الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بيع الدين وسندات القرض
وبدائلها الشرعية
في مجال القطاع العام والخاص
إعداد الدكتور
محمد علي القري بن عيد
مدير مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله نحمده الحمد كله، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين محمد؛ وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
ففي سنة 1989 م نشر الاقتصادي الفرنسي المشهور الذي حاز في سنة 1988 م على جائزة نوبل في الاقتصاد مقالاً عنوانه " من الانهيار إلى الازدهار"(1) حذر فيه مما أسماه مصيبة الديون، وذكر فيه أن تراكم الديون لا يؤثر على الاستقرار الاقتصادي فحسب، بل إنه أضحى خطرًا يهدد الحضارة الإنسانية برمتها.
والأدلة تترى على صدق توقع هذا الخبير، ذلك أن ما وقع في بعض دول العالم ابتداءً من المكسيك في سنة 1995م، ثم انتهاءً بجنوب شرقي آسيا في سنة 1997 م، وروسيا 1998م؛ إنما سببه الأساس تراكم الديون وتداولها بالبيع وإنشاء أسواق لها يتولد عن المعاملات فيها أرباح صورية، إذ لا يتصور أن يتولد الفائض إلا من العمليات الإنتاجية الحقيقية التي تتمخض عن سلع أو خدمات. فإذا تراكمت هذه الديون على صفة أهرامات مقلوبة كما وصفها (موريس آليه) انهارت لتخلف وراءها اقتصادًا محطمًا استلبت منه ثمرة جهود أبنائه وعرقهم.
وهكذا يتبين لنا تفوق نظام الإسلام على كل ما سواه إذ منع من بيوع الدين ما فيه هذه الأضرار، وأباح منها ما يتحقق منه المطلوب من تيسير المعاملات وتحقيق الكفاءة في الأسواق دون أن ينتهي إلى هذه الآثار السيئة.
وهذه الورقة عرض لمسألة الديون وأنواع معاملات البيع التي تجري فيها وصفة البيع الجائزة، وسندات القرض وبدائلها المشروعة.
نفع الله بها كاتبها وقارئها.
(1) وقد نشر مترجمًا إلى العربية في العدد الأول من المجلد الأول من مجلة بحوث الاقتصاد الإسلامي، مجلة الجمعية الدولية للاقتصاد الإسلامي، 1991م.
أولاً: بيع الدين
1-
1 تعريف الدين:
قال ابن منظور " كل ما ليس بحاضر دين (1) ، وعرفته مجلة الأحكام العدلية فقالت: " الدين ما يثبت في ذمة رجل " (2) ، ويستعمل الفقهاء كلمة الدين بمعنيين: عام وهو مطلق الحق اللازم في الذمة، وخاص وهو عند جمهور الفقهاء: "كل ما يثبت في الذمة من مال بسبب يقتضي ثبوته " (3) في نظير معاوضة أو إتلاف أو قرض أو أرش جناية أو حق لله تعالى كالزكاة. ولا يثبت في الذمة إلا المثليات وهي الأموال التي تتماثل آحادها وتتساوى في القيمة كالمكيل والموزون والنقود ونحو ذلك. أما القيميات فلا تثبت في الذمة بل تثبت قيمتها كـ ثمن البيع وغرامة الإتلاف. وكل قرض دين، ولكن الدين ربما كان من قرض وربما كان من أمور أخرى كالبيع الآجل والسلم والمهر المؤخر وأرش الجناية وعوض الخلع. . . إلخ. والدين حال إذا كان يجب أداؤه عند طلب الدائن أو مؤجل إذا كان للوفاء به مدة مضروبة.
1 – 2 بيع الدين:
يقصد ببيع الدين تصرف الدائن بالدين بتمليكه لغيره مقابل عوض. ويتفرع عن ذلك أن يباع الدين لمن هو عليه أو لسواه، في أجله أو قبل أجله. بمقدار مبلغه أو بأقل منه نقدًا أو بثمن مؤجل، ولكل أحكامه التي فصلها الفقهاء. وكل هذه الحالات مهم ولا يكتمل النظر من الناحية الفقهية في المسألة إلا باستقصائها جميعًا وتفصيل أحكامها. وهي مبسوطة في كتب الفقهاء وفي الدراسات الفقهية المعاصرة فلا حاجة بنا إلى الإسهاب فيها. بل سنقتصر على الصيغة التي انتشر العمل بها في يوم الناس هذا في المصارف وأسواق المال ومعاملات الناس خشية التطويل ولكنها الصيغة المقصودة عند الكلام عن بيع الدين وهي النازلة التي استشكل على المعاصرين أمرها، تلكم هي بيع الدين لغير من هو عليه قبل أجله بأقل من قيمته الاسمية (مبلغه) .
وبيع الدين ليس من مخترعات العصر الحديث بل هو قديم حتى بصوره التي تبدو لنا مبتكرة. فقد أورد بعض المؤرخين الاقتصاديين أن الوثائق البابلية والآشورية قد تضمنت ما يمكن القول إنه سندات دين لحامله تعود إلى نحو 1800 سنة قبل الميلاد، وأن وثائق الدين كانت تباع وتشترى في الأسواق في نحو سنة 1400 قبل الميلاد (4) .
1 – 3 أهمية الموضوع:
تعد مسألة الديون من أهم وأخطر القضايا الاقتصادية المعاصرة، ومع ذلك فإن الكتابات فيها من المنظور الإسلامي قليلة جدًا، رغم تأثيرها المباشر على حياة الناس في كل مكان، وسوف نورد أدناه بعض المعلومات المختصرة التي تبين أهمية وخطورة المسألة محل البحث.
إن العالم يغرق في الديون، على مستوى الأفراد، والشركات والحكومات وفيما بين الدول.
- فعلى مستوى الأفراد، تدل الإحصاءات في بعض البلدان أن الدين يستغرق نحو (90 %) من الدخل الشهري للسواد الأعظم من الأفراد يسددون ديونهم الناتجة عن شراء المنزل بالأجل والسيارة والأثاث والقروض المصرفية. .. إلخ (5) .
(1) لسان العرب لا بن منظور.
(2)
المجلة مادة رقم 158.
(3)
نزيه حماد، معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء.
(4)
انظر في تفصيل ذلك: Moris Silver، Economic structure of the Ancient Neareast، London، Croom Helm، 1985، P. 60 وما بعدها.
(5)
منها الولايات المتحدة، كما نقلت ذلك جريدة (وول ستريت جورنال) .
- وعلى مستوى الشركات، تمثل الديون المصدر الأهم للتمويل. ولذلك صارت أسواق المال العالمية أسواقًا للديون وليس لحقوق الملكية (الأسهم) وتفضل الشركات في كل أنحاء العالم إصدار سندات الدين وليس أسهم الاشتراك والملكية. ففي الولايات المتحدة حيث تتوفر الإحصاءات لا تمثل الأسهم أكثر من (4.5 %) من مجمل مصادر التمويل للشركات المساهمة من أسواق المال، بينما أن نحو (93 %) منها كان بإصدار سندات الدين (هذا إضافة إلى القروض المصرفية)(1) .
- وعلى مستوى الحكومات، تصل الديون على الحكومة في بعض الدول إلى أكثر من (100 %) من الناتج المحلي الإجمالي للقطر، وتصل قروض حكومة الولايات المتحدة على سبيل المثال إلى نحو (50 %) من مجموع مدخرات المواطنين السنوية، وهي تدفع في كل عام فوائد على قروضها بلغت سنة 1992م (293) بليون دولار. كما أن (70 %) من إيرادات الضرائب في إيطاليا تخصص لدفع الفوائد على القروض الحكومية التي لا حيلة للحكومة في تسديد أصلها، ولا قدرة لها إلا على دفع الفوائد السنوية عليها (2) ، وليست حكومات بلاد المسلمين مختلفة عن ذلك.
وكذلك حال الدول وبخاصة النامية منها، فقد بلغت ديون الأقطار النامية إلى الدول الصناعية سنة 1991م ترليون و600 مليون دولار تدفع عليها فوائد تبلغ نحو 60 ألف مليون دولار سنويًّا (3) .
وقد نما حجم المداينات على مستوى العالم بمعدلات عالية في السنوات الأخيرة؛ إذ تدل الإحصاءات على أن الاقتراض للدولة من الأسواق الخارجية ارتفع من (36.4) مليون دولار سنويًّا في سنة 1974 م إلى (1،8) ترليون دولار في سنة 1993م (4) .
لا ريب أن ظاهرة الديون تثير مسائل كثيرة تحتاج إلى نظر ومن أهمها المعاملات التي تجري في الديون بعد ثبوتها في الذمم، ومن أهم ذلك بيع الدين.
إن بيع الدين بأنواعه وصوره المتعددة هو في يوم الناس هذا قوام عمل الأسواق المالية التي تتداول فيها الأموال بآلاف البلايين من الدولارات.
1-
4 أسباب نزوع الناس إلى المداينات في المعاملات المعاصرة:
الدين قديم، وقد تعامل الناس بالبيوع الآجلة والقروض في كل دورات التاريخ. إلا أن هذا الانتشار العظيم للمداينات هو ظاهرة معاصرة تعد من سمات العصر الحديث، وبخاصة في العقود الأخيرة من هذا القرن. والجهات التي تستدين هي الأفراد، والشركات، والحكومة ومؤسساتها وتنزع هذه الجهات جميعًا إلى المداينة لأسباب.
1-
4-1 على مستوى الفرد:
لا يكاد الإنسان يسلم من الدين في المجتمعات المتمدنة في يوم الناس هذا، وقد أضحى من المعتاد أن يخصص كل فرد جزءًا ثابتًا من دخله الشهري لسداد الديون، وقد دلت بعض الإحصاءات أن الفرد في بعض الدول يذهب جل دخله الشهري لدفع الأقساط الناتجة عن شرائه المنزل والسيارة والأثاث، وأقساط تعليم أبنائه ومدفوعات بطاقة الائتمان وفاتورة الهاتف والكهرباء ومصاريف التأمين الصحي.
…
إلخ. لا ريب أن لهذه الظاهرة أسبابًا لعل أهمها:
أ- استقرار دخول السواد الأعظم من أفراد المجتمع بسبب ارتباطهم بوظائف دائمة (أو شبه دائمة) لها سلم رواتب معلن مما مكن هؤلاء من التخطيط لإنفاقاتهم في المستقبل بقدر كبير من الاطمئنان. فلم يعد إنفاق الفرد اليوم معتمدًا على دخله في ذلك اليوم، بل هو مبني على إمكاناته المستقبلية. فهو لا ينتظر عند شرائه للسيارة حتى يدخر كامل ثمنها مثلاً ثم يشتريها، بل هو يشتريها اليوم ليدفع ثمنها منجمًا على مدى سنوات قادمة. وكذلك يفعل في شرائه المنزل وفي انخراطه في برامج التعليم. .. إلخ.
ب- ومن جهة أخرى تشجع برامج التأمين بأنواعها، سواء كانت برامج تقاعدية أو تأمينًا ضد البطالة أو تأمينًا صحيًّا أو تأمينًا على الحياة (في البلاد الغربية) ، يشجع وجود مثل هذه البرامج المؤسسات المالية والشركات التجارية على تقديم القروض وأنواع الائتمان لأفراد المجتمع غير قلقة على احتمالات موت المدين أو إفلاسه لإمكانية استيفاء الدين من مستحقاته الأخرى. فإذا أضيف إلى ذلك تطور الإجراءات القانونية والإدارية ووسائل جمع المعلومات وتحصيل الديون بطريقة صارت فعالة في ردع المماطلين وتقليل حجم الديون المعدومة في العمليات الائتمانية. لهذا السبب وجدنا أن النسيئة صارت هي أساس جل البيوع عند الناس ولم يعد البيع النقدي شيئًا مذكورًا إلا في المواد الاستهلاكية وما شابهها.
(1) R.H.Rupert P. 113
(2)
ففي سنة 1992م وصلت الديون على حكومة بلجيكا (120 %) من الناتج المحلي الإجمالي، و (108 %) في إيطاليا – عن جريدة (وول ستريت جورنال) أعداد مختلفة سنة 1993م؛ وكذلك كتاب 1995 Bank ruptcy لمؤلفيه: Harry Figgie، Gerald Swanson من دار Little Bron في نيويرك، 1992م.
(3)
جريدة (وول ستريت جورنال) ، 30 /12 / 1992 م.
(4)
مجلة أكونومست، 17 ديسمبر 1994م، ص 17.
1-
4-2 على مستوى الشركات
كذلك الأمر في الشركات والمؤسسات الإنتاجية التي تهدف بصورة أساسية إلى تحقيق الربح لملاكها، إذ هي تجد الدين خير أنواع التمويل المتاحة لها من حيث تحقيقه الربحية.
إن الشركة إذا احتاجت إلى المال فإن أمامها طريقان: الأول: هو القرض بفائدة من البنوك أو من الجمهور (أو بصيغ تمويل إسلامية قائمة على الدين في الشركات الملتزمة بأحكام الشريعة)، والثاني: زيادة رأسمالها بالمشاركة (أو إصدار الأسهم) . وتنزع أكثر الشركات إلى النوع الأول. ذلك أن القرض وأنواع الديون الأخرى تعد في المعيار المحاسبي تكلفة، ولذلك فإنها تقلل من وعاء الضريبة على الشركة حيث يمكنه أن تطرح من أقساط تسديد الدين من دخلها السنوي قبل حساب الربح (دخلها الصافي) الذي يكون وعاءً للضريبة. أما لو أنها أصدرت أسهمًا جديدة للحصول على نفس المبلغ من المال فسوف يترتب على ذلك دفع مبلغ أعلى لمصلحة الضرائب بسبب انتفاخ الوعاء الضريبي (1) ، ولذلك يفضل أصحاب الشركة الحاليين الدين لأن بإمكانهم غندئذ الحصول على عائد أعلى من ملكية الأسهم.
ومن جهة أخرى فإن الفائدة على القروض لما كان مستواها دائمًا أدنى من المستوى المتوسط للأرباح، فإن الشركات التي تحقق ربحًا صافيًا يزيد على سعر فائدة القروض تجد من الأجدى لغرض رعاية مصالح حملة الأسهم الحاليين وهو تعظيم الربح (في غياب اعتبارات أخرى) أن تقترض فتدفع الفائدة ولا تصدر الأسهم الجديدة، ثم تدفع عليها ربحًا يزيد مبلغه عن مدفوعات الفائدة.
وهي بهذه الطريقة تزيد حجم المبلغ الذي تستطيع توزيعه على ملاكها الحاليين على صفة أرباح سنوية. أضف إلى ذلك هيمنة النظام الغربي المعتمد على المداينات والفائدة هيمنته على النظام الاقتصادي في أكثر بلدان العالم.
ولذلك تجد أكثر الشركات نفسها تعمل في بيئة تقنن الاقتراض وتوفر له الترتيبات الإدارية والمؤسسات التي تنظم شؤونه والمعايير المحاسبية الخاصة به وقواعد المراجعة الضرورية لضبطه مما يسهل للشركة التعامل مع القروض وبخاصة تجاه إدارة الضرائب، بينما هي لا تعطي المشاركات اعتبارًا ولا تعدها من الخيارات المتاحة للشركة (فيما عدا إصدار الأسهم وهي طريقة معقدة ومكلفة) .
إن الشركة لو حاولت الحصول على المال على أساس المضاربة أو السلم أو المشاركة المؤقتة لواجهت المصاعب من الناحية التطبيقية في كل جوانبها ولا سيما من ناحية عدم وجود قوانين تنظم مثل هذه الصيغ ومعايير تمكن من قياس الأداء ومقارنة الأرباح، لوجدت الجهات الضريبية صعوبة في التعامل معها.
(1) لأن مبلغ ما تدفعه كزيادة في القرض أو ربحًا في البيوع الآجلة لو أنها استدانت سيظهر على صفة ربح لحملة الأسهم عند تمويلها بإصدار أسهم جديدة، فيدخل في وعاء الضريبة (وهو الدخل الصافي للشركة) . وتكون المسألة أكثر تأثيرًا على الشركات في الأنظمة التي تتبننى الضرائب التصاعدية؛ لأن انتفاخ الوعاء الضريبي سيؤدي إلى وضع الشركة في شريحة ضريبية أعلى.
1-
4-3 على مستوى الحكومة:
تحتاج الحكومة إلى التمويل كسائر المؤسسات الأخرى إلا أن نشاط الحكومة يختلف عن تلك المؤسسات من حيث:
أ- إن نشاطها لا يولد الربح إذ جل نشاط الحكومة، وبخاصة في الدول التي تسير على منهاج الاقتصاد الحر، هو تقديم الخدمات الأساسية كالأمن والدفاع والرعاية الصحية والتعليم وما شابه ذلك. ومن ثم هذه النشاطات غير قابلة لصيغ التمويل المعتمدة على الربح؛ كالمشاركة والمضاربة وإصدار الأسهم. .. إلخ. ولا سبيل لتمويلها إلا بالاقتطاع الضريبي من الدخول أو بواسطة الاقتراض.
ب – إن جزءًا مهمًّا من نفقات الحكومة يوجه نحو مشاريع ممتدة عبر الأجيال، فالمطار الدولي والطرق السريعة للسيارات وخطوط السكة الحديد وإنشاء الجامعات
…
إلخ؛ كل ذلك مشاريع تحتاج إلى رأسمال ضخم عند الإنشاء ولكن منافعها تمتد عبر الأجيال لعشرات السنين. ولذلك فإن من العدل أن لا تحمل برمتها (من خلال الضرائب) على جيل واحد من سكان البلد، إن متطلبات العدالة في التوزيع عبر الأجيال تقتضي نثر هذه التكاليف على كل أولئك الذين سينتفعون بهذه البنية الأساسية للاقتصاد اليوم وغدًا، ولذلك صارت الحكومة تقترض اليوم لتسدد من إيرادات الضرائب التي سوف تفرض على الناس في المستقبل فتجعلهم بذلك يتحملون جزءًا من هذه التكاليف.
جـ – إن المواءمة بين إيرادات الحكومة (وهي تأتي في الغالب من الرسوم والضرائب المرتبطة بدورات الإنتاج والظروف البيئية والمناخية وأحوال الاقتصاد العالمي. ..إلخ) . ونفقات الحكومة (والتي ترتبط بدورة مختلفة لأن جلها يكون على صفة صرف الرواتب الشهرية والمخصصات المختلفة وما قد يقع من نفقات طارئة. ..إلخ) . تضطر الحكومة في بعض الأحيان إلى الاقتراض للمواءمة بين النفقات والإيرادات التي لا تتطابق من الناحية الزمنية. مع أن جملة نفقات الحكومة مساوٍ لإيرادتها في نهاية العام. لقد ترتب على هذه الظروف نزوع الحكومات إلى الاقتراض، ولذلك نجدها في يوم الناس هذا مثقلة بالديون في كل بلاد العالم.
1 -
5 الباعث على بيع الدين في المعاملات المعاصرة.
هناك أسباب متعددة كان لها دور في انتشار عمليات بيع الدين ونمو أسواقه نلخصها فيما يلي:
1-
5-1 التخصص وتقسيم العمل:
قام النشاط الاقتصادي في يوم الناس هذا على فصل وظيفة التمويل عن وظيفة التجارة. إن النشاط المالي الذي يقوم على التخصص في التمويل له خصائص متميزة ويحتاج إلى مهارات مختلفة عن النشاط التجاري الذي يتخصص في شراء الأصول والسلع ثم تسويقها لتحقيق الربح. وجلي أن مسألة التخصص وتقسيم العمل لا تقتصر على ما ذكر، بل إن التجار يختلف بعضهم عن الآخر بحسب تخصصه؛ فتاجر السيارات ومعدات النقل عنده خبرات ومهارات لا تتوافر على تاجر المواد الغذائية أو الأثاث المنزلي وكل تاجر بارع في تخصصه وعارف بأسرار مهنته وخفايا السوق التي يشتغل فيها.
ويرى المؤرخون الاقتصاديون أن التخصص وتقسيم العمل هو أساس الحضارة المعاصرة إذ مكن من زيادة الكفاءة الإنتاجية بسبب إتقان العمل وتزايد القدرة على الإبداع فيه. ولذلك فإن الاتجاه هو المزيد والمزيد من التخصص وتقسيم العمل هو سمة من سمات الحياة المعاصرة. فإذا تخصص تاجر في الملابس فقط، جاء آخر فتخصص في الملابس النسائية فحسب، ثم يأتي آخر فيتخصص في الملابس النسائية القطنية، ثم ثالث في الملابس النسائية القطنية الداخلية
…
وهلم جرًّا. وفي كلِّ مرة يظهر مستوى جديد للتخصص يرغم صاحبه من سبقه على التخصص الدقيق.
بعد هذه المقدمة نقول إن الائتمان، والديون، والتحصيل وما شابه هي نشاطات متخصصة تعد من عمل المؤسسات المالية وبخاصة البنوك، ولذلك يجد التجار أن الانخراط فيها إضافة إلى عملهم في التجارة يضيع عليهم فرصة التخصص فيها، ومن ثم زيادة كفاءة العمل وتعظيم الأرباح والبيع بالآجل هو قوام التجارة في زماننا هذا. ولا يلزم أن تكون الآجال طويلة، ولكن الواقع أن لا أحد يبيع بالنقد، بل يؤجل الدفع أيامًا أو أسابيع أو أشهرًا أو نحو ذلك.
ثم إذا حل الأجل احتاج الأمر إلى تحصيل، وقبل ذلك فإن البيع إلى جهة يحتاج إلى دراسة حالتها المالية والتأكد من جودتها الائتمانية، وكل ذلك من صميم عمل البنوك. ولذلك قام عمل الناس في الدول الغربية على قيام المؤسسات التجارية بإنشاء الديون ثم بيعها قبل الأجل إلى المؤسسات المالية التي تخصص في المداينات.1
- القوانين المصرفية:
تلزم القوانين المصرفية البنك بضرورة ربط حجم الديون التي تحملها دفاترها لرأس مال البنك، بحيث لا تزيد الديون عن أضعاف محددة لرأس المال ليس هذا فحسب، بل إن القوانين اليوم في أكثر الدول تحدد نسبًا لأنواع الديون المختلفة بحسب المخاطرة المتضمنة فيها، وتجعل البنوك ملتزمة بنسب مرتبطة برأس المال لكل صنف من الديون (1) . لكن إدارة البنك لا تستطيع على الدوام المحافظة على المزيج المطلوب وبخاصة أن التصنيف الائتماني للمدينين قد يتغير بعد ثبوت الدين في ذممهم (2) . تضطر البنوك في مثل هذه الحالات إلى بيع بعض الديون التي لا تتوافق مع المتطلبات القانونية. ولا يلزم أن تبيع الديون الرديئة فقط فقد تجد نفسها أحيانًا تحمل في دفاترها من الديون الممتازة أكثر مما تحتاج، فتبيع بعض ذلك لأن العائد المالي الذي يتحقق من الديون الممتازة أقل مقارنة بتلك التي تقل عنها جودة.
(1) وأفضل أنواع الديون عندهم: ديون الحكومة، لأن الحكومات لا تفلس، ثم الديون الموثقة برهون تزيد من قيمته، وهي على مدينين في الصف الممتاز ثم الأقل. .. وهكذا.
(2)
كما حصل عندما تغير التصنيف الائتماني لجميع المدينين في جنوب شرقي آسيا، وكلهم مدين لبنوك من أنحاء كثيرة من العالم.
1-
5-5 التوسع في النشاط التجاري:
والرغبة في التوسع في النشاط التجاري هي باعث على بيوع الدين.
ذلك أن التجار لما كان جل بيعهم يكون بالنسيئة وجدوا أن رأس مالهم يضحى جامدًا لا يستطيعون التوسع في نشاطهم ما دام في أيدي الناس ديون لم تستحق بعد. فكان السبيل إلى ذلك هوالاقتراض من البنوك لكن ذلك يكون مكلفًا لا سيما مع ما يحتاج إليه من رهون وضمانات، فاتجه التجار إلي بيع الديون المستحقة له في ذمم العملاء إلي البنوك أو المؤسسات المالية أو إلي الجمهور في سوق الديون. فيتمكن التاجر عندئذ من استرداد رأسماله لشراء بضائع جديدة يبيعها إلي عملائه وهكذا. ولذلك كانت الرغبة في التوسع في النشاط التجاري أحد أهم البواعث على بيع الدين.
1-
6 بيع الدين:
1-
6-1 صفة بيع الدين في المعاملات المعاصرة:
تتم عملية تداول الديون بطرق مختلفة. فقد يبيع الدائن الأصلي (أي البنك مثلاً) الدين برمته إلي مالك جديد يقوم، بعد شرائه هذه الديون، بقبض أقساط التسديد والفوائد المترتبة على القرض وعلى التأخير. .. وتقتصر مهمة الدائن الأصلي علي خدمة العلاقة بينهما (أي المالك الجديد) للدين والمدين الأصلي) ، وتسمى هذه الطريقة (pass-Thruoghs) وهي أكثر صوره شيوعًا. ومن أشهر أنواعها حسم الكمبيالات.
وقد تبقى ملكية الدين للدائن الأصلي، وتبقى العلاقة مستمرة بينه وبين المدين، ولكنه – أي الدائن الأصلي – يقوم ببيع تيار الفوائد. المتوقع من ذلك القرض فقط. فيكون الدين مستحقًا للمصدر الأصلي ويتحمل هو المخاطرة المتضمنة فيه، ولكنه يستعجل قبض الفوائد بأخذها من طرف ثالث قبل أجل الدين (بمبالغ أقل من قيمتها الاسمية) ويسمى (pay-Throughs) ، أي أن المصدر يقبض مقدمًا يقبض مقدمًا الفوائد المتوقع دفعها فقط) .
أما الطريقة الثالثة فهي إصدار سندات مضمونة بتلك الديون، ثم بيعها في الأسواق المالية فتكون الديون الأصلية ضمانًا لتلك السندات فقط، من أهم أنواعها (MortgageeBacked) .
وفي كل الحالات تقوم عملية تداول الديون في الأسواق على التنميط، إذ يقوم الدائن الأصلي بترزيم تلك القروض في مجموعات متشابهة في مقدار المخاطرة المتضمنة فيها (أي أن تكون ملاءمة المدينين فيها متشابهة) ، وتواريخ استحقاقها، ومعدلات الفوائد عليها، ونوع الفائدة هل هي ثابتة أم متغيرة، ثم يصدرها على شكل أدوات قابلة للتداول، وبذلك يستطيع أن يحول الدين قليل السيولة إلى سيولة كاملة. وقد توسعت هذه العلميات حتى صار جل الديون قابلاً للتنضيض بهذه الطريقة بما في ذلك الديون على الدول (دول العالم الثالث) للبنوك الدولية. ولا يلزم أن يكون لها وثائق مثل الأسهم والسندات، بل كثيرًا ما تبقى على صفة قيود محاسبية في دفاتر المؤسسات المعنية وتتداول بينهم بواسطة الكمبيوتر.
1-
6-2- السوق الأولية والسوق الثانوية:
يقصد بالسوق الأولية تلك التي تكون العلاقة فيها مباشرة بين الدائن الذي يبيع الدين وذلك الذي يشتريه. فإذا احتفظ الأخير بملكية الدين المباع حتى يحل أجله اقتصرت المعاملة على تلك السوق الأولية. إلا أن كثيرًا من الديون تجري عمليات إعادة بيعها على صفة تداول وثائقها في أسواق منظمة. ومن أشهر الديون ذات الأسواق الثانوية، السندات (سندات الحكومة وسندات دين الشركات) إذ يجري تداولها بالبيع مرات قبل حلول أجلها. أما السوق الثانوية فإن سائر الديون قابلة للتداول فيها؛ فالكمبيالات على سبيل المثال تحسم في السوق الأولية، ولكن يمكن أن يكون لها أسواق ثانوية تتداول فيها قبل حلول أجلها. وعمليات البيع التي تقع على الديون في السوق الأولية لا تختلف عنها في السوق الثانوية من حيث طبيعة المعاملة ولا يتصور أن تختلف أحكامها لذلك. على أن تداول الديون هو مرحلة متقدمة في عمليات بيع الدين، أما مجرد البيع فهو قديم وينتشر في كل دول العالم.
1-
6-3 أهم صور بيع الدين في المعاملات المعاصرة:
أ- بيع الأوراق التجارية (1) :
الورقة التجارية وثيقة يعد مصدرها بدفع مبلغ من النقود إلى شخص آخر أو إلى حاملها في تاريخ محدد أو على الحلول بفائدة أو بغير فائدة، ويعرفها أهل القانون بأنها " صك قابل للانتقال بالطرق التجارية يقوم مقام النقود في التعامل ويرد على مبلغ معين يستحق الدفع عادة بعد أجل قصير"(2) ، وأهم أنواعها وثائق الدين المتولد عن بيوع التقسيط وما شابهها من أنواع الديون. والورقة التجارية يصدرها المدين لتوثيق مديونيته. وتحدد القوانين المنظمة لتداول الأوراق التجارية شكل هذه الورقة والمعلومات الأساسية التي يجب أن تدون فيها، مثل مبلغ الدين وتاريخ الاستحقاق وتوقيع المدين. . . إلخ وتعد هذه الشكليات مهمة لتوفر الحماية القانونية للورقة التجارية. ويشمل معنى الأوراق التجارية الشيك والحوالة المصرفية والكمبيالة والسند لحامله.
ومن أهم طرق بيع الأوراق التجارية ما يسمى بالحسم وبخاصة حسم الكمبيالات، والكمبيالة هي (السند لأمر) الذي يوقع عليه المدين عندما يشتري سلعة بالتقسيط من البائع ثم يقوم ذلك التاجر – رغبة منه في استعجال مبلغ الدين – في تقديم هذه الكمبيالة إلى المصرف الذي يحسم جزءًا من مبلغها ويعجل له دفع ما بقي ثم ينتظر – أي المصرف – حتى يحين أجل السداد فيحصل على مبلغ الكمبيالة كاملاً، فيكون الفرق بين ما دفعه للتاجر وبين ما حصل عليه من المدين وهو رسوم الحسم. ويكون ذلك الرسم معتمدًا على طول المدة، وربما قام المصرف بإعادة الحسم في حالة احتياجه للسيولة قبل حلول الأجل ويكون ذلك لدى المصرف المركزي أو في سوق النقد. وحسم الكمبيالات غير جائز فهو من أنواع بيع الدين المحرمة.
(1) سيجري الحديث عند سندات الدين في الفصل الثاني من هذه الدراسة.
(2)
نقله زهير عباس كريم، النظام القانوني للشيك، عمان، مكتبة الثقافة، 1997م، ص 7.
وقد تبنت المجامع الفقهية القرارات التي تنص على عدم جواز حسم الكمبيالات. وللأوراق التجارية في دول الغرب أسواق منظمة تتداول فيها البيع. وهو نوع من أنواع المعاملات الربوية التي لا تجوز.
ب- الفوترة (Factoring) :
تعد عملية الفوترة نوعًا من بيع الدين في المعاملات المعاصرة. وهو كثير الانتشار في الدول الغربية وبخاصة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة. والفوترة ليست جديدة إذ تعود قوانينها في بريطانيا إلى القرن السابع عشر. وفيها تسند الشركة المنتجة التي تبيع بالأجل أمر فواتيرها إلى جهة مالية تسمى (Factor) تكون في الغالب مؤسسة متفرعة عن بنك. فتتولى الشركة المنتجة عمليات الإنتاج والتسويق والبيع، وكلما باعت أرسلت إلى مؤسسة الفوترة حساباتها لكي تصدر فاتورة البيع (وقد تصدرها بنفسها) . فتقوم هذه المؤسسة بإصدار الفواتير ومتابعة التحصيل ومسك الدفاتر الخاصة بمبيعات هذه الشركة، وتحصل مقابل ذلك على رسوم إدارية. ولكن وظيفتها لا تقتصر على ذلك، بل هي تقوم في كل مرة تصدر فيها فاتورة بدفع مبلغها (أو نسبة محددة منه متفق عليها) إلى الشركة المنتجة مباشرة، ثم تقوم بتحصيله من زبائنها الذين صدرت لهم الفواتير. وتدفع الشركة المنتجة الفوائد المصرفية على المبلغ الذي استلمته من قيمة الفاتورة للفترة التي تفصل بين استلامها لذلك المبلغ وتحصيل مؤسسة الفوترة للمبالغ من الزبائن على صفة حسم من الدين. ويعد المبلغ الذي تدفعه هذه المؤسسة للشركة المنتجة مثل ما يسمى في البنوك " الجاري المدين "(1) . ولذلك فإن الشركة المنتجة ضامنة لمبالغ الديون على عملائها فإذا فشلت مؤسسة الفوترة في التحصيل عادت على الشركة بتلك المبالغ.
وتستفيد من الفوترة شركات الإنتاج التي تتعاقد مع الباعة على توريد كميات من السلع خلال العام، ولذلك فهي تتفق معهم على دورة تسليم المبيعات ودورة دفع المستحقات. والغرض من عملية الفوترة في جانبها الائتماني هو تمويل رأس المال العامل. فالغرض هو حصول الشركة المنتجة على تمويل لرأسمالها العامل، إلا أن قيام مؤسسة الفوترة بإصدار فواتير البيع بنفسها يحقق قدرًا من الاطمئنان لها حيث يمكن من خلاله أن نتعرف مباشرة على حال الشركة من الناحية المالية ونوعية عملائها وقبضها للمبالغ المستحقة للشركة بنفسها لتسديد الديون. وظاهر في هذه الصورة بيع الدين فإن السلع عندما باعتها الشركة إلى عملائها ترتب في ذممهم لها ديون. قامت ببيعها إلى هذه الجهة المالية (Factor) بمبلغ أدنى من قيمتها الاسمية (والفرق هو الفائدة المشار إليها) .
ج – حسم الفواتير:
تشبه عملية حسم الفواتير ما أشرنا إليه أعلاه مما يسمى الفوترة إلا أنها أوسع انتشارًا منها، والاختلاف بينهما أن المؤسسة المالية لا تتدخل في هذه العملية في نشاط الشركة المنتجة، بل يقتصر الأمر على تقديم الأخيرة فواتير هي أصدرتها إلى عملائها فتقوم المؤسسة المالية بحسم جزء من مبلغها ودفع الباقي بطريقة لا تختلف عن حسم الكمبيالات. وتكون الشركة المنتجة مسؤولة عن التحصيل وهي ضامن للدين على كل حال. وتستفيد الشركة المنتجة من هذه العملية بالحصول على تمويل لرأسمالها العالم واستقرار في التدفقات النقدية. ولكنها تتضمن مخاطرة أعلى على المؤسسة المالية لأنها (أي الأخيرة) لا تشرف على كل عمل الشركة وربما لا يقدم إليها إلا جزء من الفواتير الصادرة كما لا تقوم بنفسها بالتحصيل والمتابعة. وفي كل الأحوال فإن الفواتير المذكورة لا تخص بالبيع الآجل. إلا أن أيّامًا أو أسابيع تفصل دائمًا بين إصدار الفاتورة وتحصيلها في العلاقة بين الشركات المنتجة وعملائها الموزعين والتجار.
(1) الجاري المدين: هو إجراء يعطي البنك بموجبه العميل صلاحية السحب على المكشوف من حسابه، وتفرض عليه عندئذ الفائدة.
د – المقابلة:
إذا وقع البيع بالأجل تكون الدين الذي يثبت في ذمة المشتري من تكلفة شراء البائع مضافًا إليها ربحه. إلا أن الدين مبلغ واحد يمثل ثمن البيع بالأجل؛ فلا ينفصل المكون الأول عن الثاني، سواء كان دينًا منجمًا على أقساط أو يسدد دفعة واحدة. وإذا فرق فيه بين الأجل والزيادة في الدفاتر المحاسبية لم يترتب على هذا الفصل حكم فيما يتعلق بذلك الدين إذ يبقى في ذمة المدين مبلغًا واحدًا. هذا في بيوع المسلمين.
أما في المعاملات التقليدية فإن القوم يتعاملون مع المكون الأول كجزء منفصل عن الثاني، سواء كان ذلك في السجلات والدفاتر، أو في المعاملات الأخرى التي تجري في الديون ومنها البيع. وتجري في أسواق النقود في الدول الغربية – ثم امتد الأمر إلى غيرها – بيوع تقتصر على الزيادة على الدين دون أصله. فمثلاً إحدى المؤسسات المالية أقرضت شركة قرضًا قدره مليون دولار لخمس سنوات بفائدة سنوية ثابتة قدرها (5 %) ، يمكن لها عندئذ أن (تبادل) الزيادة في دينها مع الزيادة في دين مماثل (مليون دولار لمدة خمس سنوات) ، التي تكون زيادة متغيرة غير ثابتة (1) . ويبقى أصل الدين للدائن في الدينين بينما أنهما يتبادلان الزيادة فيأخذ هذا الثابتة (ودينه في الأصل ذا فائدة متغيرة) ويأخذ الثاني المتغيرة (ودينه في الأصل ذا فائدة ثابتة) .
والباعث على مثل هذه المعاملة التي تسمى (SWAP) هو الاعتبارات القانونية، إذ تمنع بعض الدول البنوك من الاحتفاظ في دفاترها بديون ذات فوائد ثابتة لمدة تزيد عن سنة مما يضطر تلك المؤسسات أحيانًا إلى عملية المقابلة المذكورة، واعتبارات اقتصادية، ذلك أن شركات التأمين يتلاءم العائد الثابت مع حساباتها الاكتوارية أكثر من العائد المتغير، ولذلك فقد اشتهرت بشرائها لهذا النوع من الديون، واعتبارات تسويقية، ذلك أن عقود التأجير للمعدات على سبيل المثال لا يمكن تسويقها إلا بعائد ثابت في كثير من الأسواق. لذلك تقوم المؤسسة المالية بإنشاء الديون بطريقة الموافقة الطلبات السوق، ثم تفصله عن زيادته فتحتفظ بجزء وتبيع الآخر، وربما وقع البيع عليها لجهتين مختلفتين.
هـ التصكيك:
اكتسبت وثائق تداول الديون أهمية في أسواق المال في السنوات الأخيرة. وتقوم هذه العملية التي تسمى التصكيك (Securitization) على توليد أوراق مالية قابلة للتداول مبنية على حافظة استثمارية ذات سيولة. متدنية تتضمن تلك الديون. لقد بدأت فكرة تداول الدون عندما قامت مؤسسة تمويل بناء المساكن في الولايات المتحدة Governent National Mortgage Association والمشهورة باسم (Ginne Mea) والتي تتولى عملية تمويل بناء المنازل، قامت سنة 1986م، بالتمويل ليس عن طريق الإقراض المباشر، ولكن عن طريق توفير السيولة المؤسسات الإقراض الخاصة لكي تقوم عندئذ بتقديم القروض للمواطنين. ثم تقوم المؤسسة المذكورة بشراء تلك القروض منهم، ثم تمكينها من التوسع في الإقراض لحصولها على النقود. لقد ولد ذلك سوقًا ثانوية لقروض بناء المساكن سرعان ما توسعت ودخلت فيها مؤسسات أخرى غير المؤسسة المذكورة (Ginne Mea) ، مما أدى إلى تطورها بحيث لم تعد تقتصر على قروض بناء المساكن، ولكن شملت كل أنواع الديون، كتلك الناتجة عن تمويل شراء السلع الاستهلاكية والسيارات وقروض بطاقات الائتمان والقروض الخاصة بإنشاء الأصول الرأسمالية. .. إلخ، وقد أمكن بهذه الطريقة تحويل الديون طويلة الأجل وقليلة السيولة إلى أصول سائلة.
(1) الفائدة الثابتة هي التي تحدد كنسبة مئوية من الدين (5 % مثلاً تدفع سنويًّا ولا تتغير، أما المتغيرة فلا تكون معروفة عند التعاقد بل أنها تحدد وقت الوفاء بحسب سعر الفائدة السائد في السوق عندئذ والذي يتحدد إشارة إلى مؤشر متفق عليه مثل لبيور وهو سعر الإقراض بين البنوك في لندن.
وبيع التدفقات النقدية:
ينتشر في بعض البلدان عمليات مالية مستجدة تتضمن ما يسمى بيع التدفقات النقدية. فمثلاً تحصل إدارة المرور في مدينة نيويورك في كل عام ملايين الدولارات على صفة مخالفات مرورية وتمثل هذه الإيرادات تدفقًا نقديًّا على خزينة تلك الإدارة، ولكنها ربما احتاجت إلى الأموال اليوم، ولكنها بدلاً عن أن تقترض من البنوك أو الجمهور؛ فإنها تقوم ببيع تلك الإيرادات التي ستحصل عليها في سنوات قادمة. فهي تتوقع مثلاً أن تحصل رسوم مخالفات مرورية تبلغ (40) مليون دولار خلال السنة التالية، فتقوم اليوم ببيع ذلك إلى جهة مالية بمبلغ يقل عن (40) مليون دولار تدفع لها اليوم، ثم توجه حصيلة المخالفات خلال السنة المتفق عليها لمصلحة تلك الجهة المالية. وكذلك تفعل بعض دور السينما في الولايات المتحدة، فهي بدلاً من أن تقترض لتمويل إنتاج الأفلام تقوم ببيع تذاكر مشاهدة الأفلام للسنوات القادمة إلى جهة مالية، ثم تقوم الأخيرة بتحصيل المبلغ من خلال الإيرادات المحصلة من بيع تلك التذاكر في المستقبل. ولهذا البيع صيغ بعضها يكون البائع ضامنًا للمبلغ، فإذا قل الإيراد عن المبلغ المتفق عليه كان الفرق دينًا على البائع، وفي بعضها لا يكون ضامنًا وعندها تتضمن عنصر مقامرة إذ لا يدري هل سيكون الإيراد كثيرًا أو قليلاً. إن المبالغ التي يجري بيعها في هذه المعاملة ليست ديونًا في ذمم الآخرين، وإنما هي إيرادات متوقعة. ولكننا أدرجناها ضمن صيغ بيع الدين للأسباب التالية:
أ- لأنها من القبالات التي تعد من الربا.
ب – لأنها محسوبة على أساس سعر الفائدة المرتبط بالزمن ولذلك فهي حسم من نوع ما، ليس للأوراق التجارية ولكن الإيرادات.
1-
6-4 الأضرار الاقتصادية المترتبة على انتشار بيع الدين بصيغته الممنوعة:
الوضع الاقتصادي السليم الذي يحقق النمو والرفاهية في الاقتصاد الوطني هو الوضع الذي يصفه الاقتصاديون بأنه يتسم بالاستقرار. ويقصد بالاستقرار سلامة النظام الاقتصادي من الصدمات التي تؤدي إلى تشويش القرارات الاقتصادية إلى الحد الذي يعرقل عملية النمو الاقتصادي ويؤثر على مستوى رفاهية الإفراد. والوضع الذي تنشر فيه عمليات بيع الدين، وبخاصة إذا أنشئت لذلك أسواق تتداول فيها وثائق الدين، هو وضع غير مستقر على مستوى الاقتصاد الوطني. إذ أن شعور الدائنين بالقلق تجاه المستقبل يدفعهم لبيع وثائق الدين للحصول على النقد خوفًا من عجز المدين على الدفع لكن ذلك يولد شعورًا عامًا بعدم الثقة ومن ثم تزايد عمليات البيع. فإذا تدهورت أسعار وثائق الدين ترتب على ذلك نتائج سلبية فيما يتعلق بقدرة المؤسسات على اجتذاب الأموال وعلى استقرار العملة المحلية للقطر.
والأمثلة المعاصرة كثيرة؛ فإن ما وقع في المكسيك في سنة 1991م وترتب عليه انهيار اقتصادها إنما سببه ارتفاع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة، إذ حدا ذلك بدائني المكسيك إلى بيع ديونهم لنقل أموالهم للبلد الذي ارتفعت فيه أسعار الفائدة. وكذلك الحال في جنوب شرقي آسيا فإن جزءًا مهمًّا من أسباب المصاعب الاقتصادية فيها كان تراكم الديون.
يجب ملاحظة أن بيع الدين النقدي بالعرض لا بالنقود لا يتولد عنه مثل ذلك الأثر لأسباب:
منها؛ أن المعاملات التي تحري فيها تبقى جزءًا من سوق السلع الحقيقية، أما في الطريقة التقليدية فإن المعاملات يتولد لها سوق مستقلة عن أسواق السلع ومنفصلة عنها. إن المشكلة الأساسية في نظام الربا أن يقسم الاقتصاد إلى قطاعين منفصلين؛ الأول خاص بإنتاج السلع والخدمات الحقيقية وهو القطاع الذي تتولد فيه الأرباح والنمو الحقيقي في الاقتصاد الوطني، والثاني هو قطاع الديون حيث يتحقق التزايد لمجرد تفاعل قوى العرض والطلب على الديون التي تمتص نتائج القطاع الحقيقي.
1 -
7 بعض صور بيع الدين التي تحدث عنها الفقهاء قديمًا:
1-
7-1 بيع الكالئ بالكالئ:
الكالئ بالكالئ يعني لغةً النسيئة بالنسيئة (1) . والنسيئة هي التأخير. وبيع الكالئ بالكالئ يعني بيع الدين بالدين. وقد ورد في الحديث فيما رواه الدارقطني والبيهقي وابن أبي شيبه وعبد الرزاق ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ)) . وقد اختلف العلماء في مسألتين:
الأولى: سند الحديث، فوهنه أكثرهم ولم يحتجوا به لضعف سنده، قال الإمام أحمد:" ليس في هذا حديث يصح "(2) .
والثانية: اختلافهم في معناه وصوره التي وقع عليها النهي، كما سيأتي تفصيله.
أما ضعف إسناده فأغنى عنه الإجماع على معناه وتلقي الأمة له بالقبول واحتجاج العلماء به على مر العصور، وبخاصة في معانيه التي يوافقها القياس بتحريم بيع الدين بالدين. ولبيع الكالئ بالكالئ معان وردت في كتب الفقهاء أهمها:
أ- ابتداء الدين بالدين قالوا: وصورته " كما لو أسلم شيئًا في شيء الذمة "، مثل أن يشتري زيد من عمرو سلمًا ولا ينقده بل يؤخر له الثمن. فكلاهما مؤخر (3) . وإجماع العلماء على عدم جواز هذه الصورة وهي مؤجل بمؤجل. وقد ذكر ابن تيمية وتلميذه ابن القيم أن إجماع المحكي عن تحريم الكالئ بالكالئ إنما يقتصر على هذا الصورة (4) . وعلة منع هذه الصيغة من البيوع في نظرهم لأن فيها شغل ذمتين بلا فائدة لأي منهما. قال ابن القيم رحمه الله تعالى:" فإن المنهي عنه قد اشتغلت فيه الذمتان بغير فائدة، فإنه لم يتعجل أحدهما ما يأخذه فينتفع بتعجيله وينتفع صاحب المؤخر بربحه، بل كلاهما اشتغلت ذمته بغير فائدة "(5) . وابتداءً الدين بالدين يختلف عن البيع المضاف في أن الأخير (أي البيع المضاف) واقع على عين موجودة. كما يختلف عن بيع الموصوفات الغائبة لأن ذلك يقع أيضًا على أعيان وأثمان موجودة وإن كانت غائبة عن مجلس العقد. أما ابتداءً الدين بالدين فهو بيع موصوف في الذمة بموصوف في الذمة، أي أنه يكون على شرط السلم مع تأجيل دفع رأس المال.
ب – فسخ الدين بالدين: وصورته، بيع دين ثابت في الذمة إلى المدين بغير جنسه إلى أجل: مثل أن يكون زيد مدينًا لعمرو بمائة دينار ثم يدخلان قبل حلول الأجل في عقد سلم يبيع زيد فيه كر قمح إلى عمرو، بأجل جديد. أما إن كان بعد حلول الأجل فلا بأس (6) ، وقد حكي أن الإجماع على عدم جواز هذه الصورة من بيع الدين بالدين لأنها تؤول إلى ربا النسيئة، فالزيادة الطارئة على الدين المؤجل أخفيت في عقد سلم جديد.
ج- بيع الدين بالدين: وهي بيع الدين من غير من هو عليه بثمن موصوف في الذمة مؤجل ولا يدخل في هذه الصورة الحوالة أوجمهور فقهاء المذاهب على عدم جواز هذه الصورة، وقد عدها المالكية من صور الكالئ بالكالئ (7) . قال مالك في الموطأ:"والكالئ بالكالئ أن يبيع الرجل دينًا له على رجل بدين على رجل آخر"(8) . وجاء في مسائل الإمام أحمد " سألت أبا عبد الله عن الكالئ بالكالئ قال: الدين بالدين، قيل له: كيف يكون الدين بالدين؟ قال: مثل الرجل يكون له على الرجل دين ويكون على الآخر دين فيحيل هذا على هذا وهذا على هذا ". (9) وجلي من كل ذلك أن صور بيع الكالئ بالكالئ التي تحدث عنها الفقهاء قديمًا لا يدخل فيها الصورة المشتهرة في يوم الناس هذا وهي بيع الدين بالنقد (أي بالعين) ، وهذه الصورة وإن كانت غير جائزة فإنها لا تدخل في ما يسمى بيع الكالئ بالكالئ، بل هي مختلفة عنه.
(1) لسان العرب، لابن منظور.
(2)
نيل الأوطار، للشوكاني: 5/154.
(3)
مجموع الفتاوى، لابن تيمية: 20/512.
(4)
نزيه حماد، بيع الكالئ بالكالئ، ص 14.
(5)
إعلام الموقعين، لابن القيم: 2/9.
(6)
نزيه حماد، بيع الكالئ بالكالئ، ص 26.
(7)
المنتقى شرح الموطأ، للباجي: 5/33.
(8)
الموطأ مع حاشية الزرقاني: 3/308.
(9)
مسائل الإمام أحمد بن حنبل، لإسحاق بن هاني، تحقيق زهير الشاويش – المكتب الإسلامي 20/191.
1-
7-2 - بيع الصكوك:
جاء في مسند أحمد عن سليمان بن يسار أن صكاك التجار خرجت في زمن مروان بن الحكم فاستأذن التجار مروان في بيعها، فإذا لهم، فدخل أبو هريرة – رضي الله عنه – عليه، فقال له:" أذنت في بيع الربا وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشترى الطعام ثم يباع حتى يستوفى ". قال سليمان: فرأيت مروان بعث الحرس فجعلوا ينتزعون الصكاك من أيدي من لا يتحرج منهم، وجاء في الموطأ: أن مالكا بلغه أن صكوكا خرجت للناس في زمان مروان بن الحكم من طعام الجار، فتبايع الناس تلك الصكوك بينهم قبل أن يستوفوها، فدخل زيد بن ثابت ورجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على مروان بن الحكم، فقالا: أتحل بيع الربا يا مروان، قال: أعوذ بالله، وما ذاك؟ فقالا: هذه الصكوك تبايعها الناس ثم باعوها قبل أن يستوفوها؛ فبعث مروان الحرس ينزعونها من أيدي الناس ويردونها إلى أهلها ".
والصكوك: جمع صك وهي التواقيع السلطانية بالأرزاق؛ أي هو الورقة المكتوبة بدين والمراد هنا الورقة التي تخرج من ذوي الأمر برزق من الطعام لمستحقيه، كأن يكتب فيها لفلان كذا من الطعام. فالنهي عن بيع الصكاك الذي ورد في الآثار المذكورة أعلاه إنما هو واقع على البيع الثاني لأن الذي خرج له الصك مالك ملكًا مستقرًا، وليس هو بمشتر بل موهوب فلا يمتنع عليه البيع قبل القبض، لأن النهي إنما جاء في منع بيع الطعام قبل القبض إذا كان ملكه بالشراء. كما لا يمتنع بيع ما ورثه قبل قبضه، وقول أبي هريرة في الحديث محمول على ذلك، لأن الأول وصل إليه الرزق على جهة العطاء لا المعوضة، ودليل ذلك ما ذكره مالك في الموطأ، إذ قال:" إن مروان بعث الحرس لينزعوا الصكوك من أيدي الناس، ثم قال ويردونها إلى من ابتاعها "(1) .
ونقل صاحب إعلاء السنن عن النووي قوله: " والأصح عندنا جواز بيعها وهو قول مالك "(2) . ولفظ صاحب الموطأ يفيد بجواز بيع الصك والذي أنكروه إنما هو بيع مشتري الصك ما فيه قبل أن يستوفيه وهو طعام ولا خلاف في أن الطعام لا يجوز بيعه قبل القبض.
والصكوك التي تحدث عنها الفقهاء إنما هي صكوك أعطيات الخلفاء إلي الناس، فهي مختلفة عن بيع الدين بصوره المعاصرة من عدة وجوه، منها أن دينها طعام وليس نقودًا، ثم ثانيا أنها مأمونة لأن بيت المال مليء، وهو مظنة الوفاء فلا يكون فيها غرر عدم القدرة على التسليم، ثم ثالثًا أنها على سبيل الهبة لا المعاوضة، ومن هذا الباب قال جمهور الفقهاء: بجواز بيع صاحبها الأول لها.
أما بيعها من قبل المشتري لتلك الصكوك إلى مشتر آخر فلا تجوز إلا بعد القبض، لأنه يكون من بيع الطعام يستوفى. وقال المرداوي في الإنصاف:" لا يجوز بيع العطاء قبل قبضة، لأنه غرر ومجهول ولا بيع رقعة به وعنه يبيعها بعوض مقبوض "(3) .
(1) القرطبي، المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم: 4 / 380.
(2)
إعلاء السنن: 14 / 142.
(3)
الإنصاف للمرداوي: 4 / 291.
1-
7-3 - بيع دين السلم قبل القبض:
جمهور الفقهاء على أن دين السلم لا يجوز بيعه قبل قبضه. وصفة هذا البيع أن يكون لرجل على رجل دين من سلم هو مائة أردب من القمح مثلاً يحل أجل قبضها في شهر محرم. فيقوم هذا الرجل ببيع هذا القمح إلى رجل ثالث بثمن معجل قبل حلول الأجل ويقبض ثمن البيع نقدًا، ثم ينتظر هذا الثالث حتى يحل الأجل فيقبضه من البائع الأول.
هذه هي الصورة التي قال جمهور الفقهاء: إنها لا تجوز. إلا أن المالكية انفردوا بإجازة صور قريبة منها. فلو كان الطعام غير مكيل، قال بعض المالكية بجواز بيع دين السلم عندئذ، قال ابن عبد البر في الكافي:" كل ما اشتريت من العروض كلها: الحيوان والعقار والثياب ما خلال المبيع من الطعام على الكيل فلا بأس عند مالك أن يبيع ذلك كله قبل أن يقبضه"(1) .
وقال في التمهيد: " وما عدا المأكول والمشروب من الثياب والعروض والعقار وكل ما يكال ويوزن أنه لا بأس لمن ابتاعه أن يبيعه قبل قبضه واستيفائه"(2) .
أما إذا كان المبيع غير طعام، فتحصيل مذهب مالك على جواز البيع قبل القبض في السلم. قال القاضي عبد الوهاب في التلقين:"الأعيان المبيعة ضربان: طعام وغير طعام، والشراب من سائر المبيعات من العروض والعبيد والحيوان والعقار وما ينقل ويحول أو لا ينقل ولا يحول فبيعه جائز قبل قبضه في الجملة"(3) .
وقال التسولي: " يجوز بيع العروض قبل قبضها كان المعجل فيها عرضًا أيضًا أو دراهم أو حيوانًا أو طعامًا من بيع أو سلم بخلاف الطعام؛ فإنه لا يجوز بيعه قبل قبضه مطلقًا كان من معاوضة أو لا، لأنه قرض فيجوز نقدًا فقط، وظاهره أنه يجوز بيع العرض قبل قبضه لمن هو عليه ولغيره نقدًا وإلى أجل قبل حلوله وبعده "، وجاء في حاشية المواق على كتاب مواهب الجليل شرح مختصر خليل للحطاب:" قال مالك: كل ما ابتعته أو أسلمت فيه عدا الطعام والشراب من سائر العروض على عدد أو كيل أو وزن؛ فجائز بيع ذلك كله قبل قبضه وقبل أجله من غير بائعك بمثل رأس المال أو أقل أو أكثر نقدًا أو بما شئت من الأثمان إلا أن تبيعه بمثل صنفه فلا خير فيه يريد أقل أو أكثر. . . "(4) .
وذكر ابن تيمية في الفتاوى: "وأما ما ذكره الشيخ أبو محمد في مغنيه لما ذكر قول الخرقي: بيع المسلم فيه من بائعه أو غيره قبل قبضه فاسد، قال أبو محمد: بيع المسلم فيه قبل قبضه لا نعلم في تحريمه خلافًا، فقال رحمه الله بحسب ما علمه وإلا مذهب مالك أنه يجوز بيعه من غير المستسلف كما يجوز عنده بيع سائر الديون من غير من هو عليه، وهذه أيضًا إحدى الروايتين عن أحمد "(5) .
وقال المرداوي في الإنصاف: "قوله: " ولا يجوز بيع المسلم فيه قبل قبضه " هذا المذهب وعليه الأصحاب وقطع به أكثرهم، وفي المبتهج وغيره رواية بأن بيعه يصح واختاره الشيخ تقي الدين، رحمه الله، وقال: هو قول ابن عباس، رضي الله عنهما، لكن يكون بقدر القيمة فقط لئلا يربح فيما لم يضمنه قال: وكذا ذكره الإمام أحمد في بدل القروض وغيره"(6) .
(1) الكافي لابن عبد البر، ص 319.
(2)
التمهيد لابن عبد البر: 13 / 327.
(3)
التلقين للقاضي عبد الوهاب: 2 / 370 – 371.
(4)
حاشية المواق على كتاب مواهب الجليل شرح مختصر خليل للحطاب.
(5)
الفتاوى لابن تيمية: 29 / 506.
(6)
الإنصاف للمرداوي: 5 / 95.
1-
7-4 بيع الجامكية:
الجامكية مبلغ معلوم تقرره الدولة للرجل عطاء من بيت المال له أجل معين. ولكن ربما احتاج إلى دراهم معجلة قبل أن تخرج الجامكية فيقول له رجل: بعني جامكيتك التي قدرها كذا بكذا؛ أنقص من حقه في الجامكية، فيقول له: بعتك. فالجامكية مبلغ تلزم الدولة به نفسها، فأضحى كالدين في الذمة.
قال ابن عابدين في الدر المختار ببطلان بيع الجامكية (1) ، وعدها صاحب إعلاء السنن من بيع الدين الذي لا يجوز (2)، ونقل إبراهيم فاضل الدبو عن حاشية الشبراملسي الشافعي على الرملي في مسألة جواز النزول عن الوظائف بمال وهي مشهورة عن الشافعية فقال:" وفرع على ذلك جواز النزول عن الجوامك بمال أيضًا "(3) . والذي يظهر أن الجامكية تكون نقودًا بينما أن الصكوك تكون طعامًا.
1-
7-5 بيع دين المكاتبة:
المكاتب هو العبد الذي تواضع معه سيده على بدل يدفعه العبد نجومًا في مدة معلومة فيعتق إذا أتم دفع ما عليه. ويكون ذلك البدل دينًا في ذمة العبد ويسمى دين المكاتبة. وقد حث الإسلام على المكاتبة. لأنها باب من أبواب إعتاق الرقيق فقال تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] . فلو كاتب الرجل عبده بألف، فهل يجوز له أن يقول لآخر: أعطني المبلغ الفلاني واستقبل ما يدفعه لك العبد؟ جلي أن المشتري لا يدري هل يفي المكاتب بما عليه فيحصل على الدراهم أو لا يحصل عليها فينتهي به ذلك إلى امتلاك العبد، لأن المكاتب إذا انتهت مدة كتابته ولم يفِ بما عليه من دين رد في الرق (4) .
قال ابن رشد الجد: "حدثني ابن القاسم عن مالك عن ربيعة بن عبد الرحمن أنه كره أن تباع كتابة المكاتب ويقول هو خطار إن عجز كان عبدًا له وإن أدى أربعة آلاف درهم"، وأضاف:" الغرر في هذا بين كما قال: وهو قول عبد العزيز بن سلمة، إلا أن مالكًا وأصحابه أجازوا ذلك استحسانًا واتباعًا على غير قياس وله وجه وهو أن المشتري للكتابة يحل محل سيده الذي كاتبه في الغرر، لأنه إذا كاتبه لا يدري هل يؤدي ما كاتبه عليه أو يعجز فيرجع رقيقًا له وذلك جائز "(5) .
1-
7-6 - بيع العبد وفي ذمته دين:
ومن صور البيع التي تحدث عنها الفقهاء ولها صلة ببيع الدين، بيع العبد ذي المال. فقد ورد في الحديث:((من باع عبدًا وله مال فماله للذي باعه إلا أن يشترطه المبتاع)) (6) . ومال العبد ربما كان نقودًا أو ديونًا في ذمم الآخرين، فإذا اشترطه المبتاع فهل تجري عليه أحكام ربا الفضل وبيع الدين؟ جمهور الفقهاء على أن ذلك لا يجري على شرط بيع الدين، قال مالك رحمه الله:"الأمر المجتمع عليه عندنا أن المبتاع إذا اشترط مال العبد فهو له نقدًا كان أو دينًا أو عرضًا يعلم أو لا يعلم، وإن كان للعبد من المال أكثر مما اشترى به كان ثمنه نقدًا أو دينًا أو عينًا "(7) .
وقال ابن قدامة في المغني: "وجملة ذلك أن السيد إذا باع عبده أو جاريته وله مال ملكه إياه مولاه أو خصه به فهو للبائع. . وإن اشترطه المبتاع كان له، للخبر، روى ذلك نافع عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وقضى به شريح، وبه قال عطاء وطاوس ومالك والشافعي وإسحاق، قال الخرقي: إذا كان قصده للعبد لا للمال هذا منصوص أحمد وهو قول الشافعي وأبي ثور والبتي. . ومعناه أنه لا يقصد بالبيع شراء مال العبد، وإنما يقصد بقاء المال لعبده وإقراره في يده، فمتى كان ذلك صح اشتراطه ودخل في البيت سواء كان المال معلومًا أو مجهولاً من جنس الثمن أو من غيره عينًا كان أو دينًا وسواء كان مثل الثمن أو أقل أو أكثر، قال البتي: إذا باع عبدًا بألف درهم ومعه ألف درهم فالبيع جائز إذا كانت رغبة المبتاع في العبد لا في الدراهم "(8) .
(1) الدر المختار لابن عابدين: 4 / 517.
(2)
إعلاء السنن: 14 / 243.
(3)
إبراهيم فاضل الدبو، ضمان المنافع، ص 453.
(4)
فقد أخرج مالك في الموطأ، وأبو داود، والترمذي في سننه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:(المكاتب عبد ما بقي عليه درهم من كتابته) .
(5)
ابن رشد الجد البيان والتحصيل: 18 / 83.
(6)
رواه البخاري ومسلم.
(7)
الموطأ: 2 / 611.
(8)
المغني لابن قدامة: 4 / 276.
1-
7-7 القبالات:
القبالة بيع إيراد آجل بثمن عاجل، وهي شبيهة ببيع الدين وإن لم تكن مطابقة له، لأن الإيراد ربما كان دينًا في ذمم وربما كان غير ذلك، والمشهور أنها ربا على حديث ابن عمر، رضي الله عنه، (القبالات ربا) وقد ذكر ابن تيمية، رحمه الله، في القواعد النورانية القبالات التي عدها ابن عمر من الربا هي ضمان الأرض بقدر معين من جنس فعلها فهي جنس واحد وفضل آجل. أما ضمان الأرض بالدراهم والدنانير فليس من الربا بسبيل (1) .
1 – 8 بيع الدين في عمل البنوك الإسلامية:
يشوب عمل البنوك الإسلامية بيع الدين بصيغته الممنوعة بطريقتين، الأولى ظاهرة الحرمة أسميناها البيع الجلي والثانية غير ظاهرة أسميناها البيع الخفي.
1-
8-1 البيع الجلي:
تمارس البنوك الإسلامية في بضع الدول الإسلامية صيغة لبيع الدين المتولد من عمليات المرابحة والبيع الآجل لا تختلف كثيرًا عن حسم الكمبيالات في العمل المصرفي التقليدي ووصفها كما يلي:
يقوم البنك ببيع سلعة إلى عميله بالمرابحة بثمن مقسط يدفعه على مدى 24 شهرًا (أو أكثر أو أقل) ، ثم يوقع هذا العميل على (سندات لأمر)(كمبيالات) توثيقًا للدين الثابت في ذمته وهو ثمن البيع، ثم يقوم البنك ببيع هذه الكمبيالات للحصول على النقد ويكون ذلك قبل حلول الأجل وبسعر بيع لتلك الأوراق يقل عن القيمة الاسمية لها (مبلغ الدين الثابت في الذمة) . وتتضمن هذه العملية حسم الكمبيالة إذ أن ما يدفع فيها من ثمن عاجل يقل دائمًا عن القيمة الاسمية التي تستحق في أجل السداد والفرق بينهما هو ربح مشتري الورقة. وقد وقف الكاتب أثناء زيارته لبعض الدول الإسلامية على طريقة ممارسة البنوك الإسلامية فيها لهذه الصيغة، فوجدها كالوصف المذكور أعلاه. كما أنها قد ذكرت في مطبوعات صادرة في تلك البلاد باللغة الإنجليزية والعربية (2) .
إن الجدير بالنظر في هذه المسألة هو أن هذه البنوك الإسلامية عندما تمارس ما ذكر أعلاه من بيع الدين، فإنها تفعل مدعية أنه جائز من الناحية الشرعية. وفي حديث للكاتب مع بعض القائمين على العمل في أحد هذه البنوك فهمت منه أن الرأي المذكور قد اعتمد عندهم على التفريق بين الدين يكون أصله قرضًا والدين يكون أصله بيعًا. فهم يرون أن المعاملة لو كانت قرضًا لم يجز بيعهم وثائقه، ذلك أن مبلغ القرض إذا ثبت في ذمة المقترض وصار دينًا عليه لا يجوز التصرف به من قبل الدائن بالبيع.
أما ثمن البيع الآجل للسلع فإنه إذا ثبت في ذمة المشتري وصار دينًا عليه فللدائن التصرف فيه بالبيع، لأن هذا التصرف في نظرهم إنما يقع على السلعة المباعة التي يرون أن ملك المشتري عليها لم يستقر بعد، ومن ثم فليست هذه المعاملة في رأيهم نقودًا مقابل نقود (عاجلة وآجلة) ، ولكن المجل فيها هو تلك السلعة. وهو قول غريب.
ولا نعلم أن الفقهاء فرقوا بين الدين يكون أصله القرض أو يكون أصله البيع الآجل إلا في حالة واحدة وهي التي ذكرها الفقهاء في باب الرهن إذ أجازوا الانتفاع بالرهن بالشرط السابق للعقد في حال كونه لتوثيق دين من بيع آجل، وعدم جواز ذلك في حال كونه لتوثيق القرض. لأنه يكون مظنة الزيادة فيه وهي ربا.
1-
8-2 – البيع الخفي:
لقد وقعت بعض البنوك الإسلامية في نوع من بيوع الدين الممنوعة وقد أسميناه البيع الخفي، لأن البنوك الإسلامية قد وقعت في معاملات تؤول إليه بسبب أعمالها للتنضيض الحكمي في معاملات قائمة على الديون.
وهذه المشكلة تظهر في عمل بعض البنوك الإسلامية، ولكنها أوضح وأبين في الصناديق الاستثمارية والحسابات خارج الميزانية في البنوك التي توجه بجملتها للمرابحات.
(1) القواعد النورانية الفقهية: ص 267 – 268.
(2)
من ذلك مثلاً كتاب أصدره البنك الإسلامي في ماليزيا يصف فيه طريقة عمله عنوانه Islamic Banking theory and practice- Bank Islam Malysia Berhard – Kuala Lumpur، Malysia 1994، وقد ورد فيه في الصفحات 39، 43، 104، 109، 111 على سبيل المثال لا الحصر وصف لصيغة بيع الدين التي يمارسها البنك. كما ذكرت الطريقة في كتاب آخر عنوانه: Islamic Banking System، لمؤلفه: Sudin Haron، Bala Shanmugan – Kuala Lumpur، pelanduk publications 1997. وادعى المؤلف انتشار الطريقة في أكثر من بلد إسلامي في البنوك الإسلامية. ثم ذكرت العملية ووصفت في كتاب أصدرته اللجنة الاستشارية العليا للعمل على استكمال تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية بعنوان:"ملتقى التجربة الماليزية في العمل المصرفي الإسلامي"، وهو محاضر ندوة عقدت في شهر مارس سنة 1997م، وقد ورد ذلك في صفحات 75، 110 على سبيل المثال لا الحصر.
إن البنوك الإسلامية لما كانت جملة معاملاتها هي على أساس المرابحة؛ أدى ذلك إلى أن تكون أكثر أصول (موجودات) البنك الإسلامي هي الديون، لأن عمليات المرابحة كسائر البيوع الآجلة تولد ديونًا ذات أجل (1) . وهذا لا بأس به. لكن الأموال التي تستخدم للمرابحة إنما مصدرها الحسابات الاستثمارية التي اعتمدت صيغتها على المضاربة في العلاقة بين البنك وأصحاب هذه الأموال، وعلى صيغة الشركة في العلاقة بين أصحاب الأموال مجتمعين إذ كل واحد منهم يقدم حصة في شركة عنان فهم شركاء فيما تولد عن أموالهم من أصول.
ثم يستخدم البنك هذه الأموال وهي حسابات قصيرة الأجل (حصل عليها على أساس المضاربة) مدة بعضها شهر وربما تصل إلى ثلاثة أشهر أو ستة (وقد تصل في القصر إلى يوم واحد في بعض البنوك) ، يستخدم البنك الإسلامي هذه المبالغ في تمويل عمليات مرابحة تصل مددها إلى سنة وربما تصل إلى سبع أو عشر سنوات.
إن المشكلة الأساسية هي أن الفرد الذي قدم أمواله للبنك على أساس المضاربة يستطيع استرداد أمواله في نهاية ثلاثة أشهر مثلاً، وعند ذلك الوقت يجري المصرف تنضيضًا حكميًّا على أساس الدفاتر المحاسبية، ثم بناءً على ذلك تجري القسمة بين المضارب (وهو البنك) ، وأرباب الأموال وهم مجموع المودعين في الحسابات الاستثمارية وبينهم وبين البنك باعتباره مضاربًا وهم أرباب المال. بحيث يسترد هذا المستثمر رأس ماله ونصيبه من الربح.
وقد اختلف نظر الفقهاء في قسمة الأموال المشتركة فقال بعضهم: هي إفراز، وقال آخرون: هي بيع. وعلى القول إن القسمة بيع لا تجوز القسمة فيما لا يجوز بيع بعضه ببعض، فإن كان ربويًّا اشترط فيها التقابض في المجلس ويثبت في القسمة التي تكون بيعًا أحكام البيع من الخيار والشفعة وغيرهما ولا يجبر عليها من أباها. وعلى القول إنها إفراز فإن قسمة الأموال الربوية والتفرق فيها قبل القبض جائز. وهذا كله في الشركة في الدور والأرضين والطعام والحيوان.
أما الديون في الذمم فالقسمة فيها لا تجوز، لأنه بيع للدين وهو ممنوع. قال المرداوي في الإنصاف:"وإن تقاسما الدين في الذمة لم يصح في إحدى الروايتين وهو المذهب "، ثم قال:" فمحل الخلاف إن كان في ذمتين فأكثر قاله الأصحاب. أما إذا كان في ذمة واحدة فلا تصح المقاسمة فيها قولاً واحدًا، قاله في المغني والشرح والفروع وغيرهم "(2)
فإذا كان زيد وعمرو شركاء بالتساوي في دين قدره مائة ريال، خمسون منها في ذمة عبيد وخمسون في ذمة أحمد، فهذه التي اختلفت فيها الرواية إذا قبض زيد من عبيد خمسين، فهل تكون له أم هو وعمرو فيها شركاء؟ أما لو كان زيد وعمرو شركاء في دين مقداره مائة في ذمة عبيد أو اختلفت أسهمهما في الشركة وكثر المدينون فلها فلا تجوز القسمة قولاً واحدًا؛ لأنها بيع وهي بعض مسألتنا.
(1) أما في البنوك والصناديق التي يكون غالب موجوداتها من الأصول الحقيقية كالمعدات فلا يكون لهذه المشكلة أثر، لأن القسمة عندئذ، حتى لو كانت رضائية، تقوم على أساس البيع فهي جائزة.
(2)
الإنصاف للمرداوي: 5 / 397؛ وانظر قواعد ابن رجب المسألة التاسعة عشرة.
إلا أن التطبيقات المعاصرة تتضمن دخول شركاء جدد يدفعون اليوم مبلغًا يقل عن الدين الذي يحل أجله بعد زمن. ومن ثم لم تعد قسمة بين الشركاء فحسب بل بيعًا محضًا، لأن دخول أطراف جديدة لا يخرج عن ذلك. فالإشكال هنا أن القسمة تكون إفرازًا في الأعيان، أما في الديون فإنها لا تكون إفرازًا إلا عند حلول الأجل وقبض الدين، أما قبل ذلك فإن القسمة إذا وقعت فهي بيع. أما دخول شركاء جدد والدين قائم فلا وجه له.
1-
8-3 – علاقة مسألتنا هذه بالتنضيض الحكمي:
لا يعرف الربح في المضاربة إلا بعد سلامة رأس المال، ولا تعرف سلامة رأس المال إلا بالتنضيض، وتحول الأصول المملوكة للشركة من عروض وديون إلى نقود ثم تقع القسمة. هذا هو الأصل في عقد المضاربة. إلا أن عمل البنوك الإسلامية قائم على أساس النشاط المستمر (going concern) فالبنك يدخل في عقود بصفة مستمرة مع مصادر الأموال (أرباب المال في المضاربة) ومستخدمي الأموال (الذين يستفيدون من عمليات التمويل) ، وهي عمليات ذات مدد متعددة ومتنوعة. فلا يتصور أن تنض جميعًا في وقت واحد إلا عند تصفية عمل البنك برمته وهذا لا يقع في ظل الأنظمة المعاصرة.
ولذلك جاء التنضيض الحكمي بديلاً عن التصفية الحقيقية للأصول والديون. والتنضيض الحكمي من الاجتهادات المعاصرة التي كان لها أثر هام في نجاح عمل البنوك الإسلامية. وقد اتجه النظر الفقهي المعاصر إلى إعطاء التنضيض الحكمي المعتمد على الدفاتر والسجلات حكم التنضيض الحقيقي. جاء في فتاوى ندوة البركة الثامنة للاقتصاد الإسلامي المنعقدة في جدة 8 /9/1413 هـ ما يلي:
"1- للتنضيض الحكمي بطريقة التقويم في الفترات الدورية خلال مدة عقد المضاربة حكم التنضيض الفعلي لمال المضاربة شريطة أن يتم التقويم وفقًا للمعايير المحاسبية المتاحة.
2-
يجوز شرعًا توزيع الأرباح التي يظهرها التقويم كما يجوز تحديد أسعار تداول الوحدات بناء على هذا التقويم ".
لكن المشكلة أن المعايير المحاسبية لا تقتصر على تقويم العروض والأصول الحقيقية، بل يتوصل من خلالها لتقويم الديون بناء على سعر الحسم المعتمد في المعاملات الربوية. فإذا كانت الأصول في جملتها ديونًا تولدت عن عمليات المرابحة أصبح التنضيض الحكمي وسيلة تؤدي إلى بيع الدين بطريقة لا تختلف عن حسم الكمبيالات، أي بيع الدين النقدي إلى غير من هو عليه قبل أجله بقيمة نقدية تقل عن قيمته الاسمية، وكل ذلك ممنوع.
1 – 9 البديل المشروع لبيع الدين:
صفة بيع الدين التي عمت بها البلوى في زماننا الحاضر هي بيع الدين بالعين، أي بيع دين نقدي ثابت في ذمة مدين قبل أجله بثمن نقدي غير مؤجل يقل عن مبلغ الدين، وهذا البيع غير جائز لأنه صرف مؤجل وهو ممنوع. لكن الأغراض التي من أجلها يبيع الناس ديونهم هي أغراض حسنة، ولها قدر كبير من الوجاهة في عالم المال والأعمال وبخاصة في ظل عمل الأسواق الذي تشتد فيه المنافسة ويقع الملتزمون بأحكام الشريعة فيه ضحية التجار الذين لا يأبهون بحرمة الربا.
فهل من سبيل إلى الوصول للغرض ضمن نطاق المباح؟ الجواب عن ذلك أن الشريعة ما أغلقت بابًا للحرام إلا وفتحت أبوابًا للمباح والحلال. ولذلك فإن في أحكام الشريعة ما يمكن معه تنضيض الأصول التي تكون على صفة ديون للأغراض التي ذكرنا في مكان آخر من هذا البحث، ويمكن أن يتم ذلك بالحوالة أو ببيع الدين بالعرض. فالدائن إذا أراد أن يستعجل دينه قبل أجله يمكن له أن يشتري عرضًا من بائع (غير المدين) بالأجل ثم يحيله بالثمن على ذلك المدين.
قال ابن حزم في المحلى: "ولا يحل بيع دين يكون لإنسان على غيره لا بنقد ولا بدين ولا بعين ولا بعرض كان ببينة أو مقرًّا به أو لم يكن كل ذلك باطل، ووجه العلم في ذلك لمن أراد الحلال أن يبتاع في ذمته ممن شاء ما شاء مما يجوز بيعه، ثم إذا تم البيع بالتفرق أو التخير ثم يحيله بالثمن على الذي له عنده الدين فهذا حسن "(1) . فالحوالة طريق مشروع لمعالجة المشكلة المذكورة. كما يمكن بيع الدين النقدي بالعرض.
قال ابن رجب في القواعد الفقهية: "ونقل حرب عن أحمد في بيع الزيادة في العطاء لا بأس به بعرض قال: وسألته عن بيع الصك بعرض، قال: لا بأس به "، ثم قال:" المسألة الثانية بيع الصكاك قبل قبضها وهي الديون الثابتة على الناس وتسمى صكاكًا لأنها تكتب في صكاك وهي ما يكتب فيه من الرق ونحوه فيباع ما في الصك، فإن كان الدين نقدًا وبيع بنقد لم يجز بلا خلاف، لأنه صرف بنسيئة وإن بيع بعرض وقبضه في المجلس ففيه روايتان إحداهما لا يجوز. قال أحمد في رواية ابن منصور في بيع الصك: هو غرر، ونقل أبو طالب عنه أنه كرهه، وقال: الصك لا يدري أيخرج أو لا، وهذا يدل على أن مراده الصك من الديون. الثانية الجواز نص عليه في رواية حرب وحنبل ومحمد بن الحكم وفرق بينه وبين العطاء، وقال الصك إنما يحتال على رجل وهو يقر بدينه عليه، والعطاء إنما هو شيء مغيب لا يدري أيصل إليه أملا، وكذلك نقل حنبل عنه في الرجل يشتري الصك على الرجل بالدين قال: لا بأس به العرض إذا خرج ولا يبيعه حتى يقبضه، يعني مشتريه"(2) .
ولا يختلف عن ذلك بيع الدين إلى طرف آخر غير المدين بسلعة أو عرض من العروض أو منفعة.
وقد ذكر الضرير في كتابه (الغرر وأثره في العقود) : "إذا بيع الدين قبل أجله بسلعة أو منافع معينة كان ذلك جائزًا. . . كما لو كان لرجل على آخر دين فباعه لثالث بسيارة يسلمها له بعد شهر مثلاً فإن هذا البيع جائز "(3)، وذكر فضيلته رأيه في جواز بيع جميع الأوراق المالية كالكمبيالات وما شابهها فقال:"فلصاحب الكمبيالة التي لم يحل أجلها أن يبيعها بغير النقود ولا يصح أن يبيعها بنقود أقل من قيمتها"(4) ، ومن المعلوم أن الأسهم تعد في ظل الفتاوى المعاصرة من الأصول الحقيقية كالعروض، إذا أن السهم يمثل حصة شائعة في موجودات الشركة.
وقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره السابعة سنة 1412هـ: "إن المحل المتعاقد عليه في بيع السهم هو الحصة الشائعة من أصول الشركة وشهادة السهم عبارة عن وثيقة للحق في تلك الحصة".
فإذا كانت هذه الموجودات من المعدات والعقار وما شابه جاز أن تكون مما يباع بالأجل.
جاء في فتاوى ندوة البركة الثامنة: "يجوز شراء الأسهم وبيعها بالمرابحة المؤجلة الثمن بشروطها الشرعية مثل تملك البائع والقبض بحسبه وبيان رأس المال والربح"(5) . وعلى ذلك يمكن القول: إن بيع الدين الثابت في ذمة مدين قبل أجله من قبل الدائن إلى طرف ثالث بالأسهم لا يعد من البيوع الممنوعة، بل هو ضمن الصيغة الجائزة لبيع الدين. ولما كانت الأسهم من الأصول التي تتوفر عليها السيولة أضحى بإمكان الدائنين الوصول إلى أغراضهم في (تسييل) الديون ضمن نطاق المباح.
* * *
(1) المحلى، تحقيق أحمد شاكر: 9 /6، طبعة دار التراث.
(2)
القواعد للحافظ ابن رجب الحنبلي، توزيع دار الباز: 84 / 85 القاعدة 52.
(3)
الضرير، الغرر وأثره في العقود، ص 331.
(4)
الضرير، الغرر وأثره في العقود، ص 336.
(5)
فتاوى ندوة البركة، مجموعة دلة البركة، ص 143.
ثانيًا: سندات القرض وبدائلها الشرعية
القرض في اللغة يعني القطع، وفي الاصطلاح: ما تعطيه غيرك من المال لتتقاضاه؛ فسمي قرضًا لأنه قطعة من مالك. وعرفه صاحب مرشد الحيران بقوله: "أن يدفع شخص لآخر عينًا معلومة من الأعيان المثلية التي تستهلك بالانتفاع بها فيرد مثلها"(1)
2 – 1 سندات القرض:
السند وثيقة تثبت مديونية مصدرها لمالكها أو حاملها، وتعهد ذلك المصدر بدفع فائدة دورية في تاريخ محدد لحاملها (وأحيانًا لمالكها المسجل في دفاتر المصدر) . ثم دفع القيمة الاسمية المطبوعة عليها عند وقت استحقاقها الذي يحل في تاريخ محدد. ولا يقتصر إصدار السندات على الحكومة إذ تعمد المؤسسات والشركات الخاصة في كثير من الدول إلى إصدارها. والسند وثيقة دين لا ملكية، ولذلك يعامل مالكه كمقرض للشركة تسري عليه القوانين المنظمة للعلاقة بين الدائن والمدين وليس من حقه المشاركة في إدارة الشركة أو عضوية جمعيتها العمومية. وإن كان لبعض السندات حق التصويت كما سيأتي تفصيله.
كان للسندات، رغم أنها أقدم من الأسهم، أهمية ثانوية في أسواق المال، ولكن التذبذب الذي تعرضت له الأسهم في السنوات الأخيرة حول أنظار المتعاملين في السوق إلى الأوراق ذات العائد الثابت (وأهمها السندات) ، حتى صارت تمثل في الوقت الحاضر الجزء الأكبر من الأوراق المالية المتداولة في أسواق الدول المتقدمة.
وإذا كان السند مضمونًا برهن حيازة محدد سمي باللغة الإنجليزية (Bond) .
وقد يكون الرهن جميع ممتلكات الشركة من عقار ومصانع وآلات. . . إلخ وعندها يسمى (Mortgage Bond) ، فإذا فشلت الشركة المصدرة في دفع الفوائد أو القيمة الاسمية للسند، تقوم الجهة المشرفة على الإصدار ببيع ممتلكاتها حتى يتم الوفاء بذلك الالتزام. وقد يكون الرهن مقتصرًا على ما سوف تمتلكه الشركة من أصول بعد تاريخ إصدار السند، أي تلك التي استخدمت حصيلة بيع الإسناد لشرائها After Aquired Property Clause فلا يكون مضمونًا عندئذ إلا لما تمتلكه الشركة بعد حصولها على مبالغ السندات المصدرة.
وقد تتعهد الشركة عند إصدارها لتلك السندات المضمونة بعدم إصدار أي سندات جديدة مضمونة بنفس الممتلكات، فتسمى السندات عندئذ مغلقة (closed – end bond) ، أما إذا لم تتعهد فإنها تسمى سندات مفتوحة (open – end bond) ، وتكون عادة أقل قيمة في التداول نظرًا إلى أن نفس الأصول السابقة سوف تمثل ضمانًا لعدد أكبر من السندات، الأمر الذي سيعني أن حصة الدائن عند اضطرار الشركة إلى تصفية أموالها ستكون أقل.
(1) قدري باشا، مرشد الحيران، مادة 779.
ويسمى الإصدار الثاني أو الثالث المرهون بالممتلكات نفسها (Second Mortgage) ونادرًا ما يتعدى إلى رابع أو خامس. أما إذا كان السند غير مضمون برهن حيازي؛ فإنه يسمى بالإنجليزية (Debenture) ، ويكون الضمان الوحيد عندئذ هو سمعة الشركة المصدرة ومركزها المالي وثقة المتعاملين بها، وقد تعمد بعض الشركات لأسباب متعددة إلى تحويل السندات المضمونة إلى أخرى غير مضمونة والعكس.
وقد تصدر الشركة سندات مضمونة بسندات شركة أخرى، إذ تكون مالكة لسندات تلك الشركة وهي في حاجة إلى السيولة. ولكنها بدلاً من بيع ما تمتلك من سندات تقوم هي بإصدار سندات وتضمنها بسندات تلك الشركة الأخرى. إن الهدف من ذلك هو رغبتها في الاحتفاظ بالتأثير على الشركة صاحبة السندات خصوصًا عندما تكون إحداهما فرعًا للأخرى، أو مملوكة لها بصفة جزئية.
وقد تعمد الشركات إلى إصدار أنواع من السندات لا يكون مضمونًا بأي شيء، ويستخدم في أعمال يكتنفها قدر كبير من المخاطرة مثل محاولة امتلاك شركة أخرى أو ما شابه ذلك. ويسمى هذا النوع في الولايات المتحدة سندات القمامة أو الخردة (Junk Bond) وهي من الاختراعات المالية الحديثة. وتكون أسعار الفائدة عليها عالية جدًا مقارنة بغيرها من الأسهم. ولكن احتمال استرداد الدائن للقيمة الاسمية لتلك السندات قليل نسبيًّا.
وربما يجعل للسند موقعًا معروفًا في قائمة الدائنين فيسمى (Subordinated) إنه يأتي في آخر قائمة المطالبين ولا يضمن برهن أو ما شابه ذلك. وربما يكون أسوأ من ذلك فيأتي بعد ما سبقه من سندات غير مضمونة برهن أو ضمان فيسمى subordinated debenture bond وغالبًا ما تتضمن شروط إصدار السند ما يسمى بشرط التعجيل Accelarator Clause، والذي ينص على أنه بمجرد عجز الشركة عن دفع الفوائد المستحقة في وقتها يصبح الدين وجميع الفوائد المتأخرة حالة، ويحول الرهن عندئذ إلى أمين (Trustee) يقوم بتنفيذ ذلك الشرط.
والسندات الحكومية هي في الحقيقة من نوع (debenture) لأنها غير مضمونة إلا بسمعة الحكومة وثقة الناس بها وحقيقة أن الحكومة لا تفلس (إلا في حالات نادرة جدًّا) ، فهي قادرة على الدوام على دفع ديونها.
وللسندات مدد مختلفة أقصرها (في الغالب) 90 يومًا. ولكن يمتد إلى مائة عام مثل السندات التي أصدرتها في الولايات المتحدة سنة 1895م شركة سانتا في (Santafe) ، وهي مستحقة الرد في سنة 1995م. وتستمر الشركة المصدرة بدفع فوائد سنوية (أو دورية) على تلك السندات حتى يحين وقت استردادها. على أن بعض السندات تصدر بدون مدة فهي تستمر لحين قيام المصدر باستدعائها أو شرائها من السوق. وتحديد مدة السند عند إصداره ليس له أهمية كبيرة بالنسبة للمستثمرين لأن المدة الحقيقية هي ما بقي من عمره. فطويل الأجل يصبح متوسطًا ثم قصيرًا اعتمادًا على تاريخ شراء المستثمر له.
والسندات التي تصدرها الشركات أنواع منها ما يعطي حامله حق الاشتراك في التصويت في الجمعية العمومية للشركة. وتميل الشركات إلى إعطاء هذا الحق عندما تكون ثقة المستثمرين في إدارتها قليلة، ولذلك فإنهم سيقبلون إقراضها بشراء سنداتها على شرط أن يشاركوا في توجيه الإدارة، فيعطى لهم عندئذ حق التصويت بصفة دائمة أو مؤقتة.
والمعتاد أن الشركة المصدرة للسندات إذا عجزت عن دفع الفوائد أو القيمة الاسمية للسند في الأوقات المحدد لها وجب عليها أن تعلن الإفلاس. لكن هذا النوع من السندات المسمى سندات الدخل لا تلتزم الشركة عند عجزها بإعلان الإفلاس، فهي لا تلتزم بدفع الفوائد إلا في حالة تحقيقها لدخل يمكنها من ذلك فهي معتمدة على تحقيق الدخل فقط. وجلي أن هذا النوع مشابه للأسهم الممتازة.
ومنها السندات المشاركة وهي شبيهة بالسندات المعتادة، يضمن فيها سعر فائدة محدد، ولكنها تتميز بوعد من الشركة بإضافة نسبة أخرى إذا لم يستحق حامل السند إلا النسبة الأولى فقط.
ومنها ما يكون لحامله حق تحويله إلى سهم عادي أو ممتاز أو نوع آخر من الأوراق المالية التي تصدرها الشركة، في الوقت الذي تحدده نشرة الإصدار. وكل هذه أنواع من الإغراءات والميزات التي تجذب الدائنين وتحقق رغباتهم وميولهم في الاستثمار.
وعندما لا يكون للسند مدة محددة، أو تكون مدته طويلة بحيث ترغب الشركة المصدرة أن تعطي نفسها فرصة سداد القرض قبل نهاية المدة، فإنها تشترط القابلية للاستدعاء (أو الحق في الإطفاء) ، فإذا اشترطت استرداده بالقيمة الاسمية فإن إقبال المستثمرين عليه يكون متدنيًّا، لأن الشركة ربما تستدعيه في وقت ارتفاع سعره فلا يستفيدون من بيعه، أو في وقت تكون أسعار الفائدة الثابتة عليه أعلى من تلك السائدة في السوق. ولذلك ربما تعطيهم ضمانات بأنها لن تفعل ذلك خلال السنتين أو الثلاث الأول. وربما تكون الطريقة كما يلي: تبيع الشركة السند وتشتري (من يشتريه) خيارًا يتضمن الحق في شرائه عند سعر محدد، غالبًا ما يكون قيمته الاسمية.
أما الإطفاء بالقيمة السوقية فهو متاح دائمًا لأي نوع من الإسناد. ومنها سندات الادخار الأمريكية (U.S.Saving Bonds) والتي تصدرها الحكومة وتباع مباشرة إلى الأفراد وإلى عدد قليل من الجمعيات والشركات، وما إلى ذلك. وهي غير قابلة للتداول، وهناك حد أعلى لما يمكن للفرد أن يشتريه منها (150.000 دولار) . وقد تدفع الفائدة نصف سنوية، والأغلب أن تؤجل إلى نهاية مدتها التي تختلف، وإن كان الغالب فيها أن تكون عشر سنوات. وتتغير شروط إصدارها كثيرًا، فقد حددت في 1948م بسعر فائدة عائم. يمثل (85 %) من العائد على سندات الحكومة الأخرى.
من الجلي أن هذه السندات شبيهة بالسندات المعتادة، إلا أنها تختلف عنها في عدم تداولها، في تدني الفوائد عليها. ولذلك فإن الحكومة عند بيعها للناس إنما تخاطب فيهم الروح الوطنية، والتضحية من أجل صالح الحكومة فيشتريها الناس رغم أن الفائدة عليها أقل من متوسط السوق، ورغم عدم قابليتها للتداول.
ومنها السندات المربوطة بالقوة الشرائية للنقود، معلوم أن من آثار حدوث التضخم تدهور القوة الشرائية للنقود، وهو أمر يلحق الضرر بالدائنين ومنهم أصحاب السندات باعتبار أنها وثائق دين، ونظرًا إلى أن الدائن إنما ينظر إلى العائد الحقيقي، لذلك ربما لا يكون في سعر الفائدة المضاف إلى السند الكفاية لتحقيق زيادة حقيقية في قيمة الدين.
وربما لا تكون المشكلة ملحة في السندات ذات المدد القصيرة مثل السندات ذات مدة ثلاثة أشهر أو ستة، ولكن بالنسبة للسندات التي تمتد إلى سنوات طويلة تبرز الحاجة إلى ترتيب مختلف. ومنها أن لا يحدد سعر الفائدة كنسبة ثابتة بل تصدر بنسبة متغيرة أو عائمة (Variable or Floating Rate) وغالبًا ما تكون مربوطة بسعر يتحدد في سوق حرة مثل (ليبور) وهو سعر فائدة الإقراض بين البنوك في سوق لندن أو بريم ريت (prime Rate) وهو سعر الفائدة على القروض إلى أفضل الزبائن في سوق نيويورك.
ومن هذه السندات المربوطة بالقوة الشرائية للنقود فيكون السند فيها مربوطًا بمؤشر تكاليف المعيشة (Consumer price Index) وهو المؤشر الذي تصدره سلطة حكومية متخصصة لمعرفة التغير في القوة الشرائية للنقود عن طريق قياس الارتفاع والانخفاض في أسعار سلعة من السلع الأساسية وهي عندئذ تحمي القيمة الاسمية للسهم والعائد عليه (الفوائد) من التدهور.
ومنها تلك المسماة سندات غراني (Granny Bonds) في بريطانيا، وهي نوع من أنواع شهادات الادخار التي تصدرها الحكومة لصالح فئات محددة. فهي ذات مدة طويلة وتدفع فوائدها بعد مضي عدد من السنوات كنسبة مئوية تزيد على معدل الارتفاع في مستوى الأسعار. وتمثل برنامجًا تقاعديًّا يمكن للمرء أن يشترك فيه فيدفع القيمة الاسمية خلال سنين عمله، ثم يقبض الفوائد المربوطة برقم تكايف المعيشة عند التقاعد. ولا يسمح بشرائها عادة إلا للأفراد من الموظفين أو العمال. فهي ليست أداة استثمارية قابلة للتداول.
ومع أن أنواعًا من السندات المربوطة بتكاليف المعيشة تلقى قبولاً وشعبية في بريطانيا إلا أن الأمر ليس كذلك في الولايات المتحدة ويعتقد بعض الباحثين أن مقدار المخاطرة المتدني فيها يبعد عنها المقامرين وهم الكثرة الكاثرة في أسواق المال.
ومنها السندات ذات الكوبون الصفري هي سندات دين تختلف عن المعتاد في طريقة إصدارها وحساب الفائدة عليها، ولهذا السند قيمة اسمية مطبوعة على وثيقته. ولا يلتزم مصدره إلا برد تلك القيمة الاسمية في تاريخ الاستحقاق الذي يحدد عند البيع. ويباع هذا السند بالمزاد. لاحظ هنا أن الفائدة التي ستدفعها الحكومة على السند ليست محددة بنسبة معينة عند الإصدار، ولكنها تحدد في المزايدة.
والسعر المدفوع هو بالضرورة أقل من تلك القيمة الاسمية (مع أنه لا يستبعد نظريًّا في ظروف نادرة جدًّا أن يباع بنفس القيمة الاسمية) . والفرق بين القيمة الاسمية وما يدفعه المستثمر فعلاً في المزاد هو الفائدة على القرض. ومدته تكون دائمًا قصيرة لا تزيد عن ستة أشهر. وهو قابل للتداول في السوق الثانوية ويباع بسعر يتحدد اعتمادًا على قوى العرض والطلب التي تتأثر بظروف الاقتصاد والفرص الاستثمارية المتاحة.
ولقد سميت بذات الكوبون الصفري؛ لأن السندات تتضمن غالبًا كوبونات يسجل عليها تواريخ استحقاق الفائدة، ولكل كوبون قيمة تمثل تلك الفائدة، فكأن هذا السند كوبونه يساوي صفرًا.
2 – 2 البدائل الشرعية ل سندات القرض:
2-
2-1 في القطاع العام:
لم يتطرق الفقهاء القدامى لهذا الموضوع بصورة مباشرة. فقد كانت الأوضاع الاقتصادية والسياسية، وطبيعة نشاط الحكومة مختلفة كل الاختلاف عنها اليوم. والملاحظ أن أمهات كتب الفقه التي تعود إلى القرون الأربعة الأولى لدولة الإسلام، كانت تشير إلى ولي الأمر والأمير، وليس إلى (الحكومة) . ولا ريب أن كثيرًا من الأحكام التي استقرت في الفقه حول ولي الأمر، تصلح أن يقاس عليها أمور الدولة في عصرنا الحاضر. ولكن يبقى أن الاختلاف بين ولي الأمر كما تصوره الفقهاء، وبين الحكومة كما نعلمها اليوم، شاسع وكبير بالقدر الذي يستدعي نظرًا فقهيًّا معاصرًا في كثير من الأمور المستجدة. ولذلك لا يسعفنا في الوصول إلى استنتاج في موضوع سد العجز الحكومي، نصوص ذات دلالة على ما نحن بصدده، لأن فكرة العجز مرتبطة بفكرة الميزانية السنوية وهي – على الأرجح – تنظيم جديد للمالية العامة.
ومع ذلك، فإننا نجد أن بعض الفقهاء قد تطرق إلى ما له علاقة بموضوع الاقتراض الحكومي، فتكلموا عن أربعة مصادر محتملة لسد حاجة بيت المال هي: الاقتراض وتعجيل الزكاة والتوظيف المالي والتبرعات. وانصب أكثر تناولهم للموضوع على ترتيب هذه المصادر، وبيان الأحكام المتعلقة بها، والظروف التي تبيح لولي الأمر اللجوء إلى أي منها.
والعجز الحكومي الذي تصوره الفقهاء ليس عجز الميزانية، ولكنه عجز بيت المال عن النهوض بما يلزم من نفقات، وخصوصًا تلك المتعلقة بحماية الثغور وحفظ البيضة ورد العدو الغاشم. والثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اقترض للحاجات العامة كما اقترض للخاصة. ومنها ما روى ابن ماجه بسنده عن أبي ربيعة المخزومي عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف منه حين غزا حنينًا ثلاثين أو أربعين ألفًا، فلما قدم قضاها إياه، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم:((بارك الله لك في أهلك ومالك، إنما جزاء السلف الوفاء والحمد)) (1) .
ومن ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشًا فنفدت الإبل، قال فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آخذ من قلائص الصدقة، فكنت آخذ البعير بالبعيرين (2) ، وجلي أن كلا القرضين كان لحاجة عامة ودينًا على بيت المال.
وجاء جل تناول الفقهاء لهذا الموضوع، في معرض المفاضلة بين التوظيف (الضريبة) وبين الاقتراض، فمال أكثرهم إلى ترجيح الاقتراض لعظم اهتمامهم بحرمة المال الخاص، واشترط في ذلك شروط أهمها: أن يرجى لبيت المال دخل في المستقبل. يقول الشاطبي: " الاستقراض في الأزمات إنما يكون حيث يرجى لبيت المال دخل ينتظر أو يرتجى، أما إذا لم ينتظر شيء وضعفت وجوه الدخل، بحيث لا يغني كبير شيء فلا بد من جريان حكم التوظيف"(3) .
(1) رواه ابن ماجه والنسائي.
(2)
رواه الحاكم في مستدركه كتاب البيوع؛ وأخرجه الدارقطني بمعناه.
(3)
الشاطبي، الاعتصام: 2 / 22، 123.
وأشار الغزالي إلى اقتراض بيت المال، فاشترط فيه أيضًا أن يرجى لبيت المال دخل في المستقبل، فقال: لو كان له (أي الإمام) مال غائب أو جهة معلومة، يجري مجرى الكائن الموثوق فالاستقراض أولى" (1) وذكر في شفاء الغليل:"ولسنا ننكر جواز الاستقراض ووجوب الاقتصار عليه إذا دعت المصلحة إليه"، ولكنه اشترط أن يغلب على الظن مجيء مال يزيد عن الحاجة مستقبلاً.
ومن الملاحظ أن الشاطبي والغزالي وغيرهم، قد شبهوا بيت المال بالغني المحتاج وافترضوا أن التوظيف هو نوع من التبرع لهذا الغني، فإذا كان له مال يرجى وكان محتاجًا في وقت من الأوقات، فلا يلزم الآخرين التبرع له بل يلزمهم إقراضه فقط، ولذلك نجد الماوردي قد قال بمعاملة بيت المال كالمعسر فينظر، إذا لم يوجد فيه الكفاية، إلى ميسرة (2)
أما الجويني، وهو سابق لهؤلاء جميعًا، فقد عالج الموضوع من زاوية سد الذرائع إلى التوظيف، وتقليل سلطة ولي الأمر في ذلك فافتراض أن موارد بيت المال تقتصر على الزكاة والخراج والجزية، ولذلك فكل ما أخذ الإمام مما يزيد عليها فهو دين، يجب عليه سداده بعد يسار بيت المال. (3)
وقد اشترط بعضهم لجواز الاقتراض عدالة الإمام، فقد نقل الشاطبي أن شرط جواز الاستقراض عند الغزالي وابن العربي هو عدالة الإمام، وإيقاع التصرف في أخذ المال وإعطائه على الوجه المشروع.
وربما يفهم من تصرف العز بن عبد السلام مع سلطان مصر، أنه يشترط للاستقراض الإقلاع عن النفقات الترفيهية أولا. فقد داهم التتار بلاد الإسلام فأراد السلطان في مصر أن يقترض من التجار لقلة المال في بيت المال، فاستشار عز الدين؛ فقال:" اخرجوا وأنا أضمن لكم على الله النصر، إذا أحضرت ما عندك وعند حريمك، وأحضر الأمراء ما عندهم من الحلي الحرام، وضربته سكة ونقدا، وفرقته في الجيش ولم يقم بكفايتهم ذلك الوقت اطلب القرض، أما قبل ذلك فلا، فأحضر السلطان والعسكر كلهم ما عندهم من ذلك بين يدي الشيخ.. "(4) .
وشبيه بذلك ما ذكره الشوكاني حيث قال: " وعلى الإمام أن لا يدع صفراء ولا بيضاء ويعين بفاضل ماله الخالص، ولكن الواجب أن يأخذ ذلك جهة الاقتراض ويقضيه من بيت المسلمين عند حصول ما يمكن القضاء منه.
…
" (5) .
وأما الماوردي فقد ربطه بالخوف من الفساد فقال: " لو اجتمع على بيت المال حقان وضاق واحد منهما، جاز لولي الأمر إذا خاف الفساد أن يقترض على بيت المال ما يصرفه (6)
(1) السبكى، الإبهاج على شرح المنهاج: 3 / 195.
(2)
الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 206.
(3)
الجويني، غياث الأمم في التباث الظلم، ص 391.
(4)
نقله صلاح سلطان عن طبقات المفسرين للداودي: 1 /؛ وطبقات الشافعية للسبكي: 8 / 215.
(5)
السيل الجرار للشوكاني: 4 / 520.
(6)
الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 215.
مما ذكر سابقا نستخلص ما يلي:
أ – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقرض لبيت المال عند نقص الموارد عن النفقات إبان تجهيز الجيوش.
ب – أن الاستقراض الذي أجازه الفقهاء بشروط هو استقراض لا يتضمن الربا، فليس للحكومة على أي حال كانت أن تقترض بالفائدة.
ج – ينظر إلى الاستقراض كأمر عارض مؤقت، وليس كسياسة دائمة أو طريقة مستمرة للتمويل الحكومي، وجل حديثهم ينصب على المفاضلة بين الضريبة والقرض.
د – ينظر الفقهاء إلى بيت المال كرجل مليء، فهو يقترض إذا كان يرجى له مال ولا يتبرع له أو يتصدق عليه، لأنه ليس فقيرا. فإن أعسر ينظر إلى الميسرة محدودة ومعروفة غالبًا. ولا يظهر العجز فيه (على الأرجح) إلا عند حدوث طارئ غير متوقع، كخطر عدو غاشم أو آفة سارية، أو نقص في الأموال والثمرات.
و– إن شرط أن يرجى لبيت المال مورد في المستقبل، شرط بسيط في زماننا الحاضر حيث تعددت فيه موارد الحكومات، وتنوعت بحيث أضحى أن الغالب على الظن هو تحقق الإيراد مستقبلاً.
- لعلاج العجز الطارئ في الميزانية (التمويل الجسري) :
حتى لو نجحت السلطات المالية في الحكومة في موازنة نفقاتها مع إيراداتها، فإن ذلك لا يعني بالضرورة عدم احتياج الخزينة إلى التمويل خلال السنة المالية. ذلك أن هيكل نفقات الحكومة، يختلف دائمًا عن هيكل إيراداتها. فالتدفقات الداخلة إلى الخزينة، لا ترتب في كل الأحيان بشكل مواز للتدفقات الخارجة منها. ولذلك قد تجد الحكومة نفسها في أزمة سيولة مؤقتة، تحتاج معها إلى ما يسمى بالتمويل الجسري (Bridge Financing) .
والطريقة التي تستخدمها الحكومات في كل أنحاء العالم تقريبًا هي الاقتراض، فتقترض الحكومات من الجمهور، أو من المصارف التجارية أو من الدول الأجنبية أو من مصرفها المركزي، ولا يكاد يكون للاقتراض بديل من الناحية العملية. فطبيعة هذه الحاجة تجعل القرض هو الصيغة الوحيدة الملائمة لأن الحاجة المذكورة تظهر في وقت قصير تحتاج معه إلى معالجة سريعة.
وهذا النوع من الحاجة المالية ليس أمرًا جديدًا على الحكومات، فالثابت أن دول العالم على مر التاريخ، قد احتاجت دائمًا إلى التمويل الجسري. وقد اتخذت لمواجهة ذلك الوضع إجراءات مختلفة، أهمها الاقتراض بالفائدة. وحتى في التاريخ الإسلامي نجد أن بعض الخلفاء والولاة، قد استخدم القبالة للحاجة العاجلة لإيرادات لا تتحقق إلا لاحقًا.
أ - سندات القرض الحسن:
ليس من المعتاد أن تصدر سندات الاقتراض الحكومي على شكل قروش حسنة، فلا تتضمن إلا التعهد برد القيمة الاسمية للسند ذلك أنها، في هذه الحالة ستخلو من الحافز المادي الذي يدفع الناس إلى شرائها. وقد اعتقد المودودي – رحمه الله – في كتابه (الربا) ، أن تطبيق النظام الإسلامي كفيل بأن يخلف الحافز لدى الأفراد لإقراض الحكومة قروضًا لا فائدة عليها لثقتهم بها واطمئنانهم إلى المستقبل، ورغبتهم في تحقيق التكافل الاجتماعي (1) وهو أمر – في نظرنا – محتمل.
ومن حيث المبدأ فإن إصدار هذا لنوع من السندات إذا خلت من الفائدة أمر مباح في الشريعة، لأنها لا تتعدى أن تكون تنظيمًا جديدًا للقرض. والمشكلة التي تبرز هنا هي تداول هذا النوع من الوثائق. ذلك أن السند المذكور لا يمثل إلا النقود المؤجلة. ولذلك تجري عليه أحكام الصرف لا البيع، ثم إن السند وثيقة دين لا حصة في استثمار، ومن ثم لا يجوز أن يتحدد له في الأسواق الثانوية سعر يختلف عن قيمته الاسمية.
وقد ظن البعض أن ظهور هذا النوع من السندات لا يستدعي بالضرورة ظهور سوق ثانوية إذ يمكن أن يحتفظ حامل كل سند بسنده حتى الأجل المحدد له، لكن ذلك غير صحيح، بل الأرجح ظهور تلك السوق الثانوية لأن السند ليس له قوة إبراء قانونية، ومن ثم ليس بديلاً للنقود، ولذلك قد يضحي حامله ببعض قيمته في مقابل الزمن، أي التعجيل بقبض مقابلة من النقد لحاجته العاجلة.
وإنما الإشكال بيعه بالنقد بأقل من قيمته الاسمية قبل أجله، كما تحسم الكمبيالات. أما بيعه بنفس قيمته الاسمية فلا بأس به. فقد أجاز المالكية بيع الدين بالنقد لغير المدين بشروط تباعد عن الغرر، كما يرى ابن القيم جواز بيع الدين للمدين ولغيره ولا يمنع إلا صورة واحدة هي ابتداء الدين بالدين (انظر فقرة 1 – 7 – 1 أعلاه) ، وهذه الصورة ليس فيها حسم من أجل الزمن.
وقد ذكر الضرير في كتابه (الغرر وأثره في العقود) المسألة ثم أضاف: " لو أن حكومة من الحكومات الإسلامية أو مؤسسة من المؤسسات الخيرية طلبت من الجمهور قرضًا بغير فائدة وأصدرت سندات بذلك فهل يصح لحاملي تلك السندات بيعها؟ الجواب: نعم يصح؛ لأن هذا بيع الدين، وقد رجحنا قول من يجوزه، لكن ينبغي أن لا يباع السند بثمن يقل عن قيمته إذا بيع بنقود، أما إذا بيع السند بغير النقود كأن بيع بحيوان مثلاً فالبيع صحيح "(2) .
ورب قائل ما الباعث على شراء مثل ذلك النوع من السندات، التي لا تحقق لحاملها ميزة تزيد على احتفاظه بالنقود ذاتها؟
الواقع أن الحكومات تصدر في كثير من الدول أنواعًا من السندات، التي يشتريها المواطنون لنوازع الوطنية والمسؤولية الاجتماعية، راضين بما تحققه من فائدة تقل عن المستوى السائد لمثيلاتها المتاحة لهم شراءه من الأسواق، وتصدر بشروط غير تنافسية مثل السندات الوطنية التي تصدرها حكومة الولايات المتحدة. فليس مستبعدًا إذن أن يقبل الناس في مجتمع مسلم على الاكتتاب في تلك السندات رغم أنها لا تحقق لهام عائدًا ماديًّا.
(1) المودودي، الربا، ص 134.
(2)
انظر في تفصيل ذلك (الضرير) في كتابه الغرر وأثره في العقود، ص 300 وما بعدها.
وتتميز مثل تلك السندات بالضمان، فحاملها دائن للحكومة، كما أن بإمكان الحكومة إلزام فئات من الناس (كالأغنياء أو بعض الشركات) بالاكتتاب بها واقتنائها لفترة محددة.
وللاقتراض بإصدار السندات منافع اجتماعية متعددة، منها دوره في نقل العبء المالي عبر الأجيال. ففي المشاريع ذات الأجل الطويل، أي تلك التي لا يجني المجتمع أكلها إلا بعد عدد من السنين (مثل بناء طرق أو مطار أو مرفأ) ، يصبح الاقتراض بإصدار السندات أكثر ملاءمة من التمويل بفرض الضريبة. ذلك أن السندات سوف تسدد في النهاية (في أكثر الدول) بفرض الضرائب، ومن ثم يمكن إرجاء ذلك فتفرض الضرائب على الجيل الذي سيتمتع بالآثار المفيدة للمشروع، وليس على الجيل الذي شهد بداية الإنشاء. وتعطي السندات القدرة على تحويل العبء المالي عبر الأجيال، فتحقق ذلك الغرض.
ب- الاقتراض من نقود الودائع التي يولدها النظام المصرفي:
يعتمد العمل المصرفي المعاصر على قبول البنوك لأنواع من الودائع النقدية واعتمادها على نظام الاحتياطي الجزئي. فهي لا تحتفظ إلا بنسبة ضئيلة من تلك الودائع بينما تقرض الجزء الأكبر. ويعتمد تحديد النسبة المشار إليها إلى القوانين في كل بلد، ولكنها تتراوح غالبًا بين (2 %) إلى (7 %) من مجمل الودائع مع اختلاف بين الحسابات الجارية والحسابات لأجل. ويحصل المودعون في الحسابات الجارية على دفتر للشيكات، الأمر الذي يضع في أيديهم وسائل دفع جاهزة. وبهذا تتمكن البنوك من توليد الائتمان وهو ما يسمى بنقود الودائع، والذي يبلغ عادة أضعاف النقود التي تصدرها الحكومة وتسمى النقود ذات الطاقة العالية.
ففي الولايات المتحدة تبلغ الودائع المشتقة (نقود الودائع) 6 إلى 10 أضعاف الودائع الأولية (أي النقود المودعة ابتداءً) . والفرق بين العائد على النقود المولدة (أو القوة الشرائية لتلك النقود) وتكلفة توليدها (وهي في الحسابات الجارية تساوي صفرًا تقريبًا) هي عوائد إصدار (Siegniorage) يحصل عليها المصرف التجاري. والنقود ذات طبيعة خاصة، فهي مؤسسة اجتماعية وهي كفكرة مجردة، ليست أكثر من اتفاق جميع أفراد المجتمع على قبول العملة كوسيط للتبادل ومستودع للقيمة.
وهذا القبول الاجتماعي العام، هو الذي يضفي الشرعية والقبول العام على النقود، ومن ثم كان للمجتمع ككل – باعتبار أن النقود وليدة قراره الجماعي – الحق في الانتفاع بجزء من العائد المتولد منها والذي تستأثر به البنوك في النظام المعاصر، ولذلك فقد اقترح بعض الكتاب، أن يكون للحكومة الحق في الاقتراض من النقود التي يولدها النظام المصرفي قروضًا حسنة بدون فائدة. فعندما يولد النظام المصرفي سيولة قدرها (مثلاً) عشرة أضعاف النقود ذات الطاقة العالية (أي النقود التي أصدرتها الحكومة) يمكنه أن يقرض (20 %) من ذلك للحكومة قروضًا دون فائدة.
والفكرة في محصلتها النهائية، شبيهة بإلزام البنك المركزي المصارف التجارية، أن تودع لديه جزءًا أكبر من الاحتياطي القانوني. فنحن نعلم أن جزءًا من الاحتياطي الإلزامي يودع لدى البنك المركزي في أكثر القوانين البنكية المعاصرة. ولذلك يمكن للأخير أن يلزم البنوك بنسبة أعلى من الاحتياطي المودع لديه، على أن يسمح للحكومة باستخدامه بدون فوائد.
وقد ذكر المودودي – رحمه الله – أن تبني الحكومة لمثل ذلك الإجراء، شبيه بحقها في طلب الخدمة العسكرية الإجبارية من أهالي البلاد، ووضع اليد على بيوت الأهالي وسيارتهم عند الحاجة في الطوارئ، ولذلك فهي لا تتناقض مع مبدأ حرمة مال الفرد.
بهذه الطريقة يمكن للحكومة أن تحصل على الدوام على مصدر جاهز للاقتراض بدون فائدة. وهي تستطيع عندئذ أن تستخدمه في حالات التمويل الجسري. ولا ريب أن هذه فكرة وجيهة تحتاج إلى نظر ودراسة، للتأكد من آثارها على قدرة الجهاز المصرفي، على توليد قدر كاف من السيولة للاقتصاد، وخصوصًا في حالات احتياج الحكومة إلى التمويل. ومن الجلي أن الحكومة ستستطيع الحصول مرة واحدة على مبلغ كبير من المال، ثم بعد ذلك لن تحصل إلا على نسبة من النمو السنوي في حجم الودائع فقط. ويمكن تطوير هذه الفكرة بحيث تقوم الحكومة بإنشاء مؤسسة مستقلة للودائع الجارية، يودع الأفراد فيها نقودهم، وتعمل بنظرية الاحتياطي الجزئي، أما ما تولده من نقود الودائع فيستخدم كله لصالح الحكومة.
ج – سندات المقارضة:
وتتضمن هذه الفكرة تطويرًا لصيغة المضاربة المعروفة لتنتج صكوك قابلة للتداول. فيمكن لجهة حكومية أن تنشئ هيئة علي صفة المضاربة تصدر صكوكًا يكون من يشتريها (رب مال) وتلك الجهة (المضارب) ، ثم تستخدم الأموال في إنشاء مشروع عام كطريق أو ميناء بحري، وتحصل الهيئة من مستخدمي هذا الطريق علي رسوم تدفع لحملة الشهادات (وهم أرباب مال) ، والصكوك المذكورة قابلة للتداول لأنها تمثل ملكية تلك الأصول كما تستطيع الجهة شراء تلك الشهادات من جملتها ليصبح المشروع مملوكًا للحكومة. ولا تصلح الصيغة إلا بضمان الحكومة لطول مدة استرداد المستثمرين لأموالهم. ولذلك كانت ملائمة في الحالات التي تكون الحكومة فيها طرفًا ثالثًا مستقلاً عن الطرفين (1) .
2 -
2-2 في القطاع الخاص:
يختلف القطاع العام عن القطاع الخاص في أن جل نشاطات الأول لا تولد الإرباح التي يمكن اقتسامها مع الممولين؛ ولذلك فإن أكثر الصيغ التي طرحناها أعلاه ربما لا تكون مناسبة لحاجة القطاع الخاص. وقد طرحت أفكار كثيرة لإيجاد بدائل ل سندات القرض لأغراض القطاع الخاص.
ويدور جل هذه الصيغ المقترحة نحو تطوير عقود المضاربة المشاركة والإجارة لكي تولد صكوكا قابلة للتداول. فعند حاجة الشركة إلى المال، يمكن لها أن تستغني عن إصدار سندات القرض الربوية بإصدار صكوك الإجارة مثلًا. وفي هذه الحالة تبيع بعض الأصول المملوكة لها (مثل مبنى الإدارة، أو مصنع من مصانعها. ..إلخ) عن طريق إصدار وحدات استثمارية تمثل ملكية هذا الأصل. فإذا طرحت هذه الصكوك في السوق واشتراها الناس أصبحوا ملاكًا للأصل المشار إليه، وحصلت الشركة على النقود التي تحتاج إليها. وتتضمن هذه العملية استئجار الشركة للمبنى المذكور بعقد طويل الأجل يحصل حملة الصكوك فيه على عائد دوري (شهري أو سنوي) يمثل مبلغ الإيجار، ثم يباع الأصل في نهاية عقد الإجارة الذي ربما امتد لسنوات.
(1) انظر في تفصيل ذلك منذر قحف، (سندات القراض وضمان الفريق الثالث) ، مجلة جامعة الملك عبد العزيز الاقتصاد الإسلامي 1409 هـ، ص 43 – 77.
هذه الصيغة وإن كانت قابلة للتطبيق، إلا أنها مكلفة وبخاصة في الحالات التي تتطلب عملية تحويل ملكية الأصول إلى حملة الصكوك إجراءات معقدة، أو لا يتوفر على الشركة أصول حقيقة صالحة مثل هذه الصيغة.
إن البديل المناسب ل سندات القرض الربوية هو صكوك المشاركة التي جرى تطويرها من قبل بعض الجهات الفنية، وقد وقع العمل بها فعلا. وتقوم فكرتها الأساسية على إصدار الشركة عند حاجتها إلى المال لصكوك لا تختلف في طبيعتها عن الأسهم بما فيها التداول في أسواق المال، ويتمتع حملتها بكل حقوق المساهم، ويأخذ من الأرباح نصيبا لا يختلف عن أنصباء من يملك من حملة الأسهم مثل حصته من الشركة. ما عدا أن حامل الصك يتنازل عن حقه في التصويت في الجمعية العمومية وتلتزم الشركة بإعادة شراء هذه الصكوك بعد فترة محددة.
والسؤال: ما الجديد في هذه الفكرة؟ ولماذا اختلفت هذه الصيغة عن تجارب سابقة لم تكلل بالنجاح؟ الجواب عن ذلك أن القائمين على هذا المشروع تداركوا أن سبب فشل التطبيقات السابقة هو الإخفاق في تحقيق العدالة بين حملة الأسهم القدامى ومن يشترى هذه الصكوك وهي صكوك ملكية لا مداينة. فالإشكال فيما مضى كان في تحديد معنى الربح، ومتى يتحمل أصحاب هذه الصكوك هذه الصكوك الخسار. ولذلك فقد تضمنت الصيغة تطويرا جديدا هو تعريف الخسار بأنه ما تقع فيه الشركة بعد استنزاف الاحتياطات المتراكمة لديها، بمعنى آخر أن الشركة ستستمر في توزيع الأرباح حتى تستنفذ ما لديها من احتياطات. ينبني على هذا نتيجتان:
الأولى: أن مشتري الصك يمكنه الاطلاع على حسابات الشركة، فيعرف قبل إقدامه على الشراء قوتها المالية وحجم احتياطياتها.
والثانية: أن لا مصلحة للشركة في إخفاء أرباحها عن حملة الصكوك أو زيادة تكاليف نشاطها لحرمانهم من العائد إذ هم سيقتسمون مع حملة الأسهم القدامى تلك الاحتياطات.
هذه فكرة جديرة بالنظر، لأنها قادرة على أن تقدم بديلا عمليا بالغ الكفاءة ل سندات القرض الربوية، وصيغة تنسجم مع روح النظام الإسلامي الذي يشجع المشاركات كما أنها قابلة للتطبيق وتمثل تطويرا متميزا حتى بموازين ومقاييس الماليين.
محمد على القري بن عيد
المراجع
_ القرطبي، المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم.
ـ إسحاق بن هاني، مسائل الإمام أحمد، تحقيق زهير الشاويش، بيروت، المكتب الإسلامي.
ـ مالك بن أنس، والموطأ مع شرح الزرقاني.
ـ الباجي، المنتقى شرح الموطأ.
ـ نزيه حماد، بيع الكالئ بالكالئ، مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي، جامعة الملك عبد العزيز – جدة.
ـ ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين.
ـ ابن قيم الجوزية، شفاء الغليل.
ـ ابن تيميه الحراني، مجموع الفتاوى.
ـ الشوكاني، السيل الجرار.
ـ الشوكاني، نيل الأوطار.
ـ ابن منظور، لسان العرب.
ـ مجلة الأحكام العدلية العثمانية.
ـ أبو الأعلى المودودي، الربا – بيروت، مؤسسة الرسالة، 1399 هـ.
ـ التهانوي، إعلاء السنن.
ـ ابن عبد البر، الكافي.
ـ ابن عبد البر، التمهيد.
ـ القاضي عبد الوهاب، التلقين.
ـ المواق، حاشية على مواهب الجليل.
ـ المرداوي، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف.
ـ ابن عابدين، الدر المختار.
ـ إبراهيم فاضل الدبو، ضمان المنافع دراسة مقارنة – عمان، دار عمار، 1997 م.
ـ ابن رشد الجد، البيان والتحصيل.
ـ زهير عباس كريم، النظام القانوني للشيك –عمان، مكتبة الثقافة، 1997 م.
ـ السبكي، الإبهاج على شرح المنهاج.
ـ الصديق محمد الأمين، الغرر وأثره في العقود، طبعة البركة.
ـ صلاح سلطان، سلطة ولي الأمر في فرض وظائف مالية، دار هجر.
ـ محمد على القري، مشكلة العجز المالي الحكومي في الاقتصاد الإسلامي، بحوث الاقتصاد الإسلامي، مجلد 2، عدد 1، 1412 هـ.
ـ محمد علي القري، الأسواق المالية ـ جدة دار حافظ للنشر والتوزيع، 1415 هـ.
***