع. وإن هذا الاستدلال مؤيد بالشروح الوافية في أكثر من مؤلف من مؤلفات الفقه الشافعي.

يقول الإمام النووي في كتاب روضة الطالبين وعمدة المفتين: إنه إذا باع الرجل مالاً بمال فله حالان:

أحدهما: أن لا يكونا ربويين.

والثاني: أن يكونا.

" فالحال الأول: يشمل ما إذا لم يكن فيهما ربوي وما إذا كان أحدهما ربويًّا، وعلى التقديرين في هذا الحال لا تجب رعاية التماثل ولا الحلول ولا التقابض في المجلس سواء اتفق الجنس أو اختلف حتى لو باع حيوانًا بحيوانين من جنسه أو أسلم ثوبًا في ثوبين من جنسه جاز.

وأما الحال الثاني: فتارة يكونان ربويين بعلتين (الثمنية والطعم) ، وتارة بعلة (الثمنية مثلاً أو الطعم) فإن كانا بعلتين مثل أن يسلم أحد النقدين في الحنطة أو يبيع الحنطة بالذهب أو بالفضة، نقدًا أو نسيئة، فإن ذلك يجوز حيث لا تشترط المماثلة ولا التقابض ولا الحلول.

وإن كانا بعلة واحدة، فإن اتحد الجنس بأن باع الذهب بالذهب والحنطة بالحنطة، ثبتت أحكام الربا الثلاثة فتجب رعاية التماثل والحلول والتقابض في المجلس.

وإن اختلف الجنس، كالحنطة بالشعير والذهب بالفضة لم تعتبر المماثلة، ويعتبر الحلول والتقابض في المجلس" (3) .

وإن هذا الكلام الذي يورده الإمام النووي واضح تمامًا في تطبيق أحكام الصرف حيثما توافرت علة الربا.

كما يفصل الإمام الماوردي المسألة بنفس المفهوم عن الصرف حيث يقول بأن الصرف إنما يختص ببيع الذهب بالفضة أو الفضة بالفضة والذهب بالذهب، وشروط الصرف التي لا يتم إلا بها ثلاثة لازمة ورابع يختلف باختلاف الصرف.

(1) انظر: محمد بن علي الفيروز آبادي الشيرازي، المهذب في فقه الإمام الشافعي: 1 / 262 – 263، جاكارتا، شركة نور الثقافة الإسلامية، ص 262 – 263.

(2)

انظر: محيي الدين بن شرف النووي؛ كتاب المجموع شرح المذهب، تحقيق محمد نجيب المطيعي: 9 / 332، جدة، مكتبة الإرشاد.

(3)

انظر: النووي، روضة الطالبين: 3 / 380، الطبعة الثالثة، دمشق، المكتب الإسلامي، 1991م.

ص: 151

" أما الثلاثة اللازمة:

فأحدها: إطلاق العقد من غير أجل مشروط فيه.

والشرط الثاني: أن يعقد ناجزًا من غير خيار مشروط فيه.

والشرط الثالث: التقابض قبل الافتراق، فإن تفرقا قبل القبض كان باطلاً.

فهذه الشروط اللازمة.

وأما الشرط الرابع: وهو المماثلة، فإن كان الجنس واحدًا كانت المماثلة شرطًا معتبرًا، وإن اختلف الجنسان لم يكن شرطًا معتبرًا (1) .

ويمضي الإمام الماوردي – رحمه الله – في تفصيل المسألة بقوله: ثم الصرف ينقسم أقسامًا أربعة:

القسم الأول: جنس بمثله كالفضة بالفضة والذهب بالذهب، وجنس بغيره كالفضة بالذهب فهذا يصح بشروطه المعتبرة فيه.

والقسم الثاني: بيع دين بدين وهذا باطل للنهي عنه؛ كرجل باع دارهم له على زيد دينًا بدنانير أو بدراهم للمشتري على عمرو دينًا.

والقسم الثالث: بيع عين بدين وهذا باطل، وهو الصرف الآجل.

والقسم الرابع: (وهذا هو موضع الاعتبار) بيع دين بعين، كرجل له على رجل ألف درهم يبيعها عليه بمائة دينار يأخذها منه عينًا، فإن كان الدين حالاً صح لحديث عبد الله بن عمر، وإن كان مؤجلاً لم يصح؛ لأن المؤجل لا يملك المطالبة به فلم تجز المعاوضة عليه" (2) .

(1) انظر: علي بن محمد بن حبيب الماوردي، الحاوي الكبير: 5 / 147، الطبعة الأولى، بيروت، دار الكتب العلمية، 1994م.

(2)

انظر: علي بن محمد بن حبيب الماوردي، الحاوي الكبير: 5 / 147، الطبعة الأولى، بيروت، دار الكتب العلمية، 1994م.

ص: 152

وبما أن بيع الديون في الأوراق التجارية التي مرت معنا في الأدوات المستحدثة بالاسم الإسلامي تحت مسمى الكمبيالات الإسلامية المقبولة (Islamic Accepted Bills) هي دين محرر بالنقد الوطني (للكمبيالات المحلية) ، أو دين محرر بالنقد الأجنبي كالدولار (للكمبيالات الخارجية في حالة الصادرات) ، فإن بيع هذه الكمبيالات داخل في الربا الحرام؛ لأنه نقد بنقد مع التفاضل وغياب التقابض بين البدلين. ولا تصح المعاملة إلا بتطبيق قواعد الصرف مثلاً بمثل مع التقابض الفوري (عند اتحاد الجنس) ، أو التقابض الفوري عند اختلاف الجنس.

وإن هذا البيع للكمبيالة المقبولة – وإن أطلق عليها الوصف الإسلامي – هو في الواقع نوع من أنواع خصم الأوراق التجارية حيث يتعجل البنك (البائع) قبض قيمة الكمبيالة بما هو أقل منها، وذلك بطريق البيع إلى جهة أخرى غير المدين.

وفي هذه الحالة فإن المشتري للكمبيالة المقبولة بدفع القيمة الأقل (950 – دولار مثلاً) ليأخذ الكمبيالة بقيمتها الاسمية (1000 دولار) ، ويحصلها من المدين عند الاستحقاق بهذه القيمة.

وبذلك، فإن المعاملة بهذه الصورة لا تخرج عن نطاق خصم الكمبيالات، وهي الصورة التي تتعامل بها البنوك الربوية في كل مكان في العالم. وإن خصم الأوراق التجارية بمعنى الخصم غير جائز شرعًا حسبما قرره مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره السابع المنعقد في جدة بالمملكة العربية السعودية بتاريخ 4 – 9 مايو 1993م، ولا عبرة لما يقال في الكمبيالة الإسلامية المقبولة بأن أصل الدين هو بيع حلال حيث المنظور في ذلك هو واقع الحال من حيث محل البيع، فالدولار إذا بيع بالدولار زيادة ونقصانًا فهذا هو الربا الحرام.

وعلى ذلك يمكن قياس سائر الأدوات الأخرى والتي يطلق عليها في جنوب شرق آسيا الأدوات الإسلامية للديون، حيث إن الديون هناك هي ديون بالنقود وليست بالأعيان أو السلع، وإن مذهب الإمام الشافعي – رحمه الله – براء مما يقال عنه بإجازة بيع الدين لغير من هو عليه إذا كان هذا الدين المباع نقودًا بنقود. ذلك أن مذهب الإمام الشافعي لا يختلف عن سائر المذاهب الفقهية من ناحية تطبيق قواعد الصرف على مبادلة النقود بالنقود مهما كان السبب المنشئ للدين من الأساس.

* * *

وإننا إذ نقفل هذا الباب وما به من شر مستطير، فإننا نتجه في القسم الثاني نحو البدائل الشرعية ل سندات القرض في مجالي القطاع العام والخاص، لنرى اتساع أبواب الحلال في مقابل هذا الضيق والتضييق عند المداخل الحرام.

ص: 153

القسم الثاني

سندات القرض وبدائها الشرعية

في مجالي القطاع العام والخاص

تمهيد:

يتبين لنا مما سبق بيانه أن سندات القرض في العصر الحديث تصدر بالقيمة النقدية، وأن ما يباع منها في أسواق رأس المال إنما يباع على أساس الخصم الزمني أي إنقاص القيمة الحاضرة بالنسبة والتناسب مع مدة الاستحقاق تبعا لسعر الفائدة السائدة في التعامل.

وليس هذا البيع بالمعايير الشرعية إلا بيع نقد بنقد مع الزيادة والنقصان، وهو بذلك يقع في نطاق دائرة الربا الحرام.

فهل هناك بديل يخلص الحكومات والشركات والمستثمرين من هذه المخالفة الواضحة للشرع الخالد العظيم؟

إن من يستقرئ منهج الشرع الإسلامي يستطيع أن يتبين بكل وضوح أنه منهج ميسر لمن أراد أن يستقيم، وأنه لا حرج فيه، وأنه الأصلح في كل حال. ذلك أن الله – سبحانه وتعالى – ما حرم أمرًا إلا وكان للناس عنه غنى من ناحية، كما أنه يوجد عنه دائمًا بديل فيما هو أزكى وأطهر وأقوم.

وإن أبواب التمويل الحلال تقدم الدليل للاستغناء عن كل ما زين للناس من شبهات التمويل الحرام سواء كان ذلك لسد احتياجات القطاع العام أم لسد متطلبات القطاع الخاص. ذلك أن باب الأدوات التمويلية الإسلامية فيه الثراء والغناء إذا أتاه الراغبون في الاهتداء بشرع من بسط الأرض ورفع السماء.

فالأدوات التمويلية الإسلامية تفتح الباب على مصراعيه للمشاركة الشعبية الشاملة في سد احتياجات الدولة والمؤسسات الحكومية، وإعمار الأوقاف وتمويل الشركات المساهمة بصورة يشعر معها المواطن بالانتماء المتكامل في وطنه الذي أعطاه.

ومعنى الأدوات لغويًّا هو الآلات حيث أن كلمة (أداة) – كما في القاموس المحيط – تعني الآلة (1) . وجاء في المعجم الوسيط عن الأداة بأنها الآلة الصغيرة وجمعها أدوات (2) .

وقد دخل الوصف المالي للكلمة في مجال البحوث بطريق ترجمة العبارة الإنجليزية الخاصة بذلك وهي: (Financial Instruments) وهي عبارة عامة المدلول حيث أنها تشمل الأسهم وسندات القرض والشيكات والكمبيالات، وسائر الأوراق التجارية ذات الصفة المالية.

(1) انظر: مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، القاموس المحيط، مادة (الأداة) : 4 / 300.

(2)

انظر: المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية، الطبعة الثانية، القاهرة، 1972، مادة (الأداة) .

ص: 154

ويتبين عند التدقيق أن وصف هذه الأدوات بكلمة (المالية) لا ينطبق تمامًا على التصور الإسلامي لما يقابلها، فإذا كانت أدوات القروض بالفوائد قد اكتسبت هذا الوصف باعتبارها تمثل حقًّا ماليًّا، فإن ما توصف به حصة المشاركة بالمفهوم الإسلامي لا يوصف لذاته وإنما يوصف بحسب ما يمثله، فتكون الحصة بذلك أقرب إلى كونها أداة تمويل في غرض معين، وهي تمثل حصة مشاركة في امتلاك جزء من الأعيان أو المنافع أو الديون (1) .

وأما الأدوات المالية التي تمثل ديونًا من بداية التعامل، كما في سندات القرض، فإنها تبدأ بتقديم المال ليكون قرضًا متعلقًا بذمة المقترض، وهو يبقى كذلك إلى حين الوفاء بأصل الدين وفوائده المترتبة عليه.

فالفرق بين سندات القروض كأدوات مالية وبين ما يقابلها من أشكالها هو فارق دقيق. فالتمويل هو تقديم مال ليكون حصة مشاركة برأس المال أو أنه شراء مباشر لسلعة على أساس بيع المرابحة للآمر بالشراء.

لذلك اتجه البحث للتعامل مع هذه الأدوات بوصف التمويلية (Financing Instruments) وليس المالية (Financial Instruments) لتكون المعالجة البحثية أقرب إلى التصور الإسلامي في نظرته لدور المال المقدم في هذا الإطار.

ويمكن لهذه الأدوات التمويلية أن تكون صادرة لصالح القطاع العام والمؤسسات العامة والأوقاف، كما يمكن أن تصدر لصالح القطاع الخاص بشركاته المساهمة كبديل أفضل من سندات القروض ذات الفوائد، والتي ينص عليها قانون الشركات عادة كمصدر وحيد للتمويل المساند.

* * *

(1) انظر: سامي حمود، الأدوات التمويلية الإسلامية، بحث رقم 38، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب لعام 1996م، ص 24 – 25.

ص: 155

الفصل الأول – سندات القرض في واقعها ومحظوراتها

تحتاج الدولة إلى التمويل كما يحتاج الأفراد ولاسيما الدولة المعاصرة حيث تعتبر إدارة الخدمات والمرافق العامة وتسيير المؤسسات العامة والمؤسسات الأهلية كالأوقاف جزءًا من المسؤولية التي تضطلع بها الحكومات تجاه مواطنيها. فالدولة الحديثة لم تعد حارسًا للأمن وقاضيًّا للخصومات بين الناس فحسب، بل هي راعية للخدمات العامة والرفاه والتنمية.

وقد جرى العرف المخالف للشرع في معظم دول العالم أن يكون تمويل الدولة الحديثة لمختلف الاحتياجات تمويلاً ربويًّا بسندات تصدر على الدولة كقرض مقابل فائدة ثابتة أو متغيرة. وتختلف صور هذا الاقتراض وتسمياته من السندات إلى شهادات الاستثمار ذات العائد الجاري أو القيمة المتزايدة أو ذات الجوائز مع اجتماع بعض المزايا أو انفرادها.

والضابط الذي يفترق فيه الاقتراض الربوي عن سندات الاستثمار الفعلي هو الوصل أو الفصل، فإذا كانت السندات الصادرة دينًا على الدولة وكان العائد يعطي لها كجزء من خدمات الدين العام أي بصورة تكلفة من باب النفقات في الموازنة العامة، فإنها تعتبر سندات ذات فائدة ربوية حرام. أما إذا كانت هذه السندات ممثلة في موجودات معينة لإنشاء مشروع يعطي عائدًا أو لامتلاك مرفق له دخل أو إيجار أو لتمويل صفقة لها ربح، فإن هذا العائد أو الدخل أو الإيجار أو الربح لا يعتبر من الربا ولكنه مورد كسب حلال. فالربا ينبت في أحضان القرض عندما تكون العلاقة هي الدائنية والمديونية وزيادة مشروطة شرطًا أو معروفة عرفًا يدفعها المدين للدائن.

وتصدر الحكومة في الغالب سندات قصيرة الأجل تسمى أذونات الخزينة، أما السندات فهي أطول أجلا حيث تصل المدة أحيانا إلى خمسة عشر عاما.

ومما يلاحظ بأسف أن غالبية الدول الإسلامية واقعة في أسر الدين العام سواء كان ذلك الدين داخليا أم خارجيا.

وتحرص الحكومات الحصيفة بالمقاييس المالية المجردة على تقييد إصدارات الدين العام من أذونات الخزينة والسندات بقيود قانونية، وذلك لأن الإغراق في إصدارات الدين العام بما يزيد عن معدل الإيرادات العامة يهز الكيان الاقتصادي، ويضعف القوة التبادلية للعملة الوطنية، فتخفض قيمتها وترتفع أسعار الحاجيات، ويعاني المجتمع ولا سيما الفقراء ومحدودي الدخل من تلك الآثار السلبية.

ونأخذ على سبيل المثال نموذجا من القيود التي نص عليها قانون الدين العام الأردني لعام 1971 م كمنهج حريص في الاقتراض العام حسب المفهوم التقليدي.

ص: 156

تبدأ المادة الثالثة بالنص على أنه للحكومة أن تقترض من الجمهور بمقتضى أحكام هذا القانون، وذلك عن طريق إصدارات الدين العام بين الحين والآخر والإعلان عنها واكتتاب الجمهور فيها المادة 3 من قانون الدين العام لسنة 1971) .

ثم فصلت المادة الرابعة أشكال إصدارات الدين العام كما يلي:

أ – السندات المسجلة.

ب – السندات لحاملها.

ج – السندات المسجلة و / أو السندات لحاملها.

د – أذونات الخزينة.

وبينت المادة الخامسة القيود التي تخضع لها إصدارات الدين العام كما يلى:

أ – لا يجوز في أية سنة أن يزيد مجموع القيمة الاسمية الإجمالية للسندات الصادرة و / أو لحاملها على مقدار النفقات الرأسمالية المقدرة في قانون الموازنة العامة لتلك السنة، كما لا يجوز أن يزيد مجموع القيمة الاسمية الإجمالية للسندات الصادرة في أية سنة على ما نسبته (20 %) من النفقات الرأسمالية الفعلية للسنة السابقة.

ب – لا يجوز أن يزيد إجمالى القيمة الاسمية لأذونات الخزينة الصادرة في أي وقت من الأوقات على (25 % خمسة وعشرين في المائة) من معدل الواردات المحلية المحصلة في السنوات المالية الثلاث الأخيرة التي تم إقفال حساباتها أو من مجموع النقد المتداول أيهما أكثر.

وتعتبر هذه القيود بالمقاييس الوضعية ترتيبات واعية وحصيفة وذلك حتى لاتندفع الحكومة وراء الاقتراض الذي يوقع البلاد في المشكلات الاقتصادية الكبيرة. ولا حبذا لو اجتمعت هذه الحصافة مع منهج العمل الحلال، وذلك عن طريق إحلال إصدارات التمويل الإسلامي مكان إصدارات الدين العام بالفوائد الربوية الحرام.

ذلك أن الفوائد الربوية تمثل – بالإضافة إلى حرمتها عبئا على كاهل الدولة، حيث يتحمل المواطنون بالنتيجة أعباء الدين العام سواء عن طريق نقص الخدمات المقدمة، أو زيادة الضرائب والجبايات الأخرى.

إن كل دافع للضريبة يشارك سواء كان يدري أو لا يدري – في أداء فوائد الربا إذا كان وطنه يتعامل بالديون الحكومية سواء كانت الاستدانة محلية أو خارجية.

ويمثل الاتجاه الإسلامي لعلاج المشكلة تنويعا في الحلول المقدمة وتوزيعا للأعباء بحيث لا تتحمل الدولة وحدها كامل المسؤولية لتنقلها عند ذلك إلى رعاياها، وإنما تكون هناك وسائل متعددة.

فالأدوات التمويلية الإسلامية منها ما هو منعكس الأثر من التكلفة بصورة مباشرة ومنها ما هو ليس كذلك، ولكن الذي يجمع بينها جميعا هو أنها أدوات ترتبط بموجودات أو بمشروعات، وأنها قادرة على الاستقطاب الواقعي لقطاع عريض من المواطنين الصامتين وهم يتمنون أن تفتح لهم أبواب الاستثمار الحلال ليدعموا مشاريع الدولة ومؤسسات القطاع العام بما لا يخالف شريعة الإسلام.

ص: 157

أما بالنسبة للقطاع الخاص، فإن الباب الوحيد المفتوح أمامه لإصدار السندات المالية محصور في سندات القرض للشركات المساهمة. وهي التي يسمح بها قانون الشركات على أساس الفائدة غالبا.

فإذا أخذنا من النموذج الأول – مثلا – قانون الشركات الأردني رقم (1) لسنة 1989 م، فإننا نرى أنه يذكر فوائد سندات القرض بشكل صريح (المادة 141) وكذلك قانون الشركات الكويتي رقم (15) لسنة 1960 م (المادة 117) .

وأما نظام الشركات السعودي الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م / 6) تاريخ 22 / 3 /1385 هـ فقد حرص عل اجتناب ذكر كلمة الفائدة في سندات القرض، أو حتى الالتزام بأداء أي عائد مهما كان شكله في سندات القرض. ولكن كانت النتيجة أنه لم تصدر أية شركة مساهمة سندات القرض وفق هذا النظام.

وكان من المتوقع أن تدخل الأدوات التمويلية الإسلامية البديلة عن سندات القرض لتملأ الفراغ الواقعي الناتج عن عدم شيوع استعمال سندات القرض للشركات المساهمة في معظم دول العالم الإسلامي، ولكن الواقع جاء مغايرا، وظلت الأدوات البديلة محجوبة عن التعامل بانتظار استيقاظ الهمم والعودة إلى الجذور وبناء الذات من جديد.

وتشتمل سندات القرض بأنواعها – سواء كانت على مستوى القطاع العام أم على مستوى القطاع الخاص – على محظور مشترك هو أنها ذات فوائد ربوية، وأن وجود هذا العنصر الحرام منع وسوف يظل يمنع الجماهيرالعريضة من المشاركة في التنمية الوطنية في وقت يشعر فيه العالم الإسلامي أنه بحاجة لكل درهم من أجل العمل والبناء.

فهل يوجد الحل البديل؟ هذا ما نقدمه في الفصل الثاني بعون الله.

* * * *

ص: 158

الفصل الثاني

البدائل الشرعية في تمويل مشروعات

القطاع العام والخاص

لم تعد قضية السندات ذات الفوائد الربوية مشكلة أمام الفكر الإسلامي المعاصر، فقد تقدمت الدراسات وقدمت الحلول، وكل ما يحتاجه الأمر هو الانتقال من النظرية إلى التطبيق. ويجد الناظر عند البحث أنه في مقابل ضيق المخالفة توجد سعة الطاعة، وبدلا من سند القرض الربوي الوحيد هناك أدوات التمويل المتعددة بصورة سندات المقارضة، والمشاركة والإجارة والبيوع بأنواعها، وذلك حسبما هو مفصل في الفروع التالية:

الفرع الأول – سندات القراض (المضاربة) :

يعتبر لفظا القراض أو المضاربة أنهما كلمتان لنفس المسمى والمدلول من حيث المعنى المراد، ذلك أن معنى القراض والمضاربة هو المشاركة بين مال من طرف، وعمل من طرف آخر، وربح مقسوم بينهما بالنسبة الشائعة إذا حصل ربح وخسارة موزعة بنسبة رأس المال إذا وقعت مثل هذه الخسارة دون تعد من المضارب ولا تقصير ولا مخالفة.

وقد درج الاصطلاح الفقهي لدى المالكية والشافعية على استعمال لفظ القراض، بينما شاع استعمال كلمة المضاربة عند الحنفية والحنابلة والإمامية والزيدية (1) .

ويرجع أصل مشروعية هذا التعامل – فيما يظهر للناظر في المؤلفات الفقهية – أنه كان مما يتعامل به الناس في الجاهلية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم، قد أقره كما أقر الشروط التي دفعت إليه مما كان يشترطه أرباب الأموال مثل شروط العباس بن عبد المطلب (2) .

وبذلك يكون دليل صحة هذا العقد مستندا إلى السنة التقريرية والإجماع. فقد نقل ابن قدامة الإجماع في كتابه (المغني) بقوله: وأجمع أهل العلم على جواز المضاربة في الجملة – ذكره ابن المنذر (3) .

أما حقيقة عقد المضاربة (القراض) وما يمكن أن يشمله هذا العقد من أعمال، فإن ذلك يدخل في نطاق دائرة الاختلاف الفقهي الجميل.

فقد اتجه الفقه الحنفي ومعه الأكثرون من فقهاء المذاهب الأخرى إلى اعتبار المضاربة أنها من جنس المعاوضة كالإجارة، وبناء على ذلك فقد قرروا أن جهالة الأجر تجعل من هذا العقد أنه وارد على خلاف القياس.

وترتب على ذلك القول تضييق نطاق المضاربة وحصرها في المتاجرة برأسمال يبدأ نقودا ليتحول بضاعة جاهزة لتباع ثم تعود نقودا كما بدأ العقد من الأساس.

وكان هذا المفهوم هو السائد غالبا في الفقه الحنفي والإمامي والشافعي والزيدي، وإن كان هناك من الأحناف من توسع قليلا مثل صاحب (المبسوط) في المجال الزراعي باعتبار أن الزراعة تجارة مع الله فيما يرزق به، فهو يصف الحال بعبارة لطيفة بقوله: إن المضارب يبذر الحب وينتظر الرزق من الرب (4) .

وفي مقابل الحصر الذي ذهب إليه الفقه الحنفي ومن تماثل معه في القول، نجد مداخل اليسر والتوسعة عند فقهاء مذهب الإمام أحمد بن حنبل لتفسح الطريق أمام المضاربة على أساس اعتبارها من جنس المشاركات. وقد جلى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية هذا المعنى باعتبار أن المشاركات جنس غير جنس المعاوضات وإن كان فيها شوب المعاوضة (5) .

(1) انظر: على سبيل المثال: المالكية: مدونة الإمام مالك بن أنس – كتاب القراض الشافعية: كتاب الأم – الجزء الرابع – باب القراض. الحنفية: الميرغيناني – الهداية – كتاب المضاربة. الحنابلة: ابن قدامة-المغني-الجزء الخامس. الإمامية: الشقرائي – مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة – باب المضاربة.

(2)

انظر: السنن الكبرى للبيهقي: 6 / 111، مرجع سابق.

(3)

انظر: عبد الله بن أحمد بن قدامة: المغني، الطبعة الثالثة: 5 / 22، القاهرة، دار المنار، 1367 هـ.

(4)

انظر: شمس الدين السرخسي، كتاب المبسوط: الطبعة الثانية: 22 / 72 – 73، بيروت، دار المعرفة للطباعة والنشر، دون تاريخ.

(5)

انظر: أحمد بن تيمية، القواعد الفقهية النورانية، الطبعة الأولى، تحقيق محمد حامد الفقي، القاهرة، مطبعة السنة المحمدية، 1951م، ص 170.

ص: 159

وبناءً على نظرة اليسر التي تميز بها مذهب الإمام أحمد بن حنبل في العقود والشروط بوجه عام، أمكن للفقه الحنبلي أن يصحح كثيرًا من المعاملات التي لا تصححها المذاهب الأخرى من الحنفية والشافعية على وجه الخصوص.

ويتفق الفقه المالكي المستظل بأفياء دار الهجرة النبوية مع الفقه الحنبلي – من حيث الأساس – وذلك من ناحية عدم حصر المضاربة في نطاق الاتجاه بمعناه الضيق لشراء السلع الجاهزة وبيعها كما هي دون تصنيع ولا تجميع.

وبناءً على كون القراض أو المضاربة من أعمال الاتجار والاستثمار في أي اتجاه يعطي ربحًا ناتجًا عن التصرف في المال بالبيع والشراء والتصنيع والزرع وغير ذلك، فإن الحكومة تستطيع أن تطرح سندات القراض لتجميع رأس المال اللازم لأي مشروع ينطبق عليه هذا الوصف.

صحيح أن الدولة ليست تاجرة وهي لا ينبغي أن تكون كذلك بسبب ضعف الأداء الاقتصادي للقطاع العام على أقل تقدير، إلا أن ذلك التوجه لا يمنع من بلورة مشروعات محددة وتصلح لعمل المضاربة.

فالمؤسسة الاستهلاكية العسكرية المخصصة لبيع المواد الاستهلاكية للعسكريين بربح معتدل نسبيًّا تحتاج في بعض بلاد العالم الإسلامي إلى تمويل كبير ليس بشراء المنتجات فحسب بل وتصنيعها وتجميعها كذلك، فإذا كان معدل الربح الجاري المعتدل هو (10 %) مثلاً وكان معدل دوران السلع المباعة ثلاث مرات في العام، فإن معنى ذلك أن حصيلة الربح المعتدل هي (30 %) ، فإذا قسم الربح بين رأس المال وجهة العمل، فإن معدل الربح الاستثماري قد يتراوح بالنتيجة بين (10 % - 15 %) وذلك تبعًا لنسبة توزيع حصص الأرباح.

أما رأس المال فإنه يمكن أن يكون بشكل سندات تطرح للبيع في اكتتاب عام. عندما يكتمل الاكتتاب فإنه يتم عقد اجتماع لينتخب المكتتبون لجنة تمثلهم في دفع رأس المال، والمحاسبة على الربح وإجراء التوزيع، ومتابعة انتقال ملكية السندات من مالك لآخر، وذلك بعدما تصبح قابلة للتداول، ويطلق على هذه اللجنة عادة اسم (هيئة مالكي السندات) .

وطالما أن سندات القراض تكون ممثلة في موجودات تغلب عليها الأعيان فإن تداول هذه السندات بالبيع والشراء يكون جائزًا شرعًا، وهذا هو ما قرره مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره الرابع بجدة بتاريخ 18 – 23 جمادى الآخرة 1408هـ 6 –11 فبراير 1988م (1) .

(1) انظر: مجمع الفقه الإسلامي، دورة المؤتمر الرابع، القرار رقم (5) بشأن سندات المقارضة وسندات البند (ج) من العنصر الثاني.

ص: 160

أما بالنسبة للقطاع الخاص فإنه محروم في الغالب ولا سيما الشركات المساهمة من مزايا التمويل الإسلامي بالمضاربة وذلك رغم أن هذه الشركات تستطيع أن تضرب أحسن المثل في العمل بالمال على أساس المشاركة بالأرباح والخسائر. فالشركات المساهمة لها سجلات منتظمة وتسير على نظام معلن وتخضع حساباتها للتدقيق الداخلي والخارجي.

وقد آن الأوان ليدخل في قانون الشركات فصل جديد بعنوان (أدوات التمويل الإسلامي) وفي مقدمتها سندات القرض. ومن البديهي أن يتنوع إصدار هذه السندات بحسب طبيعة عمل الشركة المساهمة ومجال نشاطها التجاري أو الصناعي أو الزراعي. . . إلخ.

والمهم في ذلك كله أن تكون هذه الأدوات – سواء للقطاع العام أو الخاص – خاضعة للتنظيم القانوني المناسب، وذلك حتى تحفظ حقوق الناس. وذلك أن عدم وجود الضوابط الكافية يفتح الباب لسوء الاستغلال، وتضيع حقوق المستثمرين والمواطنين.

الفرع الثاني – سندات المشاركة:

الشركة في الفقه الإسلامي – كما عرفتها مجلة الأحكام العدلية – هي " اختصاص ما فوق الواحد من الناس بشيء وامتيازهم بذلك الشيء"(1) .

وتختلف المشاركة عن المضاربة رغم اتحاد جنس المشاركات بوجه عام. فالمشاركة تبقي اليد في التصرف في مال الشركة لكل الشركاء، بينما ترفع المضاربة يد رب المال عن التصرف في ماله، وتضع عبء العمل كله في يد العامل ليكون صاحب حق في الربح بفضل ما يقدمه من الجهد.

وتكون السندات الصادرة هي رأس المال المستخدم في إنشاء المشروع أو امتلاكه إذا كان موجودًا، ويكون لكل إصدار هيئة منتخبة من المكتتبين، حيث تتولى الإشراف على إنشاء المشروع، وقبض نصيب الممولين، وتوزيع حصص الإيراد، ومتابعة انتقال ملكية السند من شخص إلى آخر.

والمشاركة هنا قد تكون مشاركة مستمرة مثل: سندات إنشاء المرافق الدائمة الاستعمال كالطرق الرئيسية والموانئ البحرية والمطارات الدولية والمباني الحكومية بما فيها المدارس والمستشفيات والجامعات، وكذلك مشاريع القطاع الخاص، كما قد تكون المشاركة مرتبة على أساس التناقص المتدرج. ولعل أبرز مثال لذلك هو مثال الأرض الوقفية، حيث يمتنع تمليك أراضي الأوقاف للغير مع وجود الحاجة لإعمارها.

وهنا يمكن أن يؤدي نظام المشاركة المتناقصة دورًا حيويًّا حيث يتم الإعلان المسبق عن طبيعة الإيراد السنوي الموزع وأنه يمثل عنصرين:

العنصر الأول – بمثابة إيراد لصاحب السند.

والعنصر الثاني – بمثابة تسديد لجزء من رأس المال المدفوع.

فإذا تحقق من المبنى الوقفي دخل صاف بقيمة (200.00) دينار بحريني مثلاً، وكان الاتفاق المعلن عند الاكتتاب الجاري هو أن (35 %) من الداخل يعتبر إيرادًا والباقي هو تسديد لأصل رأس المال، فإن صاحب السند بمائة دينار من أصل الاكتتاب الكلي بمليون دينار يأخذ عشرين دينارًا يكون منها (7) دنانير كإيراد و (14) دينار كتسديد من رأس المال. وبذلك تصبح قيمة السند الاسمية للسنة التالية (86) دينارًا. . . وهكذا إلى أن تنتهي السندات جميعًا بالإطفاء التدريجي حيث يعود المبنى الوقفي بكامله ملكًا للوقف بأرضه وبنائه.

(1) انظر: علي حيدر، درر الحكام شرح مجلة الأحكام: 3 / 2، تعريب: فهمي الحسيني، بيروت، مكتبة النهضة، دون تاريخ، المادة 1045 من مجلة الأحكام العدلية.

ص: 161

وهذه الشركة هي شركة عقد وليست شركة ملك، حيث أن رأس المال قد استعمل في البناء ليسترد مع ربحه كما يستعمل رأس المال في مثال الزرع ليسترد أصله مع الربح كذلك.

وتستطيع الدولة بمثل هذا الأسلوب أن تطرح السندات لإقامة المشروعات ذات الجدوى الاقتصادية؛ لكي تكون دخولها موردًا للأجيال في المستقبل عندما تقل الإيرادات وتزداد النفقات، كما تستطيع الشركات المساهمة أن تطرح سندات المشاركة أيضًا للتوسع والتكامل التدريجي في أنشطتها.

وهذه السندات بأنواعها تتمثل في موجودات من الأعيان غالبًا وهي تقبل التداول بعد أن تصبح أعيانًا بالبيع والشراء.

الفرع الثالث – سندات المنافع (الإجارة) :

المنافع في اللغة العربية جمع منفعة، وتعني حق الاستفادة من الشيء مع بقاء عينه، مثل منفعة سكنى الدار واستئجار السيارة.

والمنفعة المقصودة بالبحث هنا هي المنفعة المنفصلة عن الامتلاك وذلك لأن مالك العين يستلزم أن يكون مالكًا للمنفعة ولا عكس. فالمنفعة يمكن امتلاكها دون أن يتتبع ذلك امتلاك العين.

وقد اختلف النظر الفقهي في اعتبار المنافع وكونها أموالاً أم أنها ليست كذلك. فقد ذهب الفقه الحنفي إلى أن الأصل في المنافع أنها لا تدخل في حيز الأموال، وإنما هي ملك حيث يرى الحنفية أن المنافع ليست شيئًا ماديًّا موجودًا (1) .

أما في الفقه الشافعي والحنبلي فإن المنافع تعتبر أموالاً متقومة في ذاتها لأنها هي المقصودة من الأعيان بدليل أن الله سبحانه وتعالى قد سوغ اعتبار المنفعة مهرًا في النكاح وأنه لا مهر إلا بمال (2) .

(1) انظر: الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد: 1 / 205، مرجع سابق.

(2)

انظر: الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد: 1 / 205، مرجع سابق.

ص: 162

وقد أثبتت الوقائع والنوازل دقة النظرة في الفقه الشافعي والحنبلي وتفوق هذا الرأي على ما ذهب إليه الفقه الحنفي في هذه المسألة ولا سيما عند تطبيق مسألة ضمان منافع المغصوب. فقد ذهب المتقدمون من الحنفية إلى القول بعدم ضمان منافع المغصوب لأن المنافع ليست أموالاً مما شجع الإقدام على الغصب، فكان أن عدل المتأخرون وقالوا بالاستثناء على سبيل الاستحسان – في منافع الغصب لمال اليتيم ومال الوقف والأموال التي تكون معدة للاستغلال.

وبناءً على ذلك فإن المؤسسات الحكومية وكذلك الشركات المساهمة يمكنها أن تطرح سندات إيجارية بهدف استئجار طائرات مثلاً أو معدات ثقيلة لمدة زمنية متوسطة (7 سنوات مثلاً) ، وذلك على أساس الوعد باستئجار هذه الأشياء بأقساط ربع سنوية، وبقيمة أعلى بحيث يتحقق لمالك السند ربح مناسب.

وهذه السندات الإيجارية هي أيضًا من السندات التي تقبل التداول باعتبار أن المنافع كالأعيان من حيث اعتبارها أموالاً.

الفرع الرابع – سندات التمويل:

تقوم هذه السندات على فكرة تمويل البيوع في المرابحة للآمر بالشراء، ويمكن أن تتوسع لتشمل بيوع السلم أو الاستصناع والتوريد. ونبدأ بتفصيل سندات المرابحة للآمر بالشراء؛ فلو كان الطالب هو الدولة أو المؤسسة الحكومية، فإنها تعلن عن رغبتها في شراء شيء بسعر كذا مع استعدادها لشراء ذلك الشيء بثمن الكلفة، وزيادة هامش ربح معين مع بيان مدة السداد.

وعندما تطرح السندات للبيع ويتم الاكتتاب فيها، فإن هيئة مالكي السندات تستطيع أن تقوم بشراء ما هو مطلوب ثم بيعه لجهة الطلب، كما تتولى قبض الأقساط وتوزيع الحصص على المالكين.

فإذا كان الشيء المطلوب شراؤه مما يتم استصناعه فإن الدفع يتم حسبما يتضمنه دفتر الشروط وبموافقة جهة الطلب، ويكون الاستصناع هنا مركبًا. وكما أن المضارب يضارب كذلك فإن المستصنَع (بفتح النون) يستصنِع (بكسر النون) .

ومشكلة هذا النوع من السندات سواء كان ناتجًا عن بيع مرابحة أم استصناع أنه مبني في المآل على الديون. وإن سند الدين كما هو معلوم وكما بينا في هذا البحث لا يجوز بيعه إلا بالمثل وبالتقابض.

ويتمثل الحل هنا – بالنسبة لغايات التداول – أن تكون سندات الديون جزءًا من محفظة شاملة لسندات المقارضة والمشاركة والمنافع بحيث تكون نسبة الديون في هذه المحفظة هي الأقل، وتكون الغلبة للأعيان والمنافع.

وبذلك يمكن أن تجد الدولة ومؤسسات القطاع العام والشركات المساهمة من القطاع الخاص البدائل الشرعية للتمويل في مختلف الاحتياجات.

ص: 163

الفصل الثالث

صور معاصرة من تقنين بعض أدوات التمويل الإسلامي

تمهيد:

شهدت الساحة الإسلامية منذ بدء تأسيس وانتشار المؤسسات المصرفية الإسلامية مولد عدد من الأدوات التمويلية الإسلامية لتحقيق هدفين:

أولهما: إيجاد البديل الإسلامي لسندات القروض ذات الفوائد.

والثاني: محاولة تمهيد الباب لقيام السوق الإسلامية لرأس المال بأدواته المتداولة (1) .

ورغم أن الأداء لم يكن متكافئًا مع الآمال، إلا أن هذه المحاولات تدل على إمكان الحركة والانطلاق نحو بناء قانوني عصري متكامل لتقديم الأدوات التمويلية الإسلامية الملائمة لتلبية احتياجات القطاع العام والقطاع الخاص على حد سواء.

وتتمثل هذه المحاولات في التجارب التالية:

أولاً – التجربة الأردنية:

قدم واضعو مشروع قانون البنك الإسلامي الأردني فكرة سندات المقارضة وذلك على أساس أن تكون بمثابة رأس المال المتجمع من عدد غير محدد من المكتتبين بهدف المشاركة في أرباح المشروع الذي يجري تمويله في حصيلتها، وقد صدر القانون المشار إليه أعلاه تحت رقم (13) لسنة 1978م متضمنًا تعريف سندات المقارضة بأنها تعني:"الوثائق الموحدة القيمة والصادرة عن البنك بأسماء من يكتتبون فيها مقابل دفع القيمة المحررة بها على أساس المشاركة في نتائج الأرباح المتحققة سنويًّا حسب الشروط الخاصة بكل إصدار على حدة، ويجوز أن تكون هذه السندات صادرة لأغراض المقارضة المخصصة وفقًا لأحكام المقررة لها في هذا القانون "(2) .

ثم صدر بعد ذلك في الأردن أيضًا القانون المؤقت رقم (10) لسنة 1981م باسم قانون سندات المقارضة وكانت الغاية من ذلك القانون هي إيجاد الوسيلة الملائمة لإعمار الممتلكات الوقفية، وتمويل إنشاء مشاريع المؤسسات العامة ذات الاستغلال المالي بما في ذلك البلديات.

وقد استدعى الحديث المتواصل عن سندات المقارضة وتأصيلها الفقهي اهتمام أهل العلم حيث استكتب مجمع الفقه الإسلامي عددًا من الكاتبين للكتابة بالموضوع، وتمت مناقشة جوانبه الشرعية، وصدر القرار بشأنه وما تتطلبه من شروط وذلك في اجتماع دورة المؤتمر الرابع المنعقد في جدة بالمملكة العربية السعودية من 18 – 23 جمادى الآخرة 1408هـ الموافق 6- 11 فبراير 1988م، وقد تضمن القرار المشار إليه كذلك الروابط الشرعية لتداول سندات المقارضة (3) .

(1) انظر: سامي حمود، مستقبل النجاح لإقامة سوق رأس المال الإسلامي، بحث منشور في كتاب أسواق المال الخليجية، صادر عن بنك الخليج الدولي – البحرين عام 1987م.

(2)

انظر: قانون البنك الإسلامي الأردني، رقم 13 لسنة 1978م، المادة رقم 2.

(3)

انظر: مجلة مجمع الفقه الإسلامي، المجلد الرابع، أبحاث سندات المقارضة القرار رقم (5) لسنة 1988 م بشأنها.

ص: 164

ثانيًا – التجربة الباكستانية:

صدر في باكستان قانون خاص بالمضاربة تحت رقم (م – 302/ل – 7646) بتاريخ 26/6/1980م لتنظيم أحكام تسجيل شركات المضاربة وطرح سنداتها وإداراتها (1) .

وقد تأسست بعد صدور القانون المذكور العديد من شركات المضاربة كان أولها في عام 1984م حيث طرحت إصدارها لأول في السنة التالية 1985م. وتتميز هذه الشركات بأنها مسجلة في سوق الأوراق المالية بكراتشي (2) .

ثالثًا – التجربة التركية:

صدر في تركيا عام 1984م نوع من سندات المشاركة المخصصة لتمويل بناء جسر البوسفور الثاني (جسر محمد الفاتح) بمبلغ (200) مليون دولار أمريكي. وقد لاقى الإصدار قبولاً جماهيريًّا واسعًا ولا سيما من المواطنين الأتراك المغتربين خارج البلاد (3) .

وقد استعملت حصيلة الإصدار في تمويل بناء الجسر الذي أفاد في تسهيل حركة المرور عبر شطري إستانبول ويعطي دخلاً جيدًا.

وتعتبر هذه السندات من أنجح ما شهدته بورصة إستانبول، ولذلك فقد اتجه المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب لتكليف باحث متخصص لدراسة التجربة وتقديم التفاصيل المتعلقة بها ضمن سلسة بحوث المعهد الخارجية لعام 1998م. (4)

رابعًا - تجربة البحرين:

أصدرت دولة البحرين في عام 1986م القرار الوزاري رقم (17) لسنة 1986م بشأن قواعد الترخيص في تأسيس الشركات المساهمة المعفاة من أحكام قانون الشركات التجارية رقم 025) لسنة 1977م، بناءً على مقترح قدمه الباحث لبدء توسيع نطاق أدوات التمويل الإسلامي (5) .

وقد أجاز القرار الوزاري المشار إليه أعلاه تأسيس شركات مساهمة بحرينية ذات رأسمال متغير وتعمل وفقًا لأحكام الشريعة الإسلامية (6) .

وبناءً على صدور هذا القرار فقد تأسست عدة شركات على أساس أنها تملك نوعين من الأسهم هما: أسهم الإدارة المصونة وأسهم المشاركة غير المصونة. وهذا النوع الأخير من الأسهم هو في الواقع يشبه أسهم المضاربة حيث لا يملك رب المال أن يتدخل في إدارة الشركة وإنما يتحصل على حصة شائعة من الربح.

(1) The Gazette of Pakistan، Islamabad، June 26، 1980. Mudaraba Companies Ordinance، 1986.

(2)

Tariqullah Khan، Practices and Performance Mudaraba Companies in Pakistan (IRTI – Reserarch Paper No: 37 – 1996 – Page 20) .

(3)

حشمت بشار، باحث رئيسي بالمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، مقابلة شخصية بتاريخ 12/8/1998م.

(4)

انظر: سامي حسن حمود، باحث ورئيس بالمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب ومسؤول التنسيق للبحث الخارجي الخاص بالتجربة التركية في تمويل بناء جسر الفاتح.

(5)

انظر: رسالة شخصية إلى معالي الدكتور حسين محمد البحارنة، وزير الدولة للشؤون القانونية 1489 / 201 تاريخ 1/9/1987م، والرد الإيجابي بالرسالة رقم 493/86 تاريخ 9/9/1986م.

(6)

انظر: البحرين: الجريدة الرسمية، العدد 1707 تاريخ 14/8/1986م.

ص: 165

وقد بدأت بعض الشركات المسجلة في البحرين وفق أحكام القرار الوزاري المذكور بطرح أسهم المشاركة للبيع، وذلك على أساس أنها تمثل مجموعة مختلفة من الموجودات المؤلفة من الأعيان والمنافع والديون مع مراعاة جانب الغلبة للأعيان والمنافع في كل الأحوال (1) .

خامسًا – التجربة المصرية:

صدر في جمهورية مصر العربية قانون سوق رأس المال وهو القانون رقم (95) لسنة 1992م، حيث سمح هذا القانون بإصدار أسهم لحاملها ولا يكون لأصحابها الحائزين لها الحق في التصويت في الجمعيات العامة للشركة التي يساهمون فيها. (المادة 1) .

كما تضمنت المادة الثانية شروط إصدار الأوراق المالية في اكتتاب عام، في حين أشارت المادة الثانية عشرة إلى حالة إصدار السندات وصكوك التمويل والأوراق المالية الأخرى سواء كانت اسمية أو لحاملها بموافقة الجمعية العامة للشركة وفقًا للقواعد والإجراءات التي تبينها لائحة التنفيذية. كما نصت المادة الثانية عشرة المشار إليها وجوب أن تتضمن موافقة الجمعية العامة العائد الذي يغله السند أو الصك أو الورقة وأساس حسابه دون التقيد بالحدود المنصوص عليها في أي قانون آخر (2) .

ويمكن النظر في ظل هذا القانون الفضفاض إلى إصدار صكوك تمويلية تشارك بحصة شائعة من الربح أو الإيراد الخاص بالمشروع الذي تستثمر فيه وذلك على أساس المضاربة أو المشاركة أو الإيجار، وبذلك تكون جمهورية مصر العربية قد فتحت الباب واسعًا أمام الشركات المساهمة وشركات التوصية بالأسهم لدخول عالم سوق رأس المال الشامل.

وخلاصة القول هي أن البدائل الإسلامية لسندات القروض ذات الفوائد متاحة نظريًّا وهي ميسرة عمليًّا وما على المخلصين من أبناء الأمة الإسلامية إلا الإعداد لدخول الساحة الحلال.

(1) انظر: النظام الأساسي لشركة التوفيق للصناديق الاستثمارية، وكذلك النظام الأساسي لشركة الأمين للأوراق المالية، وكلتاهما من شركات مجموعة دلة البركة، البحرين.

(2)

انظر: القانون رقم 95 لسنة 1992 م، المواد 1 – 2- 12.

ص: 166

وإن أولى الجهات بفتح باب الأدوات التمويلية الإسلامية هي ولا شك الحكومات في مختلف دول العالم الإسلامي حيث توجد الحاجة لسد احتياجات المرافق العامة وتوسيعها وتطويرها، كما أنه بالمقابل هناك باب للتوفير في أعباء خدمة الديون المتمثلة في هذه الفوائد الربوية التي تتحملها خزينة الدولة وهي تحملها بالتالي للمكلفين من دافعي الضرائب.

ففي الأردن – على سبيل المثال – وصل الدين العام الداخلي حسب التقرير السنوي الثالث والثلاثين المنشور من البنك المركزي الأردني الصادر في أبريل 1997م مقدار (994.6) مليون دينار أردني مع نهاية عام 1996م. بينما وصل الدين العام الداخلي في مصر حسب تقرير المجلة الاقتصادية الصادرة عن البنك المركزي المصري عام 1997م مقدار (170.18) مليار جنيه مصري حتى نهاية يونيو 1997م.

ويمثل إصدار السندات التمويلية الإسلامية بحكم تكييفها الفقهي بابًا من أبواب الترشيد والتخصيص، حيث يصبح المشروع الممول واقعًا تحت المحاسبة لتقدم إدارته البيانات المالية السنوية لمالكي السندات، ولا تعوم المشروعات تحت غطاء التسيب الإداري. كما أن وجود المشاركة الجماهيرية وتفاعلها مع واجب التمويل والتعاون مع الحكومة للبناء وتطوير المشروعات يعمق مفهوم المواطنة والتعاون الإيجابي بين الحاكم والمحكوم.

أما على صعيد الاقتصاد الكلي، فإن قيام أسواق رأس المال الإسلامي ووجود الأدوات الإسلامية للتمويل سواء على الصعيد الوطني أم على مستوى العالم الإسلامي؛ إنما يمثل الوسيلة التي لا يستغني عنها لحفظ الأموال الإسلامية من التسرب إلى خارج الديار.

ومن ذلك يتبين أن إيجاد البديل الإسلامي ل سندات القرض يساعد على تعميق التفاعل الإيجابي بين الشعوب الإسلامية وحكوماتها كما يحفظ الأموال الإسلامية من الضياع واستمرار حرمان البلاد من ثمرات كدح أبنائها.

فهل يستجيب المخلصون من أبناء الأمة الإسلامية لإيجاد نظام شامل ومتكامل للأدوات الإسلامية في التمويل الحلال؟

هذا ما ندعو الله أن يوفق المسلمين إليه ليكونوا جديرين بحمل الرسالة ويصبحوا كما قال الله – سبحانه وتعالى – فيهم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} صدق الله العظيم.

ص: 167

خاتمة البحث

ونقف الآن مع نهاية هذا المسار العلمي لكي نلخص أهم النتائج التي توصل إليها البحث في هذه الجولة الثرية مع أقوال العلماء في كل مجال لتقرير ما يلي:

أولاً: إن الديون تعتبر في نظر الفقه الإسلامي أموالاً وهي تثبت في الذمة بوصفها وفقًا للمال الذي تمثله.

ثانيًا: إن القرض صورة من صور الدين وهو يأخذ حكمه بحسب نوعه، فالقرض النقدي تجري معاملته كالنقود والقرض من الطعام كالقمح مثلاً يتم التعامل به كالقمح في الأحكام.

ثالثًا: إن البيع الذي هو مبادلة مال بمال يقتضي المغايرة بين البدلين، ليكون هناك ثمن ومثمن، أما إذا لم تكن هناك مغايرة بين البدلين فإن البيع يأخذ حكم الواقع. فإذا كانت المبايعة نقودًا بنقود فإنها تأخذ حكم الصرف بحسب شروطه، أما إذا كانت سلعًا فإنها تعامل حسب توافر علة الربا – في البدلين.

رابعًا: إن الديون تقبل البيع للمدين وغير المدين بحسب حكم محلها، فالديون من النقود إذا كانت حالة تباع بمثلها وفق شروط الصرف مثلاً بمثل ويدًا بيد كما تباع بغيرها من النقود بشروط الصرف كذلك بحسب سعر السوق يوم التعامل بشرط فورية التبادل يدًا بيد. أما إذا لم تكن الديون حالة الأجل، فإنها لا تصلح للمصارفة حيث تشترط الفورية في التقابض ما لم تكن مصالحة بين الدائن والمدين لا غير.

خامسًا: إن المسميات الإسلامية الدارجة حديثا في بعض بلاد جنوب مشرق آسيا، مثل الكمبيالات المقبولة الإسلامية لا تقدم جديدا يختلف عن كمبيالات القبول التجارية المعروفة وطالما أن لها قيمة محددة بالنقود، فإن بيعها بالنقود من جنسها يكون ربا إلا إذا تساوى البدلان وجرى التقابض الفوري بين الثمن المدفوع والدين الحال. وبناء على ذلك فإن هذه البيوع الجارية للديون التي تمثلها هذه الكمبيالات بنقود أقل وأكثر هي بيوع مخالفة للشريعة الإسلامية.

سادسًا: إن أدوات الديون الإسلامية والتي لا تحمل فائدة ولكنها تقدم فائدة عند الاستحقاق بشكل متعارف عليه تعتبر من الأدوات الربوية؛ لأن القاعدة الفقهية تقرر أن المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا.

سابعًا: إن سندات الدين العام وما يماثلها من أدوات مما يعطي عائدًا دون أن تمثل موجودات قائمة في استثمار مخصص يحدد مجالات استعمال هذا الأموال تعتبر ديونًا، ويكون كل ما يدفع في مقابل هذه السندات من فوائد وجوائز وعوائد هو من الربا الحرام.

ثامنًا: إن البدائل الشرعية المتمثلة في سندات المقارضة وسندات المشاركة والإيجار والسندات التمويلية كلها وسائل مناسبة لتعميم أساليب التمويل الإسلامي، سواء على مستوى القطاع العام أم على مستوى القطاع الخاص. وإن المطلوب من جهات التقنيين أن تضع الأنظمة الملائمة لإصدار ما يلزم من قوانين وأنظمة.

تاسعًا: وأخيرًا. . . فإن المأمول أن يسعى العالم الإسلامي لتكون لديه أسواقه المالية التي تتفق أدواتها مع الشرع لكي يتم تجميع الطاقات واستنهاض الهمم لمواجهة تحديات العولمة والدخول إلى عالم الأقوياء، وقد أعد المسلمون ما يستطيعون من قوة في كل مجال وميدان. فالأدوات التمويلية الإسلامية هي وسيلة التفاعل بين الشعوب والمؤسسات والحكومات للتعاون والبناء. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الدكتور سامي حسن حمود

ص: 168

المراجع

أولاً – تفسير القرآن الكريم والحديث النبوي.

سعدي – عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، الطبعة الخامسة، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1997م.

نووي – رياض الصالحين، الطبعة الأولى، دمشق، المكتب الإسلامي، 1992م.

بيهقي – أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، السنن الكبرى، الطبعة الأولى، حيدر آباد – الهند، دائرة المعارف النظامية.

ثانيًا – فقه التراث للمذاهب الإسلامية.

أ – الفقه الحنفي:

ميرغيناني – برهان الدين علي بن أبي بكر الميرغيناني، كتاب الهداية شرح بداية المبتدي، الطبعة الأولى، مصر، المطبعة الخيرية، 1326هـ.

سرخسي – شمس الدين السرخسي كتاب المبسوط، الطبعة الثانية، بيروت، دار المعرفة للطباعة والنشر.

حيدر – علي حيدر درر الحكام شرح مجلة الأحكام (الكتاب الأول) ، بيروت، دار النهضة، تعريب فهمي الحسيني.

ب- الفقه المالكي:

ابن رشد (الجد) – محمد بن أحمد بن رشد، المقدمات الممهدات، القاهرة، مطبعة السعادة.

حطاب – محمد بن محمد بن عبد الرحمن المعروف بالحطاب، مواهب الجليل مختصر خليل، الطبعة الثانية، مصر، مطبعة السعادة، 1978م.

مالك – الإمام مالك بن أنس الأصبحي، المدونة الكبرى –رواية سحنون عن ابن القاسم عن الإمام مالك، طبعة أوفست عن أول طبعة، بيروت، دار صادر.

ج – الفقه الشافعي:

شافعي – محمد بن إدريس الشافعي، كتاب الأم، الطبعة الأولى، دمشق، دار قتيبة، 1962م.

شيرازي – محمد بن علي الفيروزآبادي الشيرازي، المهذب في فقه الإمام الشافعي، جاكرتا، شركة نور الثقافة الإسلامية.

نووي – محيي الدين بن شرف النووي، كتاب المجموع شرح المهذب، تحقيق محمد نجيب المطيعي، جدة مكتبة الإرشاد.

نووي - محيي الدين بن شرف النووي، روضة الطالبين، الطبعة الثالثة، دمشق، المكتب الإسلامي، 1991م.

ماوردي – علي بن محمد حبيب الماوردي، الحاوي الكبير، الطبعة الأولى، بيروت، دار الكتب العلمية، 1994م.

ابن تيمية – أحمد بن تيمية (شيخ الإسلام) ، القواعد الفقهية النورانية، الطبعة الأولى تحقيق محمد حامد الفقي، القاهرة، مطبعة السنة المحمدية، 1951م.

القاري – مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد، الطبعة الأولى، جدة، دار تهامة، 1401هـ.

ابن قدامة –عبد الله بن أحمد بن قدامة، المغني، الطبعة الثالثة، القاهرة، دار المنار، 1367 هـ.

هـ – الفقه الزيدي:

سياغي – شهاب الدين الحسين بن أحمد السياغي، الروض النضير شرح مجموع الفقه الكبير، الطبعة الثانية، الطائف، مطبعة المؤيد، 1968م.

و– الفقه الجعفري:

شقرائي – محمد الجواد بن محمد الحسين العاملي الشقرائي، مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة، مصر، مطبعة الفجالة، 1366هـ.

ز – الفقه الإباضي:

إطفيش – محمد بن يوسف إطفيش، شرح النيل، طبعة الباروني.

ح – الفقه الظاهري:

ابن حزم – علي بن محمد بن سعيد بن حزم، المحلى، بيروت، دار الفكر.

ثالثًا – المصادر الفقهية الحديثة:

الموسوعة الفقهية الكويتية، الطبعة الثانية، مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، الكويت.

زرقاء – الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء، المدخل الفقهي العام، دمشق، مطابع آلف باء الأديب، 1968م.

بدران – الدكتور بدران أبو العينين بدران، الشريعة الإسلامية القاهرة، مؤسسة شباب الجامعة.

خفيف – الشيخ علي الخفيف، أحكام المعاملات الشرعية، البحرين، بنك البركة الإسلامية.

زحيلي – الدكتور وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته، دمشق، دار الفكر.

سابق – الشيخ سيد سابق، فقه السنة، جدة، 1344 هـ.

ضرير – الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير، الغرر وأثره في العقود، البحرين، بنك البركة الإسلامي، 1984م.

حمود – الدكتور سامي حسن حمود:

أ- الأدوات التمويلية الإسلامية للشركات المساهمة، الطبعة الأولى، جدة، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، 1996م.

ب- مستقبل النجاح لإقامة سوق رأس المال الإسلامي، مقال منشور في كتاب أسواق المال الخليجية، صادر عن بنك الخليج الدولي، البحرين عام 1987م.

مجمع الفقه الإسلامي دورة مؤتمره السنوي الرابع جدة، 1988 م.

رابعًا - مصادر متنوعة

أ- ملتقى التجربة الماليزية في العمل المصرفي الإسلامي، منشور من قبل اللجنة الاستشارية العليا لاستكمال تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، عام 1996م، الكويت.

ب – القوانين:

الكويت – قانون التجارة الكويتي، رقم (86) ، لسنة 1960م.

الأردن – قانون الدين العام لسنة 1971م.

- قانون البنك الإسلامي الأردني، رقم (13) ، لسنة 1978م.

الباكستان – قانون شركات المضاربة لسنة 1980م.

البحرين – القرار الوزاري رقم (17) ، لسنة 1986م.

مصر – القانون رقم 95 لسنة 1992م.

ج – مراجع باللغة الإنجليزية:

- Islamic Bank Malaysia – Islamic Banking Practice – Kuala – Lampur – Malaysia.

- Moore (Philip) – Islamic Finance.

- Khan – Tariqullah Khan Practices and Performance of Mudaraba Companies in Pakistan (IRTI Research Paper No. 37 ، 1996) .

* * *

ص: 169

بيع الدين وسندات القرض وبدائها الشرعية

العرض – التعقيب والمناقشة

العرض

الرئيس:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

في هذه الجلسة الصباحية المباركة لدينا موضوع (بيع الدين) وما يلحقه من القضايا المعاصرة ذات العلاقة ببيع الدين بالدين والبدائل. في الموضوع ستة أبحاث، والعارض هو فضيلة الشيخ محمد تقي العثماني، والمقرر هو فضيلة الشيخ عبد اللطيف آل محمود.

الشيخ محمد تقي العثماني:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن الموضوع المطروح هو: (بيع الدين والسندات المالية وبدائلها الشرعية) وقد كتبت فيه ستة أبحاث: بحث لفضيلة الدكتور عبد اللطيف آل محمود، وبحث لفضيلة الدكتور نزيه حماد، وبحث للدكتور سامي حسن حمود، وآخر لسعادة الدكتور محمد علي القري بن عيد، وأخيرًا بحثي المتواضع. وليس من مهمة العارض أن يؤدي خلاصة بحثه فحسب بل يجب عليه أن يأتي بخلاصة ما أتى إليه الآخرون في بحوثهم. وليس من الممكن في هذا الوقت المحدد أن أستقصي كل ما جاء في هذه البحوث الستة، ولكنني أحاول بقدر ما أستطيع أن آتي بخلاصة آرائهم فيما تعرضوا له في هذه البحوث.

فبدأت معظم هذه البحوث بتعريف الدين وبيان حقيقته، واستفاض فيها خاصة الدكتور سامي حسن حمود، وفضيلة الدكتور نزيه حماد من الناحية الفقهية والقانونية. واتفق الباحثون كلهم أن المقصود بالبحث هنا هو ما وجب في الذمة من المال بعقد أو. . .

ثم تعرض الباحثون لأهمية الموضوع والحاجة لدراسته في ظروفنا المعاصرة، وذلك أن بيع الدين أصبح اليوم ظاهرة فاشية في الأسواق المالية، وقد نبَّه إلى ذلك خاصة الأستاذان الكريمان الدكتور سامي حسن حمود، والدكتور محمد علي القري. فالدكتور سامي حمود تعرض ل سندات القرض والأدوات التجارية والقوانين المتعلقة بها في البلاد المختلفة. كما ذكر سيادته أن البنك الإسلامي استحدث أداة سماها (الكمبيالات الإسلامية المنقولة وسندات السحب) .

وقد استفاض الدكتور القري في بيان الواقع العملي في تغلغل الأسواق المتعثرة في المداينات والتفرد بالديون سواء أكان على مستوى الأسعار أم على مستوى الشركات والحكومات، وأيد ذلك بإحصاءات وبيان الأسباب الباعثة على هذه المداينة.

ثم فصل صور بيع الدين. . . من حسم الكمبيالات. .. التي تسمى باللغة الإنكليزية. . .

كما تعرض سيادته لقضايا اقتصادية التي تنتج عن هذه العمليات. وبعد هذا التمهيد دخل الباحثون في صلب الموضوع من الناحية الفقهية فذكروا الصور المختلفة التي ذكرها الفقهاء في بيع الدين.

وقد بين فضيلة الشيخ عبد اللطيف آل محمود أحكام التصرف في الدين، وتطرق إلى تصرف المدين في الدين بالحوالة والسفتجة، ثم تكلم عن تصرف الدائن في الدين من تمليكه بعوض أو بغير عوض.

وقد توسع في بيان صور بيع الدين فضيلة الدكتور نزيه حماد بترتيب هذه الصور وبيان أحكامها بالمباحث الفقهية المذكورة. فمن هذه الصور (بيع الدين بالدين) سواء عقد مع المديون نفسه أو مع طرف ثالث وهو الذي يعبر عنه بـ (بيع الكالئ بالكالئ) ، واستند جمهور الفقهاء في منع هذا البيع على ما روي في حديث معروف أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ.

ص: 170

وقد ذكر كثير من المحدثين أن هذا الحديث ضعيف من جهة الإسناد! لأن مداره على موسى بن عبيدة الربدي، الذي قال فيه الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله: إنه لا تحل الرواية عنه. ولكن قبل الفقهاء مضمون هذا الحديث إما لأنه تعلل بطريق آخر، أخرجه عبد الرازق في مصنفه من طريق إبراهيم بن أبي يحي الأسلمي الذي ضعفه أكثر المحدثين، ولكن أكثر عنه الإمام الشافعي ووثقه في الرواية وكذلك وثقه ابن عقدة الأصبهاني وآخرون. وإما لأن هذا الحديث تلقته الأمة بالقبول بما يفيد ضعفه. وقد تكلمت في بحثي عن إسناد هذا الحديث في أقوال المحدثين.

وعلى أساس هذا الحديث منع جمهور الفقهاء جميع صور بيع الدين بالدين، وأجاز المالكية وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم – رحمهما الله تعالى -. . . وقد فصل ذلك الدكتور نزيه حماد في بحثه.

وقد ذكر فضيلة الشيخ محمد علي التسخيري، الذي اطلعت على بحثه متأخرًا جدًّا فلم أستطع أن أمعن النظر فيه ولكن لمست منه، أن الراجح عندهم في بيع الدين بالدين عدم الجواز. ومع أن الغرض من هذه الدراسة لا يتعلق كثيرًا بهذه الصور لبيع الدين بالدين فأكتفي في هذا الموضوع بهذا الشرح.

والصورة الثانية لبيع الدين أن يبيع الدائن دينه للمديون نفسه، فهو الذي يعبر عنه الفقهاء بـ (بيع الدين ممن هو عليه) . وهذا ما أجازه جمهور الفقهاء.

ولا يخفى أن جواز هذا البيع يخضع لجميع الشروط العامة التي تشترط لجواز البيع، فعليه يشترط لجوازه أن يكون المبيع مقبوضًا للبائع، فإنه يشترط في بيع الدين أيضًا فلا يجوز بيع المسلم فيه لأنه مبيع ولا يجوز بيع المبيع قبل القبض. وهو عند الشافعية والحنفية والحنابلة. وقد أجاز المالكية وبعض الحنابلة بيع المسلم فيه قبل قبضه لمن هو في ذمته بثمن المثل أو دونه لا بأكثر منه للابتعاد عن الربا.

وكذلك إن كان الدين وعوضه ربويين يشترط في جواز بيعه التماثل، ولذلك منع أكثر الفقهاء (ضع وتعجل) إذ كانت مشروطة أما إذا تنازل المدين عن بعض دينه بدون اشتراط سابق فهذا لا مانع منه.

وكذلك إذا أراد البائع أن يبيع دينه بثمن أكثر مؤجل، فهذا عين الربا، وهو في معنى (أتقضي أم تربي) وقد نزل بحرمته القرآن الكريم. ولكن معنى جواز بيع الدين ممن عليه الدين مثل أن يقول المديون: اشترِ مني هذا الثوب بدينك عليَّ، فهذا جائز.

وقد اختلف الفقهاء في حكم هذه الصورة، فذهب الحنفية والحنابلة والظاهرية إلى أن بيع الدين من غير المديون لا يجوز أصلاً.

أما المالكية فقد أجازوا ذلك بشروط وهي:

1-

أن يكون المديون حاضرًا لا غائبًا.

2-

أن يكون المديون مقرًّا بالدين.

3-

أن يكون الدين مما يجوز بيعه قبل قبضه، فلا يجوز بيعه إذا كان طعامًا، فإنه لا يجوز بيعه قبل قبضه.

4-

أن يباع الدين بغير جنسه، أما إذا بيع: بجنسه فلا بد من التساوي، كما صرح به الدسوقي، رحمه الله.

5-

أن لا يباع دين الذهب بالفضة أو بالعكس، لكونه صرفًا وانعدام التقابض.

6-

أن لا يكون بين المدين ومشتري الدين عداوة، حتى لا يكون في البيع إعنات للمدين بتمكين عدوه منه.

7-

أن يكون المدين ممن تأخذه الأحكام ليمكن تخليص الحق منه عند القاضي إذا امتنع عن الأداء.

والقول بهذه الشروط السبع الذي صرح بها فقهاء المالكية إنما أرادوا بها أن تخرج العملية عن الغرر وشبهة الربا وإثارة الفتن.

ص: 171

أما الشافعية فقد اختلفت رواياتهم في قضية بيع الدين من غير المدين. فمنهم من لم يذكر إلا عدم الجواز كالنووي – رحمه الله – في منهاج الطالبين، ومنهم منذ كر وجهين: الجواز وعدمه، ورجح الجواز. ومنهم من قيد الجواز بما إذا قبض المشتري الدين من المدين في مجلس العقد وهذا الشرط في الحقيقة يؤول إلى عدم الجواز، لأن الدين متى قبض في المجلس لم يبقَ دينًا. ومنهم من اقتصر على ما إذا كان دين غير المديون من الأموال الربوية.

وقد ذكر فضيلة الشيخ محمد علي التسخيري أن هناك اختلافًا فيما بين علماء الإمامية في مخرج بيع الدين من غير من عليه الدين، فأجازه بعضهم ومنعه بعضهم، ولعله رجح الجواز ولم يتعرض فضيلته في هذا الكتاب لشروط الجواز عند من يجوزه، وذكر أنه يشترط عنده ألا يكون هذا البيع بأكثر، بمعنى التساوي.

فبالرغم من هذه الاختلافات الجزئية التي ذكرها الباحثون فإن جميع المذاهب الفقهية المذكورة متفقة على رأي واحد، وهو أنه إذا كان الدين نقدًا فلا يجوز بيعه بثمن أقل أو أكثر، إما لأن بيع الدين من غير المدين لا يجوز أصلاً وإما لأن من شروط جوازه التساوي إذا كان جنسهما واحدًا كما هو قول المالكية وبعض الشافعية.

وبهذا يتحصل أن عمليات توريد الديون والمتاجرة بها كما يقع في أرباح الرأسمالية اليوم لا يجوز في مذهب من المذاهب الفقهية المذكورة. واتفق على هذه النقطة الأبحاث الستة.

نأتي الآن إلى بيان شيء من التفصيل لهذه الأوراق المالية، فالنوع الأول منها هو (السندات)(Bonds) ، وربما تصدرها الشركات المساهمة لزيادة قدرتها المالية. فهذا السند مورد لهذه الشركات وهي بديلة لهم على أساس الفائدة. وقد تصدرها الحكومات للشعب ليستردوا منهم، وأخرى تصدرها البنوك والمؤسسات المالية وتسمى سندات الخزينة، وإن البنوك والمؤسسات المالية يشترونها على أساس المزايدة. ومعنى بيع هذه السندات أن مشتريها أقرض مبلغ الثمن إلى الحكومة واستحق من خلال هذا الإقراض أن يحصل على قيمة السند الاسمية عند حلول أجله.

إن هذه السندات كلها ربوية من أصلها، حيث إن المقرض يلتزم فيها بأداء مبلغ القرض وزيادة، فلا يخفى حرمة تداولها لأنها تؤدي إلى تعامل ربوي حرام. ولكن لو فرضنا أن هذه السندات أصدرت من قبل الحكومة على أساس القرض الشرعي بدون فائدة، فهل يجوز بيعها؟ يتأتى فيه الخلاف المذكور في بيع الدين، فلا يجوز بيعها عند الحنفية والحنابلة والظاهرية مطلقًا، وكذلك لا يجوز في الظاهر عند الشافعية. نعم يجوز ذلك عند من لا يشترط لجواز بيع الدين أن يقبض الدين في المجلس، فإن اشتريت هذه السندات بعين من الأعيان، مثل الثوب، أو الحبوب الغذائية، أو الأشياء الأخرى غير النقود فهذا البيع جائز على هذا القول مطلقًا. أما إذا اشتريت بالنقود فلم أجد من فقهاء الشافعية تصريحًا في هذا الباب، ولكن قياس قولهم في الصرف أن لا يجوز، لأن بيع النقود بالنقود صرف، ويشترط فيه التقايض في المجلس.

أما المالكية فيجوز عندهم بيع الدين لغير المدين بالشروط التي ذكرناها في تحقيق مذهبهم، ومن جملة هذه الشروط أنه إذا بيع الدين بجنسه فإنه يشترط فيه التساوي. فإن كان السند قيمته مائة فلا يباع إلا بمائة لا يزاد ولا ينقص، ومن الظاهر أن هذا الشرط لا يحصل به غرض السوق الثانوية التي تباع فيها السندات، فالحاصل أن التعامل الذي يجري في سوق الأوراق المالية من بيع السندات وشرائها محرم شرعًا. وعلى هذا اتفقت جميع البحوث.

ص: 172

النوع الثاني من هذه الأوراق هي التي تسمى: (الكمبيالات) ، وهي عبارة عن الوثيقة التي يكتبها المشتري للبائع في بيع مؤجل، ويعترف فيها بأنه وجب في ذمته ثمن المبيع، وأنه يلتزم بأدائه في تاريخ آجل. وإن البائع حامل الكمبيالة ربما يريد استعجال الحصول على مبلغها، فلا ينتظر إلى تاريخ نضج الكمبيالة، بل يبيعها إلى طرف ثالث بأقل من قيمتها الاسمية ويسمى (حسم الكمبيالة) .

والعادة في سوق الأوراق أن مقدار هذا الحسم نسبة من مبلغ الكمبيالة تحدد على أساس مدة نضجها، فكلما كانت مدة نضجها أكثر كانت نسبة الحسم أكثر، وكلما كانت المدة أقل كانت نسبة الخصم أقل.

وإن معظم العلماء المعاصرين خرجوا حكم الكمبيالة على أساس أنه بيع دين بنقد أقل منه، وحرموه من هذه الجهة.

وقد ذكر الفقهاء ورقتين يشبهان الكمبيالة اسمهما: الجامكية والصك.

وقد تعرض الدكتور القري في بحثه لبيع الصك وانتهى إلى أن الفقهاء لم يجيزوا بيع الصكوك، مع أنها كانت تمثل طعامًا، فكيف يجوز حسم الكمبيالة التي تمثل نقودًا.

وأما (الجامكية) فهي عبارة عن ورقة تصدر من بيت المال أو من ناظر الوقف لصالح رجل له حق مالي على بيت المال أو الوقف.

وقد صرح علماء الحنفية والحنابلة بعدم جواز بيع الجوامك. وهذا متفرع عن أصلهم أن بيع الدين من غير المدين لا يجوز إطلاقًا.

أما المالكية فقد ذكر الحطاب جواز بيع الجامكية، ولكن هذا الجواز مشروط بأن يكون بيعه بخلاف جنسه، كما حققنا من قبل عند المالكية.

أما الشافعية فقد ذكر محشي نهاية المحتاج جواز التنازل عن الجوامك بعوض، ولكن ليس مقصوده إجازة بيع الجامكية أو النزول عن راتب شهر معين، وإنما مقصوده أنه لو كان لرجل عطاء في بيت المال يحصل عليه كل شهر جاز له أن ينزل عنه في حق غيره للأبد ويأخذ عوضًا عن ذلك، ولكن المنزول له لا يستحق العطاء بمجرد نزول الأول، بل مفاد نزوله أنه تزول مزاحمته له في ذلك العطاء، ثم يصير الأمر موكولاً إلى من له ولاية التقرير، فإن رأى المصلحة جعل المنزول له في محل النازل، وإن شاء عين غيره. وعلى كل حال فقياس قول الشافعية في مسألة بيع الدين أن لا يجوز بيع الجامكية أو الكمبيالة إلا بقبض العوضين في المجلس وبشرط التساوي. فالحاصل أن حسم الكمبيالة بالطريقة المتبعة اليوم لا يجوز عند أحد، وقد اتفق عليه جميع الباحثين.

فقد أفتى بعض إخوتنا في ماليزيا بجواز بيع الدين، وتوصلوا بذلك إلى القول بجواز حسم الكمبيالة، وقد عقدت مؤسسة الأوراق في ماليزيا حوارًا لي معهم، فاجتمعت معهم في (كوالالمبور) حتى أعرف مستندهم في ذلك، فتبين لي أنهم اعتمدوا في ذلك على الأدلة الآتية:

1-

إنهم فرقوا بين القرض وبين الدين الذي ينتج عن بيع بضاعة، فقالوا: إن القرض لا يجوز بيعه أو شراؤه، فإنه لا يستند إلى بضاعة. أما الدين الذي ينشأ عن طريق البيع المؤجل فإنه يستند إلى بضاعة تم بيعها، فوثيقة هذا الدين لا يمثل النقود البحتة، وإنما يمثل النقود التي حلت محل البضاعة المبيعة، فبيع هذه الوثيقة عندهم بيع للدين الذي قام مقام البضاعة، فكأنه بيع للبضاعة.

ص: 173

وإن هذا الدليل – مع احترامي لهؤلاء الإخوة – لا يخفى وهنه:

أما أولاً: فلأن من النتائج اللازمة لعقد البيع انتقال ملك المبيع إلى المشتري، فلما تم البيع بين الفريقين انتقلت البضاعة إلى ملك المشتري، ولم يبق للبائع إلا مطالبة الثمن الذي ثبت في ذمة المشتري. وهو الدين الذي تمثله الكمبيالة، وبعد ثبوت هذه النقود في ذمة المشتري، لم يبق هناك أي فرق بين النقود المقترضة، وبين النقود التي ثبتت في ذمته بسبب الشراء. وإن هذه النقود ليست قائمة مقام البضاعة بحيث يمكن عود البضاعة إلى محلها، وإنما هي عوض عن البضاعة المبيعة التي تم بيعها بيعًا باتًّا لا رجعة فيه، فلا يمكن أن تجري عليها أحكام البضاعة. وإلا لصارت جميع النقود التي حصل عليها الإنسان ثمنًا للبضاعة قائمة مقام البضاعة في جواز تداوله بالتفاضل وهو محظور بالبداهة.

وثانيًا: القول بأن الكمبيالة بيع للبضاعة التي يقوم الدين مقامها يستلزم أن يقع على البضاعة الواحدة بيعان لجهتين مختلفين، فإن البضاعة تم بيعها إلى مصدر الكمبيالة وانتقل ملكها إليه، فكيف يبيع حامل الكمبيالة نفس هذه البضاعة إلى جهة أخرى؟ مع أن حامل الكمبيالة ليس مالكًا لها، ولا الجهة الأخرى تحصل على هذه البضاعة في مرحلة في مراحل العملية.

وثالثًا: إن هذا الدليل معارض للنص، وهو حديث عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، قال:"كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله! رويدك أسألك. إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء)) ".

دل هذا الحديث على أنه إذا وقع البيع على نقد من النقود، ثم أراد المتبايعان أن يحولاه إلى نقد آخر، فإن ذلك إنما يجوز بشرطين: الأول أن يكون على سعر يوم الأداء، والثاني: أن يتم الأداء في المجلس ولا يبقى في ذمة المشتري شيء.

ولا يخفى أن المبيع في هذه العملية إبل، وثبت ثمنها بالدراهم مثلاً في ذمة المشتري، فكأنها أصبحت دينًا في ذمته، وأنه يريد أن يستبدلها بالدنانير، فاشترط رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك أن يقع الاستبدال بسعر يوم الأداء، وبأن لا يبقى شيء من الثمن في ذمة المشتري.

ولينظر أن هذه العملية وقعت بين البائع والمشتري، ولم يتخللها ثالث، وكان من السهل أن يقال إنهما فسخا البيع السابق، وعقدا من جديد على أساس الدنانير، ولذلك لا يشترط فيه سعر يوم الأداء، ولا التقابض، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعله صرفًا ليحترز من كل شبهة للربا، وكذلك كان هذا بيعًا للدين ممن هو عليه، ومع ذلك اشترط رسول الله صلى الله عليه وسلم تساوي البدلين في السعر، فيشترط هذا الشرط من باب أولى في بيع الدين من غير من هو عليه، لأن تخلل الثالث أبعد كل احتمال للاستبدال أو فسخ البيع السابق وعقده من جديد.

2-

إن بعض هؤلاء الإخوة استدلوا بما روي عن المالكية وعن بعض الشافعية أنهم أجازوا بيع الدين من غير من هو عليه، وتمسكوا بلفظ (بيع الدين)، وقالوا: متى جاز بيع الدين، فإن البيع يقتضي أن يجوز بكل ما اتفق عليه العاقدان من ثمن، فيجوز بيع الدين بأقل من مبلغ الدين إذا تراضى عليه الطرفان.

ص: 174

وهذا الدليل أضعف من الأول، لأنه حينما يقال بجواز بيع شيء، فإن الجواز يخضع لجميع الشروط اللازمة في مثل ذلك البيع، فمثلاً: إذا قلنا يجوز بيع الذهب، فليس معناه أنه يجوز بذهب أقل منه أو أكثر، وإنما المراد أنه يجوز هذا البيع بجميع شروطه المعتبرة، وهكذا في مسألة بيع الدين.

3-

وربما استدل بعضهم بما ذهب إليه العلماء من جواز (ضع وتعجل) استدلالاً بقصة بني النضير حينما أجلوا من المدينة المنورة، وإن هذه المسألة سبق وأن بحث فيها في المجمع، وفيها خلاف للفقهاء، ولكن الذين ذهبوا إلى جوازه إنما جوزوه إذا كان ذلك فيما بين الدائن والمدين، ولم يجوزه أحد منهم إذا تخلل ثالث في العملية. وهذه المسألة قد صدر فيها قرار من مجمع الفقه الإسلامي في دورته السابعة، ونصه:

"الحطيطة من الدين المؤجل لأجل تعجيله، سواء أكانت بطلب الدائن أم المدين (ضع وتعجل) جائزة شرعًا، لا تدخل في الربا المحرم إذا لم تكن بناء على اتفاق مسبق، وما دامت العلاقة بين الدائن والمدين ثنائية، فإذا دخل بينهما طرف ثالث لم تجز، لأنها تأخذ عندئذ حكم حسم الأوراق التجارية ".

ثم تعرض الباحثون للبدائل الشرعية لبيع الدين وقد ذكرها بصفة خاصة سيادة الدكتور سامي حسن حمود، وسيادة الدكتور محمد علي القري، وفي بحثيهما القيمين، كما أنني ذكرت في بحث البدائل التي يمكن على أساسها تطوير الأوراق التي يمكن المتاجرة فيها.

والبدائل أتى بها الباحثون في هذا الصدد متقاربة متشابهة.

بديل حسم الكمبيالات:

أما حسم الكمبيالات، فيمكن تحصيل غرضه بطرق ثلاثة:

1-

إن حسم الكمبيالات يحتاج إليه تاجر يبيع بضاعته بيعًا مؤجلاً، فيريد أن يحصل على مبلغ الثمن (أو ما يقاربه) معجلاً قبل حلول الأجل ليمكن له الوفاء بالتزاماته تجاه التجار الذين اشترى منهم البضاعة المصدرة، أو الصناع الذين صنعوها له، وأكثر ما يحتاج إليه التجار في تصدير بضاعاتهم إلى خارج البلد عن طريق اعتماد مستندي فيذهبون بالكمبيالات إلى بنك ليحسمه ويؤدي إليهم مبلغ الكمبيالة ناقصًا منه نسبة الحسم.

ص: 175

والطريق المشروع للحصول على هذا الغرض بالوجه الذي لا غبار عليه من الناحية الشرعية أن يعقد التجار المشاركة مع البنك قبل تصديرهم للبضاعة، وبما أن عندهم طلبًا معينًا من خارج البلاد، والسعر معلوم متفق عليه بين الفريقين والتكلفة معلومة، فلا يصعب على البنك الدخول في المشاركة في هذه العملية بخصوصها. لأن الربح المتوقع من العملية شبه المتيقن، فيمكن للبنك أن يعطي العميل المبلغ المطلوب على أساس المشاركة، ويتقاضى نسبة من الربح الحاصل من العملية، فيحصل العميل على السيولة ويتمكن بها الوفاء بالتزاماته التي يتحملها لإعداد البضاعة المصدرة، ويحصل للبنك الربح بنسبة معلومة.

2-

الطريق الثاني: أن يبيع البنك إلى حامل الكمبيالة بضاعة حقيقية مقابل الكمبيالة على مذهب المالكية وبعض الشافعية، أو مقابل ثمن يساوي مبلغ الكمبيالة، ثم يقبل حوالته على مصدر الكمبيالة. وبما أن مقابل الكمبيالة بضاعة، فلا بأس أن يبيعه البنك بسعر أعلى من سعر السوق، وبهذا يحصل على ربح.

3-

الطريق الثالث: أن تكون هناك معاملتان مستقلتان بين البنك وبين حامل الكمبيالة.

المعاملة الأولى: أن يوكل حامل الكمبيالة البنك بتحصيل مبلغه من مصدر الكمبيالة عند نضجها، ويعطيه أجرًا معلومًا مقابل هذه الخدمة.

والمعاملة الثانية: أن البنك يقرض العميل مبلغ الكمبيالة ناقصًا منه أجرة الوكالة قرضًا بدون فائدة.

وإن هذا الطريق يشترط لجوازه أمور:

الأول: أن يكون كل واحد من العقدين منفصلاً عن الآخر، فلا تشترط الوكالة في القرض، ولا القرض في الوكالة.

الثاني: أن لا تكون أجرة الوكالة مرتبطة بمدة نضج الكمبيالة. بحيث تكون الأجرة زائدة إن كانت المدة طويلة وتكون أقل إن كانت قصيرة.

الثالث: أن لا يزاد في أجرة الوكالة بسبب القرض الذي أقرضه البنك، فإنه يكون حينئذ قرضًا جر منفعة.

والإخلال بهذه الشروط يفسد هذه العملية ولا تجوز شرعًا.

أما بديل السندات التي تصدرها الشركات فإن جميع الباحثين أتوا لها ببديل سندات المقارضة، ولا أطيل في هذا لأن المجمع قد سبق وأن أصدر قرارًا في هذا الموضوع وجواز سندات المقارضة والشروط التي تجيز هذه السندات.

ص: 176

أما القضية المهمة التي تعرض لها عدة باحثين هي: بديل السندات التي تصدرها الحكومة لتمويل عجز ميزانيتها، فقد أتى لها ببدائل في عدة بحوث منها:

صكوك المشاركة أو المضاربة، يمكن استخدامها في مشاريع تجارية تدر ربحًا، فيمكن أن تصدر الحكومة صكوك المشاركة أو المضاربة بالقراض لهذه المشاريع التجارية ويساهم حملة الصكوك في الأرباح التي تنتج من هذه المشاريع.

وكذلك ذكرت صكوك التأجير، ويمكن استخدامها في بناء مشاريع يمكن تأجيرها ويمكن تمويل هذه المشاريع عن طريق إصدار صكوك التأجير، مثلاً: تريد الحكومة أن تبني جسرًا فإنه يمكن أن تتقاضى رسومًا ممن يستخدم هذا الجسر، ويمكن أن يؤجر هذا الجسر إلى جهة تجارية وتتقاضى الرسوم ممن يستخدمه.

وهناك عدة قطاعات حكومية لا تدر ربحًا فكيف يمكن تمويل تلك القطاعات لأنه لا يمكن على أساس المضاربة أو المشاركة أو التأجير؟ واقترحت لذلك في بحثي تكوين صندوق تمويل للحكومة، فقلت:

قد تكون لدى الحكومة مشاريع لا تدر ربحًا، أو تدر ربحًا بسيطًا لا يكفي لتشويق الناس إلى المساهمة فيه. مثل دعم القوات المسلحة، وإنشاء المعاهد الدراسية، أو المستشفيات العامة، أو إنشاء المباني التي لا تدر ربحًا. إن تمويل هذه المشاريع لا يمكن على أساس المشاركة أو المضاربة.

ويمكن تمويل هذه المشاريع بإنشاء صندوق خاص لتمويل الحكومة. وإن هذا الصندوق يتكون بمساهمات عامة الناس، ويصدر لهم صكوك تشهد بمساهمتهم فيه. ثم إن الصندوق يمول مثل هذه المشاريع الحكومية على أساس المرابحة، أو التأجير، أو الاستصناع، حسب طبيعة المشروع فمثلاً: إذا احتجت الحكومة إلى شراء أسلحة؛ فإن هذا الصندوق يشتريها من المصدرين، ويبيعها إلى الحكومة مرابحة مؤجلة، وإن احتاجت الحكومة إلى ماكينة أو معدات أخرى، فإن هذا الصندوق يشتريها ثم يؤجرها إلى الحكومة إما إجارة عادية، أو إجارة منتهية بالتمليك. وإن احتاجت الحكومة إلى بناء عمارة، فإن الحكومة تعقد الاستصناع مع هذا الصندوق، وإن الصندوق يبني العمارة عن طريق مقاول من الباطن، ويسلمها إلى الحكومة، وتدفع الحكومة الثمن إلى الصندوق في أقساط معلومة.

ومما ينبغي أن يراعى في عمليات هذا الصندوق أن لا تزيد نسبة عمليات المرابحة على (49 %) من مجموع العمليات، حتى يكون معظم ممتلكات الصندوق أعيانًا. وحينئذ تكون صكوك هذا الصندوق تمثل حصة شائعة في وعاء معظم موجوداته أعيان، فيجوز تداولها في السوق الثانوية. وأخيرًا ذكرت بديلاً آخر وهو أن تصدر الحكومة سندات القروض بدون فائدة. وهذه يمكن إصدارها ويمكن أن تنجح إذا كان الناس في ثقة أن الأموال الحاصلة من وراء هذه السندات لا تنفق في سرف وترف وتنعم، فإذا اعتمد الناس على حكوماتهم بأنهم لا ينفقون الأموال لمجرد تنعمهم فإنه لا يستغرب أن يعطوا الحكومة قروضًا بدون فائدة.

ثم ذكرت في الأخير أنه يمكن للحكومة أن تعفي حملة هذا السندات عن بعض الضرائب أو تخفض نسبتها لهم، والظاهر أن ذلك لا يكون من قبيل القرض الذي جر نفعا، وذلك لأن القرض إنما يدخل في القرض الربوي إذا تضمن إعطاء زيادة على رأس المال أو إعفاء المقرض عن دين كان يجب عليه. أما الضرائب فإنها ليست من قبيل الديون الواجبة على المواطنين، وإنما يجوز للحكومة فرض الضرائب عليهم للوفاء بحاجات الحكومة بقدر الحاجة، ولذلك للحكومة معايير مختلفة في فرضها على بعض المواطنين دون بعض، وتعيين نسب مختلفة لأصناف مختلفة منهم. ولما تقدم هؤلاء المقرضون بقروض وفَّت بعض حاجات الحكومة، فللحكومة أن تعفيهم عن بعض الضرائب أو تخفض عنهم بعضها، لأنهم أدوا بعض دورهم في سد حاجات الحكومة فلا يطالب من الآخرين الذين لم يؤدوا هذا الدور إطلاقا.

هذه خلاصة ما جاء في هذه البحوث، واعترف في الأخير بأنه قد وقع منى بعض التفريط أو التقصير في بيان ما جاء في البحوث الأخرى لأنه ما كان لي وقت كاف فأرجو من الرئاسة أن تعطي كتبة هذه البحوث الأولية عند النقاش.

وبهذا القدر أكتفى، وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 177

التعقيب والمناقشة

التعقيب والمناقشة.

الأستاذ عبد اللطيف الجناحي:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

نحن في هذا اليوم أمام موضوع هام لأن أهميته تهم كل مسلم وكل دولة إسلامية.

تعرض الباحثون لصور متعددة من أنواع بيع الدين، وعرض فضيلة العارض للتجربة التي في ماليزيا.

والموضوع أيها الإخوة موضوع خطر، وأنا عندما ناقشت إخواني في ماليزيا هناك قلت لهم: إنكم أغلقتم الباب الأمامي للربا وفتحتكم بابًا خلفيًّا له. نحن نريد أن نغلب أبواب الربا جميعًا.

في الحقيقية المؤسسات والمصارف الإسلامية، جزى الله القائمين عليها خيرًا، انشغلوا كثيرًا برفع بلوى الربا على المواطنين والقطاع الخاص. بقي قطاع هام جدًا ويجب أن نتوجه إليه في هذه المرحلة وهو القطاع العام.

استعرض الباحث الكريم أنواعًا من الصكوك (التأجير، والمشاركة، وسندات القروض بدون فائدة) ، ولا أدري كيف يستطيع مواطن، أو أن يقبل مواطن بأن يشتري سند قرض بدون أن يحصل في نهاية المطاف على أي نوع من المصلحة. وأود أن أطرح شكلا آخر وهو (سندات السلم) . فالسلم من البيوع الجائزة شرعا، وأنا أريد أن أحل سندات السلم مع أذونات الخزينة. مثلا دولنا في الخليج أو أي دولة أخرى لها ثروات طبيعية، مثل البترول، والنحاس، وغيرها من الثروات، فلماذا لا تبيع هذه الدول كميات محدودة معلومة من النحاس أو البترول أو أي نوع من الثروات الطبيعية على مواطنيها؟ وشاهدنا في ذلك هو جواز بيع المسلم فيه قبل القبض كما لدى المالكية ويروى ذلك بشيء من التفصيل في الموطأ، وأيضا جاء في المدونة الكبرى حيث لم يجيزوا بيع الطعام لكنهم أجازوا دون ذلك من السلع.

إذن ما دام هناك إمكانية ببيع السلم قبل قبضه فإذن نصدر صكوكا للسلم لبضاعة محددة تستوفى في مكان محدد وبمبلغ محدد ومعلوم. هذه السلعة مثلا تشكل ألف برميل من النفط أو ألف طن من النحاس ونوكل الحكومة نيابة عنا في استلام هذه البضاعة وبيعها على الأطراف الأخرى.

المزايا التي يمكن أن نحصل عليها من وراء طرح مثل هذه السندات هى:

1 – أن الدولة يمكنها أن تستخدم هذه السندات لسد العجز المؤقت في ميزان المدفوعات بدل أن تطرح سندات خزينة بفائدة.

2 – تمكن الدولة من السيطرة على حجم النقد بطرح كميات من السلعات يمكنها من تنظيم حركة النقد.

3 – إيجاد سوق ثانوية بأن هذه السندات قابلة للتداول بالسعر الذي تتفق عليه الأطراف المتبادلة، لأنها تقع على بضاعة حقيقية ومعروفة.

4 – المشاركة الجماهيرية في جني ثمار الثروة الوطنية، والحرص للمحافظة عليها وزيادة إنتاجها.

5 – إحساس المواطنين فعلا بقيمة ثرواتهم الوطنية، وتقدير جهود الدولة، والتعاون معها في مخططاتها المالية عند تقلب أسعار الثروة الوطنية.

6 – يعطي تبادلًا أكثر لميزانية الدولة حيث يمكن التخطيط لبيع النفط مؤجلا لمدة سنة أو أكثر تمشيًّا مع مخططات احتياجات الميزانية.

هذه الفكرة مطروحة ولدينا واقع، ويمكننا في الواقع الاطلاع عليها وبلورتها بشكل أكبر مع بعض الإخوان.

وشكرا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 178

الشيخ صالح المرزوقى:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد؛

فأشكر للإخوة الباحثين جهودهم على هذه البحوث القيمة، وإذا كان لنا من مداخلة فهى كالتالي:

يرى فضيلة الشيخ محمد تقي العثماني وكذلك الدكتور محمد على القري أنه يجوز على مذهب المالكية بيع الكمبيالة والسلم إذا بيع كل منهما بقيمة مساوية.

والذى يظهر لي أنه لا يصح تخريجه على مذهب المالكية. وما ذكره فضيلة الشيخ تقي العثماني عن المالكية هو من بيع المطلق أي في الصرف، بدليل تجويزهم بيع الدين لغير المدين، لأن الصرف لا ينجم عنه الدين وما نقله عن الدسوقي حاشيته هو في الصرف لا في الدين، مثل أن يقول الإنسان: عليَّ ألف دولار فأشتريها منه بثلاثة وسبعمائة ريال أسلمها له في مجلس العقد. لا أنه بيع الدين لغير من هو عليه.

ورتب على الجواز بيع الكمبيالة والسند إذا كانا بثمن مساو. وهذا كلام الزرقاني الذي نقله فضيلته في الشرط الخامس: (أن لا يباع دين الذهب بالفضة أو بالعكس لكونه صرفا وانعدم فيه التقابض) ، وخلص فضيلته إلى جواز بيع السند والكمبيالة بالنقد المساوي للقيمة الاسمية.

والذي يظهر لي أن بيع الكمبيالة بالنقود لا يجوز، لا حسمًا ولا مساويًّا لأنها ليست نقودًا فهو عقد صرف تم فيه التساوي والتقابض في المجلس، وإنما هي وثيقة لدين غائب متضمنة استحقاق مقدار من النقود وهذا لا يجوز، لأن المبيع الذي تمثله هذه الورقة نقود غائبة بيعت بنقود حالة، وبشرط بيع النقود التساوي والتقابض، وإن تحقق التساوي، وهو بعيد؛ فلن يتحقق التقابض. ولا يعتبر قبض الكمبيالة قبضًا لما فيها، وتختلف عن الشيك هو يمثل المبلغ المدون به ويمكن قبضه في الحال بخلافها. أما أن يشترى بها عروضًا فهذا جائز، وأما السند فإن كان يمثل نقودًا فحكمه مثل ما ذكرنا في الكمبيالة، وأما إن كان يمثل عروضًا أو الغالب فيه العروض فلا مانع من بيعه بعروض أو نقود مع التساوي أو التفاضل مع شرط قبض أحد العوضين للخروج من بيع الدين بالدين.

وذكر فضيلة الشيخ العثماني في النوع الرابع وهو أسلوب القبض الذي ألقاه في بحثه فهو أسلوب لا غبار عليه.

وما ذكره بخصوص صندوق تمويل الحكومة يظهر لي أن أسلوبه يؤدي إلى الربا وهو بيع النقد بالنقد متفاضلاً.

وما ذكره في خلاصة حكم الكمبيالة وقال: إنه بيع لنقد حال بنقد مؤجل أقل منه وهو في معنى الربا. وأقول: هو بذاته عينه وليس هو بمعنى الربا.

ص: 179

وما ذكره الدكتور محمد علي القري من أن النهي عن بيع الصفات واقع على البيع ثان. لا أرى فيما نقله عن غيره ما يغير من الحقيقة بل فيه منع الجميع من بيع الصفات، وحمله حديث أبي هريرة على هذا لا وجه له، لأنه كيف يكون ربا وغررًا إذا باع البائع الثاني – كما قرر سعادته – ولا يكون ربًا ولا غررًا إذا باعها من وهبت له؟

قال الدكتور القري: قال جمهور الفقهاء بجواز بيع صاحبنا الأول لها. نقول له: من هم هؤلاء الجمهور؟ وأين المراجع عنهم؟! وهذا كلام ابن رجب في القاعدة الثانية والخمسين: إن كان الدين نقدًا وبيع بنقد لم يجز بلا خلاف لأنه صرف بنسيئة فلم يستفِ البائع الأول ابن رجب لم يستفِ البائع الأول من البائع الثاني، وقال: وإن بيع بيعهم وقبض في المجلس ففيه روايتان، قال أحد في بيع الصفات هو غرر، ونقله. . . أنه كرهه، وقال. . وهذا يدل على. . . أقول: الكمبيالة التي يراد أن تقاس على الصفات ليست نقودًا ولا عروضًا وإنما هي وثيقة بدين.

ويقول الشيخ العثماني: إن حسم الكمبيالة ليس بيعًا في الحقيقة وإنما هو إقرار حوالة. الذي يظهر لي أنه بيع في أقل من الثمن وهو على كل سواء كان بيعًا أو قرضًا ربا ولا خلاف.

يقول أيضًا: البديل لحسم الكمبيالة أن يدفع المبلغ على أساس المشاركة. أقول: هذا لا يتأتى، لأن الكمبيالة توثيق دين على شخص حقيقي ولا تمثل أسهمًا حتى يحل المشتري محل صاحب الأسهم، ولأنه في الشركات يحتاج أن يدفع كل من الشريكين نصيبه في رأس المال وطالب الكمبيالة يريد أن يقبض لا أن يدفع. وقال: الطريق الثاني أن يبيع البنك لحامل الكمبيالة بضاعة حقيقية. أقول: هذه الطريقة جائزة إذا توفرت لدى البنك بضائع، لكن أرى أن يضاف إليها (بشرط ألا يحدث بيعها على البنك إلا بتوفر الشروط الشرعية.

وقال الشيخ العثماني في الطريق الثالث وقسمه إلى حالتين:

الأولى: أن يوكل حامل الكمبيالة البنك بتحصيلها عند نضجها ويعطيه أجرًا مقابل هذه الخدمة.

أقول: هذه الطريقة إن كان تسلم مالكها لها بعد قبض المؤجل لها فهذا لا بأس به، إن شاء الله، لكنه لا يحقق المراد لحامل الكمبيالة الذي هو مستعجل على قبض الدين، وإذا اتضح نضج الكمبيالة فلا حاجة له في البنك ولا حاجة له، كأن يدفع أجرة على تحصيلها لأنه يمكن تحصيلها بنفسه عند حلول أجلها.

أما المعاملة الثانية: وهي أن البنك يقرض العميل ناقصًا من أجرة وكالة قرضًا بدون فائدة، فهذا تحايل على الربا باسم التجارة وما هو إلا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: دراهم بدراهم بينهما سلعة، يقول الدكتور سامي حمود: ويتفق الفقه المالكي من ناحية عدم حصر المضاربة في النطاق التجاري بمعناه الضيق. لكن الذي نعرفه عن الفقه المالكي أنه بين مذهب الحنابلة من طرف وبين مذهبي الحنفية والشافعية من طرف آخر، فالمذهبان الأخيران لا يجيزان المضاربة إلا في التجارة، أما المذهب المالكي فيجيزها في التجارة والزراعة، ولا يجيزها في غير ذلك؛ كالصناعة. أما المذهب الحنبلي – فكما ذكر سعادته – يجيزها في جميع المجالات، وكنا نتمنى من سعادته أن يدلنا على مرجع للمالكية فيما ذكره.

ص: 180

تكلم سعادته أيضًا عن سندات القراض ولم يبين المضارب، أهو حكومة أم هو هيئة مالكة للسندات؟ فإن كان المضارب هو هيئة مالكة للسندات فهي شركة ومضاربة في آنٍ واحد ولا مانع منه. ويرتئي سعادته أن تدخل سندات القراض في شركة مساهمة، لكنه لم يشرح هذه الطريقة المقترحة، فالشركاء في الشركات المساهمة هم أصحاب رأس المال، وإذا طرحت الشركة المساهمة هم أصحاب رأس المال، وإذا طرحت الشركة المساهمة سندات قراض، فهل تجعلها مستقلة عن رأس مال الشركة وتستثمرها في وقتها، وحينئذ تكون الشركة المساهمة ضامنة للمضارب؟ إذا كان كذلك فلا بأس، أما أن تخلطها بأموال الشركة فلا، لأنه حينئذ يصعب فرزها ولأنه ليس للمضارب أن يخلط أموال المضاربة بماله إلا أن ينص عليه رب المال في شركة ثنائية، فكيف يكون ذلك في شركة مساهمة عامة أصحابها لا يعرف بعضهم بعضًا؟

وتكلم سعادته عن سندات المشاركة وجعلها قسمين، القسم الأول مشاركة مستمرة، وهذا النوع لا أرى فارقًا بينه وبين الشركات المساهمة المعروفة، فالسندات المقترحة وتداولها مثل الأسهم وتداولها. والقسم الثاني المشاركة على أساس التناقص المتدرج، وضرب لنا مثالاً بالمساهمة في بناء الوقف. فإذا حقق الوقف دخلاً صافيًّا بنسبة (35 %) من الدخل مثلاً يكتب ربحًا والباقي وقدره (65 %) يعتبر تسديدًا لرأس المال، وإذا فرضنا أن ما يحصل عليه صاحب السند فيأخذ واحدًا وعشرين دينارًا، منها سبعة دنانير كإيراد وأربعة عشر دينارًا كتسديد من رأس المال، وهكذا إلى أن تنتهي السندات جميعًا حيث يعود المبنى الوقفي بكامله ملكًا للوقف.

الواقع أن هذه الطريقة التي طرحها سعادة الدكتور سامي هي ما يسميه أهل القانون (استهلاك الأسهم) ، والذي أراه بالنسبة لما ذكره أنه لا يجوز شرعًا لأن استهلاك السندات بجزء من الربح هو في الواقع استهلاك صوري لها، وذلك لأن الذي يأخذه المشاركون في مقابل سنداتهم أو في مقابل أجزاء منها هو حقهم في الربح وليس شيئًا آخر، لأنه يجب أن يكون السند أو السهم أو الصحة باقيًّا على ملك صاحبه وليس هناك طريقة شرعية لاعتباره مبيعًا أو مسقطًا، فيجب أن تبقى لأصحابها إلى أن تصفى الشركة، وكل ما يأخذه الشركاء من الربح فهو حقهم سواء أخذوه في صور ربح أو في صور ثمن للأجزاء التي جرى استهلاكها.

وفي معرض تعليق الدكتور سامي حمود على تنضيض الحكم الذي جاء في فتاوى ندوة البركة، والذي مفاده أن لتنضيض الحكم حكم التنضيض الفعلي، وتضمن تعليق سعادة الدكتور القري، وتضمنت أن المعايير المحاسبية لا تقتصر على تقويم العروض والأصول الحقيقية بل يتوصل من خلالها لتقويم الديون بناءً على سعر الرسم المحتمل في المعاملة الربوية، ثم خلص إلى أنه أصبح التنضيض الحكمي وسيلة تؤدي إلى بيع الدين بطريقة لا تختلف عن رسم الكمبيالات، أي بيع الدين النقدي إلى غير من هو عليه قبل أجله بقيمة نقدية تقل عن قيمة دين هذا النوع.

هذه هي النتيجة التي توصل إليها سعادة الدكتور القري، وهو استنتاج طيب، جزاه الله خيرًا.

في بحث الدكتور القري عند ذكر البدائل الشرعية لبيع الدين وقياسه على بيع الدين ومنه، الكمبيالات والسندات على غير المدين كما استشهد لكلامه بما نقله عن فضيلة الشيخ الصديق الضرير وهو قوله: إذا بيع الدين قبل أجله بسلعة أو منافع معينة كان ذلك جائزًا. . ثم أتم كلام الضرير وهو قوله: كما لو كان لرجل على آخر دين فباعه لثالث بسيارة يسلمها له بعد شهر مثلاً فإن هذا البيع جائز.

ص: 181

أقول: يظهر لي عدم جواز هذا البيع الذي صوره في هذا المثال، لأن بيع الدين بالدين مجمع على تحريمه، ومن ناحية أخرى فإن هذا المثال يخالف ما أرسل له، فالكلام الذي قبله (إذا بيع بسلعة أو منافع معينة) هو قول يفهم منه أنها مقبوضة حتى يتحقق القبض في أحد العوضين.

يقول الدكتور القري: ومن المعلوم أن الأسهم تعد في ظل الفتاوى المعاصرة من الأصول الحقيقية كالعروض.

والذي يظهر لي أن هذا القول يحتاج إلى تقييد فليست كل الأسهم مشتملة على عروض. فالأسهم المصرفية التي يتحول غالبها إلى نقود، والأسهم النقدية قبل أن تمارس الشركة أعمالها وقبل أن تتحول موجوداتها إلى عروض، كل هذا لا يجوز بيعه بنقود إلا بشرط التساوي والتقابض.

وقال الدكتور القري: بإمكان الحكومة إلزام فئات من الناس كالأغنياء وبعض الشركات للاكتتاب بها واقتنائها لفترة محددة.

والواقع أن من شروط عقدي البيع والشركة الرضا، فبإجبار الناس لا يصلح العقد، وكذلك من أين جاء للحكومة إلزام الناس أن يقروضها؟ ! وتقول:(تقترض الحكومة ثم تسدد بفرض الضرائب)، فوقعنا في أمرين أحلاهما مر: إلزام بقرض وضرائب.

وقال الدكتور عبد اللطيف محمود آل محمود: " وإن كان تمليك الدائن دينه المستقر لغير المدين بيعًا بين غير الربويات بثمن مؤجل كأن يكون لشخص على آخر مائة صاع من قمح مثلاً، فيبيعها على ثالث بمائتي ريال مؤجلة إلى شهر فقد اختلف الفقهاء فيها على قولين:

الأول: ذهب جمهور العلماء إلى فساد هذا البيع، لأنه من بيع الدين بالدين.

الثاني: يجوز هذا البيع، وهو رأي بعض العلماء المعاصرين قياسًا على الحوالة، وفيه تحقيق مصلحة للطرفين وليس هناك ضرر يلحق بالمدين.

أقول: نقل فضيلة الدكتور يحتاج إلى نظر؛

أولاً: أنه لم يذكر لنا هؤلاء الجمهور، ولم يذكر أصحاب القول الثاني والذين وصفهم بالعلماء المعاصرين، وقد أحال على بعضهم لا نعرفهم، هكذا فقط.

والذي أود التنبيه عليه أن الصورة المذكورة هي محل اهتمام بعدم جوازها، وليس قولاً للفرد ولا للجمهور لأن هذه صورة بيع الكالئ بالكالئ.

ثانيًا: رأي معاصر أو متقدم يقال بالإجماع وما دامت المسألة بهذه الصورة بالإجماع لا عبرة بالقياس ولا للمصلحة الموهومة.

وقد اطلعت على البحث القيم لفضيلة الدكتور علي محيي الدين القره داغي وما تضمنه، لبيان الأسلوب الذي يسير عليه البنك الإسلامي في ماليزيا واحتجاجه على حسم الكمبيالة دين المرابحة بتخريجها على مذهب الشافعية، فقد سررت بالإجابة السديدة التي عرضها سعادة الدكتور علي والرد الشافي على هذا الزعم.

وفق الله الجميع لما فيه الخير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد.

ص: 182

الدكتور محمد علي القري:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة على رسول الله. أما بعد، فإني أقدم شكري الجزيل لفضيلة القاضي الشيخ تقي العثماني على تلخيصه الممتاز لهذه البحوث فقد أنصف نفسه وأنصف إخوانه الباحثين.

وعندي بعض الملاحظات التي أبدؤها بالرد على أخي الدكتور صالح المرزوقي فيما أشار إليه من الملاحظات على بحثي، فشكرالله له على قراءته ولو أنه يظهر أنه قرأه قراءة مستعجلة.

بالنسبة لما ذكرناه من صكوك فقد بينت أن الصكوك هي (التواقيع السلطانية بالأرزاق) وليست ديونًا نقدية، كما فهم من كلامي. ثم أشرت إلى أن النهي عن بيع الصكاك الذي ورد في الآثار المذكورة إنما هو واقع على البيع الثاني، لأن الذي خرج له الصك مالك ملكًا مستقرًا وليس هو بمشتغل بل موهوب، فلا يمتنع عليه البيع قبل القبض، لأن النهي إنما جاء في منع بيع الطعام قبل القبض إذا كان ملكه بشراء. وقال: أين المراجع؟ وفي الحقيقة المراجع موجودة أسفل الصفحة.

وأيضًا أشار – حفظه الله – إلى مسألة الأسهم، والذي اعتمدت عليه في هذا هو قرار المجمع الفقهي الذي ينص على:(أن المحل المتعاقد عليه في بيع السهم هو الحصة الشائعة من أصول الشركة، وشهادة السهم عبارة عن وثيقة للحق في تلك الحصة) ، هذا هو نص القرار، والجملة التي تلي ذلك هي إذا كانت هذه الموجودات من المعدات والغفار وما شابه ذلك جاز أن تكون مما يباع بالأجل) . فقول الأخ الشيخ المرزوقي بأني لم أبين هذا غير دقيق لو أنه قرأ ما جاء بعد هذا الكلام لتبين له ذلك، وأما ما ذكره عن كلام الشيخ الضرير فهو منقول من كتابه (الغرر) ، وقد أخبرني الشيخ الضرير – حفظه الله – بأنه قد قرأ بحثي وأنه يوافق على كل ما جاء فيه.

إن السؤال الذي يطرح في هذا المقام هو: ما الباعث على النظر في هذه المسألة؟ وهل نحن بحاجة إلى صيغة لبيع الدين؟

أما الباعث على النظر في هذه المسألة فهو كثرة المداينات في حياتنا المعاصرة على مستوى الأفراد وعلى مستوى الشركات، حيث إن الناس يشترون منازلهم وسياراتهم وأثاث بيوتهم وغير ذلك بالتقسيط الذي يولد هذه الديون، والشركات تقترض لتمويل عملياتها التشغيلية وعملياتها الاستثمارية وتفضل القروض على المشاركات لأغراض ضريبية، والحكومات تستدين لأغراض التنمية ولسد الحاجات الطارئة، وأضحت حاجة المسلمين اليوم إلى صيغة مقبولة من الناحية الشرعية للتصرف بالديون من قبل الدائنين حالة طارئة مدروسة من جهتين:

الأولى: لكي تكون عندنا صيغة بديلة عن أنواع بيوع الدين القائمة على الربا والتي انتشرت في عالم الاقتصاد اليوم، وقد بلينا بهذه الديون.

الثانية: لأن وجود صلة مشروعة للتصرف بالدين من قبل الدائن تزيد من كفاءة الاستثمارات المالية الإسلامية، لأنها تمكن من الاستغلال الأمثل للسيولة الفائضة عن الحاجة لدى المؤسسات المالية الإسلامية ولدى صناديق الاستثمار. كما أنها تيسر سبل تمويل الاستثمارات طويلة الأجل. وإن البنوك الإسلامية كثيرًا ما تضطر إلى التركيز على الاستثمارات قصيرة الأجل كتمويل التجارة ونحو ذلك، ولا تدخل في الاستثمارات طويلة الأجل، مثل بناء المساكن والمشاريع الكبرى؛ لأنَّ هذا التمويل يمتد إلى أجل طويل قد يبلغ عشرين سنة أو أكثر من ذلك، ولا يمكن لمؤسسة مالية أن تدخل في مثل هذا وهي تعدم طريقة للتصرف بالدين.

والسؤال الثاني هو: هل يوجد لدينا صيغة مشروعة لبيع الدين تكون خالية من الربا والغرر، وفي الوقت نفسه تكون قابلة للتنفيذ وللتطبيق العملي وقادرة على النهوض بحاجات الناس إلى التصرف بالدين بطرق مباحة؟

والجواب نعم، وقد فصلت الأوراق التي بين أيديكم هذا البديل من أوجهه المختلفة بما لا مزيد عليه، وهي تقوم بصفة أساسية على بيع الدين النقدي للعروض الحاضرة، وبيع الدين السلعي من غير الطعام بالنقود، فيمكن عندئذ لمؤسسة مالية أو تجارية أن تبيع الديون المستحقة لها في ذمم الناس إلى طرف ثالث بالسلع والبضائع، كما يمكن للحكومة مثلاً أن تصدر سندات دين سلعي فتبيع على أساس السلم سلعة موصوفة في الذمة، وتحصل على النقود مع اطمئنان حامل السند من أفراد وبنوك إلى إمكانيات السيولة ببيعة قبل الأجل على رأي المالكية.

ص: 183

أما إصدار السندات بدون فائدة – وقد أشار إليه من سبقني بالحديث – فقد يبدو غريبًا، ورب قائل من يساهم في هذه القروض وهي بلا فائدة ولا عائد مالي؟!

الواقع أن بعض البلدان تصدر سندات ذات فائدة متدنية يسمونها (سندات التنمية) أو ما إلى ذلك، وهي تخاطب في الناس وطنيتهم للمشاركة فيها، فيشاركون مع قدرتهم على شراء سندات دين عادية تصدرها الحكومة بنفس القدر من المخاطبة. وكذلك فقد أصدرت بعض الدول سندات سلفية، كان هذا موجودًا فيما مضى في الولايات المتحدة وهو اليوم موجود في روسيا وغيرها من البلدان حيث تصدر سندات الدين بالسلع لا بالنقود.

ورب قائل ما الفرق بين هذه الصيغة وبين الصيغة المعهودة لبيع الدين وهي حسم الكمبيالات وتداول سندات الدين، وفيها يباع الدين النقدي قبل أجله بأقل من قيمته الاسمية لغير من هو عليه بالنقود؟

والجواب عن ذلك: أن من كان له دراية في أمور الاقتصاد أدرك أن الطريقة الأولى القائمة على حسم الكمبيالات مرات عديدة وتداول سندات الديون تولد اقتصادًا ينشعر إلى قطاعين: قطاع مالي، وقطاع حقيقي، أما الأول فإن الفعاليات والمعاملات فيه تقتصر على الديون التي يجري تداولها بمعزل واستقلال عن السلع الحقيقية.

أما القطاع الثاني فهو قطاع الإنتاج الحقيقي، قطاع إنتاج السلع والخدمات، حيث تتولد الأرباح الحقيقية. هذا الانقسام الذي هو سمة الاقتصاديات الرأسمالية المعاصرة هو أساس البلاء في يومنا هذا. لأنه يؤدي إلى عدم الاستقرار، ويؤدي إلى نزوع الاقتصاديات إلى الدورات الاقتصادية الحادة كما نشاهده في دول العالم اليوم، ذلك لأن القطاع المالي يمتص الأرباح التي يولدها القطاع الحقيقي، ولن يخالفنا في ذلك خبراء الاقتصاد الغربيين، فطالما ذكروا أن هذا هو أساس بلاء الاقتصادات المعاصرة.

فإذا كانت الديون لا تتداول بالبيع إلا بمقابل سلع حقيقية لم يعد هذا التسامح موجودًا في النظام الاقتصادي، فظهر تميز نظام اقتصادي إسلامي عن الأنظمة الأخرى. ولا يترتب على بيع الدين بالسلع الفساد الذي نشاهده في الأنظمة الاقتصادية المعاصرة والذي يولده بيع الدين بالفائدة الربوية.

سيادة الرئيس، حريٌّ بهذا المجمع الموقَّر أن يظهر للعالم جانبًا من محاسن هذه الشريعة، ودليلاً وشاهدًا على أنها ما أغلقت بابًا للحرام إلا وفتحت أبوابًا للمباح، والحلال بتبني هذه الصيغة المحكمة لبيع الدين الذي تتحقق منها المصلحة الاقتصادية ولا تؤول إلى أي من المفاسد التي تولدها صيغ البيع القائمة على الربا، وفي الوقت نفسه النص على حرمة ما يجري في أسواق المال المعاصرة من بيوع الدين بالربا، سواء كانت تجري بالفائدة الصريحة أو تحت ستار استخدام أسماء توحي بالحل مثل قولهم: الكمبيالة الإسلامية وما إلى ذلك.

شكرًا لكم، والسلام عليكم، ورحمة الله وبركاته.

ص: 184

الشيخ محمد المختار السلامي:

بسم الله الرحمن الرحيم، اللهمَّ صلِّ على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد؛

فإني أريد أن أقسم تدخلي إلى قسمين:

القسم الأول: أتوجه به إلى الأمانة العامة في ناحية تنظيمية ذلك أن العارض له مهمتان، المهمة الأولى هي أن يستوعب البحوث فهمًا وتدقيقًا وتتبعًا.

والمهمة الثانية: أن يبلغ ما وصل إليه إلى السادة المشاركين في المؤتمر. وهذا يقتضي أن يكون له من الوقت ما يكفيه لهذا التأمل وللتتبع وللتثبت من النصوص الواردة، ولذا أقترح على الأمانة العامة أن يكون أجل تقديم البحوث هو كأجل طيران الطائرة، فمن جاء بعد الوقت بحقائبه انتظر الدورة القادمة. هذا أولاً.

ثانيًا: أرجو أن تكون الطريقة في المستقبل هو أن العارض بعد أن يستوعب البحوث المقدمة أن يلخصها تلخيصًا محكمًا كما استمعنا إليه، وان يقدم للأمانة العامة هذا العرض مكتوبًا ليوزع علينا، لأن طاقة الاستيعاب مع السرعة قد يختلف بعضنا عن بعض، وقد أكون أبطأ من غيري ولكني في الحقيقة ما استطعت أن أستوعب كل ما استمعت إليه حتى نتمكن بعد ذلك من المناقشة في نظري على أساس فهم واضح وجلي.

القسم الثاني: هو ناحية موضوعية فيما قدم إلينا.

الأمر الأول: وقع التعرض إلى الفقه المالكي وأريد أن أذكر نفسي أن مصطلح المالكية ولا بد من معرفته للولوج إلى الفقه المالكي هو أنه هناك مصطلحان، مصطلح بيع الدين، فإذا قيل بيع الدين فهو لغير من هو عليه، وإذا كان بيع الدين للمدين فهو اختلاط. ولذلك إذا لم يفصل بين النوعين ووقع تعميم أحد البابين على الآخر وقع الخطأ في الفهم وهذا ما وقع فعلاً.

الأمر الثاني: هو أن ضابط بيع الدين لغير من هو عليه، هذا الضابط في بيتين ذكرهما ابن عاصم مع الدقة فقال:

" بما يجوز بيع الدين " أي أن الشرط الأول أن بيع الدين هو بيع فلا بد من مراعاة شروط البيع فيه، ثم بعد ذلك هناك خصوصيات لبيع الدين زائد على مطلق البيع في بيع الدين. فهنا بما يجوز بيع الدين مسوغ من عرض أو من عينه وإنما يجوز مع حضور من أقر الدين وتعجيل الثمن وكونه ليس طعام بيع وبيعه بغير جنس المرعي. فإذا وصلنا إلى كلمة (بيعه بغير جنسه) ذهب كثير من التداخلات التي بنيت على عدم النظر إلى هذا الشرط الأساس في بيع الدين لغير من هو عليه.

الأمر الثالث: هو أنني تتبعت الحلول الذكية من فضيلة العلامة القاضي تقي الدين العثماني، الذي أكرمه الله ببصيرة نافذة يستطيع أن يتجاوز بها ما هو مكتوب في عصور خاصة إلى تطبيقه على عصورنا الحاضرة لتكون حلولاً لها.

ومع تقديري لما قدم فإني أتساءل حول بعض هذه الحلول.

يقول: " والطريق المشروع للحصول على هذا الغرض بالوجه الذي لا غبار عليه كالمشاركة". وكلمة المشاركة كلمة فضفاضة فأريد تدقيقها، أيعني بذلك أن تكون مضاربة أو تكون مشاركة وأي نوع من أنواع المشاركة؟ وما هو إسهام المشارك هنا في رأس المال؟ فالتوضيح هنا لا بد منه حتى يكون الوضوح في الحل الذي بيننا.

أما الطريق الثاني الذي اقترحه فهو إن كان فقهيًا لا غبار عليه إلا أن حسب ما أعلم في قوانين البنوك: البنوك لا تدخل في المتاجرة. فهذا الحل حسب علمي في منع البنوك من المتاجرة لا أدري أيعطينا حلاً أم لا؟

الطريق الثالث: هو هل الوكالة على التحصيل الفعلي، أو على المجهود المبذول سواء أكان منتجًا أم غير منتج؟ وإذا تبين أن منتج الكمبيالة عديم فالبنك قد قام بعملية قد أقرض وقام بعملية لا تحقق له ربحًا بل خسارة. فهذه المخاطرة بهذا النوع مع ما نعلمه من أن البنوك إنما تأخذ كل الاحتياطات، هل هذا حل عملي؟ سيادته قطعًا هو على اتصال بالبنوك ويستطيع أن يعطينا زيادة بيانات.

في الصفحة الأخيرة من بحثه مقترح جيد، وهو أن الدولة تدعو الناس وتثير فيهم وطنيتهم وأريحتهم ليقرضوا الدولة للقيام بمشاريعها، أو لشراء التجهيزات الضرورية لنمائها. ههنا يقول: ثم إنها ترد لهم ما اقترضته منهم وتعفيهم من الضرائب وبرر ونظر في الدولة كيف يجوز لها أن تعفي من الضرائب الذين أقرضوها للقيام بالمشاريع العامة؟ هذا بالنسبة للدولة حل المشكل في نظره في التمييز بين المواطنين الذين يقرضون الدولة وغيرهم، لكن يبقى القسم الثاني وهو الذي يعطي المال ويقرض الدولة وينال جزاءً عن ذلك من طرح الضرائب التي حسب علمي أنها تصل إلى (50 %) في بعض الدول و (30 %) و (20 %) إذا كان مستوى الدخل مستوى رفيعًا، ومن شأن المقرضين عادة أن يكونوا هم ذوو الدخل الرفيع. فلا شك أن ما يتحصلون عليه بواسطة هذا الإقراض هو أضعاف ما تتحصل عليه البنوك. فهذا الأمر باعتبار أنه للدولة للإسهام في النماء يبيح هذه المزية؟ هذا تساؤل أطرحه على فضيلته.

وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 185

الشيخ علي محيي الدين القره داغي:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أود أن أبين أن الموضوع (بيع الدين) من أهم الموضوعات التي تطرح على هذا المجمع الموقر. والموضوع أيضًا حسب حثي لا يقتصر على البيع، بل لا بد من الحديث عن جميع التصرفات الواردة من تناول البحوث وغير ذلك حتى تكون الصورة كاملة وبعد أن أبني عليه في البحث.

ثم بعد ذلك أنتقل إلى أننا إذا أردنا أن نحكم على هذه الصور وأن نحكم على بيع الدين لا بد أن نذكر شيئًا عن الصور التي ذكرها الفقهاء السابقين، ثم بعد ذلك ننتقل إلى الصور المعاصرة. فحينما نظرنا إلى صورة بيع الدين على سبيل المثال نرى أنها حوالي ثماني صور باعتبار أنه في حالة بيع الدين لمن عليه الدين، وبيع الدين لغير من عليه الدين لكل حالة أربع صور فتكون الصور المتوقعة التي ذكرها الفقهاء ثماني صور.

إذن لا بد – كما أشار فضيلة المفتي الشيخ المختار – من التركيز، وهذا التركيز ضروري حتى نكون على بينة ونقول هذه الصورة الأولى. من الفرع الأول (بيع الدين على من عليه الدين) جائزة والثانية غير جائزة، إلى غير ذلك من الصور، ثم بعد ذلك ننتقل إلى تنزيل هذه الصور على صورنا المعاصرة أو بناء – كما يقولون – اجتهاد إنشائي دون أن نحتاج لنراجع هذه الصور الكثيرة.

وتبين لنا أن شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله ذكر أربع صور وهي:

- بيع الساقط بالساقط.

- بيع الواجب بالواجب.

- بيع الواجب بالساقط.

- بيع الساقط بالواجب.

وذكر أن ما وقع الإجماع على حرمته هو بيع الساقط بالساقط أي بيع ما في الذمة بما في الذمة. أما الصور الثلاث الأخرى ففيها خلاف وذكرها ورجح الإجازة في بعضها، وذلك مع ملاحظة قواعد الصرف في جميع هذه الأحوال كما أشار إلى ذلك فضيلة الشيخ العثماني.

ولا أريد أن أذكر هذه الصور الثماني لأنها موجودة في البحث وقد أذكر التلخيص في الأخير.

كذلك بالنسبة للصور المعاصرة إذا استوعبنا تمامًا الصور الثماني وحكمها على ضوء ما ذكره الفقهاء حينئذ ننتقل إلى الصور المعاصرة:

الصور المعاصرة يمكن أن تنحصر في أمرين وهما:

- في جانب السندات.

- وفي خصم الكمبيالات.

أي ببيع السندات بجميع أنواعها السائدة في وقتنا الحاضر، ثم بعد ذلك ما يجري به العمل مع الأسف الشديد ما يسمى بخصم الكمبيالة. بالنسبة للسندات، المجمع الموقر أصدر فيها قرارًا بحرمة هذه السندات بجميع أنواعها باعتبارها قرضًا بفائدة، وذكر المجمع بعض البدائل منها: صكوك المقارضة، ولا مانع من بحث بعض أنواع الصكوك الأخرى كصكوك التأجير وصكوك المشاركة وربما صكوك السلم إن صح ذلك على مذهب المالكية.

فقصدي أنه لو أننا نركز جهودنا على الأمور التي بحثناها ننتهي منها لنصل إلى البدائل العملية كما أشار إلى ذلك الدكتور القري وقال: الآن المعاملات الحالية محتاجة إلى هذه المسألة فلا بد من إيجاد البديل، وهذا البديل لا بد أن نبحث عنه كما بحثنا عن صكوك المقارضة وغير ذلك.

ص: 186

أما بقية التصرفات مثل الصلح عن دين بدين، وكذلك المقاصة، والعقود الأخرى التي تجري على الدين أيضًا في اعتقادي من الضروري أن ننظر فيها لأنها تكمل هذه الحلقات بعضها بعضًا.

والتصرف في المسلم فيه أيضًا ولو أن المسلم فيه يعتبر دينًا، لكنه في الواقع يعتبر المسلم فيه وإن كان دينًا لكن فيه خلافًا بين الفقهاء، فالمالكية أجازوا بيع المسلم فيه ولكن بضوابطه التي أشار إليها فضيلة الشيخ السلامي.

إذن هذه المواصفات والضوابط – أنا في اعتقادي – لا بد أن نستعرضها أو اللجنة التي تتكون تستعرضها صورة صورة، ثم بعد ذلك البدائل حتى نكون جميعًا على حقيقة من أمرنا. وإذا سمح لي الرئيس أن أذكر الخلاصة التي خلصتها وهي أحكام التصرف في الدين حيث قلت: ينقسم التصرف في الدين إلى تصرف من الدائن، وتصرف من المدين، ثم إن التصرف من الدائن قد يكون مع المدين نفسه أو مع غيره.

تصرف الدائن في دينه، للمدين نفسه أو لغيره:

التصرف في الدين إذا كان بتمليكه للمدين نفسه فإما أن يكون الدين مملوكًا للدائن بصورة مستقرة، كبدل القرض وثمن المبيع والمهر بعد الدخول وإما أن يكون ملكه له غير مستقر كالأجرة قبل استيفاء المنفعة والمهر قبل الدخول، وهذا التقسيم خاص بالشافعية.

تصرف المدين في الدين للمدين نفسه فيما ملكه مستقر عليه:

لا خلاف بين الفقهاء في جواز تمليك الدائن للمدين نفسه دينًا استقرت ملكيته، لأن ذلك التصرف يقع من المالك فيما استقر ملكه عليه وهو من قبيل الاستبدال (البيع) أو الهبة (الإسقاط) والدليل على ذلك من السنة قول ابن عمر، رضي الله عنه: كنت أبيع الإبل بالدنانير وآخذ مكانها الدراهم وأبيع الدراهم وآخذ مكانها الدنانير، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك فقال:((لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما شيء)) .

ويستثنى من جواز تمليك الدين بعوض (عند جمهور الفقهاء ما عدا المالكية) بدل الصرف ورأس مال السلم، فلا يجوز التصرف فيهما قبل القبض، لأن ذلك يخل بشرط صحتهما وهو القبض قبل الافتراق، وإذا باع الذهب الذي في الذمة بفضة اشترط قبضها في المجلس.

وفي تمليك الدين للمدين يجوز عند بعض الفقهاء أن يكون العوض نفسه دينًا ويسمى ذلك (تطارح الدينين) وهو أن يبيع دينًا له بدين عليه للمدين ولكن شريطة حلول أجل الدينين وبراءة الذمتين، إذ يعتبر حلول الأجلين بمثابة التقابض، ولذا يسمي هؤلاء الفقهاء هذه المعاملة (الصرف في الذمة) . وأما حديث النهي عن بيع الكالئ بالكالئ – أي الدين بالدين – كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم – الدين الواجب بالدين الواجب أي السلف المؤجل من الطرفين. وما هنا دينان ساقطان وليسا واجبين، وليس في تحريم ذلك نص ولا تترتب في هذا مفسدة بيع الدين بالدين (حيث تبقى الذمة مشغولة مع وجود العقد، والمقصود من العقود القبض فلم يحصل) ، أما هنا – فقد حصلت بالبيع براءة كل منهما من دين صاحبه.

كما يجوز أيضًا عند بعض الفقهاء تمليك الدين بجعله رأس مال للسلم، لأنه قبض حكمي، فلم يتحقق فيه انتفاء قبض رأس مال السلم، لأنه بالتمليك للمدين صار مقبوضًا فارتفع المانع ويسمى هذا (بيع الساقط بالواجب) .

في حالة بيع الدائن دينه إلى المدين نفسه بشيء موصوف في الذمة يشترط قبض العوض قبل التفرق كي لا يكون بيع دين بدين، أما إذا كان العوض شيئًا معينًا فلا يشترط قبضه اكتفاء بتعينه.

ص: 187

تصرف المدين في الدين للمدين نفسه فيما لم يستقر ملكه عليه:

التصرف من الدائن مع المدين في دين غير مستقر الملك، كالأجرة قبل استيفاء المنفعة، والمسلم فيه، والمهر قبل الدخول إذا كان بغير عوض فهو جائز، لأنه إسقاط. أما بعوض فيختلف الحكم في السلم عن غيره.

بيع السلم:

يجوز عند بعض الفقهاء الاعتياض عن الدين المسلم فيه إذا كان ثمن المثل أو دونه لا أكثر منه. لأنه لا يندرج بهذا القيد في جر منفعة بالسلف. أما إذا كان بأكثر ففيه ذلك المحظور وبعض الفقهاء منع ذلك مطلقًا، لأن دين السلم غير مستقر لاحتمال فسخه بانقطاع المسلم فيه فلا يصح البيع أصلاً.

غير دين السلم من الديون التي يستقر ملك الدائن لها:

يجوز الاستبدال عن تلك الديون.

تمليك الدائن دينه لغير مدينه:

يجوز عند بعض الفقهاء تمليك الدائن دينه لغير مدينه بعوض وبغير عوض إذا انتفى غرر العجز عن تسليمه، ولم يقترن به شيء من المحظورات كربا النسيئة، وبيع الدين بالدين.

تصرف المدين في دينه:

يتم هذا عن طريق الحوالة، وأحكامها معروفة.

وفي جميع الأحوال لا يجوز بيع الدين لغير من هو عليه بأقل من قدره نظير الأجل الذي ينتظر إليه مشتري الدين، (خصم الكمبيالات والسندات) لأن هذا من الربا المحرم.

والله أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الشيخ الصديق الضرير:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. وبعد؛

فإن هذا الموضوع متشعب وصعب في نفس الوقت، وسأقصر حديثي على بيان رأيي في بيع الدين، أو جل حديثي على الأصح، لأن بيان رأيي يتطلب مقدمة مختصرة تبين الضابط الذي سرت عليه في الوصول إلى رأي، هذا الضابط وضعته لأستخلص به آراء الفقهاء، الأئمة الأربعة على الأخص ورأي ابن تيمية وابن القيم وابن حزم أيضًا.

الضابط هذا ذكره كثير من الذين قدموا بحوثًا فأوصله بعضهم إلى ثمانية أقسام، وأوصله بعضهم إلى عشرين قسمًا، وفي هذا تشويش في رأيي في وضع الحكم أو آراء الفقهاء في بيع الدين.

الضابط الذي بنيت عليه هو ينقسم إلى أربعة أقسام فقط، وهي الأقسام الرئيسية التي تحدث عنها جميع الفقهاء، وما عداها فهي أقسام فرعية قد تتفرع عن هذه الأربعة وبعضها أحكام خاصة لبعض أنواع الديون. فهذا التقسيم هو: أن الدائن الذي يريد أن يبيع دينه إما أن يبيعه لمن عليه الدين أو لغير من عليه الدين، ولكل من الحالتين إما أن يبيعه بنقد أي بثمن حال سواء كان نقودًا أو غيره، أو بدين. هذه هي الأقسام الرئيسية.

ص: 188

فأما القسم الأول وهو بيع الدين بالنقد لمن عليه الدين فقد جوزه أكثر الفقهاء، والبحوث متفقة على هذا، وأما بيع الدين بالنقد لغير من عليه الدين – وهذا هو القسم الثاني – منعه أكثر الفقهاء، وهذا ما جاء أيضًا في كل البحوث. لكن البحوث لم تتعرض للعلة التي اختلف الفقهاء من أجلها في هذا. العلة هي الغرر الناشئ عن عدم القدرة على التسليم. ففي بيع الدين بالنقد – أي بالحال – لمن عليه الدين لا حاجة إلى التسليم لأن الدين في ذمة المدين فهو مسلم إليه، ولهذا اتفق جمهور الفقهاء على الجواز.

الصورة الثانية: بيع الدين بالنقد لغير المدين، هذه التي اعتبر الفقهاء فيها موضوع الغرر، وقال أكثرهم: إن في هذا غررًا يرجع إلى عدم القدرة على التسليم، وكل الذين منعوا هذه الصورة متفقون على هذه العلة بتعبيرات مختلفة وأوردتها في كتاب (الغرر) .

الصورة الثالثة، وهي: بيع الدين بالدين لمن عليه الدين.

والصورة الرابعة، وهي: بيع الدين بالدين لغير من عليه الدين.

هاتان الصورتان (الثالثة والرابعة) يجمعها أمر واحد هو بيع الدين بالدين، وهذا منعه جمهور الفقهاء إن لم نقل جميع الفقهاء حسب تعبيرات بعضهم ومنهم الإمام أحمد فحكى الإجماع على منع بيع الدين بالدين، وسبب المنع هذا ليس هو عدم القدرة على التسليم وإنما هو حديث (الكالئ بالكالئ) الذي تحدّث عنه الشيخ العثماني، ولكن الفقهاء مع تضعيف المحدِّثين بهذا الحديث، فإن الفقهاء أخذوا به واعتبروا التقبّل لهذا الحديث بالقبول تصحيح له كما حدث في بعض الأحاديث التي لم تصح ولكن تقبّلها الأئمة بالقبول.

هذه هي خلاصة آراء الفقهاء في هذه الأقسام الأربعة، وهذه الأقسام الأربعة هي التي تدخل فيما يجري عليه العمل وما نريد أن نطبّقه من سندات وكمبيالات. لا تخرج عن هذه الأقسام الأربعة.

الذين منعوا بيع الدين مطلقًا: ابن حزم لا يجيز بيع الدين في أي صورة من صوره.

ابن تيمية وابن القيم أجازا بيع الدين بالدين الذي منعه كل الفقهاء تقريبًا وحاصل الإجماع عليه، إلا في صورة واحدة هي: ابتداء الدين بالدين منعا هذه الصورة وعللاها بأن فيها شرط ذمتين من غير فائدة. وسأقول رأيي في هذا.

بعد ذلك أنتقل إلى بيان رأيي بناءً على هذه المقدمة. رأيي هو جواز بيع الدين مطلقًا. أعني سواء بيع للمدين أو لغير المدين بنقد أو بدين، وهذه هي الصور الأربعة، ما دام خاليًا من الربا ومن الغرر المفسد للعقد، لأنه لم يرد نص يعتد عليه في منع بيع الدين، وقد رأينا كلام المحدثين في بيع الكالئ بالكالئ. ودعوى عدم القدرة على التسليم في بيع الدين بالنقد لغير المدين دعوى غير مسلمة، لأن كلامنا في دين معترف به ممكن تسلّمه من المدين. وواضح أن الشروط التي وضعها المالكية الغرض منها أن تخرجنا من هذا.

ص: 189

وكثير من الديون وخصوصًا ديون الدولة لا نستطيع أن نقول إنها غير مقدورة التسليم، السندات التي تصدرها الدولة من غير فائدة لا نستطيع أن نمنعها بحجة أنها غير مقدورة التسليم، لكن هي مقدورة التسليم. ثم إن بيع الدين قد تدعو إليه الحاجة، وقد بينها الدكتور القري في بحثه، وفيه مصلحة ظاهرة للمتعاقدين فلا يصح التضييق عليهم بمنعه، وليس فيما ذهبت إليه خروج على آراء الفقهاء، فقد رأينا اختلافهم في بيع الدين النقد، والأكثر على الجواز.

أما دعوى الإجماع على منع بيع الدين بالدين فغير مسلمة على إطلاقها، ولعل الصور المجمع على منعها في بيع الدين بالدين هي ما يترتب عليها ربا كأن تكون له عشرة ملايين من الجنيهات السودانية على آخر فيبيعها له بخمسة آلاف من الدولارات يدفعها له بعد شهر، وهذا هو الذي يسميه المالكية فسخ الدين في الدين. المالكية لهم تقسيم لبيع الدين بالدين، التقسيم الأول فسخ الدين في الدين، هذه الصورة التي ذكرتها لكم وهي أشدها منعًا، وقد تكون بصورة معروفة لدينا الآن ومعمول بها (يحل الدين فيؤجله بزيادة) ، هذا فسخ الدين في الدين لا خلاف في منعه.

الصورة الثانية يطلق عليها المالكية: بيع الدين بالدين، ويصلون بها بيعه لغير من عليه الدين. خاصة ببيع لغير من عليه الدين وهي أخف من الصورة الأولى والتي هي فسخ الدين في الدين. ويجوزون في هذه الصورة الثانية – وهذا رد على الشيخ صالح – بيع الدين بالدين والذي هو لغير المدين، المالكية يمنعونها لكن يجوزون بيع الدين بالدين بمعيّن يتأخر ضبطه، كأن يكون له كذا ألف دين فيبيعه لآخر بسيارة معينة يتأخر قبضها شهرًا أو شهرين، هذا جوزوه المالكية في هذه الصورة لكن لم يجوزوه في فسخ الدين في الدين، الذي هو بيع المدين نفسه، جوز في بيع الدين لغير المدين. وبناءً عليها إذا كانت تجوز بمعين يتأخر قبضه فمن باب أولى تجوز بمعين يتقدم قبضه ويقبض في الحال، وهذا هو ما نقله عني الشيخ القري واعترض عليه الشيخ صالح، وهو مذهب المالكية لا خلاف في هذا. له دين يبيعه بسلعة (سيارة) ، لا مانع من هذا.

الصورة المجمع على منعها في بيع الدين بالدين هي ما ترتب عليها ربا – الصورة التي ذكرتها – أو ما ترتب عليها بيع الإنسان ما لا يملك، وهذه هي ابتداء الدين بالدين، وهذا هو النوع الثالث عند المالكية.

النوع الأول: في بيع الدين بالدين هو فسخ الدين في الدين.

النوع الثاني: بيع الدين بالدين أي لغير من عليه الدين.

النوع الثالث: ابتداء الدين بالدين هذا في بيع الدين بالدين وإن كان هي في الواقع ليست بيع دين بدين في حال ابتداء الدين بالدين، وهذا واضح في السلم، ولذلك يجوز فيه تقسيم رأس المال لئلا يكون من بيع الدين بالدين، يعني نصدر فيه مؤجل، فإذا تأجل الثمن تأجل البدلان، وهذا هو ابتداء الدين بالدين وهذه الصورة وغيرها لا تصح إلا على وجه السلم، العلة في المنع هنا هو أن البائع يبيع ما لا يملك لأن رب السلم يبيع السلعة وهو لا يملكها، وربما تكون معدومة، وهذا لا يجوز إلا على وجه السلم. هذه هي العلة التي من أجلها منع ابتداء الدين بالدين، وليست العلة ما ذكره ابن القيم في تقسيمه لبيع الدين بالدين: أنه ليس فيه مصلحة وأنه شغل ذمته، لا. هذا هو رأيي في بيع الدين.

نأتي إلى التطبيقات الموجودة التي ذكرها الباحثون وهي بيع السندات وبيع الكمبيالات. السندات معروف أنه إذا كانت بفائدة هذا لا كلام فيه، لكن كلامنا في السندات بغير فائدة، وقد استبعد بعضهم أن تصدر هذه السندات لمن؟ يمكن أن تصدر في بلد إسلامي يبتغي من يشتري هذا السند ثواب الآخرة، وهذا هو البديل لسندات الحكومة القرض، والذي يجب أن تبدأ به الدولة المسلمة، تبدأ بالقرض من غير فائدة، فلا مانع من أن تصدر سندات وهذه السندات تكون من غير فائدة ويقبل عليها الجمهور فتدخل في موضوعنا هي بيع الدين، صاحب السند يحتاج إلى نقود تسدد خلال سنة، فيحتاج بعد ستة أشهر إلى نقود ماذا يصنع؟ لا يوجد أحد يشتري منه بثمن الذي يشتري به.

هنا أنا طبقت مذهب المالكية وقلت: يجوز بيعه بمعين. لا يوجد مانع من أن أبيع هذا السند الذي قيمته كذا ألف بمعين، لا يمكن أن أبيعه بنقود ولا حتى بالمثل كما قال بعض الإخوة لأنه سوف يكون مؤجلا، قبض الدين مؤجلاً فلا يصح، لكن من الممكن أن أبيعه بسيارة أو منزل أو حسب ثمن السند، مهما كان ثمن السيارة أوالمنزل، لا حرج في هذا. وهذا هو رأيي في بيع جميع الأوراق المالية. الكمبيالات أيضًا يمكن أن يطبق عليها هذا. صاحب الكمبيالة إذا استعجل من الممكن أن يبيع بمعين.

نقطة بسيطة بعد أن بينت رأيي وإن كان هو كلام كثير لكن لا أريد أن آخذ أكثر مما أخذت.

الشيخ القاضي العثماني ذكر في بحثه ونسبه للمجمع موضوع ما إذا كان الموجودات فيها أعيان ونقد وحدد نسبة (51 %) إذا كانت الأعيان ونسبها إلى المجمع. لا أظن أن هذا وارد. المجمع قال: إذا كانت الأعيان هي الأغلبية، وترك التحديد، هذا، والمفروض أن تجتمع لجنة وتحدد بمَ تكون هذه الأغلبية؟ هل هي بـ (51 %) أو (75 %) أو (90 %) ؟ وأذكر أن البنك الإسلامي للتنمية عقد ندوة في هذا ولم يصل إلى رأي، فلا يصح أن نقول إذا كان في الشركة (51 %) منها أعيان والباقي كله نقود وديون يصح أن نبيع بأي ثمن؟ لا أرى هذا جائزا ً، لأن المجمع عندما قرر هذا كان في ذهنه أنه إذا كانت الغلبة للأعيان بحيث تكون النقود والديون تابعة يجوز بيعها بأي ثمن. فهل إذا كانت النقود والديون (49 %) نعتبرها للأعيان؟ لا أظن هذا مقبولًا فقهًا.

أكتفي بهذا. وشكرًا لكم.

ص: 190

الدكتور سامي حمود:

بسم الله الرحمن الرحيم.

في الواقع مسألة بيع الديون من المسائل التي بحثها المجمع، وقد تعودنا في المجمع أن نبحث الأشياء العالمية، وقد شاهد البعض بلاد العالم الإسلامي، وبعض المؤسسات المالية العاملة، هناك نوع من التداول باسم بيع الديون وهو الذي أثار المسألة. فإذن نردها إلى حقيقتها. هل هذا البيع يتعلق بماذا؟ إنه يتعلق بكمبيالات للنقود، التزامات بالنقود آجلة وبسندات محررة بالنقود بالدولارات أو بأي عملة، فهل هذا في الفقه الإسلامي عندنا؟ جئت تبحث المسألة وأنت طالب علم بخلفية حقوقية، هل يسمى بيعًا؟ وجدت الفقه الإسلامي يقسم البيوع إلى أنواع، فهناك البيع المطلق ثمن بمثمن، وهناك بيع النقد بالنقد وهو الصرف، وللصرف أحكامه وضوابطه المحددة وإن كان من جملة البيوع ولكن له شروط مخصوصة في تساوي البدلين عند اتحاد الجنس وفورية التقابض والتبادل، أو فورية التقابض والتبادل عند اختلاف الجنس.

فإذن الكمبيالات والسندات التي نبحث عنها تحت عنوان: (بيع الديون) هي في حقيقتها من الصرف. فإذا أخذناها بهذا المفهوم لم أجد في الفقه الإسلامي بكل مذاهبه باستثناء ابن حزم الذي منع القضية من أساسها لعدة أغراض، كل الفقه الإسلامي متفق على بيع هذه الحالة المخصوصة، على أن بيع النقود بالنقود لا يكون إلا بضوابط الصرف وأساسها معروف بالحديث النبوي فيما رواه عبادة بن الصامت وجمع الإمام الشافعي نفسه – الذي يقال إن الفقه الشافعي لم يجز هذه الحالة أو تلك – جمع في باب البيوع اثنين وعشرين حديثًا منها حديث عبادة والذي قال: إنه أتم الأحاديث وأكملها، كما جاء في المجموع.

فإن القضية لا خلاف في الفقه الإسلامي على مسألة الكمبيالات والسندات التي تحرم بالقيمة النقدية أن بيعها في أجلها أو قبله أو بعده بالأكثر والأقل أنه ممنوع إلا بشرط المساواة والتقابض إذا اتحد الجنس أو التقابض عند اختلاف الجنس.

فبيان موقف الشافعية في الواقع أنا لم أجد أنه في أئمتهم وفقهائهم وفي مذاهبهم من الشيرازي إلى النووي إلى روضة الطالبين والماوردي أي خلاف في هذا الكلام، لأن أمثلتهم عن سلع بدين. لذلك أتمنى على الإخوة الكرام من أساتذة الفقه الشافعي وأتأمل منهم أن يتصدوا بالإيضاح لرفع هذا التوهم الذي يروج له البعض مما يقال بأن الفقه الشافعي يجيز بيع الدين لغير المدين على أساس مفهوم البيع العام وليس مفهوم البيع الخاص.

أما الفقه المالكي فقد قيض الله أستاذنا الجليل بأن يبين في كتابه (الغرر) الشروط المخصوصة في بيع الديون، وعندما يقال الفقه المالكي يجيز فإن الفقه المالكي يجيز مع شرطين أساسيين: ألا يكون غررًا، فيمنع بذلك قضية الدين غير المستقر والدين الذي لا يكون مقدورًا على تسلمه وقبضه وتسليمه. والربا، فيمنعوا بذلك بيوع الصرف التي يدخلها الأجل.

النقطة الثانية في تعليقي هي رجائي من الأساتذة الفقهاء وبالذات أخص الأخ الكريم الشيخ تقي العثماني ألا يفتحوا الأبواب على سبيل التهاون في إيجاد ما يسمى باب التيسير أو التوسعة في الفقه في المعاملات المالية، فعندما يقال في الكمبيالات التي تأخذها البنوك أنه من الممكن وهناك ثلاث صور، لندقق فيها.

ص: 191

الصورة الأولى هي أن البنك يقترح أن يكون شريكًا في المعاملة، فإن كانت عملية البيع للصادرات قد تمت ووقعت الكمبيالة فلم تعد بضاعة لتباع ويشترى بها، وإنما هناك دين نقدي وهناك مشاركة في دين نقدي بالأجل فيدخل موضوع البنك (بيع الصرف) ، وإن كانت قبل أن تتم العملية فلا توجد كمبيالة من الأساس، يكون هناك عرض في الاعتماد المستندي أن الشركة اليابانية تستورد من ماليزيا المطاط، وهذا العرض ثمن المطاط تكلفته مائة رنت وأنه يباع للشركة اليابانية بمائة وعشرين حسب الاعتماد الوارد، فهل يشاركوننا؟ فإذا دخل البنك شريكًا فلا وجود للكمبيالة أصلاً.

وأما القول في الصورة الثالثة أنها عن طريق الوكالة فمهما تحفظ المتحفظون في السماح بالقرض المشروط به شيء آخر أو المصاحب لشيء آخر فإن هذا الشيء الآخر يصبح هو الأساس، ثم يأتي للوكالة فيقول يجوز الأجل النسبي ويجوز الأجل المتفق عليه بين الطرفين، ويجوز كذا ويجوز كذا، فتفتح أبواب الربا من حيث أردنا الخلاص منه مع أن هناك بدائل شرعية بسيطة تخلو من أبواب التحريم.

فهذا ما أردته من أخي الكريم أن ينظر إليه بفكره وصفائه وقلبه الطيب.

البدائل الأخرى التي هي موجودة، في الواقع بدائل سليمة، وعندما نقول القطاع العام والقطاع الخاص، فالقطاع العام هو الحكومة التي تمثل الشعب والتي يفترض أنها تقوم بخدمته فإن احتاجت إلى نفقات مشروعة سواء كانت في مشاريع إنمائية أو مشاريع مدرة للدخل أو كانت مشاريع غير إنمائية، ولكنها تحتمل أن تباع بالمرابحة ففي كل حال من الأحوال هناك أدوات تمويلية صريحة في الأولى بـ المقارضة والمشاركة، والمرابحة والسلم والاستصناع في الثانية. فالأدوات موجودة، وكل ما هو مطلوب من هذه الحكومات وهي تريد أن تربط نفسها بشعوبها وأن تشعر المواطن أنه شريك في تمويل دولته بأن توضع القوانين التي تسمح بوجود مثل هذه الأدوات كما يوجد في قانون الشركات في كل دولة من دولنا فصل خاص بسندات القرض.

فيا حبذا أن تكون لدى الدول الإسلامية في قوانينها القائمة فصل آخر إلى جانب هذا الفصل المقيت الحرام فصل حلال يبين أدوات التمويل الإسلامي بأنواعه وضوابطه، منعًا لخديعة الناس وبيانًا للحقوق، وهذا أصل شرعي، فيكون المضاربة والمشاركة والمرابحة والإيجار والسلم والاستصناع فبدل السند المقيت اليتيم الوحيد سند القرض بالربا عندنا سندات حلال مفتوحة الأبواب وأدخلها كمواطن أول دولتي وأنا مرتاح الفكر والقلب والضمير.

أما بالنسبة للشركات الخاصة أو القطاع الخاص، فهي شركات المساهمة وهي الوحيدة التي يسمح لها إصدار السندات لماذا؟ للانضباط. لذلك أضفنا إلى سندات أسهم المضاربة وهي التي تساءل عنها أخي الكريم الدكتور المرزوقي أنها هل تكون مستقلة أو لا؟ من الطبيعي في سند المضاربة أن يكون مفصولاً ولم نشهد نحن بعد إصدار سندات المضاربة أو المقارضة الإسلامية في الشركات المساهمة ولكن شركات أمريكية (جنرال موتورز) أصدرت سندات فصلتها عن ملكية سندات الشركة الأم وخصصتها بمشاريع خاصة في أنظمة الكمبيوتر، وقالت: إن نسبتها من الربح هي نسبة محددة (25 %) من الربح الذي يتحصل في هذا الفرع من نشاط الشركة. فاستعملت اسمها وإدارتها وجمعت الأموال من الآخرين وعندهم في القانون الأنجلو ساكسوني نوعان من السندات: سندات (أ) وسندات (ب) . سندات (أ) تمثل إدارة وملكية الشركة، وسندات (ب) تمثل أسهم في الشركة دون تصويت، وهذا يعني أنه رأس مال المضاربة فابتعدوا عن (أ) و (ب) وقالوا هذه أسهم الـ (هـ H. closs) التي تعني أن المساهم فيها يستثمر ماله بإدارة مستقلة ويأخذ نصيبه من الربح من ذلك المشروع.

أما قول أخي الكريم بأن المضاربة أولاً بالذات ويريد مني دليلاً وأن الفقه المالكي يتوسع في المضاربة لغير التجارة. فأقول نحن طلاب علم ونعرف أن المدونة تنص على ذلك بأنه:

(إذا أخذ رجل مالاً فاشترى فسيلاً أو نخيلاً أو زريعة أيكون ذلك مضاربة في قول مالك؟ قال: نعم) ، فهذا استدللت به على أن المضاربة ليست محصورة في التجارة، وإنما هي في الفقه المالكي والفقه الحنبلي منفتحة للتجارة والصناعة والزراعة والسياحة وكل أبواب النشاط المشروع.

ص: 192

أما القول بأن المشاركة المتناقصة لا تجوز شرعًا، فإن كان أخي الكريم هو طالب علم مثلي فلنتذاكر سويًّا، وإن كان أستاذنًا فإنه يعلم أن رأس مال المضاربة يمكن استرداده استردادًا جزئيًّا حتى عند الشافعية. فالمشاركة المتناقصة تعطي نصيبًا من الدخل على أساس الربح، والنصيب الآخر الذي هو من حق المقارض الآخر يكون متنازلاً عنه أو مقدمًا منه استيفاء وتخليصًا لرأس المال. فأرجو أن يبقى الاحترام الذي نشعر به تجاه أهل العلم جميعًا على التجاوز، والقول هذا لا يجوز شرعًا والأمر واضح فالشريعة فسيحة، ولكن تريد منا عقولاً تتسع وتستوعب ما في الشريعة، والمأمول في هذا العالم الإسلامي الذي نتشرف بالانتماء إليه أن يكون هناك تعاون متناسق لتكون أدوات مالية إسلامية صادرة بقوانين تخلو من الغش والخديعة، حتى لا يشاع أنه باسم الإسلام ترتكب الاختلاسات في الأموال، وأن تكون منظمة تنظيمًا قانونيًّا حديثًا، وأن نشهد إن شاء الله في حياتنا سوق رأس المال الإسلامي بأدواته الذي تعتز فيه حكومته الإسلامية بأن نضع في هذا السوق أنواع السندات المختلفة أشكالها وألوانها وغاياتها، حتى يمكن للمسلمين الاستثمار في خدمة حكومتهم وخدمة أمتهم بالخير، لأن تمول الحكومة وهو إيجاد مشاريع، مشاريع يعني فتح باب التشغيل والعمل للمواطنين، وهو اعتزاز بأننا في بلادنا نبني بأموالنا ولا نعطي أموالنا إلى خارج وطننا.

وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله.

ص: 193

الشيخ حمداتي شبيهنا ماء العينين:

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه.

إن البحوث التي استمعنا إليها اليوم واستمعنا إلى تلخيصها كانت بحوثًا قيمة، لأن أصحابها جمعوا أحكامها من مختلف المصادر بتجرد وأمانة.

الشيء الذي أردت أن ألفت الانتباه إليه هو ملاحظة شكلية تخص البحث القيم الذي أعده فضيلة القاضي محمد تقي العثماني. ففي بداية بحثه قال: "وقد ادعى بعض المعاصرين جواز بيع الدين وجواز هذه العمليات على ذلك الأساس، استنادًا على تفسير خاطئ لما حكي عن المالكية وبعض الشافعية". في هذه الصلة يمكن أن يكون هو نفسه قد تناقض معها في ثنايا البحث، لأن المالكية أجازوا بيع الدين على الطريقة التي بينها الشيخ المختار السلامي ولكن على سبل معينة تخرجه من الربا. ففي الأبيات التي تفضل الشيخ السلامي بقراءتها عليكم اليوم من العاصمية وفيما بعدها يتبين أن المالكية أجازوا بيع الدين ولكن بشروط قال العيني في شرح البخاري:"إن مالكًا أجاز السلم في كل شيء بشروط تخرجه من الربا" وأن ابن عاصم قال: " بما يجوز بيع الدين" وأن في أبيات أخرى قال:

وإن يكن من سلم بعد الأمد

فالوصف فيه السمح جائز فقد

ويشتري الدين بدين وفي

عين وعرض وطعام قد يفي

فبيع الدين عند المالكية على الشروط التسعة التي بينها هو في بحثه جائز ومبدأ عام، ولكن بالشروط التي لا يمكن التساهل فيها، وإذا وقع التساهل فيها فالمبدأ ليس من صور المالكية لأنهم يبطلونه إذا اختل واحد من تلك الشروط.

وفي السلم قال صاحب التحفة:

فيما عدا الوصول جوز السلم

وليس في المال ولكن في الذمم

والشرط للذمة وصف قام

على الإلزام والالتزام

وشرط ما يسلم فيه أن يراعى

متصفًا مؤجلاً مقدرًا

وفي بحثه أيضًا قال: (وروي عن الإمام ابن حنبل – رحمه الله – أنه قال: "ليس في هذا حديث يصح، لكن الإجماع على أنه لا يجوز بيع دين بدين "، والحق أن الإجماع على منع بيع الدين بالدين إنما وقع على بعض صوره، مثل عقد السلم برأس مال مؤجل إلى ما فوق ثلاثة أيام) . لو ناقشنا هذه المقولة لوجدناها تتركب من جملتين. الجملة الأولى هي أن الإمام أحمد – رضي الله عنه – قال: إنه لا يصح بيع الدين بما فيه السلم، وأن ذلك ليس فيه حديثًا وإنما هو إجماع. أرى أن إجماع أهل السنة لا يمكن أن يتحد ويكون خارجًا عن الإجماع. هذه هي النقطة الأولى.

النقطة الثانية: قال هو في نفس بحثه، إن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم كلاهما خرج عن ما قاله الإمام أحمد وقالا بجواز بعض بيع وصور من السلم، فهل يا ترى هما اطلعا على دليل لم يطلع عليه الإمام أحمد، أو أنهما لم يأخذا بهذا القول، وهما يميلان إليه؟ إن صح هذا فالمسألة تستدعي منا كثيرًا من التروي.

لماذا هذه الأوراق التي ادعى اليوم الدكتور الضرير على أن المالكية أجازوا كثيرًا من الصور؟ فأنا أعلن أن هذه الأوراق لم تكن موجودة عندنا. السلف الصالح، لم تكن هذه الأنواع من المبايعات موجودة في زمنهم، والحكم الفرعي غير مؤهل للقياس عليه خصوصًا إذا كنا نجهل العلة التي بني عليها أو إذا كانت تختلف تمامًا مع ما نريد القياس به اليوم. فهذه أوراق مستجدة صيغت بمنع وقوانين تعارض الشريعة الإسلامية، وبعيدة عن أحكامها، ولا يمكن أن تعرض على الشريعة الإسلامية على أن تدخل من هذا الباب لنشرع ما حرم الله، وإن فعلنا فلم يكن للمالكية ولا للشافعية ولا لأحمد وإنما هو اجتهاد منا، ذلك أن المقولة التي سمعتها اليوم من بعض الإخوة في كلام شيخ الإسلام، هذه المقولة لها مستند وهو حديث أم المؤمنين عائشة – رضى الله عنها – ذلك أنها أتت امرأة وقالت لها: اشتريت من زيد عبدًا بدراهم دين في ذمتي فاحتجت للدراهم فاشتريته بأقل مما بعته له، فهل هذا يجوز؟ فقالت لها: أبلغي زيدًا أنه أفسد جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها: أرأيت إن رجعت فأخذت دراهمي لا يكون عليَّ إثم؟ قالت: نعم، لأن الله قال:{وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] .

فإذن كل المستجدات التي تقع بهذه الأشكال كان الحكم مصرحًا به بالابتعاد عنها نظرًا لما تؤول إليه من الربا.

ابن القيم في (إعلام الموقعين) استعرض مائتي حيلة من الحيل حرمها جميعًا إلا ثلاثين منها، وهي كلها كانت متبعة وكان البعض يتعامل بها على أنها حلال.

فنحن إذن أمام وضعين مختلفين. المنهج الإسلامي لكل شيء بأصوله وفروعه وبمنهجه القائم المستقل، والمنهج الربوي الذي يحاول أن يخترق الجسم الإسلامي بأي شيء، فإذا أردنا أن نتكلم عن الأوراق المالية من كمبيالات وسندات فينبغي أن ننظر إليها من خلال المنهج الإسلامي لا من خلال الرؤية الغربية.

ولهذا فإننى أرى أننا عندما نريد الكلام عن هذه الأشياء ينبغي أن نترفع عن الفروع فلن نجد فيها ضالتنا المنشودة الطرق وصلت إلينا بطريقة لا نكاد نعمل له حساب، ولكن نحن إذا رجعنا إلى الأصول فسنجد فيها ما يمكننا من سن الضوابط الشرعية للمعاملات المستجدة على أن ننظر من الفكر الإسلامي لا من الفكر المستورد.

وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله.

ص: 194

الشيخ وهبة الزحيلي:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

فإن صور بيع الدين بالدين وإن كانت متشابكة وكثيرة ومعقدة في الظاهر، حتى إن بعضهم أوصلها إلى ثلاث وأربعين مسألة، كل هذه الصور ما هي إلا معدومة للمبادئ العامة التي يقوم عليها الشرع الشريف.

وحينئذ ينبغي أن نصرف النظرة من هذه الصور وأن نتجاوز المصطلحات، التي هي غريبة عن مفهومنا في العصر الحاضر من مثل بيع الساقط بالساقط، والساقط بالموجب وبالعكس، وغير ذلك، مثل هذه الأمور التي توقعنا أيضًا في شيء من الإشكالات. وحينئذ جمهور العلماء قرروا – وينبغي أن نكتفي بقرارهم – بأن بيع الدين للمدين جائز، ولا إشكال في هذا ما لم يكن هناك تأجيل فيوقعه في ربا النسيئة.

وكذلك بيع الدين بالدين لغير المدين، هذا عند الجمهور غير جائز، لأنه مما ينطبق عليه ربا النسيئة، وهو الذي لاحظه العلماء وقصدوه عند كلامهم عن بيع الكالئ بالكالئ، وأن الإمام أحمد حينما قرر قبول هذا الحديث بسبب إجماع العلماء الواقع كان قراره حكيمًا وصحيحًا، وأن هذه الصور المستحدثة ما هي إلا فيها تطبيق لبيع الكالئ بالكالئ، وبالتالي لا تجوز هذه الصور.

أما ما ذكر عن الشافعية عن أربعة أقوال، ففي الحقيقة إما أن نقول كما فسر الدكتور سامي حمود أن هذا الخلاف بينهم لفظي، وإما – وهو الأرجح – أن نقرر أن مذهب الشافعي المعتمد كما حرر الإمام النووي وعندنا هو الحجة فيما رجحه يقول: لا يجوز بيع الدين لغير المدين وفي الأظهر أي من قولي الإمام الشافعي. وأما بقية هذه الأقوال والتي أخذتها بعض الدول مستندًا للقول بجواز بيع الدين بالدين وبالتالي الوقوع فيما حرم الله مما سموه بيع سندات الدين فهذا ينبغي أيضًا أن نحذره وأن لا ننسب ذلك للشافعية لأن الشافعية في هذا الأمر بكل وضوح قرروا عدم الجواز والمعول على المفتى به والمعتمد في هذا الموضوع.

قضية البدائل عن بيع الدين بالدين، الحقيقة خصوصًا صورة بيع الكمبيالة أو حسم الكمبيالة أو ما شاكل ذلك، ما وصف به فعلاً من براعة زميلنا وأخينا الشيخ تقي العثماني لا شك أن هذه براعة بالتخريج لكننا نحن لا نطمئن إلى هذا التخريج ونقول بكل صراحة: إن بيع الكمبيالة ما هو إلا صورة من صور الربا، ولا يجوز أن تتخذ جسورًا للربا مثل بيع العينة المتخذ جسرًا للربا، أن نتخذه وسيلة للقول بحل هذا النوع من المبايعات، لأن هذه الحيل وهذه التخريجات ما هي إلا جسور، وما هي إلا تبريرات في الحقيقة لا تغير من حقيقة البيع وهو بيع الدين سواء كان بيع الدين المؤجل بأكثر منه أو بأقل منه أو بمساوٍ، هو في الحقيقة من جملة الربا، وبالتالي لا نطمئن إلى هذه التخريجات وأنه في الواقع ينبغي أن تطبق القواعد العامة في مثل هذا الأمر.

ص: 195

وأنا لا أعرف ما يرجحه بعض إخواننا من أن بيع الدين بالدين يعني لغير المدين – أما للمدين فهذا منته من قديم وأنه يجوز – بيع الدين لغير المدين أنه جائز بشرط ألا يقع المتعاقدان في الربا والغرر، هذا هو فحوى مذهب المالكية، وأما بقية الشروط فهي مفهومة ضمنًا، وبالتالي لا أرى جديدًا في أن ما رجحه زميلنا الشيخ الصديق الضرير من هذا القول، هو في الحقيقة لا يخرج عن قول المالكية لأن المهم ألا يكون هناك ربا وألا يكون هناك وقوع في الغرر وهو بسبب العجز عن تسليم المعقود عليه في الحال. يعني المهم نظر الفقهاء حينما يقررون بطلان العقد عدم القدرة على التسليم أي في حال انعقاد العقد لا في المستقبل، وهذا يوقعهم في الغرر، والغرر عقد منهي عنه في شرع الله، وهو أصل من أصول الإسلام كما قرر الإمام النووي.

بقية البدائل الأخرى، في الحقيقة ينبغي أن يكون عليها بنفس هذا المنطلق وهو إذا كان فيها شيء من الربا، أو هي مدخل إلى الربا، أو شبهة الربا، أو أنها جزء من الربا، فينبغي منعها كلها، وأنا أكاد ألتقي مع النخبة الذين صفوا هذا الموضوع وبسطوه على الرغم من كثر مشكلاته وتعقد صوره. فحينئذ يمكن بسهولة إدراك الموضوع وعندما نعرضه في التوصيات ينبغي أن نبسط هذه الصور ليفهمها غير المتخصصين. كثير من الناس لا يدركون معنى هذه المصطلحات، فينبغي تبسيطها ووضع الحكم على كل قضية منها بوضوح وبدقة بحيث لا يقع المسلمون في شرك الربا أو شرك الغرر.

والله أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 196

الشيخ عبد الستار أبو غدة:

بسم الله الرحمن الرحيم

كثير مما كنت أريد أن أقوله قد سبقت إليه، ولكنني أريد أن أروي ما تم بشأن سندات الدين لتلك الدولة التي تمت الإشارة إليها أكثر من مرة، فقد تنادت بعض المجموعات المصرفية الإسلامية ومنها مجموعة البركة إلى مخاطبة تلك الجهات ومراجعتها في الأمر أكثر من مرة، ولكن كان الجواب التسويف والإرجاء، بل أكثر من ذلك أن هذه التجربة التي هي تجربة غير مؤصلة شرعًا فكر أصحابها في ترويجها وتسويقها، فسوقوها إلى دول مجاورة وجاؤوا إلى بعض دول الخليج ليعرضوا هذه التجربة المريرة في العمل المصرفي الإسلامي.

وفي لقاء تم كان فيه الشيخ تقي والشيخ القرضاوي ومحدثكم وحينما سئلوا عن مستندهم، وكل هذه النصوص كانت مبتورة، لأنها لم تراع فيها القيود والضوابط. وكان من جملة هذه النصوص ما جاء في كتاب أستاذنا الدكتور وهبة الزحيلي في موسوعته المعروفة لأنه أشار إلى هذه المسألة ولكنه قدم القيد والضابط في أول الباب فأخذوا هذه الصفحة وقالوا: أخذنا من هذا الكتاب.

والحقيقة أنني اطلعت على عبارة لابن نجيم الفقيه الحنفي المعروف ينقلها عن ابن الغس، وهي تبين أصلين أساسيين في البحث الفقهي وكنت سأذكر هذين الأصلين من الذاكرة ولكن بسبب تأجيل دوري استطعت أن أحضر هذا النص. يقول ابن الغس: "إن فهم المسائل الفقهية على وجه التحقيق يحتاج إلى معرفة أصلين:

أحدهما: أن إطلاق الفقهاء في الغالب مقيد بقيود يعرفها صاحب الفهم المستقيم الممارس للأصول والفروع، وإنما يسكتون عنها اعتمادًا على صحة فهم الطالب الحاذق، أو اعتمادًا على ما سبق بيانه في مواطن أخرى.

الأصل الثاني: أن المسائل الاجتهادية المعقولة المعنى – غير التعبدية – لا تعرف الحكم فيها على الوجه التام إلا بمعرفة وجه الحكم الذي بني عليه وتفرع عنه، وإلا فتشتبه المسائل على الطالب ويحار ذهنه فيها لعدم معرفة الوجه والمبنى، ومن أهمل ما ذكرناه وقع في الخطأ والغلط ".

وبهذا يتبين أن هذا التصرف الذي وقع فيه هؤلاء كل من هذين الجانبين أولاً من عدم مراعاة القيود والضوابط الشرعية العامة، والثاني أنه لم ينظر نظرة منهجية في وجه التحريم والتحليل. فإذا كان التحليل سيؤدي إلى الربا فمعنى هذا أنه يعود على أساسه بالنقض، وهذه أمور عند ابن الغس: معقولة المعنى، إذن يجب أن تربط بمقاصد الشريعة وبأسرار التشريع حتى لا يحصل فيها زلل.

والله أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 197

الشيخ نزيه كمال حماد:

بسم الله الرحمن الرحيم

أشكركم على إتاحة الفرصة لي لتلخيص ورقتي التي لم يتيسر للعارض فضيلة الشيخ العثماني أن يشير إلى ما جاء فيها من أحكام فقهية تتعلق ببيع الدين أو التطبيقات المعاصرة المتعلقة بالموضوع.

وألخص تلخيصًا سريعًا ما أوردته في البحث، فأقول: بالنسبة لأحكام بيع الدين ذكرت أن جمهور الفقهاء أجازوا بعض صوره وحظروا بعضها الآخر، ولهم في أحكامه تفصيلات وتقييدات، وخلاف وتعدد مقولات، وقد فرقوا بين ما إذا كان البيع من المدين نفسه أو من غيره، وبين ما إذا كان الدين حالاً أو مؤجلاً، وبين ما إذا كان الثمن حالاً أو مؤجلاً. فتحصل في المسألة ثمان صور ينبغي أن يميز بين كل صورة وأخرى وهذا ما فعلته في بحثي فتكلمت عن الصورة الأولى وهي:(بيع الدين المؤجل للمدين بثمن مؤجل) ، والثانية (بيع الدين الحال للمدين بثمن مؤجل) ، والثالثة (بيع الدين الحال للمدين بثمن حال) ، والرابعة (بيع الدين المؤجل للمدين بثمن حال) ، والخامسة (بيع الدين المؤجل لغير المدين بثمن مؤجل) ، والسادسة (بيع الدين الحال لغير المدين بثمن مؤجل) ، والسابعة (بيع الدين الحال لغير المدين بثمن حال) ، والثامنة (بيع الدين المؤجل لغير المدين بثمن حال) وهي بيع النصيب.

وقد فصلت عند كل صورة جميع الأحكام المتعلقة بها. المهم أنه في نظري لا بد من تحرير محل النزاع، وهذا ما فعلته لتتضح الأحكام الفقهية ولا يختلط بعضها ببعض نظرًا لتعقد المسألة وكثرة حالاتها وصورها، وقد بينت ذلك في بحثي ويمكن الرجوع إليه.

بالنسبة للتطبيقات المعاصرة لبيع الدين، ذكرت المسألة الأولى، قضية التعامل بسندات القرض، وهي أمر متفق عليه أن السندات ربوية سواء صدرت من الحكومة أو من شركة أو من غير ذلك فإنه لا يجوز شرعًا إصدارها ولا شراؤها ولا تداولها بالبيع.

والمسألة الثانية قضية حسم الكمبيالات، وهي أيضًا صورة من صور الإقراض بفائدة والتي تقوم بها البنوك التقليدية وهي عملية محظورة شرعًا لابتنائها أيضًا على قاعدة القرض الربوي.

ثم انتقلت إلى المسألة الثالثة التي أريد أن ألخص ما جاء فيها وهي قضية التوريق أوتصكيك الديون. التوريق هذا عبارة عن تعريب لمصطلح اقتصادي جديد يسمى (SecuritiZation)، ومعناه: جعل الدين المؤجل في ذمة الغير – في الفترة ما بين ثبوته في الذمة وحلول أجله – صكوكًا قابلة للتداول في سوق ثانوية. وبذلك يمكن أن تجرى عليه عمليات التبادل والتداول المختلفة، وينقلب إلى نقود ناضة بعد أن كان مجرد التزام في ذمة المدين.

ص: 198

وقد شرحت صور التوريق في الاقتصاد المعاصر وسوق الأوراق المالية، ثم انتقلت إلى حكمه في الشريعة الإسلامية وذكرت أن النظر الفقهي يقتضي التفريق بين نوعين من المديونية: مديونية النقود، ومديونية السلع.

أما بالنسبة لتوريق الدين النقدي: فإذا كان الدين الثابت في الذمة المؤجل السداد نقودًا، فقد اتفقت كلمة الفقهاء على عدم جواز توريقه، وامتناع تداوله في سوق ثانوية، سواء بيع بنقد معجل من جنسه – حيث إنه يكون من قبيل حسم الكمبيالات، وينطوي على ربا الفضل والنساء باتفاق الفقهاء – أو بيع بنقد معجل من غير جنسه، لاشتماله على ربا النساء، وذلك لسريان أحكام الصرف عليه شرعًا. ولا فرق في ذلك الحكم بين ما إذا كان سبب وجوب الدين النقدي في الذمة قرضًا أو بيعًا أو إجارة أو غير ذلك.

وبنيت على ذلك أنه لا يجوز توريق دين المرابحة للآمر بالشراء (المرابحة المصرفية) المؤجل، وتداوله من قبل المصارف الإسلامية أو الأفراد في سوق ثانوية أو عن طريق البيع المباشر بنقد معجل أقل منه، كما يجري في عمليات توريق الديون المختلفة وتداولها في سوق الأوراق المالية، حيث إن ذلك من الربا باتفاق أهل العلم.

وأشرت بعد ذلك إلى أن عدم جواز توريق المديونية النقدية باعتباره لونًا من حسم الأوراق التجارية لا يعني إغلاق باب المشروعية بالكلية، أمام فكرة توريق الدين النقدي، وذلك لأننا لو طورنا مفهوم التوريق التقليدي السائد، ووضعنا بعض القيود الشرعية على ممارسته لأمكن الخروج بصورة مقبولة شرعًا للتوريق.

وبيان ذلك أننا لو صككنا الدين النقدي المؤجل على أساس قصر مبادلته على عروض التجارة (أي السلع العينية) الحاضرة، بأن يجعل ثمنًا لها، لكان ذلك جائزًا شرعًا.

أولًا: بناء على قول مالك والنخعي والقاضي شريح وزفر بن الهذيل وغيرهم بجواز الشراء بالدين من غير من هو عليه الدين، وقد أوردت نص الإمام مالك في الموطأ ونصوص المبسوط للسرخسي التي تشهد لما ادعيته.

ثانيًا: تخريجًا على القول المشهور في مذهب المالكية وهو وجه عند الشافعية، ورواية عن أحمد اختارها ورجحها شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وهو جواز بيع الدين النقدي المؤجل لغير المدين بسلعة حاضرة، إذا انتفى عدم القدرة على تسليم الدين في محله.

وبناء على ذلك يمكن للبنك الإسلامي أن يشتري مثلاً ألف سيارة بثمن معجل، ثم يبيعها للعملاء بثمن مؤجل موثق بكفيل أو رهن، ولا حرج بعد ذلك شرعًا في أن يعمد إلى توريق تلك الديون التي على عملائه لمرة واحدة، والشراء بصكوكها كمية أخرى من السيارات الحاضرة من المصنع مثلاً، ثم يبيعها بثمن مؤجل موثق آخر، ثم يورق ثمنها لمرة واحدة، ويشتري به سلعًا حاضرة أخرى غيرها، وهكذا. وبذلك لا تتجمد تلك الديون النقدية المؤجلة في الفترة ما بين ثبوتها في الذمة وحلول أجلها، بل تتحول إلى ما يشبه النقود السائلة بجعلها ثمنًا لسلع عينية حاضرة.

ص: 199

الأستاذ صباح زنكنة:

بسم الله الرحمن الرحيم.

أنا لا أريد أن أطيل في هذا الموضوع وخاصة أن البحث قد استوفى من قبل السادة الباحثين والعارضين، ويمكن أن نخلص في تشكيل اللجنة التي تعد التوصيات اللازمة على أن نحصل على توصيات تساعد في فتح الطريق للمشاكل التي تعاني منها البلاد الإسلامية.

وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله.

الشيخ ناجي عجم:

بسم الله الرحمن الرحيم

بعض الإخوة الكرام سبقوني في توصيف الموضوع لأن الفقهاء كذلك وصلوا في الواقع في بيع الأوراق المالية وبيان الأحكام الشرعية فيها، وإنني أشكر الشيخ القاضي العثماني على البدائل التي تكلم عنها ووصفها توصيفًا جيدًا وخاصة في صكوك التأجير وصكوك صندوق تمويل الحكومة، وكذلك المشاركة من البنوك للتاجر، ثم الاتفاق على نسبة ربح، فهذا بديل جيد وإن كان بعض الإخوة خاصة فضيلة الشيخ المختار تحفظ، وأن البنوك ممنوعة من المخاطرة، فما دامت المخاطرة موجودة من البنك والتاجر فلا أرى بأسًا في جواز مشاركة البنك للتاجر.

ولي ملاحظة واحدة فقط على بعض البدائل التي أوردها الشيخ العثماني وهو الهروب من العقوبة بشرط الإعفاء من الضرائب. أقول هذا هو الربا بعينه، ولكن الأستاذ الجناحي – جزاه الله خيرًا – أورد بديلاً وهو أنه من الممكن أن الحكومة تبيع أسهمًا لثروتها العامة كالبترول مثلاً ثم المشتري يوكل الحكومة في بيع هذه الأسهم وتجني الأرباح.

وأكتفي بهذا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 200

الشيخ محمد علي التسخيري:

بسم الله الرحمن الرحيم

أضم صوتي إلى الذين سبقوني في شكر العلامة الشيخ القاضي العثماني على هذا العرض الطيب وعلى كاتبي المقالات.

عندي ملاحظتان:

الأولى: حول خصم الكمبيالة. هذا الخصم مهما تم تكييفه فقهيًّا إما باعتباره قرضًا يقدمه البنك للمستفيد من الكمبيالة وحوالة من المستفيدين على من يحرر الكمبيالة مع تعهد للبنك بالدفع، أو نعتبره قرضًا يقدمه البنك للمستفيد، وهذا المستفيد يوكل البنك بتحصيل المبلغ من محرر الكمبيالة واقتطاع ما أخذه. وأخرى ببيع المستفيد دينه من البنك الذي يشتريه. هنا طبعًا البنك يشتريه بأقل من قيمته الاسمية. هنا بيع الدين من غير من عليه الدين هو أمر مقبول للإمامية، والمشهور أيضًا يجيزون هذا البيع بأقل من قيمته الاسمية، وليس هناك غرر في البيع خصوصًا مع ضمان التسليم.

طبعًا أنا لي رأي في مسألة القدرة على التسليم في محله، هل يدخل في مسألة الغرر أم لا؟ إلا أن المشهور هو رجوع البنك إلى من عليه الدين بقيمة الكمبيالة الاسمية في حين أؤكد وأميل إلى أن يرجع البنك بما دفعه فقط إلى محرر الكمبيالة. البنك يرجع فقط بما دفعه لمحرر الكمبيالة ويكون الخصم الذي يخصم في الواقع لصالح محرر الكمبيالة، فهو يأخذ ما دفعه. وهذا المعنى بمقتضى روايتين موجودتين في كتب الإمامية ضعفهما العلماء ولكني أراهما إحدى القواعد، ولذلك أنسجم سواء مع هذه الفتوى التي تقول بأن البنك لا يأخذ إلا ما دفعه مع شيء من العمولة.

الملاحظة الثانية: البدائل التي طرحت من قبل السادة الباحثين لم أجد فيها ما فيه إشكال، إلا أن ما طرحه سماحة الشيخ العثماني من سندات القرض غير الربوية مع مسألة إعفاء المشتري من الضرائب، هذا الاقتراح إذا كان بنحو الاشتراط، يعني أن تشترط الدولة أن تعفي الإنسان المشتري هذه السندات من الضرائب.

أعتقد أن قضية (كل قرض جر نفعًا فهو ربا) ، وهذا النص لم يرد لكنه تقبل من قبل العلماء جميعًا، هذه القضية تنطبق هنا، كل إضافة هي ربا. وحينئذ فالشرط (لا غرر) صحيح. نعم، لو أن الدولة تقدمت بالتبرع ودون أن يلزمها مشتري هذا السند لو تبرعت فهو من الحموى المستحبة. أذكر أن مفكرًا إسلاميًّا اقترح أن تقوم البنوك الإسلامية بالاشتراط عندما تقدم قرضًا للآخرين، وتشترط على المقترض أن يقرضها عند انتهاء المدة مبلغًا معينًا لمدة معينة. اقترح هذا المفكر هذا الشرط واعترضت عليه بقوة بأن هذا الشرط نفع وخالفته في ذلك رغم أنه كان من أساتذتي.

فإذن تقديم الدولة جوائز غير مشروطة أو خطوة غير مشروطة أو جعل هؤلاء الذين يشترون هذه السندات من العملاء الممتازين الذين يمكن أن تعقد معهم الدولة عقودها الآتية. هذا أمر لا مانع منه شريطة ألا يكون هناك اشتراط في البيع.

شكرًا جزيلاً، والسلام عليكم.

ص: 201

الشيخ علي السالوس:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.

الشكر والتقدير للإخوة الباحثين والمعقبين.

بالنسبة لحسم الكمبيالات: من الواضح هنا أن ما تقوم به البنوك الربوية بخصم الكمبيالات له واقع ينبني عليه الحكم الشرعي، وهذا في الواقع حدده القانون الذي ينظم أعمال البنوك، ولذلك الدكتور السنهوري في كتابه (الوسيط) تحدث عن خصم الكمبيالات أو خصم الأوراق التجارية وبين أن هذا قرض، ولذلك فإن البنك الربوي عندما يقوم بخصم الكمبيالات، إذا جاء الموعد ولم يتمكن من تحصيل هذه الكمبيالة، عاد مرة أخرى على محرر الكمبيالة وأخذ منه المبلغ كاملاً وليس المبلغ فقط بل إضافة إلى الفوائد الربوية من تاريخ استحقاق الكمبيالة إلى تاريخ الدفع الفعلي، أي أنه يأخذ منه فوائد آجلة، ليس لدفع دين في هذه الحالة وإنما هو إقراض ربوي، وهذا ما بينته منذ عدة سنوات في بعض كتبي.

إذن خصم الكمبيالة أمر ربوي. إذا جئنا بالنسبة لما يحدث في ماليزيا من بيع الدين فهنا مسألة الصرف، الإخوة بينوا تحريم هذا، وأرجو أن يكون للمجمع الموقر دور في هذا، لأن المسلمين هناك يسمعون بأن هذه سندات أو خصم كمبيالات إسلامية، فكلمة إسلامية هذه قد تغري بعض المسلمين بأنها فعلاً إسلامية. فعلى المجمع أن يقوم بدوره في توضيح هذا الأمر، وننصح الإخوة المسلمين هناك بأن خصم الكمبيالة في البنوك الربوية معلوم أنها أمر ربوي، وأما أن يوصف هذا الخصم بأنه إسلامي فهذا هو الوضع الخطر البالغ والذي أقترح أن يكون للمجمع دور فيه.

النقطة الثانية التي أريد أن أبينها هي ما يتصل ببيع دين السلم وأذكر واقعة هنا: لو أن شخصًا اشترى سلمًا سلعة بألف، ثم بعد مدة باعها بألف ومائة ولم يتم قبض المبيع ولم يستطع البائع أن يسلم المبيع، فعقد السلم عقد لازم لكن دين السلم دين غير مستقر، فإذا لم يستطع أن يسلم المبيع عندئذ يفسخ العقد فماذا يفعل البائع؟ هل يدفع ألفًا أم يدفع ألفًا ومائة؟ لو قلنا يدفع ألفًا إذن الأول لم يدخل البيع في ضمانه فهذا بيع آخر. معنى ذلك أن البيع الأول يفسخ والثاني إذا فسخ فإن الذي اشترى بألف ثم باع بألف ومائة يأخذ ألفًا ممن باع ويدفع ألفًا ومائة لمن اشترى. إذن هذا أشبه بالسلم. بمعنى أن يكون البائع الأول، البيع في ضمانه أن يسلم، والحالة الثانية أن البائع الثاني – وهو المشتري الأول – البيع في ضمانه هو أن يسلم، وإلا لو قلنا بأنه يجوز أن يبيع وينتقل الضمان من البائع الأول إلى المشتري الثاني معناها أن البائع الأول ملتزم بأن يدفع أكثر مما أخذ، وهذا إذن بالنسبة لبيع دين السلم، صكوك لدين السلم أعتقد أن هذا غير جائز، لأن دين السلم دين مستقر.

ما ذكر من أن سندات الدولة مقدورة التسليم وينبني على هذا جوازها. يعني الضابطان اللذين تحدث عنهما الشيخ الضرير في موضوع الربا والغرر الفاحش، سندات الدولة قد تكون مقدورة التسليم وقد تكون غير مقدورة، لأنها لا تستطيع أن تؤدي ديونها، والواقع هذا في دول كثيرة فلا ينبني على هذا حكم شرعي بأن نقول: هذا مقدور التسليم إذن يجوز أن نجعل هذا صكًا قابلاً للتداول.

أحب أن أضيف إلى الاقتراح الجيد الذي ذكره فضيلة الشيخ السلامي، أضيف هنا أن على السادة الباحثين أن يكتبوا تلخيصًا لأبحاثهم، لأن هذا يساعد العارض ويساعد القارئ المتعجل الذي لا تأتيه البحوث إلا قبيل الجلسة بوقت قصير.

وشكرًا لكم، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.

ص: 202

الشيخ عبد الله بن بيه:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد الله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه.

هذه القضية التي نبحثها اليوم هي قضية معقدة وزادها تعقيدًا التطبيقات المعاصرة لما فيها من تعقيدات وقضايا جديدة

كمقدمة لما سأقوله أود أن أذكر كلامًا للشاطبي – رحمه الله تعالى – وسأذكره بالمعنى قال: إن التركيب إذا. . .

معنى ذلك أن الحاجيات لا تبيح كل شيء وهذا أمر يجب أن يكون معلومًا. .

إننا في قضية بيع الدين بالدين أمام قضية غير مجهولة ولا مهملة بل هي معلومة ومفصلة عند العلماء.

لا أريد أن أتعرض إلى التفصيلات التي ذكرها الإخوة بل سأذكر قليلًا من التفصيل مما ذكره المالكية الذين أصبحوا في الحقيقة كملجأ يلجأ إليه في التحليل.

المالكية قالوا بجواز بيع الدين لغير المدين إذا بيع بغير جنسه وكان غير ذهب بفضة أو العكس، أي أنه لا يجوز بيع نقود أو طعام من بيع، لكن هناك شروط أخرى، من هذه الشروط:

- ألا يكون الدين على ميت أو على غائب. ولو قربت غيبته ولو قامت بينة بخلاف الحوالة.

- وليس بين المستدين ومن عليه الدين عداوة.

ثم إن المالكية قسموا بيع الدين إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول وفسروا به الكالئ: قال خليل: وككالئ بمثله فسخ ما في الذمة في مؤخر. والكالئ بيع الدين لصاحبه ويسمى نسخًا لما في الذمة وهذا لا يجوز قطعًا. وهو أعلاها وأشدها عندهم.

الثاني: بيع الدين بالدين. وهنا لا بد من وجود شخص ثالث أي على الأقل ثلاثة أشخاص.

الثالث: جائز، وهو ابتداء الدين بالدين. هذا كما يقول الزرقاني جائز. لكن المثال الذي قدموه له هو مسألة السلم يؤخر بغير شرط لأكثر من ثلاثة. وذكروا مسألة أخرى في مكان آخر وهي المسألة التي ذكرها مالك في المدونة، وهي: أن تطلب من شخص أن يبني لك دارًا على أن الجص منه والبناء منه.

ص: 203

وهذه المسألة، مسألة الاستصناع هي مسألة جائزة عند مالك وليس فيها شيء يدفع، لم يدفع لا ثمن ولا مثمن، لكنه يشترط أن يكون المتعاقد معه من أهل الصنعة، وأن يشرع فورًا أو في الأيام اليسيرة التي تلي ذلك. وقيل: إن هذه مسألة لا يحملها قياس وإنما استحسان واتباع، وقال سحنون: لا تحتمل الأصول. وقد منعها عبد الملك في الثمانية.

معنى ذلك أن هذا البيع وإن كانوا أجازوه، وقالوا إنه ليس من الكالئ، لأنه ابتداء دين وليس من الكالئ فإنهم كروا على ذلك بشبه النقض حيث لم يجيزوه إلا في مسائل معينة ومحددة. لكنني رأيت بعض الإخوان توسعوا في مسألة بيع الدين بعين أو بشيء معين أو بمنافع معين، في الحقيقة الذي جاء به العلماء بمنافع معين وليس بمنافع معينة، المنافع لا تعين إنما المعين الذي تجتني منه المنافع أو تؤخذ منه المنافع، وإن كانت المنافع لم يجزها ابن القاسم إلا في حالة الضرورة، إذا كان في صحراء يمكن أن يؤجر دابة بدين وقال: هذه ضرورة.

هذه القضية لعلها فهمت خطأ. في الحقيقة أنه يجوز له أني بيع الدين بسلعة معينة يتأخر قبضها، ومعنى تأخر القبض أن تكون غائبة مثلاً وليس معنى ذلك أنها آجلة، لا يجوز أن يبيع دينًا بدين مؤجل سواء كان عينًا أو نقودًا، فإن ذلك لا يجوز وهذا أمر مجمع عليه.

في الحقيقة رأيت بعض الإخوان هنا أخذ هذا الكلام وهو بحث جيد للدكتور محمد علي القري وقال: بالحل الإسلامي، فالدائن إذا أراد أن يستعجل دينه قبل أجله يمكن له أن يشتري عرضًا من بائع بالأجل ثم يحيله بالثمن على ذلك المدين. هذا القبض أعم من التأجيل والمراد هو القبض فقط، لتأخر القبض وليس بالأجل، بالأجل هذا لا يجوز بالإجماع.

وهنا مسألة مهمة جدًّا وهي إذا كان في مسألة الإجماع فإنه لا يجوز أن نتجاوزه. فقد ذكر بعض علماء الأصول، وأنتم تعلمون ذلك، أن الإجماع له قادح واحد هو إثبات الخلاف. أما كون حديث " الكالئ بالكالئ" لم يصح عند المحدثين لكن أخذ الفقهاء به يصححه وأنتم تعلمون ذلك، وكم من إجماعات نعمل بها لا مستند لها، لأنه قد يكون مقدرا كعدم ضمان عامل القراض، وعدم جواز التعاقد على ربح معين، وحتى الزيادة في القرض ليست من باب انظرني وأزدك حديثها لم يثبت ((كل قرض جر نفعًا)) لم يثبت عند المحدثين، إلا أن الإجماع انعقد على أن أي زيادة ولو كانت نصف حبة لا تجوز. ومستنده عند ابن رشد في المقدمات القياس، وعند الرازي الجصاص شمول آية الربا له. فربا الجاهلية صنفان.

إذن الإجماع لا يقدح فيه إلا بادعاء الخلاف. لذلك أرجو أن نقف إذا وجدنا جدار الإجماع أمامنا فلا نستطيع أن نظهره ولا نستطيع أن ننفيه أيضًا، لا بد أن نتوقف قليلاً.

بالإضافة إلى ما ذكرته هذه السندات هل هي أوراق مالية؟ سألت عن هذا بعض الإخوة خصوصًا الدكتور محمد علي، هل هي أوراق متمولة كأوراق النقود التي نبيع بها أم هي وثائق فقط والمبيع هو الدين؟ هذه السندات أيضًا كذلك الأسهم هل هي حصص شائعة ونكون قد بعنا حصة شائعة بدون تحديد البديل بشكل واضح؟ كل هذا يجعل القضية معقدة، فلا أقترح شيئًا جديدًا، أقترح فقط أن تبحث قليلاً، وكل ما لاح لنا لائح " أجمعوا " حتى ولو لم نجد مستندًا، لأن الإجماع يقدر له مستنده ولو لم يذكر، وقد يستند إلى قياس، الشافعي يقول: نعمل بالإجماع حتى لو لم نستند إلى شيء. قال ذلك في الرسالة بشكل واضح. قال: لأنهم لا تغيب عنهم السنة جميعًا.

فأرجو أن نتريث في هذا، وأن نبحث هذه القضية من جديد بحثًا معمقًا في لجنة مصغرة تراجع كل ما ذكر.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 204

الشيخ صالح المرزوقي:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على أفضل خلق الله. . أما بعد؛

فأشكر المعقبين وتعقيبهم على تعليقي وكلنا ننشد الحق، إن شاء الله، وقد أوضح سعادة الدكتور سامي حمود – جزاه الله خيرًا – أن الذي ينبغي هو أن نناقش الواقع، القضايا الواقعة، المشاكل الواقعة التي تقع فيها البنوك الإسلامية وغيرها في المجتمع الإسلامي مثل الكمبيالات والسندات وبيعها سواء بالتساوي أو بالحسم، لأن هذه هي التي تمس الحاجة إليها.

وقد تعقب على موضوع استهلاك السندات أو الأسهم وإعادة قيمتها، والذي أود أن أبينه في هذا الشأن أن الأرباح التي يحققها المساهم أو صاحب الحصة أو سمها سندًا أو أي اسم ما شئت، هذه الأرباح إذا كانت مثلاً تحصل على عشرين ريالاً ثم يعطى أجرًا من العشرة ريالات على أنها ربح والعشرة الأخرى تعطى على أنها رأس ماله وهي من الربح، كيف يكون هذا صحيحًا؟ وكيف يقبل به؟ وأسأل الدكتور سامي لو كان هو المشارك على هذه الطريقة سيقبل أن يعطى جزءًا من أرباحه على أنها إعادة لرأس ماله؟

الأموال التي تشترى بها هذه السندات هي من أرباح الشركة ولو لم تدفع على أنها قيمة السند وعلى أنها إعادة لرأس المال فإنها تدل على أنها أرباح، وما دامت ستسلم إلى المساهم على أنها إعادة لرأس ماله الذي دفع فلماذا لا تسلم له على أنها أرباح أسهمه أو سنداته؟

ثم شيء آخر، في هذه الحالة كأن صاحب السند أو صاحب الحصة أو صاحب السهم كأنه باع ماله على نفسه، فالعقد (عقد البيع) دائمًا ثنائي، موجب وقابل، وفي هذه الحالة كأنه باع من ماله على نفسه، وهذا لا نعلمه في الفقه الإسلامي.

بالنسبة لما ذكره أيضًا الدكتور سامي والدكتور القري – جزاهما الله خيرًا – في مسألة الكمبيالات والسندات وبيعها. الدكتور سامي قال بأن الصرف. . . والذي أود أن أقوله عندي تساؤل: هل الكمبيالة نقود فنطبق عليها أحكام النقود الورقية ونطبق عليها ما سبق أن قرره المجمع بشأن الشيك وبالتالي فإن بيعها يعتبر صرفًا ويبتدئ به شروط الصرف، أم هي سلعة وبالتالي تطبق عليها أحكام السلع ويجري فيها الخلاف بين الفقهاء في بيع الدين؟ الواقع والذي أعتقده أنها ليست سلعة وليست نقودًا وإنما هي وثيقة لإثبات هذا الدين لا تطبق عليها أحكام الصرف ولا تطبق عليها أحكام السلع وإنما هي دين.

هذا ما أحببت أن أعقب به. وشكرًا للجميع.

ص: 205

الشيخ القاضي محمد تقي العثماني:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين. . أما بعد؛

فأشكر جميع الإخوة الذين أثروا هذا النقاش بتدخلاتهم القيمة، والذين عقبوا على البحوث الواردة وخاصة على بحثي إما إيجابيًّا أو سلبيًّا.

وإنني أريد أن أركز في هذا الوقت على الجواب عما جاء به كثير من الإخوة عن البدائل التي اقترحتها لسندات الدين أو لحسم الكمبيالات. فذكر العلامة وهبة الزحيلي – حفظه الله تعالى – أني قد أتيت بتخريجات لحسم الكمبيالة. ولعل فضيلة الشيخ وهبة لم ينتبه إلى تخريجي لحسم الكمبيالة، وإن البحث كله منصب على تحريم حسم الكمبيالة. ولكنني أتيت لحسم الكمبيالة ببدائل مقترحة، فأتيت لها بثلاثة بدائل:

البديل الأول الذي ذكرته هو أن حسم الكمبيالات إنما يحتاج إليه التاجر الذي يبيع بضاعته ثم يريد أن يعجل القيمة ليسدد بها ديونه إلى التجار أو الصناع الذين اشترى منهم البضاعة.

فأنا اقترحت أن يكون هناك مشاركة مع البنك وبين هذه الجهات، وقد تساءل فضيلة الدكتور سامي حسن حمود – حفظه الله – من أنه هل تكون هذه المشاركة بعد التصدير أو قبل التصدير؟ ففي البحث نفسه قلت: يعقد التجار مشاركة مع البنك قبل تصديرهم للبضاعة، فلست آذن إذن للمشاركة بعد التصدير، لأنه إذا صدر فكأنه باع البضاعة ولا سبيل إلى إحداث المشاركة بعد ذلك. وإنما المقصود هو أن يحدث المشاركة قبل تصدير البضاعة. وعلى ذلك اعترض فضيلة الدكتور سامي حسن حمود بأنه ليس مع الكمبيالة، أنا أقول لا يسمى كمبيالة ولا يكون مثل الكمبيالة وإنما أقترح البدائل للمعاملات المصرفية، فلسنا نقصد أن نحكي أو نقبل جميع ما يجري في البنوك التقليدية بحججها وإنما نقصد أن نحصل على الآراء الصحيحة من واقع هذه العمليات، فإذا حصلنا على ذلك الغرض بدليل آخر ولو كان ذلك الدليل لا يسمى كمبيالة، فليس هناك مانع لا من الناحية الشرعية ولا من الناحية العملية. فأنا لا أسميه كمبيالة، ولكن يسند هذا الغرض بدليل أحداث هذه المشاركة.

أما البديل الثاني: وقد تساءل فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي – حفظه الله تعالى – أنه هل هي مشاركة أم هي مضاربة؟ فالواقع أن كلمة (المشاركة) المعاملات المصرفية فإنها تشمل المضاربة والشركة وفي بعض الأحيان مجموع المشاركات والمضاربات، فالمقصود هنا أنه هناك مشاركة في تقسيم الربح سواء كان عن طريق المضاربة أو عن طريق المشاركة أو عن طريق مجموعهما.

ص: 206

أما البديل الثالث الذي طرحته فهو أن يبيع البنك البضاعة المعينة تجاه هذه الكمبيالة. وقد تساءل فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي كيف يدخل البنك في هذه الأعمال التجارية بينما لا تسمح القوانين البنكية اليوم للبنوك أن تدخل في التجارة مباشرة؟ فالجواب أننا عندما نقترح بديلاً للمعاملات المصرفية فلا أقصد أن يكون الموجودة إنما أقصد أن يكون هناك معاملات مصرفية مطبقة على أساس التشريع الإسلامي وعلى أساس القوانين الإسلامية، فإذا منعت البنوك من الدخول في التجارة فلا سبيل إذن إلى إحداث الأعمال المصرفية الإسلامية إطلاقًا، لأنه لا تصور للبنوك الإسلامية إلا بأن تكون في التجارة، والتصور الإسلامي للبنوك ليس هو كما تصور البنوك التقليدية أن لها وظائف فقط، وأنها تقدم أموالاً وتتعامل في الأوراق وتتعامل في النقود فقط.

أما البديل الرابع الذي ذكرته كبديل عن حسم الكمبيالة وهو عقد الوكالة وعقد القرض. فقد تساءل فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي – حفظه الله – في أنها مقابل المجهول فهل تعطى في كل حال؟ فالجواب: نعم تعطى في كل حال، لأنها في مقابل المجهول، وبهذا ينفصل حسم الكمبيالة عن هذه العملية، ولا أجيز هذا الطريق إلا بأن تكون الأجرة موحدة سواء كانت مدة الكمبيالة أكثر أو أقل ولا ترتبط بالزمن، وألا يزاد في أجرة الوكالة بسبب القرض الذي أقرضه البنك فإنه يكون حينئذ قرضًا جر منفعة.

وعلى هذا الأساس يكون الجواب عمن قال: إنه يكون تحايلاً على الربا فإنما يجيزه هو على أساس هذه الشروط، ما دامت هذه الشروط مطبقة فأنا أقبله وإن لم تطبق فهذا يكون خارجًا عن الطريقة الإسلامية.

تكلم بعض الإخوة فقالوا: إن البديل الذي ذكرته في القطاع العام من إصدار سندات بدون فائدة، يقال: من يشتري هذه السندات. . .؟ والجواب قد تقدم به بعض الإخوة أنه في الواقع إنما يستخدم هذا الطريق بعد استنفاذ جميع الطرق التي اقترحتها فيما قبل من المشاركة والمضاربة وأوراق التأجير وما إلى ذلك. فإذا كانت العامة والشعب واثقين بالحكومة بأنها لا تنفق هذه الأموال في ترف وتنعم، فإنه يكون بسبب عاطفته الدينية أو الوطنية فيقدموا هذه القروض وفي الوقت نفسه تكون هذه الأموال مضمونة لديهم.

وبهذا القدر أكتفي، والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 207

الشيخ الصديق الضرير:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه وسلم.

أردت من تدخلي هذا أن أوضح المسألة التي نسبتها إلى المالكية واعترض عليها بعض الإخوة وهي: بيع الدين بالدين، وقلت: إن هذه اصطلاح المالكية في بيع الدين بالدين لغير من عليه الدين خاصة. أما بيع الدين بالدين لمن عليه الدين فهذا يسمونه فسخ الدين في الدين. وفرقوا في الحكم بين هاتين الصورتين.

الصورة الأولى هي أشدها منعًا عند المالكية وواضح أنها يترتب عليها ربا وهو ربا الجاهلية، له عليه ألفا ألف ومائة تدفع بعد شهر، واضح هذا ولا ينبغي أن يكون فيه خلاف، ولذلك شددوا فيه ومنعوا في هذه الحالة أن يباع ولو بسلعة أي بمعين يتأخر قبضه، لا يجوز له بيع سند المبلغ الذي في ذمتك بسيارة يسلمها لك، سيارة معينة وليست في الذمة، إذا كانت في الذمة اسمه دينًا، سيارة معينة وموصوفة ولكن لا يسلمها في الحال، هذا منعوها أيضًا قفلاً لهذا الباب في فسخ الدين بالدين أي في بيع لمن عليه الدين.

أما بيع الدين بالدين، أي بيع الدين لغير من عليه الدين، فأجازوا فيه هذه الصورة وهي أن يبيع له الدين الذي عليه بسيارة معينة ومعروفة ليست في الذمة لكن يتأخر قبضها. والواضح من هذا أنه إذا كانت هذه الصورة يجوز فيها البيع بسيارة يتأخر قبضها فمن باب أولى يجوز فيها البيع بسيارة مقبوضة في الحال، وهذه مسألة بدهية لذي نظر، لأن هذا الشخص الدائن كأنه اشترى هذه السيارة بالدين الذي في ذمة المدين فهي شبيهة ببيع سلعة بثمن معين، هذا الثمن هو الدين، فكيف نقول بعدم جوازه؟! ولم أرَ غير المالكية نصوا على هذه الصورة، وفعلاً هذه الصورة تحل لنا مشكلة بيع الكمبيالات وبيع السندات، وكلها واحد.

وبالنسبة للسؤال: هل السند نقود؟ لا، السند ليس نقودًا بل هو وثيقة، لا إشكال في هذا، والذي يباع هو الدين، فعندما يبيع السند أو يبيع الكمبيالة يبيع الدين، والدين عرف بأنه مال، فهو يبيع مالاً، فلا مانع من هذا. ولذلك يطبق عليه جميع أحكام بيع المال، فإذا بيع بمال لا يجوز في جميع الأحوال، لا كلام في هذا حتى ولو دفع المبلغ في الحال لأن الدين مؤجل، فهذا واضح. هذه هي الصورة التي أردت أن أوضحها لما وقع فيها من لبس.

ص: 208

الموضوع الذي أشار إليه الشيخ السالوس وهو الشروط الثلاثة التي وضعتها، جواز بيع الدين مطلقًا سواء كان بالنقد أو بالدين قيدته بأن ينتفي منه الغرر، يعني بشرط ألا يكون موضوع القدرة على التسليم، الفقهاء شددوا في هذه المسألة وأنا ضربت مثلاً لدين الدول، والشيخ السالوس ذكر أنه الدول المفلسة. الدول المفلسة لا نطلب منها، نحن نقصد الدول التي توفي بديونها إذا احتاجت إلى نقود، وأنا في رأيي أن هذا أول ما يجب على الدولة أن تفعله أن تضع هذه السندات وهي قرض بغير فائدة، وذلك قبل أن تفرض الضرائب أو تذهب إلى طرق أخرى وغير ذلك. هذا أيسر الطرق للوفاء بحاجات الدولة عندما تحتاج إلى سيولة. فالمفروض أن الدولة تفي بوعدها وتدفع عند حلول الأجل، وإذا حصل إعسار فهذا موضوع آخر.

والشرط الثاني قلت: ألا يكون من بيع ما لا يملك. وهذا مخصوص من أجل أن يدخل فيه ابتداء الدين بالدين الذي أدخله الفقهاء في بيع الدين بالدين، وإن كان هو حقيقة هو إيجاد دينين في الحال لكن ألحقوه ببيع الدين لأنه شبيه به. فهذا ممنوع لأن فيه بيع الإنسان ما لا يملك، وهذه المسألة واقعة عندنا في السودان وهي موجودة في كل بلاد العالم فيما أعتقد، عندنا مصدرون، حصلت وعرضت على الهيئة في السودان، المصدرون في السودان يبيعون المحصول قبل أن يزرع حتى، والثمن مؤجل عند الدفع، هذا ابتداء دين بدين أو بعبارة أخرى هو: بيع الإنسان ما لا يملك على غير وجه السلم. فمنعنا هذه الصورة في السودان واقترحنا عليهم أن يبيعوا سلمًا في هذا الحالة.

وفي رأيي أنه لو أن الدول الإسلامية اتخذت هذه الطريق (بيع السلم) في مثل هذه الحالات التي يكون فيها المصدر لا يملك السلعة قد تجد من الموردين من يقبل على هذا الشراء أكثر مما لو باعوا على أن يسلموا الثمن عند تسليم المبيع، لأنه لو فرضنا أنه باع القنطار بألف على أن يسلمه بعد شهر ويتسلم الألف بعد شهر، وبدل أن يبيع القنطار بثمانمائة، على أن يسلم القنطار بعد شهر ويتسلم الثمن الآن يعني يبيعه سلمًا. بهذه الطريقة تجد حتى المرابين يقبلون على هذا، لأن في شهر واحد سوف يكون ربحه (10 %) أو (20 %) .

فهذا هو البديل الذي اقترحناه في هذه الحالة لكن لم يطبق إلى الآن.

شكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 209

الدكتور أحمد محيي الدين:

بسم الله الرحمن الرحيم

أصحاب الفضيلة كما علمتمونا أن الفقه هو تنزيل أحكام الشارع في الواقع، فنحن لا نبحث عن الحلول المقبولة شرعًا فقط، ولكن نبحث عن الحلول المقبولة شرعًا الممكنة التطبيق التي تحل مشاكل عملية. غني الفقه الإسلامي بآراء مختلفة تناقش هذه القضية أسهم في التحول النظري الكثير عن النظرات والآراء المضادة، ولكن كانت الأمثلة التي ترفض هذه القضية وبالذات الأمثلة الأربعة أو الثمانية باحتياجاتنا المعاصرة في واقعنا المعاصر كان الربط معدومًا أو مقفلاً، وكان من الأفيد أن تكون كل حالة من هذه الحالات طبق بقناع عملي جديد للمناقشة أو المعاملة موجودة في الأسواق نريد الحكم عليها.

قضايا السندات والكمبيالات من القضايا المحسومة من هذا المجمع وما كانت تحتاج إلى نقاش. الذي نريده في البنوك الإسلامية، وهي في حالة ملابسة مع البنوك الربوية، أن نتحين ونجد حلولاً وذلك للقضايا الخاصة المتعلقة بالديون. وكما تعلمون أن قضية الديون أصبحت قضية أساسية في موضوع السيولة وفي موضوع تحقق الأرباح المتوقعة. البنوك الإسلامية محتارة في قضية تحصيل الديون ونريد لو توسعنا في لجنة الصياغة على أساس مناقشة الحلول المقترحة في قضية تحصيل الديون عن طريق الوكالة أو غيرها.

البنوك الإسلامية الآن تمول عن طريق عقود الاستصناع والمرابحة والسلم والبيع الآجل، وكلها تؤدي بديون لصالح تلك البنوك على عملائها، وهي تتطلع إلى إمكانية أن تتخلص من هذه الديون عن طريق عقود شرعية نسميها صكوك الاستصناع أو المرابحة أو السلم أو البيع المؤجل على أساس أن تتمكن من إعادة السيولة وضخها من جديد في جسم الاقتصاد.

البنوك الإسلامية تفتقد اليوم إلى سوق الأوراق المالية وإلى سوق الثانوية، ومثل هذه الصكوك تساعد على إيجاد هذه السوق وتساعد البنوك على توفير السيولة لدى الحاجة بدلاً من أن تلجأ إلى الجهات الربوية أو تتعثر.

فالحقيقة النقاش يجب أن يوجه لمثل هذه الحلول والبدائل التي تواجه مشاكل حقيقية تنتظرها البنوك الإسلامية.

الحلول المطروحة والتي أشار إليها الشيخ الصديق وغيره، نحو التبرع للدولة أو الإقراض بدون فائدة، هذه مثاليات جميلة لكن نحن نعرف أوضاع الناس ونفوسهم وحقائقهم، نحن محتاجون إلى أشياء فيها مصالح متبادلة لكي تكون مغرية وجذابة للآخرين لكي يقتنوها. كذلك السوق الآن يتجه نحو النقدية ويتخلص من السلعية، فكل البدائل بأن هذه الديون يمكن تعويضها عن بضاعة حاضرة أو سيارة، هذه أصبحت غير مطروحة وغير مقبولة وغير عملية، لأنها تكلف وتخسر، والاقتصاد بمجمله يتجه نحو التوريق وليس نحو تملك السلع. وشكرًا لكم.

ص: 210

الدكتور محمد علي القري بن عيد:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد؛

فإن ما عبر به فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه على بحثي المقدم لهذه الدورة فقال: هذا ليس بيع دين بدين. فأنا لم أقل إنه بيع دين بدين، وإنما أشرت إلى أنه حوالة، فقد بينت أن هذا زائد يحيل مثل هذا المثال وليس فيها بيع دين بدين.

النقطة الثانية: هي ما أشار إليه الأخ الدكتور صالح المرزوقي فقال: إن شراء الشركة لأسهم بعض المساهمين إنما يكون من رأس مالهم. وهذا بطبيعة الحال أمر لا بأس به، لأنه إذا اشترت أسهمهم وأخذتهم من الشركة فكأنهم قد استردوا رأس مالهم تمامًا كما لو أنهم باعوا هذه الأسهم إلى طرف آخر في السوق، فحل محلهم في ملكية هذا الجزء الخاص بهم كرأس مال. كما أن الشركة إذا اشترت حصص بعض الشركاء، فإنما تستخدم حصص الشركاء الباقين في الشركة لشراء حصص ما خرج منها، فليس استخدام رأس مالهم لشراء حصصه.

النقطة الثالثة: هي ما يتعلق بهذا الموضوع بشكل عام، فقد ظهر في المناقشات اتساع هذا الموضوع وكثرة التعقيب فيه وتعدد صور بيع الدين بالدين وانتشار العمل بها أحيانًا باسم بيع الدين وبيع الدين بالدين، وما إلى ذلك، وأحيانًا بأسماء كثيرة تواطؤها عناوين ربما لا تكشف حقيقتها، ومن ذلك عقود التوريد فإن فيها انشغال ذمتين إحداهما بالثمن والأخرى بسلعة أو منفعة موصوفة في الذمة، وهذه منتشرة وكثيرة جدًّا، لأنه لا تستغني عنها شركة أو الاقتصاد بشكل عام.

ولذلك فإني أثني على ما اقترحه بعض الإخوة وبخاصة فضيلة الشيخ ابن بيه بأن هذا الموضوع يحتاج إلى مزيد بحث ونظر، ولعل من المناسب تشكيل لجنة تعنى به في هذا المجمع حتى يتوصل إلى القرار المناسب فيه. وشكرًا لكم.

ص: 211

الرئيس:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

هذا الموضوع يدور على عناصر ثلاثة:

الأول هو: بيع الدين بالدين. وتعلمون من خلال البحوث والمداولات التي جرت أن له صورًا متعددة. صورًا باعتبار الزمن، وصورًا باعتبار الصلح، وصورًا باعتبار الاستقرار من عدمه، وصورًا باعتبار مقاصة، وقد أوصلها بعض المالكية إلى ثمان وأربعين صورة.

ولهذا فإن صور بيع الدين بالدين فيها من التداخل والتشعب الشيء الذي لا يخفى.

الأمر الثاني: ما يتعلق بالمستجدات التي لها ارتباط ببيع الدين بالدين، وتعلمون أنه قد صدر من هذا المجلس ثلاثة قرارات، الأول في مسألة الحطيطة (ضع وتعجل) وهو الجواز. والثاني في مسألة حسم أن خصم الكمبيالة، وهو التحريم على ما صدر في القرار. والثالث في بيع السندات وهو تحريم ذلك.

وهناك بعض المستجدات التي لم يسبق صدور قرارات فيها وقد جرى البحث فيها في هذه الدورة.

الأمر الثالث: البدائل التي يمكن أن تحل محل بعض هذه الصور المستجدة التي فيها ربا أو التي هي ربا.

ومن خلال العرض الذي سمعناه والمناقشات والمداولات التي حصلت فإنه لم يظهر لي أن هناك بديلاً حصل اتفاق الأصوات عليه، ولكن حصل نقاش موسع مبارك فيه خير كثير، وأحب أن أحيطكم علمًا أن هذا الموضوع عرض على المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي في أول هذا الشهر، وفيه عدد من المشاركين هنا ورؤي تأجيله بتأليف لجنة مني ومن الشيخ عبد الله البسام والشيخ القري والشيخ وهبة والشيخ محيي الدين القرة داغي حتى تعد تصورًا متكاملاً لهذا الموضوع بعناصره الثلاثة.

ولهذا فقد ترون مناسبًا أن تتألف لجنة الآن للصياغة وأن في هذا التوجه إلى ما ذكره الشيخ ابن بيه والقري بن عيد أقترح أن يكون يضاف إلى اللجنة التي في الرابطة في المجمع الفقهي أعضاء من هذا المجمع، الشيخ تقي العثماني، الشيخ المختار، الأستاذ الجناحي، الشيخ نزيه حماد. وعلى كل نحن الآن نؤلف لجنة من كل من الشيخ نزيه، والشيخ علي السالوس، والشيخ القري بن عيد، والأستاذ الجناحي، إضافة إلى العارض والمقرر.

وبهذا ترفع الجلسة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

ص: 212

القرار

بسم الله الرحمن الرحيم

قرار رقم: 92 (4 / 11)

بشأن

بيع الدين وسندات القرض وبدائلها الشرعية

في مجال القطاع العام والخاص

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه وسلم.

أما بعد:

فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الحادي عشر بالمنامة في دولة البحرين، من 25 – 30 رجب 1419 هـ (14 – 19 نوفمبر 1998) .

بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع (بيع الدين وسندات القرض وبدائلها الشرعية في مجال القطاع العام والخاص) ، وفي ضوء المناقشات التي وجهت الأنظار إلى أن هذا الموضوع من المواضيع المهمة المطروحة في ساحة المعاملات المالية المعاصرة.

قرر ما يلي:

أولاً: أنه لا يجوز بيع الدين المؤجل من غير المدين بنقد معجل من جنسه أو من غير جنسه لإفضائه إلى الربا، كما لا يجوز بيعه بنقد مؤجل من جنسه أو من غير جنسه لأنه من بيع الكالئ بالكالئ المنهي عنه شرعًا. ولا فرق في ذلك بين كون الدين ناشئًا عن قرض أو بيع آجل.

ثانيًا: التأكيد على قرار المجمع رقم 60 / 11 / 6 بشأن السندات في دورة مؤتمره السادس بالمملكة العربية السعودية بتاريخ 17 – 23 شعبان 1410هـ الموافقة 14 – 20 مارس 1990م. وعلى الفقرة (ثالثًا) من قرار المجمع رقم 64 / 2 / 7 بشأن حسم (خصم) الأوراق التجارية، في دورة مؤتمره السابع بالمملكة العربية السعودية بتاريخ 7 – 12 ذي القعدة 1412هـ الموافق 9 – 14 مايو 1992م.

ثالثًا: استعرض المجمع صورًا أخرى لبيع الدين ورأى تأجيل البت فيها لمزيد من البحث، والطلب من الأمانة العامة تشكيل لجنة لدراسة هذه الصور، واقتراح البدائل المشروعة لبيع الدين ليعرض الموضوع ثانية على المجمع في دورة لاحقة.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ص: 213