المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الإسلام في مواجهة العلمنةموقف الإسلام من مسألة الحكم والسيادةإعدادآية الله الشيخ محمد علي التسخيري - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ١١

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الحادي عشر

- ‌بيع الدين والأوراق الماليةوبدائلها الشرعيةإعدادالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌أحكام التصرف في الديوندراسة فقهية مقارنةإعداد الدكتورعلي محيي الدين القره داغي

- ‌بيع الدينأحكامه – تطبيقاته المعاصرةإعدادأ. د نزيه كمال حماد

- ‌بيع الدينإعداد الدكتورعبد اللطيف محمود آل محمود

- ‌بيع الدين وسندات القرضوبدائلها الشرعيةفي مجال القطاع العام والخاصإعداد الدكتورمحمد علي القري بن عيد

- ‌بيع الدين وسندات القرضوبدائلها الشرعية في مجال القطاع العام والخاصإعدادالدكتور سامي حسن حمود

- ‌المضاربات في العملةوالوسائل المشروعة لتجنب أضرارها الاقتصاديةإعداد الدكتورأحمد محيي الدين أحمد

- ‌المضاربات على العملةماهيتها وآثارها وسبل مواجهتهامع تعقيب من منظور إسلاميإعداد الدكتورشوقي أحمد دنيا

- ‌عقود الصيانةوتكييفها الشرعيإعدادالشيخ محمد المختار السلامي

- ‌عقود الصيانةوتكييفها الشرعيإعدادالدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌عقود الصيانة وتكييفها الشرعيعقد الصيانةإعدادآية الله محمد على التسخيري – مرتضى الترابي

- ‌عقود الصيانةإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌عقود الصيانة وتكييفها الشرعيإعدادالدكتور محمد أنس الزرقاء

- ‌ضوابط الفتوىفي ضوء الكتاب والسنةومنهج السلف الصالحإعداد الدكتورعبد الوهاب بن لطف الديليمي

- ‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعداد الدكتوروهبة مصطفى الزحيلي

- ‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرةإعداد الدكتورعبد الله الشيخ المحفوظ بن بيه

- ‌العمل الفقهيعند الإباضيةإعدادناصر بن سليمان بن سعيد السابعي

- ‌الإسلامفي مواجهة الحداثة الشاملةإعدادالدكتور ناصر الدين الأسد

- ‌مجمع الفقه الإسلامي الدوليووحدة الأمة الإسلاميةإعدادمحمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌الوحدة الإسلاميةمنهجية المقارنة بين المذاهب الفقهيةإعدادالدكتور عبد الستار أبو غدة

- ‌الوحدة الإسلاميةمعالمها وأعلامهاإعدادالأستاذ محمد واعظ زادة الخراساني

- ‌الوحدة الإسلامية{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}إعدادالشيخ عدنان عبد الله القطان

- ‌الوحدة الإسلاميةأدب الحوار وأخلاقيات البحثإعدادالدكتور سعيد بن عبد الله بن محمد العبري

- ‌‌‌الإسلام في مواجهة العلمنةإعدادالدكتور عمر عبد الله كامل

- ‌الإسلام في مواجهة العلمنةإعدادالدكتور عمر عبد الله كامل

- ‌الإسلام في مواجهة العلمنةموقف الإسلام من مسألة الحكم والسيادةإعدادآية الله الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الديمقراطية والعلمانيةوحقوق الإنسانالمرجعية الغربية والمرجعية الإسلاميةإعدادالأستاذ إبراهيم بشير الغويل

الفصل: ‌الإسلام في مواجهة العلمنةموقف الإسلام من مسألة الحكم والسيادةإعدادآية الله الشيخ محمد علي التسخيري

‌الإسلام في مواجهة العلمنة

موقف الإسلام من مسألة الحكم والسيادة

إعداد

آية الله الشيخ محمد علي التسخيري

الجمهورية الإسلامية الإيرانية

بسم الله الرحمن الرحيم

موقف الإسلام من مسألة الحكم والسيادة

وفيه فروع مترابطة:

الفرع الأول - الإسلام والحكم:

وبسط الحديث إلى حد ما في هذا الموضوع، يستدعي مراجعة بعض الأقوال الشاذة التي نفت أن يكون الإسلام قد جاء ليعطي نظامًا للحكم، ثم التعقيب عليها بالنظرة المخالفة وبيان الحق والواقع.

ولعل (علي عبد الرازق) مؤلف كتاب (الإسلام وأصول الحكم) هو الذي أثار هذه الضجة، وإن كنا نستطيع أن نجد ثمة من أيده كخالد محمد خالد وبعض الكتاب الآخرين وبعض المستشرقين أيضًا، وتتلخص نظريته في أن الإسلام لم يخطط نظامًا - ولو بنحو المبادئ العامة للنظام - في مجالات الحكم، وأنه ليس إلا دعوة دينية خالصة لا تشوبها نزعة ملك ولا دعوة لدولة، وإذا كان الرسول زعيمًا فليست زعامته زعامة حكم وسلطان، بل هي زعامة دينية لا ربط لها بالزعامة السياسية.

وقد استند في نفيه هذا لتخطيط الإسلام للحكم إلى الأمور التالية:

أولًا - القرآن: كما في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} [الإسراء: 54]، و {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} [الشورى: 48] ، و {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الإسراء: 105] ، {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية: 21 - 22] .

وخلاصة الاستدلال أن من لم يكن مسيطرًا ولا وكيلًا، وإنما هو مجرد مبلغ ومبشر ونذير ليس حاكمًا أيضًا (1) .

ثانيًا - السنة الشريفة: ويستند فيها إلى أحاديث ووقائع من مثل ما يلي:

أ - جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأصابته رعدة شديدة، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم:((هوِّن عليك، فإني لستُ بملك، ولا جبار، وإنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد بمكة)) .

ب - قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أنتم أعلم بشؤون دنياكم)) .

(1) الإسلام وأصول الحكم، ص71 - 75.

ص: 960

ثالثًا - الدليل العقلي: ويتلخص في ادعاءات ثلاثة:

أ - أن من المعقول أن ينظم العالم في وحدة دينية، ولكن ليس من المعقول أن ينظم العالم في حكومة واحدة، فذلك يوشك أن يكون خارجًا عن الطبيعة البشرية.

ب - إن مسألة الحكم غرض دنيوي خلى الله بينها وبين عقولنا.

وأخيرًا: فإن دولة الرسول خلت من كثير من أركان الدولة.

وهو يقول: (ولماذا لم يتحدث إلى رعيته في نظام الملك وفي قواعد الشورى؟ ولماذا ترك العلماء في حيرة واضطراب من أمر النظام الحكومي في زمنه؟)(1) .

هذا وقد نقل الأستاذ (عبد الحميد متولي) بعض الاستنادات الأخرى لبعض العلماء والمحدثين، تدعيمًا لوجهة النظر هذه، وهي:

أولًا: إن المؤسس الحقيقي للدولة الإسلامية هو أبو بكر.

ثانيًا: إن الدين حقائق ثابتة لا تتغير، والدولة نظام متغير.

ثالثًا: فشل الحكومات الدينية واستبدادها، وعدم القبول للتطوير، و (القوة تحتل من طبيعة الحكومة الدينية مساحة واسعة، وهي تستمد تبرير قسوتها وبطشها من نفس الغموض الذي تستمد منه سلطتها) ، كما يقول (خالد محمد خالد) في كتاب (من هنا نبدأ) .

(1) الإسلام وأصول الحكم، ص78.

ص: 961

دوافع القول بهذه النظرية:

يختلف الباحثون حول دوافع القول بها، فبينما يعتبرها بعضهم نظرية قائمة على البحث النزيه، يرى بعض آخر أنها جزء من مخططات الاستعمار، ولكن (الأستاذ متولي) يرى أن الطرفين جانبا الحق، وأن الدوافع تكمن في ما يلي بتلخيص:

1 -

أن (علي عبد الرازق) كان يريد أن يثبت هدفه الأساس، وهو أن الخلافة ليست أصلًا من أصول الحكم في الإسلام، وذلك ليضرب به هدف الملك فؤاد - ملك مصر - الذي أراد الاحتلال البريطاني أن يجعله خليفة للمسلمين، بعد أن قام أتاتورك بعزل الخليفة العثماني، وإقامة النظام الجمهوري في تركيا.

2 -

خشية بعضهم من أن يسيطر الفقهاء على شؤون الدولة، ويبثوا روح الجمود فيها، وهو ما أصيب به الفقه الإسلامي بعد سد باب الاجتهاد.

وقد ناقشه بقوله: (ولقد فات أصحاب هذا الرأي أنه كان مما لا يمكن إنكاره أن الأخذ بالرأي الآخر القائل: (بأن الإسلام دين ودولة) ، مما يؤدي بلا ريب إلى الإعلاء من مقام رجال الفقه الإسلامي، فليس من شأنه أن يؤدي حتمًا إلى أن يكون رجال الفقه أو الدين من الحكام، فلم يكن هذا هو الشأن حتى في صدر الإسلام، فمعاوية ويزيد وعمرو بن العاص (وكثير غيرهم من رجال الحكم في ذلك العهد) لم يكونوا علماء الفقه والدين) .

ص: 962

3 -

التأثر بالفكرة الغربية القائلة: (فصل الدين عن الدولة) .

ويمكننا أن نكون الرأي الحق بملاحظة نقاط ثلاث:

النقطة الأولى:

إن النظر المنصف إلى الإسلام، ونصوصه وتاريخه وضروراته لا يدع مجالًا للمكابرة في أنه يجعل مسألة الحكم في عداد أهم المسائل التي يعالجها ويضع مبادئها، فلنلاحظ هذا بشيء من التفصيل:

أ - طبيعة الإسلام: وإذا تصفحنا خصائص الإسلام عرفنا أن أهم الخصائص وأبعدها غورًا في وجوده هي الواقعية، فالإسلام دين واقعي ينسجم مع الفطرة الإنسانية والواقع التكويني الذي يعيشه الإنسان، ولا يتناقض مع نفسه ومع هدفه مطلقًا، وهذه الواقعية هي التي تفرض أن يهتم الإسلام بمسألة الحكم تمام الاهتمام وذلك:

أولًا: لأن الإسلام جاء دينًا شاملًا لكل نواحي الحياة الإنسانية، مخططًا لكل سلوك، ومعينًا لكل نظام، وليس هناك في حياة الإنسان سلوك ولا فريضة لا يدخل تحت نظام خاص وحكم خاص. وهذا ما نستكشفه من عمل الإسلام على إعطاء رأيه في كل مجال، ومن روايات متعددة تؤكد هذا المبدأ من مثل:

1 -

الرواية الصحيحة التي رواها الكليني في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن محمد بن عيسى عن يونس عن حماد قال: سمعته (أي أبا عبد الله الصادق عليه السلام يقول: (ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة)(1) .

2 -

وما رواه الكليني في الكافي أيضًا، عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن ابن فضال عن عاصم بن حميد عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: ((يا أيها الناس: والله ما من شيء يقربكم من الجنة، ويباعدكم من النار، إلا قد أمرتكم به، وما من شيء يقربكم من النار، ويباعدكم من الجنة، إلا قد نهيتكم عنه)) .

والرواية صحيحة أيضًا، وغيرهما من الروايات التي تؤكد رأي الإسلام حتى في (أرش الخدش) .

(1) الأصول من الكافي: 1/59، حديث 4.

ص: 963

ولعل وجود مفهومي (الحلال والحرام) ، اللذين لا يخرج عنهما أي فعل، أكبر دليل يوضح أن الإسلام أعطى رأيه بالعموم أو بالخصوص في كل سلوك إنساني، وعين مذاهبه السياسية والاقتصادية والتربوية وغيرها، وأقام نظمه فيها على أساس من مذاهبه العامة، ولا يمكن مع هذا أن نفترض أن الإسلام غافلًا عن مسألة الحكم، أو تاركًا إياها للظروف والتطورات والتقلبات التي تفرض نفسها على المجتمع الإسلامي، وتحكمه وتفرض سيطرتها عليه، دون أن تستمد منه ولايتها ومبادئها العامة على الأقل.

وثانيًا: فإنا حتى لو غضضنا النظر عن مسألة الشمول التي اقتضتها الواقعية الإسلامية، نجد أن الإسلام أعطى الأمة - بلا ريب - نظامًا اقتصاديًّا كاملًا يقوم على مذهب محدد، كما أعطاها نظامًا للعقوبات، وآخر للشؤون الشخصية، ورابعًا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك، وكل هذه النظم يمتلك الحكم فيها مساحة مهمة، بحيث لا يتصور قيام كل منها - كنظام - إلا بافتراض وجود الدولة الإسلامية التي تحتل ذلك الموقع، وتسير على هدى الإسلام وتعيينه لوظيفتها.

يقول الأستاذ المرحوم (محمد المبارك) :

(إن مجموع هذه الأحكام الجنائية والمالية والدولية والدستورية؛ لا يمكن أن يعقل إيرادها والالتزام بها التزامًا يعتقد المؤمن بالإسلام بوجوبه والإثم بتركه؛ إلا إذا كان القرآن يفرض على المسلمين تنظيم الحكم وإقامة الدولة.

ولا يعقل أن يقدم الإسلام في قرآنه هذه الأحكام لدولة لا تؤمن به، أو لا تقوم على أساس عقيدته ومبادئه، ولا يقول بهذا إلا من فقد رشده أو غالط نفسه أو قصد المراوغة والخداع) (1) . والطريف أن نجد (جان جاك روسو) يسوغ رفضه للدين العالمي الذي يتدخل في الشؤون المدنية، بأن ذلك يؤدي إلى الاعتراف برئيسين وسلطانين وقانونين! وهو ما لا ريب في سخفه وعدم إمكانه، فيقول: (قد ينقسم الدين على ضوء علاقته بالمجتمع - التي يكون إما علاقة عامة وإما خاصة - إلى نوعين: وهما دين الإنسان ودين المواطن:

الأول: وهو بلا معابد ولا هياكل ولا طقوس، مقتصر على العبادة الداخلية المحض لله الأعلى، وعلى الواجبات الأخلاقية الأبدية يكون دين الإنجيل النقي والبسيط التوحيط الحقيقي، وهو ما يمكن أن نسميه القانون الإلهي الطبيعي.

(1) نظام الإسلام - الحكم والدولة - محمد المبارك، ص13.

ص: 964

الثاني: وهو مدوَّن في بلد وحيد يمنحه آلهته وشفعاءه الخاصين وحماته، وله عقائده وطقوسه وعبادته الخارجية المفروضة بالقوانين، وفيما عدا الأمة التي تعتنقه يكون كل إنسان بالنسبة له كافرًا، أجنبيًّا، بربريًّا، وهو لا يحدد واجبات الإنسان وحقوقه خارج حدود هياكله. كانت هذه هي أديان الشعوب الأولى جميعها، التي يمكن أن نطلق عليها اسم القانون الإلهي المدني أو الوضعي.

ثمة نوع ثالث من الأديان أكثر غرابة، إذ أنه يتقديمه للبشر تشريعين ووطنين يخضعهم لواجبات متناقضة، ويمنعهم من أن يكونوا في آن واحد مؤمنين ومواطنين، ذلك هو دين اللاميين، ودين اليانيين والمسيحية والرومانية، ويمكن تسمية هذا الدين بدين الكاهن، وينشأ عنه نوع من القانون المختلط والانطوائي لا اسم له إطلاقًا.

وإذا ما نظرنا سياسيًّا إلى هذه الأنواع الثلاثة من الأديان، وجدنا أنها تنطوي على أخطاء، فالثالث واضح كل الوضوح أنه سيئ، ومن العبث إضاعة الوقت في البرهان على ذلك، إذ أن كل ما يفرق الوحدة الاجتماعية لا قيمة له، وجميع المؤسسات التي تضع الإنسان في تناقض مع نفسه لا قيمة لها)

(1)

.

و (روسو) هنا ينظر للدين نظرة المشرع الوضعي المؤمن بالديمقراطية والنظام المدني، وهو يحاسب الدين على ضوء خدمته لهذا النظام، فيقسم الدين إلى: دين روحاني عالمي لا ربط له بالحياة، وآخر إقليمي ذي هياكل وهو يسند القانون الوضعي، وثالث عالمي متدخل في شؤون الإنسان، ويرى أن الثالث واضح البطلان.

(1) في العقد الاجتماعي، ص206 - 207.

ص: 965

والواقع أن الدين العالمي المتدخل لو كان يعترف بقانونين وسلطانين ووطنين أحدهما للدين والآخر للدولة، فما أبعده عن الواقع، ولكن الإسلام وهو الدين العالمي المنظم لشؤون الإنسان على ضوء علم وحكمة إلهيين واسعين، لا يسمح بقيام نظام وسلطة أخرى إلى جنب سلطته وحكومته، وإلا ألقى الإنسان في تناقض مع نفسه، كما فعلت المسيحية المحرفة بتدخلها القليل في شؤون الإنسان واعترافها بالنظم المدنية.

إن الإسلام يعتبر نفسه هو الحاكم وهو المسيطر، وهو المطاع وهو الموجه لشؤون الحياة، كما ستأتي بعض النصوص في ذلك، وهو الذي يربط بين شؤون الدنيا والآخرة ربطًا تامًا، حتى إنه دعا لأن تكون الحياة بمفهومها الواسع عبادة وقربة إلى الله، فلا معنى للقول بعد ذلك بأن هذا من أمور الدنيا وذاك من أمور الآخرة، وهذا من أمور الدين، وذلك من أمور الدولة والدنيا، وأمثال ذلك.

ثالثًا: لأن القرآن والإسلام دعوة انقلابية تربوية، تريد أن تربي الإنسانية العابدة، وتنفي كل بذور الجاهلية في العقيدة والنظام والأخلاق والتقاليد وغيرها. والتربية تعني - أول ما تعني - مسك أزمة الأمور، ثم وضع برنامج تربوي عام، وخلق التلاؤم بين مختلف نواحي الحياة ونظمها، خدمة لذلك الهدف التربوي العام الذي بينته الآية الكريمة:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ، تحقيقًا لمدارج التكامل الإنساني، ومن هنا يتغير هدف الحكومة في الإسلام، ويختلف عن أهداف الحكومة في المجتمعات الوضعية - كما قلناه -، حيث ركزت على تحقيق رفاه المواطنين وراحتهم، في حين يطلب الإسلام من (الإمام) وهو عنوان الدولة الإسلامية أن يراقب تحولات المجتمع، ويسوقه نحو كماله في مختلف الجوانب، كما سيأتي مزيد توضيح لهذه النقطة.

ص: 966

رابعًا: فإن طبيعة العقيدة الإسلامية تقضي أن تستمد الحكومة ولايتها وقدرتها ومبادئها من الإسلام، فإن أساس الإسلام هو التوحيد الخالص، وولاية الله الحقيقية ومالكيته للكون والإنسان، ولن يملك أي إنسان ولاية على آخر، إلا بسماح الله له، وقد رأينا من قبل أن الحكومة بطبيعتها تحتاج إلى من يمنحها هذه الولاية، ووفقًا للعقيدة الإسلامية وأساسها التوحيدي الحنيف لا يملك حتى الناس أنفسهم سلطة تولية الآخرين عليهم إلا بإذن إلهي.

ومن هنا كان النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، كما في حديث الغدير المتواتر، وكان الإمام طبقًا له أولى بالمؤمنين كما سيأتي.

هذا بيان موجز عن اقتضاء طبيعة الإسلام وواقعيته لأن يضع الإسلام أسس دولته الخالدة خلود رسالته.

ب - النصوص الإسلامية:

والنصوص الإسلامية التي تشير من قرب أو من بُعد إلى التحام مسألة الحكم بالإسلام كثيرة، نلاحظ منها ما يلي:

يقول تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]، و {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18] ، و {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] .

وروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله المقطوع به: ((مَن مات وليس في عنقه بيعة لإمام؛ فقد مات في جاهلية)) .

وحديث الغدير الذي أكد فيه صلى الله عليه وسلم أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأمثال ذلك.

ص: 967

بل إذا لاحظنا الأدلة القاطعة التي تؤيد وجهة النظر هي التي استقي بعضها من الروايات، عرفنا أن مسألة الحكم تشكل مَعلمًا بارزًا من معالم الإسلام، وبدونها لا يكمل الدين، بل يشكل نظام الإمامة امتدادًا للنبوة مع فوارق بينهما. ولكنا نكتفي هنا بذكر نص واحد عن الإمام الرضا، يقول فيه:(يا عبد العزيز: جهل القوم، وخدعوا عن أديانهم، إن الله تبارك وتعالى لم يقبض نبيه صلى الله عليه وسلم حتى أكمل له الدين وأنزل عليه القرآن فيه تفصيل كل شيء، بيّن فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام وجميع ما تحتاج إليه الأمة، فقال عز وجل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] ، وأنزل في حجة الوداع وهي آخر عمرة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] ، وأمر الإمام من تمام الدين، ولم يرحل صلى الله عليه وسلم حتى بيَّن لأمته معالم دينهم وأوضح لهم سبيلهم)(1) .

جـ - التاريخ الإسلامي:

ولا تجدنا بحاجة إلى استعراضه، لوضوح قيادة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والأئمة لشؤون الحكم. وما كان الهدف المعلن للإمام الحسين إلا إسقاط يزيد لكونه مغتصبًا للحكم؛ ومن ثم ممارسة الإمام لحقه في الخلافة وإقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

د - الضرورة الإسلامية:

فإن مسألة الحكم وارتباطها بالإسلام لم يختلف فيها أحد، فحتى الخوارج الذين رفضوا حكام عصرهم نسبوا الحكم إلى الله، غافلين عن أن الله لابد وأن يعيِّن من يطبق شريعته على الأرض، ويقود عملية التربية الكبرى.

(1) عيون أخبار الرضا: 1/216.

ص: 968

النقطة الثانية:

بالنسبة إلى الدوافع التي ذكرت للقول بفصل الإسلام عن مسألة الحكم نود أن نقول: إن علائم التعمد والتحريف واضحة في كتاب (الإسلام وأصول الحكم) ، ولعل مؤلفه كان أدرى بأن ما يستدل به لا يتجاوز ما لا يستقيم دلالته على مدلوله، أو ما لا يعدو كونه قصة تاريخية لا تملك سندًا شرعيًّا، أو ظنًّا لا يغني عن الحق شيئًا.

أما الدوافع التي ذكرت بعد ذلك، فالدافع الأول منها: سياسي محض وفرض وهم، إذ كيف يمكن أن نتصور بريطانيا تعمل على إرجاع الخلافة الإسلامية، ولو في شخص رجل منحرف مثل الملك فؤاد، وهي التي عملت المستحيل وتوسلت بكل السبل لإفناء الخلافة العثمانية، بفعل تحريك العميل الصهيوني الكبير أتاتورك، وتحريك نفر من العرب وإثارة الروح القومية فيهم، وأمثال ذلك، فلا يعدو ذلك إلا وهمًا. نعم يمكن أن نتصور الاستعمار البريطاني نفسه يدفع أمثال (علي عبد الرازق) لفصل الإسلام عن مسألة الحكم، وبالتالي خلق روحية الحكم المدني، وجعل الدين ذا دور هامشي، غير أساس في التشريع، وهو ما طبقه الاستعمار فعلًا في الدويلات التي شكلها بشكل غير مباشر، وصاغ قوانينها الوضعية، معطيًا للإسلام بعض المجالات القليلة كالشؤون الشخصية من زواج وطلاق وأمثالهما.

وأما الدافع الثاني: وهو التخوف من سيطرة الفقهاء على الدولة وتجميدها، فقد رأينا (الدكتور متولي) يرده بأن الحكم الإسلامي يعزز مكانة الفقيه، ولكنه لا يجعله رجل الدولة الوحيد. ثم يذكر مثلًا للحاكم الإسلامي مجسدًا في حكام مثل يزيد، ولم يكن يزيد بن معاوية من الفقهاء مطلقًا.

والرد قد يمكن توجيهه إلى حد ما طبقًا للأطروحة التي تعتمد الشورى أساسًا، وإن أمكن القول بأن أهل الحل والعقد المتدينين سوف يميلون بالطبع إلى رجال الفقه والدين، فإذا افترضنا هؤلاء ممن ابتلوا بالجمود كان من المتوقع للدولة الجمود على وضعها، وعدم تطورها، وهذا ما يرفضه المنطق الاجتماعي. ولكن النقص الأساسي في الرد يكمن في تمثيله بحكام امتلكوا الأمر بالجور والقتل والقهر، وشوهوا وجه التاريخ الإسلامي بالظلم والهتك والمكر. فهل يرضى الدكتور أن يمتلك أمر الأمة أمثال يزيد؟ إنها والله الداهية الدهياء. على أن الرد لا ينسجم مع النظرية التي تعطي الفقيه الدور الأساسي في الأطروحة ضمن شروط خاصة، كما سنبين.

ص: 969

وأما الدافع الثالث: فهو دافع متوقع جدًا بعد انتشار نفوذ الغرب وتصوره عن الدين، وتشبع بعض المثقفين العرب بذلك وانبهارهم بنظام الغرب الديمقراطي الذي يفصل بين الدين والسلطة، وهو أمر ينسجم مع الدين المسيحي المنحرف، والذي لم يعد سوى دين ينظم جوانب العبادة الشكلية لا غير. وسنوضح هذه النقطة في البحث التالي عن العلمانية.

والشيء المهم الذي نود التنبيه عليه في هذا المجال هو أن نقاط الضعف الكبرى الموجودة في بعض التصورات لنظام الحكم في الإسلام كان لها أكبر الأثر في موقف هؤلاء، إن لم تكن هي الدافع الرئيس لذلك، ولكنا هنا نلخص بعضها الذي يحتمل قويًّا تأثيره في هذا الموقف:

أ - ضعف الأدلة المقامة على نوعية نظام الحكم (الشورى) المستقل عن عنصر الولاية، وقبولها كلها للمناقشة الدلالية، وبعضها للمناقشة السندية، ولعل كلمة خالد محمد خالد تشير إلى ذلك.

ب - غموض نظام الشورى وعدم احتوائه - على الأقل - على المبادئ الضرورية لتكوين أي نظام.

جـ - تأرجح تطبيق هذا النظام بين تطبيقات مختلفة.

د - تعميم عنوان (ولي الأمر) لكل مَن أمسك بأزِمّة الأمور، وتعيين وجوب طاعته حتى لو كان فاسقًا.

هـ - وجود نقاط ضعف، لعل أهمها ما جاء في تفسير حديث:

((أنتم أعلم بشؤون دنياكم)) .

فإذا ضممنا إلى ما تقدم: المستوى الفكري غير المقبول الذي وصل إليه بعض الفقهاء في العصور الأخيرة، والجمود الذي ابتلوا به إثر إغلاق باب الاجتهاد، والتبعية المطلقة للرئاسة الدينية للدولة القائمة، وحدوث الكثير من العقبات في وجه من يدعي الفقه، إذا ضممنا إليه كل ذلك عرفنا جانبًا مهمًّا من جوانب هذه الدعوة الخطيرة.

ص: 970

النقطة الثالثة:

مناقشة أدلة هذا الاتجاه، وهنا لا بأس بالتعرض للرد الموجز على الأدلة المذكورة.

أولًا - الآيات القرآنية:

من قبيل {لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 66]، ومن الواضح لكل من لاحظ هذه الآيات وأنها آيات مكية إلا الآية الكريمة:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80] ، ولاحظ أسباب نزولها، أنها كانت تطيب من خاطر النبي صلى الله عليه وسلم، الذي كان يتألم كثيرًا لإعراض بعض المشركين ووقوفهم بوجه دعوته الكبرى، فتخبره أن لا يبخع نفسه على أن لا يكونوا مؤمنين، فليس عليه إلا البلاغ، أما إذا رفضوا الإسلام فليس هو بوكيل حفيظ عليهم، وبالتالي فإنها لا تدل على المدعى المذكور، وليست بهذا الصدد.

ويوضح هذا - بالإضافة لملاحظة سياق الآيات وأسباب نزولها - الآيات الكثيرة التي ذكرنا بعضها، والتي تؤكد أن الرسول هو الشهيد على هذه الأمة، وتوجب طاعته وقيادته:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] .

{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] .

{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] .

وكلها تتحدث عن قيادته ومسؤوليته تجاه أمته، وأنه أولى بها من نفسها.

أما الكافرون المكذبون فليس هو بمسؤول عن تكذيبهم، وإنما سيجزون بما كفروا يوم القيامة. وكذلك يوضح ذلك موقف الرسول العملي وقيادته للحياة العامة، وعدم اقتصاره على مجرد التبليغ والإنذار بالضرورة.

ثانيًا: الأحاديث النبوية:

فلو غضضنا النظر عن أسانيدها ولم نناقش رواتها واحدًا واحدًا - وهو طبيعي - فإن الحديث الأول واضح الدلالة على أن الحاكم الإسلامي، حتى ولو كان هو النبي صلى الله عليه وسلم ليس ملكًا جبارًا مستبدًا يحكم هواه ويقتل بغير حساب، ويقهر رعيته بالرهبة والجبروت، وإنما ينبغي أن يكون الرحيم العطوف الودود برعيته كما كان النبي صلى الله عليه وسلم. وقد كان علي عليه السلام في أصحابه كأحدهم وهو يكتب إلى عامله على مصر (مالك الأشتر) كتابًا رائعًا يقول فيه من جملة ما يقول: (وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن سبعًا ضاريًّا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق

) (1) .

(1) منهج البلاغة، د. صبحي الصالح، ص427.

ص: 971

أما حديث ((أنتم أعلم بشؤون دنياكم))

فإنه أقوى دلالة على المطلوب لو صح، وإن كان من الممكن النقاش فيه على أسا أن المقصود من أمور الدنيا الأمور التجريبية التي يدركها الإنسان بالممارسة، وليست مسألة الحكم أمرًا من هذا القبيل، بل هي العمود الرئيس للمجتمع الذي يعمل الإسلام على بنائه، وخصوصًا بالنسبة لفترة ما بعد الرسول صلى الله عليه وسلم.

ولكن الكلام كل الكلام في صحة هذا الحديث وذلك:

أ - كيف يعقل أن لا يعلم النبي صلى الله عليه وسلم أمور الدنيا وهو الذي يعيش في مجتمع أهم زراعة فيه هو زراعة النخل - أن تأبيره ضروري، لإنتاجه حتى لو فرضناه غير متصل بالسماء في هذه الأمور على الأقل؟ وكيف لم يرد عليه الفلاحون؟

ب - إن الإسلام كما قلنا أعطى رأيه في مختلف الشؤون الدنيوية بعد أن ضبط كل تصرفات الإنسان تحت عنواني الحلال والحرام كما مر، وقد تدخل النبي صلى الله عليه وسلم في مختلف شؤونهم الحياتية حتى بصفته ولي الأمر، فقاد الجيوش ووجههم في مختلف الأمور كما في المجال الصحي وفي المجال الاقتصادي، وأمثال ذلك.

جـ - وقد قام بعض العلماء بمناقشة هذا الحديث سندًا ودلالة فأغنونا عن البحث فيه.

ثالثًا - الأدلة العقلية:

وكلها لا تصلح دليلًا على المدعى؛ أما استبعاد إمكان الحكومة العالمية، فهو قائم على أساس أنه يفرض على الجميع نمطًا واحدًا من السلوك بالرغم من اختلاف المناطق بينهم، وأن يكون الموجه الواحد للعالم والحكومة الواحدة متمثلًا بحكومة الإسلام والإمام، ولا يوجد أي مانع عقلي أو واقعي من ذلك، بل إن بعض كبار المفكرين والسياسيين في العصر الحديث يعدون ذلك إحدى الضرورات التي لا غنى عنها للبشرية - على أنه لا يهمنا رأي هؤلاء - بعد أن وعد الله المؤمنين بالدولة العالمية التي تملأ الأرض قسطًا وعدلًا:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور: 55] .

ص: 972

إن الإسلام - كما هو واضح من مختلف جهاته - يريد أن ينسق مسيرة الأرض الواحدة نحو تكاملها، وهذا لا يفرض إلا وحدة عامة، ولا مانع فيه من الاختلاف في بعض التطبيقات مراعاة للظروف.

وأما مدعاه في أن مسألة الحكم أمر دنيوي خلى فيه الرسول بيننا وبين عقولنا فقد توضح أمره مما سبق.

وأما المدعى الثالث في أن الرسول لم يَبْنِ الدولة، ولا وضع مبادئ الحكم، ولم يوصِ بشيء، ولا عيَّن تفصيلات الشورى، فالواقع فيه أن الرسول لاحظ كل ما يتعلق بهذا الأمر، فخطط لإقامة الدولة الإسلامية أروع تخطيط يتناسب - طبعًا - ومستوى الاحتياجات في عصره، ثم بين أهم مبدأ في نظام الحكم؛ بأن جعل الحاكم الأول في الدولة هو الإنسان العالم السائر على خط الإسلام الذي يعين شكل التنظيم الإداري، وهو يختلف باختلاف الظروف.

وأما ما ذكره بعض الأشخاص تأييدًا له فهو أيضًا غير صحيح، إذِ المؤسس الحقيقي لنظام الحكم الإسلامي هو النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما ما قيل من أن الدين نظام ثابت والدولة نظام متغير فهو أمر يخلط فيه بين جوانب الدين الثابتة التي تعالج أمورًا ثابتة، وجوانب الدين المرنة التي تعالج أمورًا متغيرة؛ كمسألة نوعية التنظيم والإدارة، فإن الجوانب المتغيرة من الحياة كعلاقة الإنسان بالطبيعة تنظمها قواعد مرنة تختلف تطبيقاتها باختلاف الظروف، مثل قواعد (منع الضرر) و (التزاحم بين الأهم والمهم)

وأمثال ذلك.

ومن تلك الجوانب أسلوب الإدارة المختلف باختلاف الظروف، ولذا شكلت منطقة فراغ يملؤها الإمام، وربما عمد إلى الشورى في ذلك، أما الشكل العام الذي ينسجم مع الضوابط العامة فهو أمر ثابت لا يتغير، وسيأتي مزيد حديث عن هذا في البحث التالي.

ص: 973

أما مسألة فشل الحكومات الدينية فليس يعني أن كل حكومة دينية فاشلة مطلقًا، خصوصًا بعد أن صرنا نجد الحكومات المذكورة لا تتبع النظام الإسلامي الكامل، وتحيد عن الصيغة الإسلامية بأي شكل تصورناها. وهل يتحمل الإسلام وزر عمل الطاغية يزيد والحجاج وباقي حكام الجور وبعض الخلفاء العثمانيين وأمثالهم؟

وربما يحلو لبعض الكتاب مثل طه حسين أن يجعل الزمان غير مناسب للحكومة الإسلامية التي أرادها علي عليه السلام. ولذلك لم ينجح في إنشاء دولة العدل بعد أن مال الناس إلى ملكية معاية فيقول: (كان علي عليه السلام يدير خلافة وكان معاوية يدير ملكًا، وكان عصر الخلافة قد انقضى وكان عصر الملك قد أطل) .

ولكن طه حسين لم يلتفت إلى وجود العقبات في وجه أمير المؤمنين لم يكن من مقتضيات التطور الاجتماعي، وإنما هي حالة طارئة وجدت بفعل عوامل معينة، ولم تكن لتستطيع الثبات بوجه العدل العلوي لو فقدت أحد مقوماتها صدفة، كان لم يخدع بعض الناس فيعلن الثورة على أمير المؤمنين، مما خلق الضعف الكبير في الدولة الإسلامية التي يقودها، وأفشل التطبيق الإسلامي النظيف، وحرمنا الكثير من الخيرات.

وبالرغم من كل هذا فإن الفرص التي أتيحت للحكم الديني كي يشمل المجتمع شكلت أروع تجربة بشرية على

الإطلاق، بل إن هناك أنماطًا من التطبيق المنحرف لنظام الحكم الإسلامي هي أفضل بكثير من تطبيق أي نظام لا إسلامي بشهادة التاريخ.

الفرع الثاني - العلمانية الغربية وآثارها على العالم الإسلامي:

والمقصود بالعلمانية: المأخوذة من كلمة (العالم) أي (الزمان) ، أن يكون الحكم بيد قادة زمنيين لا يلتزمون بالدين تشريعًا وتنفيذًا، ومن الخطأ تفسيرها بأنها مذهب يدعو للاستفادة من العلم الحديث مثلًا، أو أنها مجرد مذهب يدعو لإقامة التنظيم الإداري والاجتماعي على أسس علمية مدروسة وأمثال ذلك.

وقد نشأ هذا المذهب من خلال إرهاصات عديدة وصراعات بين السلطة الدينية والسلطة المدنية في الغرب، وهو ما اعترفت به المسيحية بادئ الأمر، مما خلق هذا التناقض المرير وأدى في النهاية إلى هذا المذهب.

وقد ذكر بعض الكتاب أن دعاة العلمانية يسوقون الحجج التالية لضرورة بناء الدولة العلمانية، واستمداد التشريع والتنفيذ من غير الدين، بل وعدم إعطائه محلًا لائقًا في المجتمع، وهي:

1 -

إن الدولة الدينية تعني سيطرة رجال الدين، مما يعني تحكمهم بمصائر الناس.

2 -

إن قوانين الدولة الدينية ثابتة كنظرتها إلى الحقيقة، وهي تؤدي بالتالي إلى بقاء المجتمع وعدم تطوره، وهذا شبيه بما قاله الماركسيون لرد الفلسفة المثالية، والقول بتطور الحقيقة نفسها.

ص: 974

3 -

ومن النادر وجود دولة ينتسب جميع مواطنيها إلى دين واحد، فإذا كانت الحكومة دينية وقع التمييز بين الموطنين.

4 -

إن الدين له تصورات معينة عن الكون والحياة والإنسان والتاريخ، والدولة الدينية تتبع تلك التصورات، مما يعرقل التقدم العلمي، ويقود إلى فجائع حفل بها التاريخ.

5 -

جاء في تصريحات بعض القادة العلمانيين أن المناداة بدولة دينية تعني إعطاء إسرائيل مسوغًا لقيامها واعتدائها، وهي بالتالي خدمة للصهيونية العالمية.

هذا في حين تتمتع الدولة العلمانية بالخصائص التالية:

1 -

الحركية والاستمرار والتطور الاجتماعي.

2 -

مركز حقوقي متساوٍ لجميع المواطنين على اختلاف انتماءاتهم الدينية.

3 -

سيطرة الشعب على الحكم وكونه مصدر السلطات.

4 -

فسح المجال لحركة التقدم العلمي.

العلمانية والإسلام:

لا ريب في أن المسيحية قنعت بنصيب ما منحتها إياه بعض العلمانيات المعتدلة بحيث تقوم بنشاط معين في إطار الدولة العلمانية، في قبال العلمانية الماركسية التي رفضت أي نشاط متصور لها، وهذا ما حدث أخيرًا في إيطاليا مثلًا. ولكن ما هو موقف الإسلام منها؟ وهل تمتلك مسوغاتها في الحقل الإسلامي؟ إننا نرى أن الإسلام لم يدع - منذ البدء - مجالًا لحدوث هذه النتيجة بعد أن قرر:

أولًا: وحدة السلطتين الدينية والسياسية، بل جعل تعيين الإمام (وهو القائد السياسي والديني في آن واحد) إتمامًا للدين، وإكمالًا للنعمة السماوية على الأرض كلها، ولم يسمح بأي انفصال جوهري بينهما، وأي انفصال رئي بعد ذلك فإنما كان يعبر عن تطبيق غير سليم للإسلام.

وإذا رجعنا إلى ملاحظة صفات الإمام أو الحاكم في الإسلام لم يبق مجال مطلقًا لتصور عملية تكريس للذات ومصالحها، بعد فرض علمه الفقهي الواسع، والتزامه الكامل بتطبيق الشريعة الإسلامية المقررة. هذا والتاريخ يشهد على السيرة الممتازة التي سار فيها قادة المسلمين، بغض النظر عن بعض الذين تمادوا وطغوا. وإذا نظرنا إلى نظام (نيابة الفقيه عن الإمام) وولايته، وجدنا أن الفقيه لا يمتلك هذا المقام إلا بعد توفر شروط أهمها (الكفاءة، والعدالة، والفقه العميق) ويفقد أي قدرة بفقدان أي منها، والأمة المشبعة بروح هذه الشروط هي المراقبة لسير هذا الفقيه، كما أن مجلس الفقهاء العدول الأكفاء هو الحارس الأمين على السير الصحيح (1) .

(1) يراجع كتابنا (حول الدستور الإسلامي) ، وقد صدر عن منظمة الإعلام السياسي، معاونية العلاقات الدولية.

ص: 975

وحتى إذا نظرنا لنظام الشورى - بدون ولاية لشخص ما - نجد أنه أفضل بكثير من أي نظام زمني يسلم أموره كلها لآراء الشعب، لأنه يسير وفق تشريع سماوي مسبق وطبق ضوابط شرعية.

وعلى أي حال، فإن الإسلام لم يفسح المجال مطلقًا لظهور هذه الثنائية بين السلطة المدنية والسلطة الدينية، وهي من أفدح الأخطاء التي تفقد السلطة السياسية دورها الحقيقي، في نفس الوقت الذي تشوه حقيقة الدين وتوجيهه للحياة.

ثانيًا: خطط الإسلام للجانب المتغير من الحياة، فوضع القواعد العامة، والأحكام الظاهرية والاضطرارية، وفتح مناطق فراغ يملؤها الحاكم الإسلامي الفقيه العادل على ضوء مشورته ومتطلبات الظروف، إلى جنب إشباعه للجانب الثابت في الحياة الإنسانية - وهو الجانب الفطري الأصيل - بقوانين ثابتة، فلا مجال إذن للجمود، وأمثال ذلك.

وقد تصور هؤلاء أن الدولة الدينية لما كانت تقوم على الإيمان بحقائق فلسفية مطلقة ثابتة، بل وتؤمن بلزوم الإطلاق في الحقيقة، بمعنى (مطابقة الفكرة للواقع الخارجي) ، فهذا يعني الإيمان بقوانين اجتماعية ثابتة لا تتغير مطلقًا، وهو لا يعدو مجرد خلط وسخف، فالإيمان بالحقيقة المطلقة شرط لأن نفترض إمكان المعرفة وحصول اليقين بالواقع الموضوعي الخارجي، ولا ربط له بالإيمان بثبات كل النظم الاجتماعية أو عدمه.

إن الإسلام يؤمن بتطوير كثير من الجوانب الاجتماعية، في نفس الوقت الذي يؤمن فيه بثبات الحقيقة الفلسفية، لأنهما مجالان لا ربط بينهما ولا يخلط بينهما إلا جاهل أو مغالط.

ص: 976

ثالثًا: إن الإسلام أعطى الدين مفهومه الصحيح، فلم يعد مجرد شأن شخصي يمكن أن يتنازل عنه الفرد لصالح النظام الاجتماعي العام - كما اعتبره الغربيون - ومن هنا قالوا بأن إقامة الدولة الدينية تعني إعطاء امتيازات شخصية لأتباع الدين دون غيرهم، وإنما عاد الدين كل شيء في حياة الإنسان، لأنه تصورات واقعية عن الكون والإنسان يثبتها المنطق الصحيح، ونظم تعالج مسيرة الإنسان على ضوء علم إلهي غير محدد وحكمة شاملة، ومع هذا التصور والمبدأ يختلف التقييم.

إن الدين حينئذٍ يحاول أن يبني الإنسانية الصالحة، لا أن ينظم مجرد علاقة روحية شخصية للفرد بخالقه، وانطلاقًا من هذا المبدأ فمن الطبيعي أن نتوقع للإسلام أن يقود الحياة كلها، ولا يسلم أموره بيد دولة لا تؤمن به، ومن الطبيعي بحكم كونه دينًا مخولًا من رب الإنسانية أن يدعو الناس جميعًا للدخول تحت سلطته، كما أن من الطبيعي أن يكون المسلم المنسجم مع الهدف أوسع حقوقًا، كما يكون أكثر تحملًا للمسؤوليات في الدولة المسلمة.

وهذا لا يعني أن الإسلام يعمل على وضع تمايزات كبرى في دولته بين المسلم وغير المسلم، وإنما يقيم توازنًا بين الحقوق والمسؤوليات، كما هو مبين في متون الفقه الإسلامي.

وربما نجد بعض المفكرين المسلمين يعالجون المسألة من سبيل آخر، فيدعون أن كون الدولة مسلمة في الأقطار الإسلامية أمر طبيعي وسائر وفق القوانين الديمقراطية بعد انتخاب الأكثرية المسلمة لها، وهذا الإصلاح أمر لا مسوغ له بعد ملاحظة حقيقة التصور الإسلامي للحكم، وإن الإسلام لا يحكم من خلال هذا المنطق، وليس لمبدأ الأكثرية تأثير إلا في إطار سماح المذهب الإسلامي للحكم. والواقع أننا يجب أن لا نجعل الديمقراطية هي الأصل الذي يقرر مصير الحكم الإسلامي، والتشريعات الإسلامية للحياة، فالعكس هو السبيل المنطقي الصحيح.

رابعًا: ولا نجدنا هنا بحاجة لتوضيح موقف الإسلام من التقدم العلمي، واحتضانه للعلماء في مختلف المجالات، ويكفيه أنه صنع - رغم الانحراف في تطبيقه - الحضارة العلمية الناصعة في عصر كانت أوروبا تغط فيه في سبات قاتل. والواقع أنه لا يمكن تقديم مثل واحد يوضح وقوف الإسلام أمام أي تقدم إنساني، في حين يمكن تقديم الأمثلة الكثيرة على تنمية الإسلام لروح التقدم الإنساني والبحث، وقد فرض الإسلام - كفاية - العمل على كون المجتمع الإسلامي دائمًا في طليعة المجتمعات، نعم، كان التقدم العلمي في الإسلام إنسانيًّا، أي منسجمًا مع التقدم الأخلاقي لا متعارضًا معه، وهذا له مجاله الرحب من الحديث.

ص: 977

وعليه: فإن العلمانية تفقد أي مسوغ لها في الإطار الإسلامي، وإنما حمل لواءها الاستعمار وعاونه بعض المسيحيين والمسلمين المتفرجين، ورفعوا لواء الإصلاح ونجحوا في ما قاموا به على اختلاف في درجات النجاح، ولكن النتيجة لم تكن إلا التخلف وربط مسيرة الأمة بعجلة الغرب، وفقدان الأمة جل خصائصها الإيجابية، وتحكم الطغاة فيها بمختلف الألوان.

الفرع الثالث - الإسلام والسيادة في الدولة:

اتضح من البحوث السابقة أن الإسلام يعتبر نفسه هو المسؤول الأول والأخير عن نظام الحكم في الأمة المسلمة، ولذا لا يبقى أي شك في أن السيادة في تصور الإسلام لله تعالى باعتباره المولى الحقيقي، وبهذا الاعتبار نستطيع أن نقرر منطقية الحكم الإسلامي ووجدانيته.

ولذا فلسنا مع الدكتور (عبد الحميد متولي) في رده العنيف على طرح (مشكلة السيادة) في البحوث الإسلامية، مدعيًا أنها نظرية نشأت في ظروف فرنسية، وأن الظروف التي دعت لطرح المشكلة هي ظروف أوروبية محضة وقد زالت فعلًا، ومؤكدًا أن العلماء المسلمين لم يبحثوها، وأن بحثها الحديث يولد أضرارًا منها: نسبة بعض الأخطاء إلى بعض الخلفاء والعلماء، ومنها ادعاء الثيوقراطية للنظام الإسلامي، مع أن الثيوقراطية في نظر علماء الغرب تعتبر الشكل المعروف للدولة في حياة البشرية في حالتها البدائية، كما أنها تعني في بعض صورها (نظرية التفويض الإلهي) التي استند إليها السلاطين لتسويغ استبدادهم. وأخيرًا يقول:(مما تقدم يتبين أن الإسلام في غير حاجة إلى إثارة تلك المسألة، أو المشكلة التي تؤدي إثارتها إلى حل مشكلة من مشكلاته، وإنما تؤدي إلى خلق مشكلة جديدة، الإسلام عنها في غنى)(1) .

والواقع: أننا لم نتفهم كيف عادت هذه المسألة أمرًا غير ذي بال، وكيف لم تكن مطروحة لدى المسلمين، بالرغم من أنهم جميعًا استدلوا على صحة ما يقولون بدليل شرعي، يثبت في نظرهم أن الله منح السيادة لهذا الشخص مباشرة، أو لمن يصل إلى هذا المنصب عن طريق معين وبشروط معينة، ولو كان ذلك عن طريق انتخاب الأمة أو أهل الحل والعقد.

(1) راجع: مبادئ نظام الحكم في الإسلام، ص165 - 193.

ص: 978

إننا إذا عزلنا الحاكم عن هذه المسألة لم يكن يملك فرض أي حكم عام، ولعل وضوح كون السيادة في الإسلام لله هو الذي صور للدكتور المذكور أن المسلمين لم يعرفوا هذا المبدأ.

أما ما ذكره من الأخطاء (في تصوره) فليست إلا أخطاء في البحث أو النسبة، وكشفًا لفضائح كان ينبغي أن تكشف كما في مجال عمل بعض حكام السوء والمتملقين لهم. وواضح أن النظام الإسلامي يختلف تمام الاختلاف عن الثيوقراطية الغربية، وقد أشار إلى ذلك المودودي في كتابه.

نعم، لم يكن هناك إلا نزاع صوري بين من جعل حق السيادة لله - من السنة - كالمودودي، ومن جعلها حقًا للأمة - كالخفيف - فإن هذا الأخير أيضًا إنما يتصورها حقًا للأمة بإعطاء الله هذا الحق لها، إذ يستدل على مبدأ الشورى بمثل:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] و {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] مع فرض أن المولى هنا في مقام التشريع لا الإخبار عن حق مسبق للأمة، بل حتى لو كان يخبر فإنما يخبر عن جعل إلهي مسبق لهذا الحق للأمة.

وعلى أي حال فالانفاق الإسلامي حاصل على أن حق السيادة لله لا غير، وإنما يبحث عمن أعطاه الله هذا الحق.

خامسًا: أما ما ذكر من قبل بعض القادة العلمانيين فهو أمر غريب حقًا. ذلك أننا إذا استندنا إلى هذا المنطق تجاهلنا:

أولًا: كل التعاليم الإسلامية الداعية إلى الحكم الإسلامي، وإقامة نظام الحياة الاجتماعية على أساس ديني:

{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] .

{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] .

{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47

ص: 979

وتناقصنا مع إيماننا:

{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] .

وثانيًا: فإن إسرائيل لم تقم على منطق سوى السيف والقوة والاعتداء، ومثل هذا التقول يكاد يعطيها الحق في القيام، باعتبار أنه يشكل الدليل التالي:

إسرائيل تقوم على أساس الدين الواحد.

وفكرة كون الدين أساسًا للحياة هي فكرة صائبة، فإسرائيل تقوم على حق.

في حين أن الواقع في المسألة الإسرائيلية:

1 -

أنها لا تؤمن بأي دين حتى اليهودية، وليست سوى قاعدة استعمارية استكبارية زرعها الكفر ليفجر المنطقة الإسلامية، ويسوقها إلى أهدافه الرخيصة.

2 -

أنها لم تستند في قيامها إلى مثل هذا المنطق، استنادًا حقيقيًّا، بحيث يفسح لها المجال في القيام، وإنما كانت ذريعة سبقتها القوة والغصب.

3 -

إن فلسطين هي أرض إسلامية منذ مئات السنين وحتى اليوم، فلا بد أن يدعو هذا المنطق (منطق قيام الحكم على أساس ديني) إلى قيام حكومة إسلامية فيها، خصوصًا إذا علمنا أن أكثر يهودها قد جاءوا من أماكن أخرى، وأن أكثر أهاليها الحقيقيين قد شردوا في البلاد الأخرى.

وثالثًا: إذا كان هناك من يستغل مبدأ صحيحًا ويطبقه تطبيقًا خاطئًا فهل هذا يعني أن نرفع أيدينا عن المبدأ الصحيح؟

فمثلًا: إذا كان من ادعوا (المهدوية) في التاريخ أناسًا منحرفين؛ فهل هذا يعني أن نرفع أيدينا عن الإيمان بفكرة (المهدوية) التي كثرت الروايات وتواترت على صحتها، لا لشيء إلا لأن بعض الأشخاص استغلوها غاية الاستغلال؟ أو فلنقل: إن كان هناك أنبياء مزيفون فهل هذا يلزمنا بعدم الإيمان بمبدأ النبوة مطلقًا؟

ص: 980

نموذج متطرف من كتابات العلمانيين

في ختام حديثنا عن العلمانية رأينا أن نقدم نموذجًا واحدًا من كتابات العلمانيين العرب، وهو نموذج يطفح بالإلحاد، رغم ادعاء صاحبه بأنه لا يتنافى والحقائق الدينية، وينافح ويكافح في سبيل تأصيل الفكرة العلمانية، وبنائها على أسس فلسفية، مدعيًا أن المنطق العقلي يرفض أن يكون الدين والحقائق الدينية (حتى لو قبلناها ولم نناقش فيها) أساسًا للنظام الاجتماعي، في حين لا يمانع من قيام العقل الإنساني الناقص، أو قيام الماركسية أو الرأسمالية مثلًا ببناء مثل هذا النظام. وسنبدأ حديثنا بالإشارة إلى مباحث كتاب (الأسس الفلسفية للعلمانية) لعادل ضاهر، ثم نعقب عليه باختصار مشيرين إلى بعض نقاط الضعف التي يزخر فيها رغم كونه من أنضج الكتب العلمانية.

في مطلع الكتاب، يؤكد الكاتب على مبدأ (أسبقية العقل على النص، ص5) ، وينعى على أولئك الذين يلتمسون مبررًا للعلمانية من الدين، ويرى أنهم يقعون في تناقض.

ويعلن أن العلمانية قد تراجعت أمام الدين في حياتنا، ويعلل ذلك: بأنها لم تقم في سياق حركة نقدية شاملة، لذلك نشأت هشة، وسرعان ما هُزمت.

ويؤكد أنه يسعى لبيان قدرة الإنسان بمفرده لتحديد موقفه من الحياة بعيدًا عن الدين، وأن العوامل المعرفية والميتا أخلاقية والميتا سياسية تؤكد ذلك، وأنه لا يمكن - عقلًا - أن تكون المعارف الاجتماعية العلمية مشتقة من المعرفة الدينية، وهذا يعني أن علينا أن نؤول كل النصوص القرآنية والدينية، التي تدل على العلاقة بين المعرفتين (الدينية والاجتماعية) ، لتعود العلاقة علاقة تاريخية محضة، لها مبرراتها التاريخية لا مبرراتها المفهومية والمنطقية.

وفي مطلع بحثه يفترض إمكان المعرفة الدينية - وإن كان يشكك فيها في الأصل - كما يفترض إمكان المعرفة الاجتماعية ليدرس العلاقة بينهما.

وقبل أن يدرس هذه العلاقة يرد على بعض العلمانيين والإسلاميين جَعْلَهُم الظروف الغربية المناخ المناسب لنشوء العلمانية، الأمر الذي لا يسمح لها بالظهور في التربة الإسلامية (ص43) ، مذكرًا بأن هناك معاصرة بينهما لا غير، وأن جوهر العلمانية هو رفض وجود أي مرجع تشريعي سوى العقل الإنساني، ومهما تصورنا من مرجعية (مرجعية الوحي، نظام الكنيسة، دار الإفتاء

) فإنها تتنافى مع العلمانية، حتى ولو كانت بمستوى الهيمنة الروحية على الأفراد (ص51) .

ص: 981

ويؤكد أن الالتزام السياسي يجب أن لا يأتي إلا من العقل الإنساني، بعيدًا عن الدين، وأن اللجوء إلى الاعتبارات الدينية لإضفاء الشرعية على الدولة مرفوض مبدئيًّا (ص52) .

ويرى أن بعض الكتاب الإسلاميين يقعون في تناقض حينما يؤمنون بـ (الدولة الإسلامية) ، كما يؤمنون بأهمية (العقل العملي) ، نعم لو أن شخصًا اقتضى العقل العملي لديه أن كل ما يقول به الدين في الحياة الاجتماعية صحيح؛ فلا يمكن حرمانه من لقب (العلمانية)(ص61) .

ويؤكد: أن العلمانية اللينة هي التي تدعو إلى إقامة دولة لا دينية على أساس من اعتبارات اجتماعية أو نفسية أو سياسية أو تاريخية، أو على أساس أنها لا يمكن أن تكون ديمقراطية إذا كانت دينية، ويصنف العلمانيين الذين يستندون إلى النصوص الدينية إلى هذه (الليونة) ، أما العلمانية الصلبة والأصلية فهي تلك التي تقيم تناقضًا عقليًّا بين المفهومين، فتؤكد أن المعرفة الاجتماعية لا يمكن أن تجد أساسها الأخير في المعرفة الدينية (ص73) ، وأن المعرفة القيمية العلمية تسبق بطبيعة الحال المعرفة الدينية، ويعتبر هذه المقولة هي أطروحة الكتاب (ص74) ، ولا يرى ذلك منافيًّا للإيمان بالله.

وتقوم فكرته الفلسفية على قضيتين، هما:

المعرفة الدينية يجب أن تكون ضرورية، والمعرفة العلمية الاجتماعية يجب أن تكون جائزة (أي تحتمل البدائل المتنوعة) ولا يمكن أن تكون القضية الجائزة مستنتجة من القضية الضرورية عقلًا.

ويدخل هنا في بحث مطول عن وجود الله وصفاته سواء صفات الذات أو صفات الفعل - دون أن يميز بينها - مناقشًا الإطلاق في هذه الصفات، فالقدرة المطلقة لا تشمل المستحيلات، ولا تشمل الأمور غير العقلانية أيضًا.

وربما دخل في البحث الفلسفي الموجود عن تقدم الماهية على الوجود أو العكس.

ص: 982

كما يبحث في المعرفة العملية، ويرى أنها مكونة من أمرين: علمي وأخلاقي معياري، لينتهي إلى أنه لا يمكن إضفاء طابع الضرورة على الأحكام الأخلاقية (ص156) ، وهذا يشمل حتى المبادئ الأخلاقية الأساسية كمبدأ العدالة والحرية والمنفعة، فهي غير مطلقة، لأنها قد تتعارض فيتم تقييدها، وهكذا يصل إلى ما يسميه بالمقولة المنطقية الأساسية، وهي أنه لا يمكن اشتقاق الجائز من الضروري، والقرآن لا يمكن أن يعطينا معرفة علمية جائزة (ص171) ، ولا يمكن اشتقاق معرفة معيارية من أي خطاب ديني (ص175)، متعرضًا بشكل سطحي جدًّا إلى قاعدة:(لا ضرر ولا ضرار) وقاعدة: (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ، معتبرًا القاعدة الأخيرة تحصيل حاصل لا يحتاج منا إلى وحي.

وعن العلاقة بين الأخلاق والدين: يطرح مسألة التحسين والتقبيح العقليين، ليؤيد فكرة المعتزلة والإمامية القائلين بأن الحُسن والقُبح ذاتيان، ويستنتج أن العقل يسبق الوحي بل يعتمد عليه الوحي.

وفي ما يسميه بالأطروحة الأبستمولوجية الثانية يفترض أن الإنسان قادر على تكوين المعرفة الاجتماعية، ولكن هناك معوقات تمنعه من استكمال المعرفة الأخلاقية من قبيل:

(الأنانية والميول والعجز عن التنبؤ، والطبيعة الخاطئة)، ثم يسعى لبيان إمكانية غلبة الإنسان على هذه الموانع متسائلًا: لماذا نقبل أن تقف هذه عقبة أمام المعرفة العملية دون أن تمنع من تكون المعرفة الدينية؟

وفي نص آخر يتحدث عن موجبات طاعة الله، ويحصرها في كونه حاكمًا وكونه مالكًا، ليؤكد على أن هاتين الحيثيتين لا تؤديان إلى الالتزام المطلق بعد أن كانت هناك اعتبارات عقلانية، لينتهي إلى جعل المرجع النهائي هو (الاعتبارات العقلانية)(ص281)، ويطرح في مسألة الالتزام الديني شبهات من قبيل:

أولًا - الدين إنما يعرفنا واجباتنا الأولية لا واجباتنا بالفعل وهي مقيدة بالظروف الزمانية والمكانية.

ثانيًا - إن واسطتنا في الإطاعة هي النصوص، وهي لا تنفع إلا إذا تطابقت مع الاعتبارات العقلانية.

ثالثًا: إن رجوعنا إلى الله عن طريق هذه النصوص هو أصعب من رجوعنا مباشرة إلى هذه الاعتبارات، لتعرضها للتحريف.

وهو في الواقع يعمل جاهدًا على نفي مرجعية الوحي، والعودة إلى ما يسميه بالاعتبارات العقلانية في عملية التشريع كلها.

ص: 983

ويطرح هنا ما يمكن أن يطرحه المؤمنون من افتراضات ليناقشها وهي:

إذا كان النص قطعي الثبوت، وإذا كانت النبوة ثابتة، وإذا كان الوحي يعني الطريقة المباشرة (غير الاستدلالية) للمعرفة، فأمر الله معروف ولا شك فيه (ص292) . ويركز في المناقشة على عملية (الوحي) ، ويحاول أن يحللها مثيرًا شبهة توهم النبي للوحي، وهي شبهة قديمة معروفة تحاول أن تبقي على صدق النبي فيما يقوله، ولكنها تشكك في المدعى من جهة أن هناك فرقًا بين الإحساس بالألم، وما يبدو أنه إحساس بالألم.

ومن هنا فهو يؤكد أن الوحي ليس من مقولة الحدس، ولا من مقولة الحس، لينتهي إلى أنه (تجربة داخلية) لدى النبي، وهذا يعني بالتالي فقدان أثر العصمة، لأن معطى الوحي يمثل تمازجًا بين معطى الله والنوازع الداخلية للنبي، ثم إن الذي يميز عملية الوحي ودقتها هو العقل.

ثم يؤكد أنه لما لم تكن هناك مقولة للتمييز بين الأنبياء الصادقين والكاذبين سوى العقل فالمرجع إذن العقل.

الإسلام والعلمانية:

وفي هذا الفصل يعمل على جعل العلاقة مجرد تقارن تاريخي لا غير، ويعمل في هذا الفصل أيضًا على مناقشة ما يطرحه من قضايا، من قبيل:

1 -

أن الله يأمر بتنظيم الحياة السياسية، ولا يمكنه إلا أن يكون آمرًا بذلك.

2 -

أن الله يأمر بالنظام رغم اختلاف الظروف الزمانية والمكانية.

3 -

أن المسلم هو وحده المأمور بإقامة الدولة الإسلامية.

4 -

أن الإنسان عاجز عن تنظيم حياته بمفرده.

وهي قضايا يطرحها نيابة عن القائلين بأطروحة الصحوة الإسلامية، ثم يبدأ بالإيراد عليها بإيرادات من قبيل:

أ - أن الظروف هي التي جرت الرسول إلى التقنين، فلو لم يعاند أهل مكة ولم يهاجر النبي إلى المدينة لكان هناك احتمال آخر (وهي قضية يرددها علمانيون آخرون من قبيل الدكتور سروش) .

ب - أن الإسلام صفة عامة لكل الأديان، ولو كان يلازم الدولة لما وجدنا المسيحية مثلًا ترفض الفكرة.

جـ - الإشارة إلى قاعدته؛ أن الجائز لا ينتج من الضروري.

د - أن ثبات النظام مع تغير الظروف مستحيل، ولا يأمر الله بالمستحيل، وهنا يهاجم القائلين بمسألة خلود النظام هجومًا مرًّا (ص239) .

كما يهاجم فكرة (لا اجتهاد مع النص) وفكرة (أن النصوص المطلقة يجب العمل بها وفق إطلاقها) ، ثم يعمل على التشكيك في النصوص القرآنية (ص339) .

ص: 984

ويفرق بشكل غريب بين إطلاق النص وإطلاق مضمونه وهو القاعدة، ثم يطرح فكرة (واجبات الوهلة الأولى) ، ولعله يقصد بها فكرة الواجبات بالعنوان الأولي، التي يمكن أن تتغير بطرح العنوان الثانوي.

ويحاول طرح فكرة (تحريم لحم الخنزير لضرره) ، فإذا زال الضرر حل ذلك.

ويعتبر الإيمان بالمصالح المرسلة نقضًا لإطلاق الأحكام الإلهية.

ويعمل على التفريق الاعتباطي بين القواعد العامة كحرمة شهادة الزور وحرمة القتل، والأخرى كجلد الزانية وإرث الأنثى، فيرى إمكان ثبات الأولى دون الثانية.

وأخيرًا: يطرح فكرة (الطبيعة الكونية للإسلام) ، مستبعدًا كل ما يراه أنه يعارضها، ويستفيد من كلام بعض الكتاب الإسلاميين أن الإسلام جاء بتوجيهات عامة وكليات، أن مرادهم هو الإيمان بالمبادئ المعيارية (ص350)، إلا أنه يستدرك على ذلك أيضًا باعتبار:

1 -

أن هذه المبادئ ليست ذات مضمون سياسي، ولا تبنى به المؤسسات الاجتماعية.

2 -

أن العمل بها هو عمل بالعقل لا بالوحي، لأننا إذا أردنا أن نجعلها كونية كان علينا أن نجردها من خصوصياتها الإسلامية، فهي تتنافي مع مبدأ أن الإسلام هو وحده المكلف بإقامة الدولة الإسلامية، وإلا كان علينا أن نؤمن بالنسبية الأخلاقية.

وأخيرًا يطرح فكرة أن استقلالية الإنسان في تعقله، وفي كينونته الأخلاقية، تتعارض مع فكرة الدولة الدينية لينتهي إلى غرضه الأصلي من الكتاب، وهو الاعتماد على العقل المجرد من الدين في صياغة الحياة.

وإذا كان لنا أن نلاحظ على الكاتب بشكل موجز قلنا:

أولًا: إن الكتاب رغم ما يبدو فيه من اتباع للمنهج العلمي المنطقي يفقد الكثير من المصداقية المنطقية، وخصوصًا عند محاولته المغالطة.

فإن أهم ما يعتمد عليه هو قوله: إن القضية الضرورية لا تنتج القضية الجائزة، جاعلًا إياها قضية منطقية صدقت مقدماتها، فلابد أن تصدق نتائجها بنفس المستوى. وليس الأمر كذلك، فإنه يريد من القضية الضرورية (القضية الدينية العقائدية) وهي قضية ضرورية قطعية حتمًا، أما القضية العملية الاجتماعية فلها حلول عديدة ولا إلزام بالحل الواحد.

ص: 985

ونلاحظ هنا:

1 -

أن الإيمان بالله ووحدانيته وصفاته لا يستلزم مطلقًا الإيمان بوحدة النظام الاجتماعي بكل أبعاده رغم اختلاف الظروف والمكان، فمن الجائز منطقيًّا أن الله تعالى يخير الإنسان بين حلول متعددة لمشكلته الاجتماعية، والفقهاء كلهم يطرحون فكرة الواجب التخييري، وفكرة القاعدة التي تتعدد مصاديقها التنفيذية، بل من الجائز أن يبيح الله للإنسان أن يعمل فكره وعقله في منطقة معينة ليملأها بتشريعاته المتغيرة. وهو ما عبر عنه المرحوم الشهيد الصدر بمنطقة الفراغ التشريعي، أو ما يمكن أن يسمى بالمنطقة الولائية، أو منطقة المباحات - كما أشرنا لذلك في بحث مستقل - ولا يتنافى كل ذلك مع ضرورية القضية الدينية، وبهذا ينهار أساس استدلاله الفلسفي في مجمل الكتاب، فليست القضية هي من الشكل الأول المنطقي ليقال إن ضرورية المقدمات تنتج ضرورية النتائج.

2 -

أن القضية الاجتماعية قد تكون ضرورية، وذلك إذا كانت المشكلة مشكلة ثابتة لا تغير فيها، وكان حلها ثابتًا لا تغير فيه، فليس أمامنا إلا الحل الثابت للمشكلة الثابتة، وهو ما يمكن أن نطلق عليه بمنطق الكاتب اسم القضية الضرورية.

فالمشكلات الإنسانية التي تعود إلى الفطرة، وهي ما نعتقد أنه العنصر الثابت في حياة الإنسان، هي مشكلات ثابتة، وسبل علاجها قد تكون ثابتة لا تغير فيها، كما أن الحقائق الفيزيائية هي حقائق ثابتة، فعلاجها إذن هو العلاج الثابت الذي لا يتغير بتغير الظروف والأماكن، ويمكن أن نضرب لهذه أمثلة من قبيل:

أ - وجوب الصلاة وباقي أنماط العبادات لإشباع حاجة الإنسان الثابتة للتدين والارتباط بالمطلق.

ب - النهي عن قتل الإنسان.

جـ - النهي عن كل أنماط الظلم.

د - النهي عن الخمر لأنها مضرة دائمًا بالإنسان من وجوه شتى.

هـ - النهي عن أكل لحم الخنزير لعلاقته السلبية بالحياة الإنسانية (ولا نعلم نحن أبعاد هذه العلاقة) .

و النهي عن الغرر والغش في المعاملة.

وغير ذلك.

ص: 986

هذا وقد صادر الكاتب على المطلوب حين ادعى أن المعرفة العقلية الكاملة ممكنة، فالمدعى أن المعرفة الاجتماعية الكاملة غير ممكنة؛ لأنها تعني معرفته بكل الغايات الإنسانية بتفاصيلها، ومعرفة كل الوسائل الموصلة إلى تلك الغايات، وهي أيضًا غير ممكنة للعقل، فكيف نفترض ابتداء إمكان هذه المعرفة العملية؟

ثانيًا: أن الهدف الذي يرمي إليه هو فصل الدين عن الحياة، من خلال افتراض أن العقل والمبادئ المعيارية تتقدم رتبة على الوحي، فهي كافية لتنظيم شؤون الحياة.

ونحن نعلم أن العقل هو نبي الباطن - كما يقال: عن هشام بن الحكم قال: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام:

(

يا هشام إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة؛ فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة عليهم السلام وأما الباطنة في العقول

) (1) - وبه تتم المعرفة الدينية سواء كان عقلًا نظريًّا أي المبادئ الأولية الضرورية كاستحالة التناقض ومبدأ العلية، أو كان عقلًا عمليًّا، كما في مسألة إطاعة الخالق تعالى.

ولكن المشكلة تكمن في أن العقل لوحده لا يقدر على معرفة كل العلاقات الإنسانية فيما بينها أولًا، والعلاقات الإنسانية بالطبيعة، والعلاقات بين الماضي والحاضر والمستقبل، والعدالة الدقيقة في الإشباع المتوازن للحاجات الإنسانية، وبالتالي كل السبل للوصول إلى الكمال الإنساني (الذي تعبر عنه النصوص الإسلامية بالتقرب من الله)، ولذا يحتاج الإنسان إلى الدين وتعاليمه وذلك:

أ - لكي ينمي العقل نفسه ويهديه إلى الأسلوب التكاملي الأفضل.

ب - لكي يوضح له ما أبهم عليه من علاقات، وما ينبغي أن يصنعه لمواجهة كل المواقف، ومنها المواقف الأخلاقية التفصيلية التي قد يمكن أن يعلم أصولها إجمالًا. والحقيقة أن السير الطبيعي الذي يصوره الدين يتم على النحو التالي:

(الذات الإنسانية المنطوية تدرك - عبر العقل - الحقائق الدينية لتصل من خلالها إلى الخطة الحياتية الكاملة التي تسير بها نحو التكامل) .

(1) الكافي: 1/16.

ص: 987

فالعقل بمبادئه يقود الإنسان إلى الله، وضرورة طاعته، والله بفضله وكونه الخير المطلق بمقتضى علمه وقدرته ولطفه يرسم للإنسان كل معالم حياته الفردية التشريعية، وكل الحلول الأنجح لمشكلاته ليسير هذا نحو الغاية.

وبتعبير آخر: العقل نبي الباطن الذي يرشده إلى خالق الكون، ونبيه هو عقل الخارج الإنساني الذي يبلغه الخطة الإلهية للحياة.

فأين التناقض؟ ولماذا نعتبر أسبقية العقل تعني أن العقل هو كل شيء في الحياة؟ وهل يمكن أن نعتبر السراج الكاشف عن المنظار كاشفًا عن كل العوالم التي يكشف عنها المنظار، فلا حاجة إذن للمنظار، ونكتفي نحن بالسراج؟ وبهذا ينهار الأساس الثاني الذي سعى له الكاتب وأكده مئات المرات، وهو دلالة أسبقية العقل على الوحي والنبوة على استقلالية الإنسان في كل حياته.

إن الأوامر الإلهية قد تكون أوامر إرشادية لحكم العقل الذي قد يغفل عنه الإنسان نتيجة طغيان النوازع الحسية عليه، ولكنها لا تعني التكرر والمرجعية العقلية، بل تعني الانسجام بين الدين والفطرة الإنسانية، وتبيين مكنونات هذه الفطرة التي قد يعمى عنها الإنسان.

كما أننا قد نعبر عن أن الإرادة الإلهية بمقتضى عدلها ولطفها تنسجم مع الاعتبارات العقلانية، ولكن هذا لا يعني تقييد الإرادة المطلقة، فهي مطلقة لا يحدها شيء، ولكنها بمقتضى العدل واللطف لا تأمر الإنسان إلا بما يصلحه ويحقق له تكامله، ولا يعني هذا المرجعية العقلية بقدر ما يعني الانسجام مع الفطرة والواقع الإنساني. بالإضافة إلى أن هذه الإرادة تتعلق بكثير مما يجعله الإنسان بعقله من المصالح والألطاف، فلا يمكن الاستغناء عنها مطلقًا واعتبار الأوامر الدينية أمرًا مكررًا. فالمغالطة تكمن في جعل العقل الإنساني مدركًا لكل الغايات والمبادئ والعلاقات الواقعية وأساليب العلاج، وهي قضية معلومة البطلان، وما أكثر المجهولات في الحياة.

ص: 988

إننا نؤمن كالكاتب بأن الحسن والقبح ذاتيين للأشياء، ولا نوافق على مقولة أن الحسن آتٍ من تحسين الشارع؛ لأن هذه المقولة كما قال الكاتب تواجه مشكلات عديدة طرحها بإشهاب ليسجل انتصاره دون أن يذكر الفكرة القائلة بالحسن الذاتي للأشياء، فهي تكون حسنة حتى لو لم يوجد المكلف نفسه.. وإنما الذي ننعاه على الكاتب أن العقل العملي يدرك حسن بعض القضايا العامة من قبيل إدراكه لحسن العدالة مطلقًا، فهي معيار دائمي (لا يمكن خلطه مع بعض المعايير التي تمتلك حسنًا أوليًّا للوهلة الأولى كالمنفعة والحرية) ، وكذلك إدراكه لحسن طاعة المولى الخالق الحاكم المالك، وهي مفاتيح تنقلنا إلى عالم العلم الإلهي والطاعة لله، حيث تنكشف أمام العقل نفسه آفاق الحسن بتفاصيلها، ليسجل عجزه أمام الله تعالى، ويركع له ويسجد.

ثالثًا: بغض النظر عن العلاقة بين المعرفتين، لنفرض أن المعرفة العملية ممكنة إلا أن هناك مسألة الطاعة لله الآمر بالنظم الاجتماعية المختلفة التي لا نستطيع إنكارها، فنحن إذ نعرف الله تعالى بكل صفاته، ونعرف الإسلام بأبعاده، لا يمكننا أن نعصي الله تعالى بأوامره بعد أن كانت النصوص ثابتة، والنبوة معصومة، والله تعالى هو الآمر.

إن الكاتب هنا يطرح الكثير من القضايا لنفي هذه العلاقة:

1 -

يدعي أن بعض الكتاب قد رفضوا وجود نظم إسلامية للحياة، أو ذكروا أن هناك مبادئ عامة كلية لا غير.

2 -

يدعي أن الله أعطى الإنسان القدرة على المعرفة الكاملة بالمعايير الأخلاقية التي يعرف الله بها، وهذا لا ينسجم مع مسألة إقامة المجتمع على أساس من التعاليم الإسلامية؛ لأن ذلك لا يبقي مجالًا لإعمال العقل والعمل باستقلاليته.

3 -

يعمل بشتى الأساليب على التشكيك في ثبوت النصوص، وفي إطلاق النصوص، وفي سلامة الوحي من الخداع والوهم، ثم يؤكد أنها لو تمت فإنما تعطينا واجباتنا (لأول وهلة) والذي نسعى إليه هو واجباتنا الفعلية.

ص: 989

4 -

يعمل على الإشكال في مسألة اقتضاء حاكمية الله وملكية الطاعة له.

ونلاحظ على هذا الأسلوب:

1 -

أن الأمر الثاني قد تمت الإجابة عليه، وأكدنا أن قدرة العقل على معرفة الله ولزوم إطاعته، لا تستلزم مطلقًا قدرته على المعرفة العملية بكل الغايات الإنسانية والوسائل التي تحققها، على أن الشارع المقدس يبقي للعقل مجالات واسعة للإبداع والابتكار العلمي، بل مجالات للإبداع التشريعي في الجانب المتغير من حياة الإنسان، وكذلك في انتخاب الأسلوب التطبيقي للحكم الشرعي، فلا يؤدي إذن القول بإقامة الحياة على أساس من شريعة الله لتعطيل العقل الإنساني، وإنما لسد عجزه في المعلومات، وتقوية نشاطه الفعال في المجالات الإنسانية. من المعوقات التي ذكرها الكاتب في أطروحته الأبستمولوجية الثانية حقيقة قائمة، ولكن يجب أن يضاف إليها جهل الإنسان بأكثر المعلومات والعلاقات الدخيلة في شكل نظام، بل هو يجهل ذاته نفسها، فكيف يمكنه التغلب على هذه النقائص؟

والغريب أنه يقول إذا كانت هذه معوقات عن المعرفة العملية فلماذا لا تعيق المعرفة الدينية؟ متغافلًا عن أن المعرفة الدينية هي من مقتضيات الفطرة بميولها نحو التدين، ونزوعها نحو الكمال، وبإمكاناتها العقلية الكلية، فهي تكفي للوصول إلى الله، وهذا شيء يختلف عن معرفة كل أبعاد النظام الاجتماعي والتشريعي للإنسان.

2 -

النقاش في الأمر الأول صغروي، فنحن ندعي أن النظم التي طرحها الإسلام هي نظم متكاملة وشاملة لمجمل المشكلات الحياتية، وتمتلك كل مقومات (النظام) ، فهي أبعد من أن تكون مجرد تعلميات كلية ومبادئ عامة، وقد رأينا الكاتب نفسه لا يكتفي بهذه الحجة التي منحها هؤلاء له، وإنما يعمل على انتزاع الخصيصة الإسلامية لهذه المعايير، وتجريدها من خصوصياتها لتنسجم مع ما يسميه بـ (الكونية الإسلامية) ، وكأن الكونية الإسلامية لا تنسجم حتى مع طرح المعايير الكلية بخصوصياتها الإسلامية.

إن التعامل المنطقي يقتضي أن نناقش القضية على المستوى الإنساني فنقول: هل تستطيع هذه المبادئ أن تطبق على المستوى الإنساني العام؛ بغض النظر عن الاختلافات العرقية أو اللغوية أو المكانية أو الزمانية أم لا؟ بدلًا من أن نفترض ضرورة تطبيقها مع حذف صفتها الإسلامية.

إنها معايير تنسجم مع الفطرة الإنسانية، وهي واحدة في الجميع لأن الفطرة هي الشاخص الإنساني الأول.

والغريب أنه يدعي أن رجوعنا إلى الاعتبارات العقلانية هي أسهل من الرجوع إلى النصوص، وقد أشرنا من قبل إلى أن الاعتبارات العقلانية مبتلاة بمعوقات كثيرة، تجعل المعرفة العلمية الكاملة شبه مستحيلة، بل مستحيلة فعلًا.

ص: 990

3 -

أما مسألة الوسيلة إلى الله تعالى وأوامره فنلاحظ فيها:

أ - أن الكاتب أغفل الأمور المعلومة لدى المسلمين، أو ما نسميه ببديهيات الفقه، وكذلك ما تجمع عليه الأمة الإسلامية، فلا يبقى أي مجال للتشكيك، لأنها معلومة (والحجية ثابتة للعلم) ، وكذلك أغفل النصوص المتواترة المعلومة أيضًا في طليعتها النصوص القرآنية. أما النصوص غير المتواترة فقد ركز عليها مشككًا وطارحًا فكرة التحريف، ومشككًا في الدلالة والظهور، إلا أن علم أصول الفقه الإسلامي قد حل هذه المشكلات وفقًا لأسسه المتينة، فليس لنا أن نشكك في حجية خبر واحد بعد أن كانت سيرة العقلاء الممضاة شرعًا على العمل به، وليس لنا أن نقيد ظهورًا مطلقًا بشكل اعتباطي إلا أن تقوم قرينة متصلة أو منفصلة على ذلك حسب القواعد المعروفة التي لا مجال للحديث عنها هنا.

كما أنه ليس لنا أن نخترع من أنفسنا ملاكات معينة للأحكام، وإنما نتبع في ذلك ما يصرح به الشرع العظيم فضلًا عن أن نقوم بانتخاب أحكام معينة لا تنسجم مع أذواقنا، لإعطائها صفة مؤقتة، وتفقد بذلك خلودها.

ب - إن ما يسميه بـ (واجبات الوهلة الأولى) أمر مبهم، فقد يقصد أنها واجبات لأول وهلة، أي واجبات بدوية سرعان ما تفقد وجوبها، وهو أمر سخيف لا محصل له، وقد يقصد بها ما نسميه نحن بالواجبات الأولية، أي الواجبات التي تأتي في حد ذاتها على المكلفين (ما لم يعارضها عنوان ثانوي) كوجوب الصلاة، وحرمة الخمر، وإذا جاءت هناك عناوين ثانوية كالحرج والاضطرار والتزاحم مع الواجبات الأهم، قدمت هذه العناوين الثانوية وصارت واجبات فعلية، فهذه أيضًا لها قواعدها الرصينة وهي تعبر عن مرونة الشريعة، وكذلك يتقدم الأمر الصادر من ولي الأمر، وهو الأمر الحكومي، على العناوين الأولية المباحة - في تفصيل يذكر في محله - فلا يشكل هذا الجانب أية مشكلة تشريعية.

جـ - والأغرب من كل ذلك ما يصرح به من أن إطلاق النص لا يستلزم القاعدة المتضمنة فيه، وما النص إلا كاشف عن مضمونه ومعرف له.

د - والإيمان بالمصالح المرسلة لا يعبر عن نقض لنظام الأحكام الإلهية، وإنما يعبر عن مرونة تشريعية، حيث يلجأ ولي الأمر إلى ما تقتضيه المصالح في إطار المقاصد الشرعية، وفي إطار المؤشرات التي يمنحه الشارع إياها، يلجأ لعلاج الحالات المتغيرة بإصداره الأحكام المصلحية، ونحن هنا لا نؤمن برجوع الفقيه إلى ذلك.

ص: 991

هـ - أما فكرة (الاجتهاد في قبال النص) فهي فكرة غريبة عن الإسلام، ولا معنى لأن يعمل الإنسان رأيه في قبال النص الإلهي المعصوم، إنه بذلك ينقض إيمانه بالنص الديني وعصمته، ويقع بالتالي في تناقض في إيمانه.

و أما التشكيك في عملية الوحي فهو أمر مرفوض تمامًا، وهي فكرة غربية غريبة على الروح الإسلامية، إن الوحي حضور قطعي لدى النبي، وهو بدوره يوصله إلى الأمة دونما أي تصرف {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44 - 46] ، أما فكرة التجربة الداخلية فقد انطلقت في الغرب وتأثر بها المفكرون المسلمون، وهي أمور لو شككنا فيها شككنا في كل النبوة، والمفروض أننا اطمأننا بعصمة الرسول إما مطلقًا أو على الأقل في مجال التبليغ (كما هو رأي بعض المسلمين) .

ز - وقد ذكر أننا لا نستطيع التعامل مع النصوص إلا إذا تطابقت مع الاعتبارات العقلانية فلا ندري ماذا يقصد بها، فإن قصد أن النص يخالف في ظهوره معلومة قطعية عقلية من قبيل قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] ، وحينئذ يجب تأويله، فهو أمر صحيح ولكنه لا علاقة له بالجانب التشريعي أولًا، وتقل موارده ثانيًا، وليس في المجالات التشريعية ثالثًا.

وإن قصد أن النص قد يخالف ما تستحسنه ظنوننا وأذواقنا واعتباراتنا العرفية فلا قيمة لهذه الاستحسانات بعد أن كانت مبتلاة بالمعوقات التي ذكرها هو، وفي طليعتها الجهل الإنساني بالحقائق.. نعم لو بلغت هذه الاعتبارات حدًّا واسعًا، وامتدت امتدادًا تاريخيًّا إلى عصر النص، وشكلت قرينة عرفية عليه، ولم يكن هناك ردع شرعي لها، أمكن القول بأنها قد تقيد ظهور النص وإطلاقه، ولكن ذلك لا يؤدي إلى ما يريده الكاتب من جعل الاعتبارات العقلانية مرجعًا للنصوص.

وهكذا نجد أن هذه الشبهات تتساقط الواحدة بعد الأخرى، ويبقى السبيل إلى معرفة أوامر الله تعالى سليمًا بوجه عام.

ص: 992

أما ادعاء أن الرجوع إلى الاعتبارات العقلانية أسهل من الرجوع إلى النصوص فقد قلنا إنه غريب سخيف، وأنَّى لهذه الاعتبارات المبتلاة بضعفها أن توصلنا - عبر التجربة الاجتماعية - إلى المعرفة العلمية المطلوبة وقد أشرنا لهذا من قبل.

والحقيقة أن من يدرك الفرق بين التجربة الطبيعية والتجربة الاجتماعية يلاحظ عجز الإنسان عن الوصول إلى المعرفة الاجتماعية الشاملة الدقيقة (1) .

ح - وحَول مشألة الالتزام الإلهي:

يرى الكاتب أن صفة القدرة الإلهية لا تكفي للإلزام بطاعة أوامر الله، حتى ولو كانت إرادته خيرة دائمًا، إلا أن تقود الإنسان إلى ذلك اعتباراته العقلانية.

ومن هنا فما الذي يقودنا للإلزام؟ يطرح هنا فكرة الحاكمية الإلهية للعالم، وفكرة الخالقية والمنعمية، وفكرة المالكية الإلهية للعالم، ويناقشها بأنها جميعًا تتحرك في إطار الاعتبارات، فالتشكيك إذن ينصب على عنصر الإلزام الإلهي.

والحقيقة أن كل تلك الأفكار تعود إلى فكرة أعلى منها هي فكرة المولوية الإلهية. فالله تعالى هو المولى الحقيقي للإنسان، والإنسان بالتعبير الديني هو العبد المحض لهذا المولى الحقيقي، ويكمن سيره التكاملي في عبوديته التكاملية، ولذا أطلق على الأعمال التي تنظم مظاهر هذه العلاقة اسم (العبادات) .

(1) مقدمة كتاب فلسفتنا للشهيد الإمام الصدر.

ص: 993

وينطلق الإلزام في مقام المولوية من حكم العقل القطعي الإلزامي (وهو من أهم الاعتبارات العقلانية) بلزوم طاعة المولى الحقيقي، والعمل بأوامره المعلومة، واستحقاق الثواب والعقاب على أساس من هذه الطاعة، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن احتمال إرادة المولى الحقيقي - أيضًا - ملزم للطاعة لدى العقل، ولا يحتاج الأمر إلى التحقق قطعًا من صدور الأمر الإلهي؛ يقول الشهيد الصدر متحدثًا عن أن البحث عن الحجية هو بحث عن حدود المولوية:

(لأن المولوية عبارة عن حق الطاعة، وحق الطاعة يدركه العقل بملاك من الملا

كات؛ كملاك شكر المنعم أو ملاك الخالقية أو المالكية، ولكن حق الطاعة له مراتب، وكلما كان الملاك آكد كان حق الطاعة أوسع.. وقد تكون مولوية المولى أوسع دائرة، بأن كانت منعميته بدرجة عليها حق الطاعة حتى في المشكوكات والمحتملات من التكاليف.. ومظنوني أنه بعد الالتفات إلى ما بيناه لا يبقى من لا يقول بسعة مولوية المولى الحقيقي بنحو تشمل حق التكاليف الموهومة) (1) .

رابعًا: مما يردده الكاتب كثيرًا: مسألة استحالة أن يكون هناك نظام خالد، لأن الظروف الزمانية المكانية متغيرة، فحتى لو جاء الأمر الإلهي بذلك فهو مستحيل ومخالف للمعايير العقلانية فيجب رفضه أو تأويله.

وهذا الإشكال معروف وقديم، ويكفي أن نشير إلى أن الكتَّاب الإسلاميين أجابوا عليه في بحوث مفصلة، وخلاصة الرد عليه هو:

إن الجوانب الإنسانية ليست كلها متغيرة، وإنما بعضها ثابت والآخر متغير، أما الجانب الثابت فيشمل مثلًا الجوانب الفطرية الثابتة في الإنسان، ومنها الثوابت الأخلاقية التي يؤكد عليها الكاتب، ومنها الحقائق الفيزياوية الكونية الثابتة أيضًا.

وعلاج هذه الجوانب يبقى ثابتًا.

أما الجوانب المتغيرة فيجب مواجهتها بعناصر مرنة (هي بدورها الكلي تشكل قواعد ثابتة)، وللإسلام تخطيطه الواسع في هذا المجال يشمل:

أ - الإيمان بتقسيم الأحكام إلى أولية وثانوية وحكومية.

ب- تعيين المجالات المتطورة وتعيين دور الحاكم في ملئها، مع ملاحظة اختلاف الظروف الزمانية والمكانية.

(1) مباحث الحجج والأصول العملية للشهيد الصدر، تقرير السيد الهاشمي: 2/24.

ص: 994

جـ - إعطاء بعض القواعد الثابتة التي تتغير مصاديقها بتغير الظروف، من قبيل قاعدة (منع الإسراف) و (إعداد القوة) و (ضرورة العمل على رفع المستوى المعاشي للأفراد للوصول بهم إلى حد الغنى)

وأمثال ذلك.

د - فتح باب الاجتهاد لاستيعاب مختلف الظروف في أطر معينة ثابتة.

وبهذا نؤمن أن فكرة استحالة خلود النظام وهي من الأفكار الأساسية في الكتاب فكرة باطلة، وللتفصيل هنا مجال.

خامسًا: هذا، وهناك مجالات كثيرة للفقه نعرض عنها، ولكن نشير إلى أنه يستند إلى هذه النصوص المسيحية المحرفة ليؤكد أنها لا تتدخل في الحياة الاجتماعية، ويعتبر ذلك نقضًا على تدخل الإسلام في هذه الحياة، باعتبار أن الإسلام يشمل كل الأديان التوحيدية، فلماذا نقض هذا الأمر في المسيحية؟ والحقيقة هي أن الأديان كلها تتدخل في الحياة الاجتماعية وتصوغها، فطبيعة الدين ذلك وحتى المسيحية المحرفة نجدها تنظم الحياة وإن لم تصلنا كل النصوص الدالة على ذلك إلا أن بعض نصوصها يؤكد ذلك.

وكذلك نشير إلى أن فكرة تأثير الظروف على دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنها دفعته للفكرة العالمية أو (الفكرة الاجتماعية) وأمثال ذلك، هذه الفكرة تتناقض مع ما آمنا به سلفًا من نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وقدسية الوحي، والغريب أن نجد بعض المدعين للإسلام يستجيبون لمثل هذه التشكيكات من قبيل (الدكتور سروش في إيران) في مقاله المعروف عن (الصراطات المستقيمة) .

وكذلك نشير إلى فكرة: (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ، والتي اعتبرها تحصيل حاصل، مؤكدين أن الفهم العام لها يختلف تمامًا عما فهمه هو، فهذا النظام هو نظام الإشراف على عملية تطبيق الشريعة الإسلامية ومقاصدها على الصعيد الفردي والاجتماعي، وليست الرقابة الاجتماعية مما يمكن أن يوصف بأنه تحصيل حاصل إلا أن يفسر المعروف بالمعايير الأخلاقية، وتكون الجملة لديه (علينا الالتزام بما علينا الالتزام به) ، كلا، فالقاعدة هي إلزام الأفراد والجماعات بواجباتها الدينية، وليست كما يتصور.

آية الله محمد علي التسخيري.

ص: 995