الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: نشأته وطلبه للعلم، ومنزلته العلمية
المطلب الأول: نشأته وطلبه للعلم
…
المبحث الثاني: نشأته وطلبه للعلم، ومنزلته العلمية
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: نشأته وطلبه للعلم:
نشأ الزهري في المدينة فقيراً لا مال له مقطعاً من الديوان1، حتى ضاقت عليه الأرض، فلا يدري أين يتجه، ليحصل على مالٍ يسدُّ به حاجته وأهل بيته، ويقضي ديونه، حتى ألهمه ربه بالتوجه إلى الشام، فوفد على عبد الملك بن مروان سنة اثنتين وثمانين فقضى دينه، وفرّج الله همّه على يد الخليفة عبد الملك بن مروان2، ثم كرّ راجعاً إلى المدينة، ثم جعل يتردد بين الشام والحجاز حتى توفاه الله.
1 الطبقات الكبرى (القسم المتمم لتابعي أهل المدينة ومن بعدهم) ص 157، تحقيق: زياد منصور، من طريق الواقدي، وأخرجه الفسوي في المعرفة (1/ 628) ، من طريق ابن أبي فروة عن الزهري، وتاريخ دمشق (ترجمة الزهري 12) تحقيق: شكر الله قوجاني.
2 المصادر السابقة.
كانت بداية طلبه للعلم بالمدينة النبوية صغيراً، فبدأ - كما هو معتاد عند أبناء المسلمين - بحفظ القرآن الكريم، فحفظه في ثمانين ليلةً1، ثم أقبل على تعلِّم الأنساب، فذهب إلى عبد الله بن ثعلبة بن صُعير العدوي، وكان عالماً بالأنساب، فجلس يتعلم منه الأنساب عامةً ونسب قومه خاصةً، فجاء رجلٌ يسأل عبد الله بن ثعلبة عن مسألة فقهية في الطلاق فَعَيِيَ عن الجواب، وأشار إلى سعيد بن المسيب، فقال الزهري: قلت في نفسي: ألا أراني مع هذا الرجل المسن يعقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على رأسه2 وهو لا يدري ما هذا! فانطلقت مع السائل إلى سعيد بن المسيب، فجالسته سبع حجج، وأنا لا أظن أن أحداً عنده علم غيره3.
وفي رواية: أن السائل عن المسألة الفقهية هو الزهري نفسه، فقال: إن كنت تريد هذا فعليك بهذا الشيخ سعيد بن المسيب4.
ومهما يكن، فقد ترك الزهري تعلم الأنساب، واتجه إلى تعلم
1 التاريخ الكبير للبخاري (1/ 220) ، والمعرفة والتاريخ للفسوي (1/ 633و349) وتاريخ دمشق (49- 50) .
2 يقصد بالمسح، مسح النبي صلى الله عليه وسلم وجهه عام الفتح كما في تاريخ البخاري الكبير (5/ 35- 36)، ولفظه:"كان النبي صلى الله عليه وسلم قد مسح وجهه عام الفتح".
3 انظر: الطبقات الكبرى (157- 158) ، والتاريخ الكبير للبخاري (5/ 35- 36) ، والمعرفة والتاريخ (1/ 472) ، وتاريخ دمشق (65) رقم (72) .
4 المصادر السابقة، والتاريخ الصغير للبخاري (1/ 157 - 158) .
الأحكام، فجدَّ واجتهد في تحصيل العلم حتى فاق أقرانه.
قال عنه إبراهيم بن سعد الزهري: ما سبقنا ابن شهاب بشيء من العلم إلا أنه كان يشدُّ ثوبه عند صدره، ويسأل عما يريد، وكنا تمنعنا الحداثة1.
وقال إبراهيم بن سعد أيضاً: قلت لأبي: بِمَ فاقكم الزهري؟ قال: كان يأتي المجالس من صدورها، ولا يأتيها من خلفها، ولا يبقي في المجلس شاباً إلا سأله، ولا كهلاً إلا سأله، ولا فتى إلا سأله، ثم يأتي الدار من دور الأنصار فلا يُبقي شاباً إلا سأله، ولا كهلاً إلا سأله، ولا فتى إلا سأله، ولا عجوزاً إلا سألها، ولا كهلةً إلا سألها، حتى يحاول ربات الحجال2.
وقال أبو الزناد3: "كنا نكتب الحلال والحرام، وكان ابن شهاب يكتب كل ما سمع، فلما احتيج إليه علمت أنه أعلم الناس"4.
وقال أيضاً: "كنت أطوف أنا وابن شهاب، ومع ابن شهاب الألواح
1 الطبقات الكبرى (2/ 388 - 389) ، و (168) من القسم المتمم، تحقيق: زياد، والمعرفة (1/ 638) ، وتاريخ دمشق (56 - 57) رقم (55 و56) .
2 الرامهرمزي، المحدث الفاضل (260 - 261) ، وتهذيب الأسماء واللغات (1/92) ، وتهذيب الكمال (9/ 449) .
3 عبد الله بن ذكوان القرشي أبو عبد الرحمن المدني المعروف بأبي الزناد، ثقة فقيه، من الخامسة، ت سنة ثلاثين وقيل بعدها، ع، التقريب (ص:302) .
4 تاريخ دمشق (ص: 58) رقم (58) .
والصحف، قال: فكنا نضحك به"1.
وقال صالح بن كيسان: "كنت أطلب العلم أنا والزهري، قال: فقال - أي الزهري - نكتب السنن، قال: فكتبنا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: تعال نكتب ما جاء عن الصحابة، قال: فكتب ولم أكتب، قال: فأنجح وضيعت"2.
ولعل الزهري كان حريصاً على أخذ العلم ممن عرف عنهم مثل سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وغيرهما من قريش، حتى وفد على عبد الملك3، فجعل عبد الملك يسائله عمن لقي، قال الزهري: فجعلت أسمي له وأخبره بمن لقيت من قريش لا أعدوهم، فقال عبد الملك: فأين أنت عن الأنصار؟ فإنك واجدٌ عندهم علماً، أين أنت عن ابن سيدهم خارجة بن زيد بن ثابت؟ أين أنت عن عبد الرحمن بن يزيد بن جارية؟ قال: فسمى رجالاً منهم، قال: فقدمت المدينة فسألتهم وسمعت منهم، فوجدت عندهم علماً كثيراً4.
1 المعرفة والتاريخ (1/ 639) ، وتاريخ أبي زرعة رقم (967) ، وتاريخ دمشق (60) رقم (61) من ترجمة الزهري.
2 الطبقات الكبرى (2/ 388) و (ص: 168) من القسم المتمم، تحقيق: زياد، والمعرفة والتاريخ (1/ 637)، وتاريخ أبي زرعة رقم:(966) ، والحلية لأبي نعيم (3/ 360) ، وشرح السنة للبغوي (1/ 296) ، وتاريخ دمشق (62) رقم (65) .
3 عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي، أمير المؤمنين. التقريب (ص: 365) .
4 الطبقات الكبرى (162) ، من القسم المتمم، وتاريخ دمشق (65) رقم (71) .
غير أنه داوم على الأخذ من أربعة كلهم بحور في العلم سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، كان هؤلاء قد أخذوا علمهم عن الصحابة فضم علمهم إلى علمه1، فصار أوحد أهل زمانه، ونجم أقرانه.
وقد ساعده على ذلك أمور منها: كتابته، فقد كان يكتب كل ما سمع، ومنها قوة حافظته وذاكرته فقد توفرت عنده الأدوات التي يحتاجها طالب العلم، وهي الكتابة والحفظ والذكاء والفهم، فسبحان المعطي، فقد روي عنه قال: ما استودعت قلبي شيئاً قط فنسيته2.
وقال معمر3: "سمعت الزهري يقول: ما قلت لأحد أعد عليّ"4.
وقال الزهري: "اختلفت من الشام إلى الحجاز خمساً وأربعين سنة، فما كنت أسمع حديثاً أستطرفه"5.
1 المعرفة والتاريخ (1/ 622 - 623) و (1/ 714) ، وتاريخ دمشق رقم (227) ترجمة الزهري، والتمهيد (5/ 108) ، والإرشاد للخليلي (1/ 89) .
2 التاريخ الكبير (1/ 22) ، والمعرفة والتاريخ (1/ 625 و635) ، وتاريح أبي زرعة رقم (952) ، والحلية لأبي نعيم (3/ 363) ، وتاريخ دمشق (72) رقم (73) ورقم (74) .
3 ستأتي ترجمته في مبحث (تلاميذ الزهري) .
4 تاريخ دمشق (84) رقم (93) من ترجمة الزهري.
5 المعرفة والتاريخ (1/ 363) ، وتاريخ أبي زرعة رقم (948) ، والحلية لأبي نعيم (3/ 362) .
وقال: "ما استعدت حديثاً قط، ولا شككت في حديث، إلا حديثاً واحداً، فسألت صاحبي فإذا هو كما حفظت"1.
وقد اختبره هشام بن عبد الملك ذات يومٍ، فسأل الزهري أن يملي على بعض ولده، فدعا بكاتب، فأملى عليه أربع مائة حديث، ثم خرج الزهري من عند هشام، قال: أين أنتم يا أصحاب الحديث، فحدثهم بتلك الأربع مائة حديث، ثم أقام هشامٌ شهراً أو نحوه، ثم قال للزهري: إن ذلك الكتاب الذي أمليت علينا قد ضاع، قال: فلا عليك، ادع بكاتبٍ، فدعا بكاتب فحدثه بالأربع مائة حديث، ثم قابل هشام بالكتاب الأول، فإذا هو لا يغادر حرفاً واحداً2.
وقال مالك بن أنس: حدث الزهري يوماً بحديث فلما قام قمت فأخذت بعنان دابته فاستفهمته، قال: تستفهمني؟ ما استفهمت عالماً قط ولا رددت شيئاً على عالم قط، قال: فجعل عبد الرحمن بن مهدي يعجب ويقول: فَذِيْكَ الطِّوال3 وتلك المغازي! 4.
1 الطبقات الكبرى (166) القسم المتمم، والحلية (3/ 363) ، وتاريخ دمشق (85) ترجمة الزهري.
2 المعرفة والتاريخ (1/ 640) ، وتاريخ دمشق (89) رقم (102) من ترجمة الزهري.
3 أي الأحاديث الطوال.
4 الجرح والتعديل (8/ 72) رقم (318) ، وتاريخ دمشق (76) رقم (80) من ترجمة الزهري، وتهذيب الكمال (26/ 343) .
وقال مالك أيضاً: أخذت بلجام بغلة الزهري فسألته أن يعيد عليّ حديثاً، فقال: ما استعدت حديثاً قط1.
وفي رواية أخرى قال: حدثنا ابن شهاب أربعين حديثاً فتوهمت في حديث منها، فانتظرته حتى خرج فأخذت بلجام بغلته ثم سألته عن حديث واحد شككت فيه فقال: أو لم أحدثكه؟ قال: قلت: بلى، ولكني توهمت فيه، فقال: لقد فسدت الرواية، خل لجام الدابة، فخليته ومضى2.
1 تاريخ دمشق (79) رقم (84) .
2 تاريخ دمشق (83) رقم (92) من ترجمة الزهري.