المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الإسلامفي مواجهة الحداثة الشاملةإعدادالدكتور ناصر الدين الأسد - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ١١

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الحادي عشر

- ‌بيع الدين والأوراق الماليةوبدائلها الشرعيةإعدادالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌أحكام التصرف في الديوندراسة فقهية مقارنةإعداد الدكتورعلي محيي الدين القره داغي

- ‌بيع الدينأحكامه – تطبيقاته المعاصرةإعدادأ. د نزيه كمال حماد

- ‌بيع الدينإعداد الدكتورعبد اللطيف محمود آل محمود

- ‌بيع الدين وسندات القرضوبدائلها الشرعيةفي مجال القطاع العام والخاصإعداد الدكتورمحمد علي القري بن عيد

- ‌بيع الدين وسندات القرضوبدائلها الشرعية في مجال القطاع العام والخاصإعدادالدكتور سامي حسن حمود

- ‌المضاربات في العملةوالوسائل المشروعة لتجنب أضرارها الاقتصاديةإعداد الدكتورأحمد محيي الدين أحمد

- ‌المضاربات على العملةماهيتها وآثارها وسبل مواجهتهامع تعقيب من منظور إسلاميإعداد الدكتورشوقي أحمد دنيا

- ‌عقود الصيانةوتكييفها الشرعيإعدادالشيخ محمد المختار السلامي

- ‌عقود الصيانةوتكييفها الشرعيإعدادالدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌عقود الصيانة وتكييفها الشرعيعقد الصيانةإعدادآية الله محمد على التسخيري – مرتضى الترابي

- ‌عقود الصيانةإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌عقود الصيانة وتكييفها الشرعيإعدادالدكتور محمد أنس الزرقاء

- ‌ضوابط الفتوىفي ضوء الكتاب والسنةومنهج السلف الصالحإعداد الدكتورعبد الوهاب بن لطف الديليمي

- ‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعداد الدكتوروهبة مصطفى الزحيلي

- ‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعداد الدكتورعبد الله الشيخ المحفوظ بن بيه

- ‌العمل الفقهيعند الإباضيةإعدادناصر بن سليمان بن سعيد السابعي

- ‌الإسلامفي مواجهة الحداثة الشاملةإعدادالدكتور ناصر الدين الأسد

- ‌مجمع الفقه الإسلامي الدوليووحدة الأمة الإسلاميةإعدادمحمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌الوحدة الإسلاميةمنهجية المقارنة بين المذاهب الفقهيةإعدادالدكتور عبد الستار أبو غدة

- ‌الوحدة الإسلاميةمعالمها وأعلامهاإعدادالأستاذ محمد واعظ زادة الخراساني

- ‌الوحدة الإسلامية{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}إعدادالشيخ عدنان عبد الله القطان

- ‌الوحدة الإسلاميةأدب الحوار وأخلاقيات البحثإعدادالدكتور سعيد بن عبد الله بن محمد العبري

- ‌‌‌الإسلام في مواجهة العلمنةإعدادالدكتور عمر عبد الله كامل

- ‌الإسلام في مواجهة العلمنةإعدادالدكتور عمر عبد الله كامل

- ‌الإسلام في مواجهة العلمنةموقف الإسلام من مسألة الحكم والسيادةإعدادآية الله الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الديمقراطية والعلمانيةوحقوق الإنسانالمرجعية الغربية والمرجعية الإسلاميةإعدادالأستاذ إبراهيم بشير الغويل

الفصل: ‌الإسلامفي مواجهة الحداثة الشاملةإعدادالدكتور ناصر الدين الأسد

‌الإسلام

في مواجهة الحداثة الشاملة

إعداد

الدكتور ناصر الدين الأسد

رئيس المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية

(مؤسسة آل البيت) عمان - الأردن

* * *

بسم الله الرحمن الرحيم

الإسلام في مواجهة الحداثة الشاملة

الحداثة مصطلح يدل على منهج فكري ومذهب اجتماعي في الحياة والسلوك، والمصطلح، كلُّ مصطلح، إنما هو وعاء لفظي في داخله مفهوم محدد، لا يجوز نقله إلى مفهوم غيره إلا باستعمال مصطلح آخر، فالحداثة إذن ليست كلمة عامة يُقصد بها الجِدَّة والتطور في كل عصر عن العصر الذي سبقه، فتختلف بذلك سماتها ومظاهرها وعناصرها باختلاف العصور، فالتجدد والتطور في العصر الأموي، في الحياة عامة، لهما من السمات والمظاهر ما يختلف عن عصر الراشدين، ثم ما يختلف عن العصور العباسية وما تلاها من عصور.

وقد اختلط معنى مصطلح (الحداثة) في اللغة العربية في بدء استعماله ودورانه على الأقلام والألسنة بمعنى الجِدَّة، وربما كان سبب ذلك أن الوصف منها هو (حديث)، فقالوا:(العصر الحديث) ، و (الشعر الحديث) ، فظنوا أن هذا الوصف منصرف إلى معنى (الجديد) ، أو هذا الذي نحن فيه الآن، وربما جعلوه بمعنى (المعاصر) ، وقالوا إن لكل عصر جديده أو حديثه، مرددين قول الشاعر:

إن ذاك القديم كان حديثًا

وسيغدو هذا الحديث قديما

ومن أجل رفع هذا الالتباس أصبح بعض كتابنا في هذه الأيام يستعملون صفة (الحداثي) بإضافة ياء النسبة إلى المصدر، وربما زادوا في التوضيح فقالوا (الحداثية) - باستعمال المصدر الصناعي - للتفريق بينها وبين (الحداثة) بمعنى الجِدَّة، ثم أغرب بعضهم فاستعملوا للمصدر لفظة (الحداثوية) ، وللصفة لفظة (الحداثوي) . كل ذلك ليثبتوا لهذا المصطلح انفراده بمعنى خاص، وامتيازه من غيره.

ص: 667

فما هي إذن هذه الحداثة التي اختلف كثير من الناس في فهمها، وحاروا في إدراك مقوماتها أو عناصرها؟ ولابد لنا قبل أن نمضي في الكلام على الحداثة من أن نشير إلى أنها - في أصلها - ترفض التحديدات والتعريفات وصياغة النظريات العامة وإصدار الأحكام القاطعة. من أجل ذلك لا نكاد نجد في المراجع التي تبحث في الحداثة، تحديدًا واضحًا أو تعريفًا شاملًا لها، وإنما نجد فيها تناولًا عامًا لبعض صفاتها أو مرتكزاتها أو مظاهرها أو آثارها، وهو ما سنتطرق إليه في الصفحات التالية، وربما كانت هذه التعميمات الفضفاضة لمدلول الحداثة من أسباب الاختلاف في فهمها وتفسيرها، حتى لقد قيل إن لكل بلد حداثته، ومع ذلك وقعت الحداثة - في الممارسة والتطبيق العملي: في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة - فيما رفضته نظريًّا، وفيما يخالف مبادئها ومنطلقات أفكارها.

فشهد القرن العشرون - مع التقدم العلمي والتكنولوجي - أقسى أشكال التحكم السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، في الشيوعية والرأسمالية والنازية والفاشية والصهيونية. وقد قامت كلها على أساس الأحكام القاطعة التي لا تقبل بغيرها، ولا تسمح بالرأي الآخر، وعلى أساس الفردية المطلقة، وإهدار قيم المجتمع، واغتصاب حقوق الآخرين، واحتلال أراضيهم، وتعذيبهم وقتلهم فرادى وجماعات، واستلاب اللغات والثقافات. وانتهت الحداثة الغربية بتقدمها العلمي والتكنولوجي إلى إفساد البيئة وتلويثها، والعبث بالطبيعة، واستنزاف الموارد الخام ونهبها، واستفحال الاستعمار، واستعباد الشعوب وتدمير كوامن القوة فيها، وإن كانت تدعي نقيض ذلك تحت شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان، وسواهما من الشُّعُر الزائفة التي تكيل بمكيالين، والتي تستعمل المقاييس المزدوجة.

من أجل هذا كله أصاب الفزع كثيرًا من أحرار المفكرين والمثقفين، فأعلنوا انتهاء الحداثة وسقوطها واستنفادها أهدافها التي نادت بها في البدء، ونادوا بشعار جديد هو (ما بعد الحداثة) . ولا يزال هذا الشعار يكتنفه الغموض، ولكنه لا يعدو أحد أمرين عند هؤلاء المنادين به: فبعضهم يرى أنه تهذيب للحداثة وتليين لها بعد أن أصابها الجفاف فقست وأصابت البشرية بكثير من الكوارث الطبيعية والإنسانية، وكانت العامل وراء هذه الحروب العالمية والمحلية، وفي انتشار المجاعات والأمراض، بسبب خلوها من الروح، فهي محتاجة إلى تطعيم (ماديتها) المُغرِقة بقدر من المعنويات والروحانيات لتكتسب جانبًا إنسانيًّا يخفف من فرديتها وجمودها وأنساقها المغلفة.

ص: 668

ويذهب فريق آخر إلى إنكار هذا الشعار الجديد، وإلى تأكيد أن الحداثة ليست محدودة بزمن أو عصر حتى يقال إنها انتهت أو سقطت، أو يقال إن حقبة أخرى ستتلوها هي حقبة ما بعد الحداثة. وموضوع ما بعد الحداثة لا يدخل في عنوان دراستنا حتى نفصل القول فيه، ولذلك نكتفي بهذه الإشارة العابرة إليه، وربما تساءل بعضنا ساخرًا: وهل دخلنا مرحلة الحداثة حتى نتحدث عن مرحلة ما بعد الحداثة؟

ولا يزال كل هذا الذي ذكرته من تقديم بين يدي الموضوع يحتاج إلى مزيد من التوضيح - على ما بذلت من جهد لتخليصه وتلخيصه -، ولا يتأتى هذا التوضيح المطلوب إلا بعد أن نتحدث عن طبيعة الحداثة وجوهر أفكارها ومبادئها.

والحداثة الغربية نتاج الثقافة الغربية والفكر الفلسفي الغربي، وقد بدأت معالمها تتضح بالتدريج منذ القرن السادس عشر الميلادي، ثم أخذت تنمو وتتدرج في صور الحياة الغربية المختلفة، حتى أصبح الغربيون ينسبون إليها أسباب تقدمهم وازدهار مراحل حضارتهم خلال هذه السنوات الأربع مائة.

والارتباط وثيق بين الحداثة والعلمانية أو الثورة على الكنيسة - خاصة الكاثوليكية في الفاتيكان - وحركات الإصلاح الديني عند مارتن لوثر (1483 - 1546م) ، وجون كالفن (1509 - 1564) . وقد كانت تلك العلمانية في بدء أمرها تحررًا فكريًّا من سيطرة الكنيسة ونفوذ رجال الدين من الكهنوت، واحتكارها للعلم والمعرفة، وحجرهم على العقول واضطهادهم للعلماء من غيرهم، وإقامة أنفسهم وسطاء بين الله والناس، ويحكمون عليهم بالكفر والحرمان من الجنة، أو يقبلون توبتهم ويمنحونهم صكوك الغفران. فكانت حركات الإصلاح الديني ودعوات المفكرين تنادي برفع تحكم رجال الكنيسة في الفكر ووصايتهم على العقول، وترك العلاقة بين الله والناس مباشرة مفتوحة، فهو وحده الذي يحكم بالحرمان أو الغفران.

ص: 669

حتى قد ذهب بعض العلماء إلى أن تلك الحركات والدعوات، كانت متأثرة بما كان شائعًا بين العلماء والمتعلمين في أوروبا من المعارف الإسلامية، ومن تعاليم القرآن الكريم وكتابات المفكرين والفلاسفة المسلمين. وقد أقاموا الدليل على ذلك بقدوم أعداد من هؤلاء المتعلمين إلى الأندلس للدراسة في المدارس وحلقات العلم هناك، ومنهم عدد من الرهبان الذين أصبح أحدهم بابا الكنيسة الكاثوليكية، وهو (سلفستر الثاني) في سنة 999م، وكذلك استدلوا بكثرة الترجمات للقرآن الكريم ولكتب بعض هؤلاء العلماء والفلاسفة المسلمين من أمثال: الكندي وابن سينا والغزالي وابن رشد والحسن بن الهيثم وغيرهم كثير، وقيام اتصال وثيق بين المسلمين والأوروبيين في أثناء حروب الفرنجة (الحروب الصليبية) ، ومن خلال السفراء والأسرى بين الجانبين، وكان منهم علماء وفلاسفة تدور بينهم جميعًا محاورات دينية يعرض المسلمون من خلالها الإسلام (1) .

(1) انظر تفصيلات ذلك في البحث الذي قدمه الأستاذ الشيخ أمين الخولي في أيلول - سبتمبر 1935م إلى مؤتمر تاريخ الأديان الدولي السادس في مدينة بروكسل (بلجيكا) ، وعنوانه (أثر الفكر الإسلامي في حركة الإصلاح المسيحي) أو (صلة الإسلام بإصلاح المسيحية) ، الجزء التاسع من الأعمال الكاملة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1993م.

ص: 670

ولكن هذه النشأة التاريخية ما لبثت أن مرت في مراحل من التطور، فأصبحت الثورة على الكنيسة ورجال الكهنوت ثورة على الدين نفسه، وكفرًا به، إلى أن قال (نيتشه) (1844 - 1900) قولته المشهورة:(قد مات الإله) ، وأصبح تنظيم شؤون الحياة والناس لا علاقة له بتعاليم الدين، وراج شعار (الإنسان يصنع تاريخه) . وربما كان هذا التغير في موقف العلمانية ومعناها هو السبب في الاختلاف في فهم كثير من الناس لها وفي موقفهم منها. فإن فُهمَت على المعنى الأول فنحن - المسلمين - معها، إذ لا كنيسة عندنا ولا كهنوت، وإن فُهِمَت على المعنى الثاني فهي منافية للدين منكرة لله عز وجل، ولا يقبل بها مسلم مؤمن.

وهذا الذي ذكرناه عن العلمانية هو الحداثة بعينها، وهو يُدخِلنا فيها من أوسع أبوابها، ذلك أن ما قاله (نيتشه) وما ذكرناه من أن (الإنسان يصنع تاريخه) هما من أسس الحداثة وركائزها. بل لقد ذهب بعضهم إلى أن تعريف الحداثة: هو أن (الإنسان يصنع تاريخه)(1) مع تأكيد كلمة (الإنسان) وأن (هذا القول بمثابة شهادة ميلاد الحداثة، وتحديد مجال تساؤل الفكر الاجتماعي)(2) ، وحتى نستكمل توضيح هذا العنصر العلماني من عناصر الحداثة نحتاج إلى أن نستمر في اقتباس عبارات من أصحاب هذا المذهب، فأحدهم مثلًا يتساءل (3) : (

هل أصبح من الممكن ربط مختلف إنجازات المعرفة الفرعية ودمجها في تفسير موحد للواقع الاجتماعي ككل؟) ويجيب بقوله: (للإجابة على هذا السؤال طابع فلسفي بالضرورة، لقد كان لإجابة جميع فلسفات العوالم القديمة - أي السابقة على الحداثة الرأسمالية - طابع ميتافيزيقي صريح. فكانت هذه الفلسفات تؤكد أن هناك نظامًا يحكم الكون ويفرض نفسه على الطبيعة والمجتمعات والأفراد، فأقصى ما كان يمكن أن يحققه البشر - فرادى وجماعات - إنما هو اكتشاف أسرار هذا النظام، بواسطة صوت الأنبياء، وإدراك مغزى الأحكام الميتافيزيقية المضمرة، فالطاعة لها) .

(1) سمير أمين، مقال في مجلة الكرمل، رام الله، العدد (51) ربيع (1997) ، بعنوان (تجاوز الحداثة أم تطويرها)، وقد ذكر في الحاشية أن المقالة (من دراسة بعنوان: مناخ العصر، رؤية نقدية، قدمت في ندوة عقدها في القاهرة مركز البحوث العربية والجمعية العربية لعلم الاجتماع بين 13 و15 مارس -آذار1997م) .

(2)

سمير أمين، مقال في مجلة الكرمل، رام الله، العدد (51) ربيع (1997) ، بعنوان (تجاوز الحداثة أم تطويرها)، وقد ذكر في الحاشية أن المقالة (من دراسة بعنوان: مناخ العصر، رؤية نقدية، قدمت في ندوة عقدها في القاهرة مركز البحوث العربية والجمعية العربية لعلم الاجتماع بين 13 و15 مارس -آذار1997م)

(3)

سمير أمين، مقال في مجلة الكرمل، رام الله، العدد (51) ربيع (1997) ، بعنوان (تجاوز الحداثة أم تطويرها)، وقد ذكر في الحاشية أن المقالة (من دراسة بعنوان: مناخ العصر، رؤية نقدية، قدمت في ندوة عقدها في القاهرة مركز البحوث العربية والجمعية العربية لعلم الاجتماع بين 13 و15 مارس -آذار1997م)

ص: 671

ثم يقول:

(نشأت الحداثة عندما تخلى الفكر الفلسفي عن هذا الإرث (1) ، فدخل البشر في فلك الحرية ومعها القلق، وفَقَد الحكم طابعه المقدس، وصارت ممارسات الفكر العقلاني تنعتق من الحدود المفروضة عليه سابقًا. فأدرك الإنسان منذ هذه اللحظة أنه هو صانع تاريخه، بل إن العمل في هذا السياق واجب، الأمر الذي يفرض بدوره ضرورة الخيار.

انطلقت الحداثة - إذن - عندما أعلن الإنسان انعتاقه من تحكُّم النظام الكوني. وارتأى - وأشارك العديد من الآخرين في هذا الرأي - أن هذه القطيعة كانت أيضًا لحظة تبلور الوعي بالتقدم. فالتقدم - في مجال إنماء قوى الإنتاج، أو في مجال تراكم المعلومات العلمية الجزئية - ظاهرة موجودة منذ الأزل. ولكن الوعي بالتقدم، أي الرغبة في إنجازه وربطه بالتحرر، إنما هو شيء آخر، حديث النشأة. من هنا أصبح مفهوم التقدم وثيق الصلة بالمشروع التحرري، كما أصبح العقل مرادفًا للتحرر والتقدم) . ثم يقول:(ليس هناك تعريف آخر للحداثة - في رأيي - غير هذه القطيعة الفلسفية) .

ومما يزيد الأمر وضوحًا تلك الدراسات الأوروبية في موضوع علم الاجتماع الديني وخاصة في فرنسا. ومن الدارسين الذين بحثوا هذا الموضوع الباحثة الفرنسية (دانيال هير فيوليجيه) ، التي تناولت العلاقات المتشابكة بين الدين والحداثة والعلمانية، فهي تقرر أن الحداثة كانت تتصور أنها مسار تاريخي طويل للتحرر من إسار الدين، وذلك بتضافر ثلاثة أبعاد كبيرة أولها: تأثير العقلانية، والتركيز على العلم والتكنولوجيا، مما يجعل الإنسان ينظر إلى الكون من منظور علمي بعيد عن الرؤى الدينية للعالم التي كانت تقدمها الأديان الكبرى.

وثانيها: أن جوهر الحداثة يتركز في استخلاص الفرد الفاعل المستقل من إطار السياقات الاجتماعية الكلية التي كانت تذيب فرديته؛ كالقبيلة والأسرة الممتدة وعضويته في الحرف التقليدية. وبذلك أصبح الفرد قادرًا على أن ينتج بنفسه معايير الخير والشر ومرجعياتهما، ويحدد توجهاته المستقلة، من خلال النقاش الحر مع أمثاله من الأفراد الفاعلين، حول المعنى الذي يريد أن يضفيه على العالم.

(1) يقصد بذلك: القدرة الإلهية والغيب، وهو ما سماه أيضًا قبل قليل: الأحكام الميتافيزيقية المضمرة!.

ص: 672

وهذه الاستقلالية من شأنها - دون أدنى شك - أن تحقق على حساب تراث الديانات السماوية الكبرى التي درجت على فرض القوانين التي تحكم حياة الناس من الميلاد حتى الموت.

أما البعد الثالث: فيتعلق بسمة أساسية من سمات المجتمعات الحديثة، وهي تخصص المؤسسات وتميز كل واحدة منها عن الأخرى، مما يجعل كلاًّ من النسق السياسي والثقافي والاقتصادي والديني ومن الحياة الخاصة دوائر منفصلة، بحيث توقف النسق الديني عن فرض قواعده على القطاعات الأخرى. فالنظام السياسي في المجتمع الحديث - بتأثير العلمانية - تخلص من تأثير النسق الديني تحت شعار الفصل بين الدين والدولة، كما أن القطاعات الاقتصادية، وحتى الثقافية، انطلقت بعيدًا عن التوجهات الدينية الصارمة التي رأى فيها أنصار الحداثة قيودًا تكبل انطلاقة المجتمع تجاه التقدم (1) . وهكذا نجد في ظل هذا التصور الحداثي وفي ضوء المسيرة التاريخية الفعلية؛ أن علم الاجتماع الديني كاد ينحصر في دراسة ظاهرة الإزاحة للدين في المجتمعات الحديثة، وتتبع وتيرة الإزاحة وتنويعاتها الوطنية في مختلف المجتمعات (2) .

* * *

وحين نعيد النظر فيما عرضناه في الصفحات السابقة لنستخلص منه عناصر الحداثة وركائزها من أجل أن نصل إلى توضيح لها بذكر صفاتها وماهيتها وليس بتعريف لفظ يحددها، نجد لها العناصر والمقومات التالية:

أولها: حرية التفكير والتعبير، وحرية البحث و (الشك فيما هو قائم، وإعادة التساؤل فيما هو مسلم به)(3) . ونزع المقدس من أي فكرة تعتقدها البشرية، وذلك رد فعل لاحتكار الكهنوت للمعرفة والعلم، وتحكمهم بعقول العلماء والمفكرين، على ما فصلنا القول فيه.

وثانيها: تحكيم العقل في كل ما يتصل بالإنسان وكل ما يعرض له، فيقبل ما يقبله عقله ويرفض ما لا يقبله. وانتهى الأمر إلى تأليه العقل، وإنكار الغيب، ونفي الوحي، وعُدَّا من الخرافات، حتى إنهم ابتدعوا تعبير (ثقافة الخرافة) ، ولم يستطيعوا أن يفرقوا بين الغيب والوحي وبين الخرافة، على ما سنبينه في صفحات تالية. ومن هنا نشأ الاعتقاد بأن الحداثة تدعو إلى القطيعة مع الماضي ومع التراث، وهو اعتقاد صحيح إذا حُصِر في القطيعة مع أنماط التفكير وأساليبه، ومع التراث الديني المسيحي ونصوصه.

وثالثها: الأخذ بالعلم ومناهجه، بعيدًا عن تصديق تعاليم الدين وأحكامه مما لا يخضع لقوانين العلم وتجاربه، وأصبح الإنسان هناك يحس بأنه سيد مصيره وصانع تاريخه، فسادت العقلانية المادية التي صورت للإنسان قدرته الغالبة على الكون والدين (الكنيسة) ونبذ الغيبيات. وكان كل ذلك بسبب نتائج التقدم العلمي والتكنولوجي منذ أن تحرر العقل الأوروبي من ربقة قيود الكنيسة، وانطلاقه في فضاء رحب لارتياد المعرفة في الأرض والبحر والجو.

(1) موجز حوار أجراه حسان عرفاوي رئيس تحرير مجلة (العالم العربي في البحث العلمي) وروبير سانتور مارتينو مع الباحثة الفرنسية، ونقلت هذا الموجز من مقالة للسيد ياسين في الأهرام 2/4/1998م.

(2)

موجز حوار أجراه حسان عرفاوي رئيس تحرير مجلة (العالم العربي في البحث العلمي) وروبير سانتور مارتينو مع الباحثة الفرنسية، ونقلت هذا الموجز من مقالة للسيد ياسين في الأهرام 2/4/1998م.

(3)

جابر عصفور، تعارضات الحداثة، مجلة فصول، العدد الأول، أكتوبر 1980م.

ص: 673

ورابعها: الإيمان بفكرة التقدم. وخلاصتها أن الإنسانية تسير دائمًا إلى الأمام من عصر إلى عصر، وأن كل عصر تالٍ لابد أن يكون أكثر تقدمًا وأفضل للناس من العصر الذي سبقه؛ فالحاضر أفضل من الماضي، والمستقبل أفضل من الحاضر. والتقدم بهذا المعنى أمر حتمي. على حين كان الناس قبل القرن السادس عشر يمجدون الماضي، ويرون أن العصور السابقة كانت أفضل من الحاضر، وأن كل عصر أسوأ من العصر الذي قبله، ومن هنا نشأت فكرة تقديس الماضي، وأصبح كثير من الناس يحنون إلى الأيام الفاضلة السعيدة (Good old days) .

وفكرة التقدم ترتبط ارتباطًا وثيقًا بفكرة التطور، فقد

(كان العقل البشري في عمومه يعتقد بأن للأشياء - وضمنها الأفكار، والمرجعيات والقيم والإيديولوجيا والمبادئ - حقائق ثابتة أزلية أبدية. وقد سمى الفلاسفة القدماء وربما أيضًا المحدثون؛ هذه الثوابت: جواهر، أما ما قد يطرأ عليها من تغيرات ظاهرة، فهي - كما سموها - مجرد أعراض لتلك الجواهر)(1) . وهذا يعني أن تلك (الجواهر) ستظل على حالها الثابتة منذ بدء العالم إلى نهايته دون تغيير أو تطوير. ثم جاء تصور عقلي جديد جعل (التغير) مكان (الثبات) ، وانتهت بذلك مرحلة التفكير المطلق، وبدأت مرحلة التفكير النسبي (الذي ينظر إلى كل شيء على أنه متغير ونسبي)(2) .

وذهب بعضهم إلى أن التقدم والحضارة وقفٌ على أوروبا، ومن هنا سادت نظرة التعالي الأوروبي إلى البلاد الأخرى (المتخلفة) ، وخاصة بلاد آسيا وإفريقيا، وكان ذلك سببًا من أسباب حركة الاستعمار الأوروبي، إذ كان الاعتقاد أنه من حق تلك البلاد المتقدمة أن تستخدم سكان البلاد المتخلفة وتستعبدهم، وتستثمر مواردهم وتستنزفها لخير الإنسانية المتحضرة، وقد ادعى بعض ساستهم أن تلك البلاد الآسيوية والإفريقية لم تبلغ سن الرشد بعد، وأن الاستعمار هو وسيلة الأخذ بيدها إلى الترقي والتحضر.

(1) المستشار شريف كامل، فكرة التقدم وتداعياتها، الأهرام 25/8/1996م.

(2)

المستشار شريف كامل، فكرة التقدم وتداعياتها، الأهرام 25/8/1996م.

ص: 674

وخامسها: تمجيد الفردية (Individualism) التي أخذت تنمو، وخاصة بعد الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، فـ (الفكر والنظام السياسي والاجتماعي الغربي قام على أساس مفهوم واحد مقدس هو الفردية، الذي يضمن للفرد السعي نحو تحقيق مصالحه، بغض النظر عن الوسائل التي يستخدمها لتحقيق هذه الغايات. وفي حال حدوث تضارب بين مصلحة الفرد والمجتمع فإن مصلحة الفرد هي التي تعلو على ما سواها. ومن هذا المفهوم تفرعت كل الأفكار والقيم الغربية المتعلقة بالحرية الفردية والمبادرة الذاتية التي لا تحدها حدود، ولا تكبلها ضوابط وقيود)(1) .

وقد قامت (حقوق الإنسان) على أساس فلسفي ومذهبي من الحرية الفردية. وكانت المغالاة في هذه الحرية واحترامها تعبيرًا عن رد فعل لما كان يعانيه الفرد من أغلال القرون الوسطى الأوروبية في ظل أنظمة الحكم المطلق والإقطاع والكنيسة. وقد أتاحت هذه الحرية الفردية الانطلاق إلى بناء المجتمع الغربي الحديث الذي يمارس فيه الفرد استقلاله وحريته ودوره في الإبداع والتقدم والتميز وإقامة الدولة المدنية الحديثة.

ولكن المغالاة في هذه الحرية الفردية بلغت مبلغًا تمثل في إباحة كثير مما كانت الشرائع السماوية والمجتمعات لا تبيحه، مثل: إباحة المخادنة (مع منع تعدد الزوجات الشرعيات) ، وإباحة الزنى وإسقاط عقوبته حتى عن الزوجة، والسماح بالتزاوج بين أفراد الجنس الواحد: بين الذكور والذكور وبين الإناث والإناث، وتخفيض السن المسموح لها بهذا التزاوج المثلي أو المعاشرة والمعايشة المثلية إلى الثامنة عشرة بل دونها! وغير ذلك من مظاهر الحياة والسلوك التي انتهت إليها الحرية الفردية مما يستهجنه كثيرون حتى في الغرب نفسه؛ إذ ليس من شك أن عندهم عشرات الملايين من المؤمنين المتدينين، ومن المحافظين على التقاليد، وكذلك من الذين لا ينتمون إلى الحداثة في شيء، من: الأميين، والمعتنقين لمذاهب دينية وثنية، والمعتقدين بالخرافات

إلخ. والحكم بالحداثة إنما يشمل الاتجاه العام في المجتمع والدولة، وليس الأفراد الذين تظل نسبتهم قليلة مهما يكثر عددهم.

(1) الدكتور مروان قبلان، مقالة في جريدة الشرق الأوسط 27/7/1998م، ص16.

ص: 675

وقد قيل عن الحداثة: إن لها - بأبعادها السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية.. - وجهًا مشرقًا نتطلع إليه، وجانبًا مظلمًا نتجاهله. وإن ما هو إيجابي وتقدمي نهضوي في الحداثة هو الذي أبرز على مدى عقود مضت، ولكن التعتيم على الجوانب السلبية للظاهرة نفسها أصبح الآن غير مقبول. وقد نُظِر إلى سلبيات الحداثة في المجتمع والأفكار والقيم خلال عقود التنمية في العالم الثالث - والعالم العربي منه - في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، على أنها مشكلات انتقالية ستتغلب عليها المجتمعات التقليدية في مسيرتها التاريخية نحو الحداثة! ومن هنا جاء هذا الاندفاع نحو التقدم و (المعاصرة) ، بسبب رؤية متكاملة للحداثة تتجاهل ما هو مضر وسيئ منها (1) .

ويسمى هذا النمط من التفكير القائم على مفهوم الفردية بالفكر الرأسمالي. وهو فكر لا ينكر حتى أشد أنصاره المساوئ التي أفضى إليها، وقد دفعت تلك المساوئ بآخرين إلى نظرية جديدة جاءت رد فعل على مثالب الفكر الرأسمالي، هي النظرية الشيوعية. ومن يُمعِن النظر في الفكر الشيوعي يجد أن أصحابه قلبوا المفاهيم الرأسمالية، فذهبوا من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار: نزعوا وسائل الإنتاج من يد الفرد ليضعوها في يد الدولة، وحولوا المجتمع إلى حالة المركزية الشديدة، وحرموا الفرد من أبسط حقوقه ومقومات إنسانيته، فجردوه من الحرية، ومن الملكية التي تكفل له حقًا خاصًا في أي أمر حتى في أولاده (2) .

* * *

وكان لابد أن تظهر اتجاهات فكرية ومواقف ومذاهب تحُدّ من هذا الاندفاع الذي انجرفت إليه الحداثة في مجموعها أو في بعض عناصرها، مع التمسك بجوهرها وأفكارها الأساسية، ولقد أصبح واضحًا أن الحداثة - من حيث هي منهج فكري ومذهب اجتماعي في الحياة والسلوك، وأسلوب في البحث والتعليل والتحليل - قد حققت خلال القرون الأربعة الأخيرة مكاسب للإنسانية أوصلتها إلى هذا التقدم العلمي والتكنولوجي المتسارع، ولكن الذي لا شك فيه أنها قد أخفقت في جوانب متعددة من الحياة، وكانت بعض عناصرها السبب في كوارث حاقت بالبشرية، أشرنا إلى بعضها، مثل: تلوث البيئة، وتدمير الطبيعة، وانتشار المجاعات والأمراض، ونشوب الحروب العالمية والمحلية، والغلو في الفردية والمادية، وتفكك الأسرة، والإسراف في شعور التعالي الغربي، وحرص الغرب - وخاصة الدولة الكبرى الولايات المتحدة الأمريكية - على فرض أنظمته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وأنماط حياته ونظرته إلى التعامل مع مختلف القضايا، على الثقافات الأخرى وطمس خصوصيات تلك الثقافات، وهو ما قد يجعل العولمة الحالية إحدى نتائج الحداثة.

(1) انظر: فادي إسماعيل، مقالة في جريدة الحياة 27/7/1998، ص13.

(2)

انظر: مقالة الدكتور مروان قبلان المُشار إليها سابقًا.

ص: 676

وهكذا نجد الحداثة متصلة - في مبدئها ونشأتها - بالعلمانية، ونجدها كذلك متصلة - في تطورها التاريخي - بالاستعمار ثم بالعولمة.

وكان أهم عنصر من عناصر الحداثة تعرض لإعادة النظر فيه هو العلمانية، ومن هنا انتهى بعضهم إلى القول إنه:(على عكس ما كان يتصور أنصار الحداثة الغربية؛ من أن مشروعها الحضاري، الذي يقوم على الفردية والعقلانية والوضعية والعلم والتكنولوجيا، سيؤدي بالتدريج إلى تهميش الدين واحتلاله موقعًا ثانويًّا في المجتمع الحديث، فإن وقائع العقود الماضية، وما نراه من عودة للمقدس في الوقت الراهن يشير إلى سقوط نبوءة أنصار الحداثة)(1) .

ومثلما بُولِغ في علمانية الحداثة؛ كذلك بُولِغ في رد الفعل والعودة إلى الدين: فظهرت في عدد من البلاد حركات دينية تقوم على الغلو والتعصب وسوء الفهم للدين وللكتب المقدسة، مثل: الجماعات المسيحية اليهودية، أو الصهيونية، عند الإنجليين وخاصة في الولايات المتحدة، ومثل أعمال الإرهاب بين الكاثوليك والبروتستانت في أيرلندا الشمالية، ومثل قيام دولة عنصرية دينية على أساس من أساطير بعض الكتب الدينية المحرفة ونبوءاتها، وربما كان أوضح مثال على ذلك دولة إسرائيل في فلسطين المحتلة.

(1) السيد ياسين، مقال الأهرام المُشار إليه سابقًا.

ص: 677

وبعد..

فما هو موقف الإسلام من كل ما تقدم؟ وكيف يكون الإسلام في مواجهة الحداثة الشاملة؟ وللإجابة عن هذين السؤالين اللذين يكادان يكونان سؤالًا واحدًا، لابد لنا من أن نعود بذاكرتنا إلى عصور ازدهار العلم الإسلامي، وانتشار الحضارة الإسلامية، وحركتهما في التوسع والتأثير في أوروبا، وخاصة منذ القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي) ، وما تلاه من عصور حتى القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) . وهو ما أشرنا إلى طرف منه عند حديثنا قبل صفحات عن حركات الإصلاح الديني المسيحي في أوروبا، وسنعود إليه بعد قليل. وربما كانت أوضح السبل إلى تلمس الإجابة عن السؤالين السابقين أن نقف عند كل عنصر من عناصر الحداثة لنتحدث عن موقف الإسلام منه وعلاقة المسلمين به.

فالعنصر الأول، وهو حرية التفكير والتعبير، وحرية البحث و (الشك فيما هو قائم وإعادة التساؤل فيما هو مسلم به) ، عنصر يتضمن مبادئ قررها الإسلام تقريرًا واضحًا لا لبس فيه، وسار على هديها العلماء والمفكرون المسلمون، وحسبنا أن نشير في هذا المجال إلى أن الإسلام قد أباح حرية الخطأ، وجعله حقًا من حقوق المسلمين في بحثهم عن الحقيقة، إذا خلصت نياتهم وكان الحق رائدهم ولم يتعمدوا ذلك الخطأ للتضليل. ومن هنا كان دعاء المسلمين:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، وقوله تعالى:{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 5]، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان))

(1)

.

ولم يقتصر الإسلام على التجاوز عن خطأ المخطئ والصفح عنه، إنما كتب له الحسنة والثواب حين يخطئ وهو يبحث عن الحق ويطلب العلم، فجعل له حينئذ أجرًا واحدًا وجعل للمصيب أجرين (2) .

وتدخل في هذا الباب آيات التسخير المتعددة في كتاب الله تعالى، وأجمعها وأشملها قوله تعالى:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 13] ، وهكذا انطلق علماء المسلمين (يتفكرون) و (يتدبرون) دون ما حرج ولا تزمت، لا يحول بينهم وبين ميدان من ميادين العلم حائل.

(1) حديث صحيح أخرجه من حديث ابن عباس: ابن ماجه (2045)، والطحاوي في (شرح معاني الآثار) : 2/56، والدارقطني (497)، والحاكم: 2/198، وابن حبان (1498) . وروي من حديث أبي ذر، وثوبان، وابن عمر، وأبي بكرة، وأم الدرداء، كما بينه ابن رجب في (شرح الأربعين) ، ص270 - 272.

(2)

متفق عليه، وقال الخطابي:(إنما يؤجر المخطئ على اجتهاده في طلب الحق لأن اجتهاده عبادة، ولا يؤجر على الخطأ بل يوضع عنه الإثم فقط) ، السيد سابق، فقه السنة: 3/410، دار الكتاب العربي، بيروت.

ص: 678

أما موضوع (الشكل فيما هو قائم وإعادة التساؤل فيما هو مسلم به) ، فالفكر الإسلامي حافل بما يدل على أنه الرائد في هذا المضمار، وقد كان من منهج العلماء المسلمين الشك في الأمور إلى أن يقوم الدليل على صحتها أو بطلانها. ومن أمثلة ذلك ما نص عليه الجاحظ - بعد أن ذكر خبرًا غريبًا - قال (1) :

(ولم أكتب هذا لتقربه، ولكنها رواية أحببت أن تسمعها. ولا يعجبني الإقرار بهذا الخبر، وكذلك لا يعجبني الإنكار له، ولكن ليكن قلبك إلى إنكاره أميل، وبعد هذا فاعرف مواضع الشك، وحالاتها الموجبة له، لتعرف بها مواضع اليقين والحالات الموجبة له. وتعلم الشك في المشكوك فيه تعلمًا، فلو لم يكن في ذلك إلا تعرف التوقف ثم التثبت، لقد كان ذلك مما يحتاج إليه

) .

ومن أمثلة عدم التسليم بما أورده الآخرون من العلماء الأقدمين في كتبهم، وعدم تكرار أقوالهم على أنها من المسلم بصحتها، ووجوب إخضاعها للفحص والتمحيص والتثبت؛ ما ذكره الحسن بن الهيثم في قوله (2) :

(الحق مطلوب لذاته، وكل مطلوب لذاته، فليس يعني طالبه غير وجوده، ووجود الحق صعب، والطريق إليه وعر، والحقائق منغمسة في الشبهات، وحُسن الظن بالعلماء في طباع جميع الناس

وما عصم الله العلماء من الزلل، ولا حمى علمهم من التقصير والخلل. ولو كان ذلك كذلك لما اختلف العلماء في شيء من العلوم، ولا تفرقت آراؤهم في شيء من حقائق الأمور، والوجود بخلاف ذلك، فطالب الحق ليس هو الناظر في كتب المتقدمين، المسترسل مع طبعه في حسن الظن بهم، بل طالب الحق هو المتهم لظنه فيهم، المتوقف فيما يفهمه عنهم، المتبع الحجة والبرهان، لا قول القائل الذي هو إنسان، المخصوص في جبلته بضروب الخلل والنقصان، والواجب على الناظر في كتب العلوم، إذا كان غرضه معرفة الحقائق، أن يجعل نفسه خصمًا لكل ما ينظر فيه، ويجيل فكره في متنه وفي جميع حواشيه، ويخصمه من جميع جهاته ونواحيه، ويتهم أيضًا نفسه عند خصامه فلا يتحامل عليه ولا يتسمح فيه. فإنه إذا سلك هذه الطريقة انكشفت له الحقائق، وظهر ما عساه وقع في كلام من تقدمه من التقسير والشبه) .

(1) الحيوان: 1/207، تحقيق عبد السلام هارون، مصطفى البابي الحلبي بمصر، الطبعة الأولى.

(2)

كتاب (الشكوك على بَطليموس) ، ص3 - 4، تحقيق الدكتور عبد الحميد صبرة والدكتور نبيل الشهابي، مطبعة دار الكتب بمصر، 1971م.

ص: 679

ويقول أبو حامد الغزالي (1) : (ولو لم يكن في مجاري هذه الكلمات إلا ما يشكك في اعتقادك الموروث، لتنتدب للطلب، فناهيك به نفعًا، إذ الشكوك هي الموصلة إلى الحق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال) .

وليس من شك في أن كل ذلك لا يستدعي بالضرورة

(نزع المقدس من أي فكرة تعتقدها البشرية

) كما ذهب إليه بعض أنصار الحداثة. وسنعود في الصفحات التالية إلى معنى هذه العبارة لنستوفي الحديث عن موضوعها.

أما العنصر الثاني - الذي أشرنا إليه - من عناصر الحداثة ومقوماتها، وهو تحكيم العقل في كل ما يتصل بالإنسان وكل ما يعرض له، فما أكثر الدعوة إليه في كتاب الله وفي أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وعند علمائنا ومفكرينا، وهو مبثوث في أمهات كتبنا. وقد عد العلامة الباكستاني الدكتور محمد عباس عبد السلام رحمه الله تعالى (الحائز لجائزة نوبل في علوم الطبيعة) سبعمائة وخمسين آية في القرآن الكريم، هي في صميمها حث للمسلم على التأمل في الطبيعة واستعمال العقل لفهمها واستعمال المهارة لتسخيرها (2) .

وقد تكررت في القرآن آيات تحض على العقل (3) وتنتهي بقوله تعالى: {

أَفَلَا تَعْقِلُونَ} و {

لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} و {

إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} و {

لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ، أو ما يتصل بذلك من ألفاظ العقل.

وكذلك تكررت فيه آيات تدعو إلى التفكير (4)، وتنتهي بقوله تعالى:{لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} و {أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} و {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .

(1) ميزان العمل، ص153، دار الحكمة، دمشق، بيروت، 1986م.

(2)

انظر: أسامة أحمد سامح الخالدي، ويوسف أحمد الشيراوي، معنى التكنولوجيا، ص17، دلمون للنشر، نيقوسيا - قبرص، 1995م.

(3)

نحو خمس وأربعين آية.

(4)

نحو سبع عشرة آية.

ص: 680

وآيات أخرى فيها ألفاظ متعددة تدل على معاني العقل والفكر؛ مثل التدبر {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون: 68]، و {لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ} [ص: 29] ، ومثل: النظر {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 185]، و {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا} [ق: 6] ، و {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] . ومثل لفظ البصر وما اشتق منه كقوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] . إلى غير ذلك من آيات صريحة اللفظ أو صريحة المعنى، مما هو مثبوت في كتاب الله، وربما كان أشملها وأجمعها قوله تعالى:{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ} [البقرة: 219 - 220] .

وحين ننظر بعد ذلك إلى أقوال بعض العلماء والأدباء والمفكرين المسلمين، نجدهم كثيرًا ما يعولون على العقل ويدعون إليه؛ فمن ذلك قول الجاحظ (1) :(فلا تذهب إلى ما تُريك العين، واذهب إلى ما يُريك العقل، وللأمور حكمان: حكم ظاهر للحواس، وحكم باطن للعقول، والعقل هو الحجة) .

والحديث عن العقل وتحكيمه متصل أوثق اتصال بحديثنا السابق عن الشك وعدم التسليم بأقوال العلماء السابقين دون تمحيص، وهو أيضًا متصل أوثق اتصال بما حث عليه الإسلام من نبذ الخرافات والأساطير. ويدس بعضهم تعبيرات ماكرة كقولهم:(ثقافة الخرافة) ، ويخلطون الكلام خلطًا ليفهم أن المقصود بالخرافة إنما هو الإيمان بالغيب. وشتان ما هما وبُعْدَ ما بينهما.

وإذا كان للخرافة (ثقافة) تشيع بين العوام الجهال، يخوضون فيها، وينخدعون بها، (مثل: الزار ودفوفه ورقصه، ومثل الحجب الباطلة وقراءة الكف، والإخبار بالحظ والمستقبل، والتنجيم، وأحاديث السحر والجن والشياطين) فإن الغيب ليس له ثقافة، وإنما هو تصديق وإيمان، دون الخوض في هذا الغيب ودون بناء ثقافة له:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59] . {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123] .

(1) الحيوان: 1/207.

ص: 681

وأما العنصر الثالث من عناصر الحداثة ومقوماتها، وهو عنصر (العلم) ومناهجه، فالحديث عنه في الإسلام ولدى المسلمين حديث طويل. وهؤلاء علماؤنا في مختلف ميادين العلم نجوم نيرات في سماء الحضارة الإنسانية: في مرحلتها الإسلامية، ثم في تأثيرهم في عصر النهضة الأوروبية وعصر التنوير، وقد تُرجِمت كتبهم إلى اللغة اللاتينية، إما مباشرة وإما من خلال العبرية. وفي طليعة هؤلاء العلماء المسلمين: جابر بن حيان (ت200هـ = 815م)، الذي كانت له شهرة كبيرة عند الإفرنج بما نقلوه من كتبه في بدء يقظتهم العلمية؛ قال عنه (برلتو) (M.Berthelot) :(لجابر في الكيمياء ما لأرسطوطاليس قبله في المنطق. وهو أول من استخرج حامض الكبريتيك وسماه زيت الزاج، وأول من اكتشف الصودا الكاوية، وأول من استحضر ماء الذهب، ويُنسب إليه استحضار مركبات أخرى مثل كربونات البوتاسيوم وكربونات الصوديوم، وقد درس خصائص مركبات الزئبق واستحضرها) .

وقال عنه أيضًا (لوبون)(G.Le Bon) : (تتألف من كتب جابر موسوعة علمية تحتوي على خلاصة ما وصل إليه علم الكيمياء عند العرب في عصره، وقد اشتملت كتبه على بيان مركبات كيماوية كانت مجهولة قبله. وهو أول من وصف أعمال التقطير والتبلور والتذويب والتحويل

إلخ) (1) .

وقد وصفه الدكتور زكي نجيب محمود بـ (رجل التجارب العلمية) ، وأفرد عنوانًا عن (منهجه التجريبي في بحوثه العلمية)، وقال عنه:(هو منهج نموذجي في دقته وفي حرصه على التثبت)، ويؤكد ذلك بقوله:(لجابر منهج تجريبي يصطنعه في بحوثه الكيماوية)، وقال أيضًا:(من قراءة نصوصه استطعنا أن نتلمس مذهبه في خطوات السير في طريق البحث العلمي، وهي خطوات تطابق ما يتفق معظم المشتغلين بالمنهج العلمي اليوم) ، ثم يتحدث عن هذا المنهج ويصفه بأنه استنباطي استقرائي (2) .

ووصفه (رسل)(3)(R.Russel) - الذي ترجم بعض مؤلفاته إلى الإنجليزية - لندن 1678 - بأنه: (أشهر علماء العرب وفلاسفتهم) .

وقد أطلنا الحديث عن جابر لندل على ما بلغه المسلمون من مكانة عالية في العلم، وما رسخوه من المنهج العلمي التجريبي وأساليبه الاستقرائية والاستنباطية منذ هذا العصر المبكر - أي أواخر القرن الثاني الهجري = أواخر القرن الثامن الميلادي - وهو عصر يسبق النهضة الأوربية بنحو سبعة قرون.

وقد تواصل العطاء العلمي بين يدي المسلمين في تطور سريع، ومن خلال هذا التطور نصل - بعد نحو قرنين ونصف - إلى الحسن بن الهيثم (ت نحو 430هـ = 1038م)، الذي قال عنه سارطون:(إن ابن الهيثم أعظم عالم ظهر عند العرب في علم الطبيعة، بل أعظم علماء الطبيعة في العصور الوسطى، ومن علماء البصريات القلائل في العالم كله)(4) .

ويقول عنه (سوتر)(5)(H.Suter) : (كان لكتاب المناظر لابن الهيثم تأثير عظيم في العصور الوسطى في دراسة البصريات في أوروبا من (روجر بيكون) إلى (كلبر) ، وقد طبعت الترجمة اللاتينية للمناظر في سنة 1572م في مدينة بازل، ونشرها (فريدريش رزنر)(F.Risner)، وكذلك ترجم (جرهارد الكريموني) (Gerhard of Cremona) كتاب:(كيفية الإظلال) لابن الهيثم إلى اللاتينية.

(1) انظر: خير الدين الزركلي، الأعلام، والحاشية رقم (1) .

(2)

كتاب جابر بن حيان، ص54، 55، 58، 59، من سلسلة أعلام العرب، نشر وزارة الثقافة والإرشاد القومي بمصر، مكتبة مصر بالفجالة. د. ت.

(3)

في كتابه (Jabiribn Hayyan) ، وقد نقلته من كتاب الدكتور زكي نجيب محمود، ص19.

(4)

الأعلام، حاشية1.

(5)

وهو كاتب مادة ابن الهيثم في دائرة المعارف الإسلامية Cirst Encyclopaedia of Islam 1936 - 1913: 1/382.

ص: 682

وقد جاء ذكر الترجمة اللاتينية لكتاب المناظر لأول مرة في مقال (في المثلثات) لـ (جوردا نوس دي نيموري) فيما بين 1220 و 1230م. وفي القرن الثالث عشر الميلادي نفسه ألَّف عالِم بولندي اسمه (فيتيلو) كتابًا في البصريات؛

(والمعروف أن فيتيلو صنف كتابه بعد اطلاعه على الترجمة اللاتينية المخطوطة لكتاب ابن الهيثم، وتبين من مقارنة نصي الكتابين أن العالِم البولندي قد سار في كتابه على نهج كتاب ابن الهيثم فاستقى منه موضاعاته وأشكاله، بل نقل ألفاظه في كثير من المواضع. وقد يسر الناشر (رزنر) على القارئ هذه المقارنة، فَزَوَّد الكتابين بإحالات من كلٍّ منهما على الآخر.. ويوجد الآن من الترجمة اللاتينية لكتاب ابن الهيثم عدد كبير من المخطوطات تبلغ العشرين، منها سبعة على الأقل نُسِخَت في القرن الثالث عشر الميلادي.. وكذلك يوجد لكتاب المناظر ترجمة إيطالية عن اللاتينية ترجع إلى القرن الرابع عشر الميلادي) (1) .

وقد سبق قبل صفحات الاستشهاد بالمنهج العقلي والعلمي عند الجاحظ، وبدعوته إلى عدم التسليم بالمنقول والمسموع، ووجوب الشك في أقوال السابقين بغية الوصول إلى اليقين.

وقد انتهت بعض الدراسات الجادة الحديثة (إلى بيان أن العلوم الطبيعية عند اليونان كانت دراسات فلسفية ميتافيزيقية تقوم على منهج عقلي استنباطي، فتحولت على أيدي العلماء العرب إلى دراسات علمية تستند إلى منهج تجريبي استقرائي. وما كان يتأتى إدراك هذا المنهاج إلا عن طريق المشاهدات وإجراء التجارب وافتراض الفروض واستنباط النتائج)(2) .

(1) من مقدمة الدكتور عبد الحميد صبرة لكتاب المناظر، ص47، الكويت، 1983م.

(2)

الدكتور جلال محمد عبد الحميد موسى، منهج البحث العلمي عند العرب في مجال العلوم الطبيعية والكونية، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1972م.

ص: 683

ولا سبيل إلى تتبع الأعداد الكثيرة من المؤلفات العربية التي تُرجمت إلى اللاتينية في شتى ميادين المعرفة العلمية والفلسفية، والأعداد الكثيرة من المكتشفات والمخترعات والتطبيقات العملية لتلك المعارف العلمية. فقد وُضعت في ذلك كتب استوعبت عددًا من تلك المؤلفات العربية، وتتبعت حركة ترجمتها إلى اللاتينية (1) . ومع ذلك فقد حاول بعض هؤلاء المترجمين في القرون الوسطى الأوروبية أن يطمسوا جهد العلماء المسلمين الذين ترجموا مؤلفاتهم، ونسبوا تلك المؤلفات إما إلى أنفسهم، وإما إلى بعض العلماء والفلاسفة اليونان الذين عرفوا أسماءهم لأول مرة من العلماء المسلمين ومؤلفاتهم. ولم يُكشَف هذا الزيف وتصحح نسبة هذه المؤلفات والآراء إلى أصحابها إلا بعد ذلك بزمن طويل (2) .

(1) من تلك الكتب: 1 - شمس العرب تسطع على الغرب، تأليف المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه، منشورات المكتب التجاري ببيروت، الطبعة الثانية 1969م. وكان قد طبع بعنوان آخر هو: فضل العرب على أوروبا، ترجمة الدكتور فؤاد حسنين علي، نشر دار النهضة العربية بالقاهرة، 1964م. 2 - محاضرات في تاريخ العلوم العربية والإسلامية، للأستاذ فؤاد سزكين، منشورات معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، فرانكفورت، ماين 1984م. 3 - Western Views of Islam in The Middle Ages، تأليف R.W.Southern، مطبعة جامعة هارفرد، 1962م.

(2)

انظر: فؤاد سزكين، في كتابه السابق، في مواضع متعددة منه.

ص: 684

وحين نرجع إلى كتب تاريخ العلم؛ نجدها تذكر الحلقة اليونانية ثم تقفز إلى الحلقة الأوروبية في عصر النهضة، وتغفل - إما عمدًا وإما جهلًا - الحلقة الإسلامية، سوى إشارات في بعض تلك الكتب تضيع في ثناياها، ولا تضع جهود العلماء المسلمين في موضعها الصحيح من تاريخ العلم العالمي، وقد سقط في هذه الوهدة كثير من العرب والمسلمين من المؤرخين وأساتذة تاريخ العلوم، إلا نفرًا منهم لهم جهود في توضيح صورة تاريخ العلوم عند المسلمين وتتبع مسيرته، ولكن صوتهم لا يزال خافتًا إذا قيس بأصوات الآخرين.

وسأقتصر على مثل واحد يدل على ادعاء الأوربيين لأنفسهم جهود العلماء المسلمين في العلم وفي المنهج العلمي، فمما يقال دائمًا إن روجيه باكون - روجر بيكون - (Roger Baecon) يُعَدُّ منذ أمد بعيد، المؤسس للمنهج العلمي الذي يقوم على أن التجربة هي أساس البحث في العلوم الطبيعية. وقد ظل هذا الاعتقاد بأولوية هذا العالم إلى يومنا هذا، لكن مؤرخ المنطق العالم برانتل (C.Prantle) رفع صوته ضد هذا التيار من غير أن يكون مختصًا في العلوم الإسلامية، وقال:(إن روجيه باكون أخذ كل النتائج المنسوبة إليه في العلوم الطبيعية من العرب) .

وقد استطاع بعض المختصين أمثال فيديمان (E.Wiedemann) وشرام (M.Schramm) أن يوضحوا بجلاء كبير مكانة العلماء المسلمين من تأسيس قانون التجربة والنظرية، وأثرهم الواضح في روجيه باكون (روجر بيكون) وليوناردو دافينشي (Leonardo da Vinci) وسواهم. واتضح بما لا يقبل الجدل أن مهمة العلماء المسلمين لم تكن تعتمد على التجربة وحدها، وإنما اهتموا في الواقع بمسألة أن التجربة يجب أن تسبقها النظرية، وأنهم عملوا التجربة بهذا المعنى واسطة تستعمل باستمرار في أثناء البحث. وإن (فيديمان) يقول بكل صراحة: إن العرب كانوا سباقين إلى هذا الموضوع. بل إن ما توصل إليه (روجيه باكون) أقل بكثير مما كان موجودًا عند العلماء العرب القدماء.

ص: 685

إضافة إلى هذا فقد وجه (فيديمان) النظر إلى طابع آخر مهم لدى العلماء المسلمين في طريقة بحثهم وعرضه، فقال:(تصادفنا نتائج البحث عند الإغريق في صيغتها النهائية الكلاسيكية، فلا نتمكن إلا في أحوال استثنائية من تتبع نشأتها، ولكن الحالة عند العرب تخالف ذلك تمامًا. إن العرب يوضحون تطور العمل الذي يقومون به خطوة خطوة، كما يفعل بعض الباحثين في يومنا هذا، ولا يسعنا تجاه هذا التوضيح إلا تصور ما تفيض به نفوسهم اطمئنانًا وسرورًا من خطوات عملهم، وبلوغهم النجاح في أبحاثهم وبكمال أدواتهم التي استعانوا بها. وبذوقهم الفني في أعمالهم)(1) .

وقد ذهب بعض الذين كتبوا عن روجر بيكون أنه كان يعرف اللغة العربية أو رجحوا ذلك.

وإنما تكلفنا ما تكلفنا من اقتضاب القول في موضوع اختلف أصحابه فيه اختلافًا واسعًا، لنزيل عنه غموضه الذي غلفه عند كثير من أهله وعند أهلنا، وكان حقه التوسُّعَ فيه والبسط لولا ضيق المجال، ولنصل كذلك من كل ما قدمنا إلى أن الإسلام - بالفهم الصحيح له - كانت (الحداثة) من بعض منهجه الشامل. وأن العلماء المسلمين هم آباء (الحداثة) الأوروبية، بما نقلوه إلى أوروبا من منهج يقوم على ما منحهم الإسلام من حرية التفكير والتعبير، والتجاوز عن الخطأ والسهو في البحث والاجتهاد، وبتسخيره لهم ما في السماوات والأرض جميعًا منه تعالى، وما حضهم عليه من التفكير والتدبر والنظر واستعمال العقل وتحكيمه، وهجر الخرافات والأساطير والأوهام والأباطيل، وبما يسر لهم من أساليب العلم ونظرياته وإنجازاته، وبما دعاهم إليه من التعامل بالأسباب وتطوير الحياة وتقدمها، وبما هيأه لهم من تحرر الإنسان من عبوديته للإنسان، وجعل العبودية لله وحده، بغير وسيلة بشرية تفصل بين الخالق والمخلوق وتتوسط بينهما، وبجعله كتابه الكريم ودينه مبسوطين للناس جميعًا دونما احتكار لطبقة دون غيرها: تعدل فيهما وتغير، وتفسر وتشرح، وتمنح وتَحرِم.

(1) فؤاد سزكين، مرجع سابق، ص30 - 32.

ص: 686

فانطلق العلماء المسلمون يحملون مشاعل الهداية و (الحداثة) الحقيقية المؤمنة، التي تعرف أن وراء الأسباب مسببًا - سبحانه - لا تعمل بغير إرادته، وأنه استخلف الإنسان في الأرض لإصلاحها وعِمارتها، وإقامة العدل وإشاعة الرحمة بين أهلها مهما تختلف أديانهم وأعراقهم وألوانهم، وأن الله رقيب على الناس فيما يعملون لا يغيب عنه مثقال ذرة، فعليهم مراقبته باتباع هذا المنهج الخلقي الإيماني الذي تجردت منه (الحداثة) الأوروبية في مسيرتها التاريخية وتطورها الزمني. ولذلك أحدث الإسلام التوازن بين الفرد والمجتمع، ونأى عن المادية المفرطة التي أدت إلى الأنانية وإلى غطرسة القوة الغاشمة، وجعل الحرية والعقل والعلم والتقدم تنطلق كلها في فلك أخلاقي إطاره قوله تعالى:{تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]، وقوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، وقوله تعالى:{وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 183 - 184] إلى غيرها من الآيات التي ترسم هذا المنهج القرآني.

ولا تستطيع أمة أن ترتقي في معارج التقدم، وأن تحقق لنفسها نهضة وتبني حضارة بغير (الحداثة) بعناصرها التي ذكرناها. وبمثل ذلك تقدم المسلمون وشادوا حضارتهم الشامخة، وحين تخلوا عن (الحداثة) ، واقتبستها منهم أوروبا؛ تخلفوا وتقدمت.

فبغير حرية الرأي والتعبير، وحرية الاجتهاد والبحث العلمي، واستعمال العقل والاحتكام إليه، واستخدام العلم ومنهجه وتطبيقاته وتطويرها، تظل الأمة تدور حول نفسها حتى يصيبها الوهن.

وهكذا فإن الإسلام سابق المسلمين الحاليين منذ تخليهم عن جوهره، وإن أردنا أن نتمسك به فعلينا أن نتقدم نحوه لأنه أمامنا، تفصلنا عن حقيقته أشواط، فهو حديث دائمًا، عصري دائمًا، وأكثرنا لا يكاد يعرف منه ولا عنه إلا مظاهر العبادات (1)

وخلاصة كل ما تقدم أن الإسلام ليس (في مواجهة الحداثة) الصحيحة، بل هي منه في صميم منهجه، وقد أخذتها منه أوروبا، فأفادت منها كثيرًا، ووصلت بها إلى هذه المرحلة الباذخة من الحضارة. ثم ما لبثت أن أقحمت عليها ما ليس منها وجعلته شرطًا لها، وفرَّغت منها روحها وإنسانيتها، فأصابتها بالجفاف، وطوحت بها وبأهلها في مهاوي الضياع، وعلينا نحن أن نستعيد حداثتنا فنزيل عنها ما أُقحِم عليها، ونرد إليها ما انتُزِعَ منها، وحينئذ نستأنف رسالتنا الحضارية للإنسانية.

والحمد لله رب العالمين.

الدكتور ناصر الدين الأسد.

(1) لقد ظل المسلمون في غفلة عن هذا المنهج ومفرداته طوال قرون حتى نبهتهم عليه صدمة الاتصال بالحضارة الأوروبية منذ نحو قرنين، فتوالت الكتابة فيه والحديث عنه وإن لم يصبح جزءًا من حياتهم بعد.

ص: 687

الإسلام في مواجهة الحداثة الشاملة

العرض - التعقيب والمناقشة

العرض

د. ناصر الدين الأسد:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أشكر مجمع الفقه الإسلامي الدولي لأنه أتاح لي هذه الفرصة الثمينة للاستماع إلى هؤلاء العلماء الأجلاء في بحوثهم وفي مناقشاتهم والاستفادة من كل ذلك. ثم إن واجب الوفاء يقتضيني أن أُعرب عن عميق شكري وتقديري إلى دولة البحرين، وكذلك الشكر والتقدير خالصهم وجزيلهما إلى معالي وزير العدل والشؤون الإسلامية لما لقينا من حُسن الاستقبال ومن كرم الحفاوة والضيافة.

وبعد؛ فبين يدي أربعة بحوث، بحثان كانا من السابق عندي، وبحثان فوجئت بهما عند استراحة الجلسة الصباحية، ومن أجل هذا أرجو أن يغفر لي الجميع تقصيري في العرض الوافي لهذه البحوث وإن كنت أعدكم أن أبذل أقصى ما أستطيع من الجهد.

البحوث متداخلة ومتشابهة وربما كان واحد منها يُغني عن البحوث الأخرى، وهي أيضًا متداخلة مع الموضوع الصباحي وهو موضوع العلمانية أو العلمنة، وثمة فرق ما بين العلمانية والعلمنة، وليس هذا هنا مجال الحديث في هذا الموضوع.

البحث الأول من إعداد الدكتور محمد المنصور، وعنوانه شامل كعنوان المقدم (الإسلام في مواجهة الحداثة الشاملة)، بدأه بقوله: يلزم لفهم العلاقة بين الإسلام وبين ما يسمى بالحداثة الشاملة إبراز الأسس الرئيسية للإسلام والأسس الرئيسية للحداثة، وهنا قدم لنا عناصر أساسية وخطوطًا عامة لم يُقدِّم البحث، وقد أخبرني هو بذلك أن البحث جاهز بين يديه ولكنه على عادة بعض الاجتماعات من مؤتمرات وندوات تُقدِّم الخطوط الرئيسية والعناصر الأساسية إلى المؤتمر في وقت مبكر ثم يأتي الباحث ببحثه كاملاً. فالذي بين يدي وبين أيديكم هو موجز يتضمن فقط نقاطًا أساسية، وإذا رأى معالي الرئيس أن يسمح له إذا أتيح الوقت الكافي فإنه سيعرض في دقائق معدودات بحثه كاملاً، أما أنا فسأعرض هذا الموجز.

ص: 688

إذن هو يبدأ بأن من الضروري أن يُبيِّن الركائز للحداثة الشاملة والركائز للإسلام، ويتحدث بعد ذلك عن الخطوط الرئيسية للإسلام من الأمور التي تعرفونها، ويركز على أن من أسس الإسلام استعمال العقل والاحتكام إلى العلم، وأيضًا من أسسه الخُلُق والعمل، هذه أربعة أسس أبرزها في البداية، ثم يذكر نبذة تاريخية يبدأ بعهد الخلفاء الراشدين وينتهي بالقرن الثاني عشر، وذكر أنه هو قرن ابتداء انحطاط المسلمين، وذلك بسبب الحجر على حرية الفكر وإقفال باب الاجتهاد - أنا أحيانًا أقرأ من ما بين يدي وأبرئ نفسي من أي خطأ أو لحن - وهو أمر كما تعلمون قد طال الحديث فيه، هل أغلق فعلاً باب الاجتهاد أو أنه لم يغلق؟

ثم بعد ذلك تحدث عن الخطوط الرئيسية عن الحضارة الأوروبية تحدث عن هذه الخطوط الرئيسية للفرد ثم تحدث عن هذه الخطوط الرئيسية للمجتمع، وقال: إن الخطوط الرئيسية للفرد هي استبدال الإيمان بالطبيعة بالديانة المسيحية، وأيضًا البحث عن السعادة للفرد هو أساس السلوك، وقانون الأخلاق لـ (كانت) الأمر المطلق، أي اعمل فقط حسب الحكم الذي تستطيع أن تريده في نفس الوقت قانونًا كليًّا.

ثم تحدث أيضًا عن المجتمع فقال: الدين مسألة خاصة للفرد ولا دخل له في نظام المجتمع. البحث عن السعادة للفرد يحقق السعادة للمجتمع. الوضع السياسي. حكم الأغلبية أو الديمقراطية السياسية. ثم يذكر نبذة تاريخية من بدء النهضة الأوروبية إلى قوله: إن التعليم في المدارس الأوروبية يهمل إهمالاً يكاد يكون تامًا ما قدمته الحضارات الأخرى وخصوصًا الحضارة الإسلامية، ولا يعترف أن الحضارة الإسلامية هي الأساس الذي بني عليه التقدم العلمي والتكنولوجي الحالي.

وبين ثلاث عشرة ملاحظة، من هذه الملاحظات:

- الإيمان بالطبيعة وكان لابد أن يؤدي إلى ظهور كارل ماركس والشيوعية.

- الإيمان بالطبيعة كان ولابد أن يؤدي إلى الاستعمار.

- الإيمان بالطبيعة كان ولابد أن يؤدي إلى الرق والتفرقة العنصرية.

- وكذلك لابد أن يؤدي إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية.

- الإيمان بالطبيعة والعنصرية الأوروبية كان ولابد أن يؤديا إلى جرائم الحرب النازية، وجرائم القنابل الذرية.

- الإيمان بالطبيعة والبحث عن السعادة في الحضارة الأوروبية أديا إلى الإباحية الجنسية واستغلال الجنس.

- الإيمان بالطبيعة والبحث عن السعادة أديا إلى إهمال الأبوين إلى حد كبير.

ثم ذكر من جملة الملاحظات:

- قانون الأخلاق لـ (كانت) ، قد يؤدي إلى تصرف غير أخلاقي بمعيار الدين.

ص: 689

ومن الملاحظات ما ذكر أنه من إيجابيات في المجتمع الأوروبي وهو:

- المحافظة على حقوق الإنسان داخل المجتمع نفسه إلى حد كبير بسبب الديمقراطية، ثم يستدرك ويقول: وهذا ليس بجديد على المسلمين خصوصًا في عصر الخلفاء الراشدين.

ثم يقول:

- التعليم في البلاد الإسلامية وخصوصًا العربية منها لابد وأن يؤدي إلى عقدة النقص الذي يلاحظه الإنسان في كثير من المفكرين.

ويختم هذه الملاحظات بقوله: إن كثيرًا من المسلمين لا يدركون أن العلم والتكنولوجيا في أكثر عناصرهما إنما وصل إليهما - العلم والتكنولوجيا - المسلمون، وذكر ماذا كان في بعض بلاد الأندلس من التقدم العلمي من المكتشفات والاختراعات.

وأخيرًا ذكر أن الفارق الأساسي بين أسس الحضارة الإسلامية والحضارة الأوروبية هو المقياس الخلقي.

ختم هذه العناصر ولا أقول البحث، بقوله: ما يجب عمله حتى يستطيع المسلمون المشاركة في تقدم البشرية:

1 -

الإلمام بتاريخ الإسلام الحضاري وعلاقته بالحضارة الأوروبية.

2 -

إزالة الغبار المتراكم والخرافات التي علقت بفهم الناس للدين الإسلامي، والتركيز على أن العلم ركن أساسي من الإسلام.

3 -

القضاء على الأمية والجهل المتفشيين في الجماهير باستخدام وسائل الإعلام الحديثة.

4 -

الاستفادة من العوامل الإيجابية في الحضارة الأوروبية فالحكمة ضالة المؤمن.

وآخر عبارة في هذه العناصر تقول:

إن الفهم الصحيح للقرآن الكريم والسنة الصحيحة والمعرفة غير المتعصبة لتطور الحضارة كل ذلك كفيل بإنارة الطريق أمام كل من يريد الخير للبشرية.

ص: 690

البحث الثاني لفضيلة الشيخ محمد الشيباني بن محمد بن أحمد، المفتي بدائرة القضاء الشرعي بأبي ظبي. وقد تسلمته قبل ساعات قليلة في هذه الاستراحة التي فصلت بين جلستي الصباح والمساء.

تحدث في مطلعه عن الإسلام، وأركانه، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان.

ومن جملة ما يقوله في هذا الموضوع.

إن كل ما يحدث من أمر لا يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة فإنه مقبول شرعًا، وكل ما يحدث مما يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة فإن الإسلام يرفضه رفضًا باتًا. وإن مما ظهر في عصرنا الحاضر وانتشر انتشارًا واسعًا ما يسمى بالحداثة، فما هي هذه الحداثة بمفهومها اللُّغوي والغربي؟ وهل هي مما يقبله الشرع الإسلامي أو يرفضه؟.

ثم يتحدث بعد ذلك عن الحداثة لغى، ويتحدث عنها في المفهوم الغربي ويقول قولاً سليمًا صحيحًا: إن الحداثة مذهب فكري - وهذا حقيقة - لكنه يقول: يسعى لهدم كل موروث والقضاء على كل قديم يتمرد على القيم والمعتقدات والأخلاق.

وبعبارة أخرى، إن الحداثة لفظة تدل اليوم على مذهب فكري جديد يحمل جذوره وأصوله من الغرب، بعيدًا عن حياة المسلمين، بعيدًا عن حقيقة دينهم ونهج حياتهم، في ظلال الإيمان والخشوع للخالق الرحمن.

ويقول: فهذا المذهب بدأ عند الغربيين عندما ثاروا على الكنيسة وتعاليمها التي لا تقبل التقدم الحضاري ولا تقيم له وزنًا.

وهذا الأمر بحث في الصباح عند الحديث عن العلمنة أو العلمانية. ثم يذهب بعد ذلك إلى الحديث عن الحداثة الأدبية وعن الحداثة في الشعر ويشير إلى مظهر من مظاهر هذه الحداثة وهو الغموض الشديد في هذا الشعر الحديث.

وقد نقل كثيرًا من الذين بحثوا في هذا الموضوع، ثم يقول: وهكذا انتهت الحداثة في النهاية إلى الجمع بين ضلالات البشر، فمن شيوعية مادية إلى داروينية تقول بأن أصل الإنسان قرد، وميثولوجية تنكر أن يكون الأصل في الأديان التوحيد.

ثم بعد ذلك يعود إلى الشعر وإلى قيمة الشعر العربي في ربط الحاضر بالماضي ويستشهد بأقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مثل: ((إن من الشعر حكمة))

. ثم يذكر أيضًا قيمة الشعر الجاهلي لتفسير كتاب الله. ويورد قصصًا عن ابن عباس وعن نافع بن الأزرق، مما لا شك أنكم تعرفونه.

ثم بعد ذلك يرد على ما آلت الحداثة من ضلالات فيقول: أما الشيوعية فإنها معلومة عند الجميع وأن أهلها ملحدون لا يؤمنون بالغيب. ثم ينتقل بعد ذلك إلى الاستشهاد ببعض الأمثلة على سخافة الحجج التي احتج بها الشيوعيون.

وينادي بضرورة توجيه النشء توجيهًا سليمًا وبتصحيح البرامج الدراسية فيما يتصل بالعقيدة الإسلامية وإلى تخليصها من هذه النظريات الوافدة. ويؤكد أن من هدي القرآن أن التقدم لا ينافي الدين وضرب على ذلك أمثلة من التقدم الإسلامي في أثناء الحضارة الإسلامية.

ثم يتحدث عن العطاء الحضاري الإسلامي في أوروبا في القرون الوسطى ويقول: إن المسلمين في غنى عن تقليد الأوروبيين وإن كانوا يستطيعون الاقتباس من تطورهم العلمي ومن اكتشافاتهم التي أخذوا جذورها من المسلمين.

ثم بعد ذلك يتحدث عن أحكام الشرع وأنها جاءت لمصلحة الناس، وفي أثناء حديثه عن الشرع يتحدث أيضًا عن الحلول في الأمور التي تستدعي الحلول.

ص: 691

ويختم بحثه بقوله: وفي الأخير أعود فأكرر أن الحداثة فيما تهدف إليه من هدم كل موروث والتمرد على الأخلاق والمعتقدات الدينية، والقضاء على الأدب العربي وميزاته الشعرية بالإضافة إلى ما آلت إليه من ضلالات خطيرة؛ كاعتناق الشيوعية والداروينية التي تقول إن أصل الإنسان قرد، وميثولوجية التي تنكر أن يكون الأصل في الدين التوحيد. إن الإسلام يشجب ذلك كله ويواجهه برفض بات حاسم.

هذان البحثان حاولت بقدر ما أستطيع، وما وصل إليه جهدي أن ألخصهما دون أن أخل بأهم ما فيهما من عناصر.

البحث الثالث للشيخ الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور، وعنوانه:(الإسلام بين مذهب الحداثة الشاملة وفقه التجديد البديل) وقد نبهني أن العنوان قد وقع فيه خطأ طباعي وذُكر في العنوان: (بين مذاهب الحداثة..) والصواب (بين مذهب الحدثة..) ، وكنت قد ذكرت له أن الحداثة ليس لها تعريف، وأن أهلها يتجنبون الدخول في تعريفات لها وحتى إنهم قالوا: إن لكل بلد حداثته، بل غالى بعضهم وقال في الحداثة الأدبية: إن لكل أديب حداثته.

الأستاذ الدكتور الفرفور أحسن كل الإحسان في تيسير الأمر عليَّ، فقد وضع في بداية بحثه فهرسًا لهذا البحث. فأولاً جعل للبحث مدخلاً عامًا، يقوم على ذكر بعض التصورات وتعريف المصطلحات، ومن جملة ما يقوله: إن خلاصة تصوره كما ثبت بالاستقراء هو: (تخلي الفكر الإنساني عن كل موروث وقديم وإبطال كل مقولات الماضي ونزع القدسية عنها، وإلغاء كل ما وراء الطبيعة إلغاء كاملاً - فهو هنا يصف الحداثة بطبيعة الحال - واستبعاد الأديان كلها، والشرائع السماوية والوضعية السابقة من الحياة) .

ص: 692

ثم يقول بعد ذلك: (أنكر إنسان الغرب الدين والإله والأخلاق والغيب واليوم الآخر والوحي والنبوات، وكل ما لا يدخل تحت الحس مباشرة، بل

وأعلن الحرب عليه، وجعله سبب التخلف من حيث جعل من مذهب الحداثة الشاملة هذا بهذا المفهوم سبب الترقي والتقدم لديهم) .

ثم بعد ذلك يتحدث عن منهجه في هذا، ويذكر في الباب الأول وعنوانه:(مذهب الحداثة الشاملة، ما له وما عليه) يقول: إن الحداثة الشاملة باعتبارها فكرًا ومذهبًا وعقيدة لها أسس وقواعد تقوم عليها فلسفتهم المادية هذه، وذكر بعد ذلك عشر نقاط منها:

1 -

دعوى التناقض بين العقل والدين وبين العلم والدين.

2 -

نزع القداسة عن النصوص الدينية والطعن فيها واتهامها بالغموض والقصور والتخلف.

3 -

الطعن في الصحابة وعصرهم.

4 -

الطعن في السلف وتراثهم العلمي الحضاري ورفض مناهجهم.

5 -

الطعن في الشريعة وادعاء أنها مجرد عادات وتقاليد.

6 -

إلغاء فكرة الخلق الإلهي ونسبة الأفعال إليه بل إلى الإنسان.

7 -

التشكيك في جوهر الإسلام وحقيقته واتهامه بأنه يؤسس دولة عربية هي دولة قريش.

8 -

الأخذ بالمناهج الاستشراقية اليهودية.

9 -

دعوة حسن حنفي شيخ المستغربين في الوطن العربي إلى الإلحاد السافر وإلغاء الألوهية والوحي.

10 -

الدعوة إلى الثورة على الإسلام دينًا وحضارة.

ويلاحظ هنا الارتباط الكامل بين الحداثة والحداثيين وبين العلمانيين - وأنا مازلت أفتح العين جريًا على ما ألفت في السابق وهي في ذلك تفسير ليس هنا مجاله على أي حال - وبين الحداثيين والمستشرقين والدراسات الاستشراقية ولاسيما اليهودية. ثم بعد ذلك يتحدث في المبحث الأول من هذا الباب عن تقدم العلم عند المسلمين وقال: إن في أوروبا حديثًا، وفصل، ويذكر المراجع هنا، الكتب والمؤلفين، ثم يتحدث عن أسماء بعض هؤلاء العلماء.

ص: 693

ينتقل في المبحث الثاني إلى ثنائية التنوع وخصائص التشريع الإسلامي ومما قاله في هذا: لعل المطلع على فلسفة التشريع الإسلامي يواجه أول ما يواجهه قضية ثنائية التنوع باعتبارها من أبرز خصائص التشريع الإسلامي ولاسيما في قضية (الثوابت والمتغيرات) ، وتعد هذه القضية حجر الأساس في حتمية تطور التشريع الإسلامي.

أما المبحث الثالث فهو عن: خصائص الاجتهاد ودوره في تجدد التشريع الإسلامي. لأن العنوان الرئيسي يشمل قمسين. بين مذهب الحداثة الشاملة، فهو حديث عن الحداثة، ثم فقه التجديد البديل. فالمبحث الثالث خصائص الاجتهاد ودوره في تجدد التشريع الإسلامي.

ثم يتحدث في المبحث الأول من الفصل الثالث عن أسباب التخبط في الفكر الغربي. فيقول: السبب الأول في ذلك هو وجود تناقض بين لونين من المعرفة.

أولاً: المعرفة الدينية الغيبية المعتمدة على التقليد الأعمى والمحاكاة وإلغاء العقل بالكلية، مع كهنوت متسلط لا يقيم للعلم ولا للعقل وزنًا.

ثانيًا: المعرفة العلمية القائمة على أساس التجربة والاستنباط. فالتناقض بين هذين الأمرين يجعله السبب الأول من أسباب التخبط في الفكر الغربي.

ثم يتحدث عن عوامل التخبط في الفكر الغربي ومظاهره، وهو هنا يميز بين الأسباب والعوامل، أسباب التخبط في الفكر الغربي والثاني: عوامل التخبط في الفكر الغربي.

ويختم المبحث الثالث في هذا الفصل الثالث بعنوان (نتائج وثمرات) .

ويتحدث هنا متسائلاً ومتعجبًا: وكيف لا تنهزم أمة رأس مفكريها رجل ينكر الله والوحي والنبوات والشرائع والإسلام، ويهزأ بذلك كله علنًا، وليس هناك من يناقشه أو يسأله؟!

ويشير في الحاشية إلى اسم الرجل، وأبرأ إلى الله من أن يكون هذا رأس مفكري هذه الأمة، وهو مجتهد من جملة المفكرين يصيب ويخطئ وأخالفه، لكنه ليس رأس المفكرين على وجه اليقين.

ص: 694

ثم يتحدث عن أبرز عناصر الحداثة وأظهر ركائزها الأساسية، فيقول:

1 -

مناوأة الدين بوجه عام والإسلام بشكل خاص.

2 -

تحكيم العقل في الإنسان وبكل ما يتصل به تحكيمًا مطلقًا دون أي ضابط.

3 -

الحرية المطلقة للإنسان وما انتهت إليه.

4 -

الأخذ بالعلم وحده وبمناهجه بعيدًا عن كل ما لا يخضع لقوانين العلم والتجربة.

5 -

الاعتقاد بحتمية التقدم والتطور المطلقين.

6 -

تمجيد الفردية المطلقة.

7 -

النفعية المحضة وهي نظرية البراغماتية.

ثم يتحدث بعد ذلك عن خطورة الترويج لمذهب الحداثة.

أما المبحث الثالث فهو يتحدث عن فقه التجديد (الدعوة إلى البديل الصحيح عن الحداثة) وهو فقه التجديد. وقد استأذنته قبل دخولنا هذه القاعة أن يعفيني من شرح هذا الموضوع الفقهي الدقيق. وإذا رأى معالي الرئيس أن الوقت يسمح لعله يأذن للدكتور الفرفور في أن يشرح هذا الأمر في دقائق معدودة.

البحث الأخير هو لهذا الماثل بينكم المتحدث اليوم الراجي عون ربه وقد استغرقته البحوث الثلاثة الأولى حقيقة، وأحس أني إذا عرضته من أوله سيكون حديثي تكرارًا يملُّني قبل أن يملكم، ولذلك أستأذنكم جميعًا في أن أقرأ آخر صفحة أو صفحة ونصف من هذا البحث الذي استغرق ما يزيد على سبع وعشرين صفحة.

في آخره أقول: إن الإسلام - وأرجو أن لا تسرعوا إلى اتهامي في شيء - بالفهم الصحيح له كانت الحداثة من بعض منهجه الشامل، وإن العلماء المسلمين هم آباء الحداثة الأوروبية بما نقلوه إلى أوروبا من منهج يقوم على ما منحهم الإسلام من حرية التفكير والتعبير والتجاوز عن الخطأ والسهو في البحث والاجتهاد - هذا العنصر الأول من عناصر الحداثة - وبتسخيره لهم ما في السماوات والأرض جميعًا منه تعالى، وما حضهم عليه من التفكير والتدبر والنظر واستعمال العقل وتحكيمه، وهجر الخرافات والأساطير، وبما دعاهم إليه من التعامل بالأسباب وتطوير الحياة وتقدمها، وبما هيأه لهم من تحرر الإنسان من عبوديته للإنسان وجعل العبودية لله وحده بغير وسيلة بشرية تفصل بين الخالق والمخلوق وتتوسط بينهما.

ص: 695

هذا كله شرحته وذكرت ما ذهب إليه بعض العلماء لهذا الفكر الإسلامي وترجمات معاني القرآن الكريم، وقد ذكرت بعض الكتب لعلماء مسلمين كانت السبب في ظهور العلمانية وبزوغ حركات الإصلاح الديني حيث كانت العلمانية لا تعدو أن تكون ثورة على الكهنوت والكنيسة ورجال الدين، ولم تكن ثورة على الدين نفسه، وفرق بين الأمرين.

ثم بعد ذلك أنتم تعلمون أن كل شيء من حسن يدخله الشطط يفسد، فهذه كانت في بدايتها بهذا الحجم فقط، ثم بعد ذلك فسدت حتى وصل الأمر إلى واحد مثل نيتشه أن يقول: الآن مات الإله. فانتقلت العلمانية من ثورة على الإكليروس والكهنوت والكنيسة وحدها إلى الكفر وإلى الإلحاد. الأولى لا اعتراض لنا عليها لأنه ليس عندنا إكليروس ولا كنيسة. الثانية يبرأ منها كل مسلم مؤمن.

هذا هو تفسير هذا الكلام. ولذا قلت: إن آخر الكلام يوضحه أوله. وبجعله كتابه الكريم ودينه مبسوطين للناس جميعًا دونما احتكار لطبقة دون غيرها تعدل فيهما وتُغير وتفسر وتشرح وتمنح وتحرم، فانطلق العلماء المسلمون يحملون مشاعل الهداية والحداثة الحقيقية المؤمنة التي تعرف أن وراء الأسباب مسببًا سبحانه، لا تعمل بغير إرادته لأنهم هم قالوا بعد ذلك: إذا توافر السبب لابد أن يؤدي إلى نتيجة، ونحن بطبيعة الحال لا نقف هذا الموقف وأنه استخلف الإنسان في الأرض لإصلاحها وعمارتها وإقامة العدل وإشاعة الرحمة بين أهلها مهما تختلف أديانهم وأعراقهم وألوانهم، وأن الله رقيب على الناس فيما يعملون لا يغيب عن مثقال ذرة، فعليهم مراقبته باتباع هذا المنهج الخلقي الإيماني الذي تجردت منه الحداثة الأوروبية في مسيرتها التاريخية وتطورها الزمني، لأن الحداثة كما يقول كثير من الأوروبيين انتهت إلى كوارث، كوارث بيئية، كوارث طبيعية، وكوارث بشرية، وهذا كله مذكور في التوازن بين الفرد والمجتمع، ونأى المادية المفرطة التي أدت إلى الأنانية وإلى غطرسة القوة الغاشمة، وجعل الحرية والعقل والعلم والتقدم تنطلق كلها في فلك أخلاقي إطاره قوله تعالى:{تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]، وقوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، وقوله تعالى:{وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 183 - 184] .

ص: 696

ولا تستطيع أمة أن ترقى في معارج التقدم، وأن تحقق لنفسها نهضة وتبني حضارة بغير الحداثة بعناصرها التي ذكرناها، وبمثل ذلك تقدم المسلمون وشادوا حضارتهم الشامخة، وحين تخلوا عن الحداثة المؤمنة واقتبستها منهم أوروبا وشوهتها بعد ذلك تخلفوا هم وتقدمت هي. فبغير حرية الرأي والتعبير - هذه العناصر الأصلية للحداثة - وحرية الاجتهاد والبحث العلمي - وأنا أذهب أن الاجتهاد عندنا هو الذي أخذوه وسموه البحث العلمي - وحينما تركنا الاجتهاد ولا أقول أغلقنا بابه تخلفنا في باب الاجتهاد وتقدموا في البحث العلمي. تخلفنا نحن وتقدموا هم. فبغير حرية الرأي والتعبير، وحرية الاجتهاد والبحث العلمي واستعمال العقل والاحتكام إليه، واستخدام العلم ومنهجه وتطبيقاته وتطويرها - لأنني ذكرت قبل قليل أنهم هم ألَّهوا العلم وجعلوه إلهًا بدل الإله - تظل الأمة تدور حول نفسها حتى يصيبها الوهن. وهكذا فإن الإسلام سابق المسلمين الحاليين منذ تخليهم عن جوهره، وإن أردنا أن نتمسك به فعلينا أن نتقدم نحن نحوه لأنه أمامنا، تفصلنا عن حقيقته أشواط، فهو حديث دائمًا، عصري دائمًا، وبعضنا لا يكاد يعرف منه ولا عنه إلا مظاهر العبادات.

وخلاصة كل ما تقدم أن الإسلام ليس في مواجهة الحداثة الصحيحة، بل هي منه في صميم منهجه، وقد أخذتها منه أوروبا، فأفادت منها كثيرًا، ووصلت بها إلى هذه المرحلة الباذخة من الحضارة. ثم ما لبثت أن أقحمت عليها ما ليس منها وجعلته شرطًا لها، وفرغت منها روحها وإنسانيتها، فأصابتها بالجفاف وطوحت بها وبأهلها في مهاوي الضياع، وعلينا نحن أن نستعيد حداثتنا فنزيل عنها ما أقحم عليها ونرد إليها ما انتزع منها، وحينئذ نستأنف رسالتنا الحضارية للإنسانية.

والحمد لله رب العالمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 697

* * *

التعقيب والمناقشة

التعقيب والمناقشة

الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

لا يخفى على الجميع أن موضوع الحداثة كان الشغل الشاغل للكتاب، وخاض فيه الكثيرون من الكُتاب، ومن العلماء مَن يعرف ومَن لا يعرف. كُتبت الكتب الجادة، وكتبت المقالات والكتب الهزيلة المضحكة، وحيث إن غالب هؤلاء لم يعرف من الحداثة شيئًا ولم يعرف من مصادرها شيئًا، وإنما هي أصداء يقرؤها في الجرائد ويسمعها من المذياع أو في الفضائيات دون دراسة فاحصة ودون نقد موضوعي لها. ولهذا كان الأمل كبيرًا أن تكون الدراسات التي قُدمت عن الحداثة كان الأمل أن تشبعنا وتُقدم لنا مادة علمية موضوعية على مثل ما فعل أستاذنا الكبير الدكتور ناصر الدين الأسد، فكر صاف وموضوعية ونقد موضوعي دون تحامل أو تحيز، ودراسة فاحصة وممحصة نتمنى أن يكون كل من يتعرض لموضوع جديد على مثل هذا الفكر وعلى مثل هذه العقلية وعلى مثل هذا المنهج. هو في نظري المنهج المثالي الذي كُنا نتمنى أن البحوث التي قُدمت تتناولها هذا التناول الموضوعي العلمي الذي يقبله المثقف وذو العقل والخصم ويقبله كل أحد.

الشيء الذي كنت لا أريد التحدث عنه، ولكنه في نفسي كنت أتمنى أن ننجز دراسة جادة عن الحداثة كما رايتموها عند أستاذنا الكبير الدكتور ناصر الدين الأسد وبقية الأساتذة.

النقطة الأخرى. الواقع أن مجمعنا - جزى الله الأمانة فيه خيرًا - رسخ فينا أمورًا منهجية للبحث. فالبحث الذي يُقدم لابد أن يكون أصيلاً، بمعنى لم يسبق أن كُتب ولا يُنقل طباعة ويُضخم البحث به.

ص: 698

النقطة الأخرى الملخص للبحث. الكثيرون ربما نظروا إلى كثير من البحوث نظرات وتصفحات سريعة فحبذا كما قرر المجمع وأمانته أن يكون هنا ملخص للبحث، وهذا أمر موجود في المؤسسات العلمية. أيضًا يوضع في النهاية نتائج وملخص البحث ليعطي القارئ روح البحث، ونهاية البحث خصوصًا للمتعجل. الأهم من كل ذلك هو أن مجمعنا يُرسخ فينا تقاليد علمية ثابتة في المجامع العلمية. لو أن كل بحث له معقب، هذا المعقب يقرأ ويفحص البحث الذي يُقدم إليه فحصًا دقيقًا ونقدًا علميًّا موضوعيًّا منهجيًا ويُقرأ ذلك التعقيب. فعندئذ كل كاتب يكتب بحثًا يعرف أن من ورائه معقبًا. هذا المعقب يتتبع حسناته كما يتتبع سيئاته، يبين مزاياه ويبين عيوبه. أتمنى أن تكون في دوراتنا القادمة أن يكون لكل بحث علمي معقب، هذا المعقب يشترك في المسؤولية ويوفر على الكثير منا التعقيب السريع والنظرة العاجلة.

كما لا يخفى على الجميع أن مجلسنا هو محط الآمال ومعقل لآمال المسلمين في كافة القضايا وله كلمته الحاسمة، والآن وقد تعرض المجمع لموضوعين، هذان الموضعان شغلا الكثير من الفكر ومن الوقت، وهما:(العلمانية) و (الحداثة) . ومادام أن المجمع قد تعرض لهما فنأمل أن تخرج عن هذا المجمع دراسة علمية موثقة متأنية من كبار المفكرين الذين اشتهروا بالموضوعية وعدم التحامل: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] ، ولا أكتمكم أنني قرأت عنها، ولكن ليس مقتنعًا بهذه الكتابات.

أصبحت هذه الموضوعات: الاستشراق، العلمانية، الحداثة، كل واحد يكتب فيها لغرض من الأغراض ولهدف من الأهداف، ولكن أعلم أن البعض - ولا أقول كثير - يكتب وهو لم يقرأ كتابًا واحدًا ولم يعرف شيئًا عنها. وإنما يكتب فقط، وهو من الأعلام البارزين. أتمنى على هذا المجمع وقد تعرض لهذين الموضوعين أن يقدم دراسة متأنية لها أثرها العلمي في المحافل والمجامع العلمية، وأرجو أن يكون من بين هؤلاء الذين ينتدبون شخصيًا لهذا العمل معالي الأستاذ الدكتور ناصر الدين الأسد. فأعتقد أن المنهجية التي سار عليها والفكر الذي توخاه يعتبر أنموذجًا لدراسات مثل هذه الأفكار. ونحن نتمنى أن تصدر عن هذا المجمع دراسات عن العلمانية وعن الحداثة بالصورة التي نأملها وتعتبر مصدرًا للجميع. وشكرًا.

ص: 699

الدكتور علي داود الجفال:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أشكر الإخوة الباحثين على هذه البحوث القيمة والتي استمعنا إليها، ولكن أريد أن أوجه نقطة وأطلب أن تكون توصية في هذا المجمع الموقر، وذلك من واقع الممارسة، حيث إن المناهج التي تُعطى في معظم العالم العربي حول أوروبا الحديثة والنهضة الأوروبية كما علمناها للطلاب بأن النهضة الأوروبية هي انطلاق شامل لجميع ميادين الحياة الدينية والسياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية مع أنه كما قال أستاذنا الكبير ناصر الدين الأسد بأن هذا الخطر كان في الكنيسة، بدليل أن مارتن لوثر حينما عاش في الفاتيكان خرج منه محتجًا باسم البروتستانت كان أول ما طالب به زواج القسس والأشياء الأخرى. فأصبحت أوروبا في حيرة ماذا تعمل؟ هل تعود إلى الكنيسة؟ إن النظرة السوداء لهذه الكنيسة لا يمكن أن تعود لها، فماذا تعمل؟ لجأت إلى العقد الاجتماعي، فهذا (توماس هبس) يدافع عن الملكية دفاعًا شديدًا، وهذا (جون) يعارضه في ذلك.

وهكذا تطور الأمر في أوروبا حتى قامت الثورة الفرنسية فأصبح الطلاب في العالم العربي والعالم الإسلامي يؤمنون بأن الأخوة والإنسانية والحقوق نشأت من الثورة الفرنسية، وأن المفكرين الفرنسيين هم أنبياء الحرية، وهذا التعميم أصبح في ذهن معظم طلاب العرب كما لمسناه في الواقع، ونقول لهم بأن هذا شيء والإسلام شيء آخر، وأن العلماء الغربيين لو كانوا هم مسلمين وفهموا العقيدة الإسلامية لما وضعوا هذه الحلول وهذه النظريات وهذه القوانين.

فأريد أن أنوه لهذه النقطة كما سبق وإن تكلم الأستاذ الجناحي في الصباح بأن يكون هنالك تعديل في مناهج العالم العربي والإسلامي، بأن تكون هذه النقطة تؤخذ بعين الاعتبار لأن قليلاً من معلمي التاريخ من يعرف بأن هذا شيء والإسلام شيء آخر. فأرجو أن تؤخذ هذه النقطة بعين الاعتبار. وشكرًا.

ص: 700

الشيخ عبد الله بن بيه:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.

أشكر الإخوة الباحثين، وأبدأ كلمتي بأن تحرير المصطلحات أمر مهم، وإن ما يأتي على الناس خطأ من وضع الأسماء على غير مسمياتها. فهذه جمل ذكرها علماؤنا في تعاملهم مع المصطلحات. وقالوا: إن خطأ الدليل يأتي من جعل اللفظ المشترك متباينًا أو من جعل المتباين مترادفًا.

نحن أمام مصطلحات جديدة فهي مصطلحات غربية غريبة. من هذه المصطلحات، كما استمعنا إليه في الصباح، مصطلح (العلمانية) أو (المتعالمة) أو (التعالمية) ، لأنها في الحقيقة تريد أن تنسب نفسها للعلم وهي ليست من العلم في شيء، فهي من باب (التعالم) وليست من باب (العلم) . فينبغي أن نخرج بمصطلح، قد يقول الناس: إن هذا شيء تافه، المجمع يجتمع ليخرج بمصطلحات. معركة المصطلحات هي معركة مهمة جدًا لتحديد مضمونها ومحتواها.

ثم في المساء تحدثنا عن (الحداثة) .

أولاً: بالنسبة للتعالمية يبدو لي أنها لا دينية أو لا مقدسة، وهذا ما تفسره الحضارة الغربية في الحقيقة عندما نعود إلى أصولها. أما الحداثة ففيما يبدو لي مع أن الإخوة درسوها دراسة شاملة كاملة لكن المظهر الأساسي من مظاهر الحداثة هو مظهر أدبي. بمعنى العلاقة باللغة أو ما يسمونه بتفكيك النصوص، وتفكيك النصوص هذا لا يستثنى منه أي نص وبالتالي يعتدي على النصوص المقدسة، وعندنا قديمًا العلماء بحثوا في مسألة اصطلاحية اللغة وعدم اصطلاحيتها، وقالوا: إن ذلك لا يجوز، تغيير اللغات لا يجوز إذا كانت الألفاظ تتعلق بالنصوص الشرعية، فبعض العلماء قالوا: لا يجوز، وبعضهم يرى أن مسألة تفكيك النصوص وإعادتها إلى سياقها التالي هي من المسائل الكبرى التي - في رأيي - يجب أن تدرس بغض النظر عن المسائل الأخرى، لأن بعض الإخوان طرحوا الحداثة بالمعنى اللغوي، وهو تفسير لمدرسهم باللغة الفرنسية، وهذا الأمر أعتقد لا يختلف فيه كثيرًا. إن التحديث أو إصلاح الأوضاع أو توكيد الأوضاع أو التجديد في ضوء الشريعة أمر مرغوب فيه وهو أمر ينبغي أن ندرسه. من ناحية النظرية الغربية لابد أن ندرسها بكاملها، وأرى من الناحية التنظيمية أن نضع قائمة لهذه البدائل. فقد رأيت كثيرًا من هذه البدائل اشتبكت في دراسة الحداثة وقد لا تكون ذات صلة حميمة بالحداثة.

ص: 701

النظريات الفلسفية الغربية، التي تنافي الدين، من المعلوم أن الغرب عنده ما يسمى بالعالم المكتفي بنفسه، أي أن هذا العالم لا يقسم عنه بشيء خارج عن العالم. فيفسرون ظاهرة بظاهرة وإذا لم يجدوا تفسيرًا لظاهرة ما وقفوا متحيرين بمعنى أنهم لا يضعون مكانًا لله - جل وعلا - في تفسير ما يجري في الكون. وهذا ما يسمى بنظرية العالم المكتفي بنفسه، المهم أنها نظرية خطيرة مثيرة.

هناك عندهم ما يسمى بالنسبية؛ أي أن كل شيء نسبي، لكن حتى في العلوم البحتة هناك نسبية كما يقول إنشتاين، لكن النسبية أيضًا تتجاوز إلى العقائد. كل شيء نسبي. عندنا أمور مطلقة لا يمكن تقييدها ولا يمكن أن تكون نسبية، بل هي صالحة كما بالأمس كما هي صالحة اليوم وصالحة غدًا أيضًا.

باختصار يبدو لي أن الذي يمس بشكل حميم وله صلة بما نحن فيه هو تقديم بحوث عن التجديد في الإسلام، والتجديد كلمة ليست دخيلة بل هي معروفة في الإسلام في مسألة:((إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها))

وهو حديث أخرجه جماعة من الحفاظ.

فهذا التجديد موضوع مهم جدًا، وإذا قدمنا أسس التجديد في الشريعة من مقاصدها ودلالاتها اللغوية - دلالات منضبطة وليست دلالات الحداثة التي لا تنضبط - من دلالاتها المنضبطة حوالي أربعين دلالة، أي من دلالاتها المنضبطة ومن مقاصدها أيضًا والتي ضبطها العلماء سواء ما يتعلق بالمقاصد الثلاثة أو في المقاصد الأخرى ومن قواعدها أيضًا يمكن أن نقدم خدمة كبيرة وبالتالي نرد في نفس الوقت على مسألة الحداثة والتحديث.

إني موافق على تكوين لجان، وموافق على تقديم بحث متكامل، يقدمه أهل الاختصاص من المفكرين الذين يمكن أن يقدموا تصوراتهم أساسًا ويقدم الفقهاء جانبًا آخر بصفتهم أهل الاختصاص.

وشكرًا. والسلام عليكم ورحمة الله.

ص: 702

الدكتور عبد الله بن عبيد:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

شكرًا فضيلة الرئيس وشكرًا للإخوة الباحثين.

تعليقي فيما يتعلق بالحداثة هو أنها من المصطلحات الحديثة، ومن المصطلحات البراقة. كما استخدم لفظ العلمانية استخدم لفظ الحداثة، والشباب يتعلقون بهذه المسميات.

الحداثة ذات معنيين: المعنى الأول: التجديد في الطرح والتجديد في العرض مع البقاء على القواعد والأصول والضوابط، وهذا أمر ممدوح ولا تعليق عليه. ولا أعتقد أن المجمع يناقش هذا المفهوم كما أشار إليه الأستاذ ناصر الدين الأسد، لكن لعل المقصود هو الجانب الآخر من الحداثة وهو الحداثة المتعلقة بالأدب وبالنقد الأدبي، والمتعلقة بالشعر والنثر وما تم طرحه على الساحة الإسلامية من هذا المنطلق.

من هنا الحداثة تتعلق بالإيغال في النص وقداسته وتعدد مفهومه. الطرح المتمرد أو المتجرد عن، ومن، الدين والأخلاق، هذا قام به أفراد منعزلون عن المجتمع، ولا أقول جماعة ولا أقول فئة، لأن لكل منهم مفهومه. هؤلاء المنعزلون عن المجتمع دينيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا، أفراد استوحوا أفكارهم من جوهم الخاص ومن إطارهم المحدود المنقطع عن البيئة. أفراد منكفئون على ذواتهم. لكل بلد بل لكل شخص حداثته. لهذا نجد صعوبة في قراءة هذا الإنتاج، كما يجد الحداثيون أنفسهم صعوبة فيه، لأن الهدف هو الخروج عن المجتمع وتقاليده، فهي عامل هدم وليست عامل بناء، فأصبح القارئ لا يفرق بين ما يكتبه مسلم أو غير مسلم.

لهذا أتقدم باقتراح يتعلق بالتحذير من الحداثة التي هذه أوصافها، وفي ذات الوقت حث الأدباء والشعراء والنُقاد على الانطلاق في العرض والطرح من مبادئ الإسلام الحنيف. كما أود أن يخرج هذا الاجتماع بتشكيل لجنة لدراسة هذه الظاهرة دراسة يشترك فيها من ألمَّ بها ومارسها وانصرف عنها وهم كثير.

وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله.

ص: 703

الشيخ محمد الشيباني:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد؛

فإنني أشكر الدكتور ناصر الدين الأسد على عرضه القيم، حيث إنه لم يُثرِ نفسه على غيره في عرضه. وإنني أريد أن أشير إلى بعض ما جاء في بحثي بحيث لا أزيد فيه على ما هو محدد إن شاء الله.

أقول جاء في هذا البحث:

لقد انتقد الغربيون الأحكام الشرعية ووصفوا أحكام القصاص والحدود بأنها أحكام قاسية تخالف في زعمهم ما أسموه بحقوق الإنسان، وهذا باطل، لأن القصاص والحدود ما شرعت إلا لحفظ الإنسان في نفسه ودينه وعقله ونسله وعرضه وماله.

وهذه هي الضروريات الواجب حفظها للإنسان تجب مراعاتها في كل ملة.

أما القصاص فقد شرع للحفاظ على حياة الإنسان. قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] .

وهذا واضح لمن تأمله، فالإنسان إذا علم أنه إذا قتل سيقتل فلابد أن يكفَّ عن القتل. قال القرطبي:(والمعنى أن القصاص إذا أقيم وتحقق الحكم فيه ازدجر من يريد قتل آخر مخافة أن يقتص منه فحييا بذلك معًا) .

أما الدين فإن التمسك به إنما هو في صالح الإنسان نفسه، لأنه يكسبه حياة أبدية في نعيم الجنة ويجنبه الخلود في النار، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم:((من بدل دينه فاقتلوه))

أخرجه البخاري عن ابن عباس، رضي الله عنهما.

وأما العقل فإنه هو الذي يميز الإنسان والحيوان، ولصيانته شُرع حد شرب الخمر، صيانة لعقل الإنسان. وأما النسب فإن حفظه ضروري للإنسان ولذلك شرع حد الزنا؛ لأن الإنسان إذا لم ينسب لأب معروف فإنه تلحقه معرة شديدة.

كما أن حد القذف شرع حفاظًا على عرض الإنسان، وأما المال فإنه ضروري لحياة الإنسان فلذلك شُرع حد السرقة.

وبهذا يتضح أن القصاص والحدود إنما شرعت لمصلحة الإنسان في صيانة نفسه ودينه وعقله ونسبه وعرضه وماله.

وفي هذا المجال يطيب لي أن أنوه بالمرسوم الذي أصدره صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة - حفظه الله - وجاء في هذا المرسوم بالحرف الواحد:

(نأمر بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية الغراء على جميع القضايا الخاصة بالقصاص والدية والحدود وجرائم الأحداث والمخدرات، وأن يكون الفصل في هذه القضايا من اختصاص المحاكم الشرعية على مستوى الدولة. وعلى النيابة العامة إحالة جميع القضايا سالفة البيان إلى المحاكم الشرعية المختصة. وعلى جميع الجهات المختصة سرعة تنفيذ هذا الأمر) . وعندي صورة من هذا المرسوم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 704

الرئيس:

بقي عدد من المتكلمين، وأن ما حصل، فيه الخير والبركة من العرض ومن المناقشات، ولعل الإخوان يعذروننا في عدم استكمال بقية أسمائهم، ولهذا ترون مناسبًا أن تكون اللجنة من أصحاب الفضيلة والمشائخ والأساتذة: ناصر الدين الأسد، نزيه حماد، عبد الوهاب أبو سليمان، عبد الستار أبو غدة.

وبهذا ترفع الجلسة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 705

القرار

بسم الله الرحمن الرحيم

قرار رقم: 91 (3/11)

بشأن

الإسلام في مواجهة الحداثة الشاملة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه وسلم.

أما بعد:

فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الحادي عشر بالمنامة في دولة البحرين، من 25 - 30 رجب 1419هـ (14 - 19 نوفمبر 1998م) .

بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع: (الإسلام في مواجهة الحداثة الشاملة) . وفي ضوء المناقشات التي وجهت الأنظار إلى خطورة هذا الموضوع، وكشفت وأوضحت حقيقة الحداثة بأنها مذهب فكري جديد يقوم على تأليه العقل، ورفض الغيب، وإنكار الوحي، وهدم كل موروث يتعلق بالمعتقدات والقيم والأخلاق.

وأن أهم خصائصها عند أصحابها:

- الاعتماد المطلق على العقل، والاقتصار على معطيات العلم التجريبي بعيدًا عن العقيدة الإسلامية الصحيحة.

- الفصل التام بين الدين وسائر المؤسسات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، الخيرية. وبذلك تلتقي مع العلمانية.

لذا قرر المجمع ما يلي:

أولًا: الحداثة بالمفهوم المنوه به مذهب إلحادي يأباه الله ورسوله والمؤمنون لمناقضته الإسلام في أصوله ومبادئه، مهما تلبست بمظهر الغيرة على الإسلام ودعوى تجديده.

ثانيًا: إن في قواعد الإسلام وخصائص شريعته ما يفي بحاجة البشرية في كل زمان ومكان من حيث ابتناؤه على ثوابت يقينية لا تستقيم الحياة الإنسانية إلا بدوام وجودها، ومتغيرات تكفل التقدم والتطور، وتستوعب كل جديد صالح من خلال الاجتهاد المنضبط المعتمد على مصادر التشريع المتنوعة.

التوصيات:

يوضي المجمع بما يلي:

أ - أن تهتم منظمة المؤتمر الإسلامي بتكوين لجنة من المفكرين المسلمين لرصد ظاهرة الحداثة، ونتائجها، ودراستها دراسة علمية موضوعية شاملة لتنبه إلى ما قد تشتمل عليه من زيف، لحماية الناشئة من أعضاء الأمة الإسلامية من الآثار الخطرة.

ب - على ولاة أمر المسلمين صد أساليب الحداثة عن المسلمين وبلادهم، وأخذ التدابير اللازمة لوقايتهم منها.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ص: 706