المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌العمل الفقهيعند الإباضيةإعدادناصر بن سليمان بن سعيد السابعي - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ١١

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الحادي عشر

- ‌بيع الدين والأوراق الماليةوبدائلها الشرعيةإعدادالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌أحكام التصرف في الديوندراسة فقهية مقارنةإعداد الدكتورعلي محيي الدين القره داغي

- ‌بيع الدينأحكامه – تطبيقاته المعاصرةإعدادأ. د نزيه كمال حماد

- ‌بيع الدينإعداد الدكتورعبد اللطيف محمود آل محمود

- ‌بيع الدين وسندات القرضوبدائلها الشرعيةفي مجال القطاع العام والخاصإعداد الدكتورمحمد علي القري بن عيد

- ‌بيع الدين وسندات القرضوبدائلها الشرعية في مجال القطاع العام والخاصإعدادالدكتور سامي حسن حمود

- ‌المضاربات في العملةوالوسائل المشروعة لتجنب أضرارها الاقتصاديةإعداد الدكتورأحمد محيي الدين أحمد

- ‌المضاربات على العملةماهيتها وآثارها وسبل مواجهتهامع تعقيب من منظور إسلاميإعداد الدكتورشوقي أحمد دنيا

- ‌عقود الصيانةوتكييفها الشرعيإعدادالشيخ محمد المختار السلامي

- ‌عقود الصيانةوتكييفها الشرعيإعدادالدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌عقود الصيانة وتكييفها الشرعيعقد الصيانةإعدادآية الله محمد على التسخيري – مرتضى الترابي

- ‌عقود الصيانةإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌عقود الصيانة وتكييفها الشرعيإعدادالدكتور محمد أنس الزرقاء

- ‌ضوابط الفتوىفي ضوء الكتاب والسنةومنهج السلف الصالحإعداد الدكتورعبد الوهاب بن لطف الديليمي

- ‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعداد الدكتوروهبة مصطفى الزحيلي

- ‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعداد الدكتورعبد الله الشيخ المحفوظ بن بيه

- ‌العمل الفقهيعند الإباضيةإعدادناصر بن سليمان بن سعيد السابعي

- ‌الإسلامفي مواجهة الحداثة الشاملةإعدادالدكتور ناصر الدين الأسد

- ‌مجمع الفقه الإسلامي الدوليووحدة الأمة الإسلاميةإعدادمحمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌الوحدة الإسلاميةمنهجية المقارنة بين المذاهب الفقهيةإعدادالدكتور عبد الستار أبو غدة

- ‌الوحدة الإسلاميةمعالمها وأعلامهاإعدادالأستاذ محمد واعظ زادة الخراساني

- ‌الوحدة الإسلامية{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}إعدادالشيخ عدنان عبد الله القطان

- ‌الوحدة الإسلاميةأدب الحوار وأخلاقيات البحثإعدادالدكتور سعيد بن عبد الله بن محمد العبري

- ‌‌‌الإسلام في مواجهة العلمنةإعدادالدكتور عمر عبد الله كامل

- ‌الإسلام في مواجهة العلمنةإعدادالدكتور عمر عبد الله كامل

- ‌الإسلام في مواجهة العلمنةموقف الإسلام من مسألة الحكم والسيادةإعدادآية الله الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الديمقراطية والعلمانيةوحقوق الإنسانالمرجعية الغربية والمرجعية الإسلاميةإعدادالأستاذ إبراهيم بشير الغويل

الفصل: ‌العمل الفقهيعند الإباضيةإعدادناصر بن سليمان بن سعيد السابعي

‌العمل الفقهي

عند الإباضية

إعداد

ناصر بن سليمان بن سعيد السابعي

مقدم إلى مجمع الفقه الإسلامي

المنعقد في دورته الحادية عشرة بدولة البحرين

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

أحمده تعالى وأستعينه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، هادي الأمم من الظلمات إلى النور، وعلى آله وصحابته ومن سار على الصراط المستقيم.

أما بعد:

فلا تخفى أهمية دراسة العلوم الشرعية في سبيل إحياء البشرية، وبث روح الحياة في أفرادها.

ومن أجل هذه العلوم وأنفعها في تقويم السلوك البشري علم الفقه، الذي هو ثمرة لجهود مضنية بذلها علماؤنا وأسلافنا العظماء طيلة القرون السالفة.

وفي هذا البحث المختصر دارسة للجانب التطبيقي من الفقه الإسلامي في ضوء المذهب الإباضي، ومحاولة لبيان الجوانب المتعلقة بموضوع العمل الفقهي المتمثلة في المباحث التالية:

المبحث الأول: تاريخ العمل الفقهي، ويشمل أمثلة مما جرى به العمل في فترات التاريخ الإباضي بجناحيه المشرقي والمغربي.

المبحث الثاني: يشمل خصائص العمل الفقهي وضوابطه.

المبحث الثالث: سبل الاستفادة من العمل الفقهي في التطبيقات المعاصرة.

والله ولي التوفيق، وهو الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 610

المبحث الأول

تاريخ العمل الفقهي عند الإباضية

نريد بالعمل الفقهي ما جرى عليه العمل في الفتوى عند علماء مذهب معين أو بلد معين في مسألة ما أو مسائل، سواء كانت تلك الفتوى مصدر ذلك العمل أو بنيت الفتوى على مصلحة بقائه أو عدم مصلحة إلغائه.

وخير مثال على ذلك ما عرف عند المالكية بعمل أهل المدينة إذ نقل عن الإمام مالك بن أنس القول بأنه حجة على غيرهم (1) .

وبصرف النظر عن مدى صحة هذه الرؤية فإن مفادها إقرار هذا النظام قديما في استمداد عدد من الأحكام الشرعية، وذلك فيما ورد عن الإمام مالك من نحو قوله: "الأمر عندنا

" (2) ، وقوله: "وذلك الأمر عندنا " (3) .

وقد كان للعمل الفقهي عند الإباضية حظ كبير من العناية منذ وقت مبكر، ربما في فترة متقدمة على الإمام مالك، وهذا جلي فيما وجد من نصوص علماء الإباضية والأوائل من اعتبار العمل الفقهي وما جرى مجراه أحد الأسس التي تتحكم في الفتوى.

من ذلك قول الإمام أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي (ت 145 هـ) خليفة الإمام أبى الشعثاء جابر بن زيد الأزدي (ت 93 هـ) في قيادة الحركة الإباضية، في رسالته إلى الإمام أبي الخطاب عبد الأعلى ابن السمح المعافري الذي بويع عام 140 هـ واستشهد سنة 144 هـ.

(1) الموسوعة الفقهية: 30 / 333.

(2)

الموطأ، ص 25.

(3)

الموطأ ص 50.

ص: 611

"وأما ما ذكرتم من أطفال في حجر المسلم وهو خليفتهم أو غير خليفة، أترى له أن يزكي عنهم؟ فأصحابنا يأمرون أن يزكي عنهم وجابر بن زيد وجميع فقهائنا على ذلك "(1) .

وقوله فيما رواه عنه تلميذه الإمام الربيع بن حبيب (ت بين 175 و 180 هـ) بعد رواية حديث المنديل الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يمسح به بعد الوضوء: "المعمول به عندنا ألا يمسح أعضاءه بعد الوضوء، وهو استحباب من أهل العلم وترغيب منهم في نيل الثواب ما دام الماء على أعضائه "(2) .

ومن نصوص علماء الإباضية القدماء في ذلك قول أبي غانم بشر بن غانم الخراساني (توفي حوالي سنة 220 هـ) : "سألت الربيع: أيسجد الرجل ويداه في ثوبه ولا يخرجها؟ قال: ليفض بيده إلى الأرض أحب إلي، قال أبو المؤرج وعبد الله بن عبد العزيز: قد جاء في ذلك أثر من الفقهاء، وقد رأينا الأخيار من أصحابنا يفعلون ذلك ويروونه عند فقهائهم، فلا بأس بذلك "(3) .

المشرق الإباضي:

تمضي المؤلفات الإباضية المشرقية في ذكر الأمور العملية الفقهية التي جرى العمل بها عند العلماء المذهب، حتى يأتي دور الإمام أبي محمد عبد الله بن محمد بن بركة البهلوي العماني (ت 362 هـ) ، الذي ألف عددا من الكتب، من بينها (الجامع) و (التعارف) .

أما (الجامع) فقد ذكر فيه عددا من الأمور التي تدخل ضمن نطاق العمل الفقهي، كقوله في المرأة يمتد بها الدم فيتعدى مدتها المعتادة، ثم تنتظر يوما أو يومين ثم تكون في حكم المستحاضة إن استمر بها الدم:"والذي عليه العمل من أصحابنا إيجاب بدل اليوم واليومين اللذين تركت فيهما الصلاة إلا أن ينقطع الدم فلا يوجبون عليها إعادتهما "(4)، وقوله:"والطلاق يقع عند أكثر أصحابنا وعليه العمل منهم اليوم بالإفصاح به والكناية عنه أيضا "(5) .

وأما كتاب (التعارف) فقد كان قفزة جديدة في مجال العمل الفقهي، إذ برزت فيه العناية بالعرف والعادة الجارية، حيث صار سياجا يضبط جملة من المسائل الفقهية لا سيما ما كانت مجالاتها العلاقات الاجتماعية.

(1) رسالة أبي عبيدة في الزكاة، ص 24.

(2)

الجامع الصحيح حديث رقم 95.

(3)

المدونة الصغرى، 1 / 68.

(4)

جامع ابن بركة: 2 / 213.

(5)

جامع ابن بركة: 2 / 167.

ص: 612

وقد أصبح كتاب التعارف مادة جيدة – في بابه – لعدد من المؤلفات التالية، مثل كتاب (المصنف)(1) للشيخ أحمد بن عبد الله الكندي (ت 557 هـ) ، وكتاب (منهج الطالبين وبلاغ الراغبين)(2) للشيخ خميس بن سعيد الشقصي) من علماء القرن الحادي عشر الهجري) ، وكتاب (جواهر الآثار)(3) للشيخ محمد بن عبد الله بن عبيدان (عاش في أواخر القرن الحادي عشر وأوائل القرن الثاني عشر الهجري) .

هذا، وما لبث أن جاء أبو الحسن علي بن محمد البسيوي (توفي في الربع الأخير من القرن الرابع الهجري) تلميذ ابن بركة فألف كتابه المسمى بـ (مختصر البسيوي) ، الذي كان طرحا جديدا للفقه بشتى أبوابه، إذ كان غاية في الاختصار الذي هو بمنزلة القواعد المبسطة، ونحوه كتاب (مختصر الخصال) لأبي إسحاق إبراهيم بن قيس الحضرمي (توفي في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري) ، الذي كان مثالا فريدا في تأليفه وحسن عرضه، غير أنه رغم ما فيه من هذه الميزة على مختصر البسيوي – وربما لبعد مؤلفه عن عمان – فإن الأخير صار المرجع في الفتوى في المشرق الإباضي لقرون عديدة، يقول الشيخ صالح بن وضاح المنحي (ت 875 هـ) :"حفظنا عن أشياخنا رحمهم الله أن مختصر الشيخ أبي الحسن البسيوي رحمه الله كله عليه العمل إلا ثلاث مسائل "(4) .

وذكر الشيخ محمد بن علي بن عبد الباقي أن شيخه ابن وضاح زاد مسألة رابعة، أخرجها مما جرى عليه العمل من مختصر البسيوي (5)

هذا، والظاهر أن العمل على الفتوى بما في مختصر البسيوي قد امتد إلى أبعد من هذه الفترة، فقد أخرج الشيخ صالح بن سعيد الزاملي (من علماء أوائل القرن الحادي عشر الهجري) المسائل الأربع من مختصر البسيوي من كونها معمولا بها، وذلك في جواب سؤال وجه إليه (6) .

ولا يعني هذا أن كل علماء المذهب الإباضي في المشرق درجوا على اعتماد مختصر البسيوي في استصدار الفتوى وإعطاء الحكم الشرعي فيما يجد من المسائل والنوازل، فقد وجدت مؤلفات عدة طيلة هذه الفترة وظهرت بين الحين والآخر كتب تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا ريب أنها في مسائل عديدة تخالف ما في المختصر وغيره.

على أن ظهور عدد من العلماء المجتهدين يحول دون اعتمادهم في الفتوى على مختصر البسيوي، وكان في ظهورهم السبب المباشر في تغير المنهج في اعتماد عمل معين، وكانوا عاملا فاعلا في حركة الفقه وتطوره، الأمر الذي نتج عنه الجدة في قضية العمل الفقهي، سواء بالموافقة والتأصيل أو بالمخالفة والتغيير، لا سيما إذا علم أن مشهور المذهب عدم جواز تقليد المجتهد غيره (7) .

ومن أبرز هؤلاء: الشيخ أبو نبهان جاعد بن خميس الخروصي (ت 1237 هـ) الملقب بالشيخ الرئيس، وابنه الشيخ ناصر بن جاعد (ت 1262هـ) ، والشيخ سعيد بن خلفان الخليلي (ت 1287 هـ) الملقب بالمحقق – وهو تلميذ للشيخ ناصر بن جاعد الخروصي – والشيخ نور الدين عبد الله بن حميد السالمي (ت 1332 هـ) ، والإمام محمد بن عبد الله الخليلي (ت 1373 هـ) تلميذ نور الدين وحفيد المحقق الخليلي.

(1) المصنف: 18 / 28.

(2)

منهج الطالبين: 13 / 141.

(3)

جواهر الآثار: 20 / 258.

(4)

إتحاف الأعيان: 1 / 230، والمسائل كما ذكرها ابن وضاح هي: الأولى: في الحيض، ذكر في المختصر أن أكثره خمسة عشر يوما، والعمل أن أكثره عشرة. الثانية: عطية الزوجين لبعضهما، ذكر في المختصر أنه إذا أعطى أحد الزوجين صاحبه عطية فردها عليه في الصحة أو في المرض جاز ذلك، والعمل أنه إذا رد عليه العطية في الصحة ثبت ذلك، وأما رده في المرض لا يثبت. الثالثة: هي التي قال فيها: إذا حلف الرجل على زوجته على شيء يمنعها منه مما يجوز منعها عنه فعصته فيه أن لا صداق لها، والعمل على أن لها الصداق؛ انظر إتحاف الأعيان: 1 / 230.

(5)

إتحاف الأعيان: 1 / 230، والمسألة الرابعة هي: فيمن علم ببيع شفعته بعد موت البائع هل له شفعة إذا طلبها، قال في المختصر: إنها تبطل بموت البائع والمشتري. قال الشيخ ابن وضاح،: وهي لا عمل عليها، والعمل أنها تفوت بموت المشتري أو الشفيع، فأما بموت البائع فلا تبطل الشفعة ولا تفوت إذ ماله سبب، وقد خرجت منه الأسباب لبيعه ماله وخروجه من يده؛ انظر: إتحاف الأعيان: 1 / 230.

(6)

إتحاف الأعيان: 1 / 231.

(7)

مختصر العدل والإنصاف، ص 47؛ طلعة الشمس: 2 / 290.

ص: 613

وفتاوى هؤلاء وجهودهم بيان صادق على المرتبة العلمية العليا التي بلغوها، وقد أنتجت هذه النهضة العلمية العملية ما يغذي مجال العمل الفقهي، إذ كان من ثمراتها الجهود الإصلاحية الكبرى التي ابتدأها المحقق الخليلي رحمه الله، وقد استفاد من واقعه العملي في تآليفه، من ذلك كتاب (إثابة الملهوف بالسيف المذكر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ، الذي تميز بأنه تمخض عن تجربة واقعية، فكان كتابه بحق دستورا في الفقه الجنائي، فهو من هذه الحيثية يعد عملا فقهيا واقعيا.

ومن أمثلة ذلك كتاب (جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام) للإمام السالمي، الذي صاغه بأسلوبه البارع نظما رائقًا حتى غدا أنشودة المتعلمين في عمان من بعده، وصار مرجعا للعالم والمبتدئ والعامي في استقاء الأحكام الشرعية.

المغرب الإباضي:

أما في المغرب الإباضي، فمن أقدم ما يخدم مجال العمل الفقهي كتاب (ديوان الأشياخ) أو (ديوان الغار) أو (ديوان العزابة) الذي ألف في رأس القرن الرابع الهجري.

ومن أهم ميزاته أنه صنف من قبل سبعة من العلماء (1) ، مما أعطاه صبغة علمية واضحة وطبيعة مختلفة عن كثير من المؤلفات التي ظهرت في المذهب الإباضي، ذلك (أنه وضع لجمع الأحكام الشرعية للمسائل الحياتية مختصرة واضحة يرجع إليها المفتي والقاضي)(2) .

كما أن فكرة المختصرات التي كانت في الغالب يراد بها بيان المعمول به أو الإرشاد إليه، ظهرت في مؤلفات الشيخ أبي زكريا يحيى بن أبي الخير الجناوني (من علماء النصف الأول من القرن الخامس الهجري) ، مثل كتاب الصوم (وهو عادة يصدر بالقول المعمول به)(3) ، وكتاب (النكاح) الذي كان ينبه فيما فيه خلاف إلى المعمول به، كقوله:"وقيل إن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي، وليس عليه العمل عندنا، والقول الأول هو قول أصحابنا رحمهم الله "(4) . والقول الأول أن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج.

وأما ما لم يذكر فيه خلافا فظاهره أن مراده العمل به.

وتستمر المؤلفات الإباضية في المغرب العربي، حتى يأتي دور أبي يعقوب يوسف بن خلفون (من علماء القرن السادس الهجري) ، لتكون أجوبته رافدا لقضية العمل الفقهي في بعض المسائل، حيث يقول في آخر أجوبته مبينا سبب إجباته لسائله:"دعاني إلى ذلك ألا أكتم عليك شيئا من الاختلاف والتوقيف على مذهب أصحابنا، وما صح به العمل عندهم "(5)، بعد أن قال في مقدمة كتاب:"وقد كتبت إلينا – وفقنا الله وإياك لسبيل مرضاته – في مسائل تريد شرحها، وبيان اختلاف الفقهاء فيها من السف والخلف، وما اعتمد عليه أصحابنا من ذلك "(6) .

ثم يأتي دور أبي ساكن عامر بن علي الشماخي (ت 792 هـ) ، الذي نوه ببعض الأمور التي عليها العمل عند الإباضية في كتابه (الإيضاح)، الذي قال عنه بدر العلماء أحمد بن سعيد الشماخي (ت 928 هـ) :"وهو اعتماد أهل المغرب في وقتنا خصوصا نفوسة، وبعده ديوان أبي زكريا يحيى بن الخير، وبعدهما الديوان ديوان الأشياخ "(7) .

وجعله الشيخ أبو إسحاق إبراهيم أطفيش (مرجع الفتوى بلا منازع)(8) ، و (معتمد الأصحاب في الفتوى بالمغرب)(9) .

وفي أواخر القرن الثاني عشر وأوائل الثالث عشر الهجريين يؤلف الشيخ عبد العزيز ابن إبراهيم الثميني (ت 1223هـ) كتابه القيم (النيل وشفاء العليل) ، الذي هو اختصار لعدد جم من الكتب التي سبقته، واختصاره إلى حيث يشبه الرموز في كثير من الأحيان، فقد أراده (مختصرا في الفقه جامعا، مبينا لما به الفتوى من مشهور المذهب) كما قال ذلك بنفسه (10) .

وقد عد كتاب النيل – في المغرب الإباضي – بمنزلة مختصر الشيخ خليل في المذهب المالكي (11) . والحال نفسها فيما يتعلق بظهور مجتهدين في المغرب العربي الإباضي، إذ ظهر قطب الأئمة الشيخ محمد بن يوسف أطفيش (ت 1332 هـ) الذي يمثل أحد أركان النهضة العلمية الحديثة، فألف عددا جما من الكتب التي لا ريب أنها تعالج نوازل معيشة، فيكون دوره الريادي في قضية العمل على نحو ما مضى قوله من أثر أمثال هؤلاء المصلحين في هذه المسألة إما بالتأصيل أو بالتغيير.

(1) ألف هذا الديوان في جزيرة (جربة) في (غار مجماج)، ولذا يسمى بديوان الغار وبديوان الأشياخ نسبة لأشياخ العلم السبعة الذين ألفوه وهم:(1) أبو عمران موسى بن زكريا المزاتي الدمري، (2) أبو محمد عبد الله بن ماتوح اللمائي الهواري، (3) أبو عمرو التميلي الزواغي، (4) أبو يحيى زكريا بن جرناز النفوسي، (5) جابر بن سدرمام، (6) كباب بن مصلح المزاتي، (7) أبو مجبر توزين المزاتي؛ انظر لمزيد تفصيل: نظام العزابة عند الإباضية الوهبية في جربة. هذا والبعض يعد ديوان العزابة غير ديوان الأشياخ، مثل الشيخ أبي إسحاق أطفيش، حيث جعل في مقدمته لكتاب (الوضع) ديون العزابة مؤلفا من قبل عشرة من العلماء، بينما ألف ديون الأشياخ سبعة.

(2)

أشعة من الفقه، ص 186.

(3)

النكاح، المقدمة، ص 8؛ أشعة من الفقه، ص 192.

(4)

النكاح، ص 88.

(5)

أجوبة ابن خلفون، ص 96.

(6)

أجوبة ابن خلفون، ص 23.

(7)

كتاب السير: 2 / 199.

(8)

الوضع، مقدمة أبي إسحاق أطفيش، ص 3.

(9)

الوضع، مقدمة أبي إسحاق أطفيش، ص 9.

(10)

النيل، ص 4.

(11)

النيل، مقدمة عبد الرحمن بن عمر بكلي، ص 4.

ص: 614

المبحث الثاني

خصائص العمل الفقهي وضوابطه

لا مراء في أن العمل الفقهي أحد مظاهر الفقه الحضارية من حيث تناوله الجوانب العملية من حياة الإنسان،ولذلك فهو يمثل قانونا شرعيا ودستورا للبشرية كلها.

وقبل الدخول في الخصائص والضوابط، يحسن أن نتبين مدار العمل الفقهي وطبيعة علاقته بالأحكام الشرعية.

إن العمل الفقهي من حيث مصدره وثيق الصلة بالفتوى التي تكون حلا شرعيا لنازلة من النوازل، وذلك بأحد أمرين:

الأول: أن تصدر الفتوى حكما شرعيا يكون علاجا لنازلة معينة يجري العمل بالحكم على مثيلاتها بمقتضاها، فتصبح عملا فقهيا قد يمتد قرونا.

الثاني: أن تكون الفتوى جارية على مقتضى عرف أو عادة سبقتها مما لا يعارض دليلا شرعيا، سواء كانت المصلحة ترجح بقاءها أو لم يمكن أصلا سبب لتغيير ذلك العرف أو تلك العادة.

وقد ورد العمل الفقهي عند الإباضية باسم النوازل في صورتين:

الأولى: (نوازل نفوسة) :

وهو عنوان كتاب لم أقف على مؤلفه، وقد ذكر الإمام قطب الأئمة مرارا في شرح النيل، والعينات التي نقلها منه هي من قبيل العمل الفقهي، مثل قول الإمام القطب فيمن قابلتها اثنتان:"وإن ولدته حيا ومات هو وأمه فقالت إحداهما: مات قبلها، وقالت الأخرى: بعدها ففي نوازل نفوسة: القول قول من قالت بعدها "(1) .

وقوله: "وإن اعتدت بالغة بالأشهر – على قول – فحاضت قبل خروج العدة استأنفت بالحيض كذلك، وقيل: إذا حاضت من دخلت في العدة بالأشهر بنت على ما مضى من الأشهر بالأيام، وتلغي الحيض وتحسب بالأيام، قال في نوازل نفوسة: هو غير معمول به "(2) .

ويفهم من هذين الأمرين وغيرهما مما ذكره الإمام القطب أن سبيل هذا الكتاب سبيل غيره مما يدخل مجال العمل الفقهي، وأما نسبته إلى نفوسة فيحتمل أن مؤلفه من نفوسة موطن الإباضية بليبيا، أو مما هو مجال للعمل بنفوسة، غير أن الرابط بين النوازل وبين العمل يوضح العلاقة المتينة بينهما.

(1) شرح النيل: 5 / 355.

(2)

شرح النيل: 7 /426.

ص: 615

الثانية: (نوزل العزابة) :

وهي عبارة عن (دفتر النوازل التي حكم فيها العزابة)(1) .

غير أن مضمون هذا الدفتر يختلف عن نوازل نفوسة، إذا أورد نوازل العزابة وقائع بعينها وبيان حكم العزابة فيها. وعلاقتها بالعمل الفقهي من جهتين:

1-

بيان بعض الأحكام التي تعبر عن المعمول به، مثل جريان العمل عند العزابة في كتابة الصداق أن المرأة تصبح في عصمة نفسها إذا تغيب عنها زوجها أكثر من سنتين (2) .

2-

استناد الفتوى أو الحكم القضائي على عمل فقهي العمل به جار بمقتضى الحكم الشرعي الذي روعي فيه المصلحة المرسلة.

ويمكننا أن نستخلص – مع هذه الاعتبارات – سمات العمل الفقهي وضوابطه التي تتحكم فيما يلي:

أولا – خصائص العمل الفقهي:

يمتاز العمل الفقهي بأن أحكمه تتناول الجانب العملي التطبيقي من الفقه دون الأحكام النظرية، ويعرف ذلك من نص العلماء على ما يجري العمل به، كما سبق التمثيل عليه في المبحث السابق، إضافة إلى ما كان من التأليف مما قصد به بيان الأمور المعمول بها عند علماء المذهب أو عند عامة الناس ممن ينتمون إلى بلد أو إقليم معين.

أما التآليف التي تغذي جانب الفقه العملي فلا بد أن تتحق فيها إحدى صفتين: القصد من تأليفها إلى العمل بها، وجريان العمل بعد تأليفها.

وهي نوعان:

أ- التآليف العامة: التي تشير أحيانا إلى ما عليه العمل، وهي السمة الغالبة على سائر كتب المذهب الإباضي، ككتاب الإيضاح الذي صار مرجع الفتوى في المغرب في فترة من الفترات، وذلك من حيث اعتماده في استصدار الأحكام الفقهية العملية بالرجوع إما إلى ما نص المؤلف على كونه معمولا به أو إلى ما رجحه.

ب- التآليف المقصودة لهذا الغرض: وذلك مثل مختصر البسيوي الذي سبق الحديث عنه، والملاحظ على هذا الكتاب ومثله أنه لم يغفل بعض الجوانب العقدية، مما يفيد تأكيد الإباضية على الربط بين القول والعمل في الإيمان، لأن الفقه وإن كان مقصوده الأسمى جانب العمل إلا أن للعقيدة الراسخة دورا في توجيه الجوارح نحو العمل ودفعها إلى تنظير الفقه، ولهذا لم تستطع أغلب المؤلفات الإباضية طوال فتراتهم السابقة إغفال الجانب العقدي، بل على العكس نجد التركيز على بسط مقومات الإيمان وغرس معانيه بشكل واضح جدا، ووضوحه من خلال عدم إفراد مؤلفات خاصة بالعقيدة وأخرى بالفقه إلا نادرا، سواء ما يخدم منها العمل الفقهي بشكل مباشر أو عن طريق البيان.

(1) نظام العزابة، ص 275.

(2)

نظام العزابة، ص 276.

ص: 616

وهذا الربط ينسحب على المختصرات مثل مختصر الخصال، ما عدا كتاب (النكاح) وكتاب (الصوم) لأبي زكريا الجناوني، اللذين يفسر خلوهما من هذا المعنى بأنهما جردا لمجاليهما، فهما بمنزلة بابين من أبواب أي مختصر قصد به العمل الفقهي.

هذا ولا يمنع من المصير إلى كون مثل هذه المؤلفات مرادة للعمل الفقهي من ذكر بعضها غير قول في بعض المسائل، أو اشتمالها على بعض المسائل الفقهية النظرية، لأن القضية الأولى عولجت بتصدير ما عليه العمل عند تعدد الآراء أو بالنص عليه، والثانية بكون الكتاب شاملا لكافة جوانب الفقه، نظرا إلى خصائص التشريع الشاملة لكل جوانب الحياة.

- هذا ويمكن تقسيم العمل الفقهي بالنظر إلى نوعية العاملين به إلى ما يلي:

أ- عمل العلماء:

وهو – لا ريب – يراد به ما تجري به الفتوى من قبل هؤلاء العلماء فيما يعالجون به نوازل حادثة أو تحدث بشكل متكرر، ويظهر الفرق بينه وبين الإجماع من خمسة أوجه.

الأول: أن الإجماع لا مخالف له في الدائرة التي ينحصر العمل فيها، وكذلك الأمر إن اتسعت الدائرة؛ بمعنى إن أريد بالإجماع إجماع الأمة الإسلامية فلا مخالف له إذن من الأمة، وإن أريد به إجماع أهل بلد معين فلا مخالف له من ذلك البلاد من أي عالم.

وأما العمل فنحوه من حيث شمول دائرته بحسب نسبته، غير أنه قد يوجد له مخالف ولم تجرِ الفتوى على مقتضى قول ذلك المخالف.

الثاني: أن الإجماع يشمل المسائل النظرية وغيرها، أما العمل الفقهي فيتوجه إلى القضايا التطبيقية ذات الدلالة الحيوية التي تعالج شرعا بنظر بالمفتي أو القاضي وفق العمل الفقهي.

الثالث: أن الإجماع يكون حجة بنفسه، أما العمل الفقهي فلا يستقل بالحجية.

الرابع: أن مستند الإجماع الدليل الشرعي، أما العمل الفقهي فقد يخالف الدليل أو الراجح.

ص: 617

الخامس: أن الإجماع لا يصح خرقه ولو طال العهد فحكمه سارٍ، أما العمل الفقهي فالعرف والعادة والمصلحة تتحكم فيه بشكل مباشر وقوي.

السادس: أن الإجماع يصدر عن إطباق مجتهدي عصر معين، أما العمل الفقهي فهو ما تجري به الفتوى من قبل العلماء، ولا يشترط أن يكونوا مجتهدين أو ما يكون عليه عمل الكافة مما لا يناقض دليلا شرعيا.

ب- عمل الكافة:

وهو نمط التعامل بين أفراد المجتمع مما يقتضي النظر الشرعي صدور الفتوى أو الحكم بإباحته وإلا لم يسغ بقاؤه أصلا.

ويمثله – في أحد جانبيه – في كتب فقهاء الإباضية ما يعرف بالدلالة أو التعارف الذي كان من أوائل من ألف فيه الإمام ابن بركة في كتابه (التعارف)(وهذا ما يتجلى أن الفتوى تجري على مقتضاه ما لم يخالف دليلا شرعيا) .

ويعني ما تجري به العادة بين الناس في المعاملات التي يتعارفون عليها في أمورهم الحيوية والاجتماعية، وقد أدخل فقهاء الإباضية هذه الأمور ضمن العمل الفقهي لتحاط بسياج الشرع وتضبط بضوابط الإيمان.

يدل على ذلك أن مسائل هذه الأعراف صارت أحكاما شرعية كقول الشيخ أحمد بن عبد الله الكندي:

"في الدلالة اختلاف بين الناس أجازها أكثر المسلمين، وأحسب أن بعضا يقول: لا يكون إلا على من يتولاه، والمعمول به أنها في مال الولي وغير الولي ممن يعرف منه ذلك "(1) .

ولنأخذ نصا للشيخ خميس بن سعيد الشقصي لزيادة البيان فيما يتناوله التعارف بين الناس، يقول:

"أجمع الناس على تمليك العبيد بالشراء، ممن يبيعهم بغير إقرارهم ولا صحة عبوديتهم، على أنهم قد أجمعوا: أن حكم بني آدم الحرية في الأصل، وكذلك ما يشترى من صغار العبيد بالشراء ممن يبيعهم بغير إقرارهم، فقد أجازوا التمليك عليهم، وقد علمنا أن لا يقين معنا على ذلك، ولكن قد جرى بهذا العرف بين الناس، ولا يكون في شيء مع أهل موضع، إلا حتى يكون الإجماع منهم على إباحة ذلك معهم، لأنه إنما يسمى بسنة البلد، والسنة لا تكون إلا مجتمعا عليها، وإذا كان فيها اختلاف فليس بسنة.

وإذا كانت السنة ثابتة معهم في مال الغائب واليتيم والمساجد فهو على ما أدركت عليه السنة، وإذا كان قد جرى معه أن التعارف لا يكون إلا في مال الحاضر العاقل البالغ فكذلك.

وإذا أراد أحد من أهل الأملاك منع شي قد أجمع عليه أهل البلد على إباحته فله ذلك لأن هذه سنة تراضٍ، فإذا لم يرضَ فقد خرج من حال الإجماع وصار مخصوصا بالكراهية " (2) .

أما الجانب الثاني فهو ما يكون شأنه الأحكام الفقهية التي اصطلح عليها أو على العمل بها.

وكلا الجانبين إما أن يكونا بنيا على فتوى أو حكم، أو بنيا عليهما كما تقدم ذكره.

وينقسم العمل الفقهي من حيث تناوله للمسائل إلى قسمين:

- العمل الفقهي الجزئي: وهو المسائل المتفردة التي ينص على جريان العمل بها.

- العمل الفقهي المتكامل: وهو مجموعة المسائل المعمول بها التي تتمثل في المؤلفات المرادة للعمل الفقهي، وقد سبق التمثيل عليها.

كما ينقسم العمل من حيث بيئته إلى:

أ- ما عليه العمل عند كافة علماء المذهب الإباضي بما فيهم أهل المشرق وأهل المغرب، وذلك كعدم الضم وعدم الرفع في الصلاة.

ب- ما عليه العمل عند أهل بلد أو إقليم، وقد ظهر ذلك في صور منها:

- عمل المغاربة: ولعل أجلى صورة لذلك ما يعرف عندهم بنظام العزابة، وهو مؤسسة اجتماعية دينية، يشرف عليها مجلس أعلى يسمى مجلس العزابة أو هيئة العزابة، هدفه الحفاظ على كيان المجتمع المسلم وتنظيمه وصلاح أفراده.

وصاحب فكرة تأسيسه أبو زكريا فضيل بن أبي مسور اليهراسني (توفي في العقد الرابع من القرن الخمس الهجري) ، وذلك إثر الوقائع التي أضعفت كيان المذهب الإباضي في المغرب، طرح أبو زكريا الفكرة سنة (408 هـ) وأوعز بتبنيها إلى تلميذه أبي عبد الله محمد بن بكر بن أبي بكر الفرسطائي النفوسي (ت 440 هـ) ، فعكف أبو عبد الله مدة أربعة أشهر ثم خرج بهذا النظام الذي سمي بداية بالسيرة المسورية البكرية، وقد استمر العمل عليه عند المغاربة طيلة القرون السابقة، وتداعى كيانه في بداية القرن الثالث عشر الهجري، ثم توقف في جربة ونفوسة، ولا يزال باقيا إلى الآن في وادي ميزاب في الجنوب الجزائري (3) .

(1) المصنف: 18 / 28.

(2)

منهج الطالبين: 13 / 141.

(3)

انظر التوسع: نظام العزابة، د. فرحات الجعبيري.

ص: 618

- عمل أهل الباطنة من عمان:

ذلك أن عادتهم أن الزجر (وهو السقي بالدوالي والقرب) يكون في الثلث الآخر من الليل، ويستعملون المواشي في ذلك، والذين يقومون بذلك هم العبيد.

وهذا العمل منهم منذ زمن قديم، إذ ورد أن ذلك كان في أيام الإمام غسان بن عبد الله الخروصي (ت 207 هـ) ، وكان جريان العمل على هذا الأمر باقيا إلى ما قبل فترة وجيزة من وقتنا الحاضر، وقد جاء عن هذا الإمام العادل قوله:"عدلنا إلا في عبيد الباطنة، فإنا لم نقدر على أن عدل فيهم "(1) .

يقول الإمام السالمي: "وكان من رأيه رحمه الله منع الاستخدام بعد العتمة مطلقا، وإلا فأهل الباطنة يريحون عبيدهم بالنهار مقدار ما يستعملونهم بالليل "(2) .

- عمل أهل وادي ميزاب بالجنوب الجزائري:

كما سبق من بقاء نظام العزابة، وما ذكر في نوازل العزابة من جعل طلاق المرأة بيدها بعد غياب زوجها أكثر من سنتين بناء على الشرط عند العقد، وكالذي يجري عليه العمل الآن من اعتبار اشتراط الزوجة في عقد نكاحها أن عصمة النكاح تصبح بيدها إن تزوج زوجها امرأة غيرها.

- عمل أهل نفوسة في (ليبيا) : وقد سبق التمثيل عليه من نوازل نفوسة.

- عمل أهل جربة:

كمثل ما تجري به الفتوى من أن الميت يجعل عليه ما يمنع التراب عنه (3) .

ثانيا – ضوابط العمل الفقهي:

لا تختلف ضوابط العمل الفقهي عن ضوابط الفتوى الشرعية باعتبار كل مسألة بعينها، والتي يمكن اختزالها فيما يلي:

الكتاب، السنة، الإجماع، القياس، الاستدلال (خاصة العرف والمصالح المرسلة والاستحسان) ، أما باعتبار أن العمل الفقهي يكون مجموع النظام الذي يرصد أعمال الإنسان في كل جوانب حياته العملية؛ فلا ريب أنه قد لا يتفق مع نظر كل مجتهد، إذ قد يظهر من يخالف عددا من المسائل التي قد تكون درج عليها عدد من الفقهاء وجرى العمل بها، وقد تقدم المثال على هذا فيما خولف به مختصر البسيوي من المسائل الأربع المذكورة.

على أن هذه المخالفة لا تعني التشكيك في كون هذه المصادر التشريعية مراعاة في ذلك العمل الفقهي، لأنها تدخل في باب أسباب اختلاف الفقهاء المعروفة، وعليه فإن ما وجد مما هذا سبيله ينحو هذا المنحى، وذلك كالذي وجد الشيخ نور الدين السالمي العمل عليه من كون الذي يقيم للصلاة هو إمام الصلاة، فأنكر على هذا الفعل إنكارا شديدا، خاصة لما وجد من يتعنت في قبول الحق الذي استدل عليه من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، واعتذر نور الدين للذين قالوا بهذا القول بأعذار عدة، إذ لم يريدوا بذلك مخالفة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

(1) شرح الجامع: 3 / 490.

(2)

شرح الجامع: 3 / 490.

(3)

شرح النيل: 2 / 658.

ص: 619

غير أن لكل من العرف والمصالح المرسلة والاستحسان بروزا في قضية العمل الفقهي.

- العرف:

يمثل العرف عند الإباضية أحد مصادر التشريع التبعية التي لا يستغنى عنها في ضبط كثير من الأحكام الشرعية، لا سيما التي لم ينص عليها نص ولا هي من الإجماع ولا مما يعرف حكمه بالقياس.

وقد أولاه فقهاء الإباضية عناية كبيرة، وما بوب له في كتبهم بالتعارف أو الدلالة شاهد على هذا الاهتمام، وقد عد النور السالمي مسائل التعارف مما يتفرع على قاعدة العادة محكمة (1)، إذ يعد ذلك من باب التيسير الذي يعد أحد خصائص التشريع الرباني مصداقا لقوله تعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، وهو بمنزلة ما أقره الرسول صلى الله عليه وسلم من العادات والأعراف التي وجد قومه عليها مما لا يتنافى مع روح الإسلام. ولذا نجد أن كثيرا مما هو معمول به مراعى فيه جانب الأعراف التي هي من هذا القبيل.

غير أن إدراج العرف ضمن المصادر التشريعية مرهون – عند الإباضية كما عند فقهاء المذاهب الأخرى – بألا يكون مما خالف نصا أو أصلا عاما، كما يتبين ذلك من النص الذي أوردناه سابقا عن الشيخ الشقصي.

- المصالح المرسلة:

إن اعتبار الإباضية المصالح المرسلة مصدرا تشريعيا تبعيا يوحي بأن لها دورا في التأثير على نوعية الفتوى الشرعية وفحواها، إذا توافقت الأحكام المبنية عليها مع مصالح الناس، بما يسعفهم على الانضباط مع أهداف الشريعة وغاياتها.

وقد بين الإمام السالمي أن للإباضية اهتماما بالمصالح المرسلة، وأن كثيرا من فروعهم مبني على هذا النوع من الاستدلال (2) .

وضرب لذلك مثالا: فتوى أبي المؤثر الصلت بن خميس الخروصي (ت 278 هـ) بحرق منازل القوم الذين دخلوا في طاعة القرامطة، وذلك لما حاربوا القرامطة في عمان لئلا يرجعوا يسكنونها، قال الإمام السالمي:"ولا مستند لأبي المؤثر في هذه المسألة إلا القياس المرسل، وهو النظر في صلاح الإسلام وأهله، حتى لا يكون للقرامطة ملجأ يلجؤون إليه "(3) .

(1) طلعة الشمس: 2 / 191.

(2)

طلعة الشمس: 2 / 185.

(3)

طلعة الشمس:: 2 / 145.

ص: 620

ثم قال: "وأنت إذا تأملت مذهب الأصحاب رحمهم الله تعالى وجدتهم يقبلون هذا النوع من المناسب ويعللون به لما دل عليه مجملا، أي وإن لم يدل دليل على اعتباره بعينه أو جنسه، فإن الأدلة الشرعية دالة على اعتبار المصالح المرسلة مطلقا "(1) .

- الاستحسان:

بين الشيخ السالمي أن الاستحسان أحد المصادر المعتبرة في الشرع فبعد أن ذكر الخلاف في قبوله، والخلاف في تعريفه، وذكر أمثلة مما ضربوه للاستحسان قال:"وبعض هذه المسائل موجودة في المذهب على هذا الحال الذي ذكروه، والبعض الآخر يقبله المذهب لوجود نظائره فيه "(2) .

وقال الشيخ خلفان بن جميل السيابي (ت 1393 هـ) : "وفي فتاوى المذهب ما يدل على الأخذ بالاستحسان عند كثير من علماء الأصحاب "(3) .

هذا، وإذا عدنا إلى الأمثلة التي ذكرناها سابقا استطعنا الربط بين العمل الفقهي وهذه المصادر التشريعية، فمثلا:

- ما جرى العمل به عند العزابة من أن امرأة تصبح في عصمة نفسها إذا تغيب عنها زوجها أكثر من سنتين، ابتنى العمل على هذا الحكم نظرا إلى الضرر الذي يلحق المرأة من غياب زوجها عنها هذه المدة الطويلة، فالمصلحة داعية إلى رفع الضرر عنها، وجعل الأمر بيدها، إن شاءت فسخت عقدة النكاح وإن شاءت أبقت عليه، فالمصلحة الشرعية هي الداعية إلى سن هذا العرف الفقهي.

- أما عدم الرفع والضم فهو مبني على الحديث الذي رواه الإمام الربيع مرفوعا: "كأني بقوم يأتون من بعدي يرفعون أيديهم في الصلاة كأنها أذناب خيل شمس "(4) .

وقد جرى العمل عند الإباضية على عدم الرفع والضم، استنادا إلى هذا الحديث، وإلى أخذ الإمام جابر بن زيد من عدد جم من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ ورد عنه قوله:

"أدركت سبعين بدريا فحويت ما عندهم إلا البحر "يعني ابن عباس، فهو بمنزلة العمل الفقهي، أو الإجماع العملي الذي استمر واستقر عليه العمل، وهذه المسألة أشبه بمسألة عمل أهل المدينة.

- أما نظام العزابة فإن معرفتنا بسبب تأسيسه يرجح أن جانب المصلحة اقتضت – من وجهة أنظار مؤسسيه – وجوده حفاظا على كيان الإباضية، إذ لم يتمكنوا في المغرب العربي من إقامة إمامة إسلامية تحكم بالقسط وتقسم بالعدل، لا سيما في ظل الدولة الجائرة التي كانت تحكم السيطرة على مناوئيها يومئذ، فهو كالبديل لنظام الدولة الإسلامي غير المقدور على تطبيقه، ولهذا ليس لنظام العزابة وجود عند إباضية عمان على مدى فترات تاريخهم، إذا استمر العمل على نصب الخلفاء الشرعيين، وإن النظام القائم على الحكم بشرع الله سبحانه وتعالى، متى ما سنحت الفرصة لذلك.

(1) طلعة الشمس: 2 / 143.

(2)

طلعة الشمس: 2 / 187

(3)

فصول الأصول، ص 355.

(4)

الجامع الصحيح حديث رقم (213) .

ص: 621

-وأما استخدام العبيد - في فترة سابقة – بعد صلاة العتمة فقد ورد النهي عنه فيما رواه الإمام الربيع من طريق جابر بن زيد قال: "سمعت أناسا من الصحابة يروون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن استعمال العبيد بعد صلاة العتمة "(1) .

وموضوع الشاهد أن الإمام غسان بن عبد الله الخروصي – حسبما سبق – كان يرى التشدد في مسألة استخدام العبيد بعد العتمة، فيحمل النهي في الحديث على هذا المحمل، فعدوله عن الأخذ بمقتضاه عدول عن الأخذ بالنص لمصلحة رجحت عدم العمل به، ولذا قال قولته: "عدلنا إلا في عبيد الباطنة

إلخ " (2) .

- وأما فتوى أبي المؤثر بتحريق بيوت القرامطة فقد عدها الإمام السالمي من قبيل المصلحة المرسلة كما سبق.

وقد عدها أبو الحواري محمد بن الحواري العماني (من علماء أواخر القرن الثالث الهجري) من قبيل القياس، إذ جعلها مقيسة على تحريق النبي صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار (3) .

- أما أبواب التعارف (الدلالة) فمحورها – فيما لم يرد في حكمها نص ولا هو مما أجمع عليه ولا توصل إليه بقياس ولا استدلال – الرضا وسخاء النفس وجريان العادة، وفيما مضى بعض الأمثلة على ذلك، ومما ورد في المصنف: "في الدلالة اختلاف بين الناس

والمعمول به أنها في مال الولي وغير الولي ممن يعرف منه ذلك، وذلك إذا كان يدل عليه بشيء يسر به المدلول عليه ويكره مما لو فعله بحضرته لم يستحِ منه بذلك " (4) .

"وقيل الإدلال على كل من اطمأن قلبك أن الذي تفعله في ماله تطيب به نفسك، وإن كان يهوديا ومنافقا، لأن الحلال أصله الرضا وطيبة النفس مع موافقة الحق فيما دخل فيه، وإذا كنت لا تستحي من صاحبك إذا أدركك وأنت تأكل من ماله لم يدخلك حياء "(5) .

"وإذا أراد أحد من أهل الأملاك منع شيء قد أجمع عليه أهل البلد على إباحته فله ذلك، لأن هذه سنة تراض فإذا لم يرض فقد خرج من حال الإجماع وصار مخصوصا بالكراهية "(6) .

وهكذا يمكن أن توجه كل المسائل الفقهية المتعلقة بهذا المجال.

* * *

(1) الجامع الصحيح، حديث رقم (687) .

(2)

لا يخفى أن العدل حاصل من حيث إن الأسياد يريحون عبيدهم بالنهار مقدار عملهم بالليل، فإذا حصل لهم الرفق بالاستراحة حصل مقصود الشارع كما يقول الإمام السالمي. أما على قول الإمام غسان، فالعدول عن الأخذ بظاهر الحديث إن حمل النهي فيه إلى التحريم كما هو رأي الإمام، فليس الأمر راجعا فيه إلى هذا المعنى، بل إلى أن الليل ليس وقت عمل بل هو وقت استراحة وعبادة؛ انظر: شرح الجامع الصحيح: 3 / 491.

(3)

السير والجوابات: 2 / 360.

(4)

المصنف: 13 / 28.

(5)

المصنف: 18 / 28 – 29.

(6)

منهج الطالبين: 13 / 141.

ص: 622

المبحث الثالث

سبل الاستفادة من العمل الفقهي

في التطبيقات المعاصرة

للعمل الفقهي مجالات متنوعة متوزعة على أبواب الفقه المعروفة، سواء منها العبادات والمعاملات، وفقه الأحوال الشخصية والتشريعات القضائية والدستورية.

وقد اتضح مما سبق من الأمثلة المذكورة شمول العمل الفقهي لجميع هذه الأبواب. كما تبين من اتخاذ بعض كتب الفقه رافدًا للفتوى وإصدار الحكم الشرعي صلاحية هذا النوع من التوجه نحو التعامل مع مستجدات المسائل الشرعية، ولعل من القضايا المهمة التي عالجها العمل الفقهي خلو الساحة من مجتهدين قادرين على استنباط الأحكام في كل جزئية من مسائل الفقه في زمن من الأزمنة.

وهذا ما يبدو أنه تم الإطباق على موافقته لروح الشريعة، من خلال جريان الفقهاء والعلماء على الأخذ به طوال قرون مضت.

ولا يؤثر العمل الفقهي – من حيث وجوده – على حركة نمو الفقه وبروز مجتهدين في الأمة، فقد تقدم أن مختصر البسيوي مثلا أخرج منه بعض العلماء مسائل لم يكن الاعتماد على الأخذ به، لأن العمل الفقهي بمنزلة الحل الوقتي لأزمة فقدان المجتهدين في وقت تشمل فيه حركة الفقه ويقل فيه الفقهاء والعلماء.

على أن الوصول إلى مرتبة الاجتهاد التي يتسنى بها إعطاء الحكم لكل حادثة أمر محدود ولا سيما في العصور المتأخرة.

ويمكن اعتبار العمل الفقهي إذا استحال إلى ما يشبه النص الشرعي الذي لا يحل استبدال شيء به فذاك من سلبياته بهذا الاعتبار.

كما أن نظرتنا إلى العمل الفقهي بأنه آخر نتاج الفقه مما يؤدي إلى القول بإغلاق باب الاجتهاد – كما يحدث في عصور الجمود والركود – سلبية أخرى تؤخذ على هذا العمل، لا سيما إذا استمر العمل به مع تغير الحكم في مسألة ما، أو اقتضت المصلحة العدول عن شيء من أحكامه إلى حكم آخر.

ص: 623

إذا فهمنا هذه القضايا فيمكننا تحرير مجالات الإفادة من العمل الفقهي فيما يلي:

أولًا – تقنين الفقه:

وهو أن تصاغ الأحكام الفقهية على شكل مواد قانونية، تعالج كل قضية من القضايا الحيوية في المجال الذي توضع له.

وليس تقنين الفقه هذا إلا شكلا من أشكال العمل الفقهي تميزه الصورة القانونية التي يطرح بها، والطريقة القانونية التي تنفذ بها أحكامه، لا سيما إذا كان الفقه بهذا الطرح يمنع من الزلل الذي قد يقع فيه قليلو الدراية بالأحكام الشرعية.

ولذا من الممكن في إطار إدراج العمل الفقهي ضمن عملية التقنين هذه أن يعتمد: إما على الأمور المعمول بها في العصر الذي تتم به هذه العملية، أو على بعض الأعمال التي يجري التعديل فيها بما يتفق مع مقتضيات كل عصر ومكان.

ولو نظرنا إلى كل من مختصر البسيوي ومختصر الخصال لوجدناهما قانونا فقهيا مميزا سبق القانون الدولي الحاضر في سائر مجالات الفقه، وخاصة كتاب مختصر الخصال، فعباراته أشبه بالمواد القانونية، ولنأخذ عليه مثالا:

"باب ذكر بيان ما يستحق الفقير والمسكين من الصدقة

قال أبو إسحاق: والذي يستحق به الفقير والمسكين من الصدقة ثلاث خصال، أحدها: أن يكون مسلما، والثاني: أن يكون حرا، والثالث: أن لا يكون في ملكه قيمة نصاب من المال يكون به غنيا، وقيل خمسين درهما.

باب ذكر بيان ما يستحق به العامل من الصدقة.

قال أبو إسحاق: والذي يستحق به العامل من الصدقة خمس خصال: أحدها: أن يكون رجلا بالغا، الثاني: أن يكون عاقلا، الثالث: أن يكون مسلما، الرابع: أن يكون عاملا لإمام عادل، الخامس: أن يكون حرا. .

باب بيان ما يستحق به المؤلفة من الصدقات

قال أبو إسحاق: والذي يستحق به المؤلفة من الصدقات ثلاث خصال، أحدها: أن يكون رجلا حرا بالغا عاقلا، الثاني: أن يكون مسلما، الثالث: أن يكون الإمام محتاجًا إليه في الوقت " (1)

هذا، وينبغي أن تراعي في مسألة التقنين جملة أمور:

1-

أن يكون التقنين وفق الأدلة الشرعية المستمدة من مصادر التشريع الإسلامي، فلا يجوز أن يكون مجال استمدادها من غير هذه المصادر، وأن يكون لكل من العرف والمصلحة المرسلة حظ من النظر كبير في بيان الفتوى وإصدار الحكم الشرعي.

2-

أن يكون التقنين أو الاختيار موكولًا إلى فقهاء وعلماء يميزون الشرعية، ويدركون كيفية الترجيح عند تعارض الأدلة أو عند اصطدام الأدلة بالواقع ويفهمون مقاصد الشريعة المعروفة التي يتم إصدار الحكم الشرعي أو النازلة المعينة في ضوئها.

وهذا ما نشهده في العمل الفقهي الذي استغرقنا تاريخه عند الإباضية، إذا صدر من علماء أجلاء، وكتاب (ديوان الأشياخ) أو (ديوان العزابة) خير مثال لهذا المعنى.

3-

بروز دور مجتهد العصر أو المكان الذي يراد صياغة الفقه فيه، والرجوع إليه في المسائل التي يصل اجتهاده فيها إلى حكم معين نهائي، كما هو الحال في سائر الأعمال الفقهية.

وإغفال هذه الأمور الثلاثة من أكبر المآخذ على كثير من القوانين التي تنظم الأحكام الفقهية، إذ المسألة مسألة شرع وبيان مراد الله فيما يخص تلك المسائل.

4-

ينبغي أن يكون التقنين شاملا لكل مناحي الحياة التي تحكمها سائر الأبواب الفقهية، من عبادات ومعاملات وحدود ودعاوى وغير ذلك، لأن الدين كل لا يتجزأ، وأن تدخل النوازل الحادثة ضمن هذا التقنين من حيث العمل والاجتهاد إلى معرفة الحكم الشرعي منها، وإدراجه ضمن القانون المراد طرحه.

(1) مختصر الخصال، ص 111.

ص: 624

5-

أن يكون تنفذ القانون الفقهي – في المجالات القضائية – موكولا إلى قضاة شرعيين عارفين بأحكام الشريعة، ليتسنى تنزيل الحكم على الحادثة، بعد المعرفة التامة بتوجه الحكم إليها.

6-

أن تتبنى فكرة التقنين جهة شرعية مسؤولة عن تنفيذ الأحكام الشرعية.

7-

أن يقدم القانون الفقهي بشكل يتناسب مع لغة الطرح العصرية.

8-

أن لا تكون عبارته وألفاظه ذات دلالة محتملة بحيث تختلف الأنظار في تفسير نصه، مما يؤدي إلى اختلاف الحكم من شخص لآخر في مسألة واحدة.

ثانيا - تلقين الفقه:

يمكن استغلال العمل الفقهي في النواحي التعليمية والمجالات الأكاديمية وذلك فيما يلي:

1-

إذا كان المتلقي النشء المؤمن، الذي يفترض أن يكون بمنأى عن الخلافات الفقهية التي لا يستفيد منها في الأمور العملية، وأن ينفصل في باكورة حياته عن الأدلة الشرعية التي استفيد منها أحكام العمل الفقهي الذي يلقنه، إذ المراد العمل بالحكم لا الاستدلال على الحكم.

ويتم ذلك باختيار أحد المختصرات التي يسهل عليها هضمها من حيث التلقي والاستيعاب، ولا مانع حينئذ من إحداث عمل فقهي مناسب للمستوى المطلوب.

وقد ظل ديوان العزابة فترة من الفترات مساقا دراسيا للطلبة.

وقد تمثلت هذه الفكرة عند الإباضية فيما ألفه الإمام نور الدين السالمي – مما وسمه بـ (تلقين الصبيان ما يلزم الإنسان) الذي صار العمل بتلقينه للنشء جاريا منذ تأليفه حتى العصر الحاضر، وقد أدى هذا العمل الفقهي المختصر دوره الريادي عند إباضية عمان.

2-

يمكن أن يصبح العمل الفقهي وسيلة ناجحة في تغطية جوانب النقص لدى المشتغلين بغير العلوم الشرعية، الذين ليس عندهم من الوقت ما يسعفهم لقراءة المطولات التي تتميز بتزاحم الأقوال وتكاثر الأدلة، وليس عندهم من الملكة الفقهية ما يمكنهم من الترجيح بين الأقوال، والذين لا يعنيهم من الفقه إلا الجانب التطبيقي الذي يحتاجون إليه فيما يؤدون به القدر الواجب عليهم من أحكام الدين العملية.

وإذا كانت كثير من مختصرات الفقه قصد باختصارها التيسير على طلبة العلم؛ فإن غيرهم أولى بهذا القصد، سواء الدارسون في هذه الميادين أو الممتهنون لها، ويمكن أن تعنى المؤسسات التعليمية بهذا الجانب، من خلال طرح مساقات تسهل على غير طلبة العلم الشرعي الأخذ بنصيب وافر مما يعنيهم من أمور دينهم، وهذا هو الملاحظ على كثير من دور التعليم لا سيما التي يتأخر فيها التخصص، حيث إن علاج هذه المسألة فيها يكون بشكل غير كثير الجدوى، حين يساوي عدد طلاب العلوم الشرعية بغيرهم في عدد الجرعات الفقهية ونوعية المادة الدراسية الشرعية.

3-

مما يمكن أن يستفاد من العمل الفقهي تقريب الفقه إلى المسلمين غير الناطقين باللغة العربية، لا سيما حديثي العهد بالإسلام، الذين لم يمارسوا شعائر الدين وتعاليمه ممارسة تمكنهم من استيعاب الأحكام إلا بطريقة التلقين.

ويتم إنجاز نحو هذا المشروع بترجمة هذا العمل الفقهي المعد لأمثال هؤلاء.

ثالثا – المجالات الدستورية:

يمكن أن يستفاد من العمل الفقهي بإيجاد صيغة إسلامية لكل التشريعات، سواء منها ما يتعلق بنظام الحكم أو التشريعات الجنائية أو غيرها، وللإباضية في هذين المجالين القدح المعلى والنصيب الأوفر من الأمثلة العملية الحية التي لازمت الحركة السياسية عند الإباضية، فلذا يمكن أن يستفاد من الأعمال الفقهية سواء منها المجموعة مثل كتاب (إغاثة الملهوف بالسيف المذكر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) للشيخ سعيد بن خلفان الخليلي، أو المتناثرة مما له علاقة بالفقه السياسي الإباضي من حيث شروط اختيار الخليفة وطرق ذلك مما تلح الحاجة إلى إلى بيانه وضبطه.

رابعا – المجالات الاجتماعية:

حيث يمكن أن يفادى من بعض مجالات العمل الفقهي المتعلقة بالجوانب الاجتماعية التنظيمية، من خلال استحداث أنظمة اجتماعية أشبه بالدساتير ذات الصبغة الشرعية، تعني بالجوانب الإصلاحية وتسد النقص الذي أفرزته المدنية الحديثة الممتزجة بالمادية الخاوية من روح الدين.

وقد مثل نظام العزابة هذه القضية خير تمثيل.

ناصر بن سليمان بن سعيد السابعي

ص: 625

قائمة المراجع:

1-

أجوبة ابن خلفون، أبو يعقوب يوسف بن خلفون المزاتي، تحقيق وتعليق د. عمرو خليفة النامي – بيروت، دار الفتح، ط 1، 1394 هـ – 1974 م.

2-

أشعة من الفقه الإسلامي (ج 3) الفقه والتشريع مدخلا وتاريخا، مهني بن عمر التوياجاني، ط 1 / 1417 هـ 1996 م.

3-

الإيضاح، الشيخ عامر بن علي الشماخي – سلطنة عمان، وزارة التراث القومي والثقافة، 1404هـ – 1984 م.

4-

التعارف، الشيخ عبد الله بن محمد بن بركة البهلولي – سلطنة عمان، وزارة التراث القومي والثقافة، 1984 م.

5-

الجامع الصحيح مسند الإمام الربيع بن حبيب الفراهيدي، ويليه الفهارس، إعداد سعود بن عبد الله الوهيبي، روي: مكتبة مسقط، ط 1، 1415 هـ – 1984 م.

6-

الجامع، عبد الله بن محمد بن بركة البهولي – سلطنة عمان، وزارة التراث القومي والثقافة، تحيق عيسى يحيى الباروني.

7-

جواهر الآثار، الشيخ محمد بن عبد الله بن عبيدان – سلطنة عمان، وزارة التراث القومي والثقافة، 1406 هـ _ 1986 م.

8-

رسالة أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي للإمام أبي الخطاب المعافري – سلطنة عمان، وزارة التراث القومي والثقافة، 1982 م.

9-

السير، الشيخ أحمد بن سعيد الشماخي – سلطنة عمان، وزارة التراث القومي والثقافة، تحقيق الشيخ أحمد بن سعود السيابي، 1407 هـ 1987 م.

10-

السير والجوابات لعلماء وأئمة عمان، تحقيق د. سيدة إسماعيل كاشف – سلطنة عمان، وزارة التراث القومي والثقافة، 1406هـ – 1986 م.

11 – شرح الجامع الصحيح مسند الإمام الربيع، نور الدين عبد الله بن حميد السالمي، صححه وعلق عليه عز الدين التنوخي – سلطنة عمان: مكتبة مسقط.

12-

شرح النيل وشفاء العليل، الشيخ محمد بن يوسف أطفيش – جدة، مكتبة الإرشاد، ط 3، 1405 هـ - 1985 م.

13-

الصوم، أبو زكريا يحيى بن أبي الخير الجناوني – سلطنة عمان، مكتبة الضامري، 1411هـ – 1991 م.

14-

فصول الأصول، الشيخ خلفان بن جميل السيابي – سلطنة عمان، وزارة التراث القومي والثقافة، 1402 هـ – 1982 /.

15-

مختصر البسيوي، أبو الحسن علي بن محمد، تقديم الشيخ أحمد بن حمد الخليلي، 1406 هـ – 1986 م.

16-

مختصر الخصال، أبو إسحاق إبراهيم بن قيس الحضرمي – سلطنة عمان، وزارة التراث القومي والثقافة، 1404 هـ – 1984 م.

17-

مختصر العدل والإنصاف، الشيخ أحمد بن سعيد الشماخي – سلطنة عمان، وزارة التراث القومي والثقافة، 1404 هـ 1984 م.

18 – المصنف، أحمد بن عبد الله الكندي – سلطنة عمان، وزارة التراث القومي والثقافة – 1403 هـ –1983 م.

19 – منهج الطالبين وبلاغ الراغبين، الشيخ خميس بن سعيد الشقصي – سلطنة عمان، وزارة التراث القومي والثقافة، 1403 هـ – 1983 م.

20-

الموسوعة الفقهية، الكويت: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ط 1، 1412هـ – 1992 م.

21-

موطأ الإمام مالك بن أنس رواية يحيى بن يحيى الليثي، إعداد أحمد راتب عرموش، ط 10 – بيروت، دار النفائس، 1407 هـ – 1987 م.

22-

نظام العزابة عند الإباضة الوهبية في جربة، د. فرحات الجعبيري – تونس، 1975 م.

23-

النكاح، أبو زكريا يحيى بن أبي الخير الجناوني، تقديم الشيخ علي يحيى معمر، طرابلس، 1976 م.

24 – النيل وشفاء العليل، الشيخ عبد العزيز بن إبراهيم الثميني، تعليق بكلي عبد الرحمن عمر، ط 2، 1387 هـ - 1967 م.

25-

الوضع، أبو زكريا يحيى بن أبي الخير الجناوني، تعليق أبو إسحاق إبراهيم أطفيش – سلطنة عمان، مكتبة الاستقامة، ط 6.

ص: 626

سبل الاستفادة من النوازل

العرض – التعقيب والمناقشة

العرض

الرئيس:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد؛

ففي هذه الجلسة الصباحية المباركة النظر في موضوع: (سبل الاستفادة من النوازل والفتاوى والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرة) ، وقد وزع عليكم سبعة بحوث في وقت سابق، والعارض هو فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه، والمقرر هو فضيلة الشيخ وهبة الزحيلي.

الشيخ عبد الله بن بيه:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. وبعد؛

فإني أتقدم بين يدي هذا الموضوع بالشكر الجزيل للرئيس على ما أتاه الله من علم ومن خلتين هما الحلم والأناة، وهما خلتان يحبهما الله. وأشكر للأمانة العامة حلمها وأمانتها وجهدها المتواصل، وأشكر للإخوة في البحرين حسن الضيافة وكرم الوفادة.

ثم أقول:

فيا ربي عونا فالمعان مؤيد

وما لامرئ إن لم تعنه كفاء

هذه البحوث تشتمل على حوالي ثلاثمائة صفحة، وهي بحوث من آفاق مختلفة ومشارب شتى. ولهذا إني عندما أعرض هذه البحوث فإن العارض يكون بين تعارض دليلين، الدليل الأول هو دليل الوقت والدليل الثاني هو دليل غزارة المادة، وعند تعارض الدليلين قد يلجأ المرء إلى الترجيح وقد يلجأ إلى الجمع. وإني أحاول ما استطعت إلى ذلك سبيلا أن أجمع بين تعارض الوقت وغزارة المادة. فسأعرض وبسرعة دون أن أبخس أحدا سلعته أو أغمط أحدا حقه، سأعرض إلى هذه البحوث دون اعتراض ولا معارضة، وسأرتبها حسب الترتيب الذي أمامي في الورقة، إلا أن العارض سيكون آخر القوم، كما أن ساقي القوم آخرهم شربا. وهذه الطريقة التي أرجو أن تكون طريقة حسنة هي اختيار لبعض الفقرات من هذه البحوث، لكتابتها وتلخيصها، ولم يقدم أي باحث من الباحثين خلاصة بحثه وهو أمر يجب التنبيه عليه، وقد يفتخر العارض بأنه الوحيد الذي قدم خلاصة بحثه.

ص: 627

البحث الأول: هو بحث فضيلة الشيخ آية الله محمد علي التسخيري وعنوانه (العمل الحكومي ودوره في تحقيق مسؤوليات الدولة الإسلامية) . وفي هذا البحث نبهني فضيلته بأنه لا يوجد فتاوى عند الشيعة وإنما الذي عندهم هو عمل حكومي، معناه أن الفقيه يتصرف تصرفا ولائيا وليس تصرفا بالفتوى مع أني وجدته أثناء بحثه فرق بين الفتوى والحكم وهو تفريق يتفق تماما مع التفريق الذي عندنا عند القرافي وغيره.

بدأ بحثه بقوله:

للحكومة الإسلامية دور محوري في المسيرة الاجتماعية التي خطط لها الإسلام في إطار نظريته الاجتماعية العامة، وقد حدد الإسلام هذه المسؤوليات التي نجد أنها تجاوزت كثيرا ما كان متعارفا عليه في عصر انطلاقة الإسلام.

ثم فصل هذه المسؤوليات، وذكر أن واجبات الفقيه في عملية الاستنباط وواجباته في عملية القضاء وفض النزاعات، وفرق بينهما وبين واجبات الحاكم في مسألة إدارة دفة الحكم، وفي صفحة أخرى نجد أنه بين مسيرة بحثه وقال: وسيسير بحثنا على النمط التالي: الفصل الأول: وسنتحدث فيه بشكل مقدمي عن المصطلحات التي سنركز عليها كالحكم الحكومي والحكم الأولي والثانوي والعلاقة بين هذه الأقسام. والفصل الثاني: وسنركز فيه على مشروعية الحكم الحكومي متعرضين بالطبع إلى بعض تطبيقاته. والفصل الثالث: وسيتم البحث فيه عن مسؤوليات الحكومة الإسلامية والملاكات التي تحدد لها عملية التنفيذ لهذه المسؤليات. والفصل الرابع: وسنركز فيه على الإمكانات التشريعية التي يملكها الحاكم لتنفيذ مسؤولياته. والفصل الخامس: فتعرض فيه إلى الإمكانات الأخرى التي تساعده في ذلك.

وقد عرف الحكم بأنه الاعتبار الشرعي المتعلق بأفعال العباد تعلقا مباشرا أو غير مباشر. وهذا قريب من التعريف المعروف عندنا وهو أن الحكم ينقسم إلى حكم يتعلق بأفعال العباد

إلخ. . وبعد ذلك تعرض لما أسماه بالحكم الثانوي – ولعله رخصه – فقال: في حين أن الحكم الثانوي ثابت ما ثبتت الحالة الطارئة ولخصوص هذا الشخص الذي عرضت له. وهذا يشبه الرخصة إلى حد كبير، وذكر أدلة هي أدلة الرخصة المعروفة عندنا، وفرق بين الأحكام الولائية أو السلطانية، ومنها الأحكام القضائية وأدخلها في الأحكام الحكومية، وفصل هذه الأحكام تفصيلا بين أيديكم وفرق بين ما سماه بالأحكام الأولية والأحكام الولائية. وقد ألفت انتباهه قليلا على أن حديث ((رفع القلم عن ثلاثة)) ليس في البخاري على حد علمي ومعرفتي، أشار إليه في الهامش وأنه في البخاري لكنه في الترمذي وغيره. ذكر أن الأحكام الأولية هي أحكام كلية.

ص: 628

وعرض لمشروعية الحكم الحكومي وبين أصل ذلك من الكتاب، وفي السيرة النبوية وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر جملة من الأحاديث موجودة في الصحيحين، ثم فصل في الأفعال التي تصدر من النبي صلى الله عليه وسلم، والأفعال كما نسميها معكوسة في الجبلة والأفعال الطبيعية والتصرفات في الحياة، وذكر هذا التفصيل فيبحثه وهو بين أيديكم وهو تفصيل وضح ومعروف لديكم.

وفصل بعد ذلك معايير التمييز بين الأوامر الشرعية والأوامر الولائية، وما يبدو لنا أن هناك معايير فنية من قبيل أولا: يتعلق الأمر بالقضايا الخارجية. ثانيا: أن يحمل معه قرينة. ثالثا: أن يصدر في جو مخالف لمضمونه. رابعا: أن يفسره الأئمة والأصحاب بذلك. بعد ذلك تحدث عن طبيعة التشريع الإسلامي ودليل العقل، وهنا موضوع يتعلق بالمنطق والعقل والمسلك الذي يعتمد على النتيجة المنطقية.

ثم تحدث عن مسؤوليات الدولة وملاكات الحكم الولائي، وهذه المسؤوليات ذكرها كما ذكر أبو يعلى الفراء والماوردي وهي مسؤوليات محددة ومعروفة في المسائل العشر التي تحدد ذلك، وناقش المسائل وأظهر أن كل القضايا يمكن أن تدخل فيها بما فيها من قضايا الإعلام والعلاقات الدولية والمواصلات.

وتحدث بعد ذلك عن الثوابت إذا أمكن أن يسمى ذلك، فالمؤشرات هي عناصر ثابتة يستفيد منها الحاكم الشرعي لقيادة الساحة وإدارتها على أساس المقاصد الإسلامية. وذكر مقاصد الإسلام في العدالة والأخوة وحفظ النسب والدين والمال والعرض، ولن ندخل في تفصيلاتها، فهذه المقاصد معروفة لديكم. وفصل ذلك تفصيلا طويلا في بحثه. ثم ذكر السياسة الواجبة على الإمام نصب ما يستقيم به نظام نوع الإنسان، وتحدث عن الفرق بين الفتوى والحكم وقال: والظاهر أن الأول (الفتوى) الإخبار عن الله تعالى بحكم شرعي. وهذا التفصيل قطعا هو الذي نعرفه وهو الذي تحدث عنه القرافي وغيره.

ثم تحدث بعد ذلك عن المساحة الإلزامية وقال: وما يبدو لأول وهلة أن لا نفوذ لحكم الحاكم فيها، في مسائل الإلزام وعدمه. وقال بعد ذلك: فالحاكم إما أن يقوم هو بعملية ترجيح الحكم الأهم أو يوجد عملية التزاحم ليتم ترجيح الأهم. في مسألة الترجيح أو الأولويات في القضايا التي تعرض على الحاكم وفصل ذلك وبينه وقدم له أمثلة طويلة ومهمة.

ثم في النهاية ذكر الإمكانات المالية وقال: وهذا باب واسع الأبعاد نشير فيه إلى أن الإمكانات المادية والمالية للدولة متناسب مع وظائفه العامة. وقبل ذلك فصل الأرضية المساعدة لإقامة النظام الإسلامي وذكر ثلاثة عناصر في غاية الأهمية وهي:

(1)

العقيدة الإسلامية. (2) المفاهيم الإسلامية (3) العواطف الإسلامية. وفصل هذه العناصر وشرحها.

وأخيرا ذكر الأدوات وهي: الخراج، والجزية والضرائب، وواردات الأنفال من الأراضي، والواردات المستحبة كما يردها من الأوقاف والهبات الشعبية، ونتاج النشاطات الاقتصادية، وغير ذلك مما يعطيها القدرة المنسابة على تحقيق أهدافها.

هذه تقريبا فقرات في غاية الأهمية ويمكن أن تكون هناك فقرات أخرى لم أهتدِ إليها أو لم يسعفني الوقت لعرضها، فالمهم أن البحث كان يتعلق بالعمل الحكومي ومعنى ذلك أن عمل الفقيه يتحول عندما يريد أن يصدر حكما إلى عمل حكومي، والعمل الحكومي يدخل إذن في كل المجالات وفي كل مساحات العمل الإسلامي، وفي النظر إلى الجزئي بصفته داخلا في كلي عام هو الإطار العام كما سماه فضيلته، ومع وجود الشاهد الأصلي لا تجوز شهادة النقل والشهود هنا قد يعلقون على ما أقوله وبالتالي سأكون مرتاحا لما يقدمه هؤلاء الإخوة.

ص: 629

البحث الثاني: فضيلة الشيخ خليل الميس، وتحدث فضيلته عن كثير من الموضوعات، وهي في الحقيقية موضوعات مشتركة بيني وبينه وبين الشيخ وهبة، فهي موضوعات تكاد تكون المسميات والألفاظ والمصطلحات هي كلها مصطلحات نتفق فيها ولا نختلف فيها، إلا أنه ركز كثيرا على ما سماه بالتخريج. الذي أعطاه الشيخ أشمل المعاني وأوسع المباني فجعل كل شيء يقوم على التخريج، فخرج الأصول على الفروع، والفروع على الأصول، فهو يقول:"إن الله عند الله الإسلام "، والإسلام عقيدة وشريعة، وعقيدة تحكم صلة الإنسان بربه، وشريعة تنظم سلوك الإنسان أفرادا ومجتمعات ودولا. ويقول بعد ذلك: إنه لا تخلو واقعة من حكم شرعي، وإن قواعد الشريعة متقابلة بين النفي والإثبات، والأمر والنهي، والإطلاق والحجر والإباحة والحظر، ولا يتقابل قط أصلان إلا ويتطرق الضبط إلى أحدهما وتنتفي النهاية عن مقابله ومناقضه. . وهذا كلام من الجويني في الغياثي.

ثم يتحدث عن ضرورة فتح باب الاجتهاد، والاجتهاد إذا كان بابه قد أغلق فإنه يريد فتحه، والاستفادة من مناهج الفقهاء جميعا في الاستنباط. ويشير إلى أن المصلحة والعدل هما المقصد الكلي لكل تشريع إسلامي.

ثم يتحدث عن التخريج، وهو الذي كرس له تقريبا معظم هذا البحث وتعرض إلى مصطلحين وإن كان أحدهما أقل شيوعا من الآخر. وهذان هما: استنباط الأحكام من القواعد أو إخراج أحكام جزئيات القاعدة من القوة إلى الفعل. والثاني: استنباط الأحكام من فروع الأئمة المنسوبة إليهم. والتخريج يطلق على نقل حكم مسألة إلى ما يشابهها والتسوية بينهما فيه. فذكر تعريفات التخريج التي هي تعريفات معروفة عندكم.

تحدث بعد ذلك عن فقه الواقع وهو الحكم الشرعي الذي يلائم المكلف في حالته التي هو عليها، والواقع هو المختبر الحقيقي لدعاوى الإصلاح. ونقل كلام العلامة ابن القيم:"ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم. . " وهذا هو حكم الواقع وهو أمر لا نختلف معه فيه.

ثم تحدث عن فقه التنزيل، وقال: يقصد به تنزيل العلم على الوقائع الجزائية أو المسائل المستجدة والحادثة، واشتهر في الزمن الماضي بالنوازل واشتهر بلسان العصر باسم النظريات والظواهر. وذكر كلام ابن القيم مرة أخرى في فهم الواجب في الواقع، وهو حكم الله تعالى الذي حكم به في كتابه.

وكتب بعد ذلك عن تاريخ التخريج مع ذكر أمثلة: هنا بدأ مرحلة التخريج باعتباره تفريعا على آراء الأئمة وبيان مبنى الخلافات القائمة بينهم وقد حول كل المجتهدين الذين ليسوا في الاجتهاد المطلق غير المنتسب حولهم إلى مخرجين، وهذا طبعا أمر يصح وقد فرق العلماء بينهم، وذكر أقوال العلماء في ذلك، وذكر كثيرا من الأمثلة من الكتب التي قامت على التخريج، تخريج الفروع على الأصول. وذكر مصادر التخريج عند الفقهاء الأحناف وعند المالكية، وذكر عدم جواز تخريج آراء الأئمة ثم نسبتها إليهم بناء على مفهوم المخالفة. وقيل: عزوها إليه حرج. وكما قيل في مراقي السعود: هو أمر مختلف فيه في المذهب، كقوله: المخرجون، بالنسبة لمذهب مالك على الأقل. رأي فقهاء الحنابلة ذكر أيضا اختيارات المزني وابن حامد.

وتعرض لمسألة هل يأتي قول يعد قوله واللازم من المذهب يعد من المذهب؟ وذكر أمثلة لكلام العلماء في هذه المسألة.

ص: 630

وبعد ذلك ذكر أنواع التخريج وهي: تخريج الأصول من الفروع، وتخريج الفروع على الأصول، وتخريج الفروع على الفروع. وهي مباحث جيدة وشائقة.

وذكر المنهجية في فقه التخريج. وبعد ذلك ذكر تخريج القواعد الأصولية على كلام الأئمة، وهذا أيضا خاص لأنه نوع من التخريج أرى أن الشيخ زاده وأثرى به عملية التخريج وقد يكون زيادة مقبولة على ما كان معروفا في التخريج.

وتحدث عن تطور فقه التخريج والمصنفات الموضوعة في هذا الفن. وذكر بعد ذلك من له حق التخريج عند فقهاء الأحناف، وذكر طبقات المجتهدين والمقلدين وهو أمر مذكور في بحثونا التي بين أيديكم نتفق فيما ذكره من مراتب المجتهدين، وفي كل المذاهب ذكر ذلك جزاه الله خيرا.

ثم تعرض للنوازل وذكر كثيرا من النوازل خصوصا النوازل والفتاوى والواقعات -والواقعات مصطلح حنفي طبعًا – وذكر كثيرًا من الكتب التي ألفت فيها وجمع كثيرًا من الكتب التي ألفت في النوازل في مذهب مالك – رحمه الله تعالى – وقدم قوائم طويلة مهمة ومفيدة لهذه النوزال وهو أمر لا يختلف فيه.

ذكر بعد ذلكم مسائل النوازل عند فقهاء الأحناف، وهي نماذج أراد أن يقدمها ليستفاد منها. ومن هذه النوازل وجوب العشاء وإن لم يغب الشفق، وذكر الاختلاف في الشفق هل هو الحمرة أم البياض أم الصفرة؟. . وذكر مسألة التأمين البحري عند ابن عابدين، والنوازل المستجدة ورأي بعض الفقهاء المعاصرين في حق التأليف والنشر. وذكر نماذج مختارة من النوازل عند فقهاء المالكية. وبعد ذلك ذكر النوازل وفتح باب الاجتهاد وذكر قضية تحقيق المناط، وهو أمر ذكرته في بحثي، وذكر التوسعة في الاجتهاد بالرأي وأن الاجتهاد قد جعل الله فيه سعة بتوسعة مجال الاجتهاد وإنما التوسعة في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توسعة في اجتهاد الرأي. وذكر أقوال العلماء في ذلك، ومن ذلك قول عمر بن العزيز: ما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم.

وبعد ذلك ذكر ضرورة الاجتهاد الجماعي وهو أمر شاطره فيه بعض الإخوة الباحثين، وإن كنت أنا شخصيًّا لا أميل إلى ما يسمى بالاجتهاد الجماعي. وقال: إن المنهج الجماعي في الاجتهاد قد عصم الأمة من الزلات والهفوات والأخطاء القاتلة، وكان ملاذا في استكشاف واستنباط الحلول المنسابة لمشاكلها الطارئة وقضاياها المصيرية الكبرى. ولذلك كان تأسيس المجامع الفقهية لمناقشة قضايا الأمة الكبرى ومستجدات العصر التي عمت بها البلوى بغية التوصل إلى موقف إسلامي يرقى درجة الإجماع يتفق فيه المجتمعون على رأى معين، وكان هذا خاتمة البحث الطويل المفيد الذي أوصى بأن يراجع ويطلع عليه، لأن أخذ الكعك من أيد صناعه كما يقول علماؤنا هناك.

البحث الذي يليه: هو بحث فضيلة الدكتور عبد الوهاب الديلمي وعنوانه: (ضوابط الفتوى في ضوء الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح) . الدكتور عبد الوهاب كما يشير إليه عنوان بحثه اهتم بفتاوى الصحابة وتطور الفتوى من عهد الصحابة، وهو أمر لا يختلف فيه، وقال في مقدمة بحثه: لذلك نجد شرع الله – سبحانه وتعالى – المنحصر في كتاب الله – عز وجل – وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قد حوى من القواعد والأحكام والنصوص العامة ما يكفل بسد حاجة البشر في حل كل معضلة وبيان حكم الله – عز وجل – في كل ما دق وجل، والأمر يتوقف على الأهلية التي يجب أن تتوافر في العالم العارف بنصوص الشرع، وبمظان استخراج الأحكام الجزئية وكيفية استنباطها. كان هذا منطلق البحث ثم ذكر حاجة الإنسان إلى التشريع الإلهي، وذكر المصالح وأنها تدور على ثلاثة أقسام وهي: المعرفة عند الأصوليين بالضروريات، ولعل الأمر يتعلق بالمقاصد التي تنبني عليها المصالح.

ص: 631

ثم أفاض في مسألة جلب المصالح والمنافع ودرء المفاسد، وذكر الأدلة من الكتاب والسنة في ذلك.

وذكر الفتوى ومراحلها، وقال: إن الفتوى هي تطبيق للأحكام الشرعية على النوازل والوقائع بما يحقق مصالح الناس في ضوء وقاعد الشريعة ومبادئها ونصوصها.

وذكر مراحل الفتوى هي مراحل جيدة وجميلة فبدأ بأبي بكر الصديق – رضي الله عنه – وبعمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وكما يشير إليه في عنوان بحثه، فقد ذكر هذه المراحل عند السلف ثم أعقبها بالخلف، ويقول: ثم مرت بعد ذلك بالفقه مرحلة أصيب فيها بالركود، وعدم الاجتهاد، وذلك بعد القرون الأربعة الأولى، فقد جاء قوم اطمأنوا بالتقليد ودب التقليد في صدورهم دبيب النمل وهم لا يشعرون، وهو ينقل عن حجة الله البالغة.

ثم بعد ذلك تحدث عن أدلة المذاهب وكيف أن أبا حنيفة يقدم الحديث الضعيف على القياس بل إنه قدم أحاديث متفق على ضعفها عى القياس، كحديث القهقهة في الصلاة، وذكر أقوال الأئمة في ذلك والحديث المرسل والبلاغات وقول الصحابي، وذكر اختلاف الرأي بين رأي صحيح ورأي باطل، وذكر أنواع الرأي الباطل.

وذكر فضيلته ما يضمن الاجتهاد من الزلل، وقال:"ولضمان سلامة الاجتهاد من النزلل وصونه من الفوضى في عصورها المتأخرة، فإن الشيخ عبد الوهاب خلاف بالغ في منع الاجتهاد الفردي، وجعل حق الاجتهاد للجماعة فقط إذا توافرت فيهم الأهلية "، هذا الاجتهاد الجماعي الذي ذكرناه من قبل ركز عليه وكما ذكره الشيخ خليل أيضا سنرى الموقف منه، ومع أنه له أهمية بالغة في تضييق دائرة الخطأ. وذكر بعد ذلك أحكام الشورى وجعلها دالة على الاجتهاد الجماعي، وهو أمر أعتقد أنه ناقشه فيه الشيخ محمد الحاج الناصري مناقشة مستفيضة قد لا يتسع الوقت لعرضها.

وتحدث بعد ذلك عن مراعاة مقاصد الشريعة، وذكر كلام العز بن عبد السلام في (القواعد والأحكام في مصالح الأنام) وقال: ومعظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروف بالعقل

إلى آخر الذي تعرفونه جميعا.

وبعد ذلك عرف المصلحة الحقيقية والتي هي مدلول عليها بالنص، ثم ناقش الطوفية مناقشة طويلة في موقفه من المصلحة الموقف المعروف، وذكر في ذلك بحث الدكتور سعيد رمضان البوطي في كتاب (ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية) ، وأفاض في النقل من هذا البحث إلى أن انتهى هو أيضًا إلى زيادات على ما ذكره الشيخ سعيد البوطي، وكل هذه الصفحات تتعلق بالرد على الطوفي في مسألة المصلحة التي جعلها مطلقة، والحقيقة أن المصلحة يجب أن تقيد لكونها من نوع المصالح التي يعتبرها الشرع أو من نوع المفاسد التي يدرؤها الشرع.

ثم ذكر في النهاية اعتبار العرف والعادة وذكر في ذلك أقوال العلماء التي تعرفونها والتي ذكرها غير واحد من الباحثين، وهو مع هذا يتفق مع غيره لكلام القرافي – رحمه الله تعالى – وغيره.

وذكر شروط العرف المعتبر وهي: أن يكون مطردا، وأن يكون عرفا عاما. وذكر بعد ذلك قاعدة (رفع الحرج) وقابلها بأن مطلق المشقة حاصلة في العبادة، وهو أمر جيد وجميل.

ثم ذكر أخيرا سد الذرائع وقال: إنه من المسائل التي تجب مراعاتها وهو من الأصول القطعية، وقد عرفه القرافي بأنه (حسم مادة وسائل الفساد دفعًا لها) . وذكر كلام ابن القيم في سد الذرائع. وذكر خاتمة وهو الوحيد من الباحثين الذي ذكر خاتمة، وقال فيها: وخلاصة القول: إن ترك الأمور في مجال الفتوى سائبة وبالأخص في عصرنا الذي رأينا فيه عجبًا سيخلف في الأمة فوضى لا نهاية لها، وسيتصدى للفتيا من ليس بأهل، وسيصعب بسبب ذلك على العامة تمييز الحق من الباطل، والهدى من الضلال، والحلال من الحرام، وإننا لنشاهد اليوم كثيرا من ذوي الجرأة على الله تعالى يقتحمون هذه المفاوز دون بصيرة ولا هدى، فيضلون ويضلون، ودون أن يضعوا أنفسهم في مكانها الصحيح ويردوا الأمر إلى أهله.

ص: 632

كما لا ينبغي أن توصد الأبواب أمام من هو أهل للقيام بهذه الوظيفة العظيمة من أهل العلم والمعرفة والتقوى، ليبصر الناس بأمور دينهم، ويحل معضلاتهم، ويهديهم عند الحيرة، ويأخذ بأيديهم إلى شاطئ الأمان، حتى لا يقعوا فريسة الجهل والشبهات التي يروجها أعداء الإسلام، ولا يلجؤوا إلى سلوك الطريق البعيد عن هدى الله سبحانه، وكلما صدرت الفتوى عن جماعة توافرت في كل منهم شروط الاجتهاد كان ذلك أدعى إلى ندرة احتمال الخطأ وأضمن لإدراك الحق والصواب، والاهتداء إلى معرفة مراد الله سبحانه فيما يعرض عليهم من قضايا، كما أنه يقلل من ظاهرة الخلاف بين أهل العلم وتباين آرائهم، إذ أن اجتماعهم يتيح لهم فرصة تداول الآراء واستعراض الأدلة وتمحيصها، ومعرفة أقوال من سبقهم من أهل العلم، وعند التجرد للحق والترفع عن الهوى والتعصب للرأي أو المذهب، والتحلي بالتقوى والخوف من الله تعالى، يصبح المرء خاضعا للحق مستسلما له عادلا عن رأيه إيثارا لغلبة الحق وعلوه ورغبة في الحرص على الوصول إليه، وهذا كله مما يجعلهم أهلًا لأن يمنحهم الله تعالى مزيدا من التوفيق والسداد، ويلهمهم الصواب، ويجري الحق على ألسنتهم وينير بصائرهم. ولله الحمد في الأولى والآخرة.

وبعد ذلك بحث الدكتور محمد سليمان الأشقر: تحدث أولاً عن الفتوى والإفتاء، وذكر الفتاوى والنوازل، ثم بعد ذلك ذكر المسألة والسائل، والنوازل حدّدها، والواقعات عند الحنفية وبمعنى النوازل عند المالكية، وأهمية الإفتاء في النوازل، وبيان أحكام الفتوى والوقائع.

وقال فضيلته: "ومن هنا ذهب بعض أهل العلم – وإن كان لا يوافق على ذلك – إلى أن العامي ليس له أن يقيم ببلد لا يجد فيها مفتيًا". وذكر أهمية منصب الفتوى بأنه لا يجوز تركه شاغرًا؛ لأنه فرض على الكفاية كغيره. وذكر حقيقة الإفتاء في النوازل وحلّله إلى إلى ثلاثة عناصر وهي:

1-

معرفة الحكم.

2-

تطبيق الحكم.

3-

النطق بالحكم (الإخبار بحكم الواقعة لمن سأل عنه) .

وبعد ذلك ذكر النظر في الاجتهادات الفقهية الصادرة عن العلماء المتقدمين والمتأخرين، وموقعه من فقه النوازل، وتحدث عن هذه الاجتهادات، وتحدث بالذات عن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية بأن من قال قولاً سائغًا ولو خرج عن أقوال الأئمة الأربعة في مسائل الإيمان والطلاق وغيرهما مما ثبت النزاع فيه بين علماء المسلمين بأن هذا القول يسوغ له أن يُفتي به.

ذكر أن من شروط المجتهد التي يغفل عنها بعض أهل الأصول أن يكون المتصدي للاجتهاد قد تبحر في دراسة الاجتهادات السابقة، وعرف مواقع الاختلاف والإجماع، وتمرس في المقارنة بين الأقاويل الفقهية. وذكر كلام ابن عبد البر، وكلام الموافقات.

تعرض للمفتي في النوازل وذكر أقوال أهل المذهب الحنبلي، واختلافهم في فتيا المقلد في الكتب المذهبية. وقال: إن السائر في المذهب الحنبلي وغيره أن فتياه لا تصح كما أن قضاءه لا يصح. وقال: ليس لأحد أن يُفتي في دين الله إلا أن يكون عارفًا بكتاب الله، ثم ذكر شروط ذلك.

وبعد ذلك تحدث عن الإفتاء الجماعي – ولي كلمة قد تكون بالنسبة لي شخصيًا إذا صاغ لي أن أتدخل أقول: إنها أقرب إلى قلبي من الاجتهاد الجماعي؛ لأن الاجتهاد هو جهد شخصي – ذكر الإفتاء الجماعي وذكر أهميته واستدل عليه بأدلة الشورى التي استدل بها غيره من الإخوة على ما يسمى بالاجتهاد الجماعي.

ذكر أثر فقه النوازل في نمو الثروة الفقهية الإسلامية، وقال: إن فقه النوازل هو الرافد الأكبر لثروة الفقه الإسلامي. ويوضح ذلك أن القرآن نزل منجمًّا. وتحدث عن فقه النوازل واشتراط المسائل وتشقيقها والتوريدات في الشروح والحواشي والتعليقات والتقريرات والذي هو صنيع بعض أهل المذاهب.

ص: 633

وذكر نشاط الفقهاء الحنابلة في فقه النوازل، واقتصر على المذهب الحنبلي، وذكر مسائل صالح ابن الإمام أحمد، ومسائل عبد الله ابن الإمام أحمد ومسائل الكوسج، ومسائل أبي داود والمسائل التي تعرفونها جيدًا.

وذكر أنه انتدب لجمع ما روي من المسائل عن الإمام أحمد: الشيخ أبو بكر الخلال. وذكر كثيرًا من المسائل فيما يتعلق بهذا الموضوع، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:"كلام الإمام أحمد كثير منتشر جدًا، وقلّ من يضبط جميع نصوصه في كثير من المسائل لكثرة كلامه وانتشاره وكثرة من كان يأخذ العلم عنه. وأبو بكر الخلال قد طاف البلاد وجمع من نصوصه – أي نصوص أحمد – في مسائل الفقه نحو أربعين مجلدًا، وفاتته أمور ليست في كتبه".

ثُم ذكر مجموعات الفتاوى في العصور اللاحقة في المذهب الحنبلي، وأسند إلى الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد (المدخل المفصل إلى مذهب الإمام أحمد) أربعًا وعشرين مجموعة من مجموعات فتاوى الفقه الحنبلي، وذكر هذه الفتاوى القاضي أبو يعلى، إلى آخر القائمة المعروفة عندكم.

وقال: "ولا يشك المطلع المنصف أن أجمع هذه المجموعات من الفتاوى وأحسنها وأكثرها تحقيقًا ونفعًا هي مجموعة شيخ الإسلام ابن تيمية"، فهذا رأي شاطرته فيه في بحثي بل قلت: إن هذه المجموعة مجموعة فريدة من بعد القرون الأولى، هي المجموعة الفريدة التي ترجع إلى الكتاب والسنة مباشرة ومناقشة الأدلة في جو من الاجتهاد المطلق والحرية الكاملة.

في النهاية تكلم عن الحسبة وتكلم عن الأحكام السلطانية (فقه السياسة الشرعية)

وهكذا كان بحثه لطيفًا ولم يكن طويلاً.

وانتقل بعد ذلك إلى بحث فضيلة الشيخ وهبة الزيحلي، وأشار في ديباجته إلى حركة التجديد التي لم تتوقف وإن شهدت صعودا وهبوطا، نماء وركودا، مشيرا إلى الثورة الهائلة من فتاوى الأحناف والمالكية مراعاة للأعراف ومراعاة للعمل عند المالكية وما يشبهه من الأحكام السلطانية.

ففي البداية حدد خطة بحثه فقال: غاية البحث تحديد خصائص وضوابط الفتاوى والنوازل والعمل الفقهي، وبيان سبل الاستفادة منها، بحيث يسهم ذلك في تجديد حيوية الفقه للاستفادة منه في التطبيقات المعاصرة، وتكون خطة البحث كما يأتي:

- تحديد المراد بالنوازل والواقعات أو العمليات.

- الفرق بين الإفتاء والقضاء.

- الفرق بين الاجتهاد والإفتاء.

- آراء العلماء في ضرورة مراعاة البينة والأعراف والمصالح ونحوها.

- الثوابت والمتغيرات في الشريعة

- ما يلزم المفتي مراعاته أو شروط الإفتاء.

- ضوابط الفتوى بالنوازل (الضوابط العشرة) .

وهذه الضوابط العشرة من أهم ما في البحث، والبحث كله مهم، ولأجل ذلك هذه البحوث لم تكن لها خلاصات لأنها خلاصات.

قال بعد ذلك: المراد بالنوازل والواقعات أو العمليات: الفارق المتميز بين مدرسة أهل الكوفة أو العراق بزعامة الإمام أبي حنيفة قال: إن تلك المدرسة تولد المسائل والمدرسة الأخرى تقتصر على ما هو واقع فعلا. ثم فرق بين الإفتاء والقضاء بالتفريق الذي تعرفونه من كون المفتي مخبرا عن الله – سبحانه وتعالى – والقاضي ملزما ومنفذا عنه تعالى، فالإخبار بالفتوى كمن يترجم، والحكم إلزام كنائب يعلمون، وهذا مني ولكنه له.

الفرق بين الاجتهاد والإفتاء. هنا فرق بين المجتهد والمفتي والفقيه، وهو فرق لم يساعده عليه الشيخ محمد الحاج الناصر، وبينهما تداخل لا شك في ذلك بين المفتي والمجتهد، والمجتهد في الأصل هو المفتي.

تحدث بعد ذلك عن الثوابت والمتغيرات في الفقه أو الشريعة وقال: إن الأحكام ثوابت ومتغيرات. وبين معنى الثبوت وأن الثوابت لا تتغير ولا تتبدل، وذكر الشعائر في كونها ثوابت والتراضي في العقود وتحريم أكل أموال الناس بالباطل. وذكر النصوص المتغيرة وقال: إن التغيير يكمن في ثلاثة عناصر، وهذه العناصر هي:

1 – نص معلل بعلة ثم تتغير علته.

2 – النص العرفي المراعى فيه حال المبادلة القائم.

3 – الأحكام التي روعي فيها تنظيم بين المال.

وأما المتغيرات أو القابلة للتغير فهي الأحكام الاجتهادية المبنية على قاعدة.

ذكر أمثلة فساد الزمان بما أفتى به المتأخرون في كثير من المسائل أو في بعض المسائل التي بسبب فساد الزمان أفتى الناس فيها، وهو رأي أيضا ناقش فيه الشيخ الناصر، ورأيه فيه شيء بالنسبة للمذهب المالكي؛ لأنه هو حنفي.

ص: 634

وذكر بعد ذلك ما يلزم المفتي مراعاته أو شروط الإفتاء، وهذه الشروط هي: الالتزام بالدليل، والاجتهاد، والورع.

ذكر ضوابط الفتوى بالنوازل والعمل الفقهي، وهذه الضوابط في غاية الأهمية، وذكر جملة من الأمثلة مع كل ضابط، وهي: الضابط الأول مراعاة الضرورة أو الحاجة وذكر أمثلة الضرورة كما فصل العلماء. وذكر أنواع الاستحسان، الاستحسان بالضرورة، وبالمصلحة، ثم ذكر الضابط الثاني وهو رعاية المصلحة، وفسر المصلحة وبين اعتبارها عند المذاهب المختلفة، ثم ذكر الضابط الثالث، وهو الاستحسان وضوابطه. وبعد ذلك الضابط الرابع: مراعاة الأعراف والعادات، وذكر العرف الخاص بكل بلد وذكر أمثلة لذلك. وذكر أن المصلحة العامة تقدم على المصلحة الخاصة، والعرف بمنزلة الإجماع شرعا عند انعدام النص كما ذكر الكمال ابن الهمام.

ثم استمر في ذكر هذه الضوابط العشرة التي لابد منها للمفتي، وذكر الضابط الخامس، وهو دفع المفاسد ودرء المضار، وذكر في هذا أيضا مسألة درء المفاسد والحجر على الطبيب الجاهل والمفتي الماجن. والضابط السادس: مراعاة فساد الزمان (مراعاة أحوال اختلاف الزمان وفساد الأخلاق) . والضابط السابع: مراعاة أحوال التطور، وهو قريب من الذي قبله ونبهني على ذلك. الضابط الثامن: التزام ميزان العدالة. الضابط التاسع: إحقاق الحق، وهو قريب من الذي قبله وهو العدالة، وفرق بينهما بأن الحق في كل الأحوال وأن العدالة خاصة بالمنازعات، الضابط العاشر: منع النزاع والخصام، وقال: إن مهمة القاضي والمفتي في إنهاء المنازعة وتسوية الخصومة تحقيق الاستقرار والطمأنينة فيما بين الناس. وهو أمر ناقشه الشيخ محمد الحاجة الناصر مناقشة يمكن أن يرجع إليها في مكانها.

وذكر مسألة التزام النصوص وقال: إنه لابد من التزام النصوص في الفتاوى. وذكر مجموعة من الفتاوى منها للمالكية، وهي فتاوى ذكرها ذكرها كنماذج وقال: هذه نماذج وأمثلة من الفتاوى، وهذه ضوابط وخصائص فتاوى النوازل وبيان سبل الاستفادة منها بحيث يسهم ذلك في تجديد حيوية الفقه للاستفادة من ذلك في التطبيقات المعاصرة.

بعد ذلك بحث الشيخ ناصر بن سليمان السابعي، وعنوان بحثه (العمل الفقهي عند الإباضية)، وأفادنا كثيرا في هذا البحث وقال: إن خطته في البحث هي:

المبحث الأول: تاريخ العمل الفقهي، ويشمل أمثلة مما جرى به العمل في فترات التاريخ الإباضي بجناحيه المشرقي والمغربي.

المبحث الثاني: يشمل خصائص العمل الفقهي وضوابطه.

المبحث الثالث: سبل الاستفادة من العمل الفقهي في التطبيقات المعاصرة.

وفصل العمل الفقهي بأنه ما جرى عليه العمل في الفتوى عند علماء مذهب معين أو بلد معين في مسألة ما أو مسائل، سواء كانت تلك الفتوى مصدر ذلك العمل أو بنيت الفتوى على مصلحة بقائه أو عدم مصلحة إلغائه.

وذكر مسألة عمل أهل المدينة عند المالكية وأنه حجة عندهم.

وذكر بعد ذلك أن المذهب الإباضي يهتم بالمصالح المرسلة ويعتبرها مصدرا تشريعيا، وضرب لذلك بعض الأمثلة. وذكر أيضا أنهم يهتمون بالاستحسان، وذكر في الحقيقة مسائل هي قريبة من الفقه المالكي وهي مسألة أن اشتراط المرأة على زوجها وأنها تأخذ بشرطها وتملك أمر نفسها، وهذا أمر لا يختلف فيه مع المذهب المالكي.

وذكر الإجماع وأنه يشتمل على المسائل النظرية وغيرها، أما العمل الفقهي فيتوجه إلى القضايا التطبيقية ذات الدلالة الحيوية التي تعالج شرعا في نظر المفتي أو القاضي.

وذكر عمل الكافة وهو نمط التعامل. هذه المصطلحات هي ليست متداولة عندي على الأقل ولا أعرفها كثيرا.

ذكر ضوابط العمل الفقهي وقال: إنها الكتاب والسنة والقياس، وهذه الضوابط لا يختلف فيها.

ص: 635

وذكر مجالات العمل الفقهي وسبل الاستفادة في أبواب العبادات وتقنين الفقه وتلقين الفقه والمجالات الدستورية والمجالات الاجتماعية.

وإن العارض ليس له اعتراض ولا معارضة، لكن هنا كلمة أنه عندما يهب إلى الميزاب بسبب حكومات جور أو أنظمة جور أو دول الجور في المغرب، أعتقد أنه ليس كل دول المغرب دول جائرة، والحقيقة أنهم كانوا أقلية، والأقلية لا يمكن أن تحكم وكان أكثر سكان المغرب من أهل السنة على مذهب الإمام مالك، فلا أريد أن يكون العارض معارضا أو معترضا لكن فقط أريد التنبيه على ذلك، إنصافا للتاريخ المغربي الذي قامت فيه دول عادلة ومعروفة. وأشكر الشيخ على الإفادة التي أفادنا بها.

وختاما يريد العارض ألا يكون عارض أزياء لا ينتفع بما يعرض، وأنا أريد أن أعرض هذه الشجرات من هذه البحوث التي تبحث في مجملها عن كيفية التصرف في مجال السياسة الإسلامية العامة التي يمارسها ولي الأمر، وكيف توصف تصرفاته وقراراته ودرجتها في سلم التصرفات الشرعية، وتمييزها عن القضاء والفتوى، باعتبار أن تصرفه وإن كان جزئيا فإنه يدور في دائرة أوسع من الإطار الكلي الإسلامي المترابط. من حيث علاقاته بالمجتمع وذلك ما يسمى بالسياسة، وهذا هو مضمون بحث الشيخ محمد علي التسخيري. ولعل ذلك ما عناه الشيخ محمد علي التسخيري في بحثه في العمل الحكومي، حيث تعرض لما سماه بالأحكام الأولية والأحكام الولائية مع أمثلة واسعة ومساحات متسعة حدد فيها وظائف السلطة ومجالات عملها.

أما البحوث الأخرى فعنيت بالنوازل والعمل الفقهي كأداة لإسعاف الفقيه في ميدان المستجدات ومعمعة النوازل والواقعات، فبينما نجد الشيخ ناصر بن سليمان لا يتجاوز العمل الفقهي في المذهب الإباضي إلا أنه تعرض للعديد من المبادئ الأصولية كالمصالح المرسلة والاستحسان.

أما البحوث الأخرى فهي تعالج موضوعا متقاربا هو سبل الاستفادة من النوازل والفتاوى والعمل الفقهي وتتشابه في منطلقاتها ومقدماتها ومرجعيتها وفي بعض الأحيان في نتائجها، فهي تعرف الفتاوى والنوازل، وتذكر الأدلة التي تجب أن تكون سندا للإفتاء من كتاب وسنة واجتهاد وأحوال المفتين، إلا أن البعض قد يعنى بنوع من الأدلة في كثير من التوسع كما وقع لفضيلة الشيخ خليل مع التخريج حيث استخرج منه أصول الاستنباط الخاصة بالمجتهدين وتلك الخاصة بالمقلدين.

ص: 636

نلاحظ أن فضيلة الدكتور وهبة استأثر باهتمامه وضع ضوابط تستند إليها الفتوى في ضوابط عشرة هي عوارض الوقائع التي قد تكون في موقع الضرورات والحاجيات إلى آخره، مع اهتمامه بصفة المفتين من علم وورع. واهتم الشيخ الأشقر بحقيقة الفتوى والإفتاء الجماعي وسماه غير الاجتهاد الجماعي، واهتم بخاصة بكتب الفتاوى عند الحنابلة. أما الشيخ الديلمي فاهتم بمنهج السلف وأصل لما دعاه بالاجتهاد بكثير من النصوص والوقائع مع ملاحظة مناقشة الشيخ محمد الحاج الناصر، فعند الجميع الفتوى إخبار والحكم إلزام، وعند أكثرهم ذكروا تطور الفتوى من مجتهد مطلق إلى مجتهد في المذهب إلى مجتهد مقيد، ومجتهد الفتوى ومجتهد ترجيح.

أما العارض فإن بحثه لا يختلف كثيرًا عن بحوث زملائه في كثير من المنطلقات إلا أنه أصل للعمل الإقليمي في مذهب مالك تأصيلا كاملا معرفا إياه وذاكرا أنواعه. واستأذن الرئيس في قراءة ملخص بحث العارض.

هذا البحث إذا كانت له ميزة – وصاحبه ربما يكون هو المالكي الوحيد بين من قدموا بحثا في هذا الموضوع – فهي توضيح مسألة العمل عند المالكية وأصل مالك في عمله في المدينة، ونقل الكلام منصفا لمالك بل كلام محب لمالك، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وتفصيلنا للطريقة المالكية من إجراء العمل. ولهذا سأقرأ نهاية البحث ومن أراد الاطلاع على النوازل التي ذكرتها وفيها ما يتعلق بالإجارة المنتهية بالتمليك وقد وجدنا قول ابن شهاب الذي عمل به أهل الأندلس وأن الدار يجوز بيعها وألا يقع القبض إلا بعد عشر أو بعد ثلاثين سنة، وأن البيع لا يقطع الإجارة، وكثيرا من المسائل استقيناها من هذه الكتب.

سأقرأ لكم الخاتمة:

وفي الختام فقد أنجزنا هذا البحث بتوفيقه تعالى، وقد عرفنا فيه الفتوى التي هي إخبار عن الله تعالى بحكم شرعي في مقابل الحكم الذي هو إلزام بالحكم، وقد بينا فيه نسبة علم الفتيا والقضاء لعلم الفقه، فالمفتون هم خاصة الفقهاء، وهذا معنى كون علمها أخص من علم الفقه وإلا فعلم الفتيا أعم لكونه يشتمل على علم الفقه ويزيد عليه بتنزيل الأحكام على الوقائع، وهو أمر يفترض علما بالواقع وفهما للعلاقة بين الحكم والواقع وهي العلاقة التي ستكون الفتوى نتيجتها كإنتاج الشكل الأول من الأشكال الأربعة المنتجة إذا رتبت كبراه على صغراه، فمن لا يعرف أن الإنسان داخل في جنس الحيوان وتلك هي الصغرى لا يستفيد من كون كل حيوان متغيرا وهي الكبرى، وذلك ما عناه الإمام ابن عرفة في تعريفه لعلمي القضاء والفتوى.

وقد تطرق البحث إلى الأدلة التي تعتمد عليها فتاوى المجتهدين استنباطا من الأصلين وفتاوى المقلدين اتباعا للأولين.

ثم أوضحنا من هو المفتي ودرجات المفتين: من مجتهد مطلق من كل قيد، ومجتهد مقيد بقيد المذهب والفتيا، ومقلد أخلد إلى أرض التقليد.

ص: 637

ثم عقدنا فصلا عن العلم الفقهي القطري وهو خصيصة من خصائص المذهب المالكي في الغرب الإسلامي: (شمال إفريقيا والأندلس) وقد عرفناه بأنه ترجيح قول ضعيف لمصلحة أو ضرورة من أهل الترجيح علمًا وعملًا، ومن جملة ما أضفنا من المسائل والأقوال التي اشتملت على قيد أو شرط يمكن أن نعتبر أن إجراء العمل والعدول عن الراجح والمشهور في المذهب لسبب اقتضى ذلك من مصلحة أو ضرورة أو حاجة في زمان معين ومكان معين من أهل العلم الذين يحق لهم الاختيار والترجيح والتخريج على أقوال الإمام وقواعد المذهب، وقد يكون العدول عن الراجح والمشهور لآرجحيته من حيث الدليل الأصلي، فهو وبهذا المعنى اجتهاد من المرجح، وقد مثلنا لذلك بمسألة الخلطة، ولم يسبق لأحد ممن كتب عن العمل أن اهتدى إلى هذا الملحظ، كما أبنا شروط إجراء العمل الثلاثة أو الخمسة وناقشنا بعضها لنصل إلى أن القول الضعيف قد يكون مرجعا للفتوى، وأن منعه إنما هو سد للذريعة وهو أمر لا يختص بالمالكية بل نجده عند الأحناف في المفتى به، وعند الشافعية ولو بغير ضرورة.

وفي الفصل الثالث صورنا كيفية الاستفادة من النوازل والفتاوى في التطبيقات المعارة في ثلاث سبل هي: أولا: الاستفادة من ضبط المنهج بعد استقراء نماذج الفتاوى التي ينبغي أن يحتذى بها على قدر اقتدار المفتي وملكته في الاستنباط إذا كان متمكنا متبحرا، أو عالما متبصرا، أو مقلدا مضطرا، وعلى الراجح والمشهور مقتصرا.

فمثال الشيخ تقي الدين ابن تيمية للأول، وابن رشد للثاني، وكثير من الفقهاء الآخرين والمتأخرين للثالث، وفي كل خير وفي اتباع كل بحسب الوسع والسعة منجاة، إن شاء الله، إذا استرشدنا بنصائحهم، وقد ذكرنا بعض هذه النصائح وعلونا على درء المفاسد وجلب المصالح.

أما الطرف الثاني فهو استخراج القواعد والأسس والضوابط التي راجت في سوق الفتاوى فكانت خير بضاعة وزاد لاجتياب مفاوز النوازل ومتاهات الفتاوى.

وفي الطريق الثالث ذكرنا أمثلة من الفروع التي يصلح عليها التخريج لبعض القضايا المعاصرة دون الخوض في التفاصيل اكتفاءً بالتنبيه والإشارة دون توضيح العبارة، فلسنا في وارد إصدار الفتوى ولكننا في مورد التنبيه والفحوى.

ولعل فيما ذكرنا سداد من عوز.

ونستغفره سبحانه وتعالى مما كتبت أقلامنا وأنتجته أفهامنا.

هذا ما تيسر لي الآن والبحوث بين أيديكم، ولعلنا نزيد الأمر إيضاحا عندما نتحدث عنه، وأعتذر لإخواني، فهذا جهد المقل الوقت كما ترون دليل قوي إذا لم أكن عرضت بحوثكم وشاهد النقل لا يصلح مع وجود الأصل وأنتم هنا.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 638

* * *

التعقيب والمناقشة

التعقيب والمناقشة

الشيخ أحمد الخليلي:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد؛

فقبل كل شيء أشكر الباحثين على بحوثهم القيمة التي قدموها، وأشكر العارض على حسن تأديته في عرضه لهذه البحوث، وليس لدي شيء من التعليق على ما في هذه البحوث، وإنما هي ذكرى لأمر ربما فات العارض، فعندما ذكر بأن الإباضية في المغرب لجؤوا إلى ميزاب فرارا من جور الحكام أو حكام الجور لم يقصد الكاتب أو الباحث علماء المذهب المالكي، أو حكام الماليكة وإنما من المعروف أن الذين أخرجوهم من تيهارت هم العبيديون، والعبيدية فرقة معروفة أنها باطنية، ففيما أظن وفيما أحسب أن جميع المذاهب الإسلام بما فيهم المذهب الشيعي الإمامي يتبرؤون من أولئك ومن أفعالهم، لأنها فرقة باطنية وليست فرقة معتدلة وإنما هي فرقة غالية.

هذا الذي أردت أن أنبه عليه، وأرجو من فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه – جزاه الله خيرا – أن يرجع شيئا قليلا إلى التاريخ وسيجد ذلك، ولعل خير ما كتب في ذلك ما كتبه ابن الصغير المالكي في كتابه. والله ولي التوفيق.

الشيخ خليل الميس:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. وبعد؛

فشكرا للعارض ابن بيه، وهو ابن بار بحمد الله في الشريعة، وفي هذا المجال.

ثم في الحقيقة النوازل يمكن أن تختصر بالآتي عند فقهاء الأحناف، وقد نص عليها الماتم بقوله: وكتب ظاهر الرواية أتت ستا لكل ثابت عنه وحوت، صنفها الشيباني وحرر فيها المذهب النعماني، إلى أن ذكر الكتب الستة ثم قال:

وبعدها مسائل نوادر

إسنادها في الكتب غير ظاهر

إلى أن يصل:

وبعدها مسائل النوازل

خرجها الأشياخ بالدلائل

فإذن النوازل في الفقه الحنفي هي كل الفتاوى التي ظهرت بعد استقرار مذهب الإمام أبي حنيفة وتلاميذه، وكأن هذا المصطلح ينبغي أن يكون منطبقا على جميع الفتاوى، لأن ما صدر عن كل إمام تلاميذه الذين عاصروه هو مذهب، أما الفتاوى التي جاءت بعد استقرار المذاهب وبعد استكمال المدارس هي التي سميت بالنوازل أو الواقعات وهي التي تسمى بالفتاوى. وقلنا في الحقيقة النوازل التي وردت عند المالكية لها كتب النوازل، وهي في الحقيقة كتب الفتاوى، ولكن ما ينبغي الإشارة إليه أن كل نازلة هي مستأنفة في نفسها فلابد من النظر فيها بالاجتهاد. كذا قال الشاطبي. ولا بد من تحقيق المناط بالنسبة إلى كل ناظر ومفتٍ بأن يقيس ما لم ينص عليه إمامه بما نص عليه.

ص: 639

ثم الآن عندما نتكلم عن النوازل لابد أن نتكلم عن التخريج. وبالمنسابة إذا رجعنا إلى كتب الأئمة وإلى التخريج على كتب الأئمة فنحن إنما نقرأ كتب المذاهب. أقول الأئمة والتخريج على أقوالهم ينبغي أن يميز ما بين التخريج وما بين أقوال الأئمة. ثم هنالك أمر، الحقيقة أن التخريج بالذات – وهو الذي أشرنا إليه في البحث – يختلف عن الاستنباط، لأن الاستنباط هو استفادة الحكم من الدليل من الكتاب والسنة من الأدلة الأصلية، أما استفادة الحكم من مقتضى أقوال الأئمة فهو يسمى التخريج ليميزوا بين نوعين من الاستنباط، وهذا شيء ربما ذكرنا فيه كثيرا.

الآن الأمر الذي ينبغي الإشارة إليه يا ترى لا نقول من له حق التخريج، ولكن هنالك سؤال كبير: هل التخريج على قواعد الإمام بمثابة قول الإمام؟ الحقيقة هذا الذي ينبغي أن يذكر، أنا قد أشرت إليه في بحثي، ومر العارض – جزاه الله خيرا – بسرعة عليه.

قال الزركشي من الشافعية: إذا لم يعرف للمجتهد قول في المسألة، لكن له قول في نظيرها ولم يعلم بينهما فرق فهو القول المخرج فيها. ولا يجوز التخريج حيث أمكن الفرق كما قال ابن كج والماوردي وغيرهما. وأشار الشيخ أبو إسحاق في التبصرة إلى خلاف فيه فقال: لا يجوز على الصحيح ثم قال: لا يجوز أن ينسب للشافعي ما يتخرج على قوله فيجعل قولا له على الأصح بناء على أن لازم المذهب ليس بمذهب. وقال صاحب الكنز من الحنفية: ويبطل الحد بموت المقذوف لا بالرجوع والعفو. وقال الشارح: أي يبطل الحد لأنه لا يورث عندنا، ولا خلاف في أنه فيه حق الشرع وحق العبد، فإنه شرع لدفع العار عن المقذوف.

وقال ابن تيمية من الحنابلة: والفقهاء من أصحابنا وغيرهم إذا خرجوا على قول عالم لوازم قوله وقياسه، فإما ألا يكون نص عليه ذلك لا بنفي ولا بإثبات، فإذا نص على نفي فإما أن ينص على لزومه أو لم ينص، إذا كان قد نص على نفي ذلك اللازم وخرجوا عنه خلاف المنصوص عليه إلى آخره.

والتحقيق أن هذا قياس قوله، ولازم قوله فليس بمنزلة المذهب المنصوص عنه، ولا أيضا ما ليس بلازم قوله بل هو منزلة بين المنزلتين، هذا حيث أمكن ألا يلازمه.

وقال الطوفي: إذا نص المجتهد على حكم مسألة لعلة بينها فمذهبه في كل مسألة وجدت فيها تلك العلة كمذهبه فيها، لأن الحكم يتبع العلة فيوجد حيث وجدت.

وبالجملة يا ترى إذا نص المجتهد على حكم مسألة ولم يبين العلة فلا يحكم بحكم تلك المسألة في غيرها من المسائل وإن أشبهتها – يعني المسألة المنصوص عليها وغيرها – في الصورة. وجهة لأن ذلك إثبات مذهب له بالقياس بغير جامع، ولجواز ظهور الفرق للمجتهد لو عرضت عليه لجاز أن يظهر له الفرق بينهما فيثبت الحكم فيما نص عليه دون غيره.

وبالجملة في الحقيقة إن كل مسألة الآن مستجدة هي تعتبر نازلة، ولكن ربما ما فاتنا ونستدركه في نهاية هذا المؤتمر المبارك، هل يمكن أن نخرج على غير مذهب في وقت واحد أم لا؟ يعني هو ما أشير إليه بالتلفيق بين المذاهب.

ص: 640

على أي حال هذه النوازل كما ذكرنا هي فقه تخريج على المذاهب، ولكن ما ينبغي أن نصل إليه هل نخرج على غير مذهب في وقت واحد؟ هذا ما نسأله أو نطرحه على أنفسنا، وإن شاء الله يتابع البحث أو نجد الإجابة عند إخواننا.

وشكرا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله.

الشيخ حمداتي شبيهنا ماء العينين:

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الحقيق أن تدخلي كان سيكون على البحوث بإيجاز في استفسار عن بعض النقاط، ولكن جرني الشيخ ناصر بن سليمان إلى أن أعطى بعض التوضيحات.

أولا: المغرب والحمد لله دولة إسلامية معروفة بتمسكها بالإسلام بكل مبادئه، فعليها أمير المؤمنين وهو الحارس والساهر على تطبيق الشريعة الإسلامية وعلى رعاية الإسلام وصد كل ما يهدده من أي جهة كانت ومهما بلغ ذلك من ثمن. . ففي سنة 1913 م عندما فرضت الحماية على المغرب وكان من بين النصوص التي وردت فيها هو تنظيم تلك القوانين والإدارة كان الملك – وهو الحمد لله من نفس السلالة – قد ألح على أن تكون تلك القوانين مأخوذة من صلب الشريعة الإسلامية، وقد صدرت مذكرة إيضاحية طبعت في الجريدة الرسمية المغربية سنة 1913 م باللغة الفرنسية تبين النسبة المئوية لكل فصل من فصول العقود والالتزامات، النسبة التي أخذ فيها من أصول إسلامية، حقيقة لم تتقيد في كل نصوصها بالمذهب المالكي، بل فيه الكثير من المذهب الحنفي نظرا لأنها تأثرت بالمجلة التركية، وفيها غير ذلك من مختلف المذاهب، والمجلة موجودة ومن أراد الاطلاع عليها فهي موجودة ومحفوظة ومكتوبة بتاريخها في الجرائد الرسمية التي كان يشرف عليها ضابط فرنسي آنذاك.

سنة 1959 م بعد الاستقلال بثلاث سنوات جمع محمد الخامس جماعة جعل على رأسها المرحوم علال الفاسي، من نخبة علماء المغرب، وألزمهم بإعداد قانون للأحوال الشخصية ومراجعة القانون المدني حتى يعرف ما فيه مما لا يستجيب لروح الشريعة الإسلامية ليزال، فكتب تقرير عن هذا ونشر آنذاك أيضا بحيث من أراد الاطلاع عليه فهو موجود. وقد كتبت رسالتي للدكتوراة على تأثر مصادر الالتزام في القانون المغربي بالفقه الإسلامي. إذن فنحن الحمد لله بخير وعلى خير من هذه الناحية.

منذ سنتين جمع الحسن الثاني مجموعة من العلماء، وكنت كتلميذ من بينهم على أن يراجعوا مدونة الأحوال الشخصية فيما يرجع لما تطالب به منظمات النساء المغربيات ومن بينهن المتطرفات فقال بالنص: انظروا في الفقه المالكي ما وجدتم فيه مما ييسر لكم الفتوى فاقتبسوه وإن وجدتموه في مذهب آخر فمذهب أهل السنة واحد. وقال: نحن نشدد في شىء واحد هو أن تكون النصوص مقتبسة من الشريعة الإسلامية وألا يطبق على المغرب أى نص لا يستجيب للشريعة الإسلامية. هذا ولله الحمد من حيث التطبيقات الشرعية والممارسة الإسلامية في بلادنا. التاريخ مليء بالصراع بين الطوائف الإسلامية، وبين المذاهب الإسلامية، وبين الدول الإسلامية، فلا فائدة من إحياء هذه المشاكل في بحوثنا اليوم، ونحن نريد أن نجعل نوعا من التقارب بين المتباعد. الإسلام فرقه الخلاف بين كل الدول الإسلامية وبين الطوائف الإسلامية، وفرقته التيارات الأجنبية التي دخلت عليه، ومجمعكم هذا جمع من أجل أن يتلافى نتائج تلك المخالفات. فعلينا في بحثونا أن نكون حذرين من كل ما يثير تشنجًا عند دولة إسلامية، لا حق لنا لأن مجمعنا ليس سياسيا، من أراد أن يتكلم بكلام دولته سياسيا فليعد بذلك إلى وزير خارجيته ويثير ذلك في مؤتمر وزراء الخارجية، أما نحن فعلماء ندرس ما يمكن أن يقارب بين مذاهبنا وبين طوائفنا وبين مجتمعاتنا.

ص: 641

تمسكنا بالمذهب المالكي لا تعصبا ضد مذاهب أهل السنة ولا خدشا فيهم ولا تضعيفا لما عندهم، ولكن أردنا به أن تكون جماعة المسلمين في ذلك القطر الذي هو أبعد أقطار العالم الإسلامي، والذي هو محفوف بالدول الأوروبية وأمريكا أردنا أن تكون جماعة المسلمين على مذهب واحد، وأن تكون موحدة في بحوثها ووجدانها وفي تطلعها وفي ممارستها، ولكن نمتاز بشيء آخر في بحثونا الجامعية وفي كتاباتنا وفي أنديتنا؛ نحن نتكلم كأننا من أتباع المذهب الحنفي أو الحنبلي أو الشافعي، وحتى إننا منذ ثلاث سنوات كان جلالة الملك عقد مجلسا ودعا نخبة من علماء إيران وعين لهم جماعة من العلماء – كنت من بينهم – للتقارب بين المذاهب. وأن ننظر فيما يمكن أن يجمع بين أهل السنة وأهل الشيعة حتى يكون الإسلام في مواجهة خصومة موحدا.

ولهذا لا أطيل وإن كان الكلام كثيرا في هذا الموضوع، هذا البحث يرجع لصاحبه حتى يزيل كل كلمة يمكن أن تثير حساسية للمغرب؛ لأنه عندما يقال المغرب ويسكت تذهب إلى بلادي، وعندما يقال المغرب العربي أكون معنيا، ولكن في مجموعة من الدول وهنا اللفظ أتى للمغرب، وأقول أنه منذ ستة قرون لا يوجد في المغرب غير أهل السنة والمذهب المالكي. يزال ما فيه مما يثير الحساسية ولا ينشر في المجلة إلا إذا أزيل منه ذلك وإلا فإن المغرب يحتفظ بحقه في الرد القوي عند المناسبة.

ثانيا: الناحية الثانية تعني البحوث، وإن كنت سأصرف النظر عنها وأكتفي الآن بهذا الرد. وشكرًا.

الشيخ محمد الحاج الناصر:

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

وبعد؛ ألفت إلى شيء واحد وهو أننا منذ الأمس نستمع إلى بحوث فيها الكثير من الجيد القيم لكنها تتفق في شيء واحد للأسف، وهي أنها تصدر عن اعتماد أقوال المجتهدين، فإن ألمّ بعضها على استحياء حديث أو آية كان إلماما عارضا، وما كلفنا الله – سبحانه وتعالى – إلا باعتماد القرآن والسنة، هما مصدر التشريع وما بعدهما من اجتهادات ليست مصادر للتشريع، وإنما هي تأويلات للكتاب والسنة، قد يصيب أصحابها وقد يخطئون، لا أستثنى أحدا حتى الأئمة الأول الصدور فقد كانوا يقولون:"إذا ثبت الحديث ومخالف لما قلناه فارجعوا إلى الحديث "، ومن شك في ذلك فيرجع إلى ما ذكره ابن القيم في إعلام الموقعين منقولا عنهم واحدا واحدا، وكان أحمد بن حنبل – رحمه الله – وهو من هو، تقوى ورواية للحديث وإحاطة بالفقه ذكر حديثا بمحضر أحدهم فقال أحد الحاضرين:"قال فلان "، فضربه أحمد وقال له:"ويلك، أقول لك: قال رسول الله وتقول لي: قال فلان؟ ".

الذي يجب أن نقتدي به ونرجع إليه هو الاستفادة من مناهج الأئمة الأول في فهم القرآن والسنة، أما ما انتهت إليه الاجتهادات فقد نشأت في ضمن مؤثرات بيئية ومؤثرات حياتية ومؤثرات سياسية تجاوزها البشر اليوم في تطوره الحضاري لدرجة أنه أوشك أن تنقطع العلاقة بين تلك العهود وهذه العهود في ظروفها الحياتية. لذلك كنت أعجب بالأمس وأنا أسمع المحاورات هل عقد الصيانة عقد جعالة أم عقد إيجار أم عقد حراسة؟ لماذا لا نسميه عقد الصيانة ونبحث له عن حكم من كتاب الله وسنة رسوله أولا، ونستأنس بما قاله العلماء من بعد استئناسا على أن نصدر من كتاب الله سنة رسوله؛ لأنه لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذه العقود التي حاولوا اعتمادها وإجبار وإرغام عقد الصيانة أن يدخل تحت مظلة أحدهم وحمياتها؟. يرحمكم الله تذكروا أن الله يسألكم يوم القيامة عن كتابه وسنة رسوله، تذكروا أن الكتاب والسنة هما المصدران الوحيدان للتشريع، واصدروا عنهما بما شئتم لكن الزموا معالمهما.

وشكرا، والسلام عليكم.

ص: 642

الشبخ عبد الوهاب أبو سليمان:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العاملين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

السيد الرئيس؛

أصحاب الفضيلة؛

قدمت لنا هذه البحوث القيمة وكان من بينها رصد العلم الرزين الذي قدمه الشيخ محمد الحاج الناصر عن بحث فضيلة الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي، وكنت أتمنى أن يكون مع كل بحث مثل هذا التعقيب ليوفر الكثير من الوقت ومن الجهد، فكان رصدا علميا، وأنا أرصد ما رصده وعلى طريقة بعض الأدباء المكيين الذين نقدوا الأدباء فألفوا كتاب (المرصاد) ، فتعليقه المرصاد، وجاء أديب مكي آخر فكتب (مرصاد المرصاد) . فأنا أقول لفضيلة الشيخ محمد الحاج الناصر: هذه الملاحظات قيمة ولكن فيما يبدو لي أنه فاتته نقطة واحدة تلك هي مطابقة العنوان للمضمون. وهذا ما كنت أبحث عنه بحرص وإصرار فيما قرأته من البحوث، الاستفادة من النوازل في القضايا المعاصرة، ولذلك هذه النقطة أو هذا العنصر هو الذي سيكون محور دراستي لما استطعت أن أدرسه وأبحثه.

العنوان العام للموضوع هو (الاستفادة من النوازل والفتاوى والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرة) ، لا أظن أن المجمع وضع هذا العنوان لنعرف – ولا شك أن هذا من الضروري – تعريف الفتوى والقضاء والنازلة والواقعة

إلخ، لا شك هذه مطلوبة ولكن أن ندخل في أعماق موضوع الفتوى ونعطي كل الثقل والاهتمام بآداب الفتوى والعناصر التي تذكر في آداب الفتوى في حين أن كيفيه الاستفادة من هذا الكنز النفيس والتراث الفقهي العظيم يكون مفقودا ضمن بعض هذه البحوث، ولذلك سأركز على البحوث التي وجدت فيها بغيتي وأنا أتطلع وكل واحد يتطلع لهذا الجانب وهو كيفية الاستفادة طلب الإفادة من كتب الإفتاء الكثيرة العظيمة والمدونات الكبيرة التي تملأ مكتبتنا الفقهية.

أول ما أبدأ به فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه – حفظه الله – قرر ضمن ما قرره في بحثه تعليقا على كتاب (المعيار) وهو صادق على كل كتب الفتوى بأنه سجل تاريخي واجتماعي واقتصادي، أضيف إلى هذا (وفقهي) الذي هو الأصل وليس استدراكا عليه وإنما هو أيضا سجل فقهي. كتب الفتوى ولا شك وهذا كلام صادق ونوه بما فيها كثير من المفكرين المسلمين والفلسفيين أمثال الدكتور سامي النشار على أساس أن نستفيد من هذه الفتوى جوانب عديدة.

تميز بحث فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه أنه في بحثه وإن كان جاء هذا من دون إعطائه البروز القوي منهج الإفادة من كتب الفتاوى، وكان موفقا كل التوفيق في هذا، وإن كان هذا المنهج قصره على كتب المذهب المالكي، والشيء الذي أستغرب له أن بعض البحوث – وهذا أظن أنه من بعض وظائفنا – البحوث الجديدة المهمة والقيمة التي كتبت في هذا الموضوع، وبيان درجة كتب الفتاوى من بين كتب الفقه بحوث قيمة أعدها الزميل الأستاذ الدكتور محمد إبراهيم علي، ولم أجد أي باحث أشار إليها، المذهب عند الشافعية، المذهب عند الحنفية، المصطلح عند المالكية، وكان يضع كتب الفتوى من بين كتب الفقه على حسب ما تعارف عليه الفقهاء. فهنا الشيخ عبد الله بن بيه - جزاه الله خيرا – سد هذه الثغرة عند المالكية فقط الجانب المهم الذي يتوخاه كل قارئ في هذه البحوث هو كيفية الاستفادة من هذه الفتاوى.

ص: 643

أولا: الشيخ ابن القيم – رحمه الله تعالى– تكلم عن كيفية الاستفادة من الفتوى وإلى أي مدى، قال:"من أفتى الناس بفتوى واحدة على اختلاف طبائعهم واختلاف بلدانهم وأعمارهم أضر على الدين من طبيب يعالج الناس على اختلاف أعمارهم واختلاف بلدانهم واختلاف أمزجتهم بدواء واحد "، فهنا يأتي إذا كان النظر للفتوى ما هي كيفية الاستفادة منها؟

الشيخ عبد الله – جزاه الله خيرا – صنف الفتاوى تصنيفا، أو طريقة الاستفادة منها.

أولًا: التصنيف الموضوعي المعتمد على الكتاب والسنة لأنه من دون تصنيف وتنظيم لا يمكن أن تتم الفائدة.

ثانيا: استخراج القواعد والضوابط والأسس، وهذا شيء مهم جدا وهو أول ما يجب أن نستفيد منه.

ثم بعد ذلك قال: "الطريق الثالث: البحث عن القضايا التي تشبه القضايا المعاصرة، وهل نعطيها حكمها؟ "فهو تكلم أن هذا الجانب هو الذي يهمنا كثيرا، فقال:"من أجل أن نستدرك ليس المقصود أن ننزل تلك الأحكام والفتاوى على قضايانا المعاصرة كما هي وإلا وقعنا في المحظور الذي حذر منه الشيخ ابن القيم – رحمه الله تعالى – فيقول بالنص: "إذا أن المقصود إثارة الموضوع ليعلم أن له شواهد في النوازل تبيحه أو تحرمه أو تحكي الخلاف فيه، وهو أمر سيتيح للفقيه عندما يعالج أيا من هذه النوازل سندا يستند إليه ليرجح الخلاف على أساس من المرجحات، ويكفيه منقبة لهذا الخلاف أنه يرفع عن الباحث إصر مخالفة الإجماع ويسلكه في مسلكه الاتباع ".

هذه الأسطر مهمة جدا، وأعتقد أنها تحتاج إلى تحليل كبير جدا، لأنه يبين أن اطلاعه على فتاوى من قبله في نفس الموضوع سيتلافى بها مخالفة الإجماع إلى آخر ما ذكره.

هذا ما أردت أن أقوله عن بحث الشيخ عبد الله بن بيه – جزاه الله خيرا – وهو في صلب الموضوع حيث يتطابق العنوان مع المضمون، وحديثه عن العمل ومتى يؤخذ بالعمل، هذا كله في منهج الإفادة من كتب الفتاوى.

أنتقل إلى بحث الدكتور محمد سليمان الأشقر (سبل الاستفادة من النوازل والفتاوى) ، تعرض لمقدمات، ولكن الذي يهمني والذي كنت أتوخاه وأتحراه ويتحراه كل مطالع لهذه البحوث هو ما جاء في بحثه تحت عنوان:(النظر في الاجتهادات الفقهية الصادرة عن العلماء المتقدمين، وموقعه من فقه النوازل) : واستمر في عدة صفحات إلى أن يأتي إلى أثر فقه النوازل في نمو الثروة الفقهية الإسلامية. وأرى بين هذين البحثين تكاملا وأنهما يكملان موضوع العنوان.

بعد هذا أنتقل إلى بحث صاحب السماحة آية الله الشيخ محمد علي التسخيري، أقف قليلا عند العنوان (سبل الاستفادة من النوازل والفتاوى والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرة "العمل الحكومي ") . لعلي فهمت من هذا البحث أو من عنوان:(العمل الحكومي) ولاية الفقيه، لأن البحث – إن صح وصدق هذا الفهم – فهو يتكلم عن ولاية الفقيه، ولا غبار على ذلك.

أنتقل بعد ذلك إلى ما كتبه حيث إنه تكلم سماحته – جزاه الله خيرا – وأثار موضوعا قل من يتعرض له وهو تشخيص موقف الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا الموضوع تطرق إليه كبار الفقهاء، والواقع أنه أضاف إلى ما أعرفه عن هذا الموضوع إضافات جيدة جدا. الشيء الذي أود أن أقوله هو ليته تمم هذه الإضافات. الإمام القرافي في كتابه:(الإحكام في الفرق بين الفتاوى والأحكام) شخص موقف الرسول عليه الصلاة والسلام في خمسة مواقف، وابن السبكي وبعض الفقهاء تعرضوا لهذا، ولكن أظن الذي أفاض وأضاف إضافات عديدة جدا لتشخيص موقف الرسول صلى الله عليه وسلم العلامة الكبير الطاهر بن عاشور في كتابه (المقاصد) ، وقد نبهني إلى هذا صاحب المساحة فضيلة الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة – حفظه الله – فلقد أوصل الطاهر بن عاشور – وقد قرأت هذا الكتاب بتمعن – تشخيص موقف الرسول صلى الله عليه وسلم – أظن والله أعلم – إلى اثني عشر موقفا أو خمسة عشرة موقفا، تضاف إلى تشخيص موقف الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم اختلاف تباين التشريع، ما الذي يمكن أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم فيه مشرعا، وما الذي يكون فيه واليا ومنفذا إلى آخره؟. فعلى أي حال على اختلاف تشخيص موقف الرسول صلى الله عليه وسلم تختلف الأحكام.

ص: 644

وأود أن أنوه إلى جانب أن الكثيرين الذين كتبوا في أسباب اختلاف الفقهاء للأسف حتى آخر كتبه كتبت عن هذا لم ينوه أحد أن من أسباب اختلاف الفقهاء تشخيص موقف الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو سبب جوهري للخلاف بين كافة المذاهب لم يتعرض له أحد حتى الوقت الحاضر فيما أقرأ من بحوث ورسائل.

تعرض سماحة الشيخ محمد علي التسخيري لهذا في بحثه حيث يقول: "إن أي أمر يمكن أن يصدر من الحاكم الشرعي حتى لو كانت المنطقة المباحة فضلا عن المنطقة الإلزامية هو حكم إلهي ليس لأحد أن يحكم بخلافه، وبهذا لا يبقى أي مجال لنفوذ حكم الحاكم الشرعي) ؛ كون الحاكم الشرعي حكمه حكم إلهي ما أدري كيف أوفق بين هذا وبين حديث صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم خاطب أحد قادة الغزو:((وإذا عاهدت فأنزلهم على حكمك ولا تنزلهم على حكم الله)) ، وذلك لأنه لو جعل ذلك حكم الله لربما كان مخطئا، فكيف يكون حكم الحاكم حكما إلهيا؟ وإلا معنى ذلك أصبح للحكام تلك القداسات ولا يمكن أن نرفع أصبعنا بأي اعتراض، فهذه أشكلت علي.

في مكان آخر يقول: "إن الحكومة وهي شعبة من الولاية المطلقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم هي إحدى الأحكام الأولية والمقدمة على كل الأحكام الفرعية حتى الصلاة والصوم والحج ". أظن الصوم والصلاة والحج ليست أحكاما فرعية، هي فرعية كناحية فقهية ولكن هي أركان، فكيف أقول: إن الحكومة هي شعبة من الولاية المطلقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. على أي حال الولاية باعتبار أنها حكم إلهي أما هذا فأنا على الأقل ليست مقتنعا بهذا.

الرئيس: بني الإسلام على خمس.

الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان:

هي إحدى الأحكام الأولية والمقدمة على كل الأحكام الفرعية حتى الصلاة والصوم والحج هذا يمثل إشكالا كبيرا في ذهني.

وذكر موضوع تزاحم الأحكام. تزاحم الأحكام في الحقيقة أن آية الله – جزاه الله خيرا – حلل هذا وبينه، فقال:"الأحكام الإلهية قد تتزاحم "يمكن أن أقول: الأحكام الإلهية قد تتزاحم على المكلف ولكن الأحكام الإلهية لا تتزاحم، وإن جاء التمثيل بأن هناك الواجب المضيق والواجب الموسع فعندئذ يقدم الواجب المضيق على الواجب الموسع، لكن عندنا كما يقولون: الحقوق لا تتزاحم والأحكام لا تتزاحم. هذا شيء.

الشيء الثاني في نفس الصفحة وأعتقد أن هذه تحتاج إلى نقاش طويل ولابد أن نفهم هذا؛ لأنها هي نقطة تهمنا جميعا، يقول كتمثيل للأحكام التي تتزاحم: "بل يمكن القول بأن الحكم الشرعي عندما يجد أن تطبيق حكم شرعي معين قد يؤدي إلى نتائج عكسية كبرى نتيجة لظروف خاصة، كما في مسألة تطبيق مسألة (الرجم) اليوم مع وجود معارضة عالمية وضجة مفتعلة قد تؤدي إلى القضاء على وجود الدولة وكيانها، فإن بإمكانه تنفيذ قوانين التزاحم وتقديم الأهم على المهم بالانتقال إلى عقاب أكثر قبولا يرفع به هذا التزاحم طبعا، مع ملاحظة أن الحالة استثنائية وأنه يجب الالتزام الكامل بالحكم عن ارتفاع الضغط، وإلى هذا المعنى تعزى مسألة التدرج في إعطاء الأحكام في صدر الإسلام أو تدرج بعض الدول الإسلامية في تطبيق الأحكام الإسلامية لكي تتلافى الصدمة وتمهد للمستقبل) .

الواقع أننا دائما نتحدث ونمتدح صمود بعض الدول الإسلامية كالمملكة وكإيران وكبعض الدول الأخرى الإسلامية التي كانت لها مواقف مشرفة في بعض المؤتمرات العالمية، والتي كان لها دور كبير في تقييد أو إلغاء بعض الأشياء التي كانت تفرض على المسلمين، ثم هذه الدول التي تقف بشجاعتها أمام هذا التيار هل يمكن أن نطالبهم – وهم واجهات مشرفة في تمثيل أحكام الشريعة – أن يتهاونوا، وأنها حالة استثنائية، أو أن يقفوا الواقفة الجريئة الشجاعة أمام هؤلاء لأن هذا ديننا وهذا ما يأمرنا به، وإذا كنتم تحترمون الأديان فاحترموا ديننا ومبادئنا؟ فإذا أعطينا هذا المبرر للحكام استثناء فما أدري بعد ذلك متى يعود الحكم للإسلام؟ ومتى يعود تطبيق الإسلام ونحن دائما إلى الوراء وإلى الضعف؟.

فضيلة الشيخ يقول: " ولي الأمر وانتخاب الفتوى الملائمة ". الواقع صحيح أنه هو في بعض الصفحات فيها تطابق العنوان مع المضمون إلا أنه عندي سؤال، يقول:"ولي الأمر وانتخاب الفتوى الملائمة ": في أحد بحثونا الماضية التي طرحت حول مسألة التلفيق والأخذ بالرخص، قلنا بأن للفرد أن يأخذ بمسألة التلفيق بين الفتاوى بعد أن بنينا ذلك على عدم لزوم اتباع الأعلم في التقليد، وهي مسألة اختلفنا فيها مع المشهور بين علماء الأمامية واتفقنا فيها مع المشهور بين علماء المذاهب الأربعة ". هل فقهاء المذاهب الأربعة يقولون بالتلفيق؟ وإذا عرض الموضوع ولفق من كل مذهب قالوا: يجوز التلفيق بشرط أنه لو عرض على إمام واحد قبله، لكن لو عرض هذا التلفيق على إمام واحد ولم يقبله فعندئذ لا يقبل. إذن الموضوع إما أن يحتاج إلى تحديد أو إلى تقييد أو إلى تحرير.

ص: 645

فيما يتصل بالاستفادة من الفتوى يقول: (فإن للحاكم الشرعي لا بصفته يفتي لمقلديه بل بصفته يدير شؤون الأمة الإسلامية أن ينتخب هذه الفتوى ويحولها إلى حكم إلزامي تدار على أساس منها شؤون الأمة) ، إذن هنا الجانب الذي نستفيده من الفتوى في هذه الحالة، (ولكي يقرب الأمر إلى الذهن نلاحظ أن الباحث المسلم لكي يكتشف مذهبا حياتيا كالمذهب الاقتصادي الإسلامي أو المذهب الاجتماعي أو الحقوق أو غير ذلك، قد يجد فتاوى منسجمة مع بعضها لدى مفتين متعددين لكنها تشكل وجها واحدًا لخط عام منسجم وحينئذ فإنه يستطيع أن يطرح ذلك الخط كصورة اجتهادية عن المذهب المذكور) وبهذه النقاط الأخيرة يكون هناك تكامل بين بحث فضيلة الشيخ محمد علي التسخيري وفضيلة الشيخ عبد الله بن بيه وفضيلة الدكتور محمد سليمان الأشقر.

وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الشبخ عبد السلام الباسم:

بسم الله الرحمن الرحيم

الذي أردت أن أقوله؛ قاله الشيخ محمد الحاج الناصر وذلك في أحد شقيه.

الشيخ أحمد الشيباني:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد؛

فإني أشكر الباحثين على بحوثهم القيمة، كما أشكر عارض البحوث على ما قام به وقام به الباحثون، وعندي ملاحظتين:

الملاحظة الأولى: حول ملاحظات الشيخ محمد الحاج الناصر على بحث الدكتور عبد الوهاب الديلمي، حيث ذكر في خاتمة بحثه: أما تعيين الصوم في كفارة رمضان على الموسر فليس يبعد إذا أدى إليه اجتهاد مجتهد وليس ذلك من باب وضع الشرع بالرأي، بل هو من باب الاجتهاد بحسب المصلحة، أو من باب تخصيص العام المستفاد من ترك الاستفصال في حديث الأعرابي، وهو عام ضعيف فيخص بهذا اجتهاد المصلحي المناسب أقول وبالله التوفيق: إن أي مسألة في نظري وجد فيها الدليل الصحيح الواضح فلا سبيل للاجتهاد فيها، فحديث الأعرابي الذي رواه مالك في إحدى روايتيه ورواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – جاء فيه أن كفارة رمضان لها ثلاث مراحل: العتق وإذا لم يوجد فالصيام، فإذا لم يستطع فالإطعام، والأئمة الثلاثة (أبو حنيفة والشافعي وأحمد) جعلوا هذا الأنواع من الترتيب وليست على التخيير.

أما مالك – رحمه الله – فقال: إنها على التخيير معتمدا على رواية أخرى في الموطأ فيها التخيير أن رجلا أفطر في رمضان فقال له: أفعل كذا أو كذا و (أو) دائما تكون للتخيير عند الجمهور، وعليه فإنني لا أرى مجالا للاجتهاد في مسألة وجد فيها دليل ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أني قد بلغني أن أحد علماء الأندلس أفتى بوجوب الصوم على أمير وطئ زوجته أو جاريته في رمضان، وقال: إذا أفتيته بالعتق فإنه لكثرة ما عنده من الرقيق يفعل كل يوم ويعتق. ولكن علماء المالكية لم يسلموا. ومعنى ذلك أن الحكم في الكفارة شامل للغني والفقير .... والله أعلم.

ص: 646

الملاحظة الثانية: هي عبارة عن سؤال للدكتور الشيخ وهبة الزحيلى، فتكلم في بحثه عن التسعير وأتى بالحديث الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إن الله هو المسعر، القابض، الباسط، الرازق. . إلى آخره)) ، وهذا الحديث قال: إنه كان في زمن لم تكن الأسعار تتفاحش بالغلاء، وبعد ذلك جاز التسعير، وذكر أن فقهاء المدينة السبعة قالوا ذلك والإمام مالك والفقهاء

أنا لم أر فقهاء المدينة وأعرف أن مالكا عنده قولان لا قول واحد رواه عنه أشهب، الذي رواه عنه أشهب جواز التسعير، وذكر الباجي – رحمه الله – عند شرحه لهذا الحديث

في الموطأ لم يأتِ به إلا أثر عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع زبيبا له في السوق فقال: إما أن تزيد في السعر وإما أن ترفع عن سوقنا. هذا الموطأ حتى إن محمد بن الحسن الشيباني قال: وبهذا نقول فلا يجوز التسعير. الباجي عندما شرح قال: التسعير له نوعان، وأنه لا يلجأ إليه إلا في الضرورة عند المالكية، وقال: إنه لا يتناول إلا مسائل خاصة: أن يكون مقتصرا على ما يكال ويوزن كاللحوم والخضروات والزيتون والحبوب، أما غير ذلك فلا يتعلق بالتسعير. والشيء الذي أسأل عنه: هل علماء المدينة السبعة قالوا بهذا؟ هذا هو الذي أريد أن أعرفه. والله تعالى أعلم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الشيخ يوسف القرضاوي:

بسم الله الرحمن الرحيم

شكرًا سماحة الرئيس، والشكر موصول للإخوة الباحثين ولمن عرض بحوثهم الأخ الشيخ عبد الله بن بيه، وللإخوة المعقبين، وحديثي يتلخص في موضوع كنت أحسب أن الإخوة الذين كتبوا بحوثهم يتعرضون له. تعرض الشيخ وهبة الزحيلي إلى ضوابط الفتوى، وهناك أمر نحتاج إليه في عصرنا كثيرا وهو مزالق المتصدين للفتوى في عصرنا، وهذا أمر في غاية الأهمية والخطورة فقد رأينا فتاوى تحل الحرام وتحرم الحلال وتسقط الفرائض، حتى الأمور المجمع عليها والتي لا شائبة فيها مثل الربا وغير ذلك. ولذلك ينبغي أن ننبه إلى هذا المزالق الخطرة، وأستطيع أن أعدد بعض المزالق المهمة من استقرائي لما ينشر وما يذاع، فمن هذه المزالق الغفلة عن النصوص.

الأخ الشيخ الحاج الناصر يتحدث أن الأساس الكتاب والسنة، هناك أناس يفتون وهم في غفلة عما في الكتاب والسنة. الغفلة عن السنة هذا أمر واضح وشكا منه العلماء من قديم، عند الفقهاء أحاديث ضعيفة وأحاديث لا أصل لها، ولذلك كثيرا ما يقولون هذا من أحاديث الفقهاء، واضطر إمام كابن الجوزي أن يخرج أحاديث التعاليق في كتابه (التحقيق في أحاديث التعاليق) التعاليق الموجودة في كتب الفقه وأن ينقحه ابن عبد الهادي وأن تُخرج الكتب المشهورة في المذاهب مثل (الهداية) وقد تصدى لها جمال الدين الزيلعي في كتابه (نصب الراية) ، والحافظ ابن حجر في (تلخيص الحبير) إلى آخره.

فالسنة للأسف نجد كثيرين يغفلون عنها، إنما مع هذا وجد من يغفل حتى عن القرآن يعني أفتى بعض الإخوة وفي بعض البلاد بجواز أن يلحق الإنسان اللقيط بنسبه ويصبح واحدا من الأسرة وقالوا: هذا جائز والفقهاء جوزوا الاستحقاق. ولكن جواز الاستحقاق إذا كان هناك شبهة أو وطء بشبهة حتى إن ابن تيمية وابن القيم أجاز الاستحقاق بالزنا، إنما إذا لم يكن هناك أي شيء فهذا هو التبني المحرم شرعا {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} [الأحزاب: 4] ، فهناك الغفلة حتى نصوص القرآن فما بالك بالسنة!!.

ص: 647

كتب أحدهم في إحدى الصحف عن التكشف والتبرج واللبس القصير وكشف الذراعين والصدر والشعر وغير ذلك، وقال: هذا وإن كان محرما فهو من الصغائر التي تكفرها الصلوات

إلى آخره. مع أن هناك الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة: ((صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات، عاريات، مميلات، مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة. لا يدخلن الجنة ولا يجدون ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)) ، فهؤلاء الذين حكم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم من أهل النار وأنهن لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها. لا يمكن أن يكون هذا في صغيرة، على أن العلماء قالوا: لا صغيرة مع إصرار، فالتي تفعل هذا باستمرار لا يمكن أن تظل صغيرة. فالغفلة عن النصوص

ومن ناحية أخرى هناك من يجاوزون الإجماع، والإجماع المتيقن. هناك إجماع غير متيقن، هناك دعاوى إجماع كثيرة مع ثبوت الخلاف، إنما هناك إجماع متيقن وإجماع مقرون بالعمل واستقرت عليه الأمة، مثل زواج المسلمة بغير المسلم، للأسف نجد من أجاز أن تتزوج المسلمة غير المسلم، وقال: لا يوجد نص صريح في الكتاب والسنة. ويكفي الإجماع أن الأمة أجمعت بكل مذاهبها وطوائفها واستقر العمل على ذلك أربعة عشر قرنا، ولا بد لهذا الإجماع من سند كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: لا يوجد إجماع حقيقي إلا ووراءه سند، علمه من علمه وجهله من جهله. ثم هناك أيضا القياس على غير أصل.

كتب بعضهم في بعض الصحب يقولون لماذا تنكرون على الحكومات أخذ الفوائد وغير ذلك وهذا مقيس على أنه لا ربا بين الوالد وولده فكذلك لا ربا بين الحكومة والشعب. وهذا الشيء الذي قاس عليه ليس كتابا ولا سنة، ليس أصلا متفق عليه حتى يقاس عليه، ولو فرض أنه أصل فهو قياس مع الفارق، لأن الولد فيه حديث "أنت ومالك لأبيك "ولم يرد "أنت ومالك للحكومة "!! فهذا القياس على غير أصل.

هناك أيضا الذين يغفلون المقاصد الشرعية ولا يبالون بمقاصد الشرع كأولئك الذين ظهروا في لبنان وفي غيرها يعرفهم الشيخ خليل الميس الذين يسمون (الأحباش) ، ويقولون بأن النقود الورقية لا تجب فيها الزكاة ولا يجري فيها ربا، لأن النقود الشرعية هي الذهب والفضة. أي ظاهرية؟! أي حرفية؟! أي جمود؟! وإذا سقطت الزكاة عن النقود في ماذا تجب الزكاة؟! في البحرين هنا لا زكاة لأنه لا يوجد لا إبل ولا بقر ولا غنم ولا زروع ولا ثمار، وكذلك في الدوحة وفي جدة والكويت ودبي ومعظم المدن الكبرى التي فيها المليارات، إذن لا تجب فيها الزكاة ولا يجري الربا!! هذه غرائب، وبعض العلماء الكبار يقعون في مثل هذا.

لا داعي على أن أذكر بعض أسماء رجال الحديث الكبار في عصرنا الذين يقولون بعدم وجوب الزكاة في التجارة – هذا أمر غريب – إلا إذا نضت، يعني إذا سيلت. ومعروف أن في عصرنا قلما تنض أموال التجار، قلما تسيل. الآن في عصرنا الحاضر كله ما شي على العمليات الائتمانية، فالتاجر ليس عنده نقود، كلها تستمر بضاعة مع بضاعة

إلى آخره. فكيف نعفي هؤلاء من الزكاة؟! فاعتبار المقاصد هذا أمر مهم.

أمر آخر أيضا وهو مراعاة الواقع بما فيه فقه الواقع وهو الذي ذكره الإمام ابن القيم حينما قال: الفقيه هو من يزاوج بين الواجب والواقع، فلا تعيش أبدا فيما يجب أن يكون ولكن فيما كائن أيضا. قال هذا وهو يشرح كلمة الإمام أحمد فيما يجب على المفتي أن يتصف به، وهي صفات خمس: العلم والسكينة والحلم والكفاية ومعرفة الناس. فقال: "معرفة الناس "يعني ينبغي أن يعرف الواقع بما فيه.

ص: 648

وفي عصرنا يجب أن يعرف الواقع بما يمر فيه من تيارات وأحداث تتغير. وعملية التغير في الزمان والمكان والإنسان هذه أمور مهمة.

أعجبني في كلام الشيخ الضرير بالأمس حيث يقول: يجب أن ندقق فيما يقوله العلماء، أحيانا نقول العلماء قالوا كذا، إنما هل العلماء حينما قالوا، قالوا في مثل هذه الواقعة؟ وهل الواقعة في زمنهم كانت بحجم الواقعة في زماننا؟ وهل لها ملابسات مثل هذه الملابسات؟ وهل لها آثار مثل هذه الآثار؟ يجب أن نراعي الزمان والمكان والحال كما قال الإمام ابن القيم في (إعلامه) ، وكما قال القرافي في (إحكامه) ، وكما قاله في (فروقه) أيضا، وقاله ابن عابدين في رسالته المعروفة (نشر العرف فيما بني من الأحكام على العرف)، وقالتها مجلة (الأحكام العدلية) في المادة التاسعة والثلاثين منها: لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان. إن كنت أود أن يقول: الأحكام الاجتهادية أو الأحكام الظنية أو غير ذلك حتى لا يشتمل كل الأحكام، وأيضا تتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال كما ذكر الإمام ابن القيم، وكانت عبارته أدق وأعمق حينما قال:(الفتوى) ولم يقل (الأحكام) ، أي تنزيل الحكم على الوقائع هو الذي يتغير بتغير الزمان والمكان.

كذلك أيضا اعتبار المصالح الملغاة، إلى آخره، لابد أن أطيل ولكن أريد أن أنبه على هذه المزالق الخطرة التي يقع فيها الذين يتعرضون للفتوى في عصرنا وخصوصا أن عصرنا تذاع فيه الفتاوى وتنشر ويعرفها الناس، وقد قال النبي صلى الله عيه وسلم فيمن أفتوا لرجل عنده جراحة أفتوه بأن يغتسل فاغتسل الرجل فمات من جراحته، تفاقمت الجراحة عليه فمات، فقال صلى الله عليه وسلم:((قتلوه قتلهم الله، هلا سألوا إذا لم يعلموا)) اعتبرهم قتلة، ودعا عليهم ((قتلواه قتلهم الله، هلا سألوا إذا لم يعلموا، فإنما كان يكفيه أن يعصب على جرحه ويتيمم

)) إلى آخر. فمن الفتاوى ما يقتل، ومن الفتاوى ما لا يقتل فردا فقط بل ربما يقتل مجتمعا بأسره.

أسأل الله تعالى أن يهدينا سواء السبيل وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 649

الشيخ عبد اللطيف الفرفور:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.

أتوجه بالشكر للباحثين وللسيد العارض، ولا داعي لتكرار ذلك فقد أصبح معروفا، والمعروف كالمشروط نصا، إنما أود أن أتحدث باختصار شديد عن نقاط مهمة.

البحث كله – فيما أرى – يدور حول محور واحد هو سبل الاستفادة من فقه النوازل والواقعات، ثم ألحق بها كلمة (الفتاوى) . فالفتاوى مصدر كبير يؤخذ منه النوازل والواقعات. والذي يبدو لي أن هذا منوط بإيجاد لجنة – هذا اقتراح – تحمل هذا المشروع فتصنع أولا موسوعة مذهبية في كل مذهب من المذاهب لفقه النوازل والواقعات، ثم تكلف لجنة أوسع منها بدمج هذه الموسوعات كلها في موسوعة واحدة مرتبة حسب الترتيب الأبجدي إن تيسر ذلك، وإن لم يتيسر نبقى على الموسوعات المذهبية حتى تتيسر الاستفادة من هذه الكنوز والذخائر الموجودة في المذاهب وهو ما يسمى بفقه النوازل والواقعات. وهذا شيء كثير مخبوء في كتب المذاهب وفي كتب الفتاوى أيضا. هذا مجرد اقتراح، فإن رأت الأمانة العامة ورئاسة المجمع الموقرة هذا الأمر فجزاهم الله كل خير وهذه مأثرة من مآثرهم.

هنالك قضية أخذ جواب واقعة أو نازلة تخريجا على واقعة أو نازلة أخرى تشبهها في مذهب آخر من المذاهب الفقهية المعتبرة المدونة. هذا ما توقف فيه بعض إخواني وزملائي على أنهم اجتهدوا في ذلك، فالذي أراه – والله أعلم – فيما يبدو لي ترجيح الجواز في أخذ الجواب واقعة أو نازلة من مذهب آخر ليخرج عليها جواب واقعة أو نازلة أخرى في المذهب الذي نحن فيه. فمثلا لا مانع أن يؤخذ جواب نازلة أو واقعة في المذهب الحنبلي ليخرج عليها مثل ذلك إذا كان هنالك نظيرها في أي مذهب آخر، هذا لا مانع منه؛ لأن المذاهب كلها إنما هي جداول من شريعة واحدة؛ وهي الشريعة المحمدية المطهرة (الإسلام) ، وما المذاهب إلا أغصان وفروع من هذه الدوحة الباسقة التي جذورها في الأرض وفرعها في السماء، وقد فعل مثل ذلك الأئمة –رضي الله عنهم – أئمة المذاهب، كما يروى عن أبي يوسف في قضية الحمام، قال:"نقلد فيها أخانا الشافعي "رضي الله عنهم وأرضاهم، وهذا كثير له نظائر وأمثلة لدى الأئمة الأولين من أئمة المذاهب – رضي الله عنهم.

ثم قضية أخرى هي قضية فقه النفس ومعرفة الواقع، وهذان شرطان متميزان ذكرهما إخوتى وزملائي الأعزاء من أهل العلم والفضل وإني خادمهم، أقول بهما وأزيد أنه لا يجوز أن يتكلم في الفتيا وأن يتصدر لها من ليس متخصصا في الفقه الإسلامي وأصوله، ومن لم يقرأ على العلماء ومن لم يصاحب الأشياخ وليست له إجازات معتبرة خاصة وعامة، فقد أصبحنا اليوم ونحن في عصر يتكلم في الدين وفي الفتيا من هب ودب، من يصلح ومن لا يصلح، المتخصص وغير المتخصص، بل ربما تكلم في ذلك أناس لا علاقة لهم بالعلوم الإسلامية أبدا، ولم يدرسوها لا على أستاذ ولا في كونية بحتة، كل ما لديهم ثقافة عامة مبتسرة ينطلقون منها نحو الفتيا وهذا أخطر شيء، فمن تصدر للفتيا وهو ليس أهلا لها كان آثما شرعا، ويحجر عليه وهو من يسمى بالمفتي الماجن والطبيب الجاهل والمكاري المفلس، كما تعلمون أيها السادة العلماء، فالتخصص شرط بالإضافة إلى فقه النفس ومعرفة الواقع.

هذا الشرط أردت أن أزيده على ما تفضل به إخواني العلماء، جزاهم الله خيرا، وذاكرت أخي الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان – حفظه الله – في قضية تشخيص عمل النبي صلى الله عليه وسلم وتصرفاته الكريمة فقلت لعلك تريد كتاب (الإحكام في تمييز الفتاوى عن الإحكام وحكم تصرفات الإمام) لشهاب الدين القرافي، فقال: نعم، وهو مطبوع محقق، وهو أصل فيما ذهب إليه فضيلته – جزاه الله عنا كل خير -.

وأما كتب الواقعات والنوازل فكثيرة جدا في جميع في المذهب الحنفي يما يظهر لي، فالكثرة موجودة متوفرة في المذاهب كلها، أما المذهب الحنفي فربما تميز بالكثرة الكاثرة، لأنه كان مذهب الدولة في كثير من العصور كالعصر العباسي والعصر التركي وما شاكل ذلك فكثرت فيه كتب النوازل والواقعات والفتاوى. وكتب الفتاوى مهمة جدا في هذا الموضوع وتعتبر أصلا على أساس أن الفتوى قد تكون نازلة وقد لا تكون. فليست كل فتوى بنازلة أو واقعة – كما نعلم جميعا – وإنما النازلة فتوى، والواقعة كذلك فتوى، والفتوى تعم النازلة والواقعة وتشمل غيرهما.

والله تعالى أعلم، وشكرا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 650

الشيخ حمزة الفعر:

بسم الله الرحمن الرحيم

أشكر لفضيلة الشيخ ابن بيه عرضه الذي قدمه، ولي ملاحظة من خلال قراءاتي للأبحاث المعروضة والتعقيبات. أبدؤها بالتعقيب الذي قدمه الأستاذ الناصر على بحث الدكتور عبد الوهاب الديلمي / فالدكتور الديلمي استدل على الإفتاء والاجتهاد الجماعي الذي يعتمد التشاور بين المجتهدين، واستدل بالآيات التي فيه الأمر بالشورى نحو قوله تبارك وتعالى {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] ، وقوله تبارك وتعالى:{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] . قال الأستاذ الناصر: "لا يمكن فهم كلمة (الشورى) إلا في الأمور السياسية ". الحقيقة أن هذا الأمر لا يسلم لعدة أمور، لأن سبب النزول وإن كان في بعض الغزوات وفي أمور هي من قبيل السياسة كما ذكر الأستاذ إلا أن هذه الحادثة تتعلق بطاعة الله وطاعة رسوله الله صلى الله عليه وسلم، فهي من قبيل الأحكام حتى وإن كانت وردت في شأن من شؤون السياسة.

الأمر الثاني: أن كثيرا من الأحكام وردت على سبب خاص، ولكن العبرة – كما هو المعتمد عند جمهور العلماء – بعموم النص. والنص هنا يدل بعمومه على شمول أمور السياسة وغيرها، لأن قوله تبارك وتعالى:{وَشَاوِرْهُمْ} [آل عمران: 159] أمر تسلط على قضية الشورى التي ارتبط بقوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] اللفظ هنا قوله {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] لفظ مفرد اقترنت به الألف واللام الجنسية فهو صيغة من صيغ العموم، كما هو مقرر في أصول الفقه.

إضافة إلى أن الأستاذ الناصر قال: "إن الشورى من الأمور المندوبة "، وهو بذلك يرد على الباحث الذي يرى أن قوله تبارك وتعالى:{وَشَاوِرْهُمْ} [آل عمران: 159] أمر والأمر يقتضي الوجوب كما هو المقرر ما لم يصرفه صارف. يقول بأن هذه الشورى من قبيل الأمور المندوبة وليست من قبيل الأمور الواجبة والحقيقة أن هذا فيه مخالفة لظاهر اللفظ، لأن اللفظ كما قلنا الأمر، والأمر يقتضي الوجوب من ناحية، ومن ناحية أخرى قوله تبارك وتعالى:{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] هذا خبر لكنه يفيد الأمر لأنه يبين حال وشأن هذه الأمة.

ثم بعد ذلك أقاويل العلماء الثقات تدل على أن الشورى ليست من باب الأمور المندوبة، بل هي من عزائم الأمور كما ذكر الماوردي والقرطبي وغيرهما من علماء المسلمين قالوا: إن الشورى من عزائم الأمور، وهي تكون في الأمور الكبيرة وتكون في الأمور الصغيرة.

أحببت أن أبين هذه النقطة مع شكري للأستاذ الناصر على تتبعه لهذه الأبحاث التي كتب عنها، وأستمحيكم العذر.

والسلام عليكم ورحمة الله.

الشيخ عبد الستار أبو غدة:

بسم الله الرحمن الرحيم

أول ما أريد أن أشير إليه أن هذا الموضوع الذي هو الاستفادة من النوازل والفتاوى يفيد المجمع في تحقيق ما يصبو إليه من الحكم على المستجدات العصرية، والسبب في ذلك أن الفتاوى كانت ميدانا لبحوث الفقهاء، حيث تضيق كتب المدونات الدورية من متون وشروح وحواشي عن الإفاضة في التعرض للوقائع العملية إذ يتقيدون ببيان المسائل الفقهية وأدلتها وعلى سبيل النظر والتنظير، ولكن حينما يكتبون الفتاوى فإنهم يعالجون الوقائع القائمة، ولذلك نجد في كتب الفتاوى – التي فيها بسط طبعا وليس التي فيها اختصار وإيجاز – نجد فيها كثيرا من الحلول التي يستأنس بها في القضايا العصرية المستجدة.

ص: 651

وهذا الموضوع أيضا طرحه على هذا المستوى الذي تتعد فيه الاتجاهات المذهبية كما تلاحظون أنه غطيت المذاهب السبعة تقريبًا في عرض ما لديها يحقق جانبا من جوانب الوحدة العلمية التي طرح أمرها في اليوم الأول، وأن من أسباب تحقيق هذه الوحدة أن يطلع أهل كل مذهب أصحاب المذهب الآخر على ما عندهم من خصوصيات، وهذه الخصوصيات تتأكد في موضوع الترجيح والإفتاء.

الفقه العملي يختلف عن المسائل الفقهية – كما أشرت – لأن المسائل الفقهية لا يشترط أن تكون هناك حادثة أو واقعة، وأما الفتوى فلابد وأن تنصب على حادثة وواقعة وعلى حالة شخص يستفتى أو جهة تستفتي. وبهذا يختلف الفقه العملي عن الفقه التعليمي.

وبهذه المناسبة فإن هناك مستويات كثيرة من عرض الفقه الإسلامي، فهناك الكتب المدونة المعروفة، وهناك كتب الفتاوى التي تولى الأهمية للراجح من أقوال المذهب بحيث إن أحد الكتب الفقهية في المذاهب الحنفي ليس فيه أي فتوى من الفتاوى ولكنه سمي بـ (الفتاوى الهندية) لأنه تضمن ما يختار للفتوى وما هو أرجح من غيره، وكان هذا الكتاب عملًا جماعيًّا كما يعلم المختصون أنه كان بعناية من ملك من ملوك الهند المسلمين وهو:(أورنق ذيب) الذي كان يسمى: (عالم كبير) أي فاتح العالم لاهتمامه بنشر الدعوة الإسلامي في تلك القارة، هذا العالم جمع عددا من علماء الهند وأوجد تحت أيديهم مكتبة كبيرة، فاستخلصوا منها الراجح في المذهب الحنفي، وكان من ذلك الفتاوى الهندية.

في المذاهب الأخرى نجد موضوع العمل وخصوصا عند المالكية، فهناك العمل الفاسي بانلسبة لأهل فاس، وعمل أهل القيروان، وغير ذلك والعمل في الحقيقة يعتبر نوعا مبتكرا في تدوين الفقه لأنه يهتم بمعالجة الواقع العملي، فقد يكون فيه ترجيح لبعض الأقوال الضعيفة، ويكون فيه معالجة مباشرة لهذه الوقائع، والعمل لا يقترن بسلطة إلزامية وإنما هو التزام من علماء المذاهب أو علماء المذهب بأنهم يلتزمون ما رشح للعمل وأصبح يشكل سوابق تشبه السوابق القضائية التي يتعاقب عليها القضاة فتخرج منه مبادئ وقواعد تحترم بالالتزام.

ولكن هناك شيء آخر يحصل بالإلزام وهذا نجده في المذهب الحنفي حينما أبو السعود العمادي أحد كبار المفتين في الدولة العثمانية اختار من المذهب الحنفي كثيرا من المسائل التي تستحق أن ترجح ويعمل بها وسماها (المعروضات) ، وعرضها على السلطان في ذلك الزمن فقرنها بالإلزام وأصبحت ملزمة، وكأنها قانون مستمد من الفقه، وهذه المعروضات – معروضات أبي السعود – كثيرا ما ينقل منها العلامة ابن عابدين ويلتزم بها، وكان ينوه بأنها ملزمة لكل من جاء بعد ذلك السلطان، لأنه كما هو معلوم الأمر الذي يصدر من ولي الأمر يتغير أو يموت بموته ولابد لإلغائه أو تعديله من ولي أمر لاحق له.

فهذه المختارات الرسمية للعمل أيضا تعبر ميزة وتعبر أمرا مهما في الفقه العملي. وهذا يدعونا إلى الاهتمام بكتب الفتاوى. فكتب الفتاوى ما نشر منها إلا القليل، وكثير مما نشر منها الفتاوى فيه موجزة، ولكن هناك كتب للفتاوى فيها بحوث وبها مناقشات، وقد نشر بعض إخوانا شيئا منها، فالدكتور علي القره داغي نشر (الغاية القصوى) فتاوى في غاية السعة والاهتمام، وأخونا الشيخ نظام يعقوبي يعني الآن بنشر فتاوى الإمام الغزالي، وهي فتاوى في غاية الروعة، لأنها تقدم مبادئ لا نجدها في كتب الغزالي المطولة.

ص: 652

ولذلك يجب أن تتجه الأنظار إلى نشر هذا النوع من الكتب؛ لأنه أشبه ما يكون بحاجة عصرنا ويعتبر ثروة فقهية كبيرة تمد هذا المجمع في معالجة المستجدات العصرية، والله أعلم.

الشيخ خليفة بابكر الحسن:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

السيد الرئيس؛

السادة الأعضاء؛

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد؛

فأؤكد أيضا بدوري شكري للأستاذة الأجلاء الذين كتبوا عن موضوع (سبل الاستفادة من النوازل والفتاوى) وللشيخ العارض. وقبل ذلك أيضًا أشكر المجمع لاختياره لهذا الموضوع الذي يمثل من الناحية العملية منهجا لابد من الاهتمام به؛ ذلك أن قضية بحث المسائل الفقهية لا تتم إلا بأسلوب ومنهج وطريقة، وذلك هو المنهج الذي يريد المجمع أن يسلكه، وبهذا الاعتبار، فإن بحث هذا الموضوع مفيد من الناحية العملية.

كما أن بحث هذا الموضوع أيضا مفيد من الناحية النظرية البحتة والثقافية على المستوى المدرسي في الجامعات ولطلاب الدراسات العليا، فإن هذا الموضوع فيه قابلية للبحث أكثر لكي يستفاد منه في المستقبل. وما أود أن أقوله بعد ذلك أنني كنت أحبذ لو أن الباحثين حينما بحثوا موضوع العمل، أن يبحثوه في المذاهب المختلفة، وأن يقارنوا ويحللوا ويعللوا مثلا لفتوى معينة إذا كانت فتوى في موضوع معين مثلا لم يتفق معها المذهب الآخر يعلل لذلك ويذكر السبب، ويذكر أيضًا أثر الزمن وأثر الظروف البيئية المحيطة بالعلماء آنذاك، التي قادتهم أن يتجهوا اتجاها معينا، وأن يتجه غيرهم اتجاها آخر.

هذا أمر مهم في دراسة تطور تاريخ الفقه الإسلامي نحتاج إليه إلى حد كبير، ودراساتنا لتاريخ التشريع الإسلامي لا تزال إلى الآن دراسات مكررة ليس فيه الجديد من هذه الناحية، وهي ناحية تأثير الزمن على الفقه، وتأثير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في بعض الأحوال، لأن هذا من شأنه إذا وجد أن يفيدنا كثيرا.

هذه النظرة العامة كنت أود أن تكون موجودة وفيما عدا ذلك فإن عدم تخطي هذه النوازل مهم وضروري، وعدم تخطي البدائل الفقهية من الناحية المنهجية بالنسبة لهذا المجمع أيضا مهم لاعتبارات:

الاعتبار الأول: أن هذا المنهج وهذا الأسلوب يقلل من الخلاف إذا كان كل موضوع من الموضوعات الجديدة المعاصرة التي تعرض علينا اليوم مباشرة نرجع فيها إلى القرآن والسنة، ونحاول أن نشتق لها حكما، فإن ذلك يؤدي إلى خلاف كبير بيننا ولكن يقلل من مساحة هذا الخلاف أن نرجع في المسائل التي نص الفقهاء على حكمها أن نرجع إلى آرائهم، فإذا وجدنا فيها حكما فقهيا نأخذ به وإلا بعد ذلك نحاول أن نقيس ونخرج على آرائهم فإن أمكن ذلك فبها وإلا نعود بعد ذلك إلى الاجتهاد المطلق.

الاعتبار الثاني: أن الفقهاء حينما أفتوا في هذه المسائل التزموا ضوابط الاجتهاد وضوابط أصول الفقه الإسلامي، وقد تغيب هذه الضوابط اليوم إلى حد كبير فأيضا ضمان أن نجد مساحة من الفتوى الفقهية من الفقهاء ونعتمد عليها هذا أمر مفيد.

ص: 653

الاعتبار الثالث: أن هذا يمثل تراثنا ويمثل أصولنا ولا يمكن للإنسان بحال أن يتجاوز أصوله وتراثه إلا لضرورات واعتبارات تقتضي ذلك، عند ذلك يمكن التجاوز لكن من حيث المبدأ والأساس لا يجوز التجاوز. وعلى كل حال فإن نظرنا في تلك الفتاوى هنالك فتاوى في مسائل لا تختلف باختلاف الزمان والمكان كما تعلمون، وهي المسائل المتصلة بالثوابت، يعني مسائل الأحوال الشخصية: الزواج، الطلاق، الأيمان والنذور، والمأكولات والمشروبات، لا تختلف باختلاف الزمان والمكان، وبالتالي نستفيد من الفتوى الموجودة في مثل هذه الحالة. الأحكام التي تعتمد على التقدير لعدم اختلاف الزمان والمكان، ولأن الشارع الحكيم جعل مبناها غالبا على الاجتهاد بعد وضع الأصول العامة فيها كالمعاملات هذه يمكن أن نستأنس ونستفيد ونقيس ونخرج فيها آراء الفقهاء.

هنالك مسألة أود الحديث عنها، فبالأمس ذكرت كيفية استخدام القواعد الفقهية، والقواعد الفقهية حقيقية هي فعلا استخلاص من الفروع الفقهية، وقد جاءت بعد الفقه، لكن هذه القواعد بعد أن جاءت بعد الفقه واستخلصت يستفاد منها، وتعتبر هوادي ومعينة عند النظر الاجتهادي، ولهذا صدرت بها مجلة الأحكام العدلية، وكثير من قوانين المعاملات، فليس معنى أنها جاءت بعد الفقه ألا يستفاد منها في الفقه. تفيدنا اليوم في التخريج وفي حركتنا الاجتهادية ولابد من الاستئناس والاستفادة منها.

أمر أخير فيما يتصل بالمصطلحات الأصولية. أمس في موضوع الصيانة هل هي من الضروريات أو ليست من الضروريات؟ العقود كلها يذكر الأصوليون أنها من الحاجيات، فمشروعية العقود كلها من باب الحاجة، لأنها تدفع العسر وترفع المشقة وتحقق اليسر، هذا من حيث المبدأ كعقود تعتبر من باب الحاجيات، لكن قد يأخذ الأمر وضعا آخر باعتبار أنه ضرورة أو حاجة أو لاعتبارات أخرى، لكن كعقد هو من باب الحاجيات، والصيانة فيما أعتقد أنها تعتبر أمرا مكملا في الحقيقة، بمعنى أنها إما أن تدخل في مكمل الضروري، وهي مثل التماثل بالنسبة للاختصاص كما يذكر الأصوليون، أو هي الكفاءة بالنسبة للزواج لأنها تابعة لغيرها. وبناء على ذلك فهي بحسب الشيء المصون، قد يكون الشيء المصون حاجيا فتكون مكملة لهذه الحاجية، وقد يكون ضروريا فتكون مكملة لهذا الضروري، وقد تكون الصيانة لأمر تحسيني فتأخذ أيضا هذا الوضع.

هذا ما أردت قوله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الشيخ عكرمة صبري:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

شكرًا الأخ الرئيس، وشكرًا للمجمع الفقهي الذي طرح هذا الموضوع المهم الذي تقوم عليه جميع المهام، وتقوم عليه جميع أعمال المؤتمرات الفقهية. وكنت أود أن أعقب على نقطتين:

النقطة الأولى: التي تعرض له الشيخ القرضاوي بأن لا تكون الفتاوى قائمة على الهوى، وألا تكون متأثرة بنزوات سياسية أو دنيوية، ونذكر بعضنا بعضا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم:((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)) . بهذا أكتفى بالنقطة الأولى.

ص: 654

أما النقطة الثانية: فهي حول الاجتهاد الجماعي، وقد لاحظت أن بعض الأخوة الفضلاء يتحفظون من هذا التعبير، وأقول: إن ديننا الإسلامي اعتبر الإجماع مصدرا من مصادر التشريع الإسلامي، فنحن نريد أن نسير بروح الإجماع، وإن لم يتحقق الإجماع في أيامنا هذه فعلى الأقل حينما يصدر رأي شرعي أو تصدر فتوى على الأقل أن يشارك فيها أكبر عدد ممكن من العلماء، وما المجمع الفقهي إلا صورة عن الاجتهاد الجماعي وتوحيد الفتوى التي نحن بحاجة ماسة إليها وبخاصة في هذه الأيام، لأن أي فتوى تصدر في هذه الأيام تتناقلها أجهزة الإعلام، ويترتب على ذلك أن الجماهير الإسلامية في العالم تطلع عليها وتسمع بالمقابل فتوى مناقضة من عالم آخر فيقع الناس في حيرة من أمرهم، وهذا ما يؤدي إلى ضعف موقف العلماء والمفتين لدى الجماهير المسلمة. فنحن بحاجة إلى الخروج بفتاوى جماعية أو شبه جماعية بحيث لا نوقع العامة من الناس في مشاكل وفي ارتباك.

وإن الموضوع المطروح حاليا للمناقشة حول القضايا المعاصرة ويترتب على ذلك أن تحصر المناقشات فيما يستفاد من هذه القضايا المعاصرة، وهذه مسئولية كبيرة على العلماء في هذا العصر؛ وخاصة أن الجماهير الإسلامية في العالم تواقة لأن تشاهد دور العلماء في المجتمع وأن ينزلوا من الأبراج العاجية والعالية إلى الشارع ليقولوا قولتهم في قضايا كثيرة مستجدة.

وإنني إذًا أثني على أقوال الإخوة الذين أعطوا للاجتهاد الجماعي أهميته، كما أدعو جميع الدول العربية والإسلامية بتشكيل مجالس عامة للفتوى في بلادهم حتى على الأقل تكون الفتوى في كل قطر موحدة، وأنا أعلم جيدا أن بعض الدول العربية والإسلامية تسير على هذا المنهاج، وكذلك بالنسبة إلى فلسطين فهناك مجلس يعرف بمجلس الفتوى الأعلى لبحث القضايا المستجدة وللخروج برأي موحد حتى يكون الناس على بينة من أمرهم.

مرة أخرى أشكر المجمع على طرحه لهذا الموضوع المهم والحساس، وأتمنى وآمل أن يخرج المجمع بتوصية تؤكد على الاجتهاد الجماعي وعلى الإجماع المتقارب بين العلماء لتكون الفتاوى – إن شاء الله – فتاوى مستندة إلى الكتاب والسنة وأن تكون موضوعية، وحينئذ سيلتزم الناس بها طواعية وبمحبة وإيمان وتقدير للعلماء العاملين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وشكرا لكم، والسلام عليكم.

الشيخ محمد علي التسخيري % % %:

بسم الله الرحمن الرحيم

قبل أن أوضح الموقف خصوصا فيما يطرحه بعض أعزائنا وسادتنا من أسئلة. أود أن أذكر بعض النقاط حول ما طرحته في المقال.

قبل كل شيء أود أن أعرض أمام السادة العلماء بأن لدي بالخصوص مشكلتين أساسيتين:

المشكلة الأولى: أن هناك اختلافا كبيرا في مصطلحات الفقه الإمامي عنها في المذاهب الأخرى، وهذا الأمر يولد لي في كثير من الأحيان بعض الإشكالات.

المشكلة الثانية: في المذهب الإمامي لا يقلد عالم عالما على الإطلاق، فعندما تدرس أي مسألة لا ينظر أحدهم -وهو يعيش في القرن العشرين- إلى ما قاله الشيخ الطوسي أو الشيخ المفيد أو كذا وكذا، وإنما يتأيد به فقط.

ومن الطبيعي أن أقع في مشكلة عرض كل هذه الآراء الممتدة عبر التاريخ، ومن هنا فأنا أميل لذلك الرأي المشهور، ثم أذكر رأيي أحيانا، وحينئذ فسوف يؤدي هذا أحيانا إلى مخالفة المشهور.

أعود إلى المقال وأذكر منهجيا أن الفقيه في الفقه الإمامي يتجه أولًا لبيان فتواه الشرعية الكاشفة عن رأي الشارع في القضية دون ملاحظة أي ظروف طارئة، وهو يتحدث كالفقه الحنفي يطرح فرض المسألة ويكتشف حكمها وتستنبط حكمها من الكتاب والسنة الشريفة. هذا ما يقال طرح القضية على نحو القضية الحقيقية. أما عندما يواجه بمشكلة أو واقعة أو قضية خارجية مطروحة هنا يتحول إلى الحكم السلطاني يتحول إلى ولي هذا الفقيه وينطلق كأنه ولي فيصدر حكمه الولائي، وهذا كما حدث في مسألة من المسائل عند عقد ناصر الدين شاه اتفاقا مع شركة غريبة ضخمة على حصر التنباك وشرائه منها، فأصدر المرحوم الشيرازي الكبير وكان يسكن في سامراء أصدر حكما بحرمة التعامل مع هذه القضية، وحينئذ فحتى زوجات الشاه كسرن النار جيلة التي شرب بها التنباك آنذاك، فعندما اعترض الشاه على زوجته لماذا فعلت؟ من الذي أمرك؟ قالت: أمرني الذي حللّني لك وحكم بحليتي لك. على أي حال هذه مسألة مهمة ولاية الفقيه عندما تطرح هناك اتجاهات عندنا، اتجاه يقول: إن كل فقيه إذا وصل إلى مرحلة ما من الفقه.

الرئيس:

يا شيخ يا ليتك تعفينا بالجواب معلوم والولاية معلومة.

التسخيري:

هناك اتجاه يقول كل فقيه ولي ولكن عندما ينتخب الفقيه يجب أن يطيعه الآخرون واتجاهي أنا واتجاه البعض أن الفقيه الذي ينتخب هو الولي. يعني يشترط في ولي الأمر أن يكون فقيهًا. هذا هو الرأي الذي أتبناه بقوة.

ص: 655

ذكرت الأحكام الأولية والقانوية والولائية. الأولية ما يثبت للشيء بمقتضى نفسه حكم الصلاة الوجوب، وحكم الخمر حرمة الشرب، الثانوية في مصطلحنا ما يثبت للشيء بعد طرو عنوان آخر عليه، يعني ما أشار إليه سماحة الشيخ من أنه كالرخصة، الرخصة بعض الحكام الثانوية. الضرر، الحرج، الاضطراد، لكن هناك أحكام ثانوية ملزمة، يعني قد يكون الشيء مقدمة للواجب، وقد يكون مقدمة للحرام كما في سد الذرائع فيحرم، وقد يكون مزاحما في العمل فيصدر عليه حكم المزاحمة. هذه أمور إلزامية، وليس يرادف الرخصة كما تفضل سماحة الشيخ ابن بيه، وقد نسيت أن أشكره شكرًا جزيلا على عرضه.

الأحكام الولائية هي الأحكام السلطانية المعروفة التي يصدرها الحاكم إما في منطقة المباحات أو يعبر حتى منطقة المباحات إلى منطقة الإلزاميات عندما يحدث تزاحما. التزاحم أيضا هو مصطلح ربما وقع فيه خلط، والتزاحم هو نوع من تزاحم الأحكام عند الامتثال وليس عند الشارع الغصب حرام، إنقاذ المسلم الغارق واجب، يقع تزاحم، على أن أنقذ هذا الإنسان الغارق بعبور منطقة هذه المنطقة لا يرضى صاحبها، يقدم هنا الأهم وهو إنقاذ المسلم على المهم وهو حرمة الغصب فارتكب الغصب لإنقاذ المؤمن. فإذن هو في مقام الامتثال كما استفاده. لذلك ضربت أمثلة للتعارض بين المضيق وبين الموسع، ومعنى ذلك أنهما حكمان عند الامتثال.

في مقالي تحدثت بنوع من الإسهاب عن مرونة نظام الحكم الإسلامي وأشرت إلى نقطة أرجو أن نبحث فيها أكثر وهي المؤشرات التي يعطيها الإسلام للحاكم الإسلامي ليملأ هذه المنطقة على ضوئها. {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] ، مؤشر يضيف للحاكم اتجاه التشريع الإسلامي، وما إلى ذلك، هذا بحث أراه مهما وحبذا لو ركزنا عليه.

هناك ملحوظة: نحن عندما نريد أن نبني دولة تقنن الأحكام الإسلامية، حرمة الربا تقنن عندما يوضع نظاما مصرفيا لا ربويا. هذا التقنين وفرضه على المجتمع يحتاج إلى حكم من الحاكم، ومن ولي الأمر حتى يصبح لهذه الصيغة حكما يجب الالتزام به.

أريد أن أشير إلى ما أشار إليه الدكتور عبد الوهاب. أشكره جدًّا على ما نبهني إليه من لزوم البحث أكثر في قضايا تشخيص موقف الرسول العظيم عليه الصلاة والسلام من القضايا، هل هو موقف ولائى، أم هو موقف في مقام إبلاغ الحكم الشرعي وما إلى ذلك؟ هذه أمور أنا استفدت منها،. وكذلك أشار إلى أن من أسباب الاختلاف، هذا الاختلاف، أشكره كذلك على ذكر هذا المعنى، وأضيف أنه من أسباب الاختلاف اختلاف الفقهاء في منهج الاستدلال، هذه مهمة جدا. هل الرجوع أولا لهذا الأصل الفقهي إلى أصول الفقه أو ذلك أو العكس هو الرجوع؟ السير في المنهج الفقهي له دوره الكبير في مسألة الاختلاف.

أشرت في بحثى إلى أن حكم الحاكم الشرعي إلهي. لا ريب هو حكم صدر بمقتضى سماح إلهي، الله تعالى أجاز لولي الأمر أن يملأ هذه المنطقة وفق مصلحة الأمة هو حكم إلهي. قلت إنه لا تجوز مخالفته عملا بلا ريب، يعنى حتى المجتهدون الآخرون يجب أن يطيعوا حكم ولي الأمر وإن كان لهم أن يبدوا رأيهم، يعني لهم الحق، يعني هنا مسألة الطاعة العملية يجب إطاعة حكم ولي الأمر ليكون القرار الصادر قرارا واحدا.

أشرت أيضا إلى أن الحكم الحكومي حكم أولي مقدم على الأحكام الفرعية.

مصطلح الأحكام الفرعية هما في مقابل أحكام الأصول، يعني نوعان من الأحكام عندنا. هناك حكم كلي أصولي، مثل حجية الاستصحاب، وحجية الخبر الواحد، وحجية السيرة وما إلى ذلك، هذه حجيات وأحكام أصولية، وما عدا ذلك كل ما يتصل بعمل المكلف يسمى حكما فرعيا لا علاقة له بأهمية ذلك العمل. نحن أيضا نعتقد أن الإسلام بُني على الصلاة والصوم، ولكن المصطلح الفرعي هنا المقابل الأحكام الأصولية وليس فيها أي تقليل من أهمية هذه الأحكام.

جئنا إلى مسألة التزاحم التي أشار إليها الدكتور وهي مسألة مهمة. التزاحم كما قلت لكم تزاحم الأحكام في مقابل الامتثال لدى المكلف، هذا التزاحم تارة فرديا كالمثال الذي أشرت إليه. هناك وفاء بالدين فوري، وهناك أداء للصلاة في وقت موسع إذا تزاحما يقدم الأداء الفوري على الحكم الآخر، ثم بعد ذلك يأتي ويعود ويصلي لأنه موسع. أو مسألة التزاحم بين حكم الغصب وحكم إنقاذ الغارق هذا عمل فردي.

ص: 656

عندما نصعد إلى مستوى العلم الاجتماعي نجد أن ولي الأمر هو الذي يشخص الأهمية في التزاحم، ولي الأمر يجد أن هناك مصلحة يعني هناك حكم إلهي وهناك حكم إلهي آخر، وقد تزاحما حينئذٍ يدخل بصفته ولي الأمر وبعد المشورة ليقدم. لنفرض أن هناك تزاحما بين ذهاب حجاجة في هذا العام وبين مصلحة إسلامية عليا مسألة الجهاد مع عدوه ويريد أن يغزو هذه الأرض ويسلبها كاملة. هنا في هذه المرحلة يبقى وهو الفقيه العادل الولي الكفء يبقى في تزاحمه بين حكمين، هنا لا يقال إننا قللنا من أهمية الحج وإنما المسألة مسألة أهم ومهم ولا يمكن القيام بأحدهما فماذا نفعل؟ ضربت مثلا وقلت مسألة الربا. الآن لو توقف مسألة تعطيل تعميم الحكم اللاربوي في دولة حديثة جديدة توقف على تأخيرها إلى سنة أو سنتين وإلا لانهار النظام الاقتصادي بكامله وسقط النظام الإسلامي نفسه فماذا يفعل الحاكم الشرعي في هذا المعنى؟ بطبيعة الحال يقدم الأهم والمهم، وهذه قضية مقبولة لدى كل الفقهاء بل لدى كل العقلاء على الإطلاق.

هذه مسألة التزاحم مسألة مهمة جدا، ولعلنا نستفيد من هذه مسألة هدم مسجد ضرار، المسجد لا يجوز هدمه لكن إذا كانت تترتب عليه آثار سيئة كبرى، قتل من تترس بهم الكفار من المسلمين، لو فرضنا تترس بألفين وتوقف الفتح على قتلهم ألا يفتي الفقهاء بقتل هؤلاء والحصول على الفتح وإلا لهزمت البلاد وقتلت الملايين؟ يعنى هناك نوع من التزاحم يبدو واقعيا عندما نعرضه بدقة. ألسنا نعصب مثلا كما قلت لإنقاذ مسلم؟ إلى آخره.

هناك نقطة مهمة وهي مسألة انتخاب الفتوى الملائمة. ولي الأمر يريد أن يفتي في نازلة وقعت، فتواه شيء وفتوى غيره شيء آخر، هو يجد أن المصلحة الإسلامية العليا تقتضى أن يختار فتوى غيره مثلا أو يعمهم فتواه، يعني ويحول فتواه إلى حكم، ينقل فتواه الفقهية (نظره الفقهي) إلى حكم للأمة إلى قانون، وهو ولي الأمر له هذا الصلاح بأن ينتخب فتواه أو فتوى غيره لتعميمها في المجال الآخر.

هناك نقطة أرجو أن يلحظها أخي الدكتور وهي مسألة التلفيق. أنا نسبت التلفيق إلى المذاهب الأربعة وقلت خالفت مذهبي وهو القائل بلزوم تقليد الأعلم. خالفت ذلك لأني لا أقول بلزوم تقليد الأعلم وأيدت ما هو عليه العمل في المذاهب الأربعة، الإنسان الذي يتبع أي مذهب من المذاهب يمكنه أن يقلد هذا العالم في مسألة أو هذا المذهب في مسألة أخرى، يبدو ما أشار إليه الدكتور في الأحكام التركيبية كالصلاة. لو فرضنا أن عالما ً مثلا فرض شيئا وشرطا في الركوع وعالما آخر فرض في الركعة الثالثة رأيا آخر، فإذا صليت صلاة اتبعت في جزء منها عالما وفي جزء آخر عالما آخرا حينئذ أنا في الواقع صليت صلاة باتباع عالمين، لكن هذه الصلاة مرفوضة من قبل العالمين لاختلافهما في هذا المعنى. هنا يوجد اختلاف في أنه هل علي أرضي كل المفتين في حكمي التركيبي أو المفتي الواحد في حكمي التركيبي أم لا؟. أما في الأحكام التي هي غير مركبة يمكنني أن أنتخب حكما أو فتوى من هذا العالم، وحكما أو فتوى من العالم الآخر.

أشير في نهاية حديثي إلى المذهب، هناك اتجاهات اليوم كبرى تحتاج إلى استنباط. اتجاه معرفة المذهب الاقتصادي الإسلامي أو المذهب الاجتماعي الإسلامي، هذه الاتجاهات تحتاج أن يقوم بها علماء وليس مفكرين، هناك مفكرون لا يملكون القدرة على الاستنباط، يطرحون مسألة اكتشاف هذا المذهب الاقتصادي أو ذلك المذهب الحقوقي، هذه القضية أؤكد على أن يقوم بها مجتهدون والذي يهمنا في هذا المعنى أن نكتشف الخطوط الأساسية التي يمشي عليها، أو الخطوط التي تقف وراء الأحكام الفرعية في الجانب الاقتصادي أو في الجانب الحقوقي.

هذه قضية مهمة جدا وأعتقد أنها تستحق أن تبحث.

شكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 657

الشيخ محمد المختار السلامي:

بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ربنا هب لنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا.

هذا المضوع الذي بحث في هذه الصبيحة كنت حفيا به منتظرا لما يأتي به السادة الفقهاء، ذلك أنه موضوع ينطلق من الماضي إلى المستقبل ويشمل بين جناحيه الفقه الإسلامي، في جميع مراحله ولا يقف عند الحد وإنما يستمر إلى مابعد، إذ أن العنوان:(سبل الاستفادة من النوازل والفتاوى والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرة) ، فإذا بحثت النوازل والفتاوى والعمل الفقهي وعزل ذلك عن تمام العنوان فمعنى ذلك أننا ابتعدنا عن الموضوع ولم نحقق الغاية التي من أجلها وضع هذا البحث باعتبار أنه يواجه حلا لصعوبة من الصعوبات تصور الواضعون لهذا أن بحثها سيساعد الفقهاء عندما يواجهون القضايا المعاصرة.

وهذه القضية أو كيف أن الفقه يتناول الواقع. أعتقد أن أول من اعتنى بذلك هو الذي خط لجميع فقهاء العالم الإسلامي، المنهج أعني به مالك بن أنس – رضي الله تعالى عنه – في كتابه (الموطأ) . فمالك في كتابه الموطأ وثق الحديث ولم يكن مقتصرا على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أضاف إليه فتوى وأضاف فيه عملا، ولذلك تجده مثلا في حديث خيار المجلس بعد أن وثق الحديث يقول:"وليس عندنا في هذا حد معلوم ولا أمر معمول به عندنا "، فهو لا يطعن في الحديث ويوثقه ويبين أنه لا يعمل به في المدينة، فالرباط بين العمل وبين النصوص ظهر كبادرة عن مالك، كما أن تقسيم أبواب الفقه إلى تلك الأبواب هي منة طوقها مالك أعناق علماء الإسلام إذ ساروا على دربه، وكذلك كتب الحديث التي جاءت حسب الأبواب إلى أن جاء الإمام أحمد بن حنبل –رضي الله تعالى عنه – فنهج نهجا آخر في توثيق الحديث.

فإذن القضية الكبرى وهي أن كيف الفقه له طرق في تدوينه؟ أولا: نجد طريقة الفقه المجرد الذي يعطي الأركان والشروط والأحكام، وهذا ما جرى عليه الفقهاء إما في المختصرات وإما في المطولات، وعندنا فقه آخر، وهو أنه يأخذ هذا الفقه الذي وجد في المذهب، فيقارن بين مذهب ومذهب ويستدل له بما يرى أنه جدير لتأييد هذا المذهب على المذهب الآخر، ولبيان وجه الحق حسبما اجتهد فيه.

وهذا أمر آخر. ثم ظهر أمر جديد بعد ذلك وهو كتب الأصول التي بينت للفقهاء كيف كان الفقهاء من قبل يجتهدون وكيف كانوا يأخذون الأدلة. ثم ظهر أمر آخر وهي كتب المقاصد التي بينت كيف يرتبط نظر الفقيه مع النص ومع الواقع إلى أمر جديد وهو المقصد الشرعي العام الذي هو أمر يقيني. ثم إن الفقهاء العلماء حقا كانت تعرض عليهم القضايا، فإذا هم يعملون هذه الأصول الأربعة ويفتون بها في الوقائع التي تعرض عليهم، فكان عرضهم – رضي الله عنهم – عرضا تجد فيه المقصد الشرعي وتجد فيه الأصل أنه عام أو أنه خاص أو خصص، وتجد فيه القول الفقهي لصاحب الرأي، وتجد فيه الإشارة إلى القول المخالف، والترجيح. فكانت كتب الفتاوى أو كتب النوازل كأنها جمعت كل التوجهات الفقهية ووثقتها معا في قضايا جزئية. هذا منهج عندما تعرض علينا القضايا كيف نستفيد من هذا المنهج، ثم كيف نستفيد مما وصل إليه الفقهاء ودونه في كتب النوازل.

ص: 658

أنا كنت أنتظر هذا ولكن مع تقديري للبحوث القيمة التي كانت جيدة جدا وبذل أصحابه مجهودا كبيرا إلا أنها لم تخرج عن النظريات أو عن الفقه النظري إلى الفقه العملي التطبيقي الذي يبين لنا كيف نسير تطبيقا في المستقبل؟ وهذا ما أراده واضع هذا البحث على نظر السادة العلماء. فهذه أولا كنظرة عامة عن الموضوع.

بجانب هذا أردت أن أبين زيادة على هذا ما تعرضت إليه من قبل وهي قضية (المآلات والمقاصد) ، فعندما يفتي المفتي يجد في كتب الفقه الحكم، لكن الحكم هو حكم مجرد لم ينظر إلى مآلات الفعل أو الوضع الذي عليه الأمة الإسلامية لا يراعي فيه ذلك. فكتب النوازل تعطينا هذه الأنظار البعيدة، فلو استخلص السادة النظارة منهجا يساعد فقهاءنا في النظر في القضايا المستجدة لكان عملا جيدا جدا، وأرجو أن تكون المادة التي قدمت تستكمل حتى نصل إلى وضع هذا المنهج وضوابطه.

الأمر الآخر وهو أمر خطير جدا تعرض له صديقي العلامة الشيخ محمد الناصر وقال: إنه كلام - قطعا - يحرك أو يدغدغ عواطف العلماء ولماذا؟ وأن علينا أن نعتمد على الكتاب والسنة. إن رزقه الله هذا المستوى فهنيئا له، والحمد لله الذي برز بيننا عالم يستطيع في عصرنا هذا أن يرجع إلى الكتاب والسنة فقط ويعطينا حلولا لمشاكلنا، لكن الذي حققه الفقهاء في طيلة الأعصار على أن الفقهاء ليسوا من هذا النوع، عندنا فقيه مجتهد مطلق وهو الرجل الذي استطاع أن يبين منهجا في الاستنباط، فنظر في الأدلة ليتخير منها ما يتخير، ويعتمد ما يعتمد ويقدم ما يقدم، ويؤخر ما يؤخر، وهذا هو المجتهد المطلق، ثم يأتي مجتهد المذهب وهو الذي ينظر كنظر إمامه لكن لا في المنهج، وإنما في القرآن والسنة والقواعد التي أسسها مذهبه، بعد هذين انتهى، فكل الفقهاء الذين جاؤوا بعد ذلك إنما هم ينظرون في أقوال المتقدمين ليؤيدوا ما يؤيدوا أو يزيدوا حكما جديدا، بينما القسم الأول هو قد يخالف إمامه عندما ينظر أما ما بعدهم فهم لا يخالفون أئمتهم. ثم بعد ذلك يأتي المخرجون عن المذاهب كالإمام اللخمي وغيره في مذهب مالك، ثم بعد ذلك يأتي الفقهاء الذين ينظرون في كتب المذاهب، وهذا فضل كالثروة، فعندنا من يستطيع أن يسكن قصرا وعندنا من يستطيع أن يسكن خيمة، فكيف يطلب مني وأنا لا أستطيع أن أسكن خيمة أن أسكن القصر الذي يسكنه هو؟ لكل شخص ما رزقه الله من الذكاء ومن النباهة ومن العلم ومن الفطنة، وألا يحجر علينا إذا كنا لم نستطع أن نصل إلى مستواه.

ص: 659

أمر آخر أريد أن أبينه هو قضية جاءت في أثناء الحديث أن أحد علماء المالكية أفتى الخليفة بأن عليه أن يصوم شهرين متتابعين. القضية معروفة هي قضية يحيى بن يحيى الليثي المصمودي وكان كبير رجال الفتوى في عهده وما كان يستطيع أحد أن يتكلم أمامه، لأنه هو إمامهم وشيخهم. جمعهم عبد الرحمن الناصر وقد وقع فيما وقع فيه يطلب الفتوى فقال يحيى ابن يحيى وقال له: ليس لك إلا أمر واحد وهو أن تصوم شهرين متتابعين، فلما خرج سئل عن ذلك وقيل له: أنت إمام في مذهب مالك ومذهب مالك هو التخيير، فلماذا عدلت عن التخيير؟ قال: إني أخاطب فقيرا لا خيار له لأن الأموال التي بين يديه ليست مالا له وإنما هي أموال سرقها من المسلمين، فعليه أن يصوم فأنا طبقت الواقع أو مذهب مالك على الواقع؟.

أمر آخر وهو نقطة نظام أرجو من السيد الرئيس أن يتمسك بها، وهي أنه إذا كان انتهى البحث في قضية من القضايا، ثم ذهبت لجنة الصياغة لصياغة ما تريد أن تقوله هنا انتهى البحث، فإذا أراد شخص آخر أن يثير القضية من جديد فليس له ذلك، لأنه إذا أثارها فمعنى ذلك أجيبه أيضا، ثم أطلب من لجنة الصياغة أن تجتمع مرة أخرى، وهذه سلسلة ليست من التنظيم ولا من نجاعة العمل.

ما أريد أن أقوله أخيرا هو أن كتب النوازل أخذت أسماء فأخذت اسم الفتاوى تارة واسم المعيار تارة، ونجد المعيار للونشريسي، ونجد المعيار للوزاني، وأخذت كتب البرامج فقيل برنامج، وعندنا من كتب البرنامج الممتازة والمهمة وليته يطبع ففيه من الآراء والشجاعة الشيء العجيب، وهو برنامج الشيخ عضوم من علماء القرن الحادي عشر في القيروان، فهو رجل عجيب جدا في فتاواه وفي تنزيله وفي اعتبار الوقائع. هذه كلها أردت أن أقول إنه عندما ينظر في هذا الموضوع يجب أن يضاف إلى هذه النواحي النظرية البحث أيضا في المكتبات الإسلامية وتكوين قائمة لهذه الكتب حتى يعرف أهل المشرق، وأهل المغرب ذخائرهم.

شكرا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الشيخ وهبة الزحيلي:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

هناك قضية عامة وقضية بحث هذا اليوم.

أما القضية العامة فمن المعلوم أن المجالس العلمية ينبغي أن تعتمد على أصول من الحرية في النقاش والمداولة في الرأي، وألا تكون هناك مصادرات على الرأي وإلا لم يكن لمثل هذا المجلس أية قيمة لتخليه عن مبدأ الشورى الذي قامت عليه هذه الشريعة. وبناء على ذلك فإني أعتبر أن المجمع مسؤول إذا قرر في توصياته شيئا يمس دولة من الدول، وحينئذ المسؤولية توجه إليه، أما البحوث العلمية فينبغي أن تمتاز بحرية آراء أصحابها وألا يطوى منها شيئا، وكذلك المناقشات التي تدور في هذه الجلسة ينبغي ألا تهمل بحال من الأحوال وإلا كان ذلك نوعا من الإرهاب الفكري وهذا ما لا يقره الجميع.

ص: 660

شيء 0آخر وهو ما يتعلق بموضوع البحث. الدكتور خليفة قال: "حبذا لو كانت هذه البحوث وتتكلم عن المذاهب المختلفة "ولعله لم يطلع على كتب التكليف التي جاءتنا من الأمانة العامة. وألزمت كل باحث أن يبحث النوازل والواقعات والفتاوى ضمن إطار مذهب معين أو مذهبين، فلذلك نحن تقيدنا بهذا التوجيه.

أمر آخر وهو أن الموضوع الذي نتكلم في شأنه ومعالي الرئيس كان قد أكد على ضرورة الالتزام بفحوى هذا الموضوع وسار على توجيهه الأخوة الذين تفضلوا بالنقاش وهم الدكتور عبد الستار، والدكتور خليفة، والشيخ عكرمة، وختامهم فضيلة الشيخ السلامي، وأنه ينبغي أن نلتزم في مضمون هذا العنوان وهو أن نلتمس ونتتبع ونحصى ونستقرئ الواقعات والنوازل لدى فقهائنا خصوصا المتأخرين، ثم نبني عليها ما نحتاجه من التخريجات في القضايا المعاصرة.

وفي ضوء هذا الاتجاه حينئذ ينبغي أن نستفيد من أهمية هذا الموضوع، ولذلك ما طالب به فضيلة الشيخ السلامي حققته في بحثي، وإنني ذكرت الضوابط التي يمكن استنباطها من الوقائع والنوازل الماضية، وهي تصلح أن تكون منطلقا وأساسا للعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرة، ولكني لا أوافقه في أن مذهب الإمام مالك حينما اعتبر عمل أهل المدينة سببا في الرد أو عدم أخذه بحديث خيار المجلس. فالإمام مالك في الثماني وأربعين مسألة في موطئه حينما يخالف الأحاديث إنما يعتبر عمل أهل المدينة حجة وبمثابة النص، وما يرويه جماعة عن جماعة يكون له حكم التواتر فيفضل ويقدم على ما يرويه صحابي أو راوٍ واحد، ومن خطأ كثير من الناس أنهم حينما قال بعضهم: ينبغي أن يعزز الإمام مالك لتركه حديث رسول الله وخصوصا في حديث خيار المجلس كان غير دقيق في هذا الحكم، لأن رأي الإمام مالك في إجماع أهل المدينة هو بمثابة الحديث المتواتر فيقدم على خبر الآحاد. وبناء على ذلك فلا يصلح الاستناد إلى عمل أهل المدينة في قضية الواقعات والنوازل التي هي آراء فردية وفتاوى المتأخرين فلا يصح أن نقيس هذه النوازل على ذلك العمل المشهور والمقرر عند المالكية.

فيما يتعلق بقول فضيلة الشيخ الشيباني: "أن فقهاء المدينة السبعة أفتوا بإباحة التسعير "، يا ليته لو رجع إلى أي كتاب من كتب تاريخ التشريع أو تاريخ الفقه الإسلامي لوجد أن ما ذكرته الفقه الإسلامي لوجد أن ما ذكرته هو المقرر في هذه الكتب وأنهم فعلا أفتوا لتغير مناط الحكم لا لرد الحديث، ولذلك هذا أمر دقيق ينبغي أن يعلم في مثل قضية المؤلفة قلوبهم، فالإمام عمر لم يعطل النص كما يدعي هؤلاء الإباحيون وإنما هو فهم مدلول النص وأن التأليف حيث لا يوجد له مسوغ حينئذ لا يعمل به، وكذلك التسعير حيث لا يوجد له مسوغ لا يعمل به وإن وجد المسوغ جاز العمل به، وهذا ما أفتى به فقهاء المدينة السبعة.

ص: 661

ما تحدث به فضيلة الشيخ القرضاوي، البحث في هذه الأمور أنا أؤيده عليها وأؤكد ضرورة العمل بما قرره، وإنني التزمت هذا في آخر ذكر الضوابط الشرعية أنه يجب على المفتي أولا وقبل كل شيء أن يلتزم النصوص الشرعية، ويلتزم ما عليه إجماع المسلمين ولا يصح أن يفتي بشيء يتصادم مع هذه الأصول.

ما تحدث عنه الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان وقال: إنه يكبر ما ذكره الأستاذ الحاج الناصر، أنا في اعتقادي أنه لم يقرأ هذه الملاحظات، وإنما أشاد بها من حيث المبدأ، ولو قرأ مضمون هذه الملاحظات فلا تخدم الفكر أو المضمون الذي تضمنه بحث اليوم من كون الاعتماد على النوازل والواقعات ينبغي أن يكون أساسا للتحدث في تخريج المسائل المستجدة والقضايا المعاصرة.

وبناء على ذلك فما ذكره الأخ الكريم أنا أشكره على اهتمامه ببحثي وتبنيه لتقديم هذه الملاحظات، ولكني أعتقد أنه أقفل على نفسه باب حجرته ولم ينظر في أصل الموضوع وأخذ يبحث ما يريد بحثه بحسب ما ينقله من عبارات وبحسب ما فتح عليه من هدم وتشنيع على البحث، ويبدأ ذلك من أن كلامي متناقض بين القول بحيوية الشريعة ومرونتها وتطبيقاتها، وأن الاجتهاد – وإن أغلق – لكن كانت هناك محاولات كثيرة، ولم يخلُ عصر من العصور من الاجتهادات، ولذلك لا يخلو عصر من قائم لله بحجة. أنا أتكلم عن جملة هذه الأمور، ولكن أؤاخذ هؤلاء الذين ساروا على منهاج إغلاق باب الاجتهاد وأدى ذلك فعلا إلى ركود أحيانا في الفقه أو في الاجتهادات الحديثة. ثم هو يطلب منا الكلام عن أحكام غزو الفضاء والأقمار الصناعية في باب المعاملات، وأين كذا وأين ككذا، يا أخي هو يعني إذا كان المجتهدون لم يتحدثوا عن هذا بشكل جماعي هناك كلام كثير وفتاوى فردية عن مثل هذه الأمور، فإذن غايتك تتحقق إذا تتبعت مثل هذه الآراء.

ثم أيضا يقول معترضا علي بأنني قلت الفتوى أخص من الاجتهاد. هذا فعلا، لأن الاجتهاد أعم من الفتوى، الاجتهاد يتكلم عن الأمور الواقعية والأمور الاحتمالية، أما الفتوى فلا تتحدث إلا عما هو واقع. هو يعترض بقول الزركشي بأن الفتوى أعم من الاجتهاد. ملحظ الزركشي غير الملحظ الذي سرت عليه.

كذلك أيضا يخلط بين قضية الإلزام وقضية التنفيذ في قضية الفرق بين القضاء وبين الفتوى. فكل من المجتهد والمفتي ملزمان بالأحكام الشرعية وبالنصوص الشرعية، ولكني أنا أتحدث عن التنفيذ وأن قوة الحكم المقضي به في الدول تؤيدها سلطة تنفيذية فتحمل المحكوم عليه على تنفيذ الحكم، وهذا أمر غير متوافر بالنسبة للفتوى. . فإذن هناك فرق بين الإلزام الأولي وبين التنفيذ لهذه الأحكام.

فأنا أطلب طي هذا البحث لأنه كله أخلاط في أخلاط.

وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 662

الشيخ أحمد الخليلي:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العاملين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد؛

فإني أشكر الرئاسة والأمانة العامة على إتاحة الفرصة لي للحديث، وأشكر جميع الإخوان الذين شاركوا مشاركات إيجابية في هذا اللقاء جزاهم الله خيرا. أشير قبل كل شيء إشارة خفيفة إلى ما تعرض له فضيلة الشيخ الدكتور حمداتي في تعقيبه، وقد جلست معه وزال اللبس بسبب بعض العبارات التي ربما كانت قاصرة عن وضع النقاط على الحروف، والحمد لله زوال اللبس هو الذي يهمنا ويشغلنا.

هذا وأسأل الله التوفيق والخير، والسلام عليكم ورحمة الله.

الأمين العام:

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أحمد الله على ما تحقق في هذه الجلسة المباركة التي استمعنا فيها إلى آراء جيدة وإلى بحوث قيمة تناولت قضية لم يقع بحثها من قبل أو لم يكثر بحثها، وهذه القضية هي قضية العمل في الفقه الإسلامي وقضية النوازل والفتاوى، والاستمرار على دراسة هذا الجانب قد يكون مفيدا لحضرات الباحثين فيما يستقبلون من قضايا، ولعامة الناس بما يجدونه من إنارة فكرية للقيام بهذا العمل العلمي المجيد.

ولذلك فإني أريد أن أعرض على حضراتكم شيئا أعتقد أنه من المفيد جدا: قبل حضوري إلى المملكة العربية السعودية للقيام بواجبي على رأس المؤسسة – مجمعكم الموقر – كنت أعد نفسي لتحقيق كتاب، وهذا الكتاب هو (التنبيهات) للقاضي عياض، وهو تصحيح وجمع وتثبيت لأهم مدونة في الفقه المالكي وهي المدونة لما فيها من تقديم وتأخير واضطراب في الإعداد الأخير وحتى في الطباعة، وهذا الكتاب لعلكم تعرفون عن طريق (حاشية الرهوني) الإشارة إلى كثير من الآراء الفقهية وإلى العمل بهذه الآراء الذي يختلف من بلد إلى بلد، من الأندلس إلى فاس ومن فاس إلى القيروان، وهذا يثري -إن صح التعبير - مجال البحث ومجال النظر عندما نتتبع القضايا للحصول على فتوى مناسبة، ولذلك فإني أعرض بهذه المناسبة عليكم من يريد أن يشارك في تحقيق هذا الكتاب، هو ذو خمسة أجزاء، وهو نافع بإذن الله، وفيه مادة علمية غزيرة، والرهوني صحح لنا بعض النصوص منه لأنه يذكره أثناء شرحه.

ص: 663

والأمر الثاني هو أني أريد أن أقترح عليكم ولستم مطالبين بالإجابة توا: ما هي كتب التراث التي ينبغي أن نعني بها وخصوصا في المادة الفقهية، فإن المذاهب المختلفة لها كثير من المدونات التي يجهلها أكثر الناس؟ وبجانب هذا الطلب الذي اتقدم به إلى حضارتكم أريد أن أبثكم بشرى هو أن شيخنا العلامة بكر أبو زيد قد أعد دراسة على نحو دراسته السابقة تكون مدخلا إلى فقه النوازل، فأنا أريد وأرجو من حضراتكم أن تضمن التوصيات التي ستصدر عن هذه الدورة تحقيق وإنجاز هذا العمل بطبعه في سلسة منشورات المجمع، وكذلك في التهيؤ إلى كل المؤلفات التي ستكون موضع التحقيق والنشر. وشكرا لحضراتكم.

الرئيس:

بسم الله الرحمن الرحيم

انتهى الوقت وانتهى ما لدي. إضافة إلى العارض الشيخ ابن بيه والمقرر الشيخ وهبة أن تكون اللجنة منهما ومن الشيخ يوسف القرضاوي والشيخ عبد الله البسام والشيخ نزيه حماد والشيخ عبد الستار أبو غدة.

وبها ترفع الجلسة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ص: 664

القرار

بسم الله الرحمن الرحيم

قرار رقم: 95 (7 / 11)

بشأن

سبل الاستفادة من النوازل (الفتاوى)

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه وسلم.

أما بعد:

فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الحادي عشر بالمنامة في دولة البحرين من 25 – 30 رجب 1419 هـ (14 – 19 نوفمبر 1998) .

بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع (سبل الاستفادة من النوازل) ، واستماعه إلى المناقشات التي دارت حوله.

قرر ما يلي:

1-

الاستفادة من تراث الفتاوى الفقهية (النوازل) بمختلف أنواعها لإيجاد حلول للمستجدات المعاصرة سواء فيما يتعلق بمنهاج الفتوى في ضوء ضوابط الاجتهاد والاستنباط والتخريج والقواعد الفقهية، أو فيما يتعلق بالفروع الفقهية التي سبق للفقهاء أن عالجوا نظائر لها في التطبيقات العملية في عصورهم.

2-

تحقيق أهم كتب الفتاوى، وإحياء الكتب الفقهية المساعدة مثل كتاب (التنبيهات على المدونة) للقاضي عياض، وبرنامج الشيخ عضوم، وفتاوى الإمام الغزالي، وتقويم النظر لابن الدهان، وكتب العمل في المذهب المالكي وعواصمه العلمية كفاس والقيروان وقرطبة، ومعروضات أبي السعود وغيرها من الكتب التي تكون طريقاً لإبراز حيوية الفقه.

3-

إعداد كتاب مفصل يبين أصول الإفتاء ومناهج المفتين ومصطلحات المذاهب الفقهية المختلفة، وطرق الترجيح والتخريج المقررة في كل مذهب، بما في ذلك جمع ما جرى به العمل في المذهب المالكي وغيره ونشر كتاب (المدخل إلى فقه النوازل) لرئيس المجمع) .

4-

إدراج بقية كتب الفتاوى في خطة معلمة القواعد الفقهية للوصول إلى القواعد التي بنيت عليها الفتاوى ولم تشتمل عليها المدونات الفقهية.

ص: 665

ويوصي بما يلي:

1-

يجب الحذر من الفتاوى التي لا تستند إلى أصل شرعي ولا تعتمد على أدلة معتبرة شرعاً، وإنما تستند على مصلحة موهومة ملغاة شرعاً نابعة من الأهواء والتأثر بالظروف والأحوال والأعراف المخالفة لمبادئ وأحكام الشريعة ومقاصدها.

2-

دعوة القائمين بالإفتاء من علماء وهيئات ولجان إلى أخذ قرارات وتوصيات المجامع الفقهية بعين الاعتبار، سعياً إلى ضبط الفتاوى وتنسيقها وتوحيدها في العالم الإسلامي.

3-

الاقتصار في الاستفتاء على المتصفين بالعلم والورع ومراقبة الله عز وجل.

4-

مراعاة المتصدرين للفتيا لضوابط الإفتاء التي بينها العلماء، وبخاصة ما يلي:

أ- الالتزام بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس وغيرها من الأدلة الشرعية، والتزام قواعد الاستدلال والاستنباط.

ب- الاهتمام بترتيب الأولوليات في جلب المصالح ودرء المفاسد. . .

ج – مراعاة فقه الواقع والأعراف ومتغيرات البيئات والظروف الزمانية التي لا تصادم أصلاً شرعياً.

د- مواكبة أحوال التطور الحضاري الذي يجمع بين المصلحة المعتبرة والالتزام بالأحكام الشرعية.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ص: 666