الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: في أحداث غزوة الخندق إجمالاً
80-
قال البيهقي1: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ: أخبرنا إسماعيل ابن محمد بن الفضل بن محمد الشعراني قال: حدثني جدي قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي قال: حدثنا محمد بن فليح2 عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب (ح) وأخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان ببغداد، واللفظ له، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن عتَّاب العبدي، قال: حدثنا القاسم بن عبد الله بن المغيرة قال: حدثني ابن أبي أويس قال: حدثنا
1 دلائل النبوة 3/ 398- 407، بسند حسن إلى الزهري، لكنه مرسل.
2 تقدمت تراجم رواة السند في الرواية رقم [1] و [7] .
إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن عمه موسى بن عقبة قال: خرج أبو سفيان وقريش ومن اتبعهم من مشركي العرب معهم حيي بن أخطب، واستمدوا عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر، فأقبل بمن أطاعه من غطفان.
وبنو أبي الحقيق كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق سعى في غطفان وحضهم على القتال على أن لهم نصف ثمر خيبر1، فزعموا أن الحارث ابن عوف2 أخا بني مرة قال لعيينة بن بدر وغطفان: يا قوم أطيعوني ودعوا قتال هذا الرجل وخلّوا بينه وبين عدوه من العرب، فغلب عليهم الشيطان، وقطع أعناقهم الطمع، فانقادوا لأمر عيينة بن بدر على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتبوا إلى حلفائهم من أسد، فأقبل طليحة3 فيمن اتبعه من بني أسد وهما حليفان: أسد وغطفان، وكتبت قريش إلى الرجال من بني سُليم أشرافٍ بينهم وبينهم أرحام، فأقبل أبو الأعور4 فيمن اتبعه من
1 خيبر سيأتي التعريف بها عند الحديث عن غزوة خيبر.
2 هو الحارث بن عوف بن أبي حارثة المزني من فرسان الجاهلية، قدم في وفد بني مرة منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك. الإصابة 1/ 286.
3 هو: طليحة بن خويلد بن نوفل بن فضلة بن الأشتر
…
الأسدي الفقعي، قدم في وفد بني أسد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد ارتد، فهرب إلى الشام، ثم أسلم إسلاماً صحيحاً، استشهد بنهاوند سنة إحدى وعشرين. الإصابة 2/ 234.
4 هو: عمرو بن سفيان بن عبد شمس بن سعد بن قائف
…
بن ثعلبة بن سليم أبو الأعور السلمي مشهور بكنيته، قال أبو عمر: شهد حنيناً مع مالك بن عوف ثم أسلم، الإصابة 2/ 540.
سليم مدداً لقريش، فخرج أبو سفيان في آخر السنتين فيمن اتبعه من قبائل العرب، وأبو الأعور فيمن اتبعه من بني سُليم، وعيينة بن بدر في جمع عظيم، فهم الذين سماهم الله الأحزاب1، فلما بلغ خروجهم النبي صلى الله عليه وسلم أخذ في حفر الخندق2، وخرج معه المسلمون فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده في العمل معهم، فعملوا مستعجلين ويبادرون قدوم العدو، ورأى المسلمون أنما بطش رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم في العمل ليكون أجدّ لهم وأقوى
1 إشارة لقوله تعالى: {يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ} الآية [سورة الأحزاب آية (20) ] إلى قوله تعالى: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب آية (22) ] .
2 يقع الخندق في المنطقة الشمالية من المدينة، بين سلع وأسفل حرة الوبرة إلى طرف واقم من الشمال الشرقي ليربط بينهما. انظر: معجم المعالم الجغرافية 114، والعمري في السيرة الصحيحة 2/ 420، والدر الثمين الغالي الشنقيطي 205.
وكان طوله: خمسة آلاف ذراع وعرضه تسعة أذرع، وعمقه من سبعة أذرع إلى عشرة، انظر: تفسير الطبري 21/ 33، ومجمع الزوائد 6/ 130، والفتح 7/ 397، وكان الذي أشار به سلمان الفارسي رصي الله عنه، انظر: ابن هشام 2/ 223، ومغازي الواقدي 2/ 445، وفتح الباري 7/ 393.
لهم بإذن الله عزوجل، فجعل الرجل يضحك من صاحبه إذا رأى منه فترة1، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يغضب اليوم أحد من شيء ارتجز2 به ما لم يقل قول كعب أو حسان فإنهما يجدان من ذلك قولاً كثيراً ونهاهما أن يقولا شيئاً يحفظان3 به أحداً، فذكروا أنه عرض لهم حجر في محفرهم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم معولاً من أحدهم فضرب به ثلاثاً فكسر الحجر في الثالثة، فزعموا أن سلمان الخير الفارسي4 أبصر عند كل ضربة برقة5 ذهبت في ثلاث وجوه كل مرة يتبعها سلمان بصره، فذكر ذلك سلمان6 لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: رأيت كهيئة البرق أو موج الماء عن ضربة ضربتها يا رسول الله، ذهبت إحداهن نحو المشرق والأخرى نحو الشام، والأخرى نحو اليمن،
1 فترة: أي ضعف. النهاية 3/ 408.
2 الرَّجز: بحر من بحور الشعر معروف ونوع من أنواعه. وتسمى قصائده أراجيز، فهو كهيئة السجع إلا أنه في وزن الشعر، ويسمى قائله راجز. النهاية 2/ 199.
3 يحفظان به: أي يغضبان. النهاية 1/ 408.
4 هو: سلمان أبو عبد الله الفارسي، ويقال له: سلمان الإسلام، وسلمان الخير، أصله من رام هرمز وقيل من أصبهان، وكان أول مشاهده الخندق، وشهد بقية المشاهد وفتوح العراق. الإصابة 2/ 62.
5 برقة: أي لمعان كالبرق. النهاية 1/ 120.
6 المعروف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي بشر الصحابة بالفتوحات عند تكسيره للحجرة التي عجز الصحابة عن تكسيرها، كما روى ذلك أحمد والنسائي وحسن الحافظ ابن حجر إسنادها. انظر: فتح الباري 7/ 397، والطبراني في الكبير 11/ 376.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وقد رأيت ذلك يا سلمان؟ " قال: نعم، قد رأيت ذلك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فإنه أُبْيضَ1 لي في إحداهن مدائن كسرى2 ومدائن من تلك البلاد، وفي الأخرى مدينة الروم، والشام، وفي الأخرى مدينة اليمن وقصورها، والذي رأيت النصر يبلغهن إن شاء الله"، وكان سلمان يذكر ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وكان سلمان رجلاً قوياً، فلما وكل رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل جانب من الخندق، قال المهاجرون: يا سلمان احفر معنا، فقال رجل من الأنصار: لا أحد أحق به منا، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنما سلمان منا أهل البيت"3.
[وقال عبد الله بن عباس: لما قتل الأسودَ العنسيَّ كذابَ صنعاء فيروز الديلمي وقدم قادمهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أسلموا قالوا: يا رسول الله من نحن؟ قال: "أنتم إلينا أهل البيت ومنا"، فلما قضوا حفر
1 البياض: ضد السواد، الإصابة 1/ 295، والمراد: أنه ظهر لي شيء أبيض.
2 المدائن: جمع مدينة وتقع هذه المدائن بين أرض الفرات ودجلة بناها الأكاسرة من آل ساسان، بينهما وبين بغداد ستة فراسخ. ياقوت 5/ 74- 75.
3 أخرجه ابن سعد في الطبقات 4/ 98، والحاكم 3/ 589، وقال الذهبي:"سنده ضعيف، وأخرجه الطبراني في الكبير 6/ 212 رقم (6040) قال في المجمع (6/ 130) : "وفيه كثير بن عبد الله المزني وقد ضعفه الجمهور وحسن الترمذي حديثه، وبقية رجاله ثقات"، وقال الألباني في ضعيف الجامع الصغير وزيادته ص 480- 481 رقم (3272) : "ضعيف جداً".
خندقهم وذلك في شوال سنة أربع، وهو عام الأحزاب] 1 وعام الخندق أقبل أبو سفيان بن حرب ومن معه من مشركي قريش ومن اتبعه من أهل الضلالة فنزلوا بأعلى وادي قناة من تلقاء الغابة، وغلقت بنو قريظة حصنهم، وتأشموا2 بحيي بن أخطب وقالوا: لا تكونوا من هؤلاء القوم في شيء فإنكم لا تدرون لمن تكون الدَّبْرة3، وقد أهلك حيي قومه ما حذروه، وأقبل حيي حتى أتى باب حصنهم، وهو مغلق عليهم، وسيد اليهود يومئذ كعب بن أسد، فقال حيي: أَثَمَّ كعب؟
قالت امرأته: ليس ههنا، خرج لبعض حاجاته.
فقال حيي: بل هو عندك مكث على جشيشته4 يأكل منها، فكره أن أصيب معه من العشاء.
فقال كعب: ائذنوا له فإنه مشؤوم، والله ما طرقنا بخير، فدخل حيي فقال: إني جئتك والله بعز الدهر إن لم تتركه عليّ، أتيتك بقريش وسقت إليك الحليفين: أسدٌ وغطفان فقال كعب بن أسد: إنما مثلي ومثل ما جئت به كمثل سحابة أفرغت ما فيها ثم انطلقت، ويحك يا حيي دعنا
1 من قوله: وقال ابن عباس إلى هنا، أظنه من كلام موسى بن عقبة، والله أعلم.
2 تأشموا: لعل معناها تشاءموا، والشؤم: ضد اليُمْن، وقد شأم فلان على قومه يشأمهم فهو شائم إذا جر عليهم الشؤم. اللسان (شأم) .
3 الدَّبَرْ: بالفتح الهلاك. النهاية 2/ 98.
4 الجشيشة: الحنطة تطحن طحناً جليلاً، ثم تجعل في القدور ويقلى عليها لحم أو تمر وتطبخ وقد يقال لها: دشيشة، النهاية 1/ 273.
على عهدنا لهذا الرجل فإني لم أر رجلاً أصدق ولا أوفى من محمد وأصحابه والله ما أكرهنا على دين ولا غصبنا مالاً ولا ننقم من محمد وعملك شيئاً، وأنت تدعو إلى الهلكة فنذكرك الله إلا ما أعفيتنا من نفسك.
فقال: والله لا أفعل ولا يختبزها محمد إلى يوم القيامة، ولا نفترق نحن وهذه الجموع حتى نهلك، وقال عمرو بن سعد القرظي: يا معشر يهود إنكم قد حالفتم محمداً على ما قد علمتم أن لا تخونوه ولا تنصروا عليه عدواً، وأن تنصروه على من دهم1 يثرب2، فأوفوا على ما عاهدتموه عليه فإن لم تفعلوا فخلوا بينه وبين عدوه، واعتزلوهم، فلم يزل بهم حيي حتى شامهم3، فاجتمع ملأهم في الغد على أمر رجل واحد، غير أن بني شعبة أسداً4 وأسيداً وثعلبة خرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم زعموا وقالت اليهود: يا حيي انطلق إلى أصحابك فإنا لا نأمنهم فإن أعطونا من أشرافهم من كل من جاء معهم رهناً5 فكانوا عندنا فإذا نهضوا لقتال
1 دهم: أي فاجأ. النهاية 2/ 145.
2 يثرب: هي مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم واسمها القديم (يثرب)، فغيرها وسماها:(طيبة الطيبة) كراهة للتثريب وهو اللوم والتعيير، وقيل سميت باسم رجل من العمالقة، وقيل: هو اسم أرضها. النهاية 5/ 292.
3 شامهم: أي عدل بهم عن رأيهم. القاموس، مادة (شمم) .
4 هم ممن أسلموا من بني قريظة. انظر: الإصابة 1/ 33.
5 قال في القاموس: "الرهن: ما وضع عندك لينوب مناب ما أخذ منك، القاموس مادة (رهن) ".
محمد وأصحابه خرجنا نحن فركبنا أكتافهم، فإن فعلوا ذلك فاشدد العقد بيننا وبينهم، فذهب حيي إلى قريش فعاقدوه على أن يدفعوا إليه السبعين، ومزقوا صحيفة القضية1 التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم، ونبذوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحرب وتحصنوا، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فعبأ أصحابه للقتال، وقد جعلهم المشركون في مثل الحصن بين كتائبهم، فحاصروهم قريباً من عشرين ليلة2، وأخذوا بكل ناحية حتى ما يدري الرجل أتم صلاته أم لا، ووجهوا نحو منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم كتيبة غليظة يقاتلونه يوماً إلى الليل، فلما حضرت الصلاة، صلاة العصر، دنت الكتيبة، فلم يقدر النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه الذين كانوا معه أن يصلوا الصلاة على نحو ما أرادوا فانكفأت الكتيبة مع الليل فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"شغلونا عن صلاة العصر ملأ الله بطونهم وقبورهم ناراً"3، وفي
1 هي الصحيفة التي عملها النبي صلى الله عليه وسلم وكتبها بين المسلمين واليهود عندما قدم المدينة بعد الهجرة وكان من ضمن بنودها: أن بينهم النصر جميعاً على من دهم يثرب، انظر هذه الصحيفة والوثيقة في رسالة هارون رشيد محمد إسحاق، بعنوان: صحيفة المدينة دراسة حديثية وتحقيق، من قسم الدراسات العليا من كلية التربية جامعة الملك سعود عام 1405هـ- ص133 فما بعدها.
2 وفي مصنف عبد الرزاق 5/ 367 رقم (9737) بضع عشرة ليلة، وتفسيره 1/ 83، وأخرج الواقدي في المغازي 2/ 291 من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب مرسلاً أن مدة الحصار كانت بضعة وعشرين يوماً، وأخرج كذلك ابن سعد في الطبقات الكبرى 2/ 73 عن الزهري عن ابن المسيب، وفي رواية أخرى لسعيد بن المسيب: أنهم حاصروهم أربعاً وعشرين ليلة. انظر: الإصابة 2/ 73.
3 أخرجه البخاري في الصحيح. انظر: الفتح 7/ 405 رقم (4111) وانظر رقم (4112) ورقم (2931) ورقم (4533) ومسلم في المساجد (627) باب التغليظ في تفويت الصلاة، وأبا داود في الصلاة رقم (409) ، وأحمد 2/ 129 رقم [591] أرناؤوط، والدارمي في الصلاة 1/ 280، باب في الصلاة الوسطى من طريق هشام بن حسان عن ابن سيرين عن عبيدة عن علي رصي الله عنه.
رواية ابن فليح: "بطونهم وقبورهم ناراً"1.
فلما اشتد البلاء على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه نافق ناس كثير وتكلموا بكلام قبيح، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فيه الناس من البلاء والكرب جعل يبشرهم ويقول:"والذي نفسي بيده ليفرجن عنكم ما ترون من الشدة، وإني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمناً، وأن يدفع الله عزوجل إليّ مفاتيح الكعبة، وليهلكن الله كسرى وقيصر ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله عزوجل".
وقال رجل ممن معه لأصحابه: ألا تعجبون من محمد يعدنا أن نطوف بالبيت العتيق وأن نقسم كنوز فارس والروم ونحن ههنا لا يأمن أحدنا أن يذهب الغائط، والله لما يعدنا إلا غروراً2، وقال آخرون ممن معه: إئذن لنا فإن بيوتنا عورة3، وقال آخرون: يا أهل يثرب لا مقام
1 هكذا في المطبوع من دلائل النبوة للبيهقي 3/ 402، ولعلها:"قبورهم وبطونهم ناراً"
2 ذكر الله عنهم ذلك في قوله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلاّ غُرُوراً} [الأحزاب آية رقم (12) ] .
3 حكى الله عنهم في ذلك في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاّ فِرَاراً} [الأحزاب آية (13) ] .
لكم فارجعوا1.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ أخا عبد الأشهل، وسعد بن عبادة وعبد الله بن رواحة2 وخوات بن جبير إلى بني قريظة ليكلموهم ويناشدوهم في حلفهم، فانطلقوا حتى أتوا باب حصن بني قريظة، استفتحوا ففُتح لهم، فدخلوا عليهم فدعوهم إلى الموادعة3 وتجديد الحلف، فقالوا: الآن وقد كسروا جناحنا، يريدون بجناحهم المكسورة بني النضير، ثم أخرجوهم وشتموا النبي صلى الله عليه وسلم شتماً، فجعل سعد بن عبادة يشاتمهم، فأغضبوه، فقال سعد بن معاذ لسعد بن عبادة: إنا والله ما جئنا لهذا ولَمَا بيننا أكثر من المشاتمة ثم ناداهم سعد بن معاذ فقال: إنكم قد علمتم الذي بيننا وبينكم يا بني قريظة، وأنا خائف عليكم مثل يوم بني
1 جزء من الآية السابقة.
2 هو عبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن عمرو بن امرئ القيس بن مالك الخزرجي الأنصاري الشاعر المشهور يكنى أبا محمد من السابقين الأولين من الأنصار وكان أحد النقباء ليلة العقبة، وشهد بدراً وما بعدها إلى أن استشهد بمؤتة. الإصابة 2/ 306.
3 الموادعة: يقال: توادع الفريقان: إذا أعطى كل واحد منهم الآخر عهداً ألَاّ يغزوه، النهاية (5/ 167) .
النضير أو أمّر منه.
فقالوا: أكلتَ أَيْر أبيك، فقال: غير هذا من القول كان أجمل وأحسن منه.
فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يئسوا مما عندهم، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوههم الكراهية لما جاءوا به، فقال: ما وراءكم؟
فقالوا: أتيناك من عند أخابث خلق الله وأعداهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وأخبروه بالذي قالوا، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتمان خبرهم وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه، وهم في بلاء شديد يخافون أشد من يوم أحد فقالوا: حين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً: ما وراءك يا رسول الله، قال:"خيراً فأبشروا"، ثم تقنع بثوبه فاضطجع ومكث طويلاً واشتد عليهم البلاء والخوف حين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفوا أنه لم يأته من بني قريظة خير، ثم إنه رفع رأسه فقال:"أبشروا بفتح الله ونصره"، فلما أصبحوا دنا القوم بعضهم إلى بعض، فكان بينهم رمي بالنبل والحجارة، قال ابن شهاب: قال سعيد بن المسيب1: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أسألك عهدك ووعدك، اللهم إن تشأ لا تعبد" 2، وأقبل نوفل بن عبد الله المخزومي وهو من المشركين
1 انظر: مصنف عبد الرزاق 5/ 367 رقم (9737) .
2 هذا الدعاء ذكره صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر كما في البخاري وغيره. انظر: الصحيح مع الفتح 7/ 287، وأخرجه ابن سعد عن الزهري، عن سعيد بن المسيب مرسلاً. الطبقات الكبرى 2/ 73.
على فرس له ليقحمه1 الخندق فقتله الله، وكبت به المشركين وعظم في صدورهم وأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إِنّا نعطيكم الدية على أن تدفعوه إلينا فندفنه، فرد إليهم النبي صلى الله عليه وسلم: إنه خبيث خبيث الدية، فلعنه الله، ولعن ديته، فلا أربَ2 لنا بديته، ولسنا مانِعِيكُم أن تدفنوه، ورمي سعد بن معاذ رمية فقطعت منه الأكحل3 من عضده4 ورماه زعموا حبان بن قيس5 أخو بني عامر بن لؤي، ثم أحد بني العَرِقَة6، ويقول آخرون: أبو أسامة الجشمي حليف بني مخزوم، وقال سعد بن معاذ: رب اشفني من بني قريظة قبل الممات فرَقَأَ7 الكلْم8 بعدما كان قد انفجر، وصبر أهل
1 ليقحمه: يقال: اقتحم الإنسان الأمر العظيم، وتقحمه، إذا رمى نفسه فيه من غير روية وتثبت. النهاية 4/ 18.
2 لا أرب: أي لا حاجة. النهاية 1/ 35.
3 الأكحل: عرق في وسط الذراع يكثر فصده. النهاية 4/ 154.
4 العضد: ما بين الكتف والمرفق. النهاية 3/ 252.
5 قال السهيلي: "هو حبان بن قيس بن العرقة. الروض 3/ 280، قال: وحبان هو عبد مناف بن منقذ بن عمرو بن معيص بن عامر بن لؤي. ويشهد له ما في صحيح البخاري فقد ذكر أن الذي رماه: حبان بن العرقة". انظر: الصحيح مع الفتح 7/ 411.
6 العَرِقَة: هي: قلابة بنت سعيد بن سعد بن سهم تكنى أم فاطمة، سميت العرقة لطيب ريحها. وهي جدة خديجة أم أمها هالة. الروض 3/ 280.
7 رقأ: يقال: رقأ الدمع والدم والعرق يرقأ رقوءاً بالضم إذا سكن وانقطع. النهاية 2/ 248.
8 الكلم: الجرح. النهاية 4/ 199.
الإيمان على ما رأوا من كثرة الأحزاب وشدة أمرهم، وزادهم يقيناً لموعد الله تبارك وتعالى الذي وعدهم، ثم رجع بعضهم عن بعض، ثم إن أبا سفيان أرسل إلى بني قريظة أن قد طال ثُواؤنا1 ههنا وأجدب2 من حولنا فما نجد رعياً للظهر، وقد أردنا أن نخرج إلى محمد وأصحابه فيقضي الله بيننا وبينهم فماذا ترون؟
وبعثت بذلك غطفان، فأرسلوا إليهم: أن نعم ما رأيتم فإذا شئتم فانهضوا فإنا لا نحبسكم إذا بعثتم بالرهن إلينا، وأقبل رجل من أشجع يقال له نعيم بن مسعود3 يذيع4 الأحاديث وقد سمع الذي أرسلت به قريش وغطفان إلى بني قريظة والذي رجعوا إليهم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم أشار إليه وذلك عشاءً، فأقبل نعيم بن مسعود حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قُبَّةً له تُركية ومعه نفر من أصحابه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما وراءكم؟ ".
1 ثوى: المثوى المنزل من ثوى بالمكان يثوي إذا أقام فيه. النهاية 1/ 230.
2 الجدْب: هو القحط، وهي الأرض التي لا نبات فيها. النهاية 1/ 242- 243.
3 هو: نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف بن ثعلبة بن قنفذ الأشجعي يكنى أبا سلمة الأشجعي أسلم ليالي الخندق، وهو الذي أوقع الخلف بين الحيين قريظة وغطفان، قتل في أول خلافة علي رصي الله عنه، وقيل مات في خلافة عثمان رصي الله عنه. الإصابة 3/ 568.
4 ذاع الخبر يذيع ذيعاً وذيوعاً: انتشر، والمذياع: بالكسر من لا يكتم السر. القاموس (ذاع) .
قال: إنه والله مالك طاقة بالقوم وقد تحزبوا عليك وهم معالجوك، وقد بعثوا إلى بني قريظة أنه قد طال ثواؤنا وأجدب ما حولنا وقد أحببنا أن نعاجل محمداً وأصحابه فنستريح منهم، فأرسلت إليهم بنو قريظة: أن نعم ما رأيتم فإذا شئتم، فابعثوا بالرهن ثم لا يحبسكم إلا أنفسكم.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني مسر إليك شيئاً فلا تذكره"، قال: نعم، قال:"إنهم قد أرسلوا إليّ يدعونني إلى الصلح وأرد بني النضير إلى دورهم وأموالهم"، فخرج نعيم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غطفان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الحرب خدعة1، وعسى الله أن يصنع لنا"، فأتى نعيم غطفان فقال: إني لكم ناصح وإني قد اطلعت على غدر يهود، تعلمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكذب قط، وإني سمعته يحدث أن بني قريظة، قد صالحوه على أن يرد عليهم إخوانهم من بني النضير إلى ديارهم وأموالهم، ويدفعوا إليه الرهن، ثم خرج نعيم ين مسعود الأشجعي حتى أتى أبا سفيان بن حرب وقريشاً فقال: اعلموا أني قد اطلعت على غدر يهود،
1 خدعة: قال النووي: فيها ثلاث لغات مشهورات، واتفقوا على أن أفصحهن خَدعة بفتح الخاء وإسكان الدال، والثانية بضم الخاء، والثالثة بضم الخاء وفتح الدال، النووي على مسلم 12/ 45.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "الحرب خدعة" أخرجه البخاري في الجهاد رقم (3030) ، ومسلم في الجهاد رقم (1739) ، وأبو داود رقم (2636) ، والترمذي في الجهاد رقم (1675) .
إني سمعت محمداً يحدث أن بني قريظة صالحوه على أن يرد عليهم إخوانهم من بني النضير إلى دورهم وأموالهم، على أن يدفعوا إليه الرهن ويقاتلون معه ويعيدون الكتاب الذي كان بينهم، فخرج أبو سفيان إلى أشراف قريش فقال: أشيروا عليّ وقد ملّوا مقامهم، وتعذرت عليهم البلاد، فقالوا: نرى أن نرجع ولا نقيم فإن الحديث على ما حدثك نعيم والله ما كذب محمد، وإن القوم لغدر.
وقال الرُّهْن حين سمعوا الحديث: والله لا نأمنهم على أنفسنا ولا ندخل حصنهم أبداً، قال أبو سفيان: لن نعجل حتى نرسل إليهم فنتبين ما عندهم، فبعث أبو سفيان إليهم عكرمة بن أبي جهل وفوارس، وذلك ليلة السبت، فأتوهم فكلموهم فقالوا: إنا مقاتلون غداً فاخرجوا إلينا.
قالوا: إن غداً السبت وإنا لا نقاتل فيه أبداً.
قال عكرمة: إنا لا نستطيع الإقامة، هلك الظهر والكراع ولا نجد رعياً.
قالت اليهود: إنا لا نعمل يوم السبت عملاً بالقتال، ولكن امكثوا إلى يوم الأحد، وابعثوا إلينا بالرهن، فرجع عكرمة وقد يئس من نصرهم، واشتد البلاء والحصر على المسلمين وشغلتهم أنفسهم فلا يستريحون ليلاً ولا نهاراً، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث رجلاً فيخرج من الخندق فيعلم ما خبر القوم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من أصحابه1 فقال: "هل أنت
1 الذي في صحيح مسلم 3/ 1414- 1415 رقم (1788)"أن النبي صلى الله عليه وسلم انتدب حذيفة بن اليمان رصي الله عنه بعد أن نادى في الناس أن يأتوه بخبر القوم، فلما لم يجبه أحد عين حذيفة رصي الله عنه"، ولم أر في المصادر التي وقفت عليها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً من أصحابه فاعتل.
مطلع القوم؟ "
فاعتل1 فتركه، وأتى آخر، فقال مثل ذلك، وحذيفة بن اليمان يسمع ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في ذلك صامت لا يتكلم مما به من الضر والبلاء، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يدري من هو، فقال:"من هذا؟ " قال: أنا حذيفة بن اليمان، قال:"إياك أريد، أسمعت حديثي منذ الليلة ومسألتي الرجال لأبعثهم فيتخبرون لنا خبر القوم؟ "
قال حذيفة: والذي بعثك بالحق إنه لبأُذني، قال:"فما منعك أن تقوم حين سمعت كلامي؟ "
قال: الضر والجوع، فلما ذكر الجوع، ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"قم حفظك الله من أمامك ومن خلفك ومن فوقك ومن تحتك وعن يمينك وعن شمالك حتى ترجع إلينا،" فقام حذيفة مستبشراً بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه احتمل احتمالاً، فما شكا من جوع ولا خوف ولا درى شيئاً مما أصابه قبل ذلك من البلاء، فانطلق حتى أجاز الخندق من أعلاه، فجلس بين ظهري المشركين، فوجد أبا سفيان قد أمرهم أن يوقدوا
1 اعتل: العلة بالكسر: المرض. القاموس 1338 (علل) .
النيران، وقال: ليعلم كل امرئ مَنْ جليسه، فقبض حذيفة على يد رجل عن يمينه، فقال: من أنت؟ قال: أنا فلان، وقبض يد رجل عن يساره قال: من أنت؟ قال: أنا فلان، وبَدَرَهُم بالمسألة خشية أن يفطنوا له، ثم إن أبا سفيان أذَّن بالرحيل، فارتحلوا وحملوا الأثقال، فانطلقت ووقفت الخيل ساعة من الليل، ثم انطلقت، وسمعت غطفان الصياح والإرصاء1 من قبل قريش، فبعثوا إليهم، فأتاهم الخبر برحيلهم فانقشعوا2 لا يلوون على شيء، وقد كان الله عزوجل قَبْلَ رحيلهم قد بعث عليهم بالريح3 بضع عشرة ليلة، حتى ما خلق الله لهم بيتاً يقوم، ولا رمحاً حتى ما كان في الأرض منزل أشد عليهم ولا أكره إليهم من منزلهم ذلك، فأقشعوا والريح أشد ما كانت معها جنود الله لا تُرى كما قال الله عزوجل4، ورجع حذيفة ببيان خبر القوم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي - وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج محمد بن مسلمة وأصحابه فقتلوا كعب بن الأشرف، فلم يزل قائماً يصلي حتى فرغوا منه وسمع التكبير، - ولما دنا
1 لم يتبين لي معناها.
2 انقشعوا: تفرقوا. القاموس المحيط (قشع) .
3 إشارة لقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا
…
} الآية [الأحزاب آية رقم (9) ] .
4 قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} [الأحزاب آية رقم (9) ] .
حذيفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يدنو حتى ألصق ظهره برجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فثنا ثوبه حتى دفئ، ثم انصرف إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن القوم، فأخبره الخبر، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون قد فتح الله عزوجل لهم وأقرّ أعينهم، فرجعوا إلى المدينة شديداً بلاؤهم مما لقوا من محاصرة العدوّ، وكانوا حاصروهم في شتاء شديد فرجعوا مجهودين فوضعوا السلاح1.
1 وقد أخرج الواقدي في المغازي 2/486 من طريق معمر، عن الزهري مرسلاً نحوه.