الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوحدة الإسلامية
معالمها وأعلامها
إعداد
الأستاذ محمد واعظ زادة الخراساني
الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا رسول الله سيد المرسلين، وعلى آله الطاهرين وصحبه الميامين.
أيها الحفل الكريم:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
أحييكم أطيب التحيات، وأقدم لكم بحثًا متواضعًا عنوانه:(الوحدة الإسلامية معالمها وأعلامها) ، وقبل أن أدخل في صميم الموضوع يطيب لي - تمهيدًا للبحث وتركيزًا على النقاط المهمة فيه - الإتيان بمقدمة حاوية لشرح كلمات تدور على الألسن - كمصطلحات - في مجال الوحدة الإسلامية، ثم أتبعها بمعالم الوحدة وأعلامها.
تمهيد:
شاعت بين المصلحين ودعاة الوحدة كلمات مثل: الوحدة الإسلامية أو الاتحاد الإسلامي، والأمة الواحدة الإسلامية أو الجماعة الإسلامية، والأخوة الإسلامية أو التآلف بين المسلمين، والتقريب بين المذاهب الإسلامية. وهذه الكلمات والتعابير - مع الاعتراف باشتراكها في المغزى والهدف - وهو تقارب المسلمين وتآلفهم - إذا تأملنا فيها، وأعطيناها حقها من الدقة والاعتبار، فلكل منها مفهوم خاص يختلف عن غيره بقليل أو كثير.
فالوحدة الإسلامية، أو الاتحاد الإسلامي، عبارة عن وحدة كلمة الأمة تجاه قضاياها الأساسية، وأهدافها المشتركة، ووقوفها صفًّا واحدًا أمام الأعداء، وهي الغاية القصوى والغرض الأقصى من كل المحاولات الجارية، والجهود الجبارة، والدعايات الوحدوية من قبل المصلحين في العالم الإسلامي، وسنتداولها بالبحث بتشعب أقسامها واختلاف صورها.
وأما الأمة الواحدة - أو الجماعة الإسلامية - فتحمل في جوهرها - علاوة على وحدة الكلمة والصمود أمام الأعداء - وحدة جماعية إلى جانب الأمم الأخرى، يحسن التعبير عنها بالقومية الإسلامية. فالمسلمون لهم جنسية إسلامية، قوامها الإيمان بالله ورسوله والتسليم لهما، ولهم وطن واحد، وسلطان قائم بذاته تحت قيادة واحدة، ولهم ثقافة ملموسة، وتقاليد مرسومة، مصدرها الكتاب والسنة. وسيتلى عليكم الآيات ونحدثكم بما جاء في السنة الشريفة من الشواهد على هذه القومية الإسلامية.
وأما الأخوة الإسلامية، فهي في بدو النظر تعبير عن الجانب العاطفي والتعاطف الروحي بين المسلمين، باعتباره تشديدًا للعلاقة بينهم، وتبادلًا للمحبة بين قلوبهم محبة الأخ للأخ.
وقد قام النبي في بداية الهجرة، بعد أن أعلن أن المسلمين أمة واحدة - كما يأتي - بعقد الأخوة بين المهاجرين والأنصار، قال ابن إسحاق: وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، فقال لهم:((تآخوا في الله أخوين أخوين)) ، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب، فقال:((هذا أخي)) ،
ثم ذكر ابن إسحاق مؤاخاة الآخرين، بعضها بين مهاجر وأنصاري، وبعضها بين مهاجر ومهاجر (1) .
وينبغي أن لا ننسى تلك البشارة التي بشر بها النبي أصحابه قبيل الهجرة قائلًا: ((إن الله قد جعل لكم إخوانًا ودارًا تأمنون بها))
(2)
، فهاجروا إلى يثرب أرسالًا، واثقين بأن الله سوف يحقق لهم هذه البشارة، هؤلاء الإخوة وتلك الدار.
(1) سيرة ابن هشام: 2/118.
(2)
سيرة ابن هشام: 2/118.
وهؤلاء الإخوة كانوا يتوارثون فيما بينهم بهذه الأخوة، حتى نزلت:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] ، فتحولوا إلى التوارث بالأرحام.
ثم أعلن الله تعالى في كتابه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] فارتقى عقد الأخوة بين اثنين اثنين من المهاجرين والأنصار إلى الأخوة بين جميع المؤمنين، فإذا كانت الأخوة بينهم عهدًا أو عقدًا من الله ورسوله، فهي شيء وراء مفهوم عاطفي، منقلبة إلى مفهوم حقوقي، وإلى حق له أحكامه ومسؤولياته، وحينئذ تستتبع الأخوة الإسلامية حقوقًا، وتضع مسؤولية كبيرة على عاتق المسلمين أمام بعضهم البعض في شتى أمورهم، يُعبر عنها قول النبي القائل:((من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم)) ،
إلى غيرها من إرشاداته القيمة في سبيل إرساء أساس الأخوة الإسلامية بمفهومها الحقوقي المشار إليه.
فهذه الأخوة العامة بين المسلمين أخوة شرعية نظير الأخوة الرضاعية التي لها حكمها في الزواج.
وأما الائتلاف بين المسلمين فهي تعبير عن الجانب العاطفي فحسب لا يثبت بمجرد حقًا فلا مسؤولية بينهم.
وأما التقريب بين المذاهب الإسلامية فتعبير عن بذل الجهود العلمية في سبيل إزالة الفوارق التي باعدت بين المذاهب الإسلامية وأئمتها وأتباعها، فينكر بعضهم بعضًا، وينظرون إلى المذاهب كأنها أديان مختلفة، وكأن أتباعها أتباع أديان وأمم شتى وليسوا أمة واحدة، وكذلك تحسين العلاقة بين الأئمة وعلماء المذاهب، وتكوين الجو الهادئ والتعارف بينهم على أساس المشتركات بين المذاهب التي تشكل تسعين بالمائة أو أكثر، ليتبادلوا الآراء فيما اختلفوا فيه - وهي أقل من المشتركات بكثير - ولاسيما المسائل الفقهية والأصولية، وغيرها مما سنبحثها فيما يأتي ونعطيها حظًا أوفى.
وفي رأينا أن الآيات: 101 إلى 103 من سورة آل عمران: تشمل جميع هذه المفاهيم التي ذكرناها لتلك الكلمات وهي قوله تعالى:
فالخطاب: يا أيها الذين آمنوا - كما سنوضحها - إشارة إلى القومية الإسلامية إلى جانب أقوام اليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين، قوامها الإيمان بالله ورسوله، والتسليم لهما مع تقوى الله - كما قال:{اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . والاعتصام بحبل الله هو الوحدة المنشودة بين المسلمين ووقوفهم أمام الأعداء، والاجتناب عن التفرقة والمعاملة مع المسائل التي اختلفوا فيها برفق، وبالتركيز على المشتركات - وهي حبل الله - والحذر عن جعلها فرقًا ومذاهب، وفيها إعلان بأن التأليف بين القلوب والأخوة بين المسلمين نعمة من الله تبارك وتعالى.
معالم الوحدة الإسلامية:
وإذ قد تم شرح كلمات شاعت بين الناس بشأن الوحدة الإسلامية، نبدأ الحديث حول (معالم الوحدة) ، ونريد بها أصول الوحدة وأركانها ومقوماتها التي لا تتم الوحدة الإسلامية، ولا تستقر على قرار، ولا تقوم على ساقٍ إلا بها، وأهمها أمور:
1 -
القومية الإسلامية، أو الأمة الواحدة الإسلامية:
وقد نطق الكتاب والسنة بها، ودعوا إليها وأكدا على توثيقها. قال تعالى:{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92] وفي آية أخرى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52] ، فقد خاطب الله المسلمين بأنهم أمة واحدة في ظل ربوبية الله التي تلزمهم عبادته وتقواه، وأن هذه الأمة قوامها الإيمان بالله والتسليم له. وهناك من المفسرين من وجه الخطاب إلى الأنبياء المذكورين قبله، فحول الآيتين إلى أن خطة الأنبياء واحدة، وهي الإيمان بربوبيته والتسليم لطاعته، وهي تعبير عن وحدة الأديان السماوية الشاملة للمسلمين وغيرهم من أهل الكتاب، فهي وحدة أوسع فوق وحدة الأمة الإسلامية.
وجدير بالذكر أن الأمة والإمام من مادة واحدة، قوامها الاتباع، فبينهما نوع من التلازم والمناسبة، فالإمام من له أتباع، والأمة هي الجماعة الذين يتبعون إمامًا، فالجماعة المتشتتة الأهواء، الذين ليس لهم إمام يستسلمون له لا يقال لهم (أمة) . ومن هذا المنطلق تختص هذه الكلمات بأهل الأديان والنحل، فأتباع كل نبي أمة يرأسها كأمة موسى، وأمة عيسى، وأمة محمد صلوات الله عليهم.
وقد جعلهم القرآن أممًا شتى، وسمى كل واحدة باسم فقال: {
…
وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة: 69] .
وفي آية أخرى: {
…
وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ َحْزَنُونَ} [البقرة: 62] .
وفي ثالثة: {وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج: 17] .
فقد عبر القرآن في هذه الآيات عن الأمة الإسلامية بـ (الذين آمنوا) إلى جانب سائر الأمم من أتباع الأنبياء وغيرهم. بل أعلن أنها خير الأمم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] بما لهم من المميزات والقيم ذكرها في كتابه.
وعندنا أن (الذين آمنوا) في الخطابات القرآنية رمز إلى هذه القومية الإسلامية التي نحن نسميهم (المسلمين)، وهذه التسمية أيضًا أصلها من الله إذ جاء في القرآن: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا
…
} [الحج: 78] استجابة لدعاء إبراهيم عليه السلام إذ قال: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة:] ، وهذه التسمية رمز إلى أن أمة الإسلام أمة التسليم أمام الله، والسلم والسلام أمام الناس.
هذه نصوص قرآنية بشأن القومية الإسلامية، وأما السنة فقد أعلن النبي بها في وثيقة مهمة، وهي كتاب كتبه بين المهاجرين والأنصار لدى هجرته إلى يثرب جاء فيه: ((هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس
…
)) (1) .
تأمل قوله عليه السلام: ((إنهم أمة واحدة من دون الناس)) ؛
أي إلى جانب الناس من اليهود والنصارى والمشركين وغيرهم.
ومن هنا نقول: إن الإعلان بتأسيس وظهور الأمة الواحدة الإسلامية جاء متزامنًا مع الهجرة النبوية التي كانت بدورها إيذانًا بتشكيل الحكم الإسلامي، والذي أقامه النبي عليه السلام لدى وصوله يثرب التي سميت فيما بعد بمدينة الرسول، ثم أطلق عليها (المدينة) من دون إضافة إلى الرسول لشهرتها.
وكان من دعائم هذا الحكم الجديد الإلهي، أن المهاجرين والأنصار وجميع من كان معهم وجاهد معهم يشكلون أمة واحدة. ومن هذا المنطلق يصح لنا القول بأن قيام الحكم الإسلامي له دخل في مفهوم الأمة الواحدة الإسلامية، تسجيلًا لمعنى الطاعة والتسليم إطلاقًا وتعميمًا للحكم. وأن فيها معنى الاتباع للنبي القائد - ومن قام مقامه - في كل ما يأمر وينهى ومن أهمها الشؤون السياسية. وإنه سهل علينا إقامة شواهد من الكتاب والسنة على اهتمام الرسول باستقلال أمته، وقيامها بذاتها في أمورها، وتحذيره أمته من اتباع الآخرين في تقاليدهم وآدابهم، والاختلاط بهم وموالاتهم مما يطول الكلام بذكرها.
(1) سيرة ابن هشام، دار إحياء التراث العربي: 2/115.
ويخطر بالبال أن كل من عبر من المصلحين والقادة في عصرنا عن المسلمين باسم (الجماعة الإسلامية) ؛ فقد رام التركيز على هذه القومية الإسلامية، والأمة الواحدة التي فرضها الله ورسوله على المسلمين.
ونعتقد أن تكرار صيغة الجمع بكثرة، تعبيرًا عن المؤمنين في الخطابات القرآنية، وفي الأدعية والأذكار والعبادات، وفي طليعتها سورة الحمد التي يقرؤها كل مسلم في صلاته ليل نهار مرات مخاطبين الله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) } [الفاتحة: 5 - 6] ، هذه الصيغة تمرين وتدريب لفكرة الأمة الواحدة والقومية الإسلامية، ومصداق لقوله تعالى:{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92] بالجمع بين القومية الإسلامية وعبادة الله تعالى.
وقد جاء في دعاء الإمام السجاد علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم الصلاة والسلام: (اللهم صلِّ على محمد وآله، وحصِّن ثغور المسلمين بعزتك، وأيِّد حماتها بقوَّتك، وأسبِغ عطاياهم من جِدَتك
…
وكثر عدتهم، وأشحذ أسلحتهم، واحرس حوزتهم، وامنع حومتهم، وألِّف جمعهم، ودبِّر أمرهم، وواتر بين ميرهم، وتوحد بكفاية مؤنهم، واعضدهم بالنصر، وأعنهم بالصبر، والطف لهم في المكر - إلى أن قال - اللهم وقوِّ بذلك محال أهل الإسلام، وحصِّن به ديارهم، وثمِّر به أموالهم، وفرغهم عن محاربتهم لعبادتك - إلى أن قال - اللهم اغزُ بكل ناحية من المسلمين على من بإزائهم من المشركين - ثم يُسمي الأعداء مما يشهد بأن الإمام كان خبيرًا بأوضاع المسلمين وأعدائهم - فقال: اللهم واعمم بذلك أعداءك في أقطار البلاد من الهند والروم والترك والخزر والحبش والنوبة والزنج والسقالبة والديالمة وسائر أمم الشرك، الذين تخفى أسماؤهم وصفاتهم، وقد أحصيتهم بمعرفتك، وأشرفت عليهم بقدرتك) .
وحبذا لو أن المسلمين يدربون أطفالهم على هذه القومية، ويلقنونهم إياها منذ نشأتهم، مستمرين عليها إلى آخر أيامهم، كما يلقنونهم التوحيد والنبوة وغيرهما من الأصول الاعتقادية، لكي يمتزج اعتقادهم بتلك الأصول، مع الإحساس بأنهم مع من اعتقد بما اعتقدوا به يشكلون جميعًا أمة واحدة، فيعتزون بها فوق اعتزازهم بأسرتهم وقبيلتهم وشعبهم ووطنهم ومذهبهم، وأية مزية أخرى يعتزون بها، ويتذكرون دائمًا أنهم قبل كل شيء أمة مسلمة. ثم لا يغلب شيء من هذه العلاقات والمميزات الفارقة بينهم - مهما كانت موضع اهتمامهم واعتزازهم - ذلك الإحساس الطيب المتعالي بأنهم أمة مسلمة، بل يبقى في نفوسهم ويتبلور في قلوبهم حيًّا طريًّا، جيلًا بعد جيل إلى آخر الأبد.
فعلى الآباء والأمهات في بيوتهم، وعلى المعلمين والشيوخ في مدارسهم وكُتابهم، وعلى الأساتذة في صفوفهم الجامعية، وعلى الخطباء والأئمة من على منابرهم وفي فترات مواعظهم، وعلى الكُتاب والباحثين والمؤرخين والقُصاص فيما يكتبون ويبحثون، وعلى الفنانين فيما يرسمون ويخلقون، وعلى الشعراء فيما ينشدون من الشعر والأناشيد، عليهم جميعًا تنمية هذا الإحساس الطيب، والعاطفة القومية المقدسة، بما عندهم من الصناعة، بتذكار مفاخر الإسلام وبطولات المسلمين وأبطالهم في الحروب والفتوحات الواسعة في شرق العالم وغربه، كفتح الأندلس وغيرها، وكذلك بذكرى الشهداء الذين استشهدوا في سبيل الله، والأبنية والآثار الباقية المُشرقة من المساجد والمدارس والزوايا والقصور والدور هنا وهناك وغيرها من أعمال المسلمين، فيترنمون بها في أناشيدهم مثل أنشودة:(الشرق لنا والغرب لنا) .
ثم فرض على العلماء والحكام والقادة وكل من يهتم بعزة الإسلام والمسلمين، أن يقفوا بكل قوتهم أمام الجهود المضادة، والمساعي المبذولة من دون حد - من قبل الغربيين والمستشرقين منذ قرنين أو أكثر، وكذلك على يد الأجيال الناشئين من الطلبة المسلمين في جامعات أوروبة وأمريكا - في سبيل تجديد القوميات السابقة، وإيقاظ فكرة القومية في نفوس المسلمين، لكي يستبدلوا القومية الإسلامية بتلك القوميات، فيخلقوا من الأمة الإسلامية الواحدة أممًا شتى، ومن الشعب المسلم الواحد والقومية الإسلامية الواحدة شعوبًا وقوميات لا علاقة لهم بالإسلام، فيعتزون بها بدل الاعتزاز بالإسلام. وهذه الجهود تتزايد وتتضاعف عند الشعوب المسلمة كل يوم كادت أن تغلب عليها بيد أعداء الإسلام، رجاء أن يُبعدوا المسلمين عن دينهم وأمتهم، فيتفرقوا أممًا بعد أن جعلهم الإسلام أمة واحدة، وهذا من أكبر التحديات في العصر الحاضر للإسلام والمسلمين، وفي القرن القادم، والكلام في هذا ذو شجون، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
ومع ذلك كله فيحلوا لنا مسرورين الاعتراف بأن القومية الإسلامية لا تزال - رغم تلك الأمواج الهائلة والجهود المُضادة - مرتكزة في خَلَد المسلمين، وتتوسع وتتزايد في هذه السنين، ولاسيما بعد نجاح الثورة الإسلامية المباركة في الجمهورية الإسلامية في إيران، وعلى أثر جهود رجال مخلصين في أنحاء العالم ولله الحمد وله الشكر.
2 -
المسؤولية المشتركة والمتبادلة:
لن تتحقق فكرة الأمة الواحدة عند المسلمين، ولا ترتكز في النفوس ولا تستقر في القلوب، إلا بوجود المسؤولية المتبادلة والمشتركة في نفوسهم، فما بقيت أمة من الأمم ولا أمة الإسلام خالدة إلا بتبادل هذه المسؤولية بين أبنائها، بأن يشعر كل فرد منهم في نفسه أنه مسؤول أمام الآخرين، فيتبادل ويشتد هذا الإحساس بينهم ليل نهار، لا يغفلون عنه قليلًا، فيحسبون الغفلة عنها نقصًا في إيمانهم وعيبًا في تقاليدهم، وعصيانًا لربهم وخروجًا عن دائرة أمتهم، ثم يرون أنفسهم مع غيرهم من أعضاء الأمة سواء في النفع والضرر، وفي البأساء والضراء، وفي الفلاح والخسران، ويكون همهم بهذه المسؤولية لديهم فوق كل همومهم، وأمنية فوق كل أمنياتهم؛ فيعيشون معها دائمًا، وهذا مغزى قول النبي صلى الله عليه وسلم:((من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم)) .
وقوله: ((يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم)) .
وهذا هو الذي أكده عليه السلام في العهد الذي عقده وكتبه بين المهاجرين والأنصار لدى هجرته، ومنه قوله:((وإن ذمة الله واحدة يجير عليه أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض من دون الناس))
(1)
، وهذا تنجيز لقوله في أوله:((إن المسلمين أمة واحدة من دون الناس))
وقد سبق.
ومن شروط القيام بهذه المسؤولية الاطلاع على أوضاع المسلمين: ابتداء بذوي القربى وأولي الأرحام والأسرة، ومرورًا على الجار القريب والبعيد - حسب ما أكدت به السنة الشريفة - وعلى أهل البلد، وانتهاء بالمسلمين القاطنين في بلاد أخرى إلى أقصى الأرض، ثم معرفة ما أحاط بهم من البأساء والضراء، وما يخاطرهم من الشرور والحدثان، وما تصيبهم من الفتن، وما تحمل عليهم من الحروب والضغوط، وما تستلزمه من الفقر والمرض والتخلف والانقراض.
(1) سيرة ابن هشام: 2/116.
وهذا الاطّلاع بدوره يتوقف على معرفة الشعوب المسلمة جغفرافيًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا والإحاطة بجميع شؤونهم، وبإمكانياتهم مما له دخل في سعادتهم أو خسرانهم، في رقيهم أو تخلفهم، فإذا تمت هذه المعرفة وحصل ذلك الاطلاع ورسخت تلك المسؤولية في القلوب، فسوف لا يستريح أحدهم نهارًا ولا ينام ليلًا إلا وشغله هم إخوانه في أرجاء العالم، من أي شعب ومذهب وقبيلة كانوا، فلا قرار له إذا سمع الأخبار البشعة التي بلغته عن المسلمين في البوسنة والهرسك، والصومال والسودان - كما حدثت قبل سنين - أو ما يجري اليوم في أفغانستان، وباكستان، والجزائر، وفلسطين، وكوسوفو وغيرها، من القتال والدمار بأيدي الأعداء، أو بأيدي المسلمين أنفسهم - مع الأسف - فيقتل بعضهم بعضًا، ويخرجه من داره وأرضه ويخرب بيوتهم، وإلى الله المستعان.
وفي مثل هذه الفتن والاقتتال بين المسلمين بالذات، أعلن القرآن مسؤولية المسلمين بالتدخل حيث قال:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] ، فهل المسلمون قاموا بواجبهم أمام ما يجري الآن بين إخوانهم هنا وهناك؟
ويجب علينا ألا ننسى أن كثيرًا من هذه الأمور والمسؤوليات إنما هي على عاتق الحكومات قبل الشعوب، وأن الشعوب إنما يتمكنون من أن يقوموا بواجبهم إذا قامت به حكوماتهم، وهذا ما سنبحثه عند البحث عن الوحدة السياسية عند المسلمين.
3 – قيام الحكم الإسلامي: الوحدة الإسلامية تكون ذات شقوق وشُعب، ولا تكمل الوحدة إلا بتحققها جميعًا: فهناك وحدة اجتماعية، قوامها شعور المسلمين جميعًا بأنهم أمة واحدة ذات مسؤولية متقابلة ومشتركة بين أبنائها - وقد سبقت - وهناك وحدة سياسية، قوامها قيام حكم إسلامي في البلدان الإسلامية، ووجود سلطة عادلة فيها قائمة على أساس الشريعة الإسلامية، ملتزمة بالعمل بها في كل أعمالها، مهتمة بأمور المسلمين ورعاية مصالحهم والدفاع عن حقوقهم في الأوساط العالمية.
ومن أهم وظائف ومسؤوليات هذا الحكم في صعيد الثقافة، توسيع نطاق الفقه الإسلامي، ولاسيما في ناحية الفقه السياسي، وكذلك العلوم الإسلامية جمعاء، وصيانة الحضارة الإسلامية وإحيائها، ونشر الثقافة الإسلامية بكل فروعها، وإعداد العلماء والمثقفين، والعسكريين والحقوقيين وغيرهم، ملتزمين مؤمنين. وكذلك تربية الأجيال المؤمنة جيلًا بعد جيل، علمًا وعملًا، وخُلقًا، وأيضًا تحكيم روح العزة والشخصية الإسلامية في النفوس، وتحقيق العلو الإسلامي العادل السليم الذي بشر به القرآن في قوله:{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]، وبقوله:{فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35] في المجتمع الإسلامي في كل قطر.
والحكم الإسلامي ركن الإسلام الذي لا يقوم الإسلام إلا به، وقد قام به النبي لدى هجرته المباركة، بعد أن وضع الله حجره الأول الأساس، وهيأ أرضيته قبيل الهجرة لما أذن بالقتال والدفاع في قوله الحكيم:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) } [الحج: 39 - 41]، وثناها بالأمر بالجهاد بقوله:{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ} [الحج: 78]، وأكملها بالترغيب إلى الهجرة والاستشهاد في سبيل الله بقوله:{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الحج: 58] .
وهذه أول آيات الجهاد والهجرة، جاءت في سورة الحج التي نزلت - على أصح الأقوال - بمكة المكرمة قبيل الهجرة، أو في طريقها، إيذانًا بأنه قد حان دور الحكم الإسلامي الذي ينشده النبي والمسلمون، ويتمنونه، وتبشيرًا بأن الله على نصرهم لقدير، وسوف ينصرهم على أعدائهم. ونحن نعلم أن القتال من أظهر أعمال الحكم. وكان المسلمون في مكة يريدون الدفاع عن أنفسهم بالسلاح، وكان الله تعالى يأمرهم بالصبر ليحين حينه، وقد حان بالهجرة.
والحديث في صعيد الحكم الإسلامي، أو الحكومة الإسلامية يتطلب محاضرات وأبحاثًا متتابعة، بل وكُتبًا متوالية، ولسنا نحن الآن بصدد بسط الكلام فيها، وإنما الغرض التأكيد على أن الحكم الإسلامي هو أساس هذا الدين، وعماد لإرساء قواعده، وضمان لإجراء أحكامه، وأنه لا ينبغي لمسلم التغافل عنه، زعمًا أن دور الحكم الإسلامي بما له من الخصائص والمميزات قد انقضى، وأن ليس أمام المسلمين في العصر الحاضر، سوى إقامة حكومات شعبية قائمة على أصوات الناس من دون ركونها إلى الإسلام. ونقول في جواب من يستبعد قيام الحكم الإسلامي، اعتقادًا بأن هذا الحكم - لو قام - سوف يعجز عن القيام بمسؤولياته إلى جانب الحكومات القائمة في العالم، أو زعمًا منه أن الإسلام في جوهره دين العبادة، دون السياسة، أو دين الحياة الآخرة، دون الحياة الدنيا، أو يشك في وجود قوانين وأحكام سياسية في الإسلام كفيلة بحاجات العصر، إلى غير ذلك من الأقاويل والآراء الناشئة على لسان أعداء الإسلام، أو من المسلمين أنفسهم في حقل الحكم الإسلامي، وكثير منها مصادمة لضروريات الإسلام.
ونقول لهؤلاء: أدل الدليل على إمكان الشيء وجوده - كما يقول الفلاسفة - فقد استقر الحكم الإسلامي منذ عشرين سنة، بكل مسؤولياته ومستلزماته في (الجمهورية الإسلامية في إيران) ، وقد نجح - ولله الحمد - مع وجود عقبات جسيمة، وقيام جنود مجندة من القوى الشيطانية ضده، وقد غلب وانتصر عليها جميعًا بإذن الله:{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص: 88] . و {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [الروم: 4] .
والحكم الإسلامي - وكذلك الحاكم الإسلامي، جزء مهم من الفقه الإسلامي جاءت فيه شروطهما ووظائفهما، وخص العلماء من المذاهب الإسلامية كتبًا باسم (الأحكام السلطانية) بالحكم الإسلامي، يُعبر عنه في الوقت الحاضر بـ (الفقه السياسي) ، ولا ننكر أن هذا الفقه صار نسيًا منسيًّا في القرون الأخيرة عند أكثر المشتغلين بالفقه، إلا أن هذه الفكرة المقدسة تجددت في بعض الأقطار الإسلامية من قبل رجال غيارى على عزة الإسلام والمسلمين، ومن أقدمهم وأبرزهم أثرًا الحكيم والفيلسوف الكبير السيد جمال الدين الأفغاني (الأسد آبادي) وأصحابه وتلاميذه وأبناء مدرسته، ثم تجلت الفكرة، واستمرت، واستحكمت، وبذلت في سبيلها جهود ثقافية وسياسية، حتى نجحت في الجمهورية الإسلامية الإيرانية بزعامة إمام وفقيه كبير: الإمام الخميني رحمه الله - ولله الحمد - ويرجى نجاحها في غيرها من البلاد.
ونحن في هذه الفرصة القيمة نكتفي في مجال الحكم الإسلامي بتذكار أمور:
منها: أن الحكم الإسلامي في طبيعته ليس له شكل خاص محدد في الكتاب والسنة وفي الفقه الإسلامي بالذات، وفي كثير من النواحي يساير ويتفاعل ويتعايش مع أشكال الحكم عند الآخرين، وإنما يفارقها ويتميز عنها بشرطين أساسيين:
الأول: أن تجري الأمور فيه طبقًا للشريعة الإسلامية ورعاية ما تقرر في الفقه الإسلامي من الشروط سواء في الحاكم: من الفقه، والعدالة والقدرة على تدبير الأمور وغيرها، أو في كيفية الحكم؛ ومن أهمها: البيعة الشرعية مع الحاكم ومشاورة الحاكم أهل الحل والعقد. وبناء على ذلك فمن شروط الحكم الإسلامي وجود الفقيه في كيان الحكم، مباشرة أو إشرافًا بشكل من الأشكال - من دون صورة محددة - صونًا للحكم عن مجراه الإسلامي. وفي تجربة (الجمهورية الإسلامية) درس للآخرين.
الثاني: أن يظهر الحكم بمظهر شعبي، يتدخل الناس، في أصل استقرار النظام الحاكم، وفي انتخاب الحاكم، والمشاورين، بنحو من الأنحاء - من دون أن يكون محددًا بصورة خاصة -.
ومنها: أن الحكم الإسلامي الذي قام في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وبعده كان واحدًا مسيطرًا على الوطن الإسلامي كله - المعبر عنه في الفقه بـ (أرض الإسلام) أو بـ (دار الإسلام) - واستمر إلى أمد بعيد، رغم الجهود الجارية ضده والثورات المتوالية هنا وهناك عليه، ورغم خلو كثير من الحكام من التحلي بشروط الحاكم الإسلامي، وانحراف كثير من الأحكام والأعمال الصادرة من هؤلاء الحكام عما قررته الشريعة الإسلامية، وبهذا العذر احتجت جملة من الثائرين على الحكام. وهذا؛ أي وحدة الحكم، هو الأصل المتبع في الإسلام، من دون دليل قطعي عليه سوى تلك السيرة المستمرة في صدر الإسلام، المستمدة - كما نستظهر - من تأكيد الإسلام كتابًا وسنة على الوحدة والتحذير عن التفرقة. ولاسيما أن جملة من الآيات الداعية إلى الوحدة مثل آيات سورة آل عمران:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 102، 103]- وقد سبقت - سياقها سياسي باعتبار نزولها بعد غزوة أُحد التي اختلف من كان مع النبي حولها وتخلف عنها جماعة. وكانت مسألة سياسية.
إلا أن هذه الوحدة السياسية انفصمت فيما بعد، لأمور ثبتت في التاريخ الإسلامي - وهي عبرة لمن اعتبر - فتعددت الحكومات الإسلامية في أرض الإسلام شرقًا وغربًا، حتى قامت في قطر واحد - مثل الأندلس - حكومات متعارضة ومتحاربة فيما بينهم حتى انقرضوا جميعًا، وتركوا تلك الجنة المفقودة لغيرهم، وأصاب المسلمين ما أصابهم، من القتل والخروج من ديارهم والغرق في البحر إلى غيرها من المأساة.
والمسألة الآن - وبعد مضي قرون على تلك الحكومات التي تتضاعف في كل فترة لدى المهتمين بإقامة الحكم الإسلامي - تدور حول علاج هذه التعددية السياسية في العالم الإسلامي. وأقصى ما انتهت إليه الجهود التي بُذلت - ولا شك - من قبل المخلصين في البلاد الإسلامية، هو تأسيس (منظمة المؤتمر الإسلامي) التي جمعت في نطاقها الرؤساء والملوك والقادة المسلمين، لعلاج ما قد يتفق من المشاكل الهامة في قطر من الأقطار الإسلامية. ونحن إذ نرحب بحرارة، ونشكر لمن قام بهذا العمل الخير الطيب، وكذلك القائمين بتشكيل (لجنة تنسيق العمل الإسلامي المشترك) ، وغيرها من المؤسسات الإسلامية المشكورة، نعتقد أن هذه المنظمة لو أدت وظيفتها كاملة، ولا تتأثر بما يحمل عليها من جانب القوى العالمية المستكبرة، أو من جانب أعوانها في البلاد الإسلامية، فهي لا تقوم مقام الحكم الإسلامي المنشود، لأن كثيرًا من هؤلاء المؤتمرين، لا يعترفون بالحكم الإسلامي أصلًا، ولا يلتزمون في بلادهم بالشريعة الإسلامية في صعيد الحكم، بل ولا في صعيد الثقافة والتربية والاقتصاد وغيرها، وفيهم من يحترز ويخاف حتى من التحدث بالحكم الإسلامي في وسائل الإعلام، فكيف يقوم إذًا اجتماع هؤلاء مقام الحكم الإسلامي.
وعندئذ ينحصر البحث عندنا في أنه لو قام الحكم الإسلامي - على احتمال بعيد - في عدد من الأقطار الإسلامية فما هو العلاج في توحيد صفوفها وتنسيق أعمالها؟
فهناك اقتراح بتشكيل الجماهير الإسلامية، أو تأسيس المجلس الأعلى الإسلامي، يشترك فيه الممثلون من كل قطر، أو اتخاذ إمام من بين الفقهاء يسلم له الجميع في القضايا المهمة إلى غير ذلك، والهدف من هذه المقترحات شيء واحد، وهو الوصول إلى وحدة سياسية بين المسلمين على ضوء الإسلام.
4 -
الحضارة والثقافة الإسلامية:
لا تجد خبيرًا بالحضارات البشرية من ينكر أثر الحضارة الإسلامية ودورها في الحضارات المتأخرة، بل في حياة الإنسان الحضاري، فالإسلام بما له من السماحة والمرونة، والاعتراف بالحق والعدل والخير أينما وجدت، قد جمع في حوزته الحضارات السابقة، خاصة ما كانت للروم واليونان، والهند وإيران من الثقافة والعلوم، إلى جانب ما نشأ من تعاليم الإسلام القيمة، فأتى بحضارة لم تخطر على بال، وهي مفخرة للمسلمين عامة، كما هي ميراث لهم جميعًا، ولا تنحصر بشعب أو بناحية، فلكل منهم حظ وسهم فيها يتفاوت بينهم، حسب ما كانت لهم من الحضارات العريقة، ثم حسب استعدادهم لكسب العلم، واهتمامهم بأمر الحياة والثقافة.
والتي نركز عليها من ذلك كله، هي الثقافة الإسلامية العامة التي تعد شريان الحياة المعنوية للمسلمين. وهي تشمل العلوم الإسلامية، والأدب الإسلامي العام، واللغات الإسلامية الدارجة بين الشعوب المسلمة، والفن الإسلامي والصنايع والتقاليد والرسوم الإسلامية إلى غيرها.
فهذه الثقافة الشاملة العريقة من أقوى أسباب وحدة الأمة، وعنوان ومَعلَم لها، بل هي من أعظم معالمها وقيمها التي استمدت مادتها من الإسلام، وإليه تنتهي، ومنه نشأت.
ومن بينها اللغات الإسلامية، فإنها وإن اختلفت جذورها، إلا أن كثيرًا من ألفاظها الدارجة مأخوذة من اللغة العربية وهي أم لها جميعًا، وقسطًا كبيرًا من مفاهيمها في الأدب نثرًا أو نظمًا، والأناشيد والمحاورات العامة، أصلها القرآن والحديث.
ومن أجل ذلك فالاحتفاظ بتلك اللغات بما لها من اللون الإسلامي والطابع الديني، خدمة مشكورة لمواريث الإسلام. ولقد تفرست القوى المستعمرة في كل قطر أن لغاتها هي بنفسها رابطة إسلامية، ورباط وثيق بين الشعوب المسلمة فيما بينهم وبين الإسلام، فقاموا بإزالة هذه اللغات في كل ناحية سيطروا عليها، ونشروا بدلها لغاتهم التي جاءت متزامنة مع الاستعمار، فهذه اللغات كالمستعمرين أنفسهم أجنبية عن الإسلام والمسلمين، دخيلة بينهم.
5 -
السماحة الإسلامية:
كل ما حصل للمسلمين من الحضارة والمعرفة والتقدم والقوة والوحدة وغيرها من القيم؛ هي رهين سماحة الإسلام ومرونته: فمثلًا القوة السياسية لا تترسخ في شعب من الشعوب إلا بوجود روح السماحة والتعايش السلمي فيما بينهم، وبها يتعارفون ويتفاهمون ويتشاورون ويستمعون الأقوال والآراء، ويتبعون أحسنها، وكذلك فعل المسلمون عملًا بقوله تعالى:{فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) } [الزمر: 17، 18] . وسماحة الإسلام ليست في أحكامه فحسب - تصديقًا لقوله عليه السلام: بعثت على الشريعة السمحة السهلة - بل يجب تحقيقها في الأرواح والنفوس، وفي الخصال والأفكار والآراء، لكي يكون المسلمون في عواطفهم وتفكيرهم وعقولهم ومعارفهم وأعمالهم كلها سمحاء، فيكونوا من أولي الألباب.
وإنما نؤكد على ترسيخ روح السماحة والمرونة بين أبناء الأمة الإسلامية، كفطرة إسلامية، وكطبيعة ثانية لهم، للوصول إلى خصلتين:
الأولى: الحيلولة بينهم وبين المفاخرات والتعصبات القومية والأحاسيس الشعبية والقبلية والحزبية ونحوها، فإنها لا تخفف صولتها إلا بهذه الخصلة الإلهية، ونحن نعلم - كما سبق - أن إحياء القوميات القديمة لدى الشعوب المسلمة حيلة استعمارية، فإذا غلبت على شعور القومية الإسلامية التي هي أساس وحدتهم وتضامنهم، فسوف يرجعون إلى جاهليتهم، ويبتعدون عن إسلامهم وأمتهم.
ونحن نؤكد أن الإسلام لم يأتِ ليزيل القوميات؛ بل اعترف بها كأمر واقع في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] . فالقوميات محترمة ما لم تقم قبال التقوى التي بها قوام الأمة الإسلامية الواحدة حسب ما تقدم. وهذا جار في الأحزاب والجمعيات مما هي مثار التعصب والفرقة.
الثانية: - وهي أهم من الأولى - التحذير من التفرقة المذهبية التي ابتلي المسلمون بها - مع الأسف - منذ القرن الأول، ثم اشتدت، وربت، وتكثرت، وتشعبت بحماسة بالغة عند كل فرقة كما قال الله تعالى:{فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] . وقد غذاها جهل الشعوب بالإسلام، وأهواء المبتدعين، وطغيان الحكام والسلاطين، فجعلت من كل فرقة جماعة متعصبة عمياء، لا ترى الحق إلا ما عندهم، ولا الباطل إلا ما عند الآخرين.
والذي يزيل طغيانهم إنما هو تغليب روح السماحة والإنصاف على نفوس العلماء ثم الأتباع من كل مذهب، وهذا ما يعبر عنه بـ (التقريب بين المذاهب الإسلامية) ، والذي بذلت وتبذل جهود في سبيله، ولنا أعمال في هذا المجال؛ من محاضرات وكتب ومنشورات ومؤتمرات نداولها دائمًا بعون الله تعالى.
ونكتفي هنا بعرض موجز من البحث الذي قدمناه إلى (لجنة تنسيق العمل الإسلامي المشترك) المنعقد بطهران. ركزنا فيه على أمور:
الأول: أن المذاهب الإسلامية - رغم اختلافها في الفروع والمسائل الجانبية - متفقة في الأصول التي تشكل جوهر الإسلام، والتي من اعتقد والتزم بها فهو مسلم، ومن أنكرها جميعًا أو أشتاتًا فليس بمسلم.
الثاني: أن معظم الاختلاف بينها نشأ من الاجتهاد في فهم الكتاب والسنة، أو في توثيق نصوص السنة، أو في قواعد الاستنباط، أو في تبيين تلك الأصول والتفريع عليها، ولا دخل للسياسة والأهواء في هذا الاختلاف، وإن غذتها أحيانًا للغلبة على الرقباء.
الثالث: أن المراد بالمذاهب الإسلامية التي نتحدث عن التقريب بينها، هي المذاهب المعروفة عند أهل السنة والشيعة، التي لها أصول مدونة من فقه وكلام وحديث وتفسير وغيرها من العلوم الإسلامية، وهي لا تتجاوز ثمانية مذاهب.
وأما الفرق الشاذة التي توجد هنا وهناك، فهي إما مبتدعة رأسًا - وهي قليلة جدًّا - أو متشعبة ومنحرفة عن إحدى المذاهب المعروفة، وعندهم آراء وتقاليد لا تشبه الأصول الإسلامية، ونحن لا نسلبهم اسم الإسلام، بل ندعوهم إلى اللحوق والرجوع إلى أحد المذاهب المعترف بها.
الرابع: يجب على أئمة كل من هذه المذاهب بيان أصول مذهبهم، وعرضها على العلماء من سائر المذاهب، كي يطلعوا على الفوارق بينهم، وأنها لا تختلف في الأصول والأسس.
الخامس: أن لا يخلطوا الأصول بالفروع عندهم، فيجعلوا ما اختص بهم من الفروع في زمرة الأصول - وقد حدث - فإن ذلك يخرج المذاهب عن كونها مذاهب، ويؤول أمرها إلى حسبانها أديانًا مختلفة.
السادس: أن النقاط المبهمة والمريبة عند كل مذهب يجب الرجوع فيها إلى الخبراء في هذا المذهب، دون الأخذ عن خصومهم، أو الاعتماد على الشائعات بين العوام من هذا المذهب، وعلى هؤلاء الخبراء إزالة الشكوك العالقة ببعض ما عندهم حتى يرتفع الريب واللوم، وتذوب الظنون السيئة التي رسخت في نفوس الآخرين.
السابع: بعد هذه الجهود المبذولة من قبل هؤلاء الخبراء، يجب الاعتراف بالمذاهب المعروفة كمدارس إسلامية مستمدة من الكتاب والسنة، واجتناب إنكارها، أو رميها بالبدعة، ورمي أتباعها بالكفر والفسوق، والخروج عن الدين، أو الفتيا - والعياذ بالله - بإباحة دمائهم أو وجوب إراقتها، كما حدثت في التاريخ.
الثامن: الإمساك من قبل أتباع كل مذهب عن القيام بنشر مذهبه بين أتباع المذاهب الأخرى، فهذا مثار التنازع والتقاتل.
التاسع: السعي إلى فتح باب الاجتهاد عند علماء كل مذهب - مع رعاية الإنصاف والسماحة - بالرجوع إلى الكتاب والسنة من جديد، وإلى الأصول العلمية والمدونات المهمة عند كل واحد من المذاهب، لتتم شروط الاستنباط، وبدون ذلك لا تجوز الفتيا ولا إصدار الرأي. ونحن نطمئن بأن الاجتهاد الشامل سوف يرفع كثيرًا من الخلاف، ويقرب الآراء.
العاشر: تشكيل لجان علمية بين أئمة المذاهب، لتبادل الآراء في أصول الإسلام المشتركة، وفيما اختلفت المذاهب فيه، وصولًا إلى الوفاق، والاحترام المتقابل بينهم، وليعذر بعضهم بعضًا فيما اختلفوا، ويتعاونوا فيما اتفقوا.
هذه أصول عشرة للتقريب بين المذاهب الإسلامية، ينبغي أن نأخذها كميثاق بين العلماء.
أعلام الوحدة الإسلامية: لا شك أن النبي عليه السلام بوصفه المؤسس للأمة الإسلامية، وأنه رسول الإنسانية والوحدة، وبما كان له من الخُلق العظيم، والسماحة، والعفو، والمداراة مع الناس، كان حريصًا على المؤمنين، وعلى تأليف قلوبهم وتوحيد صفوفهم، والسيرة الشريفة حافلة بذلك. ثم الخلفاء الراشدون اقتدوا به في كثير من الخصال، وخاصة في المشاورة بينهم وبين الصحابة فيما جد من الأمور، والأخذ بالعفو والتعايش السلمي، ولاسيما في عهد علي عليه السلام الذي بدأ فيه القتال بين المسلمين، فإنه بعد أن تغلب على خصومه في الجمل، عاملهم معاملة حسنة بسماحة بالغة، وهذا باب واسع لا نلجه.
وننتقل إلى ما بعد الصحابة إلى عهد ظهور المذاهب الفقهية، فهناك المثل الأعلى من التعايش العلمي بين أئمة المذاهب، ولاسيما بين الإمام جعفر بن محمد الصادق من أئمة آل البيت، وبين كل من الإمام أبي حنيفة إمام مذهب الرأي والقياس، والإمام مالك بن أنس إمام أهل الحديث. فقد تعلما عند جعفر بن محمد، وأخذا عنه، وبالغا في وصفه، كما جاء في الروايات ولاسيما في (جامع المسانيد) الحافل بما روي عن الإمام أبي حنيفة، و (المؤطأ) للإمام مالك، وسواه من آثار المالكية وغيرها، ففيها روايات تحكي لنا العلاقة المتبادلة المحترمة بين الإمام جعفر بن محمد وبين كل منهما.
وبعد هذا العهد، كلما تأخر الزمان نجد دائرة الشقة بين المذاهب تتوسع، ويظهر بين الأئمة الشقاق بدل الألفة والوفاق، ولا توجد نماذج ممن يتصف بالسماحة بينهم إلا النادر. ومن ذلك مثلًا الأشعري إمام الأشاعرة له كتاب في المذاهب الإسلامية، سماه باسم تلوح منه روح السماحة والإنصاف وهو (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين) ، فذكر فيه عن كل مذهب ما كانوا عليه بلا نقيصة ولا زيادة، وسماهم مسلمين ومصلين.
ثم نجد في القرن الرابع والنصف الأول من القرن الخامس، في الوقت الذي كانت السلطة بيد الديالمة، في البلاد الإسلامية، وفي بغداد بالذات، مشاركة ظاهرة في الأوساط العلمية ومجالس الدرس، فتوجد في هذا العهد جماعة من العلماء من السنة والشيعة، يأخذون الحديث، ويتداولون العلم بين بعضهم البعض، فيقدر ويعظم التلميذ أستاذه رغم اختلافهم في المذهب. ونضرب له مثلًا الإمام أبا جعفر الطوسي، إمام الشيعة (385 - 460) ، فقد كانت جماعة من شيوخه من أهل السنة يروي آراءهم في كتبه بتكريم، وكتابه (التبيان في تفسير القرآن) أصدق شاهد على ذلك، وكذلك كتاباه في الفقه:(مسائل الخلاف) و (المبسوط) ، فقد اتخذ فيها جميعًا طريقة تقريبية حسنة.
ونموذج آخر: الشريف الرضي (المتوفى 406هـ) ، فله كتاب (حقائق التأويل) في تفسير القرآن، عديم النظير في الأدب القرآني، ولم يوجد منه سوى مجلد من عشر مجلدات، يروي عن كثير من مشايخه في الأدب والتفسير وغيرها، ويترحم عليهم، وهو من أئمة الشيعة وهم من أهل السنة من المذاهب المختلفة.
ثم نقترب إلى القرن السادس، وفيه إمامان من أئمة التفسير، أحدهما معتزلي: وهو جار الله الزمخشري (م538هـ)، والآخر إمامي: وهو أمين الإسلام الفضل بن الحسن الطبرسي (م548هـ) ، فيعبر الزمخشري في تفسيره (الكشاف) عن مخالفيه بتعظيم، ويصف الطبرسي الزمخشري وتفسيره بأبلغ وصف، وينظمه ويقدره في مقدمة تفسيره (جوامع الجامع) وقد اختار لُمَعَ ما في (الكشاف) من النكات البلاغية أولًا في كتاب له باسم (الشافي الكافي) ، ثم جمعها مع لمع من تفسيره (مجمع البيان) في (جوامع الجامع) ، ونحن إذ نقدرهما نرى أن (الكشاف) ومجمع البيان من أحسن تفاسير المسلمين.
وبعد ذلك دارت الأيام حتى جاء عهد العثمانيين والصفويين، أحدهم يدعم السنة باسم الخلافة، والآخر يدعم الشيعة باسم الملك، وعند ذلك قامت القيامة، وزيدت في الطنبور نغمة أخرى، وبدأت الحروب والمعارك بينهما من جهة، والتقابل الثقافي وحرب الأقلام بتأليف الردود والنقوض من الجانبين من جهة أخرى، وفيها من الإهانة والفحش والتنابذ بالألقاب ما لا يفوقه شيء، وفي هذا العهد صدرت الفتاوى بكفر الشيعة التي سببت تشديد القتال وإراقة الدماء.
ونحن الآن وراث هذا التراث المضطرب المتلاطم المتخاصم، في عصر يسمى بعصر النور والتعايش السلمي والحوار بين الأديان، وبين الحضارات، وعيب علينا أن لا نعالج هذا الفراغ والشقة عندنا مع وجود مشتركات كثيرة بيننا، والآن حان الحين لندخل في التعريف بأعلام الوحدة والتقريب.
بُذلت جهود في سبيل الوحدة في القرن الثالث والرابع عشر الهجري في البلاد الإسلامية، لاسيما في شبه القارة الهندية، وفي بعض الأقطار من إفريقيا، ولا نعلم عنها شيئًا كثيرًا، ولا مجال إلا لذكر القليل منها:
السيد جمال الدين الأفغاني الأسدآبادي، والأستاذ الإمام محمد عبده، وأبناء مدرستهما:
وأبرز من قام ودعا إلى الوحدة الإسلامية في الأقطار الإسلامية، ولاسيما في الهند وإيران ومصر وإسطنبول، هو السيد جمال الدين الأسد آبادي المعروف بالأفغاني، والحديث عن هذه الشخصية الفريدة طويل لا مجال للخوض فيه هنا، وإنما نكتفي ببعض جوانبه.
إنه كان يُصر على إيقاظ المسلمين من غفلتهم، والصمود أمام المستعمرين وعلى رأسهم إنكلترا، وفي خلالها كان يتحدث عن الوحدة الإسلامية، وأما التقريب بين المذاهب، فلم نجد أثرًا منه سوى إدانة الاختلافات، وسوى أنه ظهر بين مريديه بمظهر المجتهد الذي يعمل برأيه ولا يقلد مذهبًا خاصًا، وأيضًا يتجه إلى فتح باب الاجتهاد، وقد نقل بعدة وسائط عن الشيخ حسن البنا رحمه الله أنه كان حاضرًا إحدى جلسات دار التقريب في بداية تأسيسها، حيث كانوا يبحثون عن اسم لها، فاقترح هو نقلًا عن السيد جمال الدين أنه كان يُعبر عن ذلك بالتقريب بين المذاهب، فسموها دار التقريب بين المذاهب الإسلامية.
نعم؛ توقف السيد في سني آخر عمره بإسطنبول داعيًا إلى الاتحاد الإسلامي، واجتمع حوله جماعة من مريديه وتلاميذه، وكان لهم جهود جبارة في هذا المجال، ولكن لا تُعلم خطته في تحقيق هذا الاتحاد، هل كان بصدد إدغام الأقطار الإسلامية في بلد واحد تحت ظل خلافة عبد الحميد، أو كان همه بعث الأمة الإسلامية في وجه العدو الأكبر حينذاك، إنكلترا، أو غيرها من الأهداف.
والذي لا يُنكر من تأثير السيد في العالم الإسلامي أنه أيقظ أعين المسلمين وحيى بهم ليقوموا صفًّا واحدًا أمام الاستعمار والغرب، ويجددوا أنفسهم وشخصيتهم ويرجعوا إلى مجدهم الأول.
ثم إنه في إيران ومصر وإسطنبول، ولعله في غيرها؛ دعا إلى سلطة قانونية، ونحن نعلم أن أنصار تحكيم نظام القانون - أي المشروطة - في إيران كانوا من تلاميذ السيد، حيث زار إيران مرتين أو ثلاث مرات.
وأيضًا هذه الفكرة والتي قبلها، مع فكرة فتح باب الاجتهاد، رسخت بين تلاميذه في القاهرة، وفي طليعتهم صديقه وتلميذه الإمام الشيخ محمد عبده، فإنه إلى جانب أعماله السياسية والعلمية وإصلاح الأزهر، كان يهتم بفتح باب الاجتهاد، وهذا الأمر مشهود بصورة واضحة في تقريراته في تفسير القرآن كما جاء في (تفسير المنار) .
والإمام عبده يعتبر الحلقة الثانية بعد السيد الأفغاني في هذه السلسلة. والذين جاهدوا في سبيل توسيع نطاق الفقه، وفتح باب الاجتهاد على مستوى المذاهب في مصر، كلهم أو جلهم كانوا من تلاميذ محمد عبده، وفي طليعتهم - كما علمنا - الشيخ مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر، الذي كانت له جهود في فتح باب الاجتهاد، وفي تطوير الجامع الأزهر إلى جامعة أزهرية، كما كان له اهتمام بالوحدة والقرب من طائفة الشيعة، ومن ذلك أنه دعا الشيخ عبد الكريم الزنجاني العالم الشيعي من النجف الأشرف إلى القاهرة، وفسح له المجال في نشر دعوته الإصلاحية والوحدوية الذي اقترح في بعض رسائله على المراغي فكرة مشروع مجلس أعلى إسلامي للنظر في أحوال المسلمين (1) .
ثم وصلت النوبة إلى رجال تأخروا قليلًا عن الشيخ مصطفى المراغي، وكان بعضهم من تلاميذه، ومن أبرزهم علمًا وجهادًا المغفور له الشيخ عبد المجيد سليم شيخ الجامع الأزهر الأسبق، فقد قام هذا الإمام بدعوة مهمة؛ هي التقريب بين المسلمين، هو مع جماعة من معاصريه وتلاميذه وعلى رأسهم المغفور له الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر الأسبق. من حسن التصادف أن سافر من إيران إلى القاهرة في ذاك الوقت عالم كبير مثقف بالثقافة الحوزوية الدارجة والثقافة الجامعية الجديدة، ألا وهو الإمام الشيخ محمد تقي القمي رحمه الله، فالتقى بهؤلاء الشيوخ وعرف بعضهم بعضًا، وقويت الصداقة بينهم بعد أن مكث في القاهرة طويلًا، وكانوا جميعًا يهتمون بأمور المسلمين ومشكلاتهم، وعلى رأسها الاختلاف السائد بينهم، فاتفقوا على عمل جماعي؛ وهو تأسيس دار التقريب بين المذاهب الإسلامية، فنشر بيانهم التأسيسي في البلاد الإسلامية، وثنوه بنشر مجلد باسم رسالة الإسلام التي كان العلامة القمي مدير مسؤوليها، والعلامة الشيخ عبد العزيز عيسى رحمه الله القائم بأعمالها، وكان بيني وبينهما في إيران وفي القاهرة اتصال وصداقة.
(1) خطاب الوحدة، لزكي ميلاني، ص133.
أئمة الشيعة الذين لبوا دعوة التقريب:
وما إن نشر البيان، ووصل العدد الأول من رسالة الإسلام إلى العراق وإيران ولبنان وغيرها من العواصم الإسلامية إلا وكان لها رد صوت والتلبي بالقبول والتقدير من قبل رجال العلم وأئمة الدين. وكان في طليعتهم المرجع الأعلى للشيعة الإمامية في إيران آية الله السيد حسين البروجردي الطبطبائي، فمنذ أن سمع هذا النداء لباها بأحسن تلبية، واتصل به العلامة القمي في إيران، وشرح له أهداف وأعمال دار التقريب، كما عرفه القائمين بها، فاعتنق السيد رحمه الله هذه الدعوة وقواها بكل ما كان في إمكانه ماديًّا ومعنويًّا، وطبعًا كان له اقتراحات على دار التقريب وقعت موقع القبول.
ومن جملة حمايته لها أن شرح الهدف منها للطلبة، سواء في مجالس درس الفقه التي كانت يحضرها ما يقارب ألف عالم، أو في جلساته الخاصة في بيته. كما كان يقترح مصرًّا على الطلبة بالرجوع إلى روايات الجمهور وأقوالهم وآرائهم، وفي هذا الصدد كان مصممًا على درج روايات أهل السنة في موسوعة حديثية كانت تؤلف تحت إشرافه باشتراك جماعة كنت أنا واحدًا منهم، ولكنه لم يوفق لذلك، ومما أبدى من الرأي في هذا السبيل قوله: إن روايات وأقوال أئمة أهل السنة هي المادة الأصلية للفقه، وكان شائعًا بين الناس، وكان فقه أئمة أهل البيت في هامشها يتعرض لها نفيًا أو إثباتًا، وتخطئة أو تصويبًا، وإن معرفة الجو الذي صدرت فيه روايات أهل البيت عليهم السلام لازمة في فهم رواياتهم وفتاويهم، ولاسيما في عهد الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام، فكان بدء نشوء الفقه بصورة مدونة، وعلى شرف ظهور المذاهب الفقهية.
كما أنه رضي الله عنه قام بعمل آخر في سبيل تقريب المذاهب وتهدئة الجو بين الفريقين قلما يعرفه أو يقدره العلماء، وهو أنه قال:(إن عقيدة الشيعة مبنية على ركنين، الأول: الاعتقاد بإمامة علي والأئمة بعده وأنه كان خليفة الرسول الأول، الثاني: أن الأئمة من آل البيت هم المرجع لحل المشاكل الدينية والأحكام بنص من الرسول في حديث الثقلين، حيث قال: ((إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي))
فكان يقول: إن قضية الخلافة لا تحتاج إليها الأمة الآن، والبحث فيها مثار الاختلاف، من دون أن يكون له ضرورة، وإنما هي في عهدة التاريخ فلا داعي للخوض فيها، وأما أن الأئمة كانوا مرجعًا للأحكام، فهي حاجة لا تختص بزمان دون زمان، فعلينا أن نكتفي في بحث الإمامة بهذه، ونسكت عن الأولى، ولا ضير في ذلك.
ومن هذا المنطلق قام أحد العلماء في قم، بتأليف رسالة باسم (حديث الثقلين) ، وقد طبعتها ونشرتها دار التقريب بالقاهرة، كما نشرت (المختصر النافع) ، كفقه موجز للإمامية وغيرها.
وممن لبى دعوة التقريب من النجف الأشرف الإمام الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء رضي الله عنه، وله مقالات في مجلة رسالة الإسلام، دعم فيها دعوة التقريب، وأجاب عن الأسئلة والشكوك حولها، وله سابقة تربو على خمسين سنة في الدعوة إلى الوحدة الإسلامية، كما أنه أعلن تحريم حركات شعبية كانت تجري بين العوام في بعض البلاد فقضى عليها، وكان له رحلة إلى القاهرة ودمشق، وله فيها محاضرات قيمة طبعت، وهو القائل لهذه الكلمة القيمة الذهبية: بُني الإسلام على كلمتين: كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة، رحمه الله تعالى.
وممن لبى هذه الدعوة المباركة عالمان كبيران من لبنان وسورية أحدهما: العلامة السيد محسن الأمين، وكان من جبل عامل، لكنه نزل دمشق، وله موسوعة كبيرة باسم (أعيان الشيعة) ، وله أقدام راسخة أمام المستعمرين حيث تخلى وأبى عن قبول قضاء دمشق نزولًا على قضاء المفتي من أهل السنة، وكان من رأيه كما حكى لي ابنه العلامة السيد حسن الأمين، في قبال أهل السنة أنه لا فرق بين الشيعة وبينهم سوى أنهم يتبعون الأئمة الأربعة ونحن نتبع أئمة أهل البيت. وأيضًا قال:(لو هجموا علينا في أمر المذاهب، ندافع عن أنفسنا، ولا نهاجم أحدًا أبدًا) ، وكانت هذه سيرته، وله أشواط إصلاحية في دمشق من تأسيس المدارس وجمعيات خيرية وغيرها رحمه الله تعالى. وله رسالة قيمة موجزة في تأليف الأمة سنقوم إن شاء الله بنشرها.
والثاني: الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي، وهو الذي فتح باب الحوار السليم في المذهب مع الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر السابق، وقد طبعت الحوارات باسم (المراجعات) ، ثم إنه لبى دعوة التقريب، وكانت تتبادل بينه وبين دار التقريب رسائل رحمه الله تعالى. وله كتاب باسم (الفصول المهمة في تأليف الأمة) عديم النظير في هذا الباب، وقد نشرناه في طبعة جديدة في المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية الذي أسسه القائد الإمام الخامنئي قبل سنين، ليكون قاعدة لهذه الفكرة المباركة، وهو الذي تلقى هذه الدعوة من الإمام الخميني الذي كان أساس دعوته الإصلاحية هي الوحدة الإسلامية، وليس عندنا مجال للحديث عنهما، ومدى اهتمامهما بأمر الوحدة الإسلامية، فإنهما كانا في العصر الحاضر في طليعة دعاة الوحدة.
أما بعد فنحن في نهاية المطاف في هذا البحث، وما بقي منه ولم نوفق لذكره أضعاف مضاعفة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وسلام على المرسلين.
* * *
تعليقًا على مسألة الأناشيد الإسلامية، أحكي لكم أناشيد ذكرها الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي في مقابلة له مع مجلة التقريب قال: وكنا نحفظ من الشعر الذي ننشده في رحاب دعوة الإخوان المسلمين:
ولست أرضى سوى الإسلام لي وطنا
الهند فيه ووادي النيل سيان
وكلما ذكر اسم الله في وطن
عددت أرجاءه من لب أوطاني
وأنا أكدت هذا المعنى في نشيد لي اسمه: (مسلمون) . وفي وقت من الأوقات كانوا في بلاد العرب - أيام مد القومية العربية - يتغنون ويتنادون بالعروبة، ويكادون يتناسون الإسلام. وكل شيء: عرب عرب عرب
…
عربًا كنا ونبقى عربًا. وأنا في هذا الوقت أنشأت نشيدًا اسمه: مسلمون والنشيد اشتهر وشرق وغرب وخاصة على لسان الشباب، وفي بعض البلاد اتخذوه شبه نشيد وطني، في جمهورية اليمن في أيام الإرياني كان التلاميذ في المدارس ينشدونه:
والنشيد يقول:
مسلمون مسلمون مسلمون
حيث كان الحق والعدل نكون
نرتضي الموت ونأبى أن نهون
في سبيل الله ما أحلى المنون
* * *
ويقول:
يا أخي في الهند أو في المغرب
أنا منك أنت مني أنت بي
لا تسل عن عنصري عن نسبي
إنه الإسلام أمي وأبي
إخوة نحن به مؤتلفون
مسلمون مسلمون مسلمون
الأستاذ محمد واعظ زادة الخراساني