المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الرابع: في ذكر أحداث غزوة أحد إجمالا - مرويات الإمام الزهري في المغازي - جـ ١

[محمد بن محمد العواجي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد:

- ‌الباب الأول: في ترجمة الإمام الزهري

- ‌الفصل الأول: في حياة الإمام الزهري ومنزلته العلمية

- ‌المبحث الأول: في اسمه ونسبه وكنيته وصفته ومولده

- ‌المبحث الثاني: نشأته وطلبه للعلم، ومنزلته العلمية

- ‌المطلب الأول: نشأته وطلبه للعلم

- ‌المطلب الثاني: منزلته العلمية

- ‌المبحث الثالث: في ذكر شيوخه الذين روى عنهم المغازي

- ‌المطلب الأول: في ذكر شيوخه الذين روى عنهم روايات قليلة في المغازي

- ‌المطلب الثاني: في ذكر شيوخه الذين أكثر عنهم، وكان لهم تأثير عليه

- ‌المبحث الرابع: في ذكر تلاميذه الذين رووا عنه المغازي وأبرزهم

- ‌المطلب الأول: في ذكر تلاميذه الذين رووا عنه روايات قليلة في المغازي، مرتبين على حروف المعجم

- ‌المطلب الثاني: في أبرز تلاميذه وأوثقهم

- ‌المطلب الثالث: في تلاميذه الذين ألّفوا في المغازي:

- ‌المبحث الخامس: في مروياته المرسلة ونسبة التدليس إليه

- ‌المطلب الأول: في مراسيله

- ‌المطلب الثاني: في نسبة التدليس

- ‌المبحث السادس: في بعض الشبهات التي أثيرت حوله

- ‌المبحث السابع: في عقيدته

- ‌المبحث الثامن: في وفاته وسنِّه

- ‌الفصل الثاني: في أثر الزهري في المغازي

- ‌المبحث الأول: هل له كتاب في المغازي

- ‌المبحث الثاني: في منهجه في روايات المغازي

- ‌المبحث الثالث: في القيمة العلمية لمغازي الزهري

- ‌الباب الثاني: في سرايا النبي صلى الله عليه وسلم وغزواته

- ‌الفصل الأول: في الأحداث التي سبقت غزوة بدر الكبرى

- ‌المبحث الأول: في بعث حمزة إلى سيف البحر

- ‌المبحث الثاني: في بعث عبد الله بن جحش

- ‌الفصل الثاني: في غزوة بدر الكبرى والأحداث التي أعقبتها

- ‌المبحث الأول: في تاريخ الغزوة وعدد جيش المسلمين والمشركين

- ‌المبحث الثاني: في ذكر أحداث الغزوة إجمالاً

- ‌المبحث الثالث: في استفتاح أبي جهل

- ‌المبحث الرابع: في رمي النبي صلى الله عليه وسلم حصيات في وجوه المشركين

- ‌المبحث الخامس: في عدد أسرى المشرك

- ‌المبحث السادس: في نزول الملائكة بدراً

- ‌المبحث السابع: في منِّ الرسول صلى الله عليه وسلم على بعض كفار قريش

- ‌المبحث الثامن: في مجيء وفد قريش بفداء أسراهم، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: لو كان المطعم حياً

- ‌المبحث التاسع: مطالبة الأنصار الرسول صلى الله عليه وسلم بترك فداء العباس

- ‌المبحث العاشر: مقدار فداء العباس بن عبد المطلب

- ‌المبحث الحادي عشر: في أسر أبي العاص بن الربيع يوم بدر وردّ النبي صلى الله عليه وسلم ابنته عليه

- ‌المبجث الثاني عشر: فيمن لم يحضر بدراً لعذر، وأُعطي سهماً:

- ‌المبحث الثالث عشر: في اصطفاء الرسول صلى الله عليه وسلم سيفه ذا الفقار يوم بدر

- ‌المبحث الرابع عشر: في وقع هزيمة بدر على المشركين

- ‌المبحث الخامس عشر: في محاولة عمير بن وهب قتل النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث السادس عشر: فيمن شهد بدراً من المهاجرين والأنصار وحلفائهم رضي الله عنهم

- ‌المبحث السابع عشر: في غزوة السَّوِيْق

- ‌المبحث الثامن عشر: في غزوة بني قينقاع

- ‌المبحث العشرون: في تاريخ غزوة بني النضير

- ‌المبحث الحادي والعشرون: في مصير أموال بني النضير

- ‌الفصل الثالث: في غزوة أحد والأحداث التي أعقبتها

- ‌المبحث الأول: في سبب وقعة أحد

- ‌المبحث الثاني: في تاريخ الغزوة

- ‌المبحث الثالث: في عدد جيش المسلمين والمشركين يوم أحد

- ‌المبحث الرابع: في ذكر أحداث غزوة أحد إجمالاً

- ‌المبحث الخامس: في ردِّ النبي صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة لصغرهم

- ‌المبحث السادس: طلب الأنصار من النبي صلى الله عليه وسلم الاستعانة بحلفائهم من اليهود

- ‌المبحث السابع: في قتل النبي صلى الله عليه وسلم أبيّ بن خلف يوم أحد

- ‌المبحث الثامن: في إلقاء النوم على المسلمين يوم أحد

- ‌المبحث التاسع: في شهود النساء الغزوات

- ‌المبحث العاشر: في ما لقيه النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد

- ‌المبحث الحادي عشر: في مقتل حمزة رضي الله عنه

- ‌المبحث الثاني عشر: في تسمية من استشهد بأحد من طريق الزهري

- ‌المبحث الثالث عشر: في كيفية دفن شهداء أحد وعدم الصلاة عليهم

- ‌المبحث الرابع عشر: غزوة بدر الآخرة

- ‌الفصل الرابع: في الأحداث التي وقعت بعد غزوة أحد حتى بداية غزوة بني المصطلق

- ‌المبحث الأول: في غزوة بن سليم ببحران بناحية الفرع

- ‌المبحث الثاني: في مقتل كعب بن الأشرف

- ‌المبحث الثالث: في سرية مقتل ابن أبي الحُقيق

- ‌المبحث الرابع: في سرية عبد الله بن أنيس إلى سفيان بن عبد الله بن نبيح الهذلي

- ‌المبحث السابع: في أَثَرِ وقعة بئر معونة على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين

- ‌المبحث الثامن: في غزوة ذات الرقاع

- ‌الفصل الخامس: في غزوة بني المصطلق من خزاعة وهي غزوة المريسيع

- ‌المبحث الأول: في تايخ الغزوة

- ‌المبحث الثاني: في مقولة ابن أبيّ في غزوة بني المصطلق

- ‌المبحث الثالث: في حديث الإفك وبراءة عائشة رضي الله عنها

- ‌المبحث الرابع: في الذي تولى كبر الإفك

- ‌المبحث الخامس: في جلد أهل الإفك

- ‌المبحث السادس: في سبي جويرية بنت الحارث

- ‌المبحث السابع: في ضرب صفوان لحسان بالسيف

- ‌المبحث الثامن: في مقدار سبي غزوة بني المصطلق

- ‌الفصل السادس: في غزوة الخندق والأحداث التي أعقبتها

- ‌المبحث الأول: في سبب غزوة الخندق

- ‌المبحث الثاني: في تايخ الغزوة

- ‌المبحث الثالث: في أحداث غزوة الخندق إجمالاً

- ‌المبحث الرابع: في هَمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعقد الصلح بينه وبين غطفان وعدوله عن ذلك

- ‌المبحث الخامس: في شهداء المسلمين وقتلى المشركين يوم الخندق

- ‌المبحث السادس: في غزوة بني قريظة

- ‌المطلب الأول: في تحديد خروجه إليهم

- ‌المطلب الثاني: في تخذيل نعيم بن مسعود الأحزاب

- ‌المطلب الثالث: في أحداث غزوة بني قريظة إجمالاً

- ‌المبحث السابع: في غزوة بني لحيان

- ‌المبحث الثامن: في سرية زيد بن حارثة إلى بني سُليم بالجَمُوم

- ‌المبحث التاسع: في سرية زيد بن حارثة إلى بني فزارة لقتل أم قِرْفة

- ‌المبحث العاشر: في سرية عبد الله بن رواحة إلى اليُسير بن رزام اليهودي بخيبر

الفصل: ‌المبحث الرابع: في ذكر أحداث غزوة أحد إجمالا

‌المبحث الرابع: في ذكر أحداث غزوة أحد إجمالاً

37-

قال البيهقي في الدلائل1: أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان ببغداد، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن عتاب، قال: حدثني القاسم بن عبد الله بن المغيرة، قال: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، قال: حدثني إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن عمه موسى بن عقبة، وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ في المغازي، قال: أخبرنا إسماعيل بن محمد بن الفضل، قال: حدثنا جدي، قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر، قال: حدثنا محمد بن فليح عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب، وهذا لفظ حديث إسماعيل عن عمه: موسى بن عقبة قال:

ورجعت2 قريش فاستجلبوا من استطاعوا من مشركي العرب، وسار أبو سفيان بن حرب في جمع قريش وذلك في شوال من العام المقبل من وقعة بدر، حتى طلعوا من بئر الحماوين3، ثم نزلوا ببطن الوادي4

1 دلائل النبوة 3/206، وسندها حسن، وقد تقدم تراجم إسناد هذه الرواية.

2 أي من بدر، كما ستحددها روايات أخرى ستأتي قريباً.

3 لم أجد له تعريفاً بعد البحث.

4 اسم هذا الوادي (وادي قناة) بفتح القاف والنون وألف، وآخرها هاء، انظر معجم البلدان لياقوت الحموي 4/399، وانظر: وفاء الوفاء للسمهودي 3/1074، والمدينة بين الماضي والحاضر للعياشي 490، ومعجم المعالم الجغرافية للبلادي 258.

ص: 334

الذي قِبَل أُحد، وكان رجال من المسلمين الذين لم يشهدوا بدراً ندموا على ما فاتهم من سابقة بدر، وتمنوا لقاء العدوّ، وليبلوا ما أبلى إخوانهم يوم بدر فلما نزل أبو سفيان والمشركون بأصل أُحدٍ، فرح المسلمون الذين لم يشهدوا بدراً بقدوم العدوّ عليهم، وقالوا: قد ساق الله إلينا بأمنيتنا، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري ليلة الجمعة رؤيا فأصبح فجاءه نفر من أصحابه، فقال:" رأيت البارحة في منامي بَقَراً والله خير"، وفي رواية ابن فليح "بقَراً تُذْبح"، ورأيت سيفي ذا الفقار انفصم1 من عند ظُبَّته2 - أو قال: به فلول3 فكرهته وهما مُضَبَّبتان - ورأيت أني في درع حصينة4 وأني مردف كبشاً، فلما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم برؤياه، قالوا: يا رسول الله! ماذا أولت رؤياك؟

قال: أوّلت البقر الذي رأيت نفراً فينا وفي القوم، وكرهت ما رأيت

1 انفصم: انقطع، وفصمه يفصمه: كسره فانفصم وتفصم، القاموس 1478 مادة (فصم) .

2 ظبة السيف: أي طرفه وحده. النهاية لابن الأثير 3/ 156، ولسان العرب 2/ 641.

3 الفلة: الثلمة في السيف، وجمعها: فلول. النهاية 3/ 472.

وأخرج الواقدي في المغازي (1/ 209) عن الزهري، عن عروة، عن المسور بن مخرمة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ورأيت في سيفي فلاً فكرهته"، فهو الذي أصاب وجهه صلى الله عليه وسلم.

4 المراد بالدرع الحصينة: المدينة، وذلك كما جاء في تأويله صلى الله عليه وسلم لهذه الرؤيا انظر: مسند أحمد 4/ 259 رقم (2445) بتحقيق: شعيب الأرناؤوط وزملائه.

ص: 335

بسيفي"، ويقول رجال: وكان الذي رأى بسيفه الذي أصاب وجهه فإن العدو أصابوا وجهه يومئذ، وفصموا رَباعيته، وخرقوا شفته، يزعمون أن الذي رماه عتبة بن أبي وقاص، وكان البَقَرُ من قُتل يومئذ من المسلمين، وقال: "أولت الكبش أنه كبش كتيبة العدو فقتله"، وفي رواية ابن فليح: "يقتله الله، وأوّلت الدرع الحصينة المدينة، فامكثوا1، وأجمعوا الذراري في الآطام2، فإن دخل علينا القوم في الأزقة قاتلناهم"، ورموا من فوق البيوت وكانوا قد شكوا أزقة المدينة بالبنيان، حتى كانت كالحصن.

فقال الذين لم يشهدوا بدراً: كنا يا نبي الله نتمنى هذا اليوم وندعو الله، فقد ساقه الله إلينا وقرَّب المسير.

وقال رجال من الأنصار: متى نقاتلهم يا نبي الله إن لم نقاتلهم عند شَعَبِنا3؟

وقال رجال: ماذا نمنع إذا لم نمنع الحرث يزرع، وقال رجال قولاً صدقوا به ومضوا عليه، منهم حمزة بن عبد المطلب قال: "والذي أنزل

1 كان هذا رأي النبي صلى الله عليه وسلم وهو أنهم يمكثون في المدينة فيقاتلونهم فيها، ولا يخرجون إلى العدو. انظر: مستدرك الحاكم 2/ 128ـ129، ودلائل البيهقي 3/ 204 - 205.

2 الأطم: بالضم: بناء مرتفع وجمعه آطام، ومنه الحديث:":حتى توارت بآطام المدينة" يعني أبنيتها المرتفعة كالحصون. النهاية 1/ 54.

3 من معاني: الشَعَب: الزرع، اللسان (شعب)، والمراد: إذا لم نقاتلهم عند زرعنا وأموالنا فمتى نقاتلهم؟!

ص: 336

عليك الكتاب لنجالدنَّهم".

وقال يعمر1 بن مالك بن ثعلبة وهو أحد بني سالم: "يا نبي الله لا تحرمنا الجنة، فوالذي نفسي بيده لأدخلنها"، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بمَ؟ قال: بأني أحب الله ورسوله ولا أفر يوم الزحف، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقت، فاستشهد يومئذ.

وأبى كثير من الناس إلا الخروج إلى العدو، ولم يتناهوا إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيه، ولو رضوا بالذي أمرهم به كان ذلك، ولكن غلب القضاء والقدر، وعامة من أشار إليه بالخروج لم يشهدوا بدراً، قد علموا الذي سبق لأصحاب بدر من الفضيلة2 فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة

1 لم أجد ليعمر ترجمة، ولعله: النعمان بن مالك بن ثعلبة أخو بني سالم، انظر: مغازي الواقدي 1/ 211، والإصابة 3/ 565.

2 من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه: "

لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"، فدمعت عينا عمر، وقال: "الله ورسوله أعلم". صحيح البخاري مع الفتح 7/ 305 رقم (3983) ، وما أخرجه البخاري من حديث معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي عن أبيه - وكان من أهل بدر - قال: "جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدُّون أهل بدر فيكم، فقال: من أفضل المسلمين أو كلمة نحوها - قال: وكذلك من شهد بدراً من الملائكة) . صحيح البخاري مع الفتح 7/ 311 - 312 رقم (3992) .

ومنها ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث جابر أن عبداً لحاطب جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطباً فقال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كذبت لا يدخلها فإنه شهد بدراً والحديبية" مسلم بشرح النووي 16/ 55.

ص: 337

وعظ الناس وذكرهم، وأمرهم بالجد والجهاد، ثم انصرف من خطبته وصلاته، فدعا باللأمة1 فلبسها، ثم أذن في الناس بالخروج، فلما رأى ذلك رجال من ذوي الرأي قالوا: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نمكث بالمدينة، فإن دخل علينا العدو قاتلناهم في الأزقة وهو أعلم بالله وما يريد، ويأتيه الوحي من السماء، ثم أشخصناه، يا نبي الله: امكث كما أمرتنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ينبغي لنبي إذا أخذ لأمة الحرب وآذن بالخروج إلى العدو أن يرجع حتى يقاتل2، وقد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم إلا

1 اللأمة: مهموزة: الدرع، وقيل: السلاح، ولأمة الحرب أداته، وقد يترك الهمز تخفيفاً. النهاية 4/ 320.

2 أخرجه البيهقي في السنن 7/ 41 موصولاً بإسناد حسن عن ابن عباس، ثم قال رحمه الله: (وهكذا ذكره موسى بن عقبة عن الزهري، وكذلك ذكره محمد بن إسحاق بن يسار عن شيوخه من أهل المغازي وهو عام في أهل المغازي وإن كان منقطعاً، وقد كتبناه موصولاً بإسناد حسن. أ. هـ.

وانظر: ابن هشام 2/ 60، ومغازي الواقدي 1/ 214، والطبقات الكبرى 2/ 38.

وأخرج عبد الرزاق عن الزهري بلفظ: "إنه لا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يلقى البأس" تفسير عبد الرزاق 1/ 135.

وأخرجها الطبري في التفسير 7/ 372، بإسناد حسن إلى قتادة ولكنه مرسل، وأخرجها الحاكم في المستدرك 2/ 128 - 129، وصححها ووافقه الذهبي، وقد حسن إسناد هذه الرواية الألباني في تعليقه على حاشية فقه السيرة للغزالي (ص: 269) ، وذلك بناء على ما ذكر من روايات يقوي بعضها بعضاً، والله أعلم.

ص: 338

الخروج، فعليكم بتقوى الله والصبر عند البأس إذا لقيتم العدوّ، انظروا ما أمركم به فافعلوه،: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون فسلكوا على البدائع1 وهم ألف2 رجل والمشركون ثلاثة آلاف، فمضى رسول الله حتى نزل بأُحد، ورجع عنه عبد الله بن أُب ي بن سلول في ثلاثمائة فبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعمائة فقال كعب بن مالك3 الأنصاري:

إنّا بهذا الجذع لو كان أهله

سوانا لقد ساروا بليل فأقشعوا4

جلادٌ على ريب الحوادث لا ترى

على هالك عيناً لنا الدهر تدمع

ثلاثة آلاف ونحن نصية5

ثلاثِ ميْينٍ إن كثرنا وأربع

1 البدائع: اسم موضع بين المدينة وبين جبل أحد على الطريق الشرقية مع الحرّة إلى جبل أُحد، وفاء الوفاء، للسمهودي 1/282، ويسمى هذا المكان بالشيخين، وبه مسجد يقال له: مسجد الشيخين، ويقال له: مسجد البدائع. انظر: وفاء الوفاء 3/865، ويسمى الآن بمسجد المستراح، وهو على الناحية الغربية لشارع سيد الشهداء. انظر: الدر الثمين في معالم دار الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم ص: 175.

2 يؤيد ذلك ما أخرجه البيهقي من طريق يونس عن ابن شهاب في الرواية المتقدمة رقم (19) .

3 هو كعب بن مالك بن أبي بن كعب الأنصاري السلمي شهد العقبة، وبايع بها وتخلف عن بدر وشهد أحداً وما بعدها وتخلف في تبوك وهو أحد الثلاثة الذي تيب عليهم، قال البغوي: بلغني أنه مات بالشام في خلافة معاوية. الإصابة 3/ 302.

4 أقشع القوم: تفرقوا، لسان العرب المحيط 3/ 93، مادة (قشع) .

5 النصية: من يتنصى من القوم، أي يختار من نواصيهم، وهم الرؤوس والأشراف، وقد انتصيت في القوم رجلاً: أي اخترته. النهاية 5/ 68.

ص: 339

فراحوا سراعاً موجفين كأنهم

غمام هراقت ماءها الريح تقلع

ورحنا وأخرانا بطاء كأننا

أسود على لحم ببيشة ظُلّع

فلما رجع عبد الله بن أُب ي بالثلاث مائة، سقط في أيدي الطائفتين من المسلمين، وهمتا أن تفشلا، وهما بنو حارثة وبنو سلمة1 كما يقال، وصفَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون بأصل أُحد وصف المشركون بالسبخة2 التي قِبَل أُحد، وتعبأ الفريقان للقتال، وجعل المشركون على خيلهم خالد ابن الوليد بن المغيرة، ومعهم مائة فرس، وليس مع المسلمين فرس، وحامل لواء3 المشركين من عبد الدار، واشتكى صاحب لوائهم طلحة بن عثمان

1 يؤيد ذلك ما ذكره البخاري من أن المراد بالطائفتين: بنو حارثة وبنو سلمة، انظر صحيح البخاري مع الفتح 7/ 357.

2 السبخة: محركة ومسكنة: أرض مالحة، أو هي الأرض التي تعلوها الملوحة ولا تكاد تنبت إلا بعض الشجر. النهاية 2/ 333.

3 اللواء: بكسر اللام والمد هي: الراية، ويسمى أيضاً العلم، وكان الأصل أن يمسكها رئيس الجيش ثم صارت تحمل على رأسه، وقال أبو بكر بن العربي: اللواء غير الراية، فاللواء ما يعقد في طرف الرمح ويلوى عليه، والراية: ما يعقد فيه ويترك حتى تصفقه الرياح، وقيل اللواء دون الراية، وقيل اللواء: العلم الضخم، والعلم علامة لمحل الأمير يدور معه حيث دار، والراية يتولاها صاحب الحرب، فتح الباري 6/ 126.

وقد أخرج الترمذي من حديث ابن عباس قال: "كانت راية النبي صلى الله عليه وسلم سوداء ولواؤه أبيض" سنن الترمذي 3/ 115.

قال الحافظ ابن حجر بعد ذكره لحديث ابن عباس: "وهو ظاهر في التغاير، فلعل التفرقة بينهما عرفية"، الفتح 7/ 477.

وقد ورد أن لواء النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة أبيض. سنن الترمذي 3/ 115، وقد يكتب عليها بعض العبارات مثل: لا إله إلا الله محمد رسول الله. فتح الباري 7/ 477.

أو يكون فيها هلال أبيض، التراتيب الإدراية للكتاني 1/ 320، وتكون مربعة ذراع في ذراع. ابن حجر الفتح 6/ 126.

ص: 340

أخو شيبة بن عثمان1، وكانت لهم الحجابة، والندوة، واللواء، فقال أبو سفيان بن حرب: إن اللواء ضاع يوم بدر حتى قتل حوله من قد علمتم، وأرى أن أعارضهم بلواء آخر، فقالت بنو عبد الدار والأحلاف2: إن شئتم فارفعوا لواءً آخر، ولكن لا يرفعه إلا رجل من بني عبد الدار، فقال أبو سفيان: بل عليكم بلوائكم فاصبروا عنده.

وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين رجلاً من الرماة فجعلهم نحو خيل

1 شيبة بن عثمان وهو الأوقص بن أبي طلحة بن عبد الله بن عبد العزى القرشي العبدري الحجبي أبو عثمان، أسلم يوم الفتح، وكان ممن ثبت يوم حنين، توفي سنة تسع وخمسين، الإصابة 2/ 161.

2 الأحلاف: ست قبائل هي: عبد الدار، وجمح، ومخزوم، وعدي، وكعب، وسهم، سموا بذلك لأنهم لما أرادت بنو عبد مناف ما في أيدي عبد الدار من الحجابة والرفادة واللواء والسقاية، وأبت عبد الدار، عقد كل قوم على أمرهم حلفاً مؤكداً على أن لا يتخاذلوا، فأخرجت جفنة مملوءة طيباً فوضعتها لأحلافهم وهم أسد، وزهرة، وتيم، في المسجد عند الكعبة، ثم غمس القوم أيديهم فيها، وتعاهدوا، وتعاقدت بنو عبد الدار وحلفاؤها حلفاً آخر مؤكداً فسُمّوا الأحلاف لذلك. النهاية 1/425.

ص: 341

العدو، وأَمَّر عليهم عبد الله بن جبير1 أخا خوَّات بن جبير2 وقال لهم:"أيها الرماة3، إذا أخذنا منازلنا من القتال فإن رأيتم خيل المشركين تحركت وانهزم أعداء الله فلا تتركوا منازلكم إني أتقدم إليكم أن لا يفارقن رجل منكم مكانه، واكفوني الخيل"4.

فوعز5 إليهم فأبلغ، ومن نحوهم كان الذي نزل بالنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ

1 هو عبد الله بن جبير بن النعمان الأنصاري الأوسيّ، شهد العقبة وبدراً واستشهد بأحد، وكان أمير الرماة يومئذ، وكان المشركون عندما انهزموا ذهبت الرماة ليأخذوا من الغنيمة فنهاهم عبد الله بن جبير فمضوا وتركوه. الإصابة 2/286.

2 هو خوَّات بن جبير بن النعمان بن أمية بن امرئ القيس الأنصاري الأوسيّ، شهد بدراً والمشاهد كلها، عاش إلى سنة أربعين، ومات وهو ابن أربع وسبعين سنة بالمدينة. الإصابة 1/457_458.

3 كان عددهم خمسين رجلاً أميرهم عبد الله بن جبير رضي الله عنه. صحيح البخاري مع الفتح 6/162 رقم (3039) ومسند أحمد 4/209، وصحح شاكر إسناده، والمستدرك 2/296، وصححه ووافقه الذهبي.

4 وردت قصة الرماة عند البخاري بألفاظ فيها بعض الاختلاف، انظر: صحيح البخاري مع الفتح 6/ 162، رقم (3039) ، 7/ 349 رقم (4043) ، وانظر هذه القصة في مسند أحمد 4/ 209، وصحح شاكر إسناده، والمستدرك 2/ 296، وصححه ووافقه الذهبي، وانظر أيضاً مغازي الواقدي 1/ 219 - 220، وابن سعد 2/ 39.

5 وعز: وعز إليه في كذا أن يفعل أو يترك، وأوعز، ووعز: تقدم وأمر، القاموس المحيط 679.

ر

ص: 342

والذي أصابه، فلما عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه عهده في القتال، وكان حامل لواء المهاجرين رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنا عاصم1 إن شاء الله لما معي، فقال له طلحة - يعني ابن عثمان ـ: هل لك يا عاصم في المبارزة؟

قال: نعم، فبدره ذلك الرجل، فضرب بالسيف على رأس طلحة حتى وقع السيف في لحيه فقتله، فكان قتل صاحب لواء المشركين تصديقاً لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أني مردف كبشاً، فلما صرع صاحب اللواء انتشر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وصاروا كتائب2 متفرقة، فجاسوا3 العدوّ ضرباً حتى أجهضوهم عن أثقالهم، وحملت خيل المشركين على المسلمين ثلاث مراتٍ، كل ذلك تنضح بالنبل، فترجع مغلولةً، وحمل المسلمون فنهكوهم قتلاً، فلما أبصر الرماة الخمسون أن الله عزوجل قد فتح لإخوانهم قالوا: والله ما نجلس ههنا لشيءٍ، قد أهلك العدو إخواننا في عسكر المشركين، وقال طوائف منهم: على ما نصفُّ، وقد هزم الله العدو؟! فتركوا منازلهم التي عهد إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ألاّ يتركوها، وتنازعوا وفشلوا وعصوا الرسول،

1 ورد في سيرة ابن هشام 2/ 73: أنا أبو الفصم، والرجل هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كما ذكر في المصدر السابق، وتفسير الطبري 7/ 281 من مراسيل السدي.

2 الكتيبة: القطعة العظيمة من الجيش والجمع: كتائب. النهاية 4/ 148.

3 الجوس: هو طلب الشيء بالاستقصاء والتردد خلال الدور والبيوت في القارة، القاموس المحيط 691.

ص: 343

فأوجفت1 الخيل فيهم قتلاً، وكان عامتهم2، في العسكر، فلما أبصروا ذلك الرجال المتفرقة أن الخيل قد فعلت ما فعلت، اجتمعوا وأقبلوا وصرخ صارخ: أُخراكم أُخراكم، قُتِل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فسقط في أيدي المسلمين فقتل منهم من قتل وأكرمهم الله بأيدي المشركين وأصعد الناس في الشعب لا يلوون على أحد3، وثَبَّت الله عزوجل النبي صلى الله عليه وسلم حين انكشف عنه من انكشف من أصحابه، وهو يدعوهم في أخراهم حتى جاءه من جاءه منهم إلى قريب من المِهْرَاسِ4 في الشِّعب.

فلما فُقِدَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال رجل منهم: إن رسول الله قد قُتل فارجعوا إلى قومكم فيؤمنونكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم، فإنهم داخلون البيوت.

وقال رجل منهم: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا.

1 الإيجاف: سرعة السير، وقد أوجف دابته يوجفها إيجافاً إذا حثّها. النهاية 5/ 157.

2 لم يبق من الرماة مع أميرهم سوى اثني عشر رجلاً كما في البخاري حديث رقم (3039) .

3 كما قال تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ

} الآية، آل عمران (153) .

4 المهراس: بالكسر ثم السكون وآخره سين مهملة، وهو حجر يشبه القدح يمسك ماء المطر، والمراد المهراس الذي في الشعب من جبل أحد، معجم المعالم الجغرافية 306 - 307.

ص: 344

وقال آخرون: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل أفلا تقاتلون عن دينكم، وعلى ما كان عليه نبيكم، حتى تلقوا الله شهداء؟

منهم: أنس بن النضر1 شهد له بها سعد بن معاذ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقال: أحد بني قشير الذي قال: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا.

ومضى النبي صلى الله عليه وسلم يلتمس أصحابه، فإذا المشركون نحو وجهه على طريقه، فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبلوه، قال:"اللهم إن تشأ لا يغلبك أحد في الأرض، وقال: اللهم إن تشأ لا تعبد"2.

فانصرف المشركون والنبي صلى الله عليه وسلم يدعو أصحابه مصعداً في الشعب، معه عصابة صبروا معه، منهم: طلحة بن عبيد الله3، والزبير بن العوام، وبايعوه على الموت وجعلوا يسترونه بأنفسهم ويقاتلون معه حتى قتلوا إلا

1 هو أنس بن النضر بن ضمضم الأنصاري الخزرجي عم أنس بن مالك، كان قد غاب عن بدر وشهد أحداً واستشهد بها. انظر: الإصابة 1/ 74.

2 قد ورد بمعناه في غزوة بدر كما في البخاري رقم (2915) ومسلم بشرح النووي 12/ 84، من حديث عمر رضي الله عنه، وقد قال الحافظ ابن حجر:"ووقع عند مسلم من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام أيضاً يوم أحد". فتح الباري 7/ 289.

3 هو طلحة بن عبيد الله بن عبد الله بن عمرو بن كعب القرشي التيمي أبو محمد، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر الصديق، وأحد الستة أصحاب الشورى، قتل يوم الجمل سنة ست وثلاثين. الإصابة 2/ 229ـ230.

ص: 345

ستة نفر أو سبعة وهم مع ذلك يمشون حول المهراس، ويقال: كان كعب ابن مالك أول من عرف عين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فقد من وراء المغفر فنادى بصوته الأعلى: الله أكبر، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليه، - زعموا - رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اسكت1 - وجرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وكُسِرت رَباعيتُه2، وكان أُبيّ بن خلف قال حين افتدى:"والله إن عندي لفرس أعلفها كل يوم فَرَق3 ذرة، ولأقتلنّ عليها محمداً"، فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم

1 يشهد له ما رواه عبد الرزاق في مصنفه 5/ 363 - 366 رقم (9735) عن الزهري عن عروة وفي تفسيره عن الزهري 1/ 134، وما رواه إسحاق بن راهويه في مسنده كما في إتحاف الخيرة للبوصيري، رقم (4565) عن الزهري دون ذكر عروة، وانظر مسند إسحاق في المطالب العالية للحافظ ابن حجر، رقم (4262) وقال عنه الحافظ:"رجاله ثقات ولكنه مرسل أو معضل".

وأخرجه ابن سعد عن الزهري كما في الطبقات 2/45-46، وزاد بعد قوله (أن اسكت) فأنزل الله تعالى جده {وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُل} الآية، وأخرجه ابن إسحاق عن الزهري مرسلاً (ابن هشام 2/83) ، وأخرجه الطبري في التفسير 7/308 رقم (8066) ، وفي التاريخ 8/518، وورد موصولاً عند الواقدي في المغازي 1/236 من رواية الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه، ومن طريقه أخرجه الطبراني في الأوسط 2/22 رقم _1104) ، ولكن الواقدي متروك.

2 الرَّباعية: - بفتح الراء وتخفيف الموحدة ـ: السنّ التي بين الثنية والناب، والمراد: أنها كسرت فذهبت منها فلقة ولم تقلع من أصلها (انظر: فتح الباري 7/366) .

3 الفَرَق بالتحريك، مكيال يسع ستة عشر رطلاً، وهي اثنا عشر مداً، أو ثلاثة آصع، وأما الفرق بالسكون: فمائة وعشرون رطلاً. النهاية 3/437.

ص: 346

حِلْفَته، فقال:"بل أنا أقتله إن شاء الله".

فأقبل أُبيٌّ مقنعاً في الحديد على فرسه تلك يقول: لا نجوت إن نجا محمد، فحمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد قتله.

قال موسى بن عقبة [عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبيه، قال: أقبل أُبي بن خلف يوم أحد إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريده] 1، فاعترض له رجال من المؤمنين فأمرهم رسول الله فخلوا طريقه، واستقبله مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل مصعب بن عمير وأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوة أُبي بن خلف من فُرْجة بين سابغة البيضة والدرع فطعنه بحربته فوقع أُبيّ عن فرسه، ولم يخرج من ترقوته دم، قال سعيد: فكسر ضلعاً من أضلاعه، ففي ذلك نزل:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} 2، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخور خوار الثور، فقالوا: ما جزعُك إنما هو خَدْش3، فذكر لهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بل أنا أقتل أبياً"4، ثم

1 ما بين المعقوفتين من مستدرك الحاكم 2/327، ولعلها سقطت من دلائل النبوة للبيهقي.

2 سورة الأنفال آية (17) .

3 خدش الجلد: قشره بعود أو نحوه، خدشه يخدشه خدشاً، والخدوش جمعه. النهاية 2/14.

4 ستأتي قصة قتل الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي في مبحث مستقل.

ص: 347

قال: والذي نفسي بيده لو كان هذا الذي بيْ بأهل المجاز1 لماتوا أجمعون، فمات أُبيّ قبل أن يقدم مكة، فلما لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ونظروا إليه، ومعه طلحة والزبير وسهل بن حُنيف والحارث بن الصمّة أخو بني النجار ظنّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النفر من عدوهم فوضع أحدهم سهماً على كبد قوسه فأراد أن يرمي، فلما تكلموا وناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفوه، فكأنه لم يصبهم بلاء في أنفسهم قطّ حين عرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينما هو كذلك إذ عرض لهم الشيطان نفسه ووسوسته وتحزينه حين أبصروا عدوهم قد انفرجوا عنهم، فبينما هم كذلك يذكرون قتلاهم وإخوانهم، ويسأل بعضهم بعضاً عن حميمه، فيخبر بعضهم بعضاً بقتلاهم، وقال: اشتد حزنهم، أدبر الله عليهم المشركين، وغمهم بهم ليذهب بذلك الحزن عنهم، فإذا عدوهم فوق الجبل قد علوهم، فنسوا عند ذلك الحزن والهموم على إخوانهم، ثم أنزل الله عزوجل على طائفة {مِنْ بَعْدِ الغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسَاً يَغْشَى طائفةً مِنْكُم} 2 كما قال: {وطائفةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيرَ الحقِّ ظَنَّ الجاهليَّةِ يقولونَ هَلْ لنا مِنَ الأمرِ مِنْ شَيءٍ قُلْ إنَّ الأمرَ كلَّه للهِ يُخْفُون في

1 المجاز: أو ذو المجاز: بفتح الميم وتخفيف الجيم وآخره زاي، وهو من أشهر أسواق العرب في الجاهلية، يقع بسفح جبل كبكب من الغرب يراه من يخرج من مكة على طريق نخلة اليمانية، معجم المعالم الجغرافية للبلادي 278 - 279.

2 سورة آل عمران آية (154) .

ص: 348

أنفسِهِم مَا لا يُبْدُوْنَ لكَ يقولونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شيءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا} قال الله عزوجل: {قُل لوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُم} 1 إلى قوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ، وكانا غَمَّين: فهذا الغمّ الآخر، والغمّ الأول: حين أُصعدوا في الشعب منهزمين، فأنساهم الهزيمة ما يخافون من طلب العدو وقتالهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللهم إنه ليس لهم أن يعلونا اليوم"2 ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وندب أصحابه، فانتدب منهم عصابة، فأصعدوا في الشعب حتى كانوا هم والعدو على السواء فراموهم بالنبل، وطاعنوهم حتى أهبطوهم عن الجبل، وانكفأ المشركون عنهم إلى قتلى المسلمين فَمَثَّلوا بهم: يقطعون الآذان والأنوف، والفروج، ويبقرون البطون، وهم يظنون أنهم قد أصابوا النبي صلى الله عليه وسلم وأشراف أصحابة، ثم إنهم قد اجتمعوا وصفوا مقاتلتهم، فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال إلا أنكم ستجدون في قتلاكم شيئاً من مُثْلَة، وإني لم آمر بذلك ولم أكرهه3، ثم قال: أُعل هبل، يفخر

1 سورة آل عمران آية (154) .

2 أخرجه ابن إسحاق (انظر: ابن هشام 2/ 86) ومن طريقه أخرجه الطبري، في التفسير 7/ 309 رقم الحديث (8066) تحقيق: شاكر، وأخرجه الطبري في التفسير عن السدي، انظر: نفسير الطبري 7/ 307 رقم (8064) .

3 يشهد لهذا ما أخرجه البخاري بألفاظ متقاربة، صحيح البخاري مع الفتح 7/ 349 - 350 رقم (4043)، وانظر: مسند أحمد 4/ 209، 6/ 181 تحقيق شاكر، وابن إسحاق (ابن هشام 2/ 93) بدون إسناد، والواقدي في المغازي 1/ 296، والحلية لأبي نعيم 1/ 39 من طريق الزهري.

ص: 349

بآلهته.

فقال: عمر: اسمع يا رسول الله ما يقول عدو الله.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ناده فقل: الله أعلى وأجل، لا سواء: قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار".

قالوا: "إن لنا العزى ولا عزى لكم".

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله مولانا ولا مولى لكم".

ثم نادوا محمداً باسمه1، فلما علموا أنه حيٌّ ونادوا رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرافاً فعلموا أنهم أحياء، كبتهم الله فانكفؤوا إلى أثقالهم، لا يدري المسلمون ما يريدون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن رأيتموهم ركبوا وجعلوا الأثقال تتبع آثار الخيل فهم يريدون أن يدنوا من البيوت والآطام التي فيها الذراري والنساء، وأقسم بالله لئن فعلوا لأواقعنهم في جوفها، وإن كانوا ركبوا الأثقال وجنبوا الخيل فهم يريدون الفرار"، فلما أدبروا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص في آثارهم فقال: أعلم لنا أمرهم، فانطلق سعد يسعى حتى علم علمهم، ثم رجع فقال: رأيت خيلهم تضرب بأذنابها مجنوبة2 مدبرة، ورأيت القوم قد

1 انظر: صحيح البخاري مع الفتح 7/ 349 رقم (4043) بألفاظ متقاربة من ألفاظ هذه الرواية.

2 جنب الرجل: دفعه، وسحابة مجنوبة هبت بها الجنوب، لسان العرب 1/ 508، والقاموس 89، والمعنى: دفعوها إلى جهة الجنوب ذاهبين إلى مكة والله أعلم.

ص: 350

تحملوا على الأثقال سائرين فطابت أنفس القوم لذهاب العدو، وانتشروا يتبعون قتلاهم، فلم يجدوا قتيلاً إلا قد مَثَّلُوا به إلا حنظلة بن أبي عامر1، كان أبوه مع المشركين فتُرِك له، وزعموا أن أباه وقف عليه قتيلاً، فدفع صدره برجله ثم قال: ذنبان أصبتهما قد تقدمت إليك في مصرعك هذا يا دُبَيْس2، ولعمر الله إن كنت لواصلاً للرحم براً بالوالد، ووجدوا حمزة ابن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم قد بقر بطنه، وحملت كبده، احتملها وحشي3 وهو قتله يذهب بكبده إلى هند4 بنت عتبة في نذر نذرته حين

1 هو: حنظلة بن أبي عامر بن صيفي بن مالك بن أمية الأنصاري الأوسي المعروف بغسيل الملائكة، وكان أبوه في الجاهلية يعرف بالراهب واسمه عمرو، ويقال: عبد عمرو، استشهد حنظلة بأحد لا يختلف أصحاب المغازي في ذلك. الإصابة 1/ 360 - 361.

2 الدبسة: لون بين السواد والحمرة. النهاية 2/ 99.

3 هو: وحشي بن حرب الحبشي مولى بني نوفل، قيل: كان مولى طعيمة بن عدي، وقيل: مولى أخيه مطعم، وهو قاتل حمزة قتله يوم أحد، أسلم وقدم على النبي صلى الله عليه وسلم وكان قدومه عليه مع وفد أهل الطائف، شارك في قتل مسيلمة، يكنى أبا سلمة، وقيل: أبا حرب، شهد اليرموك ثم سكن حمص ومات بها في خلافة عثمان. الإصابة 3/ 361.

4 هي: هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشية العبشمية والدة معاوية، أسلمت يوم الفتح، ماتت في خلافة عمر بعد أبي بكر بقليل في اليوم الذي مات فيه أبو قحافة. الإصابة 4/ 425 - 426.

ص: 351

قتل أباها يوم بدر، وأقبل المسلمون على قتلاهم يدفنونهم فدفن حمزة في نمرة1 كانت عليه إذا رفعت إلى رأسه بدت قدماه، وإذا أنزلت إلى رجله بدا وجهه، فجعلوا أعواداً من شجرٍ وحجارةٍ فوضعوا على قدميه وغطوا وجهه2.

قال موسى: قال ابن شهاب: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم لدفن الشهداء قال: "زملوهم3 بجراحهم فإنه ليس كَلْم4 يكلم في الله إلا وهو يأتي يوم القيامة يَدْمَى لونه لون الدم، وريحه ريح المسك" 5، ثم قال

1 النمرة: شملة فيها خطوط بيض وسود. لسان العرب 721، والنهاية 5/ 118.

2 يشهد لذلك ما أخرجه الترمذي من حديث الزهري عن أنس، سنن الترمذي رقم (1016)، وقال الترمذي: حديث أنس حديث غريب، وقد حكم عليه الألباني بالصحة، انظر: صحيح سنن الترمذي 1/ 297 - 298، تحت رقم (1027) .

والطبقات الكبرى لابن سعد 3/ 14 - 15، وسنن الدارقطني 4/ 116 رقم (43) ، ومصنف ابن أبي شيبة 7/ 367، ومستدرك الحاكم 1/ 365، 2/ 120، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وسكت عنه الذهبي، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 10.

3 زملوهم: لفوهم فيها، يقال: تزمل بثوبه إذا التف به. النهاية 2/ 313.

4 هو جمع: كليم: وهو الجريح، وأصل الكلم: الجرح. النهاية 4/ 199.

5 أخرجه أحمد في المسند 39/ 63 رقم [23658] الأرناؤوط من طريق معمر عن الزهري، وسنن سعيد بن منصور رقم (2583) ، والنسائي في السنن 4/ 78 رقم (2002) ، و6/ 29 رقم (3148) ، وكتاب الجهاد لابن أبي عاصم، رقم (176) ، والآحاد والمثاني له 5/ 68 رقم (2608) ، والطحاوي في مشكل الآثار 1/ 99ـ100، ومسند ابن الجعد رقم (1638)، والبخاري من حديث مالك عن أبي الزناد ومسلم من حديث سفيان ولفظه:"لا يُكْلم أحد في سبيل الله - والله أعلم بمن يُكْلَم في سبيله - إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعُب دماً اللون لون الدم والريح ريح المسك" البخاري رقم (2803) ومسلم رقم (105) ، (1876) باب فضل الجهاد 3/ 1496، عبد الباقي.

ص: 352

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا الشهيد على هذا يوم القيامة"1.

ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفنون على عينيه، ولم يغسلهم ولم يصل على أحد منهم كما يصلي على الموتى، ولم يدفنهم في غير ثيابهم التي قتلوا فيها، قال: وهم يدفنون الرهط في الحفرة الواحدة: (أي هؤلاء كان أكثر أخذاً للقرآن؟) فإذا أشير إلى الرجل منهم قدمه في اللحد قبل أصحابه حتى فرغ من دفنهم، وخرج نساء من المهاجرات والأنصار يحملن على ظهورهن الماء والطعام وخرجت فيهن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأت أباها والذي به من الدماء اعتنقته، وجعلت تمسح الدماء عن وجهه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسول الله، واشتد غضب الله على رجل قتله رسول الله"2.

وقال سهل بن سعد الساعدي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر

1 أخرجه البخاري من طريق الزهري، صحيح البخاري مع الفتح 3/ 209، رقم (1343) ، وابن إسحاق (ابن هشام 2/ 98) .

2 أخرجه البخاري في الصحيح، فتح الباري 7/ 372، ومسلم 2/ 150، ومسند أحمد انظر: الفتح الرباني 21/ 57، وابن هشام 2/ 85 - 86.

ص: 353

لقومي فإنهم لا يعلمون" 1.

قال موسى بن عقبة: قال ابن شهاب: رمى يومئذٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من بني الحارث بن عبد مناة يقال له: ابن قَمِئَة2، ويقال: بل رماه عتبة بن أبي وقاص3، قال: وسعى علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى المهراس، وقال لفاطمة: أمسكي هذا السيف غير ذميمة، فأتى بماءٍ في مَجنَّة4 فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشرب منه فوجد له ريحاً، فقال: (هذا

1 له شاهد عند البخاري رقم (3477) ، وأحمد 6/ 103 - 104 رقم [3611] الأرناؤوط، والفسوي في المعرفة والتاريخ 1/ 338، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني 4/ 123 رقم (2096) ، وابن حبان (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان 3/ 254 رقم 973) ، والطبراني في الكبير 6/ 120 رقم 5694، وقال في المجمع 6/ 117 "ورجاله رجال الصحيح، قال أبو حاتم: "يعني هذا الدعاء أنه قال يوم أحد لما شُجَّ وجهه قال: (اللهم اغفر لقومي) ذنبهم بي من الشج لوجهي لا أنه دعاء للكفار بالمغفرة، ولو دعا لهم بالمغفرة لأسلموا في ذلك الوقت لا محالة". الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان 3/ 255.

2 اسمه: عبد الله بن قمئة الليثي. ابن هشام 2/94.

3 ذكر الذهبي في المغازي، ص (192) عن معمر، عن الزهري، وعن عثمان الجزري، عن مقسم أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة حين كسر رباعيته "اللهم لا تحل عليه الحول حتى يموت كافراً"، فما حال عليه الحول حتى مات كافراً إلى النار) قال الذهبي: وهو مرسل. وانظر: السيرة النبوية لابن كثير (2/59) . وقد ذكر الواقدي في المغازي (1/245) نحواً من هذا من غير طريق الزهري.

4 المجنّ: الترس. النهاية 4/301، وفي رواية ابن إسحاق (ابن هشام 2/85) أن علياً ملأ درقته من ذلك الماء.

ص: 354

ماء آجن) 1، فمضمض منه وغسلت فاطمة عن أبيها، ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم سيف عليّ مخضباً دماً، قال:(إن تكن أحسنت القتال فقد أحسن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، والحارث2 بن الصِّمَّة، وسهل3 بن حُنيف) 4، ثم قال:"أخبروني عن الناس ما فعلوا وأين ذهبوا"؟

قالوا: كفر عامتهم، فقال:"إن المشركين لم يصيبوا منا مثلها حتى نبيحهم"، ثم أقبلوا إلى دورهم وقد كان أبو سفيان ناداهم والمشركون حين ارتحلوا أن موعدهم الموسم موسم بدر، وهي سوق كانت تقوم ببدر كل عام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قولوا لهم نعم قد فعلنا".

1 الماء الآجن: الماء المتغير الطعم واللون. لسان العرب المحيط 1/26.

2 هو الحارث بن الصِّمَّة - بكسر الصاد المهملة وتشديد الميم - ابن عمرو بن عتيك بن عمرو بن عامر بن مالك بن النجار والد أبي جهم عُدّ في أهل بدر، كسر بالروحاء فرده النبي صلى الله عليه وسلم وضرب له بسهم وشهد أحداً واستشهد ببئر معونة. الإصابة 1/181.

3 هو: سهل بن حُنيف بن وهب بن العكيم الأوسي الأنصاري، يكنى أبا سعد وأبا عبد الله من أهل بدر، وكان من السابقين، وثبت يوم أُحد حين انكشف الناس، وبايع يومئذ على الموت. الإصابة 2/87.

4 أخرجه الحاكم في المستدرك 3/24، وصححه وأقرّه الذهبي، وأخرجه الطبراني كما في المجمع 6/123، وقال الهيثمي:"رجاله رجال الصحيح".

ص: 355

قال أبو سفيان: فذلك الموعد1.

وزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عرض يومئذ سيفه فقال: "من يأخذ هذا بحقه"؟ قالوا: وما حقه؟ قال: يضرب به إذا لقي العدوّ"، فقال عمر - زعموا - أنا آخذه، فأعرض عنه، ثم عرضه الثانية، فقال الزبير: أنا آخذه فأعرض عنه، فوجد عمر والزبير في أنفسهما من ذلك، ثم عرضه الثالثة بذلك الشرط، فقال أبو دجانة سماك بن خرشة2 أخو بني ساعدة: أنا آخذه يا رسول الله بحقه، فدفعه إليه.

فصدق به حين لقي العدو وأعطى السيف بحقه3.

1 بدر الموعد: ستأتي في بحث مستقل إن شاء الله تعالى.

2 اسمه: سِماك بن خرشة، وقيل: أوس بن خرشة، متفق على شهوده بدراً، وقد كثرت فيه الجراحة يوم أُحد، وثبت أنه أخذ سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ففلق به هام المشركين، قيل: إنه شهد موقعة اليمامة، وشارك في قتل مسيلمة، واستشهد بها. انظر: الإصابة 4/58.

3 يشهد له ما أخرجه مسلم في صحيحه 16/224، النووي، ومغازي ابن إسحاق [انظر: ابن هشام 2/66] والمغازي للواقدي 1/258-259، وسنن سعيد بن منصور 2/364، ومصنف ابن أبي شيبة 14/401، ومعجم الطبراني الكبير 19/ 9 رقم (14) ،والمطالب العالية 4/221، وأخرجه أيضاً البزار في مسنده 3/193- 194 رقم (979)، وانظر: تاريخ الأمم والملوك للطبري 2/510، والكنى للدولابي 1/69، ومستدرك الحاكم 3/230، والإصابة لابن حجر 4/58-56.

ص: 356

وزعموا أن كعب بن مالك قال: كنت فيمن خرج من المسلمين فلما رأيت مُثَل المشركين بقتلى المسلمين قمت فتجاوزت، فإذا رجل من المشركين جمع اللأمة تحوية المسلمين ويقول: استوسقوا1 كما تستوسق جرد الغنم، قال: وإذا رجل من المسلمين قائم ينتظره، وعليه لأمته، فمضيت حتى كنت من ورائه، ثم قمت أقدر المسلم والكافر ببصري، فإذا الكافر أفضلهما عدة وهيئة، قال: فلم أزل أنظرهما حتى التقيا، فضرب المسلم الكافر على حبل عاتقه ضربة بالسيف بلغت وركه وتفرق فرقتين ثم كشف المسلم عن وجهه، فقال: كيف ترى يا كعب أنا أبو دجانة.

فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم أزقَّة المدينة إذا النوح والبكاء في الدور، فقال:"ما هذا"؟ قالوا: هذه نساء الأنصار يبكين قتلاهنّ، قال: وأقبلت امرأة تحمل ابنها وزوجها على بعير قد ربطتهما بحبل ثم ركبت بينهما، وحمل منهم قتلى فدفنوا في مقابر المدينة، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن حملهم، وقال:"واروهم2 حيث أصيبوا"3، وقال رسول الله حين سمع البكاء:"لكن حمزة لا بواكي له "، واستغفر له، فسمع ذلك سعد بن معاذ وسعد بن

1 استوسقوا: أي استجمعوا وانضموا. النهاية 5/185.

2 واروهم: أي ادفنوهم، وارى الميت: دفنه. لسان العرب 1/ 994.

3 يشهد له ما رواه الإمام أحمد في المسند 22/ 208 رقم [14305] الأرناؤوط، وعبد الرزاق في المصنف 5/ 278، والحميدي 2/ 544، وابن أبي شيبة 5/ 321، وأبو داود 3/ 202 رقم (3165) ، والنسائي 4/ 79، والترمذي 5/ 279 مع التحفة.

ص: 357

عبادة ومعاذ بن جبل وعبد الله بن رواحة، فمشوا في دورهم فجمعوا كل نائحة وباكية كانت بالمدينة، فقالوا: والله لا تبكين قتلى الأنصار حتى تبكين عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قد ذكر أنه لا بواكي له بالمدينة.

- وزعموا - أن الذي جاء بالنوائح عبد الله بن رواحة، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم البكاء قال:(ما هذا؟)

فأخبر بما فعلت الأنصار بنسائهم، فاستغفر لهم وقال لهم خيراً، وقال:(ما هذا أردت، وما أحب البكاء، ونهى عنه) .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من عمل الجاهلية لن تتركهن أمتي: النياحة على الموتى، والطعن في الأنساب، وقيل هذا المطر بنوء1 كذا وكذا، وليس بنوء إنما هو عطاء الله ورزقه"2.

وأخذ المنافقون عند بكاء المسلمين في المكر والتفريق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحزين المؤمنين وظهر غش اليهود وفارت المدينة بالنفاق فور المِرْجَل3، وأظهروا النفاق والغش عند بكاء المسلمين ما كانوا مستخفين، وقالت اليهود: لو كان نبياً ما ظهروا عليه، ولا أصيب منه ما أصيب،

1 مطرنا بنوء كذا: أي مطرنا بفضل نجم كذا، والأنواء ثمان وعشرون منزلة، ينزل القمر كل ليلة منها منزلة، وإنما غلّظ النبي من أمر الأنواء لأن العرب كانت تنسب المطر إليها. النهاية 5/ 122.

2 يشهد له ما رواه البخاري في صحيحه 7/ 156 مع الفتح، ومسلم 2/ 57 - 59، والترمذي 3/ 325.

3 المرجل: هو بالكسر الإناء الذي يُغلى فيه الماء. النهاية 4/ 315.

ص: 358

ولكنه طالب ملك تكون له الدولة مرة وعليه مرة، وكذلك أهل طلب الدنيا بغير نبوة1.

وقال المنافقون نحو قولهم، وقالوا للمسلمين: لو كنتم أطعتمونا ما أصابوا الذي أصابوا منكم.

وقدم رجل من أهل مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستخبره عن أبي سفيان وأصحابه فقال: نازلتهم فسمعتهم يتلاومون، يقول بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئاً، أصبتم شوكة القوم وحدَّهم ثم تركتموهم ولم تبروهم، فقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم.

وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وبهم أشد القرح بطلب العدو ليسمعوا بذلك، وقال: لا ينطلقن معي إلا من شهد القتال، فقال عبد الله بن أبي ّ: أنا راكب معك.

فقال: (لا) ، فاستجابوا لله ورسوله على الذي بهم من البلاء فانطلقوا، فقال الله عزوجل في كتابه:{الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} 2.

1 قال ابن هشام: "وذكر غير زياد، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري: أن الأنصار يوم أحد قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ألا نستعين بحلفائنا من يهود؟ قال: لا حاجة لنا فيهم"(ابن هشام 2/ 94) وهذه الرواية وإن كانت ضعيفة، إلا أنها تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم يعرف تماماً مكر اليهود وخبثهم.

2 سورة آل عمران آية (172) .

ص: 359

قال: وأقبل جابر بن عبد الله السلمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أبي رجعني وقد خرجت معك لأشهد القتال، فقال: ارجع وناشدني أن لا أترك نساءنا، وإنما أراد حين أوصاني بالرجوع رجاء الذي كان أصابه من القتل، فاستشهده الله، فأراد بي البقاء لتركتِه، ولا أحب أن تتوجه وجهاً إلا كنت معك، وقد كرهت أن يطلب معك إلا من شهد القتال، فأْذَنْ لي، فأَذِنَ لَه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم العدو حتى بلغ حمراء الأسد1، ونزل القرآن في طاعة من أطاع ونفاق من نافق وتعزية المسلمين وشأن مواطنهم كلها، ومخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غدا فقال جل ثناؤه:{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 2 ثم ما بعد الآية في قصة أمرهم حتى بلغ: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللهُ

1 حمراء الأسد: جبل أحمر جنوب المدينة على (20) كيلاً، إذا خرجت من ذي الحليفة تؤم مكة، عن طريق بدر، المعالم الأثيرة 103.

وخروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد قد ذكره الزهري في عبد الرزاق 5/ 363 رقم (9735) و5/ 566 رقم (9736) ، ويشهد لذلك ما أخرجه البخاري في ذكر غزوة حمراء الأسد، صحيح البخاري مع الفتح 7/ 337 رقم (4077) ، ومسلم بشرح النووي 15/ 191، وابن أبي شيبة في المصنف 12/ 94، والحميدي في مسنده رقم (263) ، وابن سعد في الطبقات 3/ 104.

2 سورة آل عمران آية (121) .

ص: 360

عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} 1 مع سبع آيات بعدها، والرهط الذين تولوا رجلان من بني زريق: سعد بن عثمان2 وأخوه عقبة بن عثمان3، ورجل من المهاجرين4: تولوا حتى انتهوا إلى بئر حزم5، وفي رواية ابن فليح إلى الجَلَعْب6، ثم عفا الله عنهم، ثم إن المسلمين استكثروا الذي أصابهم من البلاء يوم أحد7، وقد كانوا أصابوا يوم بدر من المشركين

1 سورة آل عمران آية (155) .

2 هو: سعد بن عثمان بن خلدة بن مخلد بن عامر بن زريق الأنصاري الزرقي أبو عبادة شهد بدراً كما قال موسى بن عقبة وغيره. الإصابة 2/ 31.

3 هو عقبة بن عثمان بن خلدة بن عامر بن زريق الأنصاري، ذكره ابن إسحاق وغيره فيمن شهد بدراً وذكره فيمن فر يوم أحد، حتى بلغ جبلاً مقابل الأعوص فأقام به ثم رجع، الإصابة 2/ 490.

4 لعله يقصد عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقد ثبت أنه كان ممن استزله الشيطان يوم أحد. انظر: صحيح البخاري مع الفتح 7/ 54، ونص عليه ابن إسحاق كما في المطالب العالية المسندة رقم (4258) ، وإتحاف الخيرة المهرة رقم (4563) .

5 لم أجد لها ذكراً.

6 الجلعب: بفتحتين وسكون العين المهملة: جبل بناحية المدينة، معجم البلدان 2/ 154.

7 حيث استشهد من المسلمين في أحد سبعون رجلاً، كما ثبت ذلك في البخاري وغيره، انظر: صحيح البخاري مع الفتح 7/ 374 رقم (4078) ، وانظر قبل ذلك رقم (3039، 4043) ، والترمذي السنن 5/ 999 رقم (3129) ، ومسند أحمد من زوائد ابنه عبد الله 35/ 153 رقم [21230] الأرناؤوط، وتفسير النسائي رقم (299) ، والطبراني في الكبير 4/ 157 رقم (2937) ، والحاكم في المستدرك 2/ 358 - 359، والبيهقي في الدلائل 3/ 289، وهو الصواب.

ص: 361

ضعف ذلك1، فأنزل الله عزوجل في ذلك:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 2وآيات معها بعدها، ثم سمى موسى بن عقبة من قتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وذكر فيهم: اليمان3 أبا حذيفة4 واسمه حسيل بن جبير

1 حيث قتلوا سبعين وأسروا سبعين كما ثبت في البخاري ومسلم وغيرهما. انظر: الفتح 7/ 307 رقم (3986) ، ومسلم بشرح النووي 12/ 86، واستدل الحافظ ابن حجر بقوله تعالى:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا} قال: واتفق أهل العلم بالتفسير على أن المخاطبين بذلك أهل أُحد، وأن المراد بـ {أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا} يوم بدر

، الفتح 7/ 307.

2 آل عمران آية (165) .

3 اسمه: حسيل - بالتصغير ويقال بالتكبير - ابن جابر بن ربيعة بن فروة بن الحارث بن مازن بن عبس المعروف باليمان العبسي والد حذيفة، قتل يوم أحد، قتله المسلمون وهم يظنون أنه من المشركين. الإصابة 1/ 331.

4 هو: حذيفة بن حُسيل بالتصغير ويقال بالتكبير، المشهور بابن اليمان العبسي، من كبار الصحابة، كان أبوه قد أصاب دماً فهرب إلى المدينة فحالف بني عبد الأشهل فسماه قومه اليمان لكونه حالف اليمانية، شهد حذيفة أحداً والخندق وما بعدها وله في الخندق ذكر حسن، استعمله عمر على المدائن فلم يزل بها حتى بعد قتل عثمان وبعد بيعة علي بأربعين يوماً وذلك سنة ست وثلاثين. الإصابة 1/ 317 - 318.

ص: 362

حليف لهم من بني عبس أصابه المسلمون زعموا في المعركة لا يدرون من أصابه، فتصدق حذيفة1 بدمه على من أصابه.

قال موسى بن عقبة: قال ابن شهاب قال عروة بن الزبير: أخطأ به المسلمون يومئذ فتوشقوه2 بأسيافهم يحسبونه من العدو، وإن حذيفة ليقول أبي أبي فلم يفقهوا قوله حتى فرغوا منه، قال حذيفة: يغفر الله لكم، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين.

قال: ووداه3 رسول الله صلى الله عليه وسلم وزاد حذيفة عنده خيراً4،

1 يشهد له ما أخرجه ابن إسحاق (سيرة ابن هشام 2/ 88) عن عاصم بن عمر عن محمود بن لبيد قال: "اختلفت سيوف المسلمين على اليمان والد حذيفة يوم أحد، ولا يعرفونه فقتلوه فأراد رسول الله أن يَدِيَه فتصدق بديته على المسلمين"، وقد عنعن ابن إسحاق في هذه الرواية، ومن طريق ابن إسحاق أخرجه أحمد في المسند 39/ 46 - 47، رقم [23639] الأرناؤوط.

2 تواشقوه بأسيافهم: أي قطعوه وشائق كما يقطع اللحم إذا قدد. لسان العرب 3/ 932 (وَشَقَ) والنهاية 5/ 189.

3 وداه: أي أعطى ديته، يقال: وديت القتيل إذا أعطيت ديته. النهاية 5/ 169.

4 قصة مقتل والد حذيفة ذكرها البخاري في الصحيح (فتح الباري 7/ 361) دون ذكر الدية، وابن سعد في الطبقات 2/ 45، ومسند الشافعي (انظر: بدائع المنن في جمع مسند الشافعي والسنن رقم 1463) من مرسل عروة، والحاكم في المستدرك 3/ 379، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 132، وفي معرفة السنن والآثار له 12/ 196 رقم (11440) .

ص: 363

قال: وجميع من استشهد من المسلمين يوم أحد من قريش والأنصار تسعة وأربعون رجلاً1، وقتل من المشركين يوم أحد ستة عشر رجلاً2.

1 هذا مخالف لما ثبت في البخاري (فتح الباري 7/ 307 رقم 3986) من أن عدد القتلى يوم أحد سبعون، 7/ 374 رقم (4078) ، و7/ 349 رقم (4043)، وفي رواية أخرى للزهري توافق ما في الصحيح أنه قال:"فأصيب يومئذ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل نصف عدة من أصيب ببدر من المشركين من القتلى والأسرى" دلائل البيهقي 3/ 278.

2 وقد ذكر ابن إسحاق (ابن هشام 2/ 129) أن عدد من قتل من المشركين: اثنان وعشرون رجلاً وذكر أسماءهم، وذكر الواقدي في المغازي 1/ 307؛ أن عددهم سبعة وعشرون رجلاً، وذكر ابن سعد في الطبقات 2/ 42: ثلاثة وعشرون رجلاً.

ص: 364