المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(ج) نشأة اسم أهل السنة والجماعة: - مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة - جـ ١

[ناصر القفاري]

فهرس الكتاب

- ‌هذا الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: أهل السنة والجماعة

- ‌الفصل الأول: التعريف بأهل السنة والجماعة

- ‌(أ) التعريف بالسنّة:

- ‌ سبب تسمية أهل السنّة بالجماعة

- ‌(ج) نشأة اسم أهل السنة والجماعة:

- ‌الفصل الثاني: مصادر أهل السنة في تلقي العقيدة

- ‌الفصل الثالث: مجمل لأهم عقائد أهل السنة التي خالفتها الشيعة

- ‌1- حفظ الله سبحانه لكتابه العظيم:

- ‌4- اعتقاد أهل السنّة في أهل البيت:

- ‌5- لا عصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌الباب الثاني: الشيعة

- ‌الفصل الأول:‌‌ تعريف الشيعةونشأتهم وفرقهم

- ‌ تعريف الشيعة

- ‌التعريف المختار للشيعة:

- ‌الرأي المختار:

- ‌فرق الشيعة

- ‌الإسماعيلية

- ‌الزيدية

- ‌فرق الزيدية

- ‌الرافضة

- ‌الفصل الثاني: اعتقادهم في مصادر التلقي أو في أصول الأحكام المتفق عليها بين المسلمين

- ‌1- اعتقادهم في كتاب الله:

- ‌(أ) قولهم بتحريفه

- ‌1- كتب الشيعة التي روت أَخبار التحريف:

- ‌2- النصوص الواردة في كتبهم:

- ‌3- معتقدهم في هذه الروايات:

- ‌4- بداية هذا (الافتراء عند الشيعة) :

- ‌(ب) انحرافهم في تأويل القرآن:

- ‌ تأويلهم للآيات الواردة في الكفار والمنافقين

- ‌(ج) دعواهم تنزل كتب إلهية على الأئمة

- ‌1- مصحف فاطمة:

- ‌2- لوح فاطمة:

- ‌3- دعواهم نزول اثني عشر صحيفة من السماء تتضمن صفات الأئمة:

- ‌أولاً: أقوال "أئمتهم الإثني عشر" هي عندهم كأقوال الله ورسوله

- ‌ثانياً: إيداع الشريعة عند الأئمة المعصومين - بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌ثالثاً: ردهم لمرويات الصحابة:

- ‌رابعاً: تلقيهم السنّة عن «حكايات الرقاع» وما يسمونه بالتوقيعات الصادرة عن الإمام:

- ‌عمدة الروافض في "أحاديثهم

- ‌1- «بحار الأنوار الجامعة لدر أخبار الأئمة الأطهار» :

- ‌2- «وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة» :

- ‌3- «مستدرك الوسائل» :

- ‌أسانيد الشيعة في كتبهم:

- ‌الفصل الثالث: عقائدهم الأخرى التي انفصلوا بها عن أهل السنة

- ‌1 - الإمامة

- ‌(أ) معنى الإمامة عند الشيعة:

- ‌(ب) فضائل الأئمة وصفاتهم:

- ‌2 - عصمة الإمام

- ‌3- التقية

- ‌4- الرجعة

- ‌5- البداء:

- ‌6- الغَيْبة:

- ‌7- معتقدهم في الصحابة:

- ‌النتيجة للباب الأول والثاني

الفصل: ‌(ج) نشأة اسم أهل السنة والجماعة:

عن السنّة قال: (هي ما لا اسم له غير السنّة، وتلا: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ

الآية) (3)) (4) .

ولما سئل - أيضاً - عن أهل السنة قال: (أهل السنّة الذين ليس لهم لقب يعرفون به؛ لا جهمي ولا قدري ولا رافضي)(5) . فأهل السنّة ليس لهم لقب يعرفون به لأنهم الأصل الذي انشق عنه كل المخالفين، والمخالف هو الذي سرعان ما يشتهر ببدعته حينما يتنكب السبيل، والأصل لا يحتاج إلى سمة خاصة تميزه؛ إنما الذي يحتاج لاسم هو الفرع المنشق، وأهل السنّة هم أصحاب الطريق الوسط السائرون على الصراط المستقيم المخالفون لأهل البدع (6) .

(ج) نشأة اسم أهل السنة والجماعة:

وأعني بالنشأة: بداية التمييز باسم السنّة والجماعة، كدلالة على

(3) الأنعام: آية 153.

(4)

«الاعتصام» للشاطبي: (1/58) .

(5)

«الانتقاء» لابن عبد البر: ص 35.

(6)

مما يجدر التنبيه عليه أنه بعد تعدد الفرق وظهور الاتجاهات الكلامية، أصبح مصطلح أهل السنّة يطلق في بعض الأحيان على فرق لا تمثل الاتجاه السني كل التمثيل، ولكن يطلق عليها (أهل السنة) لأنها قالت بأقوال أهل السنة في بعض مسائل العقيدة، لا لأنها تمثل أهل السنة في كل شيء.

فيطلق لفظ (أهل السنة) ويراد به من أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة فيدخل في ذلك

جميع الطوائف إلا الرافضة.

وقد يراد به أهل الحديث والسنة المحضة، فلا يدخل فيه إلا من يثبت الصفات لله تعالى، ويقول: إن القرآن غير مخلوق، وأن الله يُرى في الآخرة، ويثبت القدر، وغير ذلك من الأمور المعروفة عند أهل الحديث والسنّة. انظر:«منهاج السنة» لابن تيمية: (2/163) بتحقيق: رشاد سالم.

ص: 35

اتجاه معين، واعتقاد متميز..

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وطريقتهم - أي أهل السنّة - هي دين الإسلام، لكن لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة (1) .

(1) انظر: أبو داود في أول كتاب (السنة) . «عون المعبود» : (12/341، 342، رقم 4573)، والدارمي:(2/241)، وأحمد:(4/102)، والحاكم:(1/128)، والآجري في «الشريعة» : ص 18.

وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. «المستدرك» : (1/128)، وقال المقبلي:(حديث افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة رواياته كثيرة يشد بعضها بعضاً بحيث لا يبقى ريبة في حاصل معناها) . «العلم الشامخ» : ص 414، وقال ابن تيمية:(الحديث - يعني حديث افتراق الأمة - صحيح مشهور في السنن والمسانيد..)«الفتاوى» : (3/345) . وقد استشكل بعض الأئمة لفظة «كلها في النار إلا واحدة» قال الشوكاني: (أما زيادة كونها في النار إلا واحدة، فقد ضعفها جماعة من المحدثين؛ بل قال ابن حزم: أنها موضوعة) .

وقد ناقش الألباني كلام الشوكاني هذا، فقال:(.. فإني لا أعلم أحداً من المحدثين المتقدمين ضعف هذه الزيادة، بل إن الجماعة قد صححوها.. وأما ابن حزم فلا أدري أين ذكر ذلك؟ وأول ما يتبادر للذهن أنه في كتاب «الفصل» وقد رجعت إليه، وقلبت مظانه فلم أعثر عليه، ثم إن النقل عنه مختلف، فابن الوزير قال عنه: لا يصح والشوكاني قال عنه: أنها موضوعة، وشتان بين النقلين)«سلسلة الأحاديث الصحيحة» : (3/18، 19) .

وقد رجعت لكتاب «الفصل» ، فوجدت النص الذي شك فيه الألباني - وفقه الله - في مبحث (الكلام فيمن يكفر ولا يكفر) جـ4 ص 16 حيث قال ابن حزم:(ذكروا حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن «القدرية والمرجئة مجوس هذه الأمة» ، وحديث آخر: «تفترق هذه الأمة على بضع وسبعين فرقة كلها في النار حاشا واحدة فهي في الجنة» ، قال أبو محمد: هذان حديثان لا يصحان أصلاً من طريق الإسناد، وما كان هكذا فليس حجة عند من يقول بخبر الواحد، فكيف من لا يقول به) ومع أن ابن حزم يحكم بعدم صحة هذا الحديث إلا أنه يحتج في إبطال القياس بحديث «تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم، =

ص: 36

صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب هم أهل السنّة والجماعة (1) .. فهذا يدل على أن التميز باسم أهل السنّة والجماعة حصل لما حدث الافتراق الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه قبل ذلك الافتراق لم يكن قد ظهر شيء من تلك المصطلحات: التسنن أو التشيع.. كان الإسلام والمسلمون هو الاسم والمسمى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ

الآية) (2) .

= فيحلون الحرام، ويحرمون الحلال» . «ملخص إبطال القياس» لابن حزم: ص 69 بتحقيق: سعيد الأفغاني.

وقد قال الألباني في رد كلام ابن حزم: (فإن صح ذلك عن ابن حزم - وهو صحيح كما بينا - فهو مردود من وجهين:

الأول: أن النقد العلمي الحديثي قد دل على صحة هذه الزيادة فلا عبرة بقول من ضعفها.

الثاني: أن الذين صححوها أكثر وأعلم بالحديث من ابن حزم؛ لا سيما وهو معروف عند أهل العلم بتشدده في النقد، فلا ينبغي أن يحتج به إذا تفرد عند عدم المخالفة، فكيف إذا خالف؟) «سلسلة الأحاديث الصحيحة» :(3/19) . وقد استشكل بعضهم هذه الزيادة من ناحية المعنى حيث إن هذه الأمة خير الأمم وأن المرجو أن يكونوا نصف أهل الجنة؛ مع أنهم في سائر الأمم كالشعرة البيضاء في الشعر الأسود، فكيف يتمشى هذا؟! وقد رفع هذا الإشكال وأجاب عليه العلامة المقبلي في «العلم الشامخ» : ص 414 مما لا مجال لذكره.

ومما ينبغي ذكره أن أحاديث افتراق الأمة منها: ما لا نص فيه على الهالك؛ وهذه قد أخرجها أكثر المحدثين، منهم أصحاب السنن إلا النسائي وغيرهم، ومنها: ما فيه بيان أن واحدة منها ناجية، والباقين هلكى؛ وهذه لم يخرجها من أصحاب السنن إلا أبا داود، وقد أخرجها أحمد وغيره - كما سبق -، ومنها: ما تحكم بنجاة كل الفرق سوى واحدة؛ وهي الزنادقة، وقد حكم عليها بالوضع. انظر:«كشف الخفاء» : (1/369)، «الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة» : ص 161.

(1)

ابن تيمية: «الفتاوى» : (3/159) .

(2)

آل عمران: آية 19.

ص: 37

أما تحديد بداية هذا التميز، فيرى - بحق - الدكتور مصطفى حلمي أن أصول التاريخ الإسلامي لم تعين السَّنة التي ظهر فيها هذا المصطلح (1) .

(كان المسلمون على ما بعث الله به رسوله من الهدى ودين الحق الموافق لصحيح المنقول وصريح المعقول، فلما قتل عثمان بن عفان - رضي الله تعالى عنه وأرضاه - ووقعت الفتنة فاقتتل المسلمون بصفين، مرقت المارقة (2) التي قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين يقتلهم أولى الطائفتين بالحق» (3) . وكان مروقها لما حكم الحكمان وافترق الناس على غير اتفاق) (4) .

وهذا أول صدع في وحدة العقيدة في الجماعة المسلمة، فقد كانت الجماعة محافظة على وحدتها في العقيدة، فحركة الخوارج تعتبر أقدم انشقاق ديني حدث في صفوفها (5) . ثم حدث بعد بدعة الخوارج بدعة

(1)«نظام الخلافة في الفكر الإسلامي» : ص 284.

(2)

المارقة: لقب يطلق على الخوارج، والخوارج: هم الذين خرجوا على علي رضي الله عنه بعد التحكيم، فقاتلهم علي يوم النهروان، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم في الأحاديث الصحيحة؛ ففي «الصحيحين» عشرة أحاديث فيهم، أخرج البخاري منها ثلاثة، وأخرج مسلم سائرها. «شرح الطحاوية» : ص 530. وساقها جميعها ابن القيم في «تهذيب السنن» : (7/148 - 153) ، وانظر: في عقائدهم وفرقهم «الفرق بين الفرق» : ص 72 وما بعدها، «الملل والنحل» : (1/146) وما بعدها، «الفصل» : (5/29) وما بعدها.

(3)

انظر: «صحيح مسلم» (بشرح النووي) كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم:(7/168) .

(4)

ابن تيمية: «منهاج السنّة» : (1/218، 219) .

(5)

دلت بعض الأحاديث على أن بذرة الخوارج وجدت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في قصة الرجل الذي قال للرسول (وهو يوزع بعض الغنائم:(اعدل يا محمد..) . انظر: الحديث في ذلك في «صحيح البخاري» (مع فتح الباري) : (12/290)، و «صحيح مسلم» (بشرح النووي) :(7/165، 166) .

ص: 38

التشيع (1) كالغلاة المدعين الألوهية في علي، والمدعين النص على علي رضي الله عنه، السابين لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فعاقب أمير المؤمنين علي - رضي الله تعالى عنه - الطائفتين "الخوارج ومبتدعة التشيع"، قاتل المارقين، وأمر بإحراق أولئك الذين ادعوا فيه الألوهية (2) .

وأما السبابة الذين يسبون أبا بكر وعمر، فإن عليّاً لما بلغه ذلك طلب ابن السوداء (3) الذي بلغه ذلك عنه، وقيل: إنه أراد قتله فهرب منه..

وأما المفضلة الذين يفضلونه على أبي بكر وعمر، فروي عنه أنه قال: لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا ضربته حد المفتري. وقد تواتر عنه أنه كان يقول على منبر الكوفة: «خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر» وروي هذا عنه من ثمانين وجهاً (4)، فهاتان البدعتان: بدعة الخوارج والشيعة حدثتا في ذلك الوقت لما وقعت الفتنة (5) .

ولا شك أن هذا الابتداع لم يؤثر - في البداية - في الغالبية العظمى والقاعدة العريضة من المسلمين؛ وهم من التزم بسنّة رسول الله - صلى الله عليه

(1) يرى ابن حزم أن فرقة الشيعة منفصلة عن الخوارج. ابن حزم: «رسالة الرد على الكندي الفيلسوف» (ضمن مجموع) : ص 227.

(2)

بعد أن استتابهم ثلاثة أيام فلم يرجعوا، وقتْل هؤلاء واجب بالاتفاق، لكن في جواز تحريقهم خلاف. فعلي رضي الله عنه رأى تحريقهم وخالفه ابن عباس (في ذلك. انظر: ابن تيمية: «منهاج السنة» : (1/219) .

(3)

يعني: عبد الله بن سبأ، وسيأتي الحديث عنه في مبحث نشأة الشيعة.

(4)

وانظر من الروايات في هذا المعنى: «صحيح البخاري» (مع فتح الباري)(7/20) ، مسند الإمام أحمد (بتحقيق أحمد شاكر) رقم 833، 834، 835، 836، 837، 871، 878، 879، 880، 1054 جـ2 ص 148، 149، 161، 164، 233.

(5)

ابن تيمية: «منهاج السنّة» : (1/219، 220) بتحقيق رشاد سالم.

ص: 39

وسلم - ولزم الجماعة.. «أهل السنّة والجماعة» ، فلم يكونوا بحاجة في بادئ الأمر إلى التميز؛ ذلك أنهم الأصل الذي انشق عنه المخالفون، والأصل ليس بحاجة إلى ما يميزه؛ إنما الذي يحتاج لاسم هو الفرع المنشق الذي سرعان ما يشتهر ببدعته حينما يتنكب السبيل، وقد مر بنا قول الإمام مالك رحمه الله حينما سئل عن أهل السنة فأجاب:(أهل السنة الذين ليس لهم لقب يعرفون به، لا جهمي، ولا قدري، ولا رافضي) .

من هنا نوافق الدكتور مصطفى حلمي في قوله: (إن أهل السنّة والجماعة هم الامتداد الطَبِعيّ للمسلمين الأوائل الذين تركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، ولا نستطيع أن نحدد لهم بداية نقف عندها كما نفعل مع باقي الفرق، والسؤال عن نشأة أهل السّنة والجماعة ليس له موضع، كما هو الحال إذا تساءلنا عن منشأ الفرق الأخرى)(1) .

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (ومذهب أهل السنّة والجماعة مذهب قديم معروف قبل أن يخلق الله أبا حنيفة ومالكاً والشافعي وأحمد، فإنه مذهب الصحابة الذين تلقوه عن نبيهم، ومن خالف ذلك كان مبتدعاً عند أهل السنّة والجماعة.. وأحمد بن حنبل وإن كان قد اشتهر بإمامة السنّة.. فليس ذلك لأنه انفرد بقول أو ابتدع قولاً؛ بل إن السنّة كانت موجودة معروفة قبله علمها ودعا إليها، وصبر على من امتحنه ليفارقها، وكان الأئمة قبله قد ماتوا قبل المحنة.. وثبت الإمام أحمد بن حنبل على ذلك الأمر (2) فصار إماماً من أئمة السنّة، وعلماً من أعلامها،

(1)«نظام الخلافة في الفكر الإسلامي» : ص 292.

(2)

«منهاج السنة» : (2/482، 483)، بتحقيق: الدكتور رشاد سالم.

ص: 40

لقيامه بإعلامها وإظهارها، واطلاعه على نصوصها وآثارها، وبيانه لخفي أسرارها، لا لأنه أحدث مقالة أو ابتدع رأياً) (1) .

ولهذا نرى الإمام اللالكائي (2) رحمه الله يفتتح كتابه القيّم: «شرح أو حجج أُصول اعتقاد أهل السنّة» (3) بذكر أئمة السنّة الذين ترسموا بالإمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيبدأ بذكر أبي بكر والخلفاء الثلاثة بعده، وبقية أئمة العلم والدين من الصحابة ومن تبعهم بإحسان إلى زمنه رحمه الله، وقد ذكر كثيراً من أئمة أهل السنّة في معظم الأمصار الإسلامية (4)، وكذلك نرى البغدادي وهو يشير إلى مواجهة أهل السنّة لطلائع البدع يبتدئ بذكر أئمة السنّة من الصحابة والتابعين لهم ممن واجه الابتداع "لحدوثه في حياته'' (5) فيقول: (فأول متكلميهم من الصحابة عليّ بن أبي طالب - كرّم الله وجهه - حيث

(1) المصدر السابق: (2/486) .

(2)

هو الإمام أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري الرازي الحافظ الفقيه، محدث بغداد، قال الخطيب: كان يفهم ويحفظ وصنف كتاباً في السنّة، وكتاباً في رجال الصحيحين، وكتاباً في السنن، وتوفي في رمضان سنة 418هـ. انظر: الخطيب البغدادي: «تاريخ بغداد» : (14/70، 71)، «تذكرة الحفاظ» للذهبي:(3/1083) .

(3)

وهو (مخطوط) يوجد منه نسخة في المكتبة الظاهرية بدمشق، ونسخة في ألمانيا، ونسخة في الهند. انظر:«تاريخ التراث» لفؤاد سزكين: (2/194)، «فهرس المخطوطات» للألباني: ص 384.

(4)

انظر: «كاشف الغمة في اعتقاد أهل السنة» : ص1 وما بعدها (مخطوط) .

(5)

ذكر البغدادي أئمة السنّة من الصحابة الذين حدثت البدعة وظهرت الفرقة وهم أحياء، فواجهوا المبتدعة، وناظروا المبتدعين وحاولوا إرجاعهم إلى السنّة والصراط المستقيم، ولهذا لم يذكر أبا بكر وعمر وعثمان الذين لم يحدث الابتداع والافتراق في حياتهم ومن ماثلهم من الصحابة. من هنا أرى أن د. علي سامي النشار لم يعبر التعبير السليم في قوله:(ويرى أهل السنّة والجماعة أن سند مذهبهم إنما يعود إلى علي بن أبي طالب، ويعتبرونه أول متكلميهم..)«نشأة الفكر الفلسفي» : (1/244) - وذلك =

ص: 41

ناظر الخوارج في مسائل الوعد والوعيد، وناظر القدرية في المشيئة والاستطاعة والقدر، ثم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حيث تبرأ من معبد الجهني (1) في نفيه القدر، ثم يتدرج البغدادي من عبد الله بن عمر إلى عمر بن عبد العزيز فزيد بن علي وكذلك الشعبي والزهري، ومن بعد هذه الطبقة جعفر بن محمد "الصادق" ويذكر أن له كتاب «الرد على القدرية» ، وكتاب «الرد على الخوارج» و «رسالة في الرد على الغلاة من الروافض» ) (2) .

من هنا نقول أن السؤال عن نشأة مذهب أهل السنّة كما يُسأل عن نشأة سائر الفرق لا مكان له، لأن مذهبهم هو مذهب الصحابة الذين تلقوه عن نبيهم، لكن السؤال ينبغي أن يتوجه إلى "بداية التسمي بذلك الاسم". "لا نشأة المسمى" وهو المذهب وأهله، ومن الخطأ الخلط في ذلك.

إن الأصل في التسمي بأهل السنّة هو ما ورد من النصوص التي تأمر باتباع السنّة، ولزوم الجماعة، فالتسمية مأثورة في السنّة وواردة في

= اعتماداً على ما قاله البغدادي على الرغم من أن كلام البغدادي لا يوحي بذلك، وما أدري كيف تجرأ النشار على هذا الحكم من غير بينة. وقد تابعه على هذا الخطأ د. جلال محمد موسى، حيث يقول:(ويرى أهل السنّة أن سند مذهبهم إنما يعود إلى علي بن أبي طالب..) انظر: «نشأة الأشعرية» : ص 20 وهو رأي غريب.. ويبدو أنهما أخذا كلام البغدادي على وجه غير سليم.

(1)

معبد بن عبد الله بن عويم الجهني البصري - قال الذهبي: (صدوق في نفسه ولكنه سنّ سنة سيئة فكان أول من تكلم في القدر. ونهى الحسن الناس عن مجالسته وقال: هو ضال مضل) - قتله الحجاج صبراً لخروجه مع ابن الأشعث سنة 80هـ. انظر: «ميزان الاعتدال» : (4/141)، البخاري في كتاب «الضعفاء الصغير» : ص 110، الرازي:«الجرح والتعديل» : (8/280) .

(2)

«الفرق بين الفرق» : ص 363.

ص: 42

كلام السلف، إنما قصدنا ببداية التسمي هو متى بدأ إطلاق هذه التسمية على الاتجاه المتبع للسنّة والملتزم للجماعة، وهو مبحث ليس ذا أهمية كبيرة وإنما طرقناه لأنه كثيراً ما يخلط بين الحديث عن بداية التسمية ونشأة المسمى "وهو المذهب أو أهله"، وحتى رأينا من يتحدث عن السنّة كأنها فرقة أو طائفة طارئة في الإسلام (1) ، كسائر الفرق الأُخرى التي انشقت عنها.

فكان من الضروري بيان هذا الأمر وتوضيحه.

وسنرى الآن في عرضنا للآراء في نشأة التسمية شيئاً من قصور في الرؤية وغبش في التصور حيال هذه المسألة.

1-

فمن أغرب الآراء في بداية التسمية رأي للدكتور مصطفى الشكعة يزعم فيه أن (تسمية جمهرة المسلمين بأهل السنّة تسمية متأخرة، يرجع تاريخها إلى حوالي القرن السابع الهجري ـ أي بعد الإمام أحمد بأربعة قرون ـ)(2) .

وهو يطلق هذا القول ولا يقدم ما يؤيده، وهذا كاف في عدم الاعتداد به، ومعلومات الوثائق والنصوص المأثورة تدل على خلاف هذا

(1) يشير الأستاذ أنور الجندي إلى (الدعاوى الباطلة التي يدعيها بعض الجاهلين أو المتجاهلين من أن السنّة فرقة أو طائفة طارئة ويرد على هذا ويبين أن: السنة ليست مذهباً معيناً بين المذاهب وليس طرفاً من الأطراف ويسميها: «مدرسة الأصالة الإسلامية» التي تجمع خير ما في الفرق وتحكم بينها، ويورد في هذا كلاماً لابن القيم في أن: أهل السنّة ليسوا مع هؤلاء وليسوا مع هؤلاء بل هم مع هؤلاء فيما أصابوا فيه وهم مع هؤلاء فيما أصابوا فيه، فكل حق مع طائفة من الطوائف فهم يوافقونهم فيه وهم براء من باطلهم، فمذهبهم حق جميع الطوائف بعضه إلى بعض) . انظر: «المؤامرة على الإسلام» أنور الجندي: ص 266.

(2)

«إسلام بلا مذاهب» : ص 281، وقد راق هذا الرأي الذي لا دليل عليه لبعض أهل البدع فنقلوه في كتبهم "كرأي" مسلّم به..!! انظر: علي يحيى معمر (من الأباضية)، «الأباضية بين الفرق الإسلامية» : ص 243.

ص: 43

الرأي، وأن نظرة لأسماء الكتب التي كتبها علماء السلف من أهل القرن الثالث والرابع التي سموها باسم "السنة"(1) لكافية في الدلالة على أن التسمية بأهل السنّة كانت مستفيضة في ذلك الزمن المتقدم وقبله كما سنرى.

ونجد ما يدل على أن التسمية بأهل السنّة شائعة في العصور الأولى بعد بدء الفتنة واستفحال شأن المبتدعة؛ ومن ذلك قول محمد بن سيرين (2) : لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنّة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم (3) .

فهذا يدل على أن الفتنة في عهد عثمان رضي الله عنه كانت بداية التميز بين أهل السنّة وغيرهم.

ويصور لنا معنى هذا التميز ما رواه ابن جرير الطبري عن مصعب بن عبد الله الزبير أن أباه عبد الله بن مصعب أخبره أن الرشيد قال له: ما تقول في الذين طعنوا على عثمان؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين طعن عليه ناس وكان معه ناس، فأما الذين طعنوا عليه فتفرقوا عنه وهم أنواع الشيع وأهل البدع وأنواع الخوارج، وأما الذين كانوا معه فهم أهل الجماعة اليوم، فقال لي - أي الرشيد -: ما أحتاج أن أسأل بعد هذا اليوم عن هذا (4) .

(1) سيأتي ذكر لهذه الكتب في مبحث "مصادر أهل السنّة".

(2)

محمد بن سيرين البصري الأنصاري بالولاء، (أبو بكر) إمام وقته، كان ثقة مأموناً فقيهاً إماماً كثير العلم ولد سنة 33هـ وتوفي بالبصرة سنة 110هـ. انظر:«تهذيب التهذيب» : (9/215، 217)، «تاريخ بغداد» :(5/331)، «الوافي بالوفيات» :(3/146) .

(3)

رواه مسلم في «صحيحه» : (1/11)، وانظر: الخطيب: «الكفاية» : (/122) .

(4)

«تاريخ الطبري» : (في حوادث سنة 193 جـ 8 ص 353) .

ص: 44

2-

ويقابل رأي "الشكعة" ما يذهب إليه د. محمد عبد الحميد مرسي من القول بأنه (قد أصبح لفظ السنّة والجماعة مصطلحاً فنّياً "هكذا! " شاع، استعماله من عهد الصحابة إلى أن اختص به الأئمة الأربعة؛ أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد)(1) .

ولم يذكر ما اعتمد عليه في هذا القول، وأرى أنه إن كان يعني بهذا الرأي "ظهور اسم السنّة والجماعة" فهذا معروف لأنه مأثور في السنّة وفي كلام السلف - كما بينا - وإن كان يعني به بداية التسمي والتميز بهذا الاسم فهذا - فيما أرى - لا يصح على إطلاقه، بل ينبغي أن يقيد بوقت بدء الفتنة وظهور شأن المبتدعة.

3-

ويذكر أمير علي (2) : أن (اسم أهل السنّة والجماعة إنما عرف في عهد المنصور العباسي والرشيد)(3) .

وكما قلنا فإن الاسم معروف ومشهور، فالأمر بالتمسك بالسنّة وبالجماعة قد وردت به النصوص ولكن بداية إطلاق التسمية على الاتجاه غير المبتدع؛ هذا إنما هو موضع البحث.

ولم يذكر أمير علي عمدته فيما ذهب إليه.. وقد بينّا أن بداية التميز كانت قبل ذلك.

لكن إذا حمل هذا الرأي على أنه في تلك الفترة كان هناك وضوح التميز واشتهار التسمي لاستفحال البدعة وبروز شأن المبتدعة أكثر من ذي قبل فهذا واقع، لأن (السنة - كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -

(1)«نشأة الأشعرية» : ص 18.

(2)

شيعي معاصر يوصف بأنه معتدل.

(3)

«روح الإسلامي» : (2/201) .

ص: 45

كانت قبل دولة بني العباس أظهر منها وأقوى في دولة بني العباس، فإن دولة بني العباس دخل فيها كثير من الشيعة وغيرهم من أهل البدع) (1) .

وهكذا فإنه كلما هبت "أعاصير" البدع تجلى "التميز" للسنّة بجهود أئمة السنّة في المنافحة عنها، ومن الأمثلة على ذلك ما وقع في عهد المأمون ولعل الرسالة التي بعث بها المأمون (2) إلى نائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم الخزاعي ابن عم طاهر بن الحسين في مسألة خلق القرآن وامتحان العلماء في ذلك - لعل تلك الرسالة تمثل ما نشير إليه؛ فقد جاء فيها قول المأمون عن الإمام أحمد ومن تبعه:(.. ونسبوا أنفسهم إلى السنّة أهل الحق والجماعة..) وقد جاء في هذه الرسالة ما يفيد أن المنتمين للسنّة يمثلون الجمهور الأعظم والسواد الأكبر وهو قوله: (وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشو الرعية

إلخ) (3) .

فهذه المرحلة التي استعملت فيها "البدعة" ظهر فيها أمر السنّة للدور العظيم الذي قام به الإمام أحمد، ومن يقرأ تاريخ تلك المرحلة يظن أن بداية التسمي بالسنّة كان من تلك "الحقبة" والأمر خلاف ذلك، حتى ذهب بعضهم إلى القول بأن بداية التسمي بالسنّة كانت على يد أبي الحسن الأشعري (4) وهو خلاف الواقع، ولكن ظهور أثر أبي الحسن الأشعري

(1)«منهاج السنّة» : جـ2 ص 178 (الطبعة الأميرية) .

(2)

عصر المأمون يقع ما بين 198هـ - 218هـ.

(3)

انظر الرسالة بتمامها في «تاريخ الطبري» : (8/631 - 632)، وانظر:«مفتاح السعادة» : (2/169 - 170) .

(4)

أبو الحسن علي بن إسماعيل بن إسحاق الأشعري من أئمة الإسلام، قيل: بلغت مصنفاته (300) كتاب. =

ص: 46

- في نظره - أعطى هذه الدلالة..

ولا شك أن التأمل العقلي - أيضاً - يرشدنا إلى أن بداية التسمية كانت عند استفحال أمر البدعة وازدياد خطر الفرقة، وحينذاك بدأ أئمة السنّة يواجهون البدعة بالدعوة إلى السنّة ويجابهون الفرقة بالالتزام بالجماعة. وتبيّن من التزم بالسنّة والجماعة ومن ضلت به السبل، وهذا مصداق ما جاء في حديث افتراق الأمة الذي صدّرنا به هذا المبحث (1) .

وقد مر رحمه الله بثلاث مراحل في حياته:

1-

مرحلة الاعتزال.

2-

مرحلة الأخذ بطريقة الجدل والتأويل مع طريقة السلف.

3-

ثم محض طريقته بالرجوع الكامل لمعتقد السلف وكتب بذلك كتابه «الإبانة» الذي نص مترجموه على أنه من آخر كتبه. انظر: «تاريخ بغداد» : (11/346)، «البداية والنهاية» :(11/187) ، محب الدين الخطيب، حاشية «المنتقى» : ص 41.

(1)

كتب د. الزغبي كتاباً في التقريب وضع له هذا العنوان «لا سنة ولا شيعة» ولعل فيما كتبناه في هذا المبحث ما يحمل الإجابة على هذا العنوان، ولا شك أن كل مسلم يتمنى أن تختفي البدع وأن تعود الأمة إلى إسلامها وتلفظ تلك العقائد الدخيلة والأفكار الوافدة، وتختفي تلك المصطلحات التي ظهرت في محيط الأمة لظهور البدعة واستفحال الفرقة

ص: 47