الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس: في بعض الشبهات التي أثيرت حوله
الشبهة الأولى: في مخالطته الملوك من بني أمية:
ذكر بعض علماء الزيدية1 أن مخالطة الزهري لسلاطين بني أمية يعد موالاة لهم وإعانة لهم، وهذا قدح وجرح في شخصية الزهري2، وأنه ما وقف معهم إلا ليعينهم على المظالم على العموم3.
وقد تولى العلامة ابن الوزير4 في كتابه (العواصم والقواصم) الرد على هذه التهمة بكلام طويل أذكر منه ما يفي بالمقصود، قال رحمه الله: "والأمر في الزهري قريب والإشكال فيه سهل، لكن القدح الذي قدح به السيد على الزهري يقتضي القدح في كثير من العلماء والفضلاء، ممن خالط الملوك فإن التاركين لذلك من العلماء هم الأقلون عدداً، وإذا طالعت كتب التواريخ لم تكد تجد أحداً من العلماء إلا وله علاقة بالسلاطين أو مخالطة لهم أو وفادة عليهم أو قبول لعطاياهم، فمنهم المقل
1 هو: علي بن محمد بن محمد بن جعفر بن محمد بن الحسين الهادي، ت837هـ، البدر الطالع 1/485،وهو من شيوخ ابن الوزير.
2 العواصم والقواصم 8/187.
3 العواصم والقواصم 8/220.
4 اسمه: محمد بن إبراهيم بن الوزير اليماني، ت 840هـ، البدر الطالع 2/81، والضوء اللامع 6/272، وفهرس الفهارس 2/1024.
ومنهم المكثر"1.
ثم قال: "وأما من خالط الملوك أو كاتبهم أو قبل عطاياهم فهو السواد الأعظم من المتقدمين والمتأخرين من الصحابة والتابعين، وأنا أذكر منهم عيوناً حسب ما حضرني. ثم ذكر رحمه الله نماذج من ذلك منها:
1-
مخالطة يوسف عليه السلام لعزيز مصر2.
2-
أن الحسن بن علي رضي الله عنه كان يكاتب معاوية ويدخل عليه، ويأخذ منه العطايا3.
3-
ذكر أيضاً مخالطة الشافعي وأبي يوسف ومحمد بن الحسن لهارون الرشيد4.
قلت: وأما قوله: إنه إنما وقف معهم ليعينهم على المظالم على العموم، فغير مسلم لوجهين:
الوجه الأول: أنه كان يصدع بالحق ولا يخاف في الله لومة لائم، فقد أخرج عبد الرزاق في تفسيره قال: أنا معمر عن الزهري قال: كنت عند الوليد بن عبد الملك، فقال: الذي تولى كبره منهم علي بن أبي طالب، قلت: لا، حدثني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة
1 العواصم والقواصم 8/187-188.
2 العواصم والقواصم 8/207.
3 العواصم والقواصم 8/207.
4 العواصم والقواصم 8/211.
بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود كلهم سمعوا عائشة تقول: الذي تولى كبره منهم عبد الله بن أبي1.
وأخرج أبو نعيم في الحلية من طريق سفيان بن عيينة عن الزهري قال: "كنت عند الوليد بن عبد الملك فتلا هذه الآية {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 2، قال: نزلت في علي بن أبي طالب، قال الزهري: أصلح الله الأمير، ليس كذا أخبرني عروة عن عائشة رضي الله عنها، قالت: وكيف أخبرك؟ قال: أخبرني عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها
1 تفسير عبد الرزاق 2/51-52، ومن طريق عبد الرزاق أخرجه ابن شبه في تاريخ المدينة 1/237، والفسوي في المعرفة 1/393، وأخرج البخاري من طريق معمر عن الزهري قال:"قال لي الوليد بن عبد الملك: أبلغك أن علياً كان فيمن قذف عائشة؟ قلت: لا، ولكن قد أخبرني رجلان من قومك - أبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث - أن عائشة رضي الله عنها قالت لهما: "كان علي مسلماً في شأنها، فراجعوه فلم يرجع
…
". قال الحافظ: "فيه قوله: فراجعوه فلم يرجع" المراجعة في ذلك وقعت مع هشام بن يوسف فيما أحسب، وذلك أن عبد الرزاق رواه عن معمر فخالفه فرواه بلفظ (مسيئاً) كذلك أخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم في المستخرجين، وزعم الكرماني أن المراجعة وقعت في ذلك عند الزهري، قال: وقوله: "فلم يرجع" أي لم يجب بغير ذلك، قال: "ويحتمل أن يكون المراد: فلم يرجع الزهري إلى الوليد
…
" الفتح (7/437) .
2 الآية رقم (11) من سورة النور.
أنها نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول المنافق"1.
قال الحافظ ابن حجر: "وكأن بعض من لا خير فيه من الناصبة، تقرب إلى بني أمية بهذه الكذبة فحرفوا قول عائشة إلى غير وجهه لعلمهم بانحرافهم عن علي فظنوا صحتها حتى بين الزهري للوليد أن الحق خلاف ذلك، فجزاه الله تعالى خيراً"2.
الوجه الثاني: قدح الزهري في الوليد بن يزيد، بسبب إسرافه في المعاصي.
فقد أخرج ابن سعد في الطبقات عن أبي الزناد قال: "كان الزهري يقدح أبداً عند هشام بن عبد الملك في خلع الوليد بن يزيد ويعيبه، ويذكر أموراً عظيمة لا ينطق بها، حتى يذكر الصبيان أنهم يخضبون بالحناء، ويقول هشام: لا يحل لك إلا خلعه"3.
فيتضح مما سبق أن قولهم: إنما وقف الزهري مع بني أمية ليعينهم على المظالم على العموم لا دليل عليه، فقد دلت تلك النصوص المتقدم ذكرها على أن ابن شهاب الزهري رحمه الله كان لا يداهن في قول الحق أبداً وقد شهد له بذلك كبار أئمة الإسلام.
1 الحلية لأبي نعيم 3/369.
2 فتح الباري 7/437.
3 الطبقات الكبرى، القسم المتمم (183) تحقيق: زياد منصور، وفي سندها الواقدي وهو متروك، لكن تشهد لها رواية الطبري في تاريخه 7/253، بألفاظ متقاربة.
قال الإمام الأوزاعي: "ما أدهن ابن شهاب لملك قط دخل عليه، ولا أدركت خلافة هشام أحداً من التابعين أفقه منه"1 فلا يصدق تلك التهمة إلا من أعمى الله بصيرته عن الحق الأبلج.
وذكر الحافظ ابن حجر أنه قد ورد عند ابن مردويه من وجه آخر عن الزهري قال: "كنت عند الوليد بن عبد الملك ليلة من الليالي، وهو يقرأ سورة النور مستلقياً فلما بلغ هذه الآية {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} حتى بلغ {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ} ، جلس ثم قال: يا أبا بكر من تولى كبره منهم؟ أليس علي بن أبي طالب؟ قال: فقلت في نفسي: ماذا أقول؟ لئن قلت: لا لقد خشيت أن ألقى منه شراً، ولئن قلت: نعم، لقد جئت بأمر عظيم، قلت في نفسي: لقد عودني الله على الصدق خيراً، قلت: لا، قال: فضرب بقضيبه على السرير ثم قال: فمن فمن؟ حتى ردد ذلك مراراً، وقلت: لكنه عبد الله بن أبي2.
وقد كان هشام بن عبد الملك يعتقد معتقد الوليد، فقد ذكر ابن حجر أن يعقوب بن شيبة أخرج في مسنده عن الحسن بن علي الحلواني عن الشافعي قال: حدثنا عمي قال: "دخل سليمان بن يسار على
1 المعرفة والتاريخ1/639، وتاريخ أبي زرعة رقم (950) وتاريخ دمشق رقم (264) ترجمة الزهري.
2 فتح الباري 7/437.
هشام بن عبد الملك، فقال له: يا سليمان الذي تولى كبره من هو؟ قال: عبد الله بن أبي، قال: كذبت، هو علي، قال: أمير المؤمنين أعلم بما يقول، فدخل الزهري فقال: يا ابن شهاب من الذي تولى كبره؟ قال: ابن أبي، قال: كذبت هو علي، فقال أنا أكذب لا أبا لك، والله لو نادى مناد من السماء أن الله أحل الكذب ما كذبت، حدثني عروة وسعيد وعبيد الله، وعلقمة عن عائشة: أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي1.
الشبهة الثانية: وضعه لحديث "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد
…
".
هذه الفرية ذكرها اليعقوبي فقال: "ومنع عبد الملك أهل الشام من الحج، وذلك أن ابن الزبير كان يأخذهم إذا حجوا بالبيعة، فلما رأى عبد الملك ذلك منعهم من الخروج إلى مكة، فضجّ الناس وقالوا: تمنعنا من حج بيت الله الحرام الذي هو فرض من الله علينا؟ فقال لهم: هذا ابن شهاب الزهري يحدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي، ومسجد بيت المقدس"2، وهو يقوم لكم مقام المسجد الحرام، وهذه الصخرة التي يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
1 الفتح 7/473، وقد أخرج هذه الرواية ابن عساكر في تاريخ دمشق ترجمة الزهري رقم (266) ، والسيوطي في الدر المنثور 6/157.
2 سيأتي تخريجه بعد قليل.
وضع قدمه عليها لما صعد إلى السماء تقوم لكم مقام الكعبة، فبنى على الصخرة قبةً، وعلق عليها ستور الديباج، وأقام لها سدنة، وأخذ الناس بأن يطوفوا حولها كما يطوفون حول الكعبة، وأقام بذلك أيام بني أمية"1.
والرد على هذه التهمة من وجوه:
1-
أن هذه الحكاية ساقطةٌ مردودةٌ حسب قواعد النقل والعقل، فهي من حيث الإسناد لا أصل لها، ومن حيث المتن هي منكرةٌ مخالفة للواقع التاريخي، وذلك:
أن هذه الحكاية تذكر أن عبد الملك منع الناس الذهاب للحج، ذلك لأن ابن الزبير كان يأخذهم إذا حجوا للبيعة، فيكون ذلك بين عام 65 و73هـ، لأن ابن الزبير قتل سنة 73هـ2.
والزهري إنما قدم على عبد الملك سنه 82هـ3، فكيف يعقل أن يكون الزهري وضع لعبد الملك بن مروان هذا الحديث وقد تبين أنه لم يلقه بعد!!
1 تاريخ البيعقوبي 2/261.
2 سير أعلام النبلاء 3/379.
3 المعرفة والتاريخ 3/333، وتاريخ دمشق رقم (2) و (10) من ترجمة الزهري، وأما وفوده على مروان بن الحكم فلا يصح، انظر: تاريخ دمشق رقم (10) .
2-
أن حديث "لا تشد الرحال"1 قد رواه الزهري عن شيوخِه من أهل المدينة كسعيد بن المسيب (ت94هـ) ، وعروة بن الزبير (ت97 وقيل قبلها) ، فهل يعقل أن يسكت هؤلاء دون أن ينكروا على الزهري ذلك وهم الغيورون على السنة، فسكوتهم مشاركة على وضعه.
3-
لو كان الأمر كذلك لعُدَّ قادحاً في علماءِ الحديثِ حفاظِ السنةِ وناقليها، والذابين عنها، في ذلك العصر وبعده حيث لم يتنبهوا ولم ينبهوا على ذلك، فعلم أن ذلك كذبٌ لا أصل له.
4-
أن الحديث المذكور له متابعاتٌ كثيرة للزهري. وله شواهد أخرى أيضاً عن غير أبي هريرة2.
فظهر إذاً أن دعوى الوضع باطلة.
الشبهة الثالثة: اتهامه بالنصب3.
1 الحديث أخرجه الحميدي رقم (943) ، وابن أبي شيبة (4/65) ، وعبد الرزاق في المصنف رقم (9158) ، وأحمد في المسند 12/191 رقم (7249) ، أرناؤوط والبخاري رقم (1189) ، ومسلم رقم (1397) ، والترمذي (2/124) ، وابن ماجه رقم (1/452) كلهم عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة به.
2 قد ورد هذا الحديث من غير طريق الزهري عن أبي هريرة، وثبت عن عدة من الصحابة، منهم: أبو بصرة الغفاري، وأبو سعيد الخدري، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وأبو الجعد الضمري، وعلي. ولذا حكم عليه الشيخ الألباني بأنه متواتر. انظر إرواء الغليل (3/226) رقم (773) .
3 أهل النصب الذين ناصبوا علياً رضي الله عنه أي أظهروا له العداء وفسقوه، أساس البلاغة للزمخشري 960، وفي القاموس: أهل النصب: المتدينون ببغض علي رضي الله عنه، لأنهم نصبوا له أي عادوه: نصب.
فقد اتهم الشيعة الزهري بذلك زوراً وبهتاناً.
ويُلحظ أن هذه التهم الثلاث كلها صادرة من الشيعة.
قال الطوسي: "محمد بن شهاب الزهري عدو"1.
وقال ابن أبي الحديد: "وكان الزهري من المنحرفين عنه عليه السلام" - يعني علي بن أبي طالب -2.
وهذه التهم مردودة من وجوه:
الأول: أن موقف الزهري من الوليد بن عبد الملك في قصة من تولى كبر الإفك دليل على حبه لعلي رضي الله عنه.
الثاني: أن مذهبه في علي رضي الله عنه هو مذهب أهل السنة من السلف الصالح حيث يقدم أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علياً - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - كما سيأتي في مبحث عقيدته.
الثالث: أن الزهري قد روى عن جماعة كبيرة من آل البيت منهم: كثير بن العباس بن عبد المطلب، وعبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وعبد الله والحسن ابنا محمد بن علي بن أبي طالب، وزين العابدين بن علي بن الحسن وزيد بن علي بن الحسن3، وأبو
1 رجال الطوسي 101.
2 شرح نهج البلاغة 4/102، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.
3 تهذيب الكمال 26/420-427.
جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي الباقر1.
الرابع: أنه قد أثنى على علي بن الحسين فقال فيه: "ما رأيت هاشمياً أفضل من علي بن الحسين"2.
وقال عنه: "كان علي بن الحسين من أفضل أهل بيته، وأفقههم، وأحسنهم طاعة، وأحبهم إلى مروان بن الحكم وابنه عبد الملك3.
وقال: "لم أدرك من أهل البيت أفضل من علي بن الحسين4.
بل قيل: إن من أصح الأسانيد: الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي5.
فكيف يعقل أن يكون ناصبياً، وآل البيت عنده بهذه المنزلة، سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم.
1 تهذيب الكمال 26/136.
2 المعرفة والتاريخ 1/544، وتاريخ أبي زرعة رقم (1477) والجرح والتعديل 6/178 رقم (977) .
3 الطبقات الكبرى لابن سعد 5/215، وتاريخ أبي زرعة رقم (973) .
4 الجرح والتعديل 6/178 رقم الترجمة (977) .
5 تاريخ دمشق رقم (130) وجامع الأصول 1/154، وانظر هامش (1) من نفس الصفحة حول كلام العلماء الذي نقله أحمد شاكر رحمه الله في أصح الأسانيد.